دليل الفالحين
لطرق رياض الصالحين 56 - باب فضل الجوع وخشونة العيش
بضم أوليه المعجمين مصدر خشن خشنة وخشونة بخلاف نعم كذا في
«المصباح» (العيش) والمراد ترك الترفه فيه والاقتصار على
الجلف لأنه حق النفس وما فوقه حظها
(4/426)
(والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب
والملبوس وغيرها) كالمفروش والمسكون والمنكوح (من حظوظ
النفس) يصح كونه بياناً للغير، إذ قليل المأكول والمشروب
مما تقوم به البنية، والملبوس مما يستر البدن حق النفس
لاحظها، ويصح كونه بياناً للجميع بأن يراد من القليل ما
زاد على ما يحتاج إليه في ذلك من الترفهات والتنعمات (وترك
الشهوات) أي مشتهى النفس وإن كان من قليل ما ذكر فعطفه
عليه من عطف العام على الخاص، ويصح أن يراد مشتهاها مما
عدا ذلك فيكون من عطف المغاير.......
(قال الله تعالى) : ( {فخلف من بعدهم} ) أي الذين أثنى
عليهم من الآيات السابقة من الأنبياء والذين منّ الله
عليهم بتوفيقه ( {خلف} ) أي عقب سوء، يقال خلف صدق بالفتح
وخلف سوء بالسكون ( {أضاعوا الصلاة} ) تركوها أو أخروها عن
وقتها ( {واتبعوا الشهوات} ) كشرب الخمر واستحلال نكاح
الأخت من الأب وعن عليّ رضي الله عنه {واتبعوا الشهوات} من
بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور ( {فسوف يلقون غيا}
) شرّاً أو جزاء غي كقوله: {يلق أثاماً} أو غياً من طريق
الجنة، وقيل هو واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها، والإتيان
بحرف التنفيس لتأكيد الوعيد ( {إلا من تاب وآمن} ) يدل على
أن الآية في الكفرة، لكن ذكر العماد ابن كثير في رتفسيره»
عن مجاهد قال: عند ذهاب صالحي أمة محمد ينزو بعضهم على بعض
في الأزقة ومن طريق آخر عنه قال: «هم في هذه الأمة
يتراكبون تراكب الأنعام في الطريق، لا يخافون الله في
السماء ولا يستحيون الناس في الأرض» ثم أخرج من طريق ابن
أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول: «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا
الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً» الحديث، ثم ذكر
أحاديث وآثاراً في ذلك ( {وعمل} ) عملاً ( {صالحاً} )
ليزكوا به إيمانه ويزداد إيقانه فالإيمان بزيادة الطاعة (
{فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً} ) من الظلم، ألا
ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم، وفيه تنبيه على أن كفرهم
السابق لا يضرّهم ولا ينقص أجورهم «قال العماد ابن كثير:
والاستثناء في هذه الآية كقوله في سورة الفرقان
(4/427)
{إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك
يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70) .......
(وقال تعالى) : ( {فخرج} ) أي قارون ( {على قومه في زينته}
) كا قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وهو بضم
الهمزة والجيم وسكون الراء بينهما شجر على قضبان حمر يوصف
به الثور الأحمر وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على
زيه، وقوله في زينته في موضع الحال من فاعل خرج: أي
متزيناً بها ( {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} ) على ما
هو عادة الناس من الرغبة ( {يا ليت} ) المنادى محذوف: أي
يقول ليت ( {لنا مثل ما أوتي قارون} ) تمنوا مثله لا عينه
حذراً من الحسد ( {إنه لذو حظ} ) في «المصباح» : الحظ الجد
وفلان محظوظ هو أخط من فلان، والحظ: النصيب اهـ. ويصح
إرادة كليهما والأول أبلغ في مرادهم، لكن قول البيضاوي «حظ
( {عظيم} ) من الدنيا» ، وقول ابن كثير «حظ وافر من
الدنيا» يومىء إلى حمل الحظ على النصيب لأن الأول يستعمل
بفي، ( {وقال الذين أوتوا العلم} ) النافع، وهو العلم
بأحوال الآخرة وما أعد الله فيها لصالحي عباده المتقين
للمتمنين ذلك ( {ويلكم} ) دعاء بالهلاك استعمال للزجر عما
لا يرتضي ( {ثواب ا} ) في الآخرة ( {خير لمن آمن وعمل
صالحاً} ) مما أوتي قارون بل من الدنيا وما فيها، وترك
المصنف ذكر باقي الآية وهو قوله: {ولا يلقاها} أي الكلمة
التي تكلم بها العلماء أو الثواب وأنث لأنه بمعنى المثوبة
أو الجنة أو الإيمان والعمل الصالح، وأنث أيضاً لأن ذلك في
معنى السيرة والطريقة {إلا الصابرون} على الطاعات وعن
المعاصي لأنه اختلف فيه هل من جملة كلام العلماء: أي فيسفر
بما عدا الأول من مراجع الضمير وعليه السدي. قال ابن كثير:
فجعله من تمام كلامهم، أو من كلام الله ثناء عليهم
بالإصابة، أو يفسر الأول وعليه ابن جرير. قال ابن كثير:
قال ابن جرير: وما يلي هذه الكلمة الخ، وكأنه جعل ذلك
مقطوعاً من كلام أولئك وجعله من كلام الله تعالى وإخباره
اهـ. ولعل المصنف يقوى عنده الجانب الثاني.......
(وقال تعالى) : ( {ثم لتسألنّ يومئذٍ عن النعيم} ) أي الذي
ألهاكم والخطاب مخصوص بكل من ألهاها دنياه عن دينه
(4/428)
والنعيم مخصوص بما يشغله للقرينة والنصوص
الكثيرة بقوله تعالى: {قل من حرم زينة ا} (الأعراف: 32)
{كلوا من الطيبات} (المؤمنون: 51) وقيل يعمان، إذ كل يسأل
عن شكره، وقيل الآية مخصوصة بالكفار، وفي «التفسير الصغير»
للكواشي: النعيم هو الصحة والأمن. أو هي والفراغ. قال
«نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» قلت:
قال ابن كثير: معناه أهم مقصرون في شكرهما لا يقومون
بواجبهما ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون اهـ. أو
هو الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء. قال: «أول ما
يسأل العبد من النعيم ألم نصح جسمك؟ ونروك من الماء
البارد؟» أو هو خبز البرّ والماء العذب، أو كل لذة من
اللذات اهـ. «وفي تفسير ابن كثير» بعد ذكر الأقوال في ذلك:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي في قوله: {ثم
لتسألن يومئذٍ عن النعيم} . قال «الأمن والصحة» وأخرج ابن
أبي حاتم عن زيد بن أسلم عن رسول الله: {ثم لتسألن يومئذٍ
عن النعيم: يعني شبع البطون وبارد الشراب وظلال المساكن
واعتدال الخلق ولذة النوم} ثم ذكر ابن كثير أقوالاً أخر
ختمها بحديث قال أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي.
يقول الله عزّ وجل: يا بن آدم حملتك على الخيل والإبل
وزوّجتك النساء وجعلتك ترتع وترأس فأين شكر ذلك» وقال ابن
كثير: تفرد به أحمد اهـ.......
(وقال تعالى) : ( {من كان يريد العاجلة} ) مقصوراً عليها
همه ( {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} ) قيد المعجل
والمعجل له بالمشيئة والإرادة، لأنه لا يجد كل متمنّ
متمناه ولا كل واحد جميع ما يهواه، وليعلم أن الأمر
بالمشيئة و {لمن يريد} بدل «من له» بدل البعض، وقرىء يشاء:
والضمير فيه ليطابق المشهورة، وقيل لمن فيكون مخصوصاً بمن
أراد به ذلك، وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون
المسلمين ويغزون معهم ولا غرض لهم غير مساهمتهم في الغنائم
ونحوها ( {ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً} )
مطروداً من رحمة الله تعالى (والآيات) القرآنية (في الباب)
أي فيما تضمنه من المطالب (كثيرة معلومة) .
(4/429)
1490 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما
شبع آل محمد) المراد منهم هنا أهل بيته من أزواجه وخدمه
الذين كان يمونهم (من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض) أي
توفي، وهذا لإعراضه عن الدنيا وزهده فيها، ولم يضطره مولاه
سبحانه لذلك، بل عرض عليه جبال مكة وبطحاءها تسير معه
ذهباً أينما سار كما تقدم في الباب قبله، فاختار ذلك
إعلاماً بحقارة الدنيا وأنها ليست بحيث ينظر إليها تحريضاً
لأمته على الزهد فيها والإعراض عما زاد على الحاجة، منها
ولا منافاة كا قال المصنف في «شرح مسلم» بين حديث الباب
وحديث أنه كان يدخر قوت عياله سنة لأنه كان يفعل ذلك أواخر
حياته، لكن تعرض عليه حوائج المحتاجين فيخرجه فيها، فصدق
أنه ادخر قوت سنة وأنهم لم يشبعوا كما ذكر لأنه لم يبق
عندهم ما ادخره لهم (متفق عليه) .......
(وفي رواية) هي للبخاري في كتاب الأطعمة والرقاق من
«صححيه» ، ولمسلم في أواخر الكتاب، ورواها النسائي وابن
ماجه من طريق منصور بن المعتمر عن الأسود عن عائشة، وأما
اللفظ الذي قال المصنف إنه متفق عليه فقضية كلام المزي أنه
انفرد به مسلم عن البخاري وعبارته بعد ذكره من طريق عبد
الرحمن بن يزيد عن خالد عن الأسود عن عائشة رواه مسلم في
آخر الكتاب والترمذي في الزهد وقال: حسن صحيح، وفي
«الشمائل» والنسائي في الأطعمة، ثم أشار المزي إلى وهم جمع
من المحدثين توهموا أنهما من طريق واحد وليس كذلك، وكأن
مراد المصنف بقوله فيما تقدم متفق عليه: أي من حيث المعنى
لا بخصوص المبنى (ما شبع آل محمد منذ) بضم الذال: أي من
حين (قدم المدينة) خرج ما كانوا قبل الهجرة (من طعام بر)
بضم الموحدة وتشديد الراء، قال في «المصباح» : هو القمح،
الواحدة برة خرج ما عداه من باقي المأكولات (ثلاث ليال) أي
بأيامها (تباعاً) بكسر المثناة الفوقية أي متتابعة يخرج
المتفرقة (حتى قبض) أشار إلى استمراره على ذلك مدة إقامته
بالمدينة، وهي عشر سنين، وزاد ابن سعد في رواية له وما رفع
عن مائدته كسرة خبز فضلاً حتى قبض» ووقع في رواية بلفظ «ما
(4/430)
شبع من خبز بأدم» أخرجه مسلم، وعند ابن سعد
عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت عليه
أربعة أشهر ما شبع من خبز البرّ، وفي حديث أبي هريرة نحو
حديث الباب «ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ثلاثة أيام تباعاً من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا» أخرجه
البخاري في الأطعمة وأخرجه مسلم أيضاً بنحوه. 6......
2491 - (وعن عروة) بضم المهملة الأولى وسكون الثانية ابن
الزبير (عن) خالته (عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول وا
يا ابن أختي إن) بكسر الهمزة وسكون النون مخففة من الثقيلة
أي إنا (كنا) واللام في (لتنظر) هي الفارقة بينها وبين إن
النافية (إلى الهلال) قال في «المصباح» : الأكثر أنه القمر
في حالة مخصوصة، ويسمى القمر لليلتين من أول الشهر هلالاً،
وفي ليلة ستّ وعشرين وسبع وعشرين أيضاً هلالاً، وما بين
ذلك يسمى قمراً. وقال الفارابي وتبعه الجوهري: الهلال
لثلاث ليال من أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك، وقيل الهلال
هو الشهر بعينه والجمع أهلة كسنان وأسنة اهـ. وفي كتاب
«إشارات المحتاج إلى لغات المنهاج» لابن النحوي: الهلال
معروف سمي به لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه. قال
السهروردي في «شرح ألفاظ المصابيح» : وحكى صاحب «المهذب»
خلافاً فيما يخرج به عن تسميته هلالاً، ويسمى قمراً فقيل
إذا استدار، وقيل إذا بهر ضوؤه اهـ. وظاهر أن المراد هنا
بالهلال هو في أول ليلة الشهر (ثم) أتت بها لبعد ما بين كل
من الهلالين ولا ينافيه قوله تعالى: {أياماً معدودات}
(البقرة: 184) لأن ذلك لئلا ينفروا عن الانقياد للصوم لو
سمعوه بلفظ الشهر أو الثلاثين (الهلال ثم الهلال) بالجر
فيهما عطفاً على ما قبلهما، ويجوز نصبه بإضمار: ثم نرى،
ويكون ثم لعطف الجبل، وقولها (ثلاثة أهلة في شهرين) يجوز
أن يقرأ بالرفع مبتدأ خبره متعلق الظرف أو خبر لمحذوف: أي
هي ثلاثة أهلة والظرف في محل الحال. قال في «الفتح» :
المراد بالهلال الثالث هلال الشهر، وهو ير عند انقضاء
الشهر وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث (قلت: يا خالة) يجوز
فيه الضم على أنه منادى مفرد والكسر والفتح على أن مضاف
لياء المتكلم حذفت منه واكتفى بدلالة الكسرة عليها على
الأول أو بعد إبدالها ألفاً واكتفى بدلالة الفتحة عليها
على الأخير (فما كان يعيشكم) بضم التحتية وفي بعض نسخ
البخاري ما......
يغنيكم بسكون المعجمة بعدها نون فتحتية ساكنة (قالت
الأسودان التمر
(4/431)
والماء) قال الصغاني: أطلق الأسودان على
التمر والماء والسواد للتمر دون الماء، فنعتا بنعت واحد
تغليباً، وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما. وعن أبي
زيد: الماء يسمى الأسود أيضاً، واستشهد له بشعر نظر فيه
الحافظ في «الفتح» . قال: ووصف التمر بالأسود لأنه غالب
تمر المدينة. وزعم صاحب المحكم وتبعه بعض المتأخرين من
شراح البخاري أن تفسير الأسودين بالتمر والماء مدرج، وإنما
أرادت الحرة والليل، واستدل له بما رده عليه الحافظ في
أوائل كتاب الهبة من «فتح الباري» ، وقد يقع للخفة والشرف
كالعمرين لأبي بكر وعمر، والقمرين للشمس والقمر (إلا أنه
كان للنبيّ جيران من الأنصار) زاد أبو هريرة في حديثه
«جزاهم الله خيراً» والاستثناء منقطع، والجملة المستثناة
في محل نصب على الاستثناء كما نبه عليه في «مغنى اللبيب»
وزادها على حصر الجمل المعربة المحل في سبع. والجيران: جمع
جار وهو المجاور في السكن، وللجار معان أخر. حكى ثعلب عن
ابن الأعرابي: الجار الذي يجاورك بيتاً ببيت، والجار
الشريك في العقار مقاسماً كان أو غير مقاسم، والجار الخفير
الذي يجير غيره: أي يؤمنه مما يخاف، والجار المستجير أيضاً
وهو الذي يطلب الأمان، والجار الحليف، والجار الناصر،
والجار الزوج، والجار أيضاً الزوجة ويقال فيها أيضاً جارة،
والجارة الضرة قيل لها جارة استكراهاً للفظ الضرة اهـ. من
«المصباح» . والأنصار: اسم إسلامي علم بالغلبة على أولاد
الأوس والخزرج كما تقدم (وكانت لهم منايح) جمع منيحة بنون
وحاء مهملة اسم من المنحة بكسر الميم وهي الشاة أو الناقة
يعطيها صاحبها رجلاً يشرب لبنها ثم يردها إذا انقطع لبنها
كذا في «المصباح» ، والجملة معطوفة على خبر إن، ويصح أن
تكون في محل الحال بإضمار قد (فكانوا يرسلون إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - من ألبانها) يحتمل كون «من»
للتبعيض ويحتمل كونها......
للتبيين لمقدر شيئاً هو ألبانها، والثاني أنسب لكونها
منيحة كما علم من معناها لغة (فيسقينا) يجوز ضم التحتية
وفتحها مزيد ومجرد من السقي قال ابن أقبرس في «شرح الشفاء»
: إن قلت: كتم هذا الخبر مما يدل عليه صحيح الأثر لما فيه
من إيهام الشكوى وإفشاء ما يستحب ستره من العبادات قلت: هو
من مثلها على طريق الإرشاد إذ لا يليق كتم أفعال المشرع
لأنه
(4/432)
علم الهدى وإمام الاقتداء اهـ. (متفق عليه)
أخرجه البخاري في الهبة ومسلم في آخر الكتاب.......
3492 - (وعن سعيد) بن أبي سعيد كيسان (المقبري) قال
السيوطي في «لبّ اللباب» في الأنساب بفتح الميم وسكون
القاف وضم الموحدة، وكأنه اقتصر عليه لكونه أفصح، وإلا فقد
ذكر غير واحد منهم المصنف في «شرح مسلم» والشيخ محمد طاهر
في «المغنى» جواز الفتح للموحدة والكسر نسبة إلى مواضع
القبور. قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» : يكنى أبا سعيد
مدني ثقة من كبار التابعين، تغير قبل موته بأربع سنين،
وروايته عن عائشة وأم سلمة مرسلة روى عنه الستة (عن أبي
هريرة رضي الله عنه) أي عن قصته (أنه مرّ بقوم بين أيديهم
شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل) ورأى أنه من الترفهات وشأن
المحب أن يتبع آثار محبوبه ويأتم بها فلذا امتنع (وقال)
موضحاً لسبب إيائه (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
من الدنيا) أي توفي (ولم يشبع من خبز الشعير) لا ينافى ما
سيأتي في حديث أبي الهيثم، فلما أن شبعوا لأن الشبع ثم لم
يكن من خبز الشعير بل كان من التمر واللحم، أو لأن المنفي
الشبع التام الذي لا يبقى معه مساغ لتناول غيره كما هو شأن
الشره المهتم ببطنه، والمثبت أصل الشبع أو المنفى الشبع
لحظ نفسه، والمثبت أنه يشبع لحظ غيره كأن ينزل به ضيف
فيشبع لأكله مؤانسة له أو ينزل ضيفاً بغيره فيشبع ليقرّ
عين ربّ المنزل بذلك ويكرمه به لا لحاجته إلى الطعام (رواه
البخاري) في الأطعمة من «صحيحه» (مصلية بفتح الميم) اسم
مفعول من صليت اللحم أصلية: أي شويته (أي مشوية) .......
4493 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه قال: لم يأكل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على خوان) بكسر الخاء المعجمة
ويجوز ضمها وهي المائدة ما لم يكن عليها طعام، وهو معرب
يعتاد بعض المتكبرين والمترفهين الأكل عليه احترازاً من
خفض رؤوسهم فهي بدعة لكنها جائزة
(4/433)
(حتى مات وما أكل خبراً مرققاً) أي محسناً
مليناً كخبز الحوّاري وشبهه، والترقيق التليين، وقد يراد
بالمرقق الموسع، قاله القاضي عياض، وجزم به ابن الأثير
فقال: وهو السميد وما يصنع به من كعك ونحوه، كذا في «أشرف
الوسائل» والذي في «النهاية» المرقق هو الأرغفة الواسعة
الرقيقة، يقال رقيق ورقاق كطويل وطوال اهـ. وقال ابن
الجوزي: هو الخفيف كأنه أخذه من الرقاق وهي الخشبة التي
يرقق بها وهو قريب من كلام «النهاية» : وظاهر قوله (حتى
مات) أنه لم يأكل ذلك قبل البعثة ولا بعدها سواء خبز له أو
لغيره، ويؤيده رواية البخاري عن أنس الآتية بعده (رواه
البخاري) في الأطعمة ورواه مسلم أيضاً كما في «الأطراف» .
(وفي رواية له) أي البخاري في الرقاق من «صحيحه» عن أنس
قال: «فما أعلم النبي رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق با» (ولا
رأى شاة سميطاً بعينه قط) السميط: هو ما أزيل شعره بماء
سخن وشوي بجلده، وإنما يفعل ذلك بصغير السن وهو من فعل
المترفهين. قال ابن الأثير: ولعله يعني أنه لم ير السميط
في مأكوله، إذ لو كان غير معهود لم يكن في ذلك تمدح وقط
بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة، ظرف لما مضى من الزمان:
أي لم يره في شيء من أزمنته.......
5494 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون المهملة (ابن بشير)
بفتح الموحدة وكسر المعجمة وسكون التحتية بعدها راء تقدمت
ترجمته وهو صحابي ابن صحابي (رضي الله عنهما قال: لقد) هذه
اللام مثلها في قوله تعالى: {ولقد علمتم} (البقرة: 65) قال
أبو حيان: ي لام الابتداء مفيدة لمعنى التوكيد، ويجوز أن
يكون قبلها قسم مقدر وألا يكون. وقال ابن الحاجب في
«الأمالي» : لام الابتداء يجب أن يكون معها المبتدأ، وقال
الزمخشري في {ولسوف يعطيك ربك} (الضحى: 5) لام الابتداء لا
تدخل إلا على مبتدأ وخبر، وقال في {لا أقسم}
(4/434)
لام ابتداء دخلت على مبتدأ محذوف ولم
يقدرها لام قسم لأنها عنده ملازمة للنون، وكذا زعم في
ولسوف أن التقدير ولأنت سوف. وقال ابن الحاجب: هي لام
التأكيد اهـ. (رأيت نبيكم) الظاهر أن الرؤية فيه بصرية
وجملة (وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه) في محل الحال،
وقيل إنها علمية والجملة مفعول ثان دخلتها الواو إلحاقاً
لها بخبر كان على رأي الأخفش، وإضافة النبيّ إلى المخاطبين
ليحثهم على الاقتداء به والإعراض عن الدنيا ما أمكن، فلذا
لم يقل نبييّ ونبيكم، وقتل خالد مالك بن نويرة لما قال له
كان صاحبكم يقول كذا فقال صاحبنا ولي بصاحبك فقتله ليس
لمجرد هذه اللفظة بل لما بلغه من ارتداده وتأكد عنده ذلك
بما أباح له به الإقدام على قتله (رواه مسلم) في آخر
«صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» وقال صحيح
وفي الشمائل، ورواه أبو عوانة وغيره وهو طرف حديث أوله
«ألستم في طعام وشراب ما شئتم لقد رأيت» الخ (الدقل) بفتح
الدال المهملة والقاف (تمر رديء) وفي «النهاية» هو رديء
التمر ويابسه، وما ليس له اسم خاص فتراه ليبسه ورداءته لا
يجتمع ويكون منثوراً اهـ. وفي «المصباح» الدقل أردأ التمر
وقد تقدم الحديث مع الكلام عليه في الباب قبله.......
6495 - (وعن سهل بن سعد) الساعدي (رضي الله عنه قال: ما
رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النقي) أي الخالص من
النخالة ونفى رؤيته مبالغة في نفي أكله (من حين ابتعثه ا)
أي نبأه وبعثه، والتاء فيه للمبالغة في تحمل أعباء الرسالة
لثقلها (حتى قبضه ا) أي توفاه سبحانه ونقله إلى دار كرامته
(فقيل له هل كان لكم في عهد) أي زمن (رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - مناخل) جمع منخل بضم أوله وثالثه المعجم وسكون
النون بينهما، وهو أحد ما خرج عن قياس بناء اسم الآلة لأن
قياسه الكسر وجمعه باعتبار جمع المخاطبين (قال: ما رأى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منخلاً من حين) بالفتح
على الأفصح لإضافته جملة (ابتعثه الله تعالى) وهي مبنية
الصدر وقال بعض المحققين: أظنه احترز بهذا عما قبل البعثة
لكونه سافر تلك المدة إلى الشام تاجراً، وكانت الشام إذ
ذاك مع الروم،
(4/435)
والخبز النقي عندهم كثير، وكذا المناخل
وغيرها من آلات الترفه لا ريب أنها كانت عندهم (حتى قبضه)
بفتح الموحدة أي توفاه (اإليه فقيل له) لم أقف على تعيين
القائل (كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول) بالنصب على
الحال ووجه التعجب من ذلك كثرة نخالته فربما نشب في الحلق
(قال: كنا نطحنه وننفخه) أي المطحون الدال عليه نطحنه
(فيطير ما طار) من نخالته (وما بقي) بكسر القاف: أي فضل من
النخالة في الدقيق بعد نفخه (ثريناه. رواه البخاري) في
الأطعمة والرقاق من «صحيحه» والنسائي (قوله النقي هو بفتح
النون وكسر القاف وتشديد الياء) ولم يحتج إلى تقييد
بالتحتية المأتي به للاحتراز عن الفوقية لأن الصورة الخطية
هنا دالة على التعيين (وهو الخبز الحوّاري) بضم المهملة
وتشديد الواو وبالراء ثم ألف من الحور: البياض فهو الخبز
الأبيض كما قال (وهو الدرمك) بفتح الدال وسكون المهملة.
قال في «الصحاح» : هو دقيق الحواري اهـ. وبه يعلم أن في
كلام المصنف مضافاً مقدراً: أي خبز الدرمك (قوله ثريناه هو
بثاء مثلثة ثم......
راء مشددة) مفتوحتين (ثم ياء مثناة من تحت) ساكنة (ثم نون)
الأوضح ثم بالنون لأن ما ذكره يوهم أنها نون النسوة (أي
بللناه) بفتح أوليه الموحدة فاللام المخففة كما في
«المصباح» ، قاله بللته بالماء بلا فابتل ويجمع البل على
بلال مثل سهم وسهام والاسم البلل بفتحتين، وقيل البلال ما
يبل به الحلق من ماء ولبن، وبه سمى الرجل اهـ. (وعجناه) أي
فيلين ما يبقى من نخالته فلا ينشب في الحلق.
7496 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ذات يوم) أي في الحقيقة التي هي
اليوم وأتى بذات دفعاً لتوهم أن المراد به مطلق الزمان
(أو) شك من الراوي (ليلة) بالإضافة والمضاف لفظ ذات (فإذا
هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما) أي
(4/436)
ففاجأ خروجه رؤيتهما، وهو مبتدأ والظرف
بعده خبر (فقال، ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟) أي
التي لم تجر العادة بالخروج فيها لأنها ليست وقت صلاة ولا
ما يجتمع له من كسوف أو نحوه من الحوادث (قالا: الجوع)
يجوز أن يعرب مبتدأ خبره جملة محذوفة دل عليها السؤال: أي
أخرجنا ويجوز إعرابه فاعلاً لأخرجنا مقدراً وأيهما أولى
يبني على الخلاف في أي المرفوعات أصل المبتدأ أو الفاعل أو
هما في مرتبة واحدة فعل الأول يعرب مبتدأ وعلى الثاني
فاعلاً وعلى الثالث يخير (قال) (وأنا) الواو فيه للاستئناف
ثم في رواية صاحب «الشمائل» وغيره الغابة «قال أبو بكر:
خرجت للقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنظر في
وجهه والسلام عليه فلم يلبث أن جاء عمر فقال: ما جاء بك يا
عمر؟ قال: الجوع يا رسولالله، قال رسول الله: قد وجدت بعض
ذلك» فيحتمل أن الصديق كان قال كلا من المقاتلين وإنما
اكتفى بلقي المصطفى والنظر إليه والسلام عليه لأن بذلك
يحصل كمال القوى فيذهل عن ألم الجوع كما قال في وصاله في
صومه «إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني» على أحد الأقوال
فيه (والذي نفسي بيده) أي بقدرته فيه ندب......
القسم لتأكيد الأمر عند السامع والحلف من غير استحلاف
(لأخرجني الذي أخرجكما) وعند الترمذي في «شمائله» «وأنا
وجدت بعض ذلك» أي الجوع. قال في «أشرف الوسائل» : فيحتمل
أنه جمع بين المقالتين وفي عقد التقي الفاسي عن جده قال:
سمعت الإمام محمداً المرجاني يقول قوله الذي أخرجكما لفظ
مبهم ظاهره الجوع، والمراد والله أعلم هوالله، إذ هو الذي
أخرجه حقيقة فعبر بلفظ الذي الصادق على السبب وعلى المسبب
ليشاركهم في ظاهر الحال دفعاً للوحشة الواقعة في ذكر
الجوع. قلت: وهذا من معالي الأخلاق وكريم الشيم وهو من
معنى قوله تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}
(الشعراء: 215) اهـ. كلامه. قلت: وهذا يسميه البديعيون
بالتوجيه، ومنه قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه في خياط
أعور:
خاط لي عمرو قباء
ليت عينيه سواء......
فإنه محتمل للدعاء له والدعاء عليه (قوموا فقاموا) أي على
الفور كما تؤذن الفاء
(4/437)
وانصرفوا (معه فأتى رجلاً من الأنصار) يأتي
تعيينه في الأصل بما فيه (فإذا هو ليس في بيته) أي ففاجأ
مجيئهم فقدانه من البيت، وهو مبتدأ والجملة بعده في محل
الخبر (فلما رأته) أي أبصرته (المرأة) فيؤخذ منه جواز نظر
الأجانب إليه كما يجوز نظره للأجانب منهن وأنه معهم
كالمحارم في جواز الخلوة والنظر، ويحتمل أن تكون الرؤية
علمية والمفعول الثاني محذوف لدلالة المقام عليه: أي
مقبلاً، والمرأة بوزن التمرة ويجوز نقل حركة هذه الهمزة
إلى الراء فتحذف وتبقى مرة بوزن سنة، ويقال فيها امرأة كما
يقال مرأة وربما قيل امرأ بغير هاء اعتماداً على قرينة تدل
على المسمى. قال الكسائي: سمعت امرأة من فصحاء العرب تقول
أنا امرأ أريد الخير وجمع امرأة نساء ونسوة من غير لفظها
كذا في «المصباح» ولم أقف على اسمها (قالت مرحباً) أي وجدت
منزلاً رحباً: أي واسعاً فانزل (وأهلا) أي وصادفت أهلاً
فأنس كذا في هذه الرواية، وفي رواية أنهم كرروا السلام ولم
يجبهم حتى هم بالانصراف، ثم أجابت واعتذرت بأنها أرادت
كثرة دعائه وتكريره لها ولصاحب منزلها فلعلها قالت ما ذكر
قولاً نفسياً ثم أخبرت عنه والله أعلم (فقال لها رسول
الله: أين فلان؟) قال المصنف في «التهذيب» : قال ابن
السراج: كناية عن اسم يسمى به المحدث عنه خاص غالب اهـ.
وتقدم هذا المعنى بزيادة في باب الصبر وزاد «تفسيري
البيضاوي والكشاف» قولهما كما أن هذا كناية عن الأجناس
(قالت: ذهب يستعذب لنا الماء) يؤخذ منه أن استعذاب الماء
لا ينافي شأن الصحابة من الإعراض عن زهرات الدنيا
ومستلذاتها (إذ جاء الأنصاري) يحتمل أن تكون للمفاجأة بناء
على مجيئها لذلك كما قال به جمع وإن نوزعوا فيه بما بينته
أول رسالتي «إنباه النائم من سنة نومه» ببعض فوائد قوله
تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) (فنظر إلى
رسول الله صلى الله عليه......
وسلم وصاحبيه) أي وقع النظر إليهم عقب مجيئه وهذا يحتمل أن
يكون اتفاقاً، ويحتمل أن يكون لما حل عليه من الإشراق
والتجلي الرباني ولم يدر سببه من نفسه، فنظر ليرى سببه من
الخارج فرأى مشكاة أنوار المصطفى المختار ومعه صاحباه
رضوان الله عليهما (ثم قال) أي بعد أن رحب وأظهر كمال
الفرح الكامن فيه الكائن عنده بحلول المصطفى في منزله وأتى
بما يدل على ذلك (الحمد) أي هذه نعمة يجب شكر المنعم بها
شرعاً ليدوم نفعها، وقوله (ما أحد اليوم
(4/438)
أكرم أضيافاً مني) جملة مستأنفة ليبين
الحامل له على الحمد والداعي إليه، وفيه دليل كمال فضيلته
وبلاغته وعظم معرفته لأنه أتى بكلام بديع مختصر في هذا
الموطن، وما حجازية وأكرم خبره واليوم ظرف للنفي المدلول
عليه بما: أي انتفى وجدان أحد اليوم أكرم، من الكرم وهو
الجود والخيار ومنه حديث «إياك وكرائم أموالهم» وأضيافاً
منصوب على التمييز ومني متعلق بأكرم (فانطلق) أي من محل
رؤيته من حائطه عقب قول ما ذكر (فجاءهم بعذف) وجاء عند
الترمذي بدله «بفنو» وهو بكسر القاف وسكون النون: العذق
الغصن من النخل (فيه بسر) هو المتلون من ثمر النخل.......
قال المصنف في «التهذيب» : قال الجوهري: البسر أوله طلع ثم
خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر، الواحدة بسرة والجمع
بسرات وبسر وأبسر النخل صار ما عليه بسراً اهـ (وتمر) بفتح
الفوقية وسكون الميم. قال في «المصباح» هو تمر النخل
كالزبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة لأنه يترك
على النخل بعد إرطابه حتى يجف أو يقارب ثم يقطع ويترك في
الشمس حتى ييبس، الواحدة تمرة والجمع تمور وتمران بالضم
والتمر يذكر ويؤنث في لغة فيقال: هو التمر وهي التمر اهـ
(ورطب) بضم ففتح قال في «المصباح» : الرطب تمر النخل إذا
أدرج ونضج قبل أن يجف والجمع رطاب مثل كلبة وكلاب (فقال:
كلوا) زاد الترمذي في «الشمائل» : فقال النبيّ: «أفلا
تنقيت» ؟ فقال: يا رسول الله: إني أردت أن تختاروا من رطبه
وبسره فأكلوا وشربوا، (وأخذ المدية) بسكون الدال المهملة
(فقال له رسول الله: «إياك والحلوب» أصله احذر تلاقي نفسك
والحلوب العامل وجوباً وفاعله، ثم المضاف الأول وأنيب عنه
الثاني فانتصب، ثم الثاني وأنيب عنه الثالث، فانتصب وانفصل
لتعذر اتصاله، قاله ابن هشام في «التوضيح» في نحوه وإنما
نهى عن ذبحها شفقة على أهله بانتفاعهم بلبنها مع حصول
المقصود بغيرها فهو نهي إرشاد لا كراهة في مخالفته لزيادة
أكرام الضيف وإن أسقط حقه (فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن
ذلك العذق) أتى بمن التعيضية إشعاراً بالإعراض عن الدنيا
مع تمام الداعية ومزيد الحاجة (وشربوا) أي من الماء العذب
(فلما أن شبعوا ورووا) بضم الواو التي هي عين الفعل والأصل
رويوا بوزن علموا (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لأبي بكر
(4/439)
وعمر رضي الله عنهما: «والذي نفسي بيده» )
أي قبض روحي بقدرته (لتسألن) بضم اللام والفعل مبني
للمجهول ونائب الفاعل واو الجماعة فحذف لالتقاء الساكنين
(عن هذا النعيم يوم القيامة) ثم قال مبيناً وجه السؤال
المذكور على وجه الاستئناف البياني (أخرجكم من بيوتكم) بضم
الموحدة وتكسر......
اتباعاً لحركة الياء (الجوع) ونسبة الإخراج إليه مجاز عقلي
من الإسناد إلى السبب، وإلا فالمخرج لهم من منازلهم هو
الله تعالى (ثم لم ترجعوا) بالبناء للفاعل ويجوز بناؤه
للمجهول إن لم تصد عنه رواية (حتى أصابكم هذا النعيم) وهو
الطعام والشراب (رواه مسلم) في أواخر «صحيحه» ، ورواه
الترمذي في «جامعه» و «شمائله» ، وقال في «جامعه» في باب
الاستئذان: رواه غير واحد عن شيبان، وشيبان صاحب كتاب وهو
صحيح الحديث، وقال في الزهد منه وقد رواه من طريق شيبان
أيضاً: حسن غريب، ورواه فيه من طريق أخرى ثم، وشيبان ثقة
عندهم صاحب كتاب وهو صحيح الحديث، ورواه النسائي في
الوليمة وابن ماجه في الأدب. 5......
(وقولها: يستعذب) ، أي يطلب الماء العذب فالسين فيه للطلب،
وهو أحد معاني استفعل كما ذكرته في رسالتي «إنباه النائم
في سنة نومه» وفي «الصحاح» استعذب لنا الماء استقى لنا ماء
عذباً واستعذب الماء سقاه عذباً اهـ. وبه يعلم أن الفرق
بينه مع لنا ودونها، وإنما ذهب لطلب الماء العذب لأن أكثر
مياه المدينة حينئذ كانت مالحة (وهو) أي الماء العذب
(الطيب) أي ما يستطاب من الماء وليس المراد منه معنى العذب
لغة، وهو ما يسوغ شربه ولو مع بعض الكزازة لأن ذلك ثابت
لجميع مياه المدينة (والعذق بكسر العين) المهملة (وإسكان
الذال المعجمة وهو الكباسة) قال في «المصباح» : هي بالكسر
عنقود النخل والجمع كبائس وهو معنى قوله: (وهي) أي الكباسة
(الغصن) أي من أغصان النخل لا مطلقاً كما هو ظاهر واكتفى
عن تقييد ذلك بدلالة السياق (والمدية بضم الميم) بوزن غرفة
وجمعها غرف، ومقتضى كلام «المصباح» وبنو قشير تقول مدية
بكسر الميم والجمع مدى كسدرة وسدر (هي السكين) بكسر
المهملة وتشديد الكاف ونون أصلية قيل: بوزن فعيل، وقيل:
زائدة فيكون وزنه فعلين مثل غسلين: الشفرة سمي بذلك لأنه
يسكن حركة المذبوح، وحكى ابن الأنباري فيه التذكير
والتأنيث. قال السجستاني: إن أبا زيد الأنصاري والأصمعي
وغيرهما ممن أدركه أنكروا
(4/440)
التأنيث وقالوا: هو مذكر، وربما أنث في
الشعر على معنى الشفرة وأنشد الفراء:
بِسِكِّين مُوَثَّقَةِ النِّصابِ......
ولذا قال الزجاج: السكين مذكر وربما أنث بالهاء لكنه شاذ
غير مختار (والحلوب) بفتح الحاء المهملة وضم اللام (ذات
اللبن) قال في «المصباح» : فإن جعلتها اسماً أتيت بالهاء
فقلت: هذه حلوبة فلان مثل الركوب (والسؤال عن هذا النعيم)
المؤكد بالقسم واللام، وذلك لاستبعادهم له فإنه من حاجة
جافة، لا من شهوة وحظ نفس (سؤال تعداد النعم) والامتنان
بها وإظهار الكرامة بإساغتها، زاد في «الشمائل» : ظل بارد
ورطب وماء بارد (لا سؤال توبيخ) وفي «المصباح» وبخته
توبيخاً: لمته على سواء فعله وعنفته وعتبت عليه، كلها
بمعنى. وقال الفارابي: عيرته. وقال الجوهري: التوبيخ
التهديد: أي لعدم القيام بشكرها (وتعذيب) أي يتسبب عن
كفرانها وعدم شكرها لأن ذلك غير كائن للصاحبين فيما
تتناولاه حينئذ. قال ابن القيم: كل أحد يسأل عن تنعمه الذي
كان فيه هل ناله من حل أو لا؟ وإذا خلص من ذلك يسأل هل قال
بواجب الشكر فاستعان به على الطاعة أو لا والأول سؤال عن
سبب استخراجه، والثاني عن محل صرفه اهـ. وإنما ذكر المصطفى
ذلك إرشاداً للآكلين والشاربين في حفظ أنفسهم في الشبع عن
الغفلة باشتغال أحدهم بحظ نفسه ونعمتها عن تذكر الآخرة
(وهذا الأنصاري الذي أتوه هو أبو الهيثم) بهاء مفتوحة
وسكون التحتية وفتح المثلثة: كنية مالك (ابن التيهان) بفتح
الفوقية وتشديد التحتية الأنصاري الأوسي أحد النقباء (كذا
جاء مبيناً في رواية الترمذي) من حديث أبي هريرة نفسه،
رواه كذلك في «جامعه» وفي «الشمائل» ، وورد في رواية
أخرجها الحافظ ابن حجر العسقلاني في «تخريج أحاديث
الأذكار» من حديث ابن عباس أنهم انطلقوا إلى دار أبي أيوب
الأنصاري وساق القصة بنحوه وفي آخره: «إذا أصبتم مثل هذا
فضربتم بأيديكم فقولوا: بسم الله وببركةالله، وإذا شبعتم
فقولوا: الحمد الذي أشبعنا وأروانا وأنعم علينا وأفضل فإن
هذا كفاف هذا» وذكر بقية الحديث، وحسن الحافظ الحديث وقال:
وفيه غرابة من وجهين: ذكر أبي......
أيوب والمشهور في هذا قصة أبي الهيثم، والثاني ما في آخره
من التسمية والحمد اهـ. وفي «أشرف الوسائل» في رواية عند
الطبراني وابن حبان أنهم جاءوا إلى أبي أيوب، ولا مانع في
أنهما قصتان اتفقتا لهم مع كل
(4/441)
واحد منهما، ورواية مسلم رجلاً من الأنصار
محتملة لهما اهـ. وكأن المصنف جزم بكونه أبا الهيثم لكون
رواية الترمذي عن الصحابي الذي رواه عنه مسلم والله أعلم
(وغيره) كابن ماجه فعنده أيضاً اذهبوا إلى بيت أبي الهيثم
بن التيهان وكابن أبي عاصم في كتاب الأطعمة والحاكم كما
أشار إليه الحافظ في تخريجه لأحاديث الأذكار في «أماليه»
عليها.......
8 - (وعن خالد بن عمر) بضم العين وفتح الميم والراء كذا
وقفت عليه في نسخ متعددة من الرياض وهو من تحريف الكتاب
إنما هو «عمير» بالتصغير (العدوي) بفتح المهملتين وهي نسبة
إلى عدي بفتح فكسر، والمنسوب إليه كذلك متعدد في المهاجرين
وفي الأنصار وفي غيرهم كما في «لب اللباب» للأصفهاني،
وخالد هذا بصري. قال الحافظ العسقلاني في «التقريب» :
مقبول من كبار التابعين، يقال: إنه مخضرم، وهم من ذكره في
الصحابة، روى عنه مسلم والترمذي في «الشمائل» وابن ماجه
اهـ. قلت: قضيته أن الترمذي لم يرو عنه في «الجامع» لكن في
«الأطراف» للحافظ المزي أن حديث الباب رواه الترمذي في صفة
جهنم من «جامعه» وفي «شمائله» وأشار بقولهم «وهم الخ» إلى
الحافظ ابن عبد البر فإنه ذكره في «الاستيعاب» (قال خطبنا
عتبة) بضم المهملة وسكون الفوقية بعدها موحدة فهاء تأنيث
(ابن غزوان) بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي ابن وهب بن
نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن مازن بن منصور بن
عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان أبو عبد الله. ويقال أبو
غزوان، قال الحاكم قال الواقدي: كان عتبة طوالاً جميلاً
قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة وكان من الرماة المذكورين،
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أحاديث
هذا أشهرها، وليس له في الكتب الستة سواه. وروى له الحاكم
أن النبي قال يوماً لقريش: «هل فيكم أحد غيركم؟» قالوا:
ابن أختنا عتبة بن غزوان قال النبي: «ابن أخت القوم منهم»
ثم قال: غريب جداً. قال في «تلخيص المستدرك» : إسناده
مظلم. قال الشيخ أبو العباس القرطبي: عتبة مازني حليف لبني
توفل قديم الإسلام، هاجر وشهد مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بدراً والمشاهد كلها. أمّره عمر على جيش فتوجه
إلى العراق وفتح الأبلة والبصرة بموضع يقال له: معدن بني
سليم، قاله ابن سعد. ويقال: إنه مات بالربذة، قاله ابن
المدائني كذا في «الديباجة» للدميري (وكان
(4/442)
أميراً على البصرة) بتثليث
الموحدة كما حكاه الأزهري وأفصحهن الفتح وهو المشهور،
ويقال له: البصيرة بالتصغير، والمؤتفكة لأنها ائتفكت
بأهلها في أول الدهر: أي انقلبت. قال صاحب «المطالع» : قال
أبو سعيد السمعاني: يقال للبصرة قبة الإسلام وخزانة العرب،
بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر سنة سبع عشرة وسكنها
الناس سنة ثماني عشرة، ولم يعبد الصنم قط على أرضها اهـ.
وهذا يصح كونها من جملة مثول القول والمحكي بالقول مجموع
الجمل، ويحتمل كونها في محل الحال من فاعل خطب بإضمار قد
(فحمد الله) أي أثنى عليه بالأوصاف الأزلية الثبوتية
(وأثنى عليه) بسلب ما لا يليق به سبحانه في الثناء ويصح
كونهما بمعنى وعطفهما مع كونهما كذلك لاختلافهما لفظاً
إيماء إلى أنه أطنب في الثناء على مولاه سبحانه كما يدل
عليه قوله (ثم قال) والأول أولى لأن التأسيس خير من
التأكيد، والفاء في قوله فخطب كالفاء في نحو توضأ زيد فغسل
وجهه الخ للترتيب الذكري لا للترتيب في الزماني بأن يراد
أراد الخطبة وأراد الوضوء والإرادة سابقة على فعله والله
أعلم. (أما بعد) أتى بها اقتداء به فقد كان يأتي بها في
خطبة، وذكر الحافظ في «الفتح» أن الرهاوي أخرجها من أربعين
طريقاً عنه (فإن الدنيا قد آذنت بصرم) لتحول أحوالها الدال
على حدوثها، وكل ما ثبت حدوثه وجب قبوله للعدم قال الشاعر:
وإن افتقادي واحداً بعد واحد
دليل على ألا يدوم خليل
(وولت حذاء) أي منقطعة، ومنه قال للقطة حذاء: أي منقطعة
الذنب قصيرته، ويقال: حمار أحذّ: إذا كان قصير الذنب، حكاه
أبو عبيدة، وهذا مثل فكأنه قال: إن الدنيا قد انقطعت مسرعة
(ولم يبق منها إلا صبابة) لأنه قال: «بعثت أنا والساعة
كهاتين» وأشار بإصبعيه الوسطى والمسبحة (كصبابة الإناء
يتصابها بها صاحبها وإنكم منتقلون عنها) إذ هي دار ارتحال
وانتقال (إلى دار لا زوال لها) ولا ارتحال عنها (فانتقلوا)
أي من الدنيا (بخير ما بحضرتكم) أي بكسب صالح الأعمال
وادخار الحسنات عند المولى سبحانه، جعل الخير المتمكن منه
في الحياة كالحاضر المحتاج إليه في المآل، فصاحب الحزم
يدخر منه حاجته لينتفع به عند
(4/443)
احتياجه إليه، وهذا كما قال ابن عمر رضي
الله عنهما: وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك، وبين
الداعي لاستعداد الزاد وادخاره ليوم المعاد بما ورد من
الترهيب والترغيب فقال على سبيل الاستئناف البياني (فإنه
قد ذكر لنا) ببناء ذكر للمجهول، وحذف الفاعل للعلم به أنه
المصطفى لأن الصحابي الذي لم يخالط كتب أهل الكتاب لا سبيل
له إلى معرفة ذلك إلا من قبله، وقد ذكر علماء الأثر أن من
الموقوف لفظاً المرفوع حكماً قول الصحابي: أمرنا بكذا
ونهينا عن كذا بالبناء للمجهول فيهما، وجوز في «الديباجة»
أن ذلك ذكر له عن النبي ولم يسمعه هو منه وسكت عن رفعه إما
نسياناً أو لأمر اقتضاه ومراده الرفع لفظاً لما ذكرناه،
قال: ويحتمل أن يكون سمعه منه وسكت عن رفعه للعلم به اهـ
(أن الحجر) أل فيه للجنس، والحجر معروف. قال ابن النحوي في
لغات «المنهاج» : جمعه في أدنى العدد أحجار، وفي الكثرة
حجار، والحجارة نادر وهو كقولنا حمل وحمالة وذكر وذكارة،
كذا قال ابن فارس والجوهري ورد عليهما القرطبي بأن في
القرآن «فهي كالحجارة، وإن من الحجارة، كونوا حجارة،
ترميهم بحجارة، وأمطرنا عليهم حجارة» فكيف يكون نادراً إلا
أن يريد أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فيصح ا
هـ. وذلك لأن ما كان كذلك وعكسه يقع في الفصيح بخلاف ما
خالفهما معاً فمردود (يلقى من) ابتدائية (شفير جهنم) أي
حرفها. وشفير كل شيء حرفه أيضاً كالبئر والنهر كذا في
«المصباح» وفي «الديباجة» حرفها الأعلى كل شيء أعلاه
وشفيره، ومنه شفير العين، وجهنم قيل: اسم أعجمي، وقيل:
عربي مأخوذ من قولهم: بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر،
وعلى كل فهي ممنوعة الصرف للعجمة أو التأنيث المعنوي مع
العلمية، وهو اسم لنار الآخرة: نسأل الله العافية منها ومن
كلا بلاء (فيهوي) بكسر الواو، أي ينزل (فيها سبعين) منصوب
على الظرفية الزمانية: أي في قدر سبعين (عاماً لا يدرك)
بالبناء للفاعل: أي لا يصل والإسناد فيه مجازي والحقيقي لا
يوصله الله (لها قعراً) بفتح القاف وسكون العين وهو كما في
«المصباح» أسفل الشيء وجمعه قعوراً اهـ (وا لتملأن)
بالبناء للمجهول للعلم بالفاعل سبحانه أكد بالقسم وباللام
دفعاً لما قد يقصر العقل عن إدراكه من ملء ما لا يقطع مدى
الوصول إلى قعره سبعين عاماً فما بالك بعرضه وكمال سعته:
أي وإذا كان كذلك وتمتلىء عن آخرها فاحذروا من مخالفته
سبحانه لئلا توبقكم المخالفة وتوقعكم فيها المعصية، غفر
الله لنا ذنوبنا وستر عيوبنا بمنه وكرمه وبما كان ما ذكره
أمراً عظيماً جداً قال على وجه التقرير (أفعجبتم) أي من
هذا الأمر الدال على عظم قدرة الله سبحانه وكمال جلاله
وقوة انتقامه وتقدم أن في
(4/444)
ذلك قولين أحدهما: أن التقدير أسمعتم
فعجبتم فالفاء عاطفة على مقدر بعد الألف، والثاني: أن ألف
الاستفهام من جملة المعطوف وقدمت لصدارتها لتضمنها
الاستفهام، ولما حصل عند الحاضرين من مزيد الرهبة وعظيم
الخوف مما سمعوه حتى كادوا أن يظنوا عموم العذاب لجميعهم،
أراد رفع ذلك عنهم وإدخالهم في ميدان الرجاء إعلاماً بسعة
رحمة الله تعالى وكمال فضلة، فأكد ذلك بالقسم المقدر الدال
عليه اللام في قوله: (ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين)
بكسر الميم
تثنية مصراع، ومصراع الباب ما بين عضادتيه وهو ما يسده
الغلق كذا في «المفهم» للقرطبي، وفي «المصباح» : المصراع
من الباب الشطر وهما مصراعان (من مصاربع الجنة مسيرة
أربعين عاما) برفع مسيرة خبر أن، وإذا كان هذا سعة الباب
وأبوابها ثمانية وبين كل بابين خمسمائة عام كما تقدم في
حديث: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» فما
بالك بسعة باطنها ويكفيك في ذلك قوله تعالى:
{وجنة عرضها السموات والأرض} (آل عمان: 133) والعادة جارية
أن الطول أزيد من العرض، فسبحان المنعم المتفضل (وليأتين
عليها) أي الجنة (يوم) هو وقت دخولها (وهو) أي المصراع أن
محله من الباب (كظيظ من الزحام) وذلك ما يدل على كثرة
الداخلين بعموم الرحمة ومزيد الفضل ففي الحديث إيماء إلى
أن المكلف ينبغي له أن يكون عنده حال الصحة خوف من مولاه
سبحانه ورجاء لفضله إحسانه بقبول ما يعمله من صالح العمل.
والزحام بكسر الزاي مصدر زاحمه: أي دافعه (ولقد رأيتني)
قال في «أشرف الوسائل» هي بصرية وقوله: (سابع سبعة) حال:
أي واحداً من سبعة، قال: لكن قضية قوله: يعني في رواية
الترمذي فقسمتها بيني وبين سبعة» أنه ثامن، لكن قوله:
أولئك السبعة يدل للأول وأن المراد بقوله سبعة: أي بقية
سبعة اهـ. ولا يشكل على كونها بصرية اتحاد ضمير فاعلها
ومفعولها وذلك من خصائص أفعال القلوب، وعبارة «الكافية»
لابن الحاجب، ومنها: أي خصائص أفعال القلوب أنه يجوز أن
يكون فاعلها ضميرين لشيء واحد مثل علمتني منطلقاً، قال
شراحها: والعبارة للمحقق الجامي، ولا يجوز ذلك في سائر
الأفعال فلا يقال: ضربتني ولا شتمتني بل يقال: ضربت نفسي،
وذلك لأن أصل الفاعل أن يكون مؤثراً والمفعول به متأثراً،
وأصل المتأثر أن يغاير المؤثر، فإن اتحدا معنى كره
اتحادهما لفظاً فقصد مع اتحادهما معنى تغايرهما لفظاً بقدر
الإمكان، فمن ثم قالوا: ضربت نفسي ولم يقولوا: ضربتني، فإن
الفاعل
والمفعول فيه ليسا بمتغايرين
(4/445)
بقدر الإمكان لاتفاقهما من حيث إن كل واحد
منهما ضميراً متصلاً، بخلاف ضربت نفسي فإن النفس بإضافتها
إلى ضمير المتكلم صارت كأنها غيره لغلبة مغايرة المضاف
إليه فصار الفاعل والمفعول فيه متغايرين بقدر الإمكان،
وأما أفعال القلوب فإن المفعول به ليس المفعول الأول في
الحقيقة بل مضمون الجملة، فجاز اتفاقهما لفظاً لأنهما ليسا
في الحقيقة فاعلاً ومفعولاً به اهـ. لكن ألحق بأفعال
القلوب في ذلك رأي البصرية، قال الشاعر:
ولقد أراني للرماح دريئة
والحلمية كقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} (يوسف: 36)
وقوله: (مع رسول الله) حال من فاعل رأى، ويصح كونها لغواً
متعلقاً برأي، وقوله: (ما لنا طعام إلا ورق الشجر) يحتمل
أن تكون في محل الحال من فاعل رأى، وأن تكون مستأنفة
استئنافاً بيانياً جواباً لكيف كنتم معه، وقوله: (حتى قرحت
أشداقنا) غاية لمقدر: أي فأكلناه إلى أن قرحت جوانب
أشداقنا جمع شدق بكسر الشين المعجمة كحمل وأحمال، ويقال:
شدق بفتح المعجمة وجمعه شدوق كفلس وفلوس (فالتقطت بردة) أي
عثرت عليها من غير قصد وطلب، وهي شملة مخططة وقيل: كساء
أسود مربع، وقال القرطبي: البردة الشملة، والعرب تسمي
الكساء الذي يلتحف به بردة، والبرد بغير تاء نوع من ثياب
اليمن (فشققتها بيني وبين سعد بن مالك) هو ابن أبي وقاص
أحد العشرة المبشرين بالجنة (فاتزرت) بتشديد الفوقية
(بنصفها واتزر سعد بنصفها) وفي الترمذي فشققتها بيني وبين
سعد كما تقدم، ثم مبادرته بشقها عقب التقاطها كما تؤذن به
الفاء، إما لعلمه برضا صاحبها وإما بإعراضه عنها لسقوطها
وتمزقها، أو لمعرفته بمالكها فإنه يرضى بذلك، أو كان قبل
وجوب تعريف اللقطة (فما أصبح) أي صار (اليوم منا أحد) اسم
أصبح والظرف قبله حال منه وكان صفة له فقدم عليه فصار
حالاً (إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار) أشار به إلى
اتساع الحال عليهم بعد ضيقه أولاً، زاد في آخر الحديث:
وسيخربون الأمراء بعدنا: أي ليسوا مثلنا من جهة العدالة
والديانة والإعراض عن الدنيا وكان الأمر على ذلك، وأشاروا
إلى الفرق بأنهم رأوا معه ما كان سبباً لرياضتهم وتقللهم
من الدنيا فمضوا على ذلك وغيرهم ممن بعدهم ليس كذلك، فلا
يكون إلا على قضية طبعه المجبول على الخلق القبيح (وإني
(4/446)
أعوذ) أي اعتصم (با) من (أن أكون في نفسي
عظيماً) بأن يوهمني ذلك الشيطان والنفس (وعند الله صغيراً)
لا يقبل علي بالفضل والإحسان، ولا ينصب لعملي وزن إذا نصب
الميزان، قال: «يجاء يوم القيامة
بالرجل العظيم لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم
{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} أو كما قال: (رواه مسلم)
أواخر «صحيحه» ورواه الترمذي في «جامعه» وفي «شمائله» إلا
أنه لم يسق منه فيها إلا من قوله: «لقد رأيتني سابع سبعة»
الخ، وأشار إلى باقي الحديث، ورواه النسائي في «الرقاق
المفتوحة» ورواه ابن ماجه في الزهد مختصراً.
(قوله: آذنت هو بمد الهمزة) أي وبالذال المعجمة المفتوحة
(أي أعلمت) عبارة القرطبي: أي أشعرت وأعلمت وحذف المصنف
الأول لإغناء الثاني عنه.
(وقوله: بصرم بضم الصاد) أي المهملة وسكون الراء (أي
بانقطاعها وفنائها) الأولى بانقطاع وفناء كما عبر به
القرطبي وتبعه في «الديباجة» لأن المفسر غير مضاف إليها
وإن كان الكلام فيها.
(وقوله: وولت حذاء) و (هو بحاء مهملة مفتوحة ثم ذال معجمة
مشددة ثم ألف ممدودة: أي سريعة) هذا تفسير للحذاء لا
لمجموع المحكي كما قد توهمه عبارته، ولو قال: أي أدبرت
سريعة أو قال حذاء: أي سريعة لسلم من ذلك الإيهام إلى أن
يسامح زيادة في الإيضاح كما هي عادته من بذل النصيحة جزاه
الله خيراً، وفي «المصباح» : الأحذّ المقطوع الذنب. وقال
الخليل: الأحذّ الأملس الذي ليس مستمسكاً لشيء يتعلق به
والأنثى حذاء (والصبابة بضم الصاد المهملة) وهو بموحدتين
خفيفتين بينهما ألف (وهي البقية اليسيرة) كذا في الأصول
بإثبات الواو على أن الخبر الظرف السابق على الجملة وهي
معطوفة عليه، ثم قوله: البقية غير مقيدة بشيء هو ما قاله
غيره ومنهم القرطبي والدميري، وبه يعلم أن قول «المصباح»
الصبابة بالضم بقية الماء مراده به التمثيل لا التقييد.
قال القرطبي: والصبابة بالفتح: رقة الشوق ولطيف المحبة
اهـ.
(وقوله يتصابها) بفتح التحتية والفوقية (وهو يتشديد
الموحدة) من باب التفاعل فأدغمت الموحدة في مثلها (قبل
الهاء أي يجمعها) قال القرطبي: أي يروم صبها على قلة
الماء: أي مثلاً وضعفه (والكظيظ) بفتح الكاف وكسر الظاء
المعجمة الأولى وسكون التحتية بينهما (الكثير) بالمثلثة
(الممتلىء) يقال: كظة الشر فهو كظيظ، وفي «النهاية»
(4/447)
حديث عتبة في باب الجنة «وليأتين عليه يوم
وهو كظيظ» أي ممتلىء، والكظيظ الزحام اهـ. 6 ومثله في
«مجمع البحار» نقلاً عنها، وكأنه أشار بذلك إلى أنه مشترط
بين الممتلىء والزحام: أي ذي الزحام لأنه تفسير الوصف،
والله أعلم.
(وقوله: قرحت هو بفتح القاف وكسر الراء) وبالحاء المهملة
(أي صار فيها قروح) بضمتين جمع قرح بفتح القاف وضمها، وفي
«النهاية» قيل: بالفتح المصدر وبالضم اسم مصدر وبضم أوليه
أيضاً، ولم يذكر المصنف في «تحريره» سوى فتح القاف وضمها
وقال: إنه الجرح، وقال غيره: إنه كالجدري، وفي «مفردات
الراغب» : القرح الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من خارج،
والقرح أثرها من داخل كالبثرة ونحوها، ونقل ابن عطية في
«تفسيره» قرح بفتح القاف وضمها، وإسكان الراء، ثم قال: قال
أبو علي: هما لغتان كالضعف والضعف، والفتح أولى لأنه لغة
أهل الحجاز، وقال الأخفش: هما مصدران بمعنى واحد، ومن قال
القرح بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألمها قبل منه إذا أتي
برواية، لأن هذا مما يعلم بقياس، وقرأ ابن السميقع بفتح
القاف والراء، قال الزمخشري: كالطرد والطرد، قال أبو
البقاء: وبضمها على الاتباع كاليسر واليسر اهـ من لغات
«المنهاج» لابن النحوي.
9 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أخرجت لنا
عائشة كساء) بكسر الكاف وبالسين المهملة والألف الممدودة،
زاد البخاري ملبداً وعندهما بلفظ كساء من التي يسمونها
الملبدة (وإزاراً) بكسر الهمزة وبالزاي ثم الراء بينهما
ألف اسم لما يستر أسافل البدن (غليظاً) أي ثخيناً، وفي
رواية لمسلم: «أخرجت إلينا عائشة كساء وإزاراً ملبداً»
وإخراجها ذلك لتبيين إعراضه عن الدنيا إلى مفارقته لها
ونقلته لحضرة مولانا سبحانه وتهييجاً للمقتدين به المتبعين
سبيله على ذلك، ولذا (قالت: قبض رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في هذين) زاد مسلم في رواية له: «الثوبين» (متفق
عليه) رواه البخاري في الخمس وفي اللباس، ومسلم في
(4/448)
اللباس، ورواه أبو دواد والترمذي وقال: حسن
صحيح، والنسائي كلهم في اللباس من «سننهم» ، ثم الذي في
الكتب المذكورة أن الحديث عن أبي بردة بن أبي موسى قال:
أخرجت إلينا عائشة، ولا ذكر فيها لأبي موسى والذي وقفت
عليه من نسخ الرياض عن أبي موسى كما شرحته، وهو إن لم يكن
من تحريف الكتاب سبق قلم من الشيخ بلا ارتياب.
10 - (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إني لأول
العرب ممن رمى بسهم في سبيل ا) وذلك في بعث حمزة وعبيدة بن
الحارث وهي ثاني سرية في الإسلام. وقيل: بل هي أول سرية
فيه، وجرى عليه السيوطي في «أوائله» ، وقد جزم به الحافظ
في «الفتح» ، وفيها كما روى ابن إسحاق وغيره، ما لفظه:
«ولم يكن بينهم: يعني المسلمين والكفار قتال، إلا أن سعد
بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمى به في
الإسلام» وفي «أوائل» السيوطي: «أول من أراق دماً في سبيل
الله سعد بن أبي وقاص» أسنده العسكري وهو أول من رمى بسهم
في سبيلالله، أخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة عنه، وأنه قال
في ذلك:
ألا هل أتى رسول الله أني
حميت صحابتي بصدور نبل
أذود بها عدوهم ذياداً
بكل حزونه وبكل سهل
فما يعتمد رام من معدّ
بسهم قبل رسول الله قبلي
(ولقد كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما
لنا طعام إلا ورق الحبلة) جملة النفي في محل الحال من فاعل
نغزو (وهذا السمر) قال القرطبي: عند عامة الرواة بحذف
الواو: أي على أنه بيان ورق الحبلة، وعند الطبراني
والتميمي: وهذا السمر بواو، ووقع عند البخاري إلا الحبلة
وورق السمر، وكذا ذكره أبو عبيد، ورواية البخاري أحسنها
لأنه بين فيها أنهم كانوا يأكلون ثمر العضاة وورق الشجر
السمر (حتى) غاية لكون طعامهم ذلك (إن) مخففة من الثقيلة
(كان أحدنا ليضع) كناية عن الغائط، وفي بعض طرقه «يبعر»
(كما تضع الشاة) أي من البعر ليبسه وعدم ألفة المعدة له،
وهذا كان سنة ثمان في غزوة الخبط وأميرهم أبو عبيدة،
وسيأتي في الأصل إن شاء الله تعالى، وعليه، فالمراد
بالمعية التبعية حكماً، ويحتمل أن تكون المعية على ظاهرها،
وأن ذلك في غزوة أخرى غزاها سعد مع النبي لما في
«الصحيحين» «بينا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- وما لنا طعام إلا الحبلة» ذكره في
(4/449)
«أشرف الوسائل» (ما له خلط) بكسر الخاء
المعجمة: أي لا يختلط بعضه ببعض من شدة جفافه ويبسه، وهذا
باعتبار ما كانوا عليه من الضيق أول الإسلام وامتحاناً
ليظهر صدق ثباتهم.
لولا اشتعال النار في جزل الغضا
ما كان يعرف طيب نشر العود
(متفق عليه) رواه البخاري في فضل سعد في الأطعمة، وفي
«الرقائق» ومسلم في أواخر كتابه، ورواه الترمذي في الزهد
وقال: حسن غريب، والنسائي في المناقب وابن ماجه في السنة،
كذا في «الأطرف» للمزي (الحبلة بضم الحاء المهملة وإسكان
الباء الموحدة، وهي والسمر) بفتح فضم، قال في «المصباح» :
شجر الطلح بضم الحاء وهو نوع من العضاة الواحد سمرة اهـ
(نوعان معروفان من شجر البادية) قال القرطبي: الحبلة شجر
العضاة، وقال ابن الأعرابي: ثمرة السمر شبه اللوبيا،
وذكرهما في «النهاية» مقدماً الثاني فيهما من غير عزو لابن
الأعرابي حاكياً للأول بقيل.
11 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
اللهم اجعل رزق) بكسر الراء مصدر بمعنى المفعول: أي من
ينتفعون به مأكلاً ومشرباً وملبساً (آل محمد) جاء عند بعض
رواته زيادة في «الدنيا» بل قضية كلام «الجامع الصغير» أنه
كذلك عند مسلم، ولم أره كذلك عند مسلم إنما الحديث فيه
بحذفه. قال الثعالبي في «تفسير الجواهر الحسان» : وعندي أن
المراد بآل محمد هنا متبعوه (قوتاً. متفق عليه) أي بالمعنى
وإلا فاللفظ لمسلم في إحدى رواياته، ولفظ البخاري وهو عند
مسلم أيضاً (اللهم ارزق آل محمد قوتاً» ) قال الحافظ في
«الفتح» بعد ذكر لفظ المذكور في «المتن» وهو المعتمد كون
اللفظ الأول صالحاً لأن يكون دعاء بطلب القوت في ذلك
اليوم، وأن يكون طلبه لهم دائماً، بخلاف لفظ مسلم فإنه
يعين الاحتمال الثاني وهو الدال على الكفاف والحديث، رواه
الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه كما في
«الأطراف» (قال أهل اللغة) هم الحاكمون
(4/450)
لمعاني المفردات عن العرب (والغريب) هم
المتكلمون على مفردات الكتاب والسنة (معنى قوتاً: أي ما
يسد الرمق) في «المصباح» القوت ما يؤكل ليمسك الرمق. وقال
القرطبي: معنى الحديث طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن
ويكف عن الحاجة، ولم يظهر وجه إدخال: أي بين المفسر
والمفسر، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر
جميعاً.
12 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وا الذي لا إله إلا
هو) أتى به لتأكيد ما بعده في ذهن سامعه (إن) مخففة إني
(كنت لأعتمد بكبدي) بفتح الكاف وكسر الموحدة أفصح من فتح
الكاف وكسرها مع سكون الموحدة (على الأرض) أي ألصق بطني
بها (من الجوع) من فيه تعليلية، وكأنه كان يستفيد بذلك ما
يستفيده من شده الحجر على بطنه، ويحتمل أن يكون كناية عن
سقوطه إلى الأرض مغشياً عليه كما سيأتي في الحديث عنه عقب
هذا: «لقد رأيتني وإني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ» الحديث
(وإني كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع) كعادة العرب وأهل
الرياضة أو أهل المدينة كانوا يفعلون ذلك إن خلت أجوافهم
لئلا تسترخي أمعاؤهم فتثقل عليهم الحركة، وبربط الحجر تشتد
البطن والظهر فتسهل عليهم الحركة حينئذ. وقبل حكمة شده أنه
يسكن بعض ألم الجوع، لأن حرارة المعدة الغريزية ما دامت
مشغولة بالطعام فتلك الحرارة به، فإذا نفذ اشتعلت برطوبات
الجسم وجوهره فيحصل التألم حينئذ ويزداد ما لم يضم على
المعدة الأحشاء والجلد، فإن نارها حينئذ تخمد بعض الخمود
فيقل الألم. وقيل: يفعل ذلك لأن البطن إذا خلا ضعف صاحبه
عن القيام لتقوس ظهره، فاحتيج لربط الحجر ليشده ويقيم صلبه
(ولقد قعدت على طريقهم) قال في «المصباح» : يذكر في لغة
نجد وبه جاء قوله تعالى: {فاضرب لهم طريقاً في البحر
يبساً} (طه: 77) ويؤنث في لغة الحجاز. قلت: وعدم تأنيث
يبساً لكونه مصدراً وصف به كما ذكر البيضاوي في «التفسير»
، قال في «المصباح» :
(4/451)
وجمعه طرق، وقد يجمع عن لغة التذكير على
أطرقه والضمير يرجع إلى المارة المدلول عليه بالمضاف (الذي
يخرجون منه) أي إلى مطالبهم، وذلك لئلا يفوتوه (فمرّ بي
النبيّ) قبله في البخاري مرور أبي بكر وعمر، وأنه سأل كلا
منهما عن آية وقصد بالسؤال التعرض للنوال فلم يقع، وسكت
عنه المصنف لعدم تعرض غرض الباب به، إذ غرضه التحريض على
الزهد في الدنيا والإعراض عما تدعو إليه الضرورة بالمرة،
وهذا الخبر وأمثاله يدل عليه، إذ لو كان حاله بخلاف ذلك
لما بلغ حال أصحابه في الفقر إلى ما ذكر في الخبر لما علم
من كمال كرمه وإيثاره على نفسه (فتبسم حين رآني وعرف ما في
وجهي) أي مما يدل على ما في نفسي (وما في نفسي) أي من
الاحتياج إلى ما يسد الرمق، ووقع عند بعض رواة البخاري بأو
التي للشك بدل الواو في قوله: «وما» قال في «الفتح» استدل
أبو هريرة بتبسمه على أنه عرف ما به لأن التبسم يكون لما
يعجب وتارة يكون لإيناس من تبسم إليه ولم تكن لك الحالة
معجبة فقوي الحمل على الثاني (ثم قال يا أبا هر) بتشديد
الراء، قال في «الفتح» : وهو من رد الاسم المؤنث إلى
المذكر والمصغر إلى المكبر، فإن كنيته في الأصل أبو هريرة
تصغير هرة مؤنثاً، وأبو هرّ مذكر مكبر، وذكر بعضهم أنه
يجوز فيه تخفيف الراء مطلقاً فعلى هذا فيسكن (قلت: لبيك يا
رسول الله) هذه رواية علي بن مسهر بإثبات حرف النداء، وعند
باقي الرواة له بحذفه أي إجابة بعد إجابة (قال الحق) بهمزة
وصل وفتح الحاء المهملة أي اتبع (ومضى) أي إلى سبيل بيته
(فاتبعته) بتشديد الفوقية، زاد في رواية علي بن مسهر:
فلحقته، وفي «تفسير البغوي» أتبع بقطع الهمزة معناه أدرك
وألحق، واتبع بتشديد التاء معناه سار، يقال: ما زالت أتبعه
حتى اتبعته: أي ما زال أسير خلفه حتى أدركته ولحقته (فدخل)
زاد علي بن مسهر إلى أهله (فاستأذن) قال في «الفتح» :
بهمزة بعد التاء والنون مضمومه فعل المتكلم، وعبر عنه بذلك
مبالغة في التحقق لأنه حكاية حال ماضية، ففيه الإشارة
لكمال استحضاره لها حتى كأنه يخبر عن حاضر عنده وفي رواية
ابن مسهر: فاستأذنت بضمير المتكلم (فأذن لي) يحتمل أن يقرأ
بالبناء للفاعل: أي النبيّ،
(4/452)
وأن يقرأ بالبناء للمفعول ما لم تكن رواية
فيوقف عندها (فدخل) قال في «الفتح» كذا فيه، وهو إما تكرار
لهذه اللفظة لوجود الفصل أو التفات (فوجد لبناً
في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟) .
وفي رواية ابن مسهر من أين لكم؟ (قالوا: أهداه فلان أو
فلانة) كذا بالشك قال في «الفتح» : ولم أقف على اسم من
أهداه، وفي رواية روح: «أهداه لنا فلان آل فلان أو آل
فلان» وفي رواية: «أهداه لنا فلان» (قال: أبا هرّ قلت:
لبيك يا رسول الله) بإثبات حرف النداء عند جميع رواه
البخاري (قال: الحق إلى أهل الصفة) ضمن الحق معنى انطلق
فلذا عداه بإلى، وقد وقع في رواية روح بدله: انطلق (فادعهم
لي، قال) أي أبو هريرة وسقط من رواية روح ولا بد منها فإن
قوله: (وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال
ولا على أحد) إلى آخر مايأتي من بيان شأنهم من كلام أبي
هريرة شرح به حال أهل الصفة والسبب الداعي لدعائهم، وأنه
كان يخصهم بالصدقة ويشركهم فيما يأتيه من الهدية. ووقع في
رواية يونس ما يشعر بأن أبا هريرة كان منهم، وقد عدّه فيهم
السخاوي في مؤلفه في أهل الصفة. والصفة بناء في مؤخر
المسجد منزل فقراء المهاجرين مما لا مال له، ولا معارف
بالمدينة، وقد تقد فيهم بيان قبل هذا في باب فضل الزهد في
الدنيا، ووقع هكذا في الرواية: لا يأوون على أهل والكثير
«إلى» بدل «على» وقوله: ولا على أحد تعميم بعد تخصيص فيشمل
الأقارب والأصدقاء وغيرهم، وجملة ولا يأوون في محل الحال
(وكان إذا أتته صدقه بعث بها إليهم ولم يتناول) وفي رواية
روح ولم يصب (منها شيئاً) أي لنفسه وزاد روح ولم يشركهم
فيها لحرمة الصدقة عليه لعلو مقامه (وإذا أتته هدية أرسل
إليهم) أي ببعضها كما يدل عليه قوله: (وأصاب منها وأشركهم
فيها) وهذه الجملة الأخيرة كالإطناب فيها إيماء إلى أنه
يجعل لهم منها حظاً وافراً، وأما هو في نصيبه منها فلا
يستكثر إيثاراً، والجملة الشرطية وما عطف عليها مستأنفة
فيها بيان معاملته معهم واعتنائه بأمرهم، وما ذكر من بعث
الصدقة وبعث الهدية لأهل الصفة هو أحد أحواله معهم، وتارة
كان إذا أتاه شيء
(4/453)
وقيل له إنه صدقة أمر من عنده بأكله ولم
يأكل منه، وإن قيل: إنه هدية ضرب بيده وأكل منه، وحمل على
أن هذا كان قبل بناء الصفة وكان يقسم الصدقة فيمن يستحقها
ويأكل الهدية فيمن حضر من أصحابه، ويحتمل أن يكون باختلاف
حالين فيحمل حديث الباب على ما إذا لم يحضره أحد فإنه يرسل
ببعض الهدية إلى أهل الصفة أن يدعوهم كما في قصة الباب،
وإن حضر أحد شركه في الهدية وإن كان هناك فضل أرسل به إلى
أهل الصفة أو دعاهم، ووقع في حديث أحمد عن طلحة بن عمر:
نزلت في الصفة مع رجل كان بيني وبينه كل يوم مدّ من تمر
وهو محمول على اختلاف الأحوال، كان أولاً ينزل إلى أهل
الصفة مما حضره أو يدعوهم أو يفرقه على من حضر إن لم يحضر
ما يكفيهم، فلما فتحت فدك وغيرها صار يجري عليهم من التمر
في كل يوم ما ذكره اهـ ملخصاً من «الفتح» (فساءني) بالمد:
أي أحزنني (ذلك) أي قوله: ادعهم لي لمزيد ضرورتي وشدة
فاقتي ظن أن ذلك اللبن لا يزيد عن حاجته كما هو مقتضى
العادة فيه فلذا قال: (فقلت وما هذا اللبن) والواو عاطفة
على محذوف والإشارة للتحقير (في أهل الصفة؟) وهم عدد كثير،
وفي رواية: «وأين يقع هذا اللبن في أهل الصفة؟» (كنت أحق)
أي أولى به (أن أصيب) وحذف المفضل عليه مجروراً بمن لدلالة
السياق عليه: أي أولى منهم إصابة (من هذا اللبن شربة أتقوى
بها) أي أصير ذا قوة من ضعف الجوع بسببها، يقال: تحجر
الطين: أي صار حجراً، ويجوز أن يكون بمعنى المجرد: أي أقوى
بها بعد الضعف (فإذا جاء) قال الحافظ في «الفتح» كذا فيه
بالإفراد: أي من أمرني بطلبه، والأكثر جاءوا بصيغة الجمع
اهـ، والموجود في بعض نسخ الرياض الوجه الثاني (أمرني) أي
النبي (فكنت أنا أعطيهم) وكأنه عرف ذلك بالعادة لأنه كان
يلازم النبي ويخدمه (وما عسى أن يبلغني) أي يصل إلى (من
هذا اللبن) بعد أن يكتفوا منه، وقال الكرماني: لفظ عسى
زائد، ووقع في رواية يونس بن بكير: «فيأمرني أن أديره
عليهم وما عسى أن
يصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يقيتني» : أي من
جوع ذلك اليوم (ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) أي
محيد. قال في «المصباح» : لا بد من كذا: أي لا محيد عنه،
ولا يعرف استعماله إلا مقروناً بالنفي اهـ. وذلك لأن شكر
المنعم سبحانه واجب شرعاً وطاعة الرسول له سبحانه، قال
تعالى:
{من يطع الرسول فقد أطاع ا} (النساء: 80) (فأتيتهم) أي عقب
الأمر لي بدعوتهم وإن كان على خلاف هواي (فدعوتهم)
(4/454)
قال الكرماني: وظاهر قوله: «فأتيتهم» أن
الإتيان والدعوة وقعا بعد الإعطاء وليس كذلك، ثم أجاب أن
معنى قوله: «فكنت أنا أعطيهم» عطف على جواب «فإذا جاءوا» ،
فهي بمعنى الاستقبال، قال في «الفتح» : وهو ظاهر من السياق
(فأقبلوا فاستأذنوا) أي سألوا الإذن في الدخول (فأذن لهم)
بالبناء للفاعل كذا في النسخ: أي النبي، ولو قرىء بالبناء
للمفعول لجاز لأن المدار على وجود الإذن من أي كان، قال
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن
يؤذن لكم} (الأحزاب: 53) (فأخذوا مجالسهم) أي فقعد كل منهم
في المجلس اللائق به (من البيت) أي بيت النبي وقد أمر
بإنزال الناس منازلهم كما رواه مسلم في أول «صحيحه» عن
عائشة معلقاً، قال الحافظ في «الفتح» : ولم أقف على عددهم
إذ ذاك، قال أبو نعيم: عدد أهل الصفة يختلف بحسب الحال،
فربما اجتمعوا فكثروا وربما تفرّقوا إما لغزو أو سفر أو
استغناء فقلوا. ووقع في عوارف المعارف أنهم كانوا
أربعمائة، وفي «المصباح» : المجلس: أي بفتح أوله وثالثه:
مكان الجلوس والجمع مجالس. وقد يطلق على أهله مجازاً تسمية
للحال باسم المحل اهـ (قال: يا أبا هرّ: قلت لبيك يا
رسولالله، قال: خذ) أي قدح اللبن المدلول عليه بالسياق
والسباق (فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت) أي شرعت (أعطيه
الرجل) والإتيان به حكاية للحال الماضية إشارة لكمال
استحضار القصة، ولولا ذلك لقال فأعطيته الرجل، وأل في
الرجل للجنس
(فيشرب حتى يروي ثم) فيه إيماء إلى طول شرب الرجل منهم،
وذلك لمزيد الجوع وتمام الفاقة (يرد) بالبناء للفاعل (عليّ
القدح فأعطيه) أي عقب رده (الآخر) أي الذي إلى جنبه، وهذه
رواية يونس، وفي رواية علي بن مسهر «فجعلت أناول الإناء
رجلاً رجلاً، فإذا روي أخذته فناولته الآخر حتى روي القوم
جميعاً» ووقع في بعض نسخ البخاري: فأعطيته الرجل، وعليها
شرح الحافظ كالكرماني فقال: أي الذي إلى جنبه، وهذا فيه أن
المعرفة إذا أعيدت معرفة لا تكون عين الأولى. قال:
والتحقيق أن ذلك لا يطرد بل الأصل أن تكون عينه إلا أن
يكون هناك قرينة. قال الحافظ بعد ذكر اختلاف الروايات كما
ذكرنا: وعليه فاللفظ المذكور من تصرف الرواة، فلا حاجة فيه
لخرم القاعدة (فيشرب حتى يروي ثم يرد عليّ القدح) وقوله:
(حتى
(4/455)
انتهيت إلى النبي) أي فأعطيه غاية لمقدر:
أي عممتهم أجمعين حتى انتهيت إليه (وقد روي القوم كلهم)
جملة في محل الحال، وقد للتحقيق إيماء إلى أنه تحقق لهم
الري المطلوب، وأكد القوم بكلهم دفعاً لتوهم أن المراد ري
بعضهم (فأخذ القدح) أي وقد بقيت فيه فضلة من اللبن كما في
رواية روح (فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم) قال الحافظ في
«الفتح» : كأنه تفرس في أبي هريرة ما كان وقع في توهمه أنه
لا يفضل له شيء من اللبن فلذا تبسم. قلت: ويجوز أن يكون قد
اطلع على ذلك ككثير من المغيبات (فقال: أبا هر) كذا في
رواية، وفي رواية ابن مسهر هنا وفيما ذكر أوله: «أبو هرّ»
بالواو وهو على تقدير الاستفهام: أي أنت أبو هريرة أو على
لغة من لا يعرب الكنية (فقلت: لبيك يا رسولالله، قال: بقيت
أنا وأنت) كأنه بالنسبة لمن حضر من أهل الصفة، وأما من كان
في البيت من أهل النبي فلم يتعرض لذكرهم، ويحتمل أن البيت
إذ ذاك ما كان فيه أحد منهم، أو أخذوا كفايتهم، والذي في
القدح نصيبه (قلت: صدقت يا رسول الله) وهذه الجملة والتي
قبلها من باب لازم الخبر (قال: اقعد فاشرب) فيه أن اللبن
كغيره من
المشروبات في استحباب الجلوس عند شربه، بخلاف المص للمشروب
فإنه يستحب فيما عدا اللبن، أما هو فيعبه عباً لأن ما شرع
له المص من خوف الشرقة به مفقود في اللبن لقوله تعالى:
{سائغاً للشاربين} (النحل: 66) قال الحافظ السيوطي: لم
يشرق باللبن أحد أصلاً (فقعدت فشربت فما زال يقول لي:
اشرب) أي لما علم من مزيد حاجته وشدة فاقته، ولأنه ربما
يترك بعض حاجته ليبقى بعضه للنبي فأمره بذلك ليستوفي إربه،
وظاهر أنه كرّر ذلك مراراً، والمذكور في أدب الضيافة أن
المضيف يقول نحو ذلك للضيف إلى ثلاثة لا يجاوزها (حتى قلت:
لا) المنفي محذوف: أي لا أشرب ثم علل ذلك على وجه
الاستئناف البياني مؤكداً بالقسم بقوله: (والذي بعثك) أي
أرسلك ملتبساً (بالحق لا أجد له مسلكاً) بفتح أوله وثالثه
وسكون ثانيه المهمل بينهما: أي مكاناً يسلك فيه مني (قال
فأرني) وفي رواية روح فقال:
(4/456)
ناولني القدح (فأعطيته القدح فحمد الله
تعالى) أي على ما منّ به من البركة في اللبن المذكور مع
قلته حتى روي القوم كلهم وأفضلوا (وسمى) في ابتداء الشرب
(وشرب الفضلة) أي البقية، وفي رواية روح: فشرب من الفضلة،
وفيه إشعار بأنه بقي بعضه فإن كانت محفوظة فلعله أعدها لمن
بقي بالبيت إن كان (رواه البخاري) في «الرقاق» من «صحيحه»
ووقع في «الأطراف» أنه رواه في الاستئذان وهو وهم، إلا إن
أراد أنه رواه كذلك مختصراً بنحوه في الباب المذكور كما
نبهت عليه في حاشية كتاب «الأطراف» ، ورواه الترمذي في
الزهد من «جامعه» ، والنسائي في الرقاق من «سننه» .g
وفي الحديث من الفوائد من علامات النبوة تكثير الطعام
والشراب ببركته، وفيه جواز الشبع ولو بلغ أقصى غايته أخذاً
من قول أبي هريرة لا أجد له مسلكاً، وتقرير النبيّ له على
جوازه خلافاً لمن قال بتحريمه، والجمع بين ذلك وبين
الأحاديث الواردة بالزجر عن الشبع بحمل الزجر على متخذ
الشبع عادة لما يترتب عليه من الكسل عن
العبادة وغيرها، وحمل الجواز على من وقع له ذلك نادراً، لا
سيما بعد شدة جوع واستبعاد حصول شيء بعده عن قرب.
تنبيه: قال في «الفتح» : وقع لأبي هريرة قصة أخرى في تكثير
الطعام مع أهل الصفة. أخرج ابن حبان عن أبي هريرة قال:
«أتت عليّ ثلاثة أيام لم أطعم، فجئت أريد الصفة فجعلت
أسقط، فجعل الصبيان يقولون: جنّ أبو هريرة حتى انتهيت إلى
الصفة، فوافقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بقصعة
من ثريد، فدعا عليها أهل الصفة وهم يأكلون منها، فجعلت
أتطاول لكي يدعوني حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في
نواحيها، فجمعه فصار لقمة فوضعها على أصابعه فقال لي: كل
باسمالله، فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت»
اهـ.
13 - (وعن محمد بن سيرين) بكسر المهملة وسكون التحتية
وبالراء ثم تحتية ثم نون غير منصرف للعلمية والعجمة، وابن
سيرين تابعي يكنى أبا بكر، بصري ثقة ثبت، عابد كبير القدر
من أوساط التابعين، مات سنة عشر ومائة، روى عنه الستة كذا
في «تقريب» الحافظ (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد
رأيتني) أي أبصرتني وهذا طرف من أواخر حديثة، وأوله: «كنا
عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ
بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان، ولقد رأيتني» وكان على
المصنف ذكر الواو لينبه على أن ما ذكر بعض
(4/457)
حديث معطوف على شيء تقدمه (وإني لأخر) بكسر
الخاء المعجمة: أي لأسقط والجملة حال من فاعل رأيتني أو
مفعوله (فيما) أي في المكان الذي أو مكان (بين منبر) بكسر
فسكون ففتح، من النبر بالنون فالموحدة: الارتفاع (رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة رضي الله
عنها) القياس وحجرة عائشة لأن بين لا تضاف إلا إلى متعدد،
وكذا رأيته عزاه الحافظ في باب الرقاق من «الفتح» إلى باب
الاعتصام، لكن في باب الاعتصام من «الصحيح» بلفظ إلى، وفي
كتب النحو فيما اختصت به الواو العاطفة عن باقي العواطف
عطف ما لا يستغني عنه كجلست بين زيد وعمرو، ولذا كان
الأصمعي يقول: الصواب بين الدخول وحومل، لا فحومل. وأجيب
بأن التقدير بين نواحي الدخول فهو كقولك دخلت بين الزيدين،
أو أن الدخول مشتمل على أماكن ذكره في «مغني اللبيب» ،
والجواب الأول ممكن هنا: أي ما بين ساحات المنبر إلى حجرة
عائشة وما بين المنبر وحجرة عائشة: أي بيتها، وهي مدفنه
حذاء الروضة طولاً (مغشياً علي) هذا محط الفائدة ومقصد
الإخبار: أي مغمي علي، والإغماء زوال الشعور مع فتور في
الأعضاء (فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون)
أي وتلك عادتهم بالمجنون حتى يفيق وجملة يرى محتملة
للحالية وللاستئناف البياني (وما بي من) مزيدة للتنصيص على
العموم الظاهر فيه (جنون) لكونه نكرة في سياق
النفي، وهو مبتدأ والظرف قبله خبر قدم عليه اهتماماً
واعتناء (وما بي) الباء فيه سببية: أي ليس سبب إغمائي (إلا
الجوع. رواه البخاري) في باب الاعتصام، ورواه الترمذي في
الزهد من «جامعه» ، وقال: حسن صحيح غريب، ورواه في
«الشمائل» بنحوه.
14 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ودرعه) بكسر الدال المهملة: ما يلبس في
الحرب، زاد البخاري في أول البيوع عنها: ورهنه درعاً من
حديد (مرهونة عند يهودي) هو أبو الشحم، قال الحافظ في
«الفتح» : كما بينه الشافعي ثم البيهقي
(4/458)
من طريق جعفر ابن محمد عن أبيه أن النبي
رهن درعاً له عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في
شعير، وأبو الشحم اسمه كنيته، وظفر الهمزة وكسر الموحدة
اسم فاعل من الإباء. قال العلماء: الحكمة في عدوله عن
معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود، وإما لبيان
الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة
من عندهم، أو خشي أنهم لا يأخذون ثمناً أو عوضاً فلم يرد
التضييق عليهم، فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر
منه على ذلك أو أكثر منه، فلعله لم يطلعهم على ذلك وإنما
طلع عليه من لم يكن موسراً به ممن نقل ذلك اهـ (في ثلاثين
صاعاً) وقيل في عشرين، وقيل: في أربعين، وقيل: وسقاً بدل
الصاع كما ورد كل منها، قال الشيخ زكريا في «تحفة القاريء»
، وجمع في «الفتح» بين روايتي عشرين وثلاثين بأنه لعله كان
ناقصاً عن الثلاثين فجبر بذلك الكسر وألغى أخرى. قال: ووقع
لابن حبان عن أنس أن قيمة الطعام كانت ديناراً (من شعير)
قال الشيخ زكريا في «شرح البهجة» : قيل افتكه قبل موته
لخبر «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي» وهو منزّه عن ذلك
والأصح خلافه لقول ابن عباس رضي الله عنهما «توفي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي» أي
ولحديث الباب، والحديث الأول محمول على من لم يخلف وفاء.
قال السبكي: مع
أنه ليس من الخبر لأن دينه ليس لمصلحة نفسه، لأنه غنيّ با،
وإنما أخذ الشعير لأهله وهو متصرف عليهم بالولاية العامة
فلا يتعلق الدين به بل بهم، ولم يثبت أنه كان عليه ديون
وإن ثبت فهو لمصلحة المسلمين، وإذا استدان الإمام لمصالحهم
كان عليهم لا عليه. فإن قيل: هذا فيما استدانه للجهات
العامة دون ما استدانه لأهله، فإنه وكيل عليهم والوكيل
تتعلق به العهدة. والجواب: أنه أولى بالمؤمنين، فهو يتصرف
عليهم بهذه الولاية التي ليست لغيره من الأئمة ولا يخفى ما
فيه اهـ كلام الشيخ زكريا. أقول: يمكن أن يجاب بأن المختار
عند الأصوليين عدم دخول المتكلم في عموم كلامه، فذلك في حق
من سواه، أما هو فلا يحبس عن علي مقامه تشريفاً له والله
أعلم. وفي «فتح الباري» : فيه أي في حديث: «توفي رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة» دليل على أن المراد
بقوله في حديث أبي هريرة: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى
يقضي عنه» وهو حديث صححه ابن حبان وغيره من لم يترك عند
صاحب الدين ما يحصل به الوفاء وإليه جنح الماوردي، وذكر
ابن الطلاع في الأقضية النبوية أن أبا بكر افتك الدرع بعد
النبي، لكن روى ابن سعد أن أبا بكر قضى عدات النبي وأن
علياً قضى ديونه، وروى إسحاق بن راهويه في «مسنده» عن
الشعبي مرسلاً أن أبا بكر افتكها وسلمها لعلي، وأما من
أجاب بأنه
(4/459)
افتكها قبل موته بثلاثة أيام فمعارض بحديث
عائشة اهـ (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب من «صحيحه»
بعضها باللفظ المذكور وبعضها بنحوه، ورواه مسلم في البيوع،
ورواه النسائي وابن ماجه.
15 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: رهن النبيّ درعه) لفظ
البخاري درعاً له، فيه أنه من أدراعه لا الذي كان يعتاد
لبسه (بشعير) أي مقابلة بثمن الشعير الذي شراه نسيئة، ففي
الحديث مضاف مقدر والباء فيه للمقابلة، ويصح كونها باء
السببية ولا مضاف: أي بسبب الشعير الذي شراه نسيئة (ومشيت
إلى النبي بخبز شعير) قال الحافظ في كتاب الرهن من «الفتح»
: ووقع لأحمد عن أنس: «لقد دعي نبي الله - صلى الله عليه
وسلم - يوم على خبز شعير وإهالة سنخة» ، فكأن اليهودي دعا
النبي على لسان أنس، فلذا قال: مشيت إليه بخلاف ما يقتضيه
ظاهره (وإهالة سنخة) بالسين المهملة، قال الشيخ زكريا:
ويروى زنخة بالزاي بدلها والباقي سواء، ففيه إعراضه عن
المشهيّات واجتزاؤه بما يسد الحاجة من القوت حتى حمل إليه
مثل ذلك (ولقد سمعته) ظاهره أن هذا من كلام أنس، ومرجع
الضمير البارز للنبي: أي قال أنس: سمعت النبي، وهو ما فهمه
الحافظ ابن حجر، ورد على الكرماني قوله وهو كلام قتادة،
والضمير المنصوب فيه لأنس. قال الحافظ: ويرد عليه أنه
أخرجه أحمد وابن ماجه عن أنس بلفظ: «ولقد سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي نفس محمد بيده» فذكر
الحديث بلفظ ابن ماجه وساقه أحمد بتمامه (يقول) مسلياً
لأولي الفقر والحاجة من أمته (ما أصبح لآل محمد) أي عندهم
كقوله تعالى: {أثم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78) أي
عنده كما يدل عليه لفظ البخاري في أوائل البيوع: «ما أمسى
عند آل محمد صاع برّ» الحديث، قال في «تحفة القارىء» : وآل
مقحم. قلت: ويجوز إبقاؤه على ظاهره خصوصاً ومذهب البصريين
وهو المختار منع زيادة الأسماء، ويؤيده عود الضمير إليه من
قوله وإنهم لتسعة أبيات (إلا صاع) أي مكيلة من الطعام لكن
في باب شراء النبي نسيئة أوائل البيوع من «صحيح البخاري»
في حديث الباب عن أنس: «ولقد سمعته يقول: ما
(4/460)
أمسى عند آل محمد صاع برّ لا صاع حبّ»
ويمكن الجمع بأن المنفي في رواية: «صاع»
تام من نوع واحد، والمثبت صاع مجمع من أقوات كما يبينه أنه
في جانب النفي بين فرداً خاصاً ثم عطف عليه ما يعمه وغيره،
وفي جانب الإثبات لم يبين إبهام الصاع والله أعلم (ولا
أمسى) أي لهم سواه كما صرح به أبو نعيم في روايته في
«مستخرجه» بلفظ: ولا أمسى إلا صاع، وحذف ذلك إيجازاً
لدلالة ما قبله عليه (وإنهم) أي آله الذين ينفق عليهم من
زوجاته ومن يلوذ بهن (لتسعة أبيات) هذا بالنسبة للزوجات،
وكان له مارية وريحانة يطؤهما بملك اليمين، وجملة وإنهم في
محل الحال من الظرف، قال الحافظ في «الفتح» : ويناسبه ذكر
أنس لهذا القدر مع ما قبله الإشارة إلى سبب قوله هذا، وأنه
لم يقله متضجراً ولا شاكياً. معاذالله، إنما قاله متعذراً
عن إجابته لدعوة اليهودي ولرهنه درعه عنده، ولعل هذا هو
الحامل للذي زعم أنه قائل ذلك هو أنس فراراً من أن يظن به
أنه قاله تضجراً، والله أعلم (رواه البخاري) في البيوع
والرهن، ورواه الترمذي في البيوع من «جامعه» وقال: حسن
صحيح، والنسائي في البيوع أيضاً، وابن ماجه في «الأحكام»
(الإهالة بكسر الهمزة) وتخفيف الهاء واللام (الشحم الذائب)
وفي «المصباح» هي الودك المذاب، وفي «التحفة» : هي ما
يؤتدم به من الأدهان كالألية، وهما قولان، ففي «النهاية»
كل شيء من الأدهان يؤتدم به إهالة، وقيل: هو ما أذيب من
الألية والشحم وبهذا بدأ الحافظ في «الفتح» ، وقيل: هو
الدمس الجامد. قلت: وعلى الأول والاخير فيشمل السمن ونحوه
من الزبد (وانسنخة بالنون) المكسورة، قال الحافظ: ويقال
فيها بالزاي بدل السين (والخاء المعجمة، وهي المتغيرة) أي
متغيرة الرائحة من طول المكث كما في «تحفة القارىء» ، ففي
الحديث كمال تواضعه وزهده وتقلله من الدنيا مع قدرته
عليها، وكرمه الذي أفضى به إلى عدم الإدخار حتى احتاج إلى
رهن درعه.
16 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين)
بتقديم المهملة على الموحدة (من أهل الصفة) من فيه تبعيضية
لما تقدم قريباً من أنهم يبلغون إلى أربعمائة (ما
(4/461)
منهم رجل عليه رداء) أي لا رداء، وهو
الساتر لأعلى البدن على أحد منهم وإنما معهم ما يسترون به
عورتهم إما بكسر الهمزة للتفضيل (إزار وإما كساء) وهو
مبتدأ خبره محذوف: أي ما لهم ذلك أو ذلك (قد ربطوا) بحذف
العائد وهو المفعول به: أي ربطوه (في أعناقهم) وذلك
للاستمساك فيدوم ستر العورة (منها) أي الأزر والأكسية
المدلول عليها بما ذكر (ما يبلغ نصف الساقين) أفرد المضاف
إلى المثنى وهو جائز كتثنيته وجمعه كقطعت رأسي الكبشين
وكحديث «كان شعاره إلى أنصاف أذنيه» وقوله تعالى: {فقد صغت
قلوبكما} (التحريم: 4) وفي «المصباح» : الساق من الأعضاء
أنثى، وهي ما بين الركبة والقدم وتصغيرها سويقة اهـ (ومنها
ما يبلغ) أي يدرك (الكعبين) قال في «المصباح» : الكعب من
الإنسان اختلف فيه أئمة اللغة، قال أبو عمرو بن العلاء
والأصمعي: الناتىء عند ملتقى الساق والقدم فيكون لكل قدم
كعبان عن يمينها وشمالها، وقد صرح بهذا الأزهري وجماعة،
وقال ابن الأعرابي وغيره: الكعب هو المفصل بين الساق
والقدم، وذهب الشيعة إلى أن الكعب في ظهر القدم، وأنكره
أئمة اللغة كالأصمعي وغيره اهـ. وظاهر أن المراد هنا لا
يختلف على قول أهل اللغة الستة المذكورين إذ المراد
التقريب لا التحديد، فما أدرك الناتىء قارب إدراك المفصل
وبالعكس، والأول أبلغ في الإعراض عن الدنيا اللائق
بأحوالهم (فيجمعه) أي الرجل أعاد الضمير أولاً مجموعاً في
قوله قد ربطوا باعتبار المعنى، إذ المراد من رجل العموم
وإفراده هنا باعتبار لفظه: أي فيجمع ما ذكر من الإزار
والكساء (بيده كراهية) بتخفيف التحتية وهو الكراهة بحذفها
مصدر كره الأمر يكرهه وهو مفعول له علة للجمع: أي استقباح
(أن ترى عورته) من طرفي نحو الإزار لصغره (رواه البخاري)
في الصلاة من «صحيحه» وقد سبق الحديث في الباب قبله.
17 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فراش رسول الله)
أي الذي ينام عليه (من أدم) بفتح أوليه والدال مهملة جمع
أديم: الجلد المدبوغ (حشوه) أي محشوه مصدر
(4/462)
بمعنى المفعول (ليف) بكسر اللام وسكون
التحتية، قال في «الصحاح» : الليف للنخل واحده ليفة (رواه
البخاري) .
18 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً) بضم
أوليه جمع جالس (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ
جاء رجل من الأنصار) أي وقت مجيء الرجل الأنصاري وتقدم
أنها تحتمل المفاجأة بناء على قول أبي عبيدة بإفادتها له
(فسلم عليه) أي على النبي (فقال رسول الله: يا أخا
الأنصار) أي يا واحداً من الأنصار في «الكشاف» في قوله
تعالى: {إذ قال لهم أخوهم نوح} (الشعراء: 106) قيل أخوهم
لأنه كان منهم من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا
واحداً منهم، ومنه بيت الحماسة:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهاناً
(كيف أخي) فيه كمال تواضعه ومزيد فضله إذ أطلق هذا اللفظ
في حقه تشريفاً له، وفيه إيماء إلى صدق إيمانه فيكون فيه
تلميح إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10)
(سعد بن عبادة) سيد الخزرج (فقال صالح) خبر مبتدأ محذوف
لدلالة السؤال عليه ففيه استحباب مثله لمن سأل عن حال مريض
من نفسه أو غيره. وفي الحديث: «أن علياً رضي الله عنه خرج
من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي
توفي فيه النبيّ فقال: بخير، أصبح بارئاً بحمد ا» وقوله
صالح: أي للشفاء عند مجيء إبانها في العلم الأزلي وهو
كناية عن مرضه، فلذا توجه لعيادته (فقال رسول الله: من
يعوده منكم) فيه أن العيادة مطلوبة على الكفاية (فقام
وقمنا معه) ظاهره قيام جميع حاضري المجلس معه (ونحن بضعة
عشر) البضعة بكسر الموحدة ما بين العقدين من العدد (ما
علينا نعال) بكسر النون جمع نعل أي في أقدامنا (ولا خفاف)
بكسر أوله أيضاً جمع خف بضمه، قال في «المصباح» : الخفّ
(4/463)
الملبوس جمعه خفاف ككتاب: أي بل كنا حفاة
(ولا قلانس) هي كالقلاسي جمع قلنسوة بوزن فعنلوة بفتح
أوليه وسكون النون وضم اللام، وفي «التهذيب» للمصنف:
القلنسوة هي التي تلبس، النون فيها زائدة وهي معروفة وفيها
لغتان ذكرهما الجوهري وغيره، قال الجوهري: هي القلنسوة
والقلنسية إذا فتحت القاف ضمت السين، وإن ضمت القاف كسرت
السين وقلبت الواو ياء، فإذا جمعت أو صغرت فأنت بالخيار في
حذف الواو أو النون لأنهما زائدتان، وإن شئت حذفت الواو
فقلت قلانس، وإن شئت حذفت النون قلت: قلاس، وإن جمعت
القلنسوة بحذف الهاء قلت: قلنس والأصل قلنسو، وإلا أن
الواو رفضت لأنه ليس في الأسماء: أي المعربة اسم آخره حرف
علة قبله ضمة، فإذا أدى إلى ذلك قياس وجب رفضه وتبدل من
الضمة كسرة فيصير آخر الاسم ياء مكسوراً ما قبلها فتحذف
كهي في غاز اهـ ملخصاً (ولا قمص) بضمتين جمع قميص ويجمع
على قمصان: الثوب المعروف الملبوس على البدن
وجملة النفي في محل الحال من المبتدأ على مذهب سيبويه،
ويصح أن يكون خبراً بعد خبر كجملة (نمشي في تلك السباخ)
بكسر المهملة وبالموحدة جمع سبخة، بوزن تمرة أما سبخة بوزن
كلمة فجمعها سبخات ككلمة وكلمات، والأرض السبخة قال في
«النهاية» : هي التي يعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض
الشجر. وفي هذه الجملة دلالة على الاقتصار على قليل
الملبوس والإعراض عما زاد على الضرورة، وظاهر العبارة أنه
حينئذ كان كذلك ليتأسوا به ويقتدوا بهديه (حتى جئناه) غاية
للمشي (فاستأخر قومه) الخزرج أو الأنصار (من حوله حتى دنا)
أي قرب منه (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه
الذين) جاءوا (معه) إكراماً للوافد وإنزالاً للناس منازلهم
وليتأنس بهم المريض ويذهب عنه بعض الكلال الذي يحصل له من
طول ملازمة من عنده إن كان (رواه مسلم) في الجنائز من
«صحيحه» .
19 - (وعن عمران) بكسر المهملة (ابن حصين) بضم المهملة
الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها نون (رضي الله
عنهما عن النبيّ قال: خيركم) أيها الأمة وحذف «المصنف لفظ»
إن من أول الحديث وهي ثابتة عند مسلم (قرني) وفي لفظ آخر
لهما: «خير أمتي قرني» وفي لفظ آخر لمسلم: «خير الناس
قرني» وحديث الباب بمعناه كما قدرناه. قال
(4/464)
السيوطي في «الترشيح» : القرن أهل زمان
واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، والأصح
ألا يضبط بمدة فقرنه هم الصحابة وكانت مدتهم من المبعث إلى
آخر من مات من الصحابة مائة وعشرين سنة (ثم الذين يلونهم)
أي ثم قرن التابعين، وقرنهم من سنة مائة نحو سبعين (ثم
الذين يلونهم) أي من أتباع التابعين، وقرنهم من ثمة إلى
حدود العشرين ومائتين، ومن هذا الوقت ظهرت البدع ظهوراً
فاشياً وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها
وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال
تغيراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن اهـ. قال
المصنف: والمراد تفضيل جملة القرن، ولا يلزم منه تفضيل
الصحابي على الأنبياء ولا تفضيل أفراد النساء على مريم
وآسية وغيرهما بل المراد جملة القرن بالنسبة إلى جملة
القرن. حكي عن عياض عن المغيرة قال: قرنه أصحابه، والذين
يلونهم أبناؤهم، والثالث أبناء إبنائهم، وقال سهل: قرنه ما
بقيت عين رأته، والثاني ما بقيت عين رأت من رآه ثم كذلك
(قال عمران) هذا من كلام أحد الرواة عنه، ويحتمل على بعد
أن يكون عبر عن نفسه باسمه كما هي طريق كثير من الأوائل
(فما أدري، قال النبي) ثم الذين يلونهم (مرتين أو) قالها
(ثلاثاً) وشرف القرن الرابع باعتبار من فيه من أئمة
الإسلام الناصرين للحق الذابين عنه، المجاهدين في
سبيلالله، الصابرين على ما أصابهم في سبيله كالإمام أحمد
بن حنبل وأضرابه (ثم يكون بعدهم) أي أهل القرون المشهود
لهم بالأخيرية (قوم يشهدون ولا يستشهدون) قال المصنف في
«شرح
مسلم» : هذا غير مخالف لحديث: «خير الشهود الذي يأتي
بالشهادة قبل أن يسأل عنها» لأن ذلك محمول على دعاوى
الحسبة أو على إعلام ذي الحق بأنك تشهد به وهو لا يعلم
شهادتك به، وحديث الباب محمول على الشهادة لذي الحق العالم
بها عند الحاكم قبل طلبها منه أو على شاهد الزور أو على من
ينتصب شاهداً وليس هو من أهل الشهادة أو على من يشهد لقوم
بالجنة أو النار من غير توقيف، وهذا ضعيف اهـ ملخصاً
(ويخونون ولا يؤتمنون) قال المصنف في «شرح مسلم» بعد أو
أورده بلفظ يتمنون بالتشديد الفوقية: كذا في أكثر النسخ،
يعني من مسلم، وفي بعضها يؤتمنون ومعناه يخونون خيانة
ظاهرة بحيث لا يبقى معها أمانة، بخلاف من خان بحقير مرة
واحدة فإنه يصدق عليه أن خان
(4/465)
فلا يخرج عن الأمانة في بعض المواطن اهـ.d
قلت: ويصح أن يكون جملة النفي في محل الحال: أي إن طبعهم
الخيانة مع عدم الائتمان لهم فليس لهم سوى وبال العزم
عليها من غير ظفر بشيء والله أعلم (وينذرون) بفتح الفوقية
وضم الذال المعجمة وكسرها لغتان كما في المصنف (ولا يوفون)
قال في «شرح مسلم» : وفي رواية: «ولا يفون» وهما صحيحتان
يقال وفي وأوفى (ويظهر فيهم السمن) أي كثرة اللحم: أي إنه
يكثر ذلك فيهم، وليس الخلقي منهم مذموماً بل المكتسب له
بالتوسع في المأكل والمشرب وغير زيادة على المعتاد، وقيل:
المراد التكثر مما ليس لهم وادعاء ما ليس لهم من الشرف
وغيره، وقيل: المراد جمعهم الأموال (متفق عليه) أخرجه
البخاري في الشهادات وفضل الصحابة وغيرهما من «صحيحه» ،
ومسلم في الفضائل، ورواه النسائي في النذور.
20ــــ (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين خفيفين بينهما
ألف (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «با ابن آدم إنك
إن) بفتح الهمزة (تبذل الفضل) أي بذلك الفضل منصوب بدل
اشتمال من اسم أن، والفضل بفتح الفاء وسكون الضاد المعجمة
أفضل عما يحتاج إليه عادة (خير لك) ليبقى لك غلته، ويحتمل
أن يكوم مصدراً (وأن تمسكه شر لك) لأنك ربما لا تؤدي
الحقوق الواجبة، وقد يشغل به القلب الذي هو بيت الرب ومحل
نظره من العبد عن التوجه إليه (ولا تلام) بضم الفوقية مبني
للمجهول: أي لا يلحقك لوم: أي عتب من الشرع (على كفاف)
بفتح أوليه: أي قدر الحاجة من طعام وشراب وملبس ومسكن
وخادم احتاجه، قال القرطبي: وهو ما يكف عن الحاجات ويدفع
الضرورات والفاقات ولا يلحق بأهل الترفهات، وهذا أحسن
الأحوال لسلامته من وصمه كل من الفقر والغنى (وابدأ) في
الإنفاق (بما تعول) أي بحق الذي تعوله وتمونه من زوجة وأصل
أو فرع محتاج أو خادم فالعائد محذوف، أو بعائلتك فما
موصولة أو مصدرية (رواه الترمذي)
(4/466)
في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح)
وأخرجه مسلم في الزكاة من «صحيحه» وكان عزوه إليه أولى،
وكأنه غاب عن الشيخ ولا عيب على الإنسان في النسيان.
21 - (وعن عبيد ا) بصيغة التصغير (ابن محصن) بكسر الميم
وسكون المهملة الأولى وفتح الثانية آخره نون (الأنصاري)
رأى (رضي الله عنه) النبي قال في «أسد الغابة» بعد أو أن
أورد حديث الباب: وقال أبو عمرو يعني ابن عبد البرّ: منهم
من جعل حديثه مرسلاً والأكثر يصحح صحبته فيجعل حديثه
مسنداً، روي عنه أبو سلمة أيضاً اهـ (قال: قال رسول الله:
«من أصبح منكم» ) الخطاب للحاضرين بمجلسه وحكمه على الواحد
حكمه على الجماعة (آمناً) من عدوه (في سربه) على نفسه
وبضعه وأهله وماله (معافى في جسده) من الأمراض لأن معها لا
سيما الشديد منها يذهل المرء عن نظره في حسن حاله وما أنعم
المولى به عليه من أمن وسعة (عنده قوت يومه) من طعام وشراب
وسائر ما يحتاج إليه من أدوية ونحوها (فكأنما حيزت) بكسر
المهملة وسكون التحتية بعدها زاي: أي ضمت وجمعت (له
الدنيا) وفي رواية زيادة «بحذافيرها» أي بجوانبها أي
فكأنما أعطي الدنيا بأسرها (رواه الترمذي وقال: حديث حسن)
ورواه البخاري في «الأدب المفرد» وابن ماجه (سربه بكسر
السين المهملة) وسكون الراء وبالموحدة المجرورة على
الحكاية (أي نفسه) قاله في «النهاية» قال: ويروى بالفتح
وهو المسلك والطريق، يقال خلّ له سربه: أي طريقه، قلت:
وعليه فيكون مجازاً عن الأمن أيضاً فيرجع إلى الأول (وقيل:
قومه) قلت: كأن قائله أخذه من قول اللغويين: السرب أي بكسر
أوله الجماعة من النساء والبقر والشاة والقطاة والوحش كذا
في «المصباح» ، فجرد السرب عن قيد النساء الخ، وأراد به
مطلق جماعته وقومه والله أعلم.
(4/467)
22 - (وعن عبد الله بن عمرو بفتح المهملة)
ابن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: «قد أفلح» أي فاز بالفلاح وهو الفوز والبقاء
والظفر (من أسلم) بدأ به لأنه الأساس في الاعتداد بقبول
صالح الأعمال، والمراد الإسلام الصحيح المخلص فيه لأنه
الكامل فينصرف المطلق إليه (وكان رزقه كفافاً) أي بقدر
الحاجة لا يفضل عنه، قال المصنف: هي الكفاية من غير زيادة
ولا نقص، وفيه شاهد لتفضيل الكفاف على كل من الفقر والغنى
(وقنعه ا) أي صيره قانعاً، ولعل التضعيف إيماء إلى بعد هذا
الوصف عن طبع الإنسان فكان محاول إزالتها يحتاج إلى مبالغة
في ذلك، لأن الطبع البشري مائل إلى الاستكثار من الدنيا
والحرص عليها إلا من عصمالله، وقيل ماهم: أي وجعله الله
يخفي ألطافه قانعاً (بما آتاه) بالمد: أي أعطاه من الكفاف.
قال القرطبي: معنى الحديث أن من حصل له ذلك فقد حصل على
مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدارين (رواه مسلم) قال في
«الجامع الصغير» : رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
23 - (وعن أبي محمد فضالة) بفتح الفاء وبالضاد المعجمة
(ابن عبيد) بصيغة التصغير ابن ناقذ بالمعجمة ابن قيس بن
صهيب بن الأصرم بن جحجبا بجيمين مفتوحتين بينهما حاء ساكنة
وبباء موحدة ابن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن
الأوس (الأنصاري) العمري (رضي الله عنه) قال المصنف في
«التهذيب» : أول مشاهده أحد شهدها وما بعدها من المشاهد
ومنها بيعة الرضوان، وشهد فتح مصر وسكن دمشق وولى قضاءها
لمعاوية وأمره على غزو الروم في البحر، روي له عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - خمسون حديثاً، روى له مسلم
منها حديثين، توفي بدمشق ودفن بباب الصغير سنة ثلاث
وخمسين، وقيل: تسع وستين والصحيح الأول فقد نقلوا أن
معاوية حمل نعشه وقال لابنه: أعني يا بنيّ فإنك لا تحمل
بعده مثله، وتوفي معاوية سنة ستين (أنه سمع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقول: طوبى) قال في «المصباح» قيل:
من الطيب، والمعنى: العيش الطيب، وقيل: الحسن، وقيل: الخير
وأصلها طيبي فقلبت الياء واو المجانسة الضمة، وفي كتاب
الجهاد من «صحيح البخاري» : طوبى فعلى من
(4/468)
كل شيء طيب، وهي ياء حولت إلى الواو، وهو
من يطيب اهـ (لمن هدى) أي أوصل (للإسلام) فعدي باللام
لتضمنه معنى أوصل. قال تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء}
(النور: 35) أي يوصله للدخول في جملة أهله (وكان عيشه
كفافاً وقنع) الأقرب أنه بالبناء للمفعول من باب التفعيل
كما يدل عليه ما قبله، ويحتمل أن يكون بتخفيف النون
مفتوحة، والجملتان الأقرب كونهما معطوفتين على جملة الصلة،
ويجوز كونهما في محل الحال من نائب فاعل هدي (رواه الترمذي
وقال: حديث صحيح) قال في «الجامع الصغير» : ورواه ابن حبان
والحاكم في «مستدركه» .
24 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة) أي التابع
بعضها بعضاً مع الاتصال (طاوياً) هذا مقصود الإخبار. قال
في «النهاية» يقال: طوى من الجوع يطوي طوى فهو طاوي: أي
خالي لم يأكل (وأهله) بالرفع عطف على الضمير المستكن في
يبيت للفصل بينهما بالظرف، ويجوز أن يقرأ بالنصب على أن
الواو واو المصاحبة: أي مع من يقوم بنفقتهم، وقوله: (لا
يجدون عشاء) بفتح العين وبالمد، قال في «المصباح» : اسم
للطعام الذي يتعشى به الإنسان وقت العشاء: أي بكسر العين
اهـ. وفي كتاب الصيام من كتب الفقه: العشاء اسم لما يؤكل
بعد الزوال: أي في وقت العشي جملة مستأنفة لبيان حالهم
المقتضي لطواهم (وكان أكثر خبزهم خبز الشعير) أي وهو أقل
في كلفة التحصيل من البرّ وغيره من نفائس الأقوات، والجملة
محتملة للعطف على ما قبلها ولكونها حالية بإضمار قد (رواه
الترمذي وقال: حسن صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه كما في
«الجامع الصغير» .
25 - (وعن فضالة بن عبيد) أي الأنصاري (رضي الله عنه أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا
(4/469)
صلى بالناس) أي وقت صلاته بهم، وهو مضمن
معنى الشرط ولا يجزم إلا في الشعر، جوابه (يخرّ) بكسر
الخاء المعجمة: أي يسقط (رجال من) ابتدائية: أي سقوط مبتدأ
(من قامتهم في الصلاة) تعليلية (الخصاصة) بفتح الخاء
المعجمة وبالمهملتين الخفيفتين بينهما ألف (وهم أصحاب
الصفة) جملة حالية من فاعل يخر لتخصيصه بالوصف (حتى) غاية
لمحذوف: أي فتعجب من خرورهم من لم يعلم سببه إلى أن (يقول
الأعراب) أي من حضره حينئذ من سكان البوادي (هؤلاء مجانين)
يحتمل كون الجملة خبرية كما هو الظاهر، ويحتمل أنها
استفهامية على تقدير الهمزة، وعلى كل فهي منصوبة المحل على
الحكاية، وذلك أنهم توهموا أن ذلك الخرور صادر عنهم
اختياراً لا عن سبب يقتضيه، وذلك بحضرة الجمع شأن
المجانين، فلذا حكموا عليهم به، أو سألوهم كذلك (فإذا صلى
رسول الله) أي الصلاة بإتمامها بسلامه منها وانصرف عنها
(انصرف إليهم) أي متوجهاً إليهم (فقال) عقب وصوله إليهم
لأنه الحامل له على قصدهم (لو تعلمون ما لكم عند ا) أي ما
أعده لكم مما لم تسمعه أذن ولم يره بصر، وفيه شهادة لهم
بمكانتهم عند المولى سبحانه لصدق إيمانهم، وحسن مجاهدتهم
وكمال وجهتهم (لأحببتم أن تزدادوا فاقة) أي حاجة فعطف
قوله: (وحاجة) عليها من عطف الرديف وحبهم، ذلك ليصبروا عن
الابتلاء بها فيكثر ما يؤجرون عليه من ذلك، فإن الجزاء على
حسب المجازى عليه قلة وكثرة، أو لأنهم استعذبوا جميع ما
يرد عليهم من الحق سبحانه لكمال عرفانهم، فنظروا إلى النعم
من حيث صدورها من الرحيم لا من حيث ذاتها فأعجبوا بها على
أي أمر تجلت وعلى أيّ مذاق، وما أحسن قول القائل:
إذا ما رأيت الله في الكل فاعلاً
رأيت جميع الكائنات ملاحاً
وقلت في هذا المعنى:
يا طالب التحقيق والعرفان
لا تنظرن لحوادث الأزمان
فتضيق منها وانظرن لمن بدت
منه إليك فهو العلي الشان
(رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث صحيح.
الخصاصة: الفاقة
(4/470)
والجوع الشديد) قال في «النهاية» : وأصلها
الفقر والحاجة إلى الشيء.
26 - (وعن أبي كريمة) بفتح الكاف وكسر الراء (المقداد)
بكسر الميم وسكون القاف ومهملتين بينهما ألف (ابن معد
يكرب) بكسر الدال المهملة وسكون التحتية وفتح الكاف وكسر
الراء وتقدمت ترجمته رضي الله عنه في باب فضل الحب في الله
(قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما
ملأ آدمي» ) نسبة إلى آدم أبي البشر عليه السلام: أي إنسان
(وعاء شراً من بطنه) قال الطيبي: نقله عن ابن أقبرس جعل
البطن وعاء كالأوعية المتخذة ظروفاً لحوائج البيت توهيناً
لشأنه، ثم جعله شرّ الأوعية لأنها تستعمل فيما هي له،
والبطن خلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى
الفساد ديناً أو دنيا فيكون شراً منها، فإن قلت: شرّاً
أفعل تفضيل وهو ما اشتق من فعل الموصوف بزيادة على غيره
فما وجه تحقق ثبوت الوصف في المفضل عليه؟ قلت: ملء الأوعية
لا يخلو من طمع أو حرص على الدنيا وكلاهما شرّ على الفاعل
(بحسب ابن آدم) أي كافية فالباء مزيدة في المبتدأ (أكلات)
بفتح الكاف وضمها مع ضم الهمزة: أي كافية ذلك في سد الرمق،
ولذا قال: (يقمن صلبه) والجملة في محل الصفة لأكلات ويصح
كونها مستأنفة لبيان سبب كفاية ذلك (فإن كان لا محالة) في
«الصحاح» قولهم لا محالة: أي بفتح الميم: أي لا بد، يقال:
الموت آت لا محالة اهـ: أي فإن كان لا بد من الكثرة على
ذلك فليكن أثلاثاً (فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)
قال ابن أقبرس: أي يبقى من ملئه مقدار الثلث ليكون متمكناً
من النفس. ورأيت في بعض كتب الطب أن كسرى سأل طبيباً: ما
الداء الذي لا دواء له؟ قال: إدخال الطعام على الطعام،
فذاك الذي أفتى البرية وقتل سبع البرية، فسأل عن الحمية
فقال: الاقتصاد في كل شيء، فإذا أكل فوق
المقدار ضيق على الروح اهـ (رواه الترمذي وقال: حديث حسن
صحيح) وأخرجه النسائي من طريق الترمذي ومن طريق أخرى،
وأخرجه القاضي عياض في «الشفاء» من طريق أبي نعيم الحافظ
والبزار، وفي «الجامع الصغير» ،
(4/471)
وأخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم في
«المستدرك» (أكلات: أي لقم) بضم ففتح جمع لقمة وهذا يقتضي
فتح أولى أكلات والأنسب لقمات، لأن جمع السلامة من جموع
القلة، فلذا قال التلمساني في حواشي «الشفاء» : فيه إيماء
إلى أنه لا يصل بها العشرة. ولعل المصنف وضع جمع الكثرة
موضع ضده مجازاً كقوله تعالى: {ثلاثة قروء} (البقرة: 228)
.
27 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين خفيفتين بينهما
ألف (إياس) بكسر الهمزة والتحتية المخففة آخره مهملة. قال
في «الإصابة» : هذا اسمه عند الأكثر، وقيل: اسمه عبد الله
وبه جزم أحمد بن حنبل. وقيل: ثعلبة بن سهل، وقيل: أبو عبد
الرحمن، قال أبو عمر: واسمه إياس ولا يصح غيره (ابن ثعلبة)
بالمثلثة المفتوحة والمهملة الساكنة بعدها لام فموحدة
مفتوحتين فهاء (الأنصاري الحارثي) بالمهملة آخره مثلثة
نسبة للحارث بن الخزرج أحد أجداده وقيل: إنه بلوى حليف بني
حارثة وهو ابن أخت أبي بردة بن نيار (رضي الله عنه) وتوفي
في منصرف النبي من أحد فصلى عليه. قال في «أسد الغابة» :
رواية من روى عنه مرسلة لأنه لم يدرك النبي، وكذا رواية
محمود بن الربيع عنه فإنه ولد قبل وفاة إياس على القول إنه
قتل يوم أحد، والصحيح أنه لم يتوف حينئذ إنما كانت وفاة
أمه عند منصرف النبي من بدر، فرده من أجلها، فرجع فوجدها
ماتت فصلى عليها ولم يشهد بدراً لذلك. ومما يقوي أنه لم
يقتل بأحد أن مسلماً روى في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله
بن كعب عن أبي أمامة بن ثعلبة: «من اقتطع حق مسلم بيمينه»
الحديث، فلو كان منقطعاً ولم يسمع أبي بن كعب منه لما
أخرجه مسلم في «الصحيح» اهـ. روي له عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أحاديث ذكر منها المزي في «الأطراف»
حديثين: حديث مسلم وحديث الباب. وقال في «الإصابة» : روى
له عن النبي أحاديث منها عند مسلم وأصحاب السنن انفرد به
مسلم عن البخاري، فخرج له الحديث المار في كلام «أسد
الغابة» وهو عند النسائي وابن ماجه (قال: ذكر أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً عنده) أي النبيّ بقرينة
إفراد الضمير وإن كان خلاف الغالب (الدنيا) أي زينتها
والترفع فيها بالملبس وغيره (فقال رسول الله: ألا)
بالتخفيف أداة عرض وأتى بها تحريضاً على الاستماع لما
بعدها والإصغاء إليه (تسمعون ألا
(4/472)
تسمعون) قال ابن رسلان في «شرح السنن» : في
الكلام
أنواع من التأكيدات: إلا الدالة على العرض والتحضيض على
الاستماع والتأكيد بتكرير الكلمة والتصريح بالإصغاء
بالاستماع سماع فهم وانتفاع، مع أنه عالم بأنهم يستمعون
لما يقوله ويبادرون إلى امتثاله، لكن يكون أبلغ في الموعظة
والإتيان بلفظ (إن) للتأكيد وهي عوض إعادة الكلام مرّتين
(البذاذة من) كمال (الإيمان) الراسخ في القلب، قال زيد بن
وهب: رأيت عمر بن الخطاب خرج إلى السوق وبيده الدرّة وعليه
إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم: أي جلد. وعوتب عليّ
رضي الله عنه في إزار مرقوع فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع
له القلب. قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء القلب،
وإنما كانت البذاذة من الإيمان لما تؤدي إليه من كسر النفس
والتواضع، ولكن ليس ذلك عند أكل أحد بل يورث عند بعض الناس
من الكبرياء ما يورثه لبس نفيس الثياب عند آخرين، وبالجملة
فالمحبوب التوسط في الثياب كما سيأتي بسطه في كتاب اللباس
(إن البذاذة من الإيمان) وفي بعض نسخ أبي داود تكراره
ثلاثاً، ولا ينافي حديث الباب وما في معناه، وإيثاره بذاذة
الهيئة ورثاثة المنظر وتبعه عليه السلف الصالح ما اختاره
جمع أئمة من متأخري الصوفية وغيرهم، لأن السلف لما رأوا
أهل الهوى يتفاخرون بالزينة والملابس أظهروا لهم برثاثة
ملابسهم حقارة ما حقره الحق مما عظم الغافلون، والآن قد
قست القلوب ونسي ذلك المعنى، فأخذ الغافلون رثاثة الهيئة
حيلة على جلب الدنيا، فانعكس الأمر وصار مخالفتهم في ذلك
تبعاً للسلف، ومن ثم قال العارف با تعالى أبو الحسن
الشاذلي لذي رثاثة أنكر عليه جمال هيئته: يا هذا هيئتي هذه
تقول الحمد، وهيئتكم تقول: أعطوني من دنياكم (يعني التقحل)
هذا قول أبي داود وتفسير للبذاذة كما صرح به شارح «سنن أبي
داود» بن رسلان فقال: قال المصنف: البذاذة يعني التقحل
بفتح التاء والقاف وبالحاء المهملة المشددة. (رواه أبو
داود) في الترجل من «سننه» ، ورواه ابن ماجه في الزهد
(البذاذة بالباء الموحدة) المفتوحة (والذالين المعجمتين)
الخفيفتين (وهي رثاثة) بالراء والمثلثتين الخفيفات مصدر رث
الشيء. أي خلق، قال في «النهاية» : وأصل اللفظة من الرث
وهو الثوب الخلق اهـ. والمراد منه في عبارته ضد الجيد من
(الهيئة وترك فاخر الثياب) أي تواضعاً في اللباس، يقال:
فلان بذّ الهيئة وباذها: أي رث اللبسة، والمراد التواضع في
اللباس وترك التبجح به. قال هارون الرشيد: سألت معناً
(4/473)
عن البذاذة فقال: هو الدون من اللباس (وأما
التقحل فالبقاف والحاء) أي المهملة كما تقدم (قال في
اللغة: المتقحل هو الرجل اليابس الجلد من خشونة العيش وترك
الترفه) أي التنعم لسوء الحال، قال ابن رسلان: يقال: قد
قحل الرجل قحلاً: إذا التزق جلده بعظمه من الهزال.
28 - (وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
قال: بعثنا رسول الله) في سنة ثمان (وأمر) بتشديد الميم:
أي جعل أميراً (علينا أبا عبيدة) بن الجراح أحد العشرة
(رضي الله عنه) وفيه تأمير أهل الفضل، وقد اتفقت روايات
«الصحيحين» على تأميره في تلك السرية، فهو المحفوظ، وفي
رواية: إن أميرها قيس بن سعد بن عبادة حملت على أن أحد
رواتها ظن من ذبح قيس النياق للجيش تأميره فصرح به وليس
كذلك (نتلقى عيراً لقريش) جملة مستأنفة لبيان سبب البعث،
والعير بكسر العين المهملة: القافلة التي تحمل البرّ
والطعام، ثم صريح هذه الرواية ما ذكر من تلقي العير، لكن
عند ابن سعد أنه بعثهم إلى حيّ من جهينة وأن ذلك كان في
شهر رجب، ويمكن الجمع بين كونهم يتلقون غير قريش ويقصدون
الحي من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم أيضاً عن جابر
قال: بعث النبي بعثاً إلى أرض جهينة، فذكر القصة الذي
يتلقى عير قريش لا يتصور أن يكون في الشهر الذي ذكر ابن
سعد: أي رجب من سنة ثمان لأنهم حينئذ كانوا في الهدنة، إلا
إن كان تلقيهم العير لحفظها من جهينة، ولذا لم يقع في
الحديث أنهم قاتلوا أحداً، بل فيه أنهم أقاموا شهراً أو
أكثر في مكان واحد (وزودنا جراباً) أي ملأه (من تمر) بفتح
الفوقية، وقوله (لم يجد لنا غيره) استئناف لبيان سبب
الاقتصار على ذلك القليل في ذلك العدد الكثير (فكان أبو
عبيدة يعطينا تمرة تمرة) هذا من باب قولهم: ركب القوم
دوابهم: أي لكل
(4/474)
واحد تمرة، وهذا باعتبار آخر فعل أبي
عبيدة، وإلا ففي البخاري: فكان يقوتنا كل يوم قليلاً
قليلاً حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة، وكذا قال المصنف
في «شرح مسلم» : الظاهر أن قوله قسم تمرة تمرة إنما كان
بعد أن قسم قبضة قبضة فلما قل ثمرهم قسم تمرة تمرة.l
والجراب هو الذي زودهم به وكانت عندهم أزوادهم من تمر
لأنفسهم كما يدل عليه قوله في رواية للبخاري ومسلم: فكنا
ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة
بأزواد الجيش فجمعت، فكان مزودي تمراً. قال في «الفتح» :
وقول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب
المذكور مردود بما ذكر (فقيل) يحتمل أن يكون القائل وهب بن
كيسان الراوي عن جابر فإن في رواية البخاري في المغازي
التصريح بأنه سأل جابراً: ما يعني عنكم تمرة فقال: قد
وجدنا نقدها حين فقدت فلعله سأل فقال: (كيف كنتم تصنعون؟)
قال البيضاوي في التفسير: تصنعون أبلغ من تعملون، من حيث
إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتردد وتر وتحر وإجادة
(بها قال: نمصها) لم يصدر قال: بفاء ولا واو، بل أتى بها
مستأنفاً، لأن مراده الإخبار عن قوله ذلك مع قطع النظر عن
كونه أخبر حالاً أو بعد (كما يمصّ الصبي ثم نشرب عليها من
الماء) أي بعض الماء (فتكفينا يومنا إلى الليل) ففيه ما
كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا
والتقلل منها والصبر على الجوع وخشونة العيش، وفيه كرامة
له حيث كفى الواحد منهم نهاره تمرة واحدة لكونها حلت عليه
بركته. وفيه أن توقف الشبع على الأكل ليس على جهة اللزوم
وإنما ذلك فعل الله يفعله عقبه تارة ومن غيره أخرى كما
قال: «إني أظلّ عند ربي يطعمني ويسقيني» أي يجعل في قوة
الطاعم والشارب على أحد الأقوال، ومنه قوله:
{أطعمهم من جوع} (قريش: 4) على القول بأن: «من» تبعيضية
والله أعلم. وفني التمر كما في رواية أخرى لهما: «فلم
يصلهم ولا تمرة تمرة فوجدوا فقدها» كما تقدم عن جابر فعنده
ضربوا الشجر كما قال: (وكنا نضرب بعصينا) بكسر أوله
إتباعاً لكسر ثانيه وتشديد التحتية ويجوز ضم أوله (الخبط
ثم نبله بالماء) هذا يدل على أنه كان يابساً بخلاف ما جزم
به الداودي أنه كان أخضر رطباً قاله في «الفتح» . قلت:
ولعل الماء كان لإذهاب خشونته ولإساغته فلا يخالف ما قاله
الداودي (فنأكله فانطلقنا على ساحل) بالمهملتين: أي شاطىء
(البحر فرفع) بالبناء للمجهول (لنا على ساحل البحر كهيئة
(4/475)
الكثيب) بالمثلثة والتحتية والموحدة بوزن
قريب: الرمل المستطيل المحدودب وأحد الظروف نائب الفاعل
والظرفان حالان متداخلان أو مترادفان منه (الضخم) بفتح
المعجمة الأولى وسكون الثانية بمعنى العظيم (فأتيناه) أي
المرفوع لنا (فإذا هي) أي المرفوع لنا والتأنيث رعاية
لقوله: (دابة تدعى) بالبناء للمجهول (العنبر) بفتح أوله
وثالثه الباء الموحدة وسكون ثانيه النون المزيدة ويجوز
إبداله وإدغامه في الثالث. قال في «فتح الباري» : قال أهل
اللغة: هي سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلدها الترسة يقال: إن
العرف المشموم رجيع هذه الدابة قال ابن سينا: بل المشموم
يخرج، وإنما يوجد في أجواف السمك الذي يبتلعه، ونقل
الماوردي عن الشافعي قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر
نابتاً في البحر ملتوياً مثل عنق الشاة، وفي «البحر» دابة
تأكله وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من
بطنها. وقال الأزهري: العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم يبلغ
طولها خمسون ذراعاً يقال لها باله، وليست بعربية اهـ.
(فقال أبو عبيدة) هي (ميتة) أي وإن كانت ميتة للضرورة
والميتة محرمة بنص الكتاب (ثم) تغير اجتهاده وأرشد للصواب
(فقال: لا) أي لا يحرم تناولها وإن كانت ميتة للضرورة،
فالمنفي ما دل عليه كلامه السابق من تحريم وحذف
لدلالة المقام عليه (بل) إضراب عما ظنه أولاً (نحن رسل)
بضمتين ويجوز إسكان ثانيه تخفيفاً (رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وفي سبيل ا) أي ونحن في طاعة الله وفي جهاد
أعدائه وأعداء نبيه، ففيه إيماء إلى قوله تعالى: {ومن يتق
الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 2،
3) ولي في هذا المعنى يديها.
اتق الله سائر الأزمان
لا تخف من طوارق الحدثان
يرزق الله متقيه ويكفيـ
ــــه فهذا قد جاء في القرآن
(وقد اضطررتم) جملة مستأنفة ويحتمل أن تكون حالية وعدل عن
التكلم إليه تفنناً في التعبير وتحصيلاً للالتفات المورث
في الكلام وطراوة وحسناً ونضارة (فكلوا) الفاء فيه للتقريع
(فأقمنا) المعطوف عليه محذوف: أي فأكلنا فأقمنا (عليه
شهراً) وفي رواية
(4/476)
«الصحيحين» فأكل منه القوم ثماني عشرة
ليلة، وفي رواية لهما: فأكلنا منه نصف شهر. قال في «فتح
الباري» : ويجمع بأن الذي قال ثماني عشرة ضبط ما لم يضبطه
غيره، ومن قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد عليه وهو ثلاثة
أيام، ومن قال: شهراً جبر الكسر وضم بقية المدة التي كانت
قبل وجدانهم، ورجح المصنف رواية الباب لما فيه من الزيادة،
وجمع القاضي بأن من قال: نصف شهر أراد أكلوا منه تلك
المدة، ومن قال: شهراً أراد قد زودوه فأكلوا منه باقي
الشهر. وقال ابن التين: إحدى الروايتين وهم. قال الحافظ:
ولعل الذي سلكته من الجمع أولى ووقع عند الحاكم اثني عشر
وهي شاذة، وأشذ منها رواية فأقمنا قبلها ثلاثاً (ونحن
ثلثمائة) جملة حالية من أقمنا (حتى) غاية للإقامة عليها:
أي فأكلنا منها إلى أن (سمنا) يحتمل أكلهم منه زيادة عن
الحاجة حتى نشأ عنه السمن، وأنهم يرون حلّ ذلك من الميتة
عند الضرورة إلى التناول منها، ويحتمل أنه تغير اجتهادهم
بعد فرأوا حل ميتة البحر والله أعلم (وقد رأيتنا نغترف)
أتى به من باب الافتعال الدالّ على المبالغة إيماء إلى
الكثرة (من وقب عينه) بالإفراد (بالقلال) بكسر القاف
وتخفيف اللام جمع قلة بضم القاف وتشديد اللام (الدهن ونقطع
منه) بتخفيف الطاء المهملة كذا في النسخ، والتضعيف فيه
أنسب بالإفعال فيما قبله (القدر كالثور) بالمثلثة: ذكر
البقر (أو) شك من الراوي (كقدر الثور) والجملة جواب القسم
المقدر وهو جوابه مستأنف عطف عليه قوله: (ولقد أخذ منا أبو
عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه) وعطف عليه أو
على المعطوف عليه قوله: (وأخذ ضلعاً) بكسر الضاد المعجمة،
قال في «المصباح» : أما
اللام فتفتح في لغة الحجاز وتسكن في لغة تميم، وهي أنثى
اهـ (من أضلاعه فأقامها) أي منصوبة (ثم رحل أعظم بعير
معنا) بتخفيف الحاء المهملة: أي جعل عليه الرحل (فمر من
تحتها) جاء في رواية عبادة بن الصامت عند ابن إسحاق: ثم
أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتها
وما مسك رأسه. قال الحافظ في «الفتح» : ولم أقف على اسم
هذا الرجل وأظنه قيس بن سعد بن عبادة، فإن له ذكراً في هذه
الغزوة، وكان مشهوراً بالطول وقصته في ذلك مع معاوية لما
أرسل إليه ملك الروم بالسراويل معروفة، ذكرها المعافى
الحريري في «الجليس» وأبو الفرج الأصبهاني وغيرهما،
ومحصلها أن أطول رجل من الروم نزع له قيس بن سعد سراويله،
فكان طول قامة الرومي بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على
الأرض،
(4/477)
وعوتب قيس على نزع سراويله في المجلس
فأنشد:
أردت لكيما يعلم الناس أنها
سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيس وهذه
سراويل عاد الأولى وثمود
(وتزوّدنا من لحمه وشائق) معطوف على ما قبله، ويحتمل أن
يكون مستأنفاً، إذ لا حاجة لتأكيد مثله بالقسم، لأن ما ثبت
عظمه من الحيوان بما ذكر قبله لا يستبعد تزوّد ذلك منه
(فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فذكرنا له ذلك فقال) مبيناً لحكمه وحكمة عثورهم عليه (هو
رزق) في الأصل مصدر والمراد به اسم المفعول كقوله تعالى:
{هذا خلق ا} (لقمان: 11) أي مخلوقه (أخرجه الله لكم) وزاد
في تطمين قلوبهم في حله ونفي الشك في إباحته لأنه ارتضاه
لنفسه قوله: (فهل معكم من لحمه شيء) ويجوز أن يكون قصد
التبرك به لكونه طعمة من الله تعالى خارقة للعادة أكرمهم
الله بها أشار إليه المصنف، ومن للتبعيض وهي ومجرورها
متعلقان بمحذوف هو الخبر وتقديمه مع وجود المسوغ للابتداء
بشيء وهو تقدم الاستفهام للاهتمام، والظرف قبله في محل
الحال وكان في الأصل صفة شيء قدم عليه فصار إلى ما ذكرنا
كقوله:
لمية موحشاً طلل
وقوله: (فتطعمونا) جواب الاستفهام (فأرسلنا إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - منه فأكله) أي عقب وصوله بلا تراخ
كما تؤذن به الفاء وذلك لما تقدم في قوله: فهل معكم الخ
(رواه مسلم) أي بهذا اللفظ في الأطعمة من «صحيحه» ، وإلا
فحديث جابر في هذه السرية قد رواه البخاري في الشركة وفي
الجهاد وفي المغازي من «صحيحه» ، ولعل ما ذكرنا سبب
الاقتصار على العزو لمسلم، أو غاب عن الشيخ حينئذ تخريج
البخاري له، ولا عيب في مثله، رواه الترمذي في الزهد وقال:
حسن صحيح، والنسائي في الصيد وفي السير، وابن ماجه في
الزهد كذا يؤخذ من «الأطراف» ملخصاً.
(الجراب وعاء) بكسر الواو المهملة المخففة بعدها ألف
ممدودة (من جلد) أما من غيره فلا يسمى بذلك (معروف وهو
بكسر الجيم) وجمعه جرب ككتاب وكتب وسمع أجربة
(4/478)
كذا في «المصباح» (وفتحها والكسر أفصح)
وكذا قال في «شرح مسلم» ولم يبين قائل كل من القولين، وقد
بينه القاضي عياض فقال: الجراب وعاء من جلد كالمزود ونحوه
وهو بكسر الجيم، وكذا قيده الخليل وغيره، وقال القزاز بفتح
الجيم، ومثله في «المطالع» لابن قرقول، لكن في «الصحاح»
الجراب: أي بكسر الجيم معروف، والعامة تفتحه، وفي
«المصباح» : ولا يقال: جراب بالفتح، قاله ابن السكيت وغيره
(وقوله: يمصها بفتح الميم) وفتح التحتية قبلها، وسكت
المصنف عنه لأنه معلوم وتشديد الصاد المهملة، ويجوز ضم
الميم كما في «شرح مسلم» قال: والفتح أفصح وأشهر، لكن في
«المشارق» و «المطالع» تعين فتح الصاد من قوله: «امصص بظر
اللات» وأنه من باب علم، حينئذ فهذا يعين الفتح كما اقتصر
عليه المصنف هنا والله أعلم (والخبط) بفتح أوليه المعجمة
والموحدة وبالمهملة (ورق شجر معروف تأكله الإبل) عبارة
«النهاية» الخبط: أي بسكون الموحدة ضرب الشجر بالعصي
ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خبط فعل بمعنى مفعول وهو
من علف الإبل اهـ. ومثلها في «المصباح» ، وحينئذ فما ذكره
المصنف بيان للمراد في الحديث، وأن هذا النوع الخاص سمي
وحده بهذا الاسم كما يطلق على كل ما تساقط من الورق بالخبط
(والكثيب) يضبطه السابق في الشرح (التل) بفتح الفوقية
وجمعه تلال وهو المرتفع: أي الرابية (من الرمل) قال في
«المصباح» : سمي به لاجتماعه، وفي «فتح الباري» . الكثيب:
الرمل المستطيل المحدودب (والوقب بفتح الواو وسكون القاف
وبعدها باء موحدة وهي نقرة العين) النقرة بضم النون حفرة
غير كبيرة، والمراد المجوف من عظم الرأس لمحل العين
(والقلال) بكسر القاف. جمع قلة بضمها وهي الجرة الكبيرة
التي يقلها الرجل بين يديه، كذا في «شرح مسلم» ، وحينئذ
فكان على
الشيخ أن يزيد على قول: (الجرار) بكسر الجيم وتخفيف
الراءين قوله: الكبار، وسميت القلة بذلك لأن الرجل العظيم
يقلها: أي يرفعها من الأرض (والقدر بكسر الفاء وفتح الدال:
القطع) هذا أحد قولين حكاهما في «شرح مسلم» وقال: إنهما
وجهان مشهوران في نسخ بلادنا: أي من «صحيح مسلم» إحداهما
بقاف مفتوحة ثم دال ساكنة: أي مثل الثور، والثاني بفاء
مكسورة ثم دال مفتوحة جمع فدرة والأول أصح، وادعى القاضي
(4/479)
عياض أنه تصحيف وأن الثاني الصواب، وليس
كما قال بل هما صوابان اهـ. وبه يعلم أنه هنا متابع للقاضي
عياض (ورحل البعير بتخفيف الحاء) قال في «المصباح» : من
باب نفع (أي جعل عليه الرحل) أي شده عليه كما في «المصباح»
، والرحل للجمل بمنزلة السرج للفرس (الوشائق بالشين
المعجمة والقاف: اللحم الذي قطع ليقدد) اللام فيه
للصيرورة: أي لييبس: أي فيؤكل يابساً، وهذا قوله حكاه في
«الصحاح» عن أبي عبييد عن بعضهم أن الوشيق بمنزلة القديد
لا تمسه النار، حكاه في «شرح مسلم» بقوله: وقيل: الوشيق
القديد، وقال أولاً: قال أبو عبيدة: هو اللحم يؤخذ فيغلى
إغلاءةً ولا ينضج ويحمل في الأسفار، ومثله في «الصحاح»
وزاد قوله: وهو أبقى قديد يكون.
28 - (وعن أسماء) بسكون السين المهملة آخره ألف ممدودة
(بنت يزيد) بفتح الياء الأولى وسكون الثانية بينهما زاي
مكسورة ابن السكن بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد
الأشهل بن خيثم الأنصاري (رضي الله عنها) ولما لم يكن في
الصحابيات أسماء بنت يزيد سواها لم يقيد بقوله: الأنصارية،
تكنى أم سلمة، ويقال: أم عامر. قال الحافظ في «التقريب»
لها أحاديث، قلت: عدتها أحد وثمانون، خرج لها البخاري في
«الأدب المفرد» ، وروى عنها الأربعة، وفي «أسد الغابة»
أنها ابنة معاذ بن جبل وأنها قتلت يوم اليرموك تسعة من
الروم بعمود فسطاطها (قالت: كان كم قميص رسول الله) قال في
«المصباح» : كم القميص معروف جمعه أكمام وكممة مثل عنبة
(إلى الرضع) وحكمة الاقتصار عليه أنه متى جاوز اليد شق على
لابسه ومنعه سرعة الحركة والبطش، ومتى قصر عنه تأذى الساعد
ببروزه للحرّ والبرد فكان جعله إليه أمراً وسطاً وخير
الأمور أوساطها، ولا تنافي هذه الرواية رواية أسفل من
الرسغ لاحتمال تعدد القميص أو أن المراد «التقريب» لا
التحديد (رواه أبو داود والترمذي) قال ابن حجر الهيثمي في
«أشرف الوسائل» : هو بالصاد عندهما (وقال: حديث حسن) ورواه
النسائي قال: وهو عند غيرهما بالسين (الرصغ) بضم الراء
وسكون المهملة
(4/480)
وضمها للاتباع لغة بعدهما معجمة (بالصاد
والرسغ بالسين) أي المهملة أيضاً (هو) أي هنا (المفصل بين
الكف والساعد) وإلا ففي «المصباح» أنه من الإنسان مفصل ما
بين الكف والساعد والقدم: أي مشترك بينهما، ثم ظاهر عبارته
أن السين والصاد كل منهما أصل غير منقلب عن الآخر، وعبارة
«النهاية» تشهد له وهي الرصغ لغة في الرسغ اهـ.
29 - (وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنها قال: إنا كنا
يوم) أي زمن وهو ظرف للفعل الآتي بعد (الخندق) وكان حفره
لما تحزبت قريش واجايشها إلى أن بلغوا عشرة آلاف، فأرادوا
حرب المدينة فأشار سلمان بحفر الخندق حول المدينة: فأمر به
وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة، قال ابن إسحاق: في
شوّال وقال ابن سعد: في ذي القعدة (نحفر فعرضت لنا كدية
شديدة) أي تامة الإباء عن تأثير الفؤوس فيها (فجاءوا إلى
النبيّ) قال في «المصباح» جاء زيد يجيء مجيئاً حضر،
ويستعمل متعدياً أيضاً بنفسه فيقال: جئت شيئاً حسناً: أي
فعلته، وجئت زيداً إذا أتيت إليه، وجئت به إذا أحضرته معك،
وقد يقال: جئت إليه: يعني ذهبت إليه اهـ (فقالوا: هذه
كدية) وقولهم: (عرضت في الخندق) في محل الصفة للكدية أتوا
به إطناباً لطول المحاورة مع المصطفى نظير ما قيل في قوله
موسى عليه السلام {أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي} (طه:
18) والخندق معروف (فقال: أنا نازل) عمل فيه بنفسه ترغيباً
للمسلمين، فلذا سارعوا إليه فأتموه قبل وصول المشركين
وحصارهم (ثم قام وبطنه معصوب) قال في «المصباح» : البطن
خلاف الظهر وهو مذكر، وفي البخاري: وبطنه معصوب بحجر: أي
مربوط فوق الحجر عن بطنه الشريف، وتقدم في الباب حكمة ذلك،
والجملة حال من فاعل قام (ولبثنا) بالموحدة فالمثلثة: أي
قمنا (ثلاثة أيام) ظرف لقوله: (لا نذوق ذواقاً) بفتح الذال
المعجمة مصدر بمعنى الذوق:
(4/481)
أي المطعوم: أي لا نطعم فيها، والجملة
يحتمل كونها حالية بإضمار «قد» من فاعل نحفر، ويحتمل كونها
معطوفة على الجملة الحالية، ففيها بيان سبب عصب بطنه من
طول مدة ترك الطعام، ويحتمل كونها معترضة أتى بها لبيان أن
ما حصل منه من التأثير في تلك الكدية ليس ناشئاً عن القوة
المودعة في الإنسان عادة لغلبة الضعف عليه حينئذ بترك
تناول الطعام المدة المذكورة، إنما ذلك معجزة، ثم رأيت
الحافظ في «الفتح» جزم بالأخير وقال: إنه سبب
العصب، وغير خاف أن ما ذكرناه محتمل وله أوجه، والله أعلم
(فأخذ المعول) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو بعدها
لام: أي المسحاة، وعند أحمد: فأخذ المعول أو المسحاة بالشك
(فضرب فعاد) أي فصارت الكدية وذكرها باعتبار المضروب الدال
عليه قوله: فضرب (كثيباً أهيل) بوزن أحمد ثالثه تحتية وعند
البخاري أهيل أو أهيم، والمعنى أنه صار رملاً لا يتماسك.
قال الحافظ في «الفتح» : ضبط أهيم بالمثلثة وبالتحتية،
والمعروف الثاني وهي بمعنى أهيل (فقلت: يا رسول الله ائذن
لي إلى البيت) الظرف الثاني متعلق بفعل محذوف يدل عليه
المقام: أي انصرف، وفي الكلام حذف صرح به أبو نعيم في
روايته في «المستخرج» فقال: «فأذن لي» (فقلت لامرأتي)
اسمها سهيلة بنت معوذ الأنصارية (رأيت) أي أبصرت (بالنبي
شيئاً) أي عظيماً كما يدل عليه قوله: (ما في ذلك صبر) أي
ما في الاستفهام: أي أعندك ما تندفع به الحاجة في الجملة
(فقالت: عندي شعير) جاء في رواية ابن بكير أنه صاع (وعناق)
بفتح العين المهملة وتخفيف النون هي الأنثى من المعز
(فذبحت بتاء المتكلم (العناق وطحنت)) بفتح حروف الفعل
الثلاثي والتاء فيه للتأنيث وفاعله يعود إلى امرأته
(الشعير) وقوله: (حتى جعلنا اللحم في البرمة) بضم الموحدة
وسكون الراء كما في «الفتح» غاية لمقدر: أي واستمريت
غائباً عن الخندق إلى ما ذكر، وفي رواية الكشميهني: حتى
جعلت (ثم جئت النبي والعجين قد انكسر) أي لان
(4/482)
ورطب وتمكن منه الخبز (والبرمة بين
الأثافي) بمثلثة وفاء: ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر (قد
كادت) أي قاربت (تنضج) بفتح الفوقية والضاد: أي تدرك
الاستواء (فقلت: طعيم) بتشديد التحتية صغره مبالغة في
تحقيره قيل: من تمام المعروف تعجيله وتحقيره (لي) في محل
الصفة وأتى به طلباً لخبره بمجيئه إلى منزله إجابة لدعوته
(فقم أنت يا رسول الله) أكد الضمير المستكن بالضمير البارز
لينبه على أنه المقصود بالأصالة فأجد دلالة على الاهتمام
بذلك
لا ليعطف عليه قوله: (ورجل أو رجلان) لوجود الفصل بالنداء
بين المتعاطفين وهو كاف كذلك (قال: كم هو؟ فذكرت له ذلك)
أي ما ذكر قبله واستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع للبعيد
لأنه لما لم يسمع صار كأنه بعيد (فقال: كثير طيب) لعل
سؤاله عنه ليتنبه جابر إذ رأى شبع أولئك العدد الكثير من
ذلك النزر اليسير، فيعلم أنه معجزة كما قيل به في حكمة
قوله تعالى:
{وما تلك بيمينك يا موسى} (طه: 17) وأن ذلك أثر قوله: كثير
طيب (قل لها) أي لامرأتك (لا تنزع البرمة) بكسر الزاي
والفعل مجزوم والمراد لا تأخذ اللحم منها (ولا الخبز من
التنور) بفتح الفوقية وتشديد النون وهو الذي يخبر فيه. قال
في «المصباح» : وافقت فيه لغة العرب العجم. وقال أبو حاتم:
ليس بعربيّ صحيح والجمع تنانير (حتى آتي) أي أجيء إلى
المنزل فقال: (أي بعد قيامهم قبل وصولهم المنزل) فقلت:
ويحك (بفتح الواو وسكون التحتية وهي كلمة رحمة، وويل كلمة
عذاب) ، وقيل: هما بمعنى واحد، وهو منصوب بإضمار فعل، أي
ألزمك الله ويحاً، كذا يؤخذ من «الصحاح» (قد جاء النبيّ
والمهاجرون والأنصار ومن معهم) أي من مواليهم والمسلمين
مما لم يهاجر جاء عنه في رواية أخرى: فلقيت من الحياء ما
لا يعلمه إلاالله، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق
فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بالخندق أجمعين (قالت: هل سألك؟ قلت: نعم) زاد
في رواية فقالت: الله ورسوله أعلم، نحن قد أعلمناه بما
عندنا فكشفت عني غماً شديداً، فيه دليل على وفور عقلها
وكمال فضلها لعلمها
(4/483)
أنه حيث علم بالطعام المدعو له ودعا من
دعاه عليه إنما عليه إنما هو لما يعلمه، لأن الذي أشبع
القوم إنما كان منه من خرق الله تعالى العادات له معجزة
فلذا (قال: ادخلوا) لأن في الحقيقة الدعوة وإنما هي منه،
وما جاء به جابر لا يجدي في أولئك (ولا تضاغطوا) بإعجام
الضاد والغين وإهمال الطاء أي لا
تزاحموا، زاد في رواية البخاري: فأخرجت له عجينتنا فبسق
فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق فيها وبارك (فجعل يكسر
الخبز عليه اللحم) إداماً له ونظيره ما في «الشمائل»
للترمذي عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - أخذ كسرة من خبز الشعير فوضع عليها
تمرة فقال: هذه إدام هذه وأكل. قال بعض الشراح: يؤخذ من
وضعها عليها أنه لا بأس بوضع الأدم على الخبز. قال ابن حجر
الهيثمي: ومحله إن سلم ما لم يقدر بحيث يعافه غيره (ويخمر
البرمة والتنور) أي يغطيهما ويستمر التخمير (حتى إذا أخذ
منه) أي إلى وقت أخذه منه (ويقرب إلى أصحابه) الطعام
المأخوذ (ثم ينزع) أي يأخذ اللحم من البرمة (فلم يزل بكسر)
أي الخبز (ويغرف) أي من البرمة (وبقي منه) أي بعد شبع
القوم بقية وحذف للأبهام على السامع وتعظيماً لقدر الباقي،
ويصح كون «من» فاعلاً بناء على ما جرى عليه في «الكشاف» من
أنها بمعنى بعض فحلت محله: أي وبقي بعضه (فقال: كلي هذا
وأهدي) بقطع الهمزة أمر للمخاطبة، ولعل تخصيصها بالخطاب
دونه أنه أكل مع القوم دونها فكانت مشتغلة بالغرف والخبز،
أو أنها وإن أكلت حينئذ أيضاً إلا أنها لما باشرت تعب ذلك
أكثر منه جعل لها ذلك (فإن الناس أصابهم مجاعة) هذه جملة
مستأنفة لبيان قوله: وأهدي جاء في رواية: فلم نزل نأكل
ونهدي يومنا أجمع. وذكر الفعل لأن المسند إليه تأنيث مجازي
وقد فضل بضمير المفعول فهو نظير قوله تعالى:
{قد جاءكم موعظة} (يونس: 57) وجاء التأنيث في التنزيل
أيضاً قال تعالى: {كذلك أتتك آياتنا} (طه: 126) قال البدر
الدماميني: القوم على رجحان التذكير في ذلك على التأنيث
إظهاراً
(4/484)
لفضل المؤنث الحقيقي على غيره، لكن الذي
يظهر لي أن التأنيث أحسن بدليل أكثريته في الكتاب العزيز
وفشوه فيه جداً، وأكثرية أحد الاستعمالين دليل على
أرجحيته، فينبغي المصير إلى القول بأن الإتيان بالسلامة في
ذلك حسن وأفصح وتركها حسن فصيح اهـ (متفق عليه) أي من حيث
المعنى، وإلا فهو بهذا اللفظ للبخاري في «المغازي» .
(وفي رواية) هي لهما فرواها البخاري عقب الحديث قبله ومسلم
في الأطعمة من «صحيحه» عن سعيد بن مينا (قال جابر لما حفر
الخندق) بالبناء للمفعول (رأيت النبي خمصاً فانكفأت) وعند
البخاري: فانكفيت بتحتية بدل الهمزة (إلى امرأتي) بعد أن
استأذنت النبي كما في الرواية قبله (فقلت: هل عندك شيء) أي
من الطعام والتنوين فيه للتقليل (فإني رأيت) أي أبصرت
(برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصاً شديداً) وصف
الخمص هنا تهييجاً على إظهار ما عندها إن كان كما هو من
عادة النساء من إخفاء بعض المتاع عن الأزواج يعدونه
لشدتهن: أي لا شدة يدخر لمثلها فوق هذا (فأخرجت إلي جراباً
فيه صاع من شعير) الصاع مكيال، وصاع النبيّ الذي بالمدينة
أربعة أمداد وذلك خمسة أرطال وثلث بالبغدادي. وقال أبو
حنيفة: الصاع ثمانية أرطال لأنه الذي يعامل به أهل العراق
ورد بأن الزيادة عرف طار على عرف الشرع وسبب الزيادة ما
ذكر الخطابي أن الحجاج لما ولي العراق كبر الصاع ووسعه على
أهل الأسواق للشعير فجعله ثمانية أرطال قال الخطابي وغيره:
وصاع أهل الحرمين إنما هو خمسة أرطال وثلث، والصاع يذكر
ويؤنث. قال الفراء: أهل الحجاز يؤنثونه وبنو أسد وأهل نجد
يذكرونه وربما أنثه بعض بني أسد. قال الزجاج: التذكير أفصح
عندالعلماء اهـ ملخصاً من «المصباح» والظاهر أن المراد من
الصاع المعروف عند أهل المدينة وهو الصاع الشرعي. و «من»
في قوله من شعير. بيانية للصاع: أي للمكيل به (ولنا بهيمة)
يتشديد التحتية بالتصغير لما تقدم (داجن) أي ملازمة للبيت
لا تفلت للرعي، ومن شأنها أن تكون سمينة (فذبحتها) بضم
التاء للمتكلم (وطحنت الشعير) بكسر تاء التأنيث الساكنة
لالتقاء الساكنين والفاعل ضمير يعود إلى المرأة (
ففرغت إلى) أي مع (فراغي) أي فرغت من الطحن مع فراغي من
ذبح الداجن وسلخها (وقطعتها) كذا في الأصول بتخفيف الطاء
المهملة ولعله لصغر جثتها وإلا فالأنسب بالتكثير التشديد
(في برمتها) متعلق بمحذوف:
(4/485)
أي وألقيتها في برمتها (ثم) كأن الإتيان
بها لتأخره مشتغلاً بإيقاد النار وإصلاحها لسرعة النضج
(وليت) أي انصرفت عنها متوجهاً (إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فقالت: لا تفضحني) بفتح الصاد المعجمة (برسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه) أي لا تكشف عواري
وفاقتي بقلة ما يخرج إليهم المنبىء عن ذلك، أو لا تعبني
بأن أنسب للبخل بذلك، ومرادها الكناية عن تقليل المدعو
إليه لبيان الطعام فيهم (فجئته فساررته) بالمهملة والرائين
وصيغة المبالغة في إخفاء ذلك الأمر وكتمه لئلا يطلع عليه
أحد فيحضر من غير طلب لما بالناس من المجاعة فيقع في
الفضيحة، وفيه جواز المسارة بحضرة الجمع إنما نهى أن
يتناجى اثنان دون الثالث، وقوله: (فقلت: يا رسول الله
ذبحنا) لعل الإتيان فيه بهذا الضمير لأنه شورك في ذبحها
بإمساك الشاة وأخذ الشفرة (بهيمة) بالتصغير (لنا) وأتى
بالظرف لما تقدم في نظيره من قوله طعيم لنا (وطحنت) بضم
الفوقية أي أمرت المرأة بطحن (صاعاً من شعير) فالإسناد
مجازي كقولهم بنى الأمير المدينة (فتعال أنت ونفر) بفتح
أوليه النون والفاء وهو كما في «المصباح» وغيره جماعة
الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال فيما
زاد على عشرة اهـ (معك) أتى به إعلاماً بأنه المقصود أصالة
وغيره بالتبع (فصاح النبي) يحتمل كون الإسناد حقيقاً وهو
المتبادر، لأن الذي وصفه به أنس أنه ليس صخاباً في
الأسواق، والخندق ليس منها، وأيضاً فالأمر دعا هنا إلى رفع
الصوت ليسمع القوم فيجيئوا، ويحتمل أن يكون مجازياً: أي
أمر بذلك فيهم، وعلى الوجهين فهناك مقدر تقديره فقال: (يا
أهل الخندق إن جابراً قد) للتحقيق (صنع سؤراً فحيهلاً)
بفتح الهاء المهملة وتشديد
التحتية والهاء منوناً، وقيل: بلا تنوين: أي أقبلوا مسرعين
(بكم فقال النبي: لا تنزلن) رأيته في أصل مصحح من البخاري
بفتح الفوقية وفتح الزاي مسنداً لقوله: (برمتكم) وفي نسخة
مصححة من الرياض بضم الفوقية واللام، فالفاعل ضمير الجماعة
محذوف لالتقاء الساكنين، لدلالة الضمة عليه. وفيه تغليب
الحاضر على الغائب والمذكر على المؤنث فإن الأمر بذلك له
ولأهله (ولا تخبزنّ عجينكم) وفي نسخة من البخاري بضم
الفوقية
(4/486)
وفي أخرى بتحتية مضمومة بدل الفوقية وفتح
الباء والزاي فيهما مبني للمجهول نائب فاعله ما بعده، وهو
على التحتية بحذف الفوقية من عجينتكم، وفي النسخة المذكورة
بفتح أوله وكسر الموحدة وضم الزاي فالفاعل محذوف، وعجينكم
بحذف الفوقية مفعوله (حتى أجيء) غاية للكف عنهما المدلول
عليه بالنهي عن فعل كل منهما (فجئت وجاء النبي) أعاد
العامل إيماء إلى أن الواو للاعتراض ببيان صفة مجيئه بينه
قوله: (يقدم الناس) إذ هو في محل الحال، قال المصنف: وإنما
فعل هذا لأنه دعاهم فجاءوا تبعاً له كصاحب الطعام إذا دعا
طائفة يمشي أمامهم، وكان في غير هذا الحال لا يتقدمهم ولا
يمكنهم من وطء عقبه وفعله هنا لهذه المصلحة اهـ. والجملة
معترضة بين المغيا وهو مجيئه والغاية وهي قوله: (حتى جئت
امرأتي) أي وأعلمتها بندائه في أهل الخندق (فقالت: بك وبك)
بالموحدة فيهما وفتح الكاف، وتكلمت عليه أولاً لظنها أنه
لم يخبر النبي بالأمر ولم يفصح له عنه فلذا قال: (فقلت: قد
فعلت) لا يخفى ما بين قوله: فقلت وفعلت من الجناس المصحف
الخطي، وفيه إطلاق الفعل على القول ولعله للفرار عن
التكرار المستثقل في السمع: أي قلت: (الذي قلت) بكسر
الفوقية فحينئذ سكن ما بها، وهذا كما تقدم من كمال عقلها
ووفور فضلها (فأخرجت عجينتنا) في «المصباح» : العجين فعيل
بمعنى مفعول (فبصق) بالموحدة والصاد المهملة، قال المصنف:
كذا في أكثر الأصول، وفي بعضها بالسين وهي لغة قليلة
والمشهور
بصق وبزق، وحكى جماعة من أهل اللغة بسق لكنها قليلة اهـ
(فيه بارك فيه) أي دعا بالبركة وهي الخير الكثير الدائم
ودوام كل شيء بحسبه (ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك) أتى
بثم إيماء إلى أن تأخر ذلك منه في الجملة وكأنه لأمر اقتضى
تأخير وصوله لمحل البرمة وحذف متعلق كل من الفعلين إيجازاً
اكتفاء بدلالة الجملة الأولى عليه (ثم قال) لعل تأخير
القول عن البصق والدعاء أنه رأى الحاجة إلى ذلك بعد فأمر
به عند ظهورها (ادع خابزة فلتخبز معك) كذا في الرياض من
غير ياء في ادع، وبالكاف في معك.
قال المصنف في «شرح مسلم» : هذه اللفظة وهي ادعي وقعت في
بعض الأصول هكذا بعين ثم تحتية، وهو الصحيح الظاهر لأنه
خطاب للمرأة، ولهذا قال: فلتخبز معك، وفي بعضها ادعوني،
وفي بعضها ادعني وهما أيضاً صحيحان، وتقديرهما اطلبوا لي
واطلب لي اهـ. والذي في البخاري، وقال: ادع خابزة فلتخبز
معي، ولعله
(4/487)
وقع مباشرة الخبز منه تارة، ومن المرأة
أخرى فطلب في كل معيناً (واقدحي) أي اغرفي (من برمتكم ولا
تنزلوها) فيه تغليب المذكر على المؤنث لشرفه فالخطاب لجابر
والأمر له ولامرأته، وفيه إن لم يكونا أزيد من ذلك إطلاق
الجمع على ما فوق الواحد، وكأن حكمه الإبقاء ستر السرّ
الإلهي بايهام الحاضرين كثرتها فتستمرّ سحائب الفيض
متواترة معجزة له، ولا يقع عليها نظرهم ابتداء فيستقلوها
فيكون بسبب رفع البركة منها أخذاً مما يأتي عن التلمساني
في قصة أبي طلحة (وهم ألف) قال في «الفتح» : أي الذين
أكلوا، وهذه الرواية محكوم بها لزيادة ما فيها على رواية
إنهم كانوا سبعمائة أو ثمانمائة، ورواية أنهم كانوا
ثمانمائة أو ثلثمائة، ورواية أنهم كانوا ثلاثمائة والقصة
متحدة (فأقسم با لأكلوا) أكد بعده مؤكدات دفعاً لاستبعاد
العقل بحسب العادة اكتفاء هذا العدد الكثير بهذا القدر
اليسير من الطعام (حتى تركوه) أي المذكور من خبز العجين
ولحم الشاة (وانحرفوا) أي مالوا عن المنزل جهة مقصدهم (وإن
برمتنا لتغط) بكسر المعجمة وتشديد الطاء المهملة والجملة
حالية، وقوله: (كما هي) مفعول مطلق أي تغط بعد انصرافهم
شباعاً مثل غطيطها قبل الأخذ منها (وإن عجينتنا ليخبز كما
هو) جملة معطوفة على الجملة الحالية، وهذه القصة علمان من
أعلام النبوة: تكثير الطعام القليل، وعلمه بأنّ هذا الطعام
القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر
فيكفي ألفاً وزيادة، فدعا له ألفاً قبل أن يصل إليه وقد
علم أنه صاح شعير وبهيمة والله أعلم (قوله: عرضت كدية هي)
في رواية الإسماعيلي (بضم
الكاف وإسكان الدال) المهملة (وبالمثناة تحت، وهي قطعة
غليظة صلبة) بضم الصاد المهملة: أي شديدة قوية (من الأرض)
مثله في «المصباح» وفي «فتح الباري» هي القطعة الصلبة
الصماء وقوله: (لا يعمل فيها الفأس) بيان لتلك، لا أنه
داخل في مفهوم الكدية كما تقدم عن «المصباح» وغيره، وعند
أبي ذرّ أحد رواه البخاري أيضاً كيدة بفتح الكاف وسكون
التحتية، قيل: هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض، وقال
عياض: كأن المراد بها واحدة الكيد، كأنهم أرادوا أن الكيد
وهو الحيلة أعجزهم، فلجئوا إلى النبيّ. وعن ابن السكن:
كتدة بفوقية بدل
(4/488)
التحتية. قال عياض: لا أعلم لها معنى
(والكثيب) بوزن قريب بمثلثة وتحتية فموحدة (أصله تل الرمل
والمراد هنا صارت) هذا تفسير عادت فإنه يأتي كذلك. ومنه
قول الكفرة لشعيب
{أو لتعودنّ في ملتنا} (الأعراف: 88) فإن الأنبياء معصومون
من الكفر قبل النبوة وبعدها قولاً واحداً، ويأتي عاد بمعنى
رجوع الشيء لما كان عليه، وقد حمل بعضهم عليه الآية وقال:
إنه باعتبار تغليب قومه لكثرتهم عليه وهي هنا في الخبر لم
يكن رملاً ثم انعقدت كدية بل الكدية أصلها فصارت بضربه
معجز له (تراباً ناعماً) يسيل ولا يتماسك قال تعالى:
{وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} (المزمل: 18) أي رملاً
سائلاً (وهو معنى أهيل) والاقتصار على أهيل الذي جرى عليه
الشيخ هو ما في رواية الإسماعيلي، وكذا عند أحمد «كثيباً
يهال» وفي رواية للبخاري كما تقدم «أهيل» أو «أهيم» بالشك
(والأثافي) تقدم ضبطه (الأحجار التي تكون عليها القدر) قال
في «النهاية» : هي جمع أثفية وقد تخفف الياء في الجمع
يقال: أثفيت القدر إذا جعلت لها الأثافي، وثفيّتها: إذا
وضعتها عليها، والهمزة فيه زائدة اهـ (وتضاغطوا) بتخفيف
الضاد المعجمة على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفاً وبتشديدها
على الإدغام (تزاحموا) بالوجهين، قال في «المصباح» : ضغطه
ضغطاً من باب نفع: دفعه إلى حائط أو غيره (والمجاعة الجوع)
فهي مصدر ميمي (وهي بفتح الميم) وتخفيف الجيم، قال في
«النهاية» : مفعلة من الجوع، وفي «المصباح» إنها اسم مصدر
كالجوع بضم الجيم المشترك بينه وبين مصدر جاع (والخمص بفتح
الخاء المعجمة والميم) مثله في «شرح مسلم» لكن في «فتح
الباري» وقد تسكن الميم (الجوع) في «الفتح» وهو ضمور البطن
ولا منافاة فبأحدهما يلزم الآخر (وانكفأت) أي بالهمزة في
رواية مسلم، قال المصنف: ووقع في نسخ فانكفيت وهو خلاف
المعروف في اللغة، بل الصواب انكفأت بالهمزة اهـ. وتقدم
أنه بالياء عند البخاري وتوجيهه كما في «الفتح» كأنه سهل
الهمزة وقلبها ياء (انقلبت ورجعت. والبهيمة بضم الباء)
الموحدة وتشديد التحتية (تصغير بهمة) بفتح الموحدة وسكون
الهاء، قال في «المصباح» : ولد الضأن تطلق على الذكر
والأنثى وجمعها
بهم كتمرة وتمر، وجمع البهم بهام كسهم
(4/489)
وسهام، ويطلق البهام على أولاد الضأن
والمعز إذا اجتمعت تغليباً، فإذا انفردت قيل: لأولاد الضأن
بهام لأولاد المعز سخال. وقال ابن فارس: إليهم صغار الغنم.
وقال أبو زيد يقال لأولاد الغنم سائمة تضعها الضأن والمعز
ذكراً كان الولد أو أنثى سخلة ثم هي بهيمة
وجمعها بهم اهـ (وهي) أي المراد منها كما جاء التصريح به
في الروايات السابقة عن جابر في الحديث السابق (العناق
بفتح العين) المهملة وتخفيف النون آخره قاف قال في
«المصباح» : هي الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول
اهـ، والمراد ما قاربها ليحصل به قرى الضيف (والداجن)
بالدال المهملة والجيم والنون (هي التي ألفت البيوت) ولم
تفلت للمرعى وذلك للاعتناء بها المنبىء عن كرمها وسمنها
(والسؤر) بضم السين المهملة وإسكان الواو مهموز (الطعام
الذي يدعى الناس إليه) قال في «شرح مسلم» وقيل: الطعام
مطلقاً (وهو بالفارسية) مثله في «شرح مسلم» ، وخالفه
الحافظ في «الفتح» فقال: وسكون الواو بغير همز، أما بالهمز
فهو البقية قلت: ويؤيده أنه ذكره في «النهاية» في مادة
السين والواو بغير همز، واقتصر على أنه الطعام المدعو
إليه. قال في «الفتح» وهو هنا الصنيع بالحبشة. وقيل: العرس
بالفارسية، ويطلق على البناء الذي يحيط بالمدينة اهـ.
ويؤخذ منه أن إطلاقه على الطعام المذكور مجار مرسل، إذ هو
بالفارسية العرس الملازم له عادة فأطلق اللازم وأريد
الملزوم (وحيهلاً) بتنوين هلا. وقيل: بلا تنوين. ويقال:
حيهل (أي تعالوا) وقال في «الفتح» : هي كلمة استدعاء فيها
حث: أي هلموا مسرعين وهذا تفسير مراد. وأما معناه ففي «شرح
مسلم» للمصنف: قيل عليك بكذا أو دع بكذا، هكذا قاله أبو
عبيد وغيره، وقيل: معناه أعجل به وقال الهروي: معناه هات
وعجل به اهـ. وفي «النهاية» هي كلمتان جعلتا كلمة واحدة
فحي معناه أقبل، وهلا أسرع. وقال ابن عيش في «شرح
المفصل» : هو من أسماء الأفعال مركب من حي وهل، وهما صوتان
معناهما الحثّ والاستعجال وجمع بينهما وسمي به للمبالغة،
وكان الوجه ألا ينصرف كحضرموت وبعلبك إلا أنه وقع موقع فعل
الأمر فبنى كصه ومه وفيه لغات، وتارة يستعمل حيّ وحده نحو
حيّ على الصلاة وتارة هلا وحدها، واستعمال حي وحده أكثر من
استعمال هلا وحده اهـ. وقال صاحب «البسيط» : فيه سبع لغات
حيهل بفتح الياء المشددة والهاء كخمسة عشر، وحيهلا
بالتنوين لإرداة التنكير، وحيهلا بالألف من غير تنوين،
وحيهلا بإسكانها مع التنوين وإيكان الهاء كراهة لاجتماع
الحركات، وجاء
(4/490)
متعدياً بنفسه كحيهلا الثريد: أي ائته أو
أحضره وقربه وبالباء كحيهلا بعمرو: أي ائت به وبإلى كحيهلا
إلى كذا: أي سارع وبادر إليه وبعلى كحيهلا على كذا: أي
أقبل عليه. كذا في مرقاة الصعود للسيوطي، ويؤخذ منه تفسير
المتعدي بالباء بائت به أن معنى قوله كحيهلا بكم: أي
أقبلوا بأنفسكم (وقولها: بك وبك) بالموحدة وفتح الكاف
فيهما (أي خاصمته وسبته) قال في «شرح مسلم» : أي ذمته ودعت
عليه. وقيل: معناه: بك تلحق الفضيحة وبك يتعلق الدم، وقيل:
معناه: جرى هذا برأيك وسوء نظرك وبسببك (لأنها اعتقدت أن
الذي عندها لا يكفيهم) وأن جابراً لم يخبر النبيّ بقدره
فاستحيت وخفي عليها ما أكرم الله سبحانه وتعالى به نبيه من
هذه المعجزة الظاهرة والآية العلامة الدالة على نبوّته
(الباهرة) من بهرت الشمس غلب نورها على كل ذي نور إذ كفى
بهذا الطعام اليسير ذلك العدد الكثير، ولا تخالف بين ما في
هذه الرواية من كونها ثالت له ما ذكر من السبّ وما تقدم في
الرواية قبلها من أن رفع جابر إنما كان بقولها: هل هن كان
سألك الخ، لما في «الفتح» للحافظ من الجمع بينهما بأنها
أوصته أو لا ألا يعلمه بالصورة فلما قال لها: إنه جاء
بالجميع ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه
سكن ماعندها لعلمها بإمكان خرق العادة.l
ثم اختلف العلماء فيما في
القصة من اكتفاء ذلك الجمع بذلك النزر اليسير هل مع بقاء
الطعام على قلته، ولكن ببركته أجرى الطعام القليل مجرى
الكثير، فيكفي كفايته وتوقف الشبع على كثرة المأكول أمر
عادي، وأن الله زاد فيه وكثره، ويعبر عن القول الأول
بتكثير الموجود، وعن الثاني بإيجاد المعدوم، والثاني أقرب
(بسق) بالسين المهملة، وفي «المصباح» : أن السين بدل من
الصاد، قال: ومنعه بعضهم وقال: لا يقال بسق بالسين إلا
لزيادة الطول كالنخلة وغيرها وعزاه إلى الخليل (ويقال) له:
(أيضاً بزق) بالزاي بدل الصاد (ثلاث لغات) وهذا لا يخالف
ما ذكر في «المصباح» من أن الأصل الصاد وأن السين والزاي
بدلان منها (وعمد بفتح الميم) من باب ضرب كما في «المصباح»
أي قصد (واقدحي) بوصل الهمزة وفتح الدال المهملة (أي اغرفي
والمقدحة) بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه ورابعه
المهملين (المغرفة) بالغين المعجمة والفاء ووزن ما قبله
(4/491)
وهما اسما آلة (وتغط) تقدم ضبطها (أي
لغليانها صوت) وذلك كناية عن كثرة ما فيها إذ القليل يضعف
غليانه عن رفع الصوت، (والله أعلم) .
30 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة) زيد بن سهل
الأنصاري (لأم سليم) بضم السين المهملة زوج أبي طلحة وأم
أنس، وما في «وسيط الغزالي» تبعاً لشيخه الصيدلاني ومحمد
ابن يحيى صاحب «البحر» من أنها جدة أنس فغلط اتفاقاً، قاله
المصنف في «التهذيب» . واختلف في اسمها فقيل: سهلة، وقيل:
رميلة، وقيل: أنيفة، وقيل: رميثة، وقيل: الرميصاء وهي بنت
ملحان بكسر الميم ويقال: بفتحها الأنصارية (قد سمعت صوت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفاً) حال وهو مراد
الإخبار، ويحتمل أن يكون ضمن معنى فعل قلبي، فعمل عمله من
نصب المفعولين، وإلا فسمع في مثله لا ينصب إلا واحداً
اتفاقاً، وقوله: (أعرف فيه الجوع) في محل الصفة لما قبله
وأتى به تأكيداً أو دفعاً لتوهم أنه لم يعرف ذلك منه بل
توهمه (فهل عندك من شيء) من مزيدة في المبتدأ لغرض التنصيص
على التعميم واستغراق أفراد ما يطلق عليه شيء: أي يطعم
بقرينة المقام، وتقدمت حكمة الإتيان بهذا مع الإخبار
بالواقع في ثاني حديثي قصة جابر (فقالت: نعم) أي عندي شيء
(فأخرجت أقراصاً من شعير) أي بادرت إلى إخراجها لأن الحال
تأبى عن التأخير، قال في «فتح الباري» عند أبي يعلى عن
أنس: إن أبا طلحة بلغة أنه ليس عند رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - طعام، فذهب فأجبر نفسه بصاع من شعير فعمل بقية
يومه ثم جاء به، الحديث (ثم أخذت خماراً) بكسر الخاء
المعجمة: ثوب تغطي به المرأة رأسها ووصفه بقوله: (لها فلفت
الخبز ببعضه ثم دسته) بفتح الدال وتشديد السين المهملتين.
قال في «فتح الباري» : يقال: دسّ الشيء يدسه دساً: أدخله
في الشيء بقهر وقوة اهـ: أي أدخلته (تحت ثوبي وردتني
ببعضه) والمراد أنها لفت الخبز ببعض الخمار ولفت أنساً
بباقيه (ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فذهبت فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً)
مفعول ثان كقوله تعالى: {تجدوه
(4/492)
عند اهو خيراً} (المزمل: 20) فوجد فيه من
أفعال القلوب
يدل على العلم لأن من وجد شيئاً بحال علمه عليها وقوله:
(في المسجد) متعلق بثاني المفعولين ويصح تعلقه بوجدت،
وكونه حالاً من فاعله أو من رسولالله، ويقربه قوله: (ومعه
الناس) فإنها جملة حالية، ويجوز كونها معطوفة على ثاني
المفعولين (فقال رسول الله) في البخاري: «فقال لي» (أرسلك
أبو طلحة) بالهمزة مقدرة حذفت. وقال الحافظ في «الفتح» :
إنه بهمزة ممدودة للاستفهام (فقلت: نعم. قال: ألطعام)
يحتمل نصبه بنزع الخافض أي يدعو إلى الطعام، ويؤيده قوله
في رواية البخاري: «قال: بطعام» ، ويحتمل أن يكون مفعول
جعل مقدراً وأل في الطعام جنسية (فقلت: نعم) قال الحافظ:
ظاهر هذا أن النبيّ فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله،
فلذا قال لمن عنده قوموا، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم
وأما طلحة أرسلا الخبز مع أنس، فيجمع بأنهما أرادا بإرسال
الخبز مع أنس أن يأخذه النبي وحده خشية أن لا يكفيهم
فيأكله فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حوله استحيا وظهر له
أن يدعو النبي ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من
إطعامه، ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله، عهد إليه إذا
رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي وحده خشية ألا يكفيهم
أجمعين ذلك الطعام ومن عادته ألا يؤثر نفسه على أصحابه
بمثل ذلك فلذا دعاهم (فقال رسول الله: قوموا فانطلقوا
فانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة) قال في «الفتح» :
جاء في رواية زيادة: «وأنا حزين لكثرة من جاء معه»
(فأخبرته) أي بمجيئه ومجيء من معه وحذف ذلك إيجازاً لدلالة
ما قبله عليه (فقال أبو طلحة: يا أم سليم) فيه إكرام الرجل
زوجه ونداؤها بالكنية (قد) للتحقيق ويحتمل كونها للتقريب
(جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس) هو وإن كان
من صيغ العموم لكونه اسم جنس محلى بأل إلا أن المراد هنا
العموم العرفي: أي الحاضرين مجلسه حينئذ فهذا عام أريد به
خاص فهو مجاز قرينته الحال. وفي رواية والناس بالواو بدل
الموحدة والمآل واحد لأن
المعنى: الناس معه لكونه الجائي بهم والداعي لهم وجملة
(وليس عندنا ما يطعمهم) حالية من فاعل جاء: أي
(4/493)
يطعمهم بقدر كفايتهم (فقالت: الله ورسوله
أعلم) كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمداً لتظهر له الكرامة في
تكثير الطعام ودل ذلك على فطنة أم سليم ورجحان عقلها، قال
الحافظ بعد ذكر روايات: فيها ملاقاة أبي طلحة للنبيّ
وإخباره بقلة الطعام الذي عنده، وفي رواية يعقوب: «قال أبو
طلحة إنما أرسلت أنساً يدعوك وحدك ولم يكن عندنا ما يسع من
أرى فقال: ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك» وفي رواية أنس:
«فدخلت على أم سليم وأنا مندهش» ، وفي أخرى: «أن أبا طلحة
قال: يا أنس فضحتنا» ، وللطبراني في «الأوسط» : «فجعل
يرميني بالحجارة» (فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فأقبل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - معه حتى دخلا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- هلمي) قال الحافظ: كذا لأبي ذرّ عند الكشميهني ولغيره
هلم، وهي لغة حجازية هلم عندهم اسم فعل لا يؤنث ولا يثنى
ولا يجمع، ومنه قوله تعالى:
{هلم شهداءكم} (الأنعام: 150) وهي لطلب ما بعدها: أي احضري
(ما عندك يا أم سليم، فأنت بذلك الخبز فأمر به رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ففت) بالبناء للمجهول (وعصرت عليه)
أي على المفتوت المدلول عليه بالفعل قبله أو على الخبز
والأول أقرب لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ما لم يصرف
صارف لكن ما يأتي في الكلام على قوله: «ثم قال فيه ما شاء
الله أن يقول» يؤيد الأول، إلا أن يقال: عصرها عليه بعد
الفت زيادة في التطرية وعصره قبله ليلين وينكسر فيه كما
يريد والله أعلم (أم سليم عكة) بضم العين المهملة وتشديد
الكاف، قال في «النهاية» : هي وعاء من جلد مستدير مختص
بالسمن والعسل وهو بالسمن أخص ومثله في «الفتح» (فآدمته)
بمد الهمزة وتخفيف الدال المهملة: أي صيرت الخارج منها
إداماً له (ثم قال فيه) أي عليه (رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ما شاء الله أن يقول) فقال أبو طلحة: «قد كان
في العكة شيء فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به ثيابه، ثم مسح القرص
فانتفخ وقال: بسمالله، فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى
رأيت القرص في الجفنة يتسع» ، وفي رواية: «فمسحها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ودعها فيها بالبركة» ، وفي
رواية: «فجئت بها ففتح رباطها ثم قال: بسم الله اللهم أعظم
فيها البركة» قال الحافظ بعد ذكر ذلك وتعيين راوي كل رواية
منها: وعرف بهذا المراد بقوله: «ما شاء الله أن يقول» (ثم
قال: ائذن لعشرة فأذن) بالبناء للفاعل:
(4/494)
أي المخاطب بذلك الأمر منه من أنس وأبي
طلحة، ويحتمل أنه مبني للمفعول (لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم
خرجوا ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم
قال: ائذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم) قال في «الفتح» :
ظاهر هذه العبارة أن النبيّ دخل منزل أبي طلحة وحده، وبه
صرح في رواية لابن أبي ليلى ولفظها «فلما انتهى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - إلى الباب فقال لهم: اقعدوا ودخل»
قال في
«الفتح» : وسئلت في مجلس الإملاء عن حكمة تبعيضهم، فقلت:
يحتمل أن يكون عرف أن الطعام قليل وفي صحفة واحدة فلا
يتصوّر تحلق ذلك العدد الكثير، فقيل: لم لا دخل الكل وبعّض
ما لم يسعه التحليق فكان أبلغ في اشتراك الجميع في الاطلاع
على المعجزة بخلاف التبعيض، فإنه يطرقه احتمال تكرر وضع
الطعام لصغر الصحفة؟ فقلت: يحتمل أن يكون ذلك لضيق الوقت
والله أعلم اهـ. وقال التلمساني في حاشية «الشفاء» : وقيل:
حكمة ذلك العدد لئلا يقع نظر الكل على الطعام القليل
فيزداد حرصهم ويظنون أنه لا يشبعهم فتذهب بركته، وقوله:
«كلهم» توكيد أتى به للشمول وألا يتوهم أن المراد أكل
المعظم (وشبعوا) أي ليس أكلاً بقدر ما يسد الرمق ويقيم
البنية بل إلى حد الشبع، ولا ينافيه النهي عن الشبع لأنه
فيمن أدمن عليه واعتاده، وأما نادراً كما في هذا فلا،
وأيضاً فما هنا من قبيل خروجه للمطر، قوله فيه: إنه حديث
عهد بربه: أي بتكوينه، ومن قبيل حثو أيوب عليه السلام ما
تساقط عليه من جراد الذهب فقال الله له: ألم يكن فيما
أعطيتك غنى عن هذا؟ قال: بلى، ولكن هذا فضلك ولا غنى بنا
عن فضلك، والحديث في «الصحيح» (والقوم سبعون رجلاً أو
ثمانون) رجلاً قال في «الفتح» : كذا في هذه بالشك، وفي
غيرها الجزم بالثمانين: أي كما يأتي في الرواية بعد، بل في
أخرى أكل منه بضعة وثمانون رجلاً (متفق عليه) رواه البخاري
في باب علامات النبوّة بطوله وفي الصلاة مختصراً وفي
الأطعمة وغيرها، رواه مسلم في الإيمان، ورواه الترمذي في
المناقب وقال: حسن صحيح، والنسائي في الوليمة كذا في
«الأطرف» للمزي.
(وفي رواية فما زال) أي النبيّ (يدخل عشرة ويخرج عشرة) أي
يأمر بذلك فإسنادهما إليه مجازي بدليل الرواية السابقة
(حتى لم يبق منهم أحد إلا أدخل فأكل حتى شبع ثم هيأها) أي
جمعها بعد تمامهم أجمعين: أي وبعد أكله وأهل المنزل منه،
ويحتمل كونه ذلك قبل هذا (فإذا هي) أي
(4/495)
الصحفة باعتبار ما فيها من الطعام (مثلها)
على حالتها من قدر الطعام فيها حال وضعه قبل تناول أحد منه
وهو مراده بقوله: (حين أكلوا منها) وإذا للمفاجأة والجملة
الإسمية بعدها مضاف إليها والمعنى: فاجأهم هذا الأمر
الخارق للعادة معجزة له، وذلك مساواتها بعد الشبع الثمانين
منها لها قبل وضعهم اليد فيها، وفي رواية لمسلم «ثم أخذ ما
بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان فقال: دونكم
هذا» .
(وفي رواية لمسلم) من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى
الأنصاري عن أنس (فأكلوا) الواو فيه ضمير يعود إلى الصحابة
المذكورين في الخبر وقوله: (عشرة عشرة) حال بمعنى مرتبين
كذلك، وكان حق الإعراب فيهما أن يكون في أحدهما لكن لما
قبله كلاهما كان تخصيص أحدهما به ترجيحاً بلا مرجع، فجرى
الإعراب فيهما (حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً، ثم أكل النبيّ
بعد ذلك، وأهل البيت) قال المصنف: فيه إنه يستحبّ لصاحب
الطعام وأهله أن يكون أكلهم بعد فراغ الضيفان (وتركوا
سؤراً) تقدم ضبطه ومعناه في حديث جابر المذكور آنفاً. ففي
الحديث علم من أعلام نبوته من كفاية هذا القدر اليسير من
الطعام ذلك العدد الكثير من الأنام.
(وفي رواية) هي لمسلم أيضاً في الأطعمة من حديث عبد الله
بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس (ثم أفضلوا) أي أبقوا (ما
بلغوا جيرانهم) وفي رواية: «فضلت فضلة فأهدينا لجيراننا» .
وفي رواية عن أنس: حتى أهدت أم سليم لجيرانها ثم «ما»
يحتمل كونها موصولة أو نكرة موصوفة عائدها ضمير مجرور
محذوف: أي ما وصلوا به جيرانهم، ويحتمل كون العائد ضميراً
منصوباً: أي ما أوصلوه جيرانهم. والجيران بكسر الجيم وسكون
التحتية جمع جار (وفي رواية) لمسلم عن يعقوب بن عبد الله
بن طلحة الأنصاري (عن أنس) بطريق السماع منه كما صرح به
مسلم (قال: جئت رسول الله) أي للقيام بشيء من الخدم لأنه
كان خادمه (فوجدته جالساً) يحتمل كونه في المسجد كما وجده
فيه في القصة، قيل: وقد صرح بذلك في رواية عنه عند مسلم
قال: «جئت النبي فوجدته جالساً في المسجد يتقلب ظهراً
لبطن» ثم ساق الحديث، ويحتمل كونه في غيره (مع أصحابه وقد
عصب) قال المصنف: بالتخفيف والتشديد بمعنى: أي ربط (بطنه
بعصابة) قال مسلم قال أسامة: وأنا أشك على حجر وفعله ذلك
ليسكن به مغص المعدة فيضعف عنه ألمها، كما تقدم في حديث
(4/496)
جابر في حكمة شدّ الحجر على بطنه. وقوله:
عصب الخ جملة حالية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أو من ضميرة، وهو لا يخالف قوله في الرواية السابقة يتقلب
ظهراً لبطن كما قال المصنف، بل أحدهما يبين الآخر: أين كان
كلا الأمرين، فذكر في كل من الروايتين أحدهما وترك الآخر
سهواً أو لغيره (فقلت: لبعض أصحابه لما عصب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بطنه؟ فقالوا: من) من فيه تعليلية
لأنها ذكرت لبيان ما سأل عنه أنس من علة الربط: أي لأجل
(الجوع) وبسببه كقوله: «مما خطاياهم أغرقوا» (فذهبت إلى
أبي طلحة وهو زوج أم سليم بنت ملحان) هذه جملة معترضة بين
المتعاطفين أتي بها لبيان وجه مجيئه إليه وقوله: (فقلت: يا
أبتاه) هو زوج أمه وسماه أبا تأدباً وألحق بآخره الهاء
الساكنة للوقف عليها والجملة معطوفة على جملة ذهب (قد رأيت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصب بطنه) يحتمل أن تكون
رأى علمية فتكون الجملة في محل الثاني وأن تكون بصرية،
فتكون الجملة في محل الحال بتقدير
قد، وعلى الثاني فالمراد أنه رأى في محل العصب من بطنه ما
ليس بعورة مما كان يبدو منه في خلوته وبين خواص أصحابه
وقوله: (فسألت بعض أصحابه فقالوا: من الجوع) أتى به لدفع
توهم أن عصب البطن كان من دأبه إنما كان من الجوع، فلذا
ذكره له ليبادر إلى السعي في رفعه والإسراع في دفعه (فدخل
أبو طلحة على أمي فقال: هل من شيء) من فيه مزيدة لتنصيص
العموم والمراد منه ما ينتفع به من الأقوات بقرينة المقام
فهو عام أريد به خاص كما تقدم في نظيره، ومجرورها مبتدأ
خبره محذوف: أي عندك (فقالت: نعم) ثم بينت ما عندها بقوله:
(عندي كسر) بكسر ففتح جمع كسرة بكسر فسكون: القطعة (من
الخبز وتمرات) ظاهره أنها كانت قليلة بخلاف الكسر، ويحتمل
أنها تجوزت باستعمال جمع القلة في جمع الكثرة كما وقع عكسه
في قوله تعالى: {ثلاثة قروء} (البقرة: 228) (فإن جاءنا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده أشبعناه) أي لأن
بها يحصل الشبع عادة (وإن جاء أحد معه قل عنهم)
(4/497)
أي بحسب العادة (وذكر تمام الحديث) قال
المصنف: في الحديث ما كان عليه الصحابة من الاعتناء بأحوال
رسول الله، وفيه منقبة لأم سليم ودلالة على فقهها ورجحان
عقلها لقولها: الله ورسوله أعلم معناه: أنه قد عرف الطعام
فهو أعلم بالمصلحة اهـ. وفيه ضيق حال القوم حينئذ، وفيه
إجزاؤهم بالقوت وترك ما زاد عليه من شهوة النفس وحظها،
والله أعلم.
57 - باب القناعة
هي كما في «الصحاح» في «الفتح» : الرضا بالقسم (والعفاف
والاقتصاد) افتعال من القصد وهو ما بين الإسراف والتقتير
(في المعيشة والإنفاق) وإخراج المال الطيب في الطاعة
والمباحات: أي التوسط فيها كما قال تعالى: {ولا تجعل يدك
مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: 29) (وذمّ
السؤال) حذف معموله ليعم سائر المسؤول من مال وطعام
وغيرهما (من غير ضرورة) إليه قال: «من حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه» أفاد بمفهومه ذم الاشتغال بضده.
(قال الله تعالى) : ( {وما من} ) صلة للتنصيص على العموم (
{دابة في الأرض} ) قال ابن عطية: الدابة ما دبّ من
الحيوان، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ودخل
فيه الطير والقائم من حيوان. وفي حديث أبي عبيدة: فإذا
دابة مثل الظرب، يريد من حيوان البحر، وتخصيصه بقوله في
الأرض لكونه أقرب لحسهم، والطائر والقائم إنما هو في الأرض
وما مات من الحيوان قبل أن يغتذي فقد اغتذى في بطن أمه (
{إلا على الله رزقها} ) إيجاب تفضل لأنه تعالى لا يجب عليه
شيء عقلاً. قال البيضاوي: وأتى به تخفيفاً للوصول، وحملاً
على التوكل فيه.
(وقال تعالى) ( {للفقراء} ) أي الصدقات لهم، وهم الأولى
والأحق بها وإن جاز صرفها لغيرهم كما يؤخذ من الآية التي
قبلها في التلاوة ( {الذين أحصروا في سبيل ا} ) حبسوا
أنفسهم في الجهاد. وقيل معناه: حاسبوا أنفسهم بربقة
الإسلام
(4/498)
وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم
الكفرة، فصار خوف العدو عذراً أحصروا به. قيل: المراد بهم
فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، وقيل: أصحاب الصفة
المنقطعين بكليتهم إلى الله تعالى. قال ابن عطية: يتناول
كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر، وقوله: في سبيل
الله يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام ( {لا
يستطيعون ضرباً في الأرض} ) ذهاباً بالتجارة فيها
لاشتغالهم بالجهاد وبا أو لغلبة الكفرة في البلاد (
{يحسبهم الجاهل} ) بحالهم ( {أغنياء من التعفف} ) من أجل
تعففهم عن السؤال ( {تعرفهم بسيماهم} ) من التخشع وأثر
الجهد والضيق، وقيل: أثر السجود. قال ابن عطية: وهذا أحسن
لأنهم متفرغون متوكلون لا شغل لهم غالباً سوى الصلاة فكان
أثر السجود عليهم أبداً ( {لا يسألون الناس إلحافاً} ) أي
إلحاحاً والآية تحتمل نفي السؤال عنهم جملة فيكون من نفي
المقيد وهذا ما عليه الجمهور، ويحتمل أن سؤالهم: أي إن
سألوا عن مزيد الحاجة لا يلحون: أي لا يظهر لهم سؤال بل هو
قليل، وباحتماله فيكون النفي للقيد، وهذا هو الأكثر في
النفي المتوجه إلى كلام مقيد كما قاله السفاقسي. قال
الثعالبي: بعيد من ألفاظ الآية فتأمله، وينبغي للفقير أن
يتعفف في فقره ويكتفي بعلم ربه. قال العارف با ابن أبي
جمرة: وقال أهل التوفيق من لم يرض باليسير فهو أسير. ومن
كلام عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: استغن عمن شئت
تكن نظيره، وتفضل على من شئت تكون أميره، واحتج إلى من شئت
تكن أسيره.
قال ابن عطية: في الآية تنبيه على سوء حال من يسأل الناس
إلحافاً.
(وقال تعالى) : ( {والذين إذا أنفقوا} ) أي من الطاعات
لأنهم محفوظون من غيرها كما قال ابن عطية ( {لم يسرفوا} )
أي لم يفرطوا حتى يضيعوا حقاً ناجزاً أو عيالاً أو نحوه (
{ولم يقتروا} ) أي لم يفرطوا في الشحّ ( {وكان بين ذلك
قواماً} ) وسطاً وعدلاً، سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي
سواء لاستوائهما، والقوام في حق كل بحسب عياله وخفة ظهره
وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور
أوساطها، وقواماً خبر ثان أو حال مؤكدة، ويجوز أن يكون
الخبر و «بين» : ظرف لغو، وقيل: إنه اسم كان، بني لإضافته
لغير متمكن، وضعف بأنه بمعنى
(4/499)
القوام فيكون كالإخبار عن الشيء بنفسه.
(وقال تعالى) : ( {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} )
أي إلا لأجلها، فإنهم خلقوا بحيث تتأتى منهم العبادة وهدوا
إليها، فهذه غاية كمالية لخلقهم، وتعرى البعض عن الوصال
إليها لا يمكن كون الغاية غاية، وأما قوله تعالى: {ذرأنا
لجهنم} (الأعراف: 179) فلام العاقبة نحو «لدوا للموت» أو
إلا لنأمرهم، أو ليقروا بي طوعاً أو كرهاً، أو المراد منهم
المؤمنون ( {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} ) أي
يطعموني: أي ليس شأني معهم كشأن السادة مع العبيد، وقيل:
أن يرزقوا أنفسهم أو أحداً من خلقي، وأسند الإطعام إلى
نفسه لأن الخلق عيال الله وإطعام العيال علىالله، وفي
الحديث القدسي: «استطعمت فلم تطعمني» .
(وأما الأحاديث) الدالة على ما ذكر في «الترجمة» (فتقدم
معظمها) أي أكثرها (في البابين السابقين) قيل: فإن
أحاديثهما القناعة من الصحابة والاقتصاد وترك السؤال
والصبر على مضض الفقر (ومما لم يتقدم) أي بعضه وإلا
فاستعيب جميع ما لم يذكر فيهما مما ورد في الباب قد يشق.
1 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ليس الغنى)
أي الممدوح في الشرع المرضي عند الله سبحانه المعدّ لثواب
الآخرة أو النافع أو العظيم وهو بكسر أوله المعجم مقصوراً،
وقد مد في ضرورة الشعر (عن كثرة العرض) عن فيه سببية
(ولكنّ) بتشديد النون فيما وقفت عليه من نسخ الرياض
والاستدراك لدفع توهم كثرة العرض ينافي الغني المحمود
فدفعه بقوله ولكن (الغني غني النفس) قال ابن بطال: معنى
الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال، فكثير من الموسع عليه
فيه لا ينتفع بما أوتي، جاهد في الازدياد لا يبالي من أين
يأتيه. فكأنه فقير من شدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى
النفس، وهو من
(4/500)
استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على
الازدياد ولا ألحّ في الطلب. وقال القرطبي: وإنما كان
الممدوح غنى النفس لأنها حينئذ تكفّ عن المطامع فتعزّ
وتعظم، ويحصل لها من الحظوة والشرف والمدح أكثر من الغنى
الذي يناله مع كونه فقير النفس لحرصه، فإنه يورّطه في
رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله وحرصه،
فيكثر من يذمه من الناس فيصغر قدره عندهم فيصير أحقر من كل
حقير وأذلّ من كل ذليل.
والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعاً بما قسم الله له
لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلحّ في الطلب، بل
يرضى بما قسم له، فكأنه واجداً أبداً، والمتصف بفقر النفس
على الضد منه، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله
تعالى والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عنده سبحانه خير
وأبقى، فهو يعرض عن الحرص والطلب. وقال الطيبي: يمكن أن
يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلية، قال الشاعر:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي وهو تحصيل
الكمالات لا في جمع المال فإنه لا يزداد به إلا فقراً اهـ.
قيل: وهذا وإن أمكن إلا أن ما قبله أظهر في المراد. قلت:
وعليه فيمكن أن يحمل قوله: ليس الغنى على الدوام: أي ليس
الغنى الدائم عن كثرة المال فإنه عرضة للزوال إنما هو
بالكمال النفساني وما أحسن ما قيل:
رضينا قسمة الجبار فينا
لنا علم وللأعداء مال
فإن المال يفنى عن قريب
وإن العلم كنز لا يزال
وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في
جميع أمره، فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكر
على نعمائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى النفس عن غير
ربه، والغنى الوارد في قوله تعالى: {ووجدك عائلاً فأغنى}
(الضحى: 8) ينزل على غنى النفس، فإن الآية مكية، ولا يخفى
ما كان فيه قبل أن يفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال
(متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه، كذا في
«الجامع الصغير» (العرض بفتح العين والراء) المهملتين
والضاد المعجمة (هو المال) في «المصباح» : هو متاع الدنيا
قال: وهو في
(4/501)
اصطلاح المتكلمين ما لا يقوم بنفسه ولا
يوجد إلا في محل يقوم به، وهو خلاف الجوهر، والعرض
بالسكون: المتاع، قالوا: والدراهم والدنانير عين وما
سواهما عرض، وجمعه عروض كفلس وفلوس. وقال أبو عبيد: العرض
أي بالسكون: الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن ولا يكون
حيواناً ولا عقاراً اهـ. وقال ابن فارس: العرض بالسكون: كل
ما كان من المال غير نقد.
2 - (وعن عبد الله بن عمرو) بن العاص (رضي الله عنهما أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قد) للتحقيق (أفلح)
أي فاز وظفر (من أسلم) لنجاته من النار ودخوله الجنة قال
تعالى: {فمن زحوح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} (آل
عمران: 185) (ورزق كفافاً) في الزكاة من «الترغيب
والترهيب» للحافظ المنذري: الكفاف ما كفّ عن السؤال مع
القناعة لا يزيد على قدر الحاجة، وفيه الزهد: الكفاف الذي
ليس فيه فضل عن الكفاية. روى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب
الثواب عن سعيد بن عبد العزيز أنه سئل: ما الكفاف من
الرزق؟ فقال: شبع يوم وجوع يوم اهـ. وقال القرطبي: هو ما
لم يكف عن الحاجات ويدفع الضرورات والفاقات ولا يحلق بأهل
الترفهات اهـ. وإنما كان ذلك فلاحاً لكونه حاز كفايته وظفر
بإقامته وسلم من تبعة الغنى وذلّ سؤال الشيء، ثم على ما
ذكره في الزكاة من «الترغيب» يكون قوله (وقنعه الله بما
آتاه) من باب التصريح بما اندرج فيما قبله اهتماماً
واحتفالاً بشأنه أو تجرد الكفاية عن اعتبار القناعة في
مفهومه (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه كلهم عن
ابن عمرو، كذا في «الجامع الصغير» ، وتقدم في الباب قبله
حديث بمعناه عن فضالة بن عبيد وفيه شرق هذه الحال على حالي
الفقر المدقع والغنى لما في الأول من كدح الحاجة والثاني
من بطر الغنى. والحديث قد تقدم الكلام عليه في الباب قبله.
3 - (وعن حكيم) بفتح الحاء المهملة (ابن حزام) بكسر الحاء
المهملة وبالزاي ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى الأسدي
القرشي المكي (رضي الله عنه) ولد قبل عام الفيل
(4/502)
بثلاث عشرة سنة بجوف الكعبة ولا يعرف هذا
لغيره، وما روي أن علياً ولد فيها فضعيف عند العلماء، عاش
ستين سنة في الجاهلية، وأسلم عام فتح مكة، وعاش في الإسلام
ستين سنة على ما تقدم فيه، ولم يشاركه في هذا إلا حسان بن
ثابت. والمراد بقولهم وستين في الإسلام: أي من حين ظهوره
مظهراً فاشياً، وكان من أشراف قريس ووجوهها جاهلية
وإسلاماً ولم يصنع في الجاهلية من المعروف شيئاً إلا صنع
في الإسلام مثله، وتقدمت ترجمته أيضاً في باب الصدق (قال:
سألت رسول الله) أي من الدنيا (فأعطاني ثم سألته) أي
مستكثراً منها (فأعطاني ثم قال) كأن حكمة تأخير هذا القول
عن الإعطاء دفع توهم أن ذلك لبخل في المسؤول (يا حكيم) فيه
نداء الرجل باسمه، وفيه تنبيه وإيماء إلى هذا الاسم يؤذن
بقيامه بالحكمة وهي المعرفة فكأنه قال: يا موصوفاً بالحكمة
الداعية إلى الزهادة في الدنيا والإقبال على الآخرة (إن
هذا المال خضر) بفتح أوله وكسر ثانيه المعجمين: أي كالخضر
في ميل النظر إليه وإلف النفس به (حلو) بكسر المهملة وسكون
اللام، قال الحافظ: معناه أن صورة المال وإنما هو للتشبيه
فكأنه قال: المال كالبقل الخضر الحلو أو على معنى فائدة
المال: أي إن الحياة به أو العيشة به، أو أن المراد بالمال
هنا الدنيا لأنه من زينتها قال تعالى: {المال والبنون زينة
الحياة الدنيا} (الكهف: 46) (فمن أخذه بسخاوة) بفتح السين
المهملة وبالخاء المعجمة (نفس) أي بغير شره ولا إلحاح: أي
أخذه بغير سؤال هذا بالنسبة للأخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة
للمعطي: أي بسخاوة نفس المعطي: أي بانشراحه فيما بذله
(بورك له فيه) فوقع منه القليل من المال والبركة موضع
الكثير منه مع فقدها (ومن أخذه بإشراف) بالشين المعجمة
(نفس) أي انتظارها له
وحرصها عليه كما يأتي بنحوه في الأصل (لم يبارك له فيه،
وكان كالذي يأكل ولا يشبع) أي الذي يسمى جوعه كذاباً لأنه
من علة به وسقم، فكلما أكل ازداد سقماً ولم يجد شبعاً. وفي
الحديث وجوه من التشبيهات بديعة: تشبيه المال وثمره
بالنبات وظهوره، وتشبيه آخذه بغير حق بمن يأكل ولا
(4/503)
يشبع. وقال ابن أبي حمزة:
في الحديث فوائد منها أنه قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن
سخاوة النفس هو زهدها، تقول: سخت بكذا: أي جادت به، وسخت
عن كذا: أي لم تلتفت إليه. ومنها أن الأخذ مع سخاوة النفس
يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فتبين أن الزهد يحصل
خيري الدارين. وفيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع مع
الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء
الكثير، فتبين بالمثال المذكور أن البركة خلق من الله خلق،
وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالآكل إنما يأكل ليشبع، فإذا
أكل ولم يشبع كان غياً في حقه بغير فائدة في عينه إنما هي
لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر عند المرء من غير تحصيل
منفعته كان وجوده كالعدم: «واليد العليا خير من اليد
السفلى» في «صحيح البخاري» : فاليد العليا هي المنفقة
والسفلى هي السائلة. قال في «فتح الباري» : عند النسائي من
حديث طارق بن المخارق قال: قدمنا المدينة فوجدنا النبيّ
قائماً على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا،
ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله. وقال
في «الفتح» بعد إيراد أحاديث: فهذه متضافرة على أن اليد
السفلى هي السائلة والعليا هي المعطية، وهذا هو المعتمد
وهو قول الجمهور، ثم ذكر مقابل ذلك أقوالاً بسط بيانها في
«الفتح» (قال حكيم: فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا
أزرأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) هو غاية في ألا
برزأ أحداً لأن من المعلوم أنه بعد مفارقته الدنيا لا
يحتاج لمال، وإنما هو كناية عن دوام الانكفاف عن الغير
أبداً (فكان أبو بكر رضي
الله عنه) أي لما صار خليفة (يدعو حكيماً ليعطيه) أي ما
يستحقه من المغنم (فيأبى أن يقبل منه شيئاً ثم إن عمر رضي
الله عنه) لما صار إليه الأمر بعد الصديق رضي الله عنه
(دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله) أي ولا شيئاً منه كما يدل
عليه ما قبله (فقال: يا معشر المسلمين، أشهدكم على حكيم
أني أعرض عليه حقه الذي قسم ا) العائد فيه ضمير منصوب
محذوف (له في الفيء فيأبى أن يأخذه) قال في «المصباح» :
المعشر والقوم والرهط والنفر: الجماعة من الرجال دون
النساء والجمع معاشر، وفي «فتح الباري» : إنما امتنع حكيم
من أخذ العطاء مع أنه حقه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئاً
فيعتاد الأخذ فيتجاوز به إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك،
وترك ما لا
(4/504)
يريبه خوف ما يريبه. وإنما أشهد عليه عمر
لأنه أراد ألا ينسبه أحد لم يعرف باطن الأمر إلى منع حكيم
من حقه (فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبيّ حتى
توفي) قال الحافظ في «الفتح» : زاد إسحاق بن راهويه في
«مسنده» من طريق عبد الله بن عمرو مرسلاً أنه ما أخذ من
أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا معاوية ديوناً ولا غيرها
حتى توفي لعشر سنين من إمارة معاوية. قال السيوطي في
«التوشيح» : وفيه أن سبب سؤاله العطاء أن النبي أعطاه دون
ما أعطى أصحابه فقال: يا رسول الله ما كنت أظن أن تقصرني
دون أحد من الناس، فزاده ثم استزاده حتى رضي فذكر نحو
الحديث اهـ (متفق عليه) أخرجه البخاري في الوصايا وفي
الخمس وفي الرقاق: قلت: وفي الزكاة، أخرجه مسلم في الزكاة
إلى قوله: واليد العليا خير من اليد السفلى. ورواه الترمذي
في الزهد وقال: صحيح، والنسائي في الزكاة والرقاق اهـ
ملخصاً من «الأطراف» (يرزأ أبراء ثم زاي ثم همزة) بوزن
يسأل (أي لم يأخذ من أحد شيئاً) أي مجاناً كما يدل عليه
قوله: (وأصل الرزء النقصان) وما بذل عوضاً لا نقص على
باذله، وفي «النهاية» وأصله النقص، وكأن الشيخ رحمه الله
نبه بزيادة النون على اعتبار المبالغة في
مفهومه وقوله: (أي لم ينقص أحداً شيئاً بالأخذ منه) تفسير
لقوله آخر الحديث: فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس (وإشراف
النفس) بالمعجمة (تطلعها وطمعها بالشيء) وأصله أن تضع يدك
على حاجبك وتنظر كالذي يستظلّ من الشمس حتى يستبين الشيء،
وأصله من الشرف وهو العلوّ كأنه ينظر إليه من موضع عال
(وسخاوة النفس) وفي «المصباح» السخاء بالمد: الجود والكرم،
وفي الفعل ثلاث لغات سخا من باب علا فهو ساخ، وفي الثانية
سخى يسخي من باب علم والفاعل سخ منقوص، والثاثة سخو يسخو
كقرب يقرب سخاوة فهو سخي بتشديد الياء اهـ. فيؤخذ منه أن
سخاوتها كرمها وجودها وقول المصنف (هي عدم الإشراف والطمع
فيه والمبالاة به والشره) أخذه من مقابلتها بالإشراف
المفسر بضد ذلك وهو نتيجة ما قلنا، فإن النفس الكريمة هذا
شأنها في الدنيا غير مختلفة بجمعها ولا مشتغلة بحفظها
ومنعها.
(4/505)
4 - (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون
الراء بعدها دال مهملة وفيه كنية لصحابي اسمه على الصحيح
من أقوال ثلاثة: «هانىء بن نيار» بلوي مدني، وتابعي وهو
«ابن أبي موسى الأشعري» وهذا هو المراد، إذ هو المعروف
بالرواية عن أبيه، ولذا لم يقيده المصنف كعادته في أمثاله
من المشتبهات/ «واسمه عامر» على الصحيح المشهور الذي قاله
الجمهور، تابعي كوفي، ولي فضاء الكوفة فعزله الحجاج وجعل
أخاه أبا بكر مكانه، اتفقوا على توثيقه وجلالته، وهو جد
أبي الحسن الأشعري الإمام في علم الكلام، توفي بالكوفة سنة
ثلاث، وقيل: أربع ومائة، كذا لخص من «التهذيب» للمصنف.
وحكمة ذكر التابعي في هذا الحديث قوله بعد روايته فحدث أبو
موسى (عن أبي موسى الأشعري) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه)
في باب الإخلاص (قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في غزاة) بفتح أولية، قال في «النهاية» : غزا يغزو
وغزوا، والغزوة المرة من الغزو، والإسم الغزاة: أي بفتحها.
قلت: ولو قيل: بأنه للمرة وأصله غزوة بسكون الزاي فنقلت
فتحة الواو إليها ثم أعلت إعلال إقوام لم يبعد والله أعلم
(ونحن ستة نفر) جملة حالية من فاعل خرج، قال الحافظ: ولم
أقف على أسمائهم وأظنهم من الأشعريين وقوله: (بيننا بعير
نعتقه) جملة حالية متداخلة من التي قبلها، في «المصباح»
البعير مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى والجمل، مثل
الرجل يختص بالذكر، والناقة مثل المرأة تختص بالأنثى،
والبكر والبكرة كالفتى والفتاة، والقلوص كالجارية، هكذا
حكاه جماعة منهم ابن السكيت والأزهري وابن جني، ثم قال
الأزهري: هذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواص أهل
العلم باللغة اهـ. وقوله نعتقبه: أي نتعاقبه في الركوب
واحداً بعد واحد، يقال: دارت عقبة فلان: أي جاءت نوبته
ووقت ركوبه كذا في «النهاية» (فنقبت) بفتح النون وكسر
القاف بعدها موحدة أي رقت (قدمي) بكسر الميم إذ لو كان
مثنى لكان بالألف والمراد به الجنس، وفي نسخة
أقدامنا بصيغة الجمع المكسر (وسقطت أظفاري) جمع ظفر وفيه
لغات ضم أوليه أفصح من ضم أوله وسكون ثانيه، ومن فتح أوليه
ومن كسرهما، ويقال: أظفور كأسبوع، وربما يجمع الظفر على
أظفر أيضاً كركن وأركن. وقول الجوهري: إنه يجمع أظفور سبق
قلم، كأنه أراد أظفر فطغى القلم بزيادة واو اهـ ملخصاً من
«المصباح» أي أظفار أصابع قدمي (فكنا نلفّ على
(4/506)
أرجلنا الخرق) بكسر أوله المعجم وفتح ثانيه
(فسميت غزوة ذات الرقاع) بنصب الغزوة ثاني المفعولين،
والأول أقيم مقام فاعل سميت يعود على الغزاة (لما كنا
نعصب) أي نربط، وما موصولة: أي الذي كنا نربطه (على أرجلنا
من الخرق) قال الحافظ وقال ابن هشام وغيره: سميت به لأنهم
رقعوا راياتهم، وقيل: لشجرة بذلك الموضع يقال لها: ذات
الرقاع، وقيل: بل الأرض التي نزلوا بها كانت ذات ألوان
تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض قال أبو
حيان. وقال الواقدي: سميت بجبل هناك كان فيه بقع، وهذا
لعله مستند أبي حيان ويكون قد تصحف خيل بجبل، ورجح السهيلي
السبب الذي ذكره أبو موسى وكذا النووي ثم قال: ويحتمل أن
تكون سميت بالمجموع اهـ واختلف متى كانت؟ فجنح البخاري إلى
أنها بعد خيبر، وذهب أهل السير إلى أنها قبل خيبر،
واختلفوا في زمانها فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير
وقبل الخندق سنة أربع، وعند ابن سعد وابن حيان أنها في
المحرم سنة خمس وجزم أبو معشر بأنها كانت بعد قريظة
والخندق وتردد موسى بن عقبة في وقتها فقال: لا ندري أكانت
قبل بدر أو بعدها؟ قال الحافظ: وهذا التردد لا حاصل له، بل
الذي ينبغي الجزم به أنها كانت بعد غزوة بني قريظة. ثم حكى
الحافظ خلافاً: هل هي غزوة محارب أو هي غيرها؟ فالجمهور
أنها هي، جزم به ابن إسحاق وغيره، وعند الواقدي أنهما
ثنتان، وتبعه القطب الحلبي في «شرح السيرة» اهـ ملخصاً من
«الفتح» (قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث) ناشراً
للسنة إذ منها أيامه وأحواله (ثم كره
ذلك) لما فيه أنه ابتلي فصبر، وذلك من المعاملة بين العبد
وربه، وكلما كانت أخفى كانت بالبرّ أخفى (وقال: ما كنت
أصنع بأن أذكره) أي ما أصنع بذكره ذلك ففيه زيادة كان مع
اسمها وهو نادر، والأكثر زيادتها وحدها في مواطن وقوله:
(كأنه كره أن يكون شيئاً) خبر كان واسمها ضمير مستتر: أي
ما ذكر من عمله شيئاً، ويجوز أن يعرب مفعولاً لفعل محذوف
هو مع فاعله والجملة خبر يكون: أي يكون أفشى شيئاً (من
عمله) وقوله: (أفشاه) جملة مفسرة على الثاني، وعلى الأولى
فهو صفة شيئاً والظرف متعلق به، ويحتمل كون الظرف صفة
وجملة أفشاه حالاً من الخبر لتخصصه بالوصف، وعلى الثاني هو
صفة للمفعول (متفق عليه) أخرجاه في «المغازي» من «صحيحهما»
.
(4/507)
5 - (وعن عمرو بن تغلب) بفتح التاء المثناة
فوق وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام اسم غير منصرف
للعلمية ووزن الفعل، وهو العبدي من عبد القيس، وقيل غير
ذلك، وجميع ما قيل في نسبه يرجع إلى أسد بن ربيعة، فهو
ربعي بالاتفاق. وقال الحافظ في «الفتح» : وهو النمري بضم
النون والميم (رضي الله عنه) صحب عن النبيّ حديثين رواهما
عنه البخاري، لم يرو عنه غير الحسن البصري اهـ ملخصاً من
«التهذيب» للمصنف (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أتى بمال أو) شك من الراوي (سبي) بمهملة فموحدة، وعند
الكشميهني أحد رواة البخاري: أو شيء بالمعجمة، وهو أشمل في
«النهاية» : السبي النهب وأخذ الناس عبيداً وإماء (فقسمه)
بتخفيف المهملة ويجوز تشديدها نظراً لتعدد المقسوم (فأعطى
رجالاً وترك رجالاً) أي منه (فبلغه أن الذين ترك) العائد
المنصوب محذوف أي تركهم (عتبوا) في «المصباح» : عتب عليه
من بابي ضرب وقتل: لامه في تسخط اهـ. وفي «النهاية» :
العتاب مخاطبة الإذلال ومذاكرة المؤاخذة اهـ. وهذا المراد
هنا لا للتسخط من أفعاله، فإن ذلك ينافي الإيمان المشهود
لهم به في الخبر (فحمد الله تعالى) بأوصاف الجمال (ثم أثنى
عليه) أي بأوصاف الجلال: وقيل: أنهما بمعنى، وعليه فهو من
عطف الرديف، أتي به لبيان المراد من الحمد وأنه لغوي: أي
الثناء اللساني الذي هو شعبة من المعنى المعرفي (ثم قال:
أما بعد، فوا إني لأعطي الرجل) أل فيه للجنس، والمراد
التمثيل، وإلا فما أفاده الحديث جار في النساء أيضاً، ففي
الحديث عند مسلم عن هند امرأة أبي سفيان أنها قالت: «يا
رسول الله ما كان أهل بيت أبغض إليّ من أهل بيتك، والآن وا
ما أهل بيت أحبّ إليّ من أهل بيتك، فقال: وأيضاً» الحديث،
وأكد بالقسم وبإن اللام لعله لما بدا من شدة عتاب
المتروكين في ذلك وتوهم أنه عن خلل فيهم ديني أو عن نقص
حبّ منه (وأدع) أي واترك وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه
(والذي أدع) أي أترك إعطاءه
(أحبّ إليّ من الذي أعطي) وجه حبه لذلك المعطي له فقال ذلك
المندرج فيهم نصيبه منها، فلذا أتى بأفعل، ويحتمل كونه فيه
بمعنى أصل الفعل نظراً إلى عدم كمال إيمان ذلك حتى يعتدّ
به (ولكني أعطي أقواماً لما) أي للذي (أرى) أي
(4/508)
أعلمه (في قلوبهم) والعائد مفعول أول
والظرف مفعول ثان (من الجزع) بالجيم والزاي والعين
المهملة، قال في «النهاية» : هو الحزن الخوف. وقال في
«المصباح» جزع الرجل جزءاً من باب تعب تعباً: إذا ضعفت
بنيته عن حمل ما نزل به ولم يجد صبراً ومن بيانية لما
(والهلع) هكذا في نسخ الرياض تبعاً لبعض نسخ البخاري
وسيأتي معناه، وفي نسخة أخرى منه «الضلع» بالضاد المعجمة:
أي الميل والاعوجاج وفي أخرى بالظاء المثالة المفتوحة مع
ما يليها: أي مرض القلب وضعف اليقين (وأكل) أفوض (أقواماً
إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغناء) بفتح الغين المعجمة
ثم نون ومد وهو الكفاية، وفي رواية الكشميهني بكسر أوله
والقصر: ضد الفقر (والخير منهم عمرو بن تغلب) هذا آخر
الخبر المرفوع وقوله: (فوا ما أحبّ أن لي بكلمة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - حمر النعم) الباء للبدلية والمراد
من الكلمة معناها اللغوي وما قاله فيه: أي بدل ما قاله فيه
من إدخاله إياه في أهل الخير والغني وقيل: المراد التي
قالها في حق غيره، فالمعنى: لا أحبّ أن يكون لي حمر النعم
بدلاً من الكلمة المذكورة التي لي، أو أن يكون لي ذلك
وقال: تلك الكلمة في حق. وفي «المصباح» : وحمر النعم بضم
المهملة وسكون الميم: كرائمها وهو مثل في كل نفيس ويقال:
إنه جمع أحمر وإن أحمر من أسماء الجنس (رواه البخاري) في
مواضع من «صحيحه» منها في الجهاد والتوحيد وانفرد به عن
باقي الستة (الهلع هو أشد الجزع) بمعناه قوله في «الصحاح»
أفحش الجزع، ومقتضى كلام «المصباح» عدم اعتبار الأفضلية
فيه (وقيل: الضجر) وفي «المشارق» للقاضي عياض: الجزع
والهلع هما بمعنى، وقيل: الهلع قلة الصبر، وقيل: الحرص،
يقال:
رجل هلع وهلوع وهلواع وهلواعة: جزوع حريص اهـ. فلعل المصنف
أراد يكتب قيل: الحرص فسبق القلم فكتب ما ذكر، والله أعلم.
6 - (وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن النبي قال: اليد
العليا خير من اليد
(4/509)
السفلى) تقدم الكلام على هذه الجملة في
الباب (وابدأ) في الإنفاق (بمن تعول) من زوجة أو أصل أو
فرع أو مملوك، من عال أهله: إذ قام بما يحتاجون إليه من
قوت أو كسوة، وهذه الجملة الطلبية رواها فقط الطبراني من
حديث حكيم بن حزام، ورواه البخاري وأبو داود والنسائي من
حديث أبي هريرة بلفظ: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ
بمن تعول» لأن حقهم واجب وغيرهم تطوّع والأول مقدم على
الثاني (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي أفضلها ما وقع
من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته،
ولفظ الظهر مزيد في مثله إشباعاً للكلام، قاله الخطابي
ونقله في «النهاية» وزاد قوله تمكيناً كأنه صدقته مستندة
إلى ظهر قوى من المال، والمعنى: أفضلها ما أخرجه الإنسان
من ماله بعد استبقائه منه قدر الكفاية. وقال البغوي:
المراد غنى يستظهر به على النوائب التي تنوبه، ونحوه
قولهم: ركب متن السلامة والتنكير في غنى للتعظيم، هذا هو
المعتمد في معنى الحديث، وقيل: خير الصدقة ما أغنيت به من
أعطيته عن المسألة، وقيل: عن للسببية والظهر زائد: أي خير
الصدقة ما كان سببه غنى المتصدق. قال القرطبي: يرد على
تأويل الخطابي ما جاء في فضل الإيثار على النفس من الكتاب
والسنة، ومنها حديث أبي ذرّ: «أفضل الصدقة جهد من مقل»
والمختار أن معنى الحديث: أفضلها ما وقع بعد القيام بحقوق
النفس والعيال بحيث لا يصير المصتدق محتاجاً بعد صدقته إلى
أحد، فمعنى الغنى في الحديث: حصول ما يدفع به الحاجة
الضرورية كأكل عند جوع مشوّش لا صبر عليه، فالحاجة إلى ما
يدفع به الأذى عن نفسه، لا يجوز الإيثار به بل يحرم، لأن
الإيثار به يؤدي إلى هلاك النفس
والإضرار بها، أو إلى ما يستر له العورة، فمراعاة نفسه
أولى، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار وكانت صدقته
أفضل لأجل ما يتحمله من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع
التعارض اهـ ملخصاً من «الفتح» (ومن يستعفف) أي عن مسألة
الناس (يعفه ا) بضم التحتية وضم الفاء المشددة وهو مجزوم
جواب الشرط وضمه إتباع لضمة هاء الضمير، قاله الدماميني عن
الزركشي: أي يرزقه العفة عن ذلك (ومن يستغن) أي يظهر الغنى
(يغنه ا) أي يصيره غنياً (هذا لفظ البخاري) في كتاب الزكاة
من «صحيحه» (ولفظ مسلم) في كتاب الزكاة أيضاً من «صحيحه»
(أخصر) ولفظه قال: «أفضل الصدقة أو خير الصدقة عن ظهر غنى،
واليد
(4/510)
العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول»
وقد تقدم الكلام على الحديث من حديث أبي هريرة في باب
الوصية بالنساء.
7 - (وعن أبي عبد الرحمن بن أبي سفيان صخر) عطف بيان لأبي
سفيان أو بدل منه بفتح المهملة وسكون المعجمة (ابن حرب)
بفتح المهملة بلفظ السلم بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف
بن قصيّ الأموي، أسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند يوم
فتح مكة فلذا قال المصنف (رضي الله عنهما) وكان هو وأبوه
من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامهما وكان أحد الكتاب لرسول
الله، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة
وثلاثة وستون حديثاً، اتفق الشيخان على أربعة منها، وانفرد
البخاري بأربعة ومسلم بخمسة، روى عن عدد كثير من الصحابة
ومناقبه كثيرة وفضائله شهيرة وقد أفردت بالتأليف، توفي
بالشام يوم الخميس لثمان بقين من رجب، وقيل: لنصفه سنة
ستين، وقيل: تسع وخمسين وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل:
ثمان وثمانين، وقيل: ست، ولما حضرته الوفاة أوصى أن يكفن
في قميص كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كساه إياه،
وأن يجعل مما يلي جسده، وكان عنده قلامة أظفار رسول الله،
فأوصى أن تسحق وتجعل في عينيه وفمه وقال: افعلوا ذلك وخلوا
بيني وبين أرحم الراحمين (قال: قال رسول الله: لا تلحفوا)
بضم الفوقية وكسر المهملة من الإلحاف الإلحاح: أي لا تلحوا
(في المسألة) قال المصنف: كذا هو في بعض الأصول بالفاء،
وفي بعضها بالباء الموحدة وكلاهما صحيح (فوا لا يسألني أحد
منكم شيئاً فتخرج) بالنصب في جواب النفي (له مسألته منى
شيئاً) ونسبة الإخراج إليها مجاز لكونها السبب: أي يجد مني
ماسأله بسبب إلحاحه وإشراف نفسه وحرصه على حصول مطلوبه
(وأنا كاره) لدفعه ولكن دفعته له لنحو اتقاء فحشه (فيبارك)
بالنصب عطف على المنصوب قبله: أي يكثر ويدوم (له فيما
أعطيته) ومن قال الفقهاء: من أخذ شيئاً على أمر أظهره وهو
غير متصف به باطناً يملك ذلك المأخوذ وتصرفه فيه باطل، ومن
هنا غلبت الفاقة على كثير لاستشرافهم الأحوال وإخراجهم
بالإلحاح في السؤال فلا يبارك لهم فيها بوجه (رواه مسلم)
في كتاب الزكاة من «صحيحه» .
(4/511)
8 - (وعن أبي عبد الرحمن) وقيل: أبو عمرو،
وبدأ به في «الأطراف» : وقيل: أبو عبد الله وقيل: أبو محمد
وقيل: أبو حاتم (عوف) عطف بيان لما قبله أو بدل منه وهو
بالمهملة آخره فاء بوزن فور (ابن مالك) بن أبي عوف
(الأشجعي) الغطفاني (رضي الله عنه) أول مشاهده «الفتح» ،
وكان حامل راية قومه، سكن دمشق وكان داره بها سنة ثلاث
وسبعين، وأما قول الشيخ أبي إسحاق في «مهذبه» : إن عوف بن
مالك رجع عليه بسيفه يوم خيبر فقتله فغلط صريح، إنما ذلك
عامر بن الأكوع نبه عليه المصنف في «التهذيب» ، روي له عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وستون حديثاً منها
عند الشيخين ستة، انفرد البخاري بواحد منها ومسلم بباقيها،
وخرّج له الأربعة، وروى عنه جبير بن نضير والشعبي وآخرون
(قال: كنا جلوساً) جمع جالس خبر كان، ويحتمل أنها تامة،
وجلوساً مصدر منصوب على الحال وأفرد لكونه مصدراً والأول
أولى (عند رسول الله) يحتمل أن يكون لغواً متعلقاً بالفعل
لا بالجلوس، لأن الفعل أقوى منه في ذلك، وأن يكون مستقراً
خبراً بعد خبر، أو حالاً من اسم كان (تسعة) بتقديم الفوقية
(أو ثمانية أو سبعة) شك من الراوي في عددهم (فقال: ألا
تبايعون رسول الله) وقوله: (وكنا حديث عهد ببيعة) جملة في
محل الحال من فاعل تبايعون، والبيعة أصلها من البيع لأنهم
إذا بايعوا وعقدوا عهداً حلفوا لمن بايعهم جعلوا يديهم في
يده توكيداً كما يفعل البائع والمشتري، كانت هذه البيعة
ليلة العقبة قبل بيعة الهجرة وبيعة الجهاد والصبر عليه
(فقلنا: قد بايعناك يا رسولالله، ثم قال) أي بعد قوله
الأول، والإتيان بثم للفصل بين القولين بجوابهم وما معه
(ألا تبايعون رسول الله) زاد أبو داود في روايته بعد قولهم
قد بايعناك حتى قالها ثلاثاً (فبسطنا أيدينا) أي نشرناها
للمبايعة (وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله) أولاً (فعلام
نبايعك) أي فعلى أيّ شيىء نبايعك
ثانياً، وما هي الاستفهامية حذفت ألفها لدخول الجال عليها،
ويجوز زيادة هاء السكت عوضاً عن الألف المحذوفة فيقال
علامه؟ كما في رواية مسلم، قاله ابن رسلان، وبه يعلم أن
حذف الهاء من نسخ الرياض من علام من تحريف الكتاب، لأن
الذي فيه رواية مسلم (قال: أن تعبدوا ا) أي أبايعكم على
عبادة الله (وحده) أي منفرداً وهو حال من الجلالة (ولا
تشركوا به شيئاً) أي
(4/512)
من الشرك أو من المعبودات، فهو مفعول مطلق
أو مفعول به كما تقدم (والصلوات الخمس) أي وتصلوا الصلوات
كما صرح به أبو داود (وتسمعوا وتطيعوا) أي لوليّ الأمر،
ومن أوجب الله طاعته في غير معصيته (وأسر كلمة خفية) إنما
أسر هذه الكلمة دون ما قبلها لأن ما قبلها وصية عامة وهذه
الجملة مختصة ببعضهم والمراد بالكلمة المعنى اللغوي وهي
الجملة المبنية بقوله: (ولا تسألوا الناس شيئاً) قال
القرطبي: هذا حمل منه على مكارم الأخلاق والترفع عن تحمل
منن الخلق وتعظيم الصبر على مضض الحاجات والاستغناء عن
الناس وعزّة النفس (فلقد رأيت بعض أولئك النفر) بالجرّ نعت
أو عطف بيان لاسم الإشارة على الخلاف في أمثاله بين ابن
الحاجب وابن مالك، وقال ابن رسلان: هو بدل منه (يسقط سوط
أحدهم فما يسأل أحد يناوله إياه) فيه التمسك بالعموم لأنهم
نهوا عن السؤال، والمراد منه سؤال الناس أموالهم فحملوه
على عمومه، وفيه التنزّه عن جميع ما يسمى سؤالاً وإن كان
حقيراً. وروى الإمام أحمد عن أبي ذرّ لا تسألنّ أحداً
شيئاً وإن سقط سوطك ولا تقبض أمانة (رواه مسلم) في الزكاة
من «صحيحه» منفرداً به عن البخاري ورواه أبو داود فيها
والنسائي في الصلاة وابن ماجه في الجهاد.
9 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ قال: لا تزال
المسألة) أي طلب العطاء من السوي (بأحدكم) أي بالواحد منكم
أي إن طبع الإنسان الاستكثار من الدنيا فلا يزال في الدنيا
يسأل مالهم تكثراً (حتى يلقى ا) كناية عن الموت والحشر،
ويؤيد الثاني أن بعض رواياته: «ما يزال الرجل يسأل الناس
حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة» رواه مسلم (وليس
في وجهه مزعة لحم) جملة حالية من فاعل يلقى (متفق عليه)
رواه البخاري ومسلم في الزكاة من «صحيحهما» ، رواه النسائي
في الزكاة أيضاً (المزعة بضم الميم وسكون الزاي وبالعين
المهملة القطعة) قال المصنف قال القاضي: قيل معنى
(4/513)
الحديث: يأتي يوم القيامة ذليلاً ساقطاً لا
وجه له عندالله، وقيل: هو على ظاهره فيحشر وجهه لا لحم
عليه عقوبة له وعلامة له بذنبه حين سأل وطلب بوجهه كما
جاءت الأحاديث الأخر بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها
المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالاً منهياً عنه وكثر
منه كما أشرنا إليه كما يدل عليه رواية: «من يسأل الناس
أموالهم تكثراً» الحديث.
10 - (وعنه) يعني ابن عمر (أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: وهو على المنبر) جملة حالية أيضاً من فاعل
وقوله: (وهو بذكر الصدقة والتعفف عن المسألة) جملة حالية
أيضاً من فاعل قال، فتكون مترادفة أو من الجملة الحالية
الأولى فتكون متداخلة، وقوله يذكر الصدقة: أي ما يذكر ما
في فضلها أو فضل التعفف (اليد العليا خير من اليد السفلى)
هذا مقول القول، ولما كان في ذلك نوع إجمال فلذا اختلف فيه
على أقوال كما تقدم عن «الفتح» ، رفعه بقوله (واليد العليا
هي المنفقة) بالنون والفاء والقاف وعند أبي داود في بعض
طرقه بدلها المتعففة قال: وقال أكثرهم المنفقة (والسفلى هي
السائلة) قال القرطبي: هذا أي حديث مسلم نصر يدفع تعسف من
تعسف في تأويله، غير أنه وقع عند أبي داود إلى آخر ما
تقدم، وقال المصنف: ورجح الخطابي رواية المتعففة بأن
السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها. قال المصنف: والصحيح
الرواية الأولى ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلا من
السائلة والمتعففة أعلا منها، والمراد بالعلوّ علوّ الفضل
والمجد (متفق عليه) روياه في الزكاة من «صحيحهما» ، رواه
أبو داود والنسائي فيها من «سننهما» .
11 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من
سأل) كذا في الرياض بصيغة الماضي وفي أصل مصحح من مسلم
بصيغة المضارع المجزوم بسكون مقدر للتخلص من التقاء
الساكنين (الناس تكثراً) أي ليكثر ماله مما يجتمع عنده
بسبب السؤال (فإنما يسأل جمراً) قال القاضي: أي يعاقب
بالنار، قال: ويحتمل أن يكون على ظاهره فإن
(4/514)
الذي يأخذه يصير جمراً يكوى به كما ثبت في
مانع الزكاة (فليستقل أو فليستكثر) اللام فيه ساكنة للأمر
والفاء فيه للتفريع وأو فيه للتخيير: أي فهو مخير إذا عرف
مآل ذلك بين الاستكثار والاستقلال فيكثر عذابه أو يقلّ
(رواه مسلم) في الزكاة، ورواه ابن ماجه فيها أيضاً.
12 - (وعن سمرة) بضم الميم (ابن جندب) بضم الجيم وسكون
النون وفتح الدال آخره موحدة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه)
في باب توقير العلماء (قال: قال رسول الله: إن المسألة)
مفعلة من السؤال: أي سؤال الناس من دنياهم (كد) بفتح الكاف
وتشديد الدال المهملة، قال في «النهاية» : هو الإتعاب،
يقال: كدّ في عمله يكد: إذا استعجل، ونحوه ما في «المصباح»
من أنه الشدة في العمل، وفي «المشارق» : هو الجهد في الطلب
وسيأتي في الأصل أنه الخدش (يكد) بضم الكاف أي يتعب (بها
الرجل) الباء فيه للسببية والرجل مثال فالمرأة مثله في ذلك
(وجهه) قال في «النهاية» : أي ماؤه ورونقه، والحديث في
«سنن أبي داود» بلفظ: «المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه،
فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل» إلى آخر
الحديث، وقد لمح إلى هذا المعنى من قال:
إذا أظمأتك أكف اللئام
كفتك القناعة شبعاً وريا
فكن رجلاً رجله في الثرى
وهامة همته في الثريا
قإن إراقاة ماء الحيا
ة دون إراقة ماء المحيا
(إلا أن يسأل الرجل سلطاناً) أي يطلب منه ما أوجب الله من
زكاة أو خمس أو في بيت المال ونحوه (أو في أمر لا بد) بضم
أوله وتشديد المهملة: لا فراق (منه) فلا يستطيع تركه فتحل
له المسألة فيما دعت إليه الضرورة (رواه الترمذي) في
الزكاة من «جامعه» (قال: حديث حسن صحيح) ورواه أبو داود
كما ذكرناه والنسائي كلاهما من «سننهما» (والكدّ: الخدش
ونحوه) لعله تفسير باللازم.
(4/515)
13 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال
رسول الله: من أصابته فاقة) قال في «المصباح» : أي الحاجة
(فأنزلها بالناس) طالباً رفعها عنه بإعانتهم راكناً في ذلك
إليهم (لن تسد) بالبناء للمجهول للعلم بالفاعل (فاقته) أي
بل يؤدي ذلك إلى غضب الله تعالى ودوام فاقته إذ أنزل حاجته
إلى عاجز مثله وترك اللجأ إليه سبحانه وهو القادر على قضاء
حوائج الخلق كلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء. قال وهب بن
منبه لرجل يأتي الملوك: ويحك تأتي من يغلق عنك بابه ويواري
عنك غناه وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار
ويظهر لك غناه، فالعبد عاجز عن جلب مصالحه ودفع مضاره، ولا
معين له على ذلك إلا الله سبحانه (ومن أنزلها) فالهمزة فيه
وفيما قبله للتعدية، قال في «المصباح» : نزل نزولاً ويتعدى
بالحرف وبالهمزة والتضعيف، يقال: نزلت به وأنزلته ونزلته:
أي فمن جعل فاقته نازلة (با) أي مستعيناً به في رفعها
(فيوشك) أي فهو يوشك بضم التحتية (اله بزرق عاجل) في رفع
لأواه (وآجل) بالمد: أي لدع بلواه قال تعالى: {وإن يمسك
الله بضر فلا كاشف له إلا هو} (الأنعام: 17) ، وقال تعالى:
{واسألوا الله من فضله} (النساء: 32) وفي الترمذي: «من لم
يسأل الله يغضب عليه» (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث
حسن) قال في «الجامع» : رواه من حديث ابن مسعود أحمد
والحاكم في «مستدركه» .
(يوشك بكسر الشين) أي المعجمة وفتح أوله: (أي يسرع) .
14 - (وعن ثوبان) بالمثلثة والموحدة آخره نون بوزن غضبان
وهو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه
قال: قال رسول الله: من تكفل) بفتح الفوقية وتشديد الفاء:
أي ضمن، ورواه النسائي بلفظ: «من ضمن لي واحدة وله الجنة»
(لي ألا يسأل الناس شيئاً) أي مما لا
(4/516)
ضرورة به إليه (وأتكفل) برفع اللام جملة
حالية لضمير المجرور: أي من يضمن لي عدم السؤال حال كوني
ملتزماً (له) على كرم الله عزّ وجل (بالجنة فقلت: أنا)
عبارة السنن: «فقال: ثوبان: أنا» وزاد ابن ماجه فقال: «لا
يسأل الناس شيئاً» (فكان لا يسأل أحد شيئاً) ظاهره نفي
سؤاله لكل شيء، وعند ابن ماجه: «فكان ثوبان يقع سوطه وهو
راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه» (رواه أبو
داود) في كتاب الزكاة من سننه (بإسناد صحيح) ورجاله رجال
«الصحيح» .g
15 - (وعن أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة (قبيصة)
بفتح القاف وكسر الموحدة وسكون التحتية بعدها مهملة (ابن
المخارق) بضم الميم بعدها خاء معجمة ابن عبد الله بن شداد
بن ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة العامري
الهلالي البصري الصحابي (رضي الله عنه) قال المصنف: وفد
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وروي له عن
النبي ستة أحاديث. روى مسلم أحدها وقال الحافظ ابن حجر في
«التقريب» : سكن البصرة، خرج عنه مسلم وأبو داود والنسائي
(قال: تحملت) في الإتيان به من باب التفعل إيماء إلى كلفة
الأمر والدخول فيه (حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أسأله فيها) جملة أسأل في محل الحال من فاعل أتيت،
وفي يحتمل كونها للظرفية المجازية ويحتمل كونها سببية نحو
حديث: «عذبت امرأة في هرة» أي أسأله لسبب الحمالة (فقال:
أقم حتى تأتينا الصدقة) تعني الزكاة فأل فيه عهدية،
والمعهود قوله تعالى: {إنما الصدقات} (التوبة: 60) (فنأمر)
بالنصب ويجوز على بعد الرفع على الاستئناف (لك بها) أي
بسمألتك (ثم قال) إرشاداً إلى أنه لا ينبغي السؤال إلا عن
حاجة حافة أو لأمر مهم كما هنا (يا قبيصة إن المسألة) أي
السؤال للصدقة المعهودة وهي الزكاة كما في «فتح الإله» (لا
تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة) أي
أن يسأل الإمام وأهل الزكاة في أوقاتها (حتى) إلى أن
(يصيبها) أي حتى
(4/517)
يقضي دينه الذي تحمله لأجلها (ثم) بعد
قضائها (يمسك) عن المسألة إلا لضرورة أو حاجة أخرى (ورجل
أصابته جائحة) بالجيم والحاء المهملة بينهما ألف فهمزة
(اجتاحت) أي استأصلت (ماله) كزرعه وثمره (فحلت له المسألة)
أي أن يسأل الناس في سد خلته (حتى يصيب قواماً من عيش) أي
ما يقوم بحوائجه الضرورية. والحاجية وهو بيان للقوام (أو)
شك في أي اللفظين المترادفين نطق به (قال: سداداً من عيش،
ورجل أصابته فاقة) أي فقر شديد اشتهر بين قومه (حتى يقول)
بالنصب غاية لمقدر: أي وظهرت فلم تخف على قومه إلى أن
يقول: (ثلاثة من ذوي الحجى) بكسر المهملة وبعدها جيم
مقصورة: أي العقل الكامل (من قومه) لأن مثل هذا العدد الذي
هو أقل الكثير مع اتصافهم بكمال العقل، وكونه من قومهم
العارفين بحاله الظاهرة والباطنة والمطلعين منها على ما لا
يطلع عليه أحد غيرهم منها يقبله ويصدقه كل أحد بلام القسم
(لقد أصابت فلاناً فاقة) وما شرحنا عليه يقول باللام هو ما
وقفت عليه من نسخ الرياض وهو كذلك، في رواية أبي داود،
والذي في «صحيح مسلم» حتى يقوم بالميم بدل اللام، قال
المصنف: وهو صحيح والمعنى: أي يقومون بهذا الأمر فيقولون:
لقد أصابته الخ وقدره ابن حجر في «فتح الإله» حتى يقوم على
رءوس الإشهاد ثلاثة من ذوي الحجي قائلين لقد أصابته الخ،
قال: وبما تقرر في معنى يقوم أنه باق على ظاهره وأن «لقد
أصابت الخ» مقول قول محذوف حال من فاعل يقوم محذوفة لدلالة
مقولها عليها لعدم صلاحية تعلقه بيقوم، على أن حذف القول
وإبقاء مقولة سائغ فصيح، وإن الباعث على هذا مزيد التحري
لمزيد السؤال والكف عنه حتى يظهر فقره، واضطراره للناس
بإخبار العدد الكثير الجامعين مع وصف الكثرة لوصف العقل،
وكونهم من أقاربه المحيطين بحاله غالباً يعلم اندفاع قول
الصغاني: «يقوم» وقع في كتاب مسلم والصواب يقول كما في
رواية أبي داود وقول غيره يقوم بمعنى يقول وهو وإن صح إلا
أن المراد المبالغة في الكف عن المسألة حتى يظهر صدقه وهو
غالباً إنما يظهر بثلاثة من قومه، فذكر لذلك مبالغة لا
لتوقف الحل عليه (فحلت له المسألة) بسبب تلك القرائن
الدالة على صدقه في سؤاله (حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال
سداداً من عيش) وفي تعبيره بالحاجة
(4/518)
في الثاني والفاقة في الثالث حتى يشهد من
ذكر غاية المبالغة في الكف عن المسألة إلا بعد الوصول
لحالة الاحتياج الشديد، بل الاضطرار الملحق
بأكل الميتة وفي قوله: قواماً أو سداداً أنه بعد أن حلت له
المسألة لا يكثر منها، بل يقتصر على ما يقتصر عليه المظطر
من سد الرمق لا أن يحتاج إلى سد الرمق به في المستقبل بأن
كان ذلك المحل يكثر فيه الناس زمناً ويقلون في آخر فله
السؤال في أيام كثرتهم ما يقوم بحاجته أيام قلتهم (فما
سواهن) أي هذه الأقسام الثلاثة (من المسألة) للزكاة أو
وصدقة النفل (يا قبيصة سحت) أي حرام لا يحل فعله لأنه يسحت
البركة أي يذهبها ويهلكها، وأصل السحت: الإهلاك، ثم هو
مرفوع هكذا في نسخ الرياض فيما وقفت عليه، قال المصنف في
شرح مسلم: فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً هكذا، هو
في جميع النسخ سحتاً بالنصب، ورواه غير مسلم وهو واضح،
ورواية مسلم في «صحيحه» وفيه إضمار: أي اعتقده سحتاً أو
يؤكل سحتاً اهـ. ومنه يعلم أن إبدال الميم في يقوم باللام
والنصب بالرفع إن لم يكن من سبق قلم المصنف سهواً من رواية
مسلم إلى رواية غيره فهو من تحريف الكتاب وقوله: (يأكلها)
صفة لسحت والتأنيث باعتبار كونه خبر ما، المراد منها
الصدقة (صاحبها) حال كونها (سحتاً) أي حراماً خالصاً لا
شبهة في أكلها ولا تأويل (رواه مسلم) في الزكاة في «صحيحه»
، ورواه أبو داود والنسائي في الزكاة من «سننهما» (الحمالة
بفتح الحاء) المهملة وتخفيف الميم واللام بينهما ألف (أن
يقع قتال ونحوه بين فريقين) أو يوجد قتيل بين قريتين أنكره
أهل كل منهما وأدى الأمر إلى التقاتل (فبصلح إنسان بينهم
على مال يتحمله ويلتزمه على نفسه)
دفعاً لتلك المفسدة والتعبير بالتفعل والافتعال لما تقدم
في قوله تحملت. قال ابن حجر في «فتح الإله» : فيعطى من
الزكاة ما يسد به دينه لذلك وإن كان غنياً (والجائحة
الآفة) بالمد (تصيب مال الإنسان) قال في «فتح الإله» : أصل
وضع الجائحة مختص بالآفة السماوية والمراد في الحديث ما
يشمل الأرضية أيضاً، لأن المراد فقره وحاجته، وفي
«النهاية» : الجائحة هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال
وتستأصلها وكل مصيبة عظيمة وفتنة منفرة جائحة اهـ. وفي
«المصباح» : الجائحة الآفة اهـ. وهما مطلقان كما قال
المصنف: والذي أشار إليه ابن حجر
(4/519)
في «فتح الإله» هو قول الشافعي: الجائحة ما
أذهبت الثمر بأمر سماوي اهـ. وحينئذ فلعل فيه لأهل اللغة
قولين: الإطلاق والتقييد (والقوام بكسر القاف) واقتصر عليه
المصنف في «شرح مسلم» وابن حجر في «فتح الإله» (وفتحها)
وهما مع تخفيف الواو، واللغتان نقلهما في «المصباح» فقال:
يقال هذا قوامه بالفتح والكسر وتقلب الواو ياء جوازاً مع
الكسرة: أي عماده الذي يقوم به، ومنهم من يقتصر على الكسر.
والقوام بالكسر ما يقيم الإنسان من القوت، والقوام بالفتح:
العدل والاعتدال اهـ. فلعل من اقتصر على الكسر فسره بما
يقيم من القوت، ومن ذكر الفتح معه فسره بقوله (وهو ما يقوم
به أمر الإنسان من مال ونحوه) ولا يضر في هذا الجمع كونه
قال في «شرح مسلم» : القوام والحداد بكسر أولهما ما يغني
من الشيء ويشد به الحاجة، فاقتصر على الكسر إما لأن مراده
ما يغني ويسدّ من خصوص القوت، أو اقتصر عليه لأنه الأفصح
(والسداد بكسر السين) المهملة (ما يسد حاجة المعوز) بضم
فسكون فكسر، من أعوز الرجل: افتقر (ويكفيه) أي من مال
ونحوه كما قدمه المصنف في قرينه الذي شك فيه الراوي هل هو
أو ذاك، زاد في «شرح مسلم» : وكل شيء سددت به شيئاً فهو
سداد بالكسر، ومنه سداد الثغر وسداد القارورة، وقولهم سداد
من عوز (والفاقة) بالفاء والقاف بينهما ألف (الفقر) أي
الحاجة كما في «المصباح» ، يقال: افتاق الرجل: احتاج، وهو
من ذو فاقة أي حاجة (والحجى) بالضبط السابق فيه (العقل) .
16 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: ليس المسكين) أي الكامل المسكنة
الممدوحها لا لنفي أصل المسكنة (الذي ترده اللقمة
واللقمتان) زاد مسلم في رواية له: ليس المسكين بهذا
الطوّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان
(والتمرة والتمرتان ولكن) عطف على ما قبله، ولكن لاستدراك
ثبوت ما توهم نفيه من سابقه، إذ المعهود في المسكين عند
الناس هو الطواف، وقد نفي عنه المسكنة فربما يتوهم نفيه
مطلقاً فرفع ذلك بقوله ولكن (المسكين الذي لا يجد غنىً)
بكسر أوله المعجم وبالقصر: ضد الفقر
(4/520)
(يغنيه) بضم التحتية: أي يكفيه عن سؤال
الغير (ولا يفطن له) لتصبره وكتم حاله وما هو فيه (فيتصدق
عليه) بالبناء للمجهول منصوب في جواب النفي (ولا يقوم في
الناس فيسأل الناس) أي فهذا هو الكامل المسكنة الممدوحها،
وهذا الحديث قد سبق مع شرحه في باب ملاطفة اليتيم والمسكين
(متفق عليه) رواه البخاري في «التفسير» ، ومسلم في الزكاة
من «صحيحهما» ، ورواه النسائي في الزكاة وفي «التفسير» من
«سننه» كذا في «الأطراف» للمزي.
58 - باب جواز الأخذ للمال
من باذله (من غير مسألة) أي سؤال (ولا تطلع) أي ترقب
واستشراف (إليه) .
1 - (عن سالم بن عبد الله بن عمر) يكنى أبا عمرو، وقيل:
أبو عبد الله القرشي العدوي المدني التابعي الإمام الفقيه
الزاهد العابد، وأجمعوا على إمامته وجلالته وزهادته وعلوّ
مرتبته، وعن مالك بن أنس: لم يكن أحد أشبه بمن مضى من
الصالحين في الزهد والقصد في العيش في سالم، كان يلبس
الثوب بدرهمين، وهو أحد الفقهاء السبعة فيما عدهم ابن
المبارك. توفي بالمدينة سنة ست فيما قاله البخاري وشيخه
أبو نعيم، وسنة خمس فيما قال الأصمعي، وسنة ثمان فيما قال
الهيثم ومائة (عن أبيه عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله
عنهم) فيه تغليب لهما على سالم فإنه تابعي، وإنما يقول
بصيغة الجمع في أبناء الصحابة المتناسقين كأسامة بن زيد بن
حارثة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ابن أبي قحافة
وأضرابهم (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يعطيني العطاء) أي من الغنائم (فأقول: أعطه من هو أفقر) أي
أحوج (إليه) أي العطاء بمعنى المعطي (مني) وكان ذلك من عمر
لسماعه من النبيّ للنهي عن الاستكثار من الدنيا والحرص
عليها، وعنده حين دفع النبيّ له من العطاء
(4/521)
«ما يكفيه فيقول أعطيه» (فقال) أي النبيّ
(خذه) أي متملكاً له بدليل إذنه له في التصرف فيه بقوله:
(إذا جاءك) أي وصلك (من هذا المال) أل فيه للحقيقة ويحتمل
كونها عهدية: أي من مال العطاء (شيء) التنوين فيه للتعميم
فيشمل القليل والجليل (وأنت غير مشرف ولا سائل) عطف على
مشرف بإعادة النافي دفعاً لتوهم أن النفي منصب على
مجموعهما والجملة في محل الحال من مفعول أتاك فخذه فتموله
(أي اتخذه مالاً، ثم أنت مخير بين إنفاقه في حاجتك وبين
التصدّق كما قال منبهاً بالفاء التفريعية في قوله: فإن شئت
كله) أي فإن شئت أكله، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه
وهو قوله كله، وقبله فاء الجواب مقدرة، ومثله فيما ذكر من
حذف مفعول شاء والفاء من الجواب قوله: (وإن شئت تصدق به)
ففي الحديث حذف فاء الجواب في غير الشعر، ومذهب سيبويه
اختصاص الحذف به لكن زعم الأخفش أن حذفها واقع في النثر
وأن منه قوله تعالى: {إن ترك خيراً الوصية للوالدين}
(البقرة: 180) وعن المبرد أيضاً جواز حذفها في الاختيار،
لكن قال في الارتشاف في حفظي قديماً عن المبرد منع حذفها
حتى في الشعر، وحينئذ فالحديث شاهد لمن أجاز حذف الفاء
مطلقاً، ومن منع الاستشهاد بالحديث في ذلك حمله على أنه من
تغيير الرواة، والله أعلم (ومالا) أي وأي مال لا يجيئك على
الحال المذكورة بأن جاءك وأنت مشرف أو سائل (فلا تتبعه
نفسك) معاملة لها بنقيض مرادها (قال سالم) ذكره ها هنا هو
النكتة في ذكره قبل الصحابي أول الحديث نظير ما تقدم عن
أبي بردة في حديث أبي موسى في الباب السابق قال سالم: أي
المذكور أولاً (فكان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً) أي
قليلاً ولا جليلاً من الدنيا كما يؤذن به التنوين (ولا يرد
شيئاً أعطيه) عملاً بالحديث المذكور ووقوفاً عنده وقد كان
ابن عمر شديد الاتباع (متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة
وفي الأحكام من «صحيحه» ،
(4/522)
ومسلم في الزكاة من «صحيحه» ، ورواه
النسائي في الزكاة من «سننه» . مشرف بصيغة الفاعل من
الإشراف بالمعجمة والفاء: أي متطلع إليه. وفي «فتح الباري»
: الإشراف التعرّض للشيء والحرص عليه من قولهم أشرف على
كذا إذا تطاول له، وقيل: للمكان المرتفع شرف، لذلك قال أبو
داود: سألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب، وقال يعقوب
بن محمد: سألت أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث لي
فلان بكذا، وقال الأمر يضيق عليه: أن يرده إذا كان كذلك
اهـ.
59 - باب الحث بفتح المهملة وتشديد المثلثة: أي التحريض
(على الأكل من عمل يده) بالاحتراف والاكتساب (والتعفف به
عن السؤال والتعرض) معطوف على مجرور عن، وعن التعرض: أي
التطلب (للإعطاء) .
(قال الله تعالى) : ( {فإذا قضيت الصلاة} ) أي صلاة الجمعة
( {فانتشروا في الأرض} ) أي لقضاء حوائجكم ( {وابتغوا من
فضل ا} ) أي رزقه وهذا أمر إباحة بعد الحظر، عن بعض السلف
«من باع واشترى بعد الجمعة بارك الله له سبعين مرة» .
1 - (وعن أبي عبد الله الزبير بن العوام) بن خويلد القرشي
الأسدي المكي، ثم المدني أحد العشرة المبشرة بالجنة تقدمت
ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بأداء الأمانة (قال:
قال رسول الله) مؤكداً للشيء المقطوع بصدقه بالقسم المقدر
المؤذن به اللام من قوله (لأن من يأخذ أحدكم) أي وا لأخذ
أحد منكم (أحبله) بفتح أوله وسكون المهملة وضم الموحدة جمع
قلة الحبل (ثم يأتي الجبل) أي مثلاً فغيره من المفازات
محال الحطب كذلك، ولعل التصريح به ما في الصعود فيه من
زيادة المشقة على سلوك الأودية (فيأتي
(4/523)
بحزمة من حطب على ظهره) من نفسه أو من ظهر
دابته والأول أنسب بما قبله (فيبيعها فيكف الله بها وجهه)
أي فيمنع بها ذاته من الحاجة، وعبر بالوجه عن الكل لأنه
أشرف الأجزاء الإنسانية، أو لأن السؤال إنما يكون به
غالباً (خير له من أن يسأل الناس) قال الحافظ في «الفتح» :
خير ليس للتفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الكسب،
بل الأصح حرمته عند الشافعي، ويحتمل أنه كذلك بحسب اعتقاد
السائل وتسمية الذي يعطاه خيراً وهو في الحقيقة شر (أعطوه
أو منعوه) تقسم للسؤال المفضل عليه الاكتساب، وتصدير
الحديث بالقسم الدال عليه اللام كما تقدم لتأكيده في نفس
السامع وفيه مزيد الحض على التعفف عن المسألة والتنزه
عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشاق في
ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لما فضل عليها ذلك،
وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن الرد إذا لم
يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق من ماله إن أعطى كل
سائل (رواه البخاري) في الزكاة من «صحيحه» ، ورواه ابن
ماجه في الزكاة من «سننه» أيضاً.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لأن
يحتطب أحدكم حزمة على ظهره) أي فيبيعها فيكف الله بها وجهه
كما تقدم في حديث الزبير قبله، قال الحافظ في «الفتح» :
وحذف من هذه الرواية لدلالة السياق عليه (خير له من أن
يسأل أحداً) هو بمعنى قوله فيما قبله: من أن يسأل الناس
(فيعطيه أو يمنعه متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة من
«صحيحه» ورواه مسلم فيها من طريق آخر من «صحيحه» ، ورواه
الترمذي من طريق مسلم في الزكاة وقال: حسن غريب مستغرب من
حديث بيان عن قيس.
3 - (وعنه عن النبي قال: كان داود عليه السلام لا يأكل إلا
من عمل يديه) قال
(4/524)
الحافظ: الظاهر أن الذي كان يعمله داود
بيده الدروع، وألان الله له الحديد فكان ينسج الدروع
ويبيعها ولا يأكل إلا من ثمن ذلك، مع أنه كان من كبار
الملوك، قال تعالى: {وشددنا ملكه} (ص: 20) وكان مع سعة
ملكه يتورّع ولا يأكل إلا من عمل يده (رواه البخاري) في
البيوع من «صحيحه» من حديث أبي هريرة باللفظ المذكور من
جملة حديث أوله: خفف على داود القرآن وفي آخره وكان لا
يأكل إلا من عمل يديه.
4 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان
زكريا) قال المصنف في «التهذيب» : فيه خمس لغات: أشهرها
بالمدّ، والثانية بالقصر وبهما قرىء في السبع، والثالثة
والرابعة زكري بلا ألف بتخفيف الياء وتشديدها حكاهما ابن
دريد وآخرون من المتأخرين الجواليقي، والخامسة زكر كعلم
حكاها أبو البقاء، وقوله: (عليه السلام) فيه إيماء إلى ما
قدمناه من أنه لا كراهة في إفراد واحد من الأنبياء بالصلاة
لحديث الطبراني: «صلوا على سائر الأنبياء فإنهم بعقوا كما
بعثت» (نجاراً) وهذا من الفضائل لحديث البخاري: «أفضل ما
أكل الرجل من عمل يده» ولحديث المقدام وغيرهما، وفي «شرح
مسلم» للمصنف في الحديث جواز الصنائع وأن النجارة لا تسقط
المروءة وأنها صنعة فاضلة، وفيه فضيلة لزكريا وأنه كان
صانعاً يأكل من كسبه (رواه مسلم) في أحاديث الأنبياء من
«صحيحه» ، ورواه ابن ماجه في كتاب التجارات بالفوقية من
«سننه» .
5 - (وعن المقدام) بكسر الميم وسكون القاف وبالدال المهملة
(ابن معد يكرب) بسكون الياء (رضي الله عنه عن النبي قال:
ما أكل أحد طعاماً قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة
المشددة ظرف لاستغراق ما مضى وباقي الأزمنة مقيسة عليه
فيما يأتي (خيراً
(4/525)
من أن يأكل) أي: أو يشرب أو يلبس، وذكر
الأكل لأنه أغلب أنواع الاستعمال كما قيل به في قوله
تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء:
10) فإن المراد استعمالها بأي وجه وذكر لذلك (من عمل يديه)
كناية عن الكسب وذكر اليدين، إما لأنه أفضل مما ليس فيه
عملهما، ويؤيده أنه قيل له: أيّ الكسب أفضل؟ فقال: عمل
الرجل بيده، وكل بيع مبرور. أو لأن أغلب الأعمال بهما،
وإلا فالمراد مطلقة كالحاصل من كسب النظر كأن يستأجر لحفظ
متاع، والسمع كأن يستأجر لسماع طلب درس علم، أو النظر كأن
يستأجر لقراءة قرآن، أو لا من شيء من أعضائه كأن يستأجر
ليصوم عن ميت، ثم المراد كما تدل عليه القواعد الشرعية كسب
حلال خالص من الغش بسائر وجوهه. قال في «فتح الإله» :
ويؤخذ من عموم الحديث أن الاكتساب خير من التوكل، على أنه
لا ينافيه بل هو عينه لكن بقيد كما يفهم ذلك حده الذي قيل
فيه: إنه أفضل حدوده: إنه مباشرة الأسباب مع شهود مسببها،
فالاكتساب مع شهود أن حصوله بتيسير الله له ولطفه به
وإقداره عليه، وفتح أبواب الرزق التي يحتاج إليها أفضل من
عدمه وإن كان إنما تركه لنحو صلاة أو صيام وقد كان شأن
أكابر القوم ذلك، فقد كان للجنيد سيد الطائفة الصوفية ذكان
في البزازين، وكان يرخي ستره عليه فيصلي ما بين الظهرين
قيل ألف ركعة وقيل أربعمائة وقيل: مائة، ولعله اختلف فعله
فحكى كل من أصحابه ما اطلع عليه. وكان ابن أدهم يكثر الكسب
وينفق منه ضرورته ويتصدق بباقيه. وكان أحب طرقه إليه حفظ
البساتين وخدمتها لأنه تتم له فيها الخلوة ومجاهدة النفس
بأعظم أنواع مجاهداتها، ومن ثم لم يعهد أنه أكل من ثمرة من
ثمارها.
وترك بعض الكسب كان بعد كمال رياضة نفوسهم وتهذيبها (وإن
نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. رواه
البخاري) في أوائل البيوع من «صحيحه» قبل حديث أبي هريرة
المذكور قبله، ومما هو انفرد به البخاري عن باقي الكتب
الستة، والله أعلم.
5 - (وعن المقدام) بكسر الميم وسكون القاف وبالدال المهملة
(ابن معد يكرب) بسكون الياء (رضي الله عنه عن النبي قال:
ما أكل أحد طعاماً قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة
المشددة ظرف لاستغراق ما مضى وباقي الأزمنة مقيسة عليه
فيما يأتي (خيراً من أن يأكل) أي: أو يشرب أو يلبس، وذكر
الأكل لأنه أغلب أنواع الاستعمال كما قيل به في قوله
تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء:
10) فإن المراد استعمالها بأي وجه وذكر لذلك (من عمل يديه)
كناية عن الكسب وذكر اليدين، إما لأنه أفضل مما ليس فيه
عملهما، ويؤيده أنه قيل له: أيّ الكسب أفضل؟ فقال: عمل
الرجل بيده، وكل بيع مبرور. أو لأن أغلب الأعمال بهما،
وإلا فالمراد مطلقة كالحاصل من كسب النظر كأن يستأجر لحفظ
متاع، والسمع كأن يستأجر لسماع طلب درس علم، أو النظر كأن
يستأجر لقراءة قرآن، أو لا من شيء من أعضائه كأن يستأجر
ليصوم عن ميت، ثم المراد كما تدل عليه القواعد الشرعية كسب
حلال خالص من الغش بسائر وجوهه. قال في «فتح الإله» :
ويؤخذ من عموم الحديث أن الاكتساب خير من التوكل، على أنه
لا ينافيه بل هو عينه لكن بقيد كما يفهم ذلك حده الذي قيل
فيه: إنه أفضل حدوده: إنه مباشرة الأسباب مع شهود مسببها،
فالاكتساب مع شهود أن حصوله بتيسير الله له ولطفه به
وإقداره عليه، وفتح أبواب الرزق التي يحتاج إليها أفضل من
عدمه وإن كان إنما تركه لنحو صلاة أو صيام وقد كان شأن
أكابر القوم ذلك، فقد كان للجنيد سيد الطائفة الصوفية ذكان
في البزازين، وكان يرخي ستره عليه فيصلي ما بين الظهرين
قيل ألف ركعة وقيل أربعمائة وقيل:
مائة، ولعله اختلف فعله فحكى كل من أصحابه ما اطلع عليه.
وكان ابن أدهم يكثر الكسب وينفق منه ضرورته ويتصدق بباقيه.
وكان أحب طرقه إليه حفظ البساتين وخدمتها لأنه تتم له فيها
الخلوة ومجاهدة النفس بأعظم أنواع مجاهداتها، ومن ثم لم
يعهد أنه أكل من ثمرة من ثمارها. وترك بعض الكسب كان بعد
كمال رياضة نفوسهم وتهذيبها (وإن نبيّ الله داود عليه
السلام كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري) في أوائل
البيوع من «صحيحه» قبل حديث أبي هريرة المذكور قبله، ومما
هو انفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، والله أعلم.
60 - باب الكرم والجود
بضم الجيم الكرم: بذل ما ينبغي من المال فيما ينبغي، وفي
«الشفاء» للقاضي عياض:
(4/526)
الكرم والجود والسخاء والسماحة معانيها
متقاربة، وفرق بعضهم بينها بفروق فجعل الكلام الإنفاق يطيب
النفس فيما يعظم خطره ونفعه، وسموه أيضاً حرية وهو ضد
النذالة. والسماحة: التجافي عما يستحقه المرء عند غيره
بطيب نفس وهو ضد الشكاية، والسخاء: سهولة الإنفاق وتجنب
اكتساب ما لا يحمد وهو الجود، وهو ضد التقتير اهـ. قال في
«المصباح» : يقال: جاد الرجل يجود جوداً بالضمّ، تكرّم
(والإنفاق في وجوه الخير) من صدقة وصلة رحم وقرىء ضيف ووقف
على جهة خير ونحو ذلك (ثقة با تعالى) أي بوعده الذي لا
يخلف من حسن الجزاء على ذلك في دار القرار، قال الله
تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها
ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} (النساء: 40) وقال تعالى: {من
جاء بالحسنة فله خير منها} (النمل: 89) وقال: «والصدقة
برهان» أي علامة على تصدق باذلها بوعد الله تعالى: (قال
الله تعالى) : ( {وما أنفقتم من شيء} ) أي في رضى الله
تعالى: ( {فهو يخلفه} ) يعوضه في الدارين أو في أحدهما وقد
تقدمت مع الكلام عليها في باب الإنفاق على العيال.
(وقال تعالى) : ( {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} ) أي وأيّ
إنفاق منكم لمرضاة الله تعالى فلأنفسكم ثوابه فلا تمنوا به
على أحد ( {وما تنفقوا إلا ابتغاء وجه ا} ) الواو للحال أو
عطف، يعني أن المؤمن لا ينفق إلا لمرضاة الله تعالى، وقيل:
نفي في معنى النهي. قال عطاء الخراساني: معناه إذا أعطيت
لوجه الله فلا عليك ما كان عمله فإنك مثاب لنفسك، كان
السائل مستحقاً أو غيره برّاً أو فاجراً ( {وما تنفقوا من
خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون} ) فلا ينقص ثواب صدقاتكم.
(وقال تعالى) : ( {وما تنفقوا من خير} ) أي مريدين به
مرضاته سبحانه ( {فإن الله به عليم} ) أي فيجازيكم بقدره،
وفيه ترغيب في الإنفاق لذلك.
1 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: لا حسد) أي
لا غبطة كما
(4/527)
يأتي فتجوز به عنها بجامع تمني مثل النعمة
إلا أنها تزيد على الحسد بتمني زوالها عن صاحبها (إلا في
اثنتين) أي من الخصال (رجل) بالرفع على القطع بإضمار مبتدأ
أو مضاف وتقديرهما خصلتا رجل، فحذف المضاف وأقيم المضاف
إليه مقامه وارتفع ارتفاعه ورأيته في أصل مصحح من مسلم بجر
رجل، ويخرج على أنه بدل من اثنتين بتقدير مضاف قبله: أي
إلا في اثنتين رجل الخ، ثم رأيت الحافظ في «فتح الباري»
ذكر فيه وجوه الإعراب الثلاثة وصدر بالجرّ ولم يذكر وجهه
قال: والرفع على الاستئناف والنصب بإضمار أعني اهـ (آتاه)
بالمد والفوقية: أي أعطاه (امالاً) التنوين فيه للتعميم
فيشمل القليل والكثير لكن في إنفاق الأوّل تفصيل مذكور في
كتب الفقه (فسلطه على هلكته) بفتح أوائله وهو مصدر هلك
يهلك من باب ضرب يضرب هلكاً وهلاكاً وهلوكاً ومهلكاً بفتح
الميم وتثليث اللام: أي إنفاقه (في الحق) خلاف الباطل: أي
في القرب والطاعات، وفيه إيماء إلى أن إذهابه في خلاف ذلك
في إتلاف المال بالباطل (ورجل آتاه الله حكمة) أي علماً.
قال الحافظ: المراد به القرآن كما ورد في حديث ابن عمرو،
أو أعم من ذلك وضابطها ما منع من الجهل وزجر عن القبيح
اهـ. (فهو يقضي بها) بين المتنازعين إليه (ويعلمها) الطالب
لها (متفق عليه) قال السيوطي في «الجامع الكبير» : ورواه
أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث ابن
عمر بلفظ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن
فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله
مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» ورواه أحمد
والبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا حسد إلا في اثنتين:
رجل علمه القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فسمعه
جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت ما يعمل»
ورواه ابن عدي والبيهقي والخطيب من حديث أبي هريرة بلفظ:
«لا حسد ولا ملق إلا في طلب العلم» ورواه ابن نصر في كتاب
الصلاة من حديث ابن عمر بلفظ: «لا حسد إلا على اثنتين: رجل
آتاه الله مالاً فصرفه في سبيل الخير، ورجل آتاه الله
علماً فعلمه وعمل به» اهـ (ومعناه: ينبغي ألا يغبط أحد)
على حال هو فيه كائناً ما كان (إلا على
(4/528)
إحدى هاتين الخصلتين) لعظم نفعهما وحسن
وقعهما وإذا كان يغبط على أحدهما فجملتهما بالأولى.
2 - (وعنه قال: قال رسول الله: أيكم مال وارثه أحبّ إليه
من ماله) قال في «الفتح» : أي إن الذي يخلفه الإنسان من
المال وإن كان حالاً منسوباً إليه فإنه مجازيه ومن بعد
حقيقة (قالوا: يا رسول الله ما منا أحد) التقديم للخبر
الظرفي على المبتدأ للاهتمام بجانبه (إلا ماله أحبّ إليه)
جملة وصفية لأحد، ويصح كونها في محل الحال لتخصيصه بتقديم
الخبر، وحذف المفضل عليه وهو قوله من مال وارثه اكتفاء
بذكره في كلام السائل (قال: فإن ماله ما قدم) بأن تصدق أو
أكل أو ليس كما في الحديث السابق: «ليس لك من دنياك إلا ما
أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت» أو كما قال،
فهذا هو الذي يضاف إليه حياً وميتاً بخلاف ما يخلفه من
المال. قال ابن بطال: فيه التحريض على ما يمكن تقديمه من
المال في وجوه البرّ والقرب لينتفع به في الآخرة، فإن كل
ما يخلفه يصير ملكاً للوارث كما قال: (ومال وارثه ما أخر)
فإن عمل فيه بطاعة الله اختص بثوابه عن الميت وإن كان عمل
فيه بمعصية الله تعالى فذلك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع
إن سلم من تبعته، ولا يعارض حديث سعد بن أبي وقاص: «إنك إن
تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة» لأن ذلك فيمن
تصدّق بماله كله أو معظمه في مرضه، وهذا الحديث فيمن تصدق
حال صحته (رواه البخاري) في الرقاق في «صحيحه» ، ورواه
النسائي في الوصايا من «سننه» .
3 - (وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: «اتقوا النار» ) أي اتخذوا
(4/529)
بينكم وبينها وقاية من صالح الأعمال جل أو
قل (ولو بشق) بكسر المعجمة أي نصف (تمرة. متفق عليه) وقدم
مع الكلام عليه في آخر الحديث الطويل في باب الخوف.
4 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - شيئاً قط) لتأكيد استغراق الأزمنة وتنكير
شيئاً ليعم جلالة المسؤول وقلته ووجدانه له وفقده (فقال:
لا) بل إن كان عنده أعطاه، أو يقول له ميسوراً من القول
فيعده أو يدعو له، فكان إن وجد جاد وإلا وعد ولم يخلف
الميعاد، فليس المراد أنه يعطي ما طلب منه جزماً، بل إنه
لا ينطق بالرد، فإن كان عنده المسؤول وساغ الإعطاء أعطى
وإلا وعد، وقوله للإشعريين: وا لا أحملكم، أجيب أنه تأديب
لهم لسؤالهم منه ما ليس عنده مع تحققهم ذلك، ومن ثمة حلف
حسماً لطمعهم في تحصيله بنحو استدانة (متفق عليه) رواه
البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في فضائل النبي
والترمذي في «الشمائل» .
5 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ما
من) مزيدة للتنصيص على العموم والاستغراق» في قوله (يوم)
جاء في حديث أبي الدرداء «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا
وبجنبيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا
الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير
مما كثر وألهى، ولا غربت شمسه إلا وبجنبها ملكان يناديان»
فذكر مثل حديث أبي هريرة (يصبح العباد فيه) هذا ظاهر في أن
المراد من اليوم ضد الليل (إلا ملكان) في حديث أبي الدرداء
إلا وبجنبيها ملكان. والجنب بسكون النون الناحية (ينزلان)
والجملة حال من العباد (فيقول) بالرفع عطف على الفعل
المرفوع (أحدهما: اللهم أعط منفقاً) قال الأبي: أي النفقة
في الواجب لأن في المال حقوقاً متعينة والنفقة في
(4/530)
المندوب لكن بالمعروف، وقال القرطبي: هو
يعم الواجبات والمندوبات لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق
الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه
بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه اهـ (خلفاً) يحتمل أن
يكون في الدنيا ويحتمل أن يكون في الآخرة، وفيه الحض على
الإنفاق ورجاء قبول دعوة الملك، وبشهد لهذا قوله تعالى:
{وما أنفقتم من شيء فهو بخلفه} (سبأ: 39) وفي اعتبار
المعروف قوله تعالى: {ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: 4)
(ويقول الآخر) بفتح المعجمة (اللهم أعط ممسكاً) أي عن
الإنفاق الواجب والمندوب (تلفاً) قال الحافظ في «الفتح» :
التعبير بالعطية في هذا للمشاكلة لأن التلف ليس عطية،
والتلف يحتمل أن يراد تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب
المال والمراد به فوت أعمال البر بالتشاغل بغيرها، وأفاد
هذا الحديث توزيع الكلام بينهما فنسب إليهما في حديث أبي
الدرداء نسبة المجموع إلى المجموع. قال المصنف: الإنفاق
الممدوح ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات
(متفق عليه) أخرجاه في الزكاة من «صحيحهما» ، وأخرجه
النسائي في عشرة النساء وفي التفسير من
«سننه» . والحديث قد تقدم مع شرحه في باب النفقة على
العيال.
6 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال
الله تعالى) أي فهو من الأحاديث القدسية (أنفق) أي أيها
الصالح للخطاب من سائر المؤمنين: أي أنفق المال في وجوه
القرب بالطريق المأذون فيه شرعاً إيماناً واحتساباً (ينفق
عليك) بالبناء للمفعول وحذف الفاعل للعلم به سبحانه وهو
مجزوم جواب شرط مقدر: أي إن تنفق ينفق: أي يوسع عليك ويخلف
عوض ما تنفقه، فعبر عنه بالإنفاق على سبيل المشاكلة (متفق
عليه) .
(4/531)
7 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف
الياء إما على لغة من يقف على المنقوص المعرف بالسكون،
وإما على أنه من الأجوف: أي من العيص لكن الأفصح على كونه
من المنقوص الوقف عليه بالياء وقد تقدم ذلك (رضي الله
عنهما أن رجلاً) في «صحيح مسلم» عن أبي موسى قال: قلت: يا
رسولالله، وجاء في طريق أخرى عنه: سألنا رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فهذا ظاهر في أنه هو (سأل رسول الله)
وقوله: (أيّ الإسلام خير) على تقدير القول: أي قائلاً أي
الإسلام: أيّ خصاله أو أي ذويه فعل الثاني يقدر قبل قوله:
(قال تطعم) بالرفع (الطعام) وما بعده مضاف: أي ذو إطعام
الطعام لأن المراد من الفعل فيه المصدر: إما على تقدير أن
المصدرية قبله، أو على تنزيل الفعل منزلته والوجهان
مذكوران في نحو: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، واقتصر
البدر الدماميني في «مصابيحه» على الأول وقال فيه حذفها في
غير مواضعها المشهور كالمثال المذكور قال: على أن بعضهم
جعل حذفها على الإطلاق مقيساً قال: والظاهر أن المراد
الإطعام على وجه الصدقة والهدية والضيافة ونحو ذلك لأنه
ذكر بصيغة العموم (وتقرأ السلام) مفتوح الفوقية والراء
لأنه من قرأ. قال الزركشي ويجوز ضم أوله وكسر ثالثه. قال
الدماميني: هي لغة سوء. قال القاضي عياض: لا يقال: أقرئه
السلام إلا في لغة سوء إلا إذا كان مكتوباً إليه فتقول
ذلك: أي اجعله يقرؤه كما يقال: اقرىء الكتاب اهـ. أي ولا
يتأتى هذا الأخير هنا اهـ. أي لأن المراد إفشاء السلام على
من لقيت (على من عرفت ومن لم تعرف) وفي بذل الطعام كما
ذكرنا وقرأ السلام على من ذكر استئلاف للقلوب استجلاب
لودها فلا جرم وقع الحض عليهما (متفق عليه) أخرجه البخاري
ومسلم في الإيمان، وابن ماجه في الأطعمة.
8 - (وعنه قال: قال رسول الله: أربعون خصلة) جاز الابتداء
بأربعون مع نكارته لتخصيصه بالعمل في تمييزه لأن الأصح عند
النحاة أن العامل في التمييز عن مبهم هو ذلك الاسم المفسر،
قال الحافظ في «الفتح» : وعند أحمد أربعون حسنة (أعلاها
منيحة العنز) قال
(4/532)
أبو عبيدة: المنيحة عند العرب على وجهين.
أولهما إعطاء الرجل صاحبه نحو شاة صلة. ثانيهما أن يعطيه
شاة أو ناقة ينتفع بحلبها ثم يردها وهذا هو المراد هنا (ما
من عامل يعمل بخصلة) أي بواحدة (منها رجاء ثوابها) مفعول
له، ويصح كونه منصوباً على الحال: أي راجياً ثوابها وفيه
إيماء إلى أن ترتب الثواب على صالح العمل ليس على سبيل
اللزوم، بل على سبيل الفضل من المولى سبحانه (وتصديق
موعودها) الإضافة لأدنى ملابسة أي الموعود به فيها (إلا
أدخله الله تعالى بها الجنة) قال الحافظ ابن حجر نقلاً عن
ابن بطال: قد كان النبي عالماً بالأربعين المذكورة، وإنما
لم يذكرها لمعنى هو أنفع من ذكرها، وذلك خشية أن يكون
التعيين لها مزهداً في غيرها من أبواب البرّ. قال الحافظ
بعد أن نقل عن ابن بطال عن بعضهم تعيين تلك الخصال وتعقب
ابن المنير له في كون بعضها أعلى من المنيحة ما لفظه: وأنا
موافق لابن بطال في إمكان تتبع أربعين خصلة من خصال الخير
أدناها منيحة العنز وموافق لابن المنير في رد كثير مما قال
ابن بطال، مما هو ظاهر أنه فوق المنيحة والله أعلم (رواه
البخاري) في أواخر الهبة من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في
كتاب الزكاة من «سننه» (وقد سبق بيان هذا الحديث) أي يذكر
معنى المنيحة (في باب بيان كثرة طرق الخير) .
9 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين (صدى) بضم
ففتح فتشديد التحتية (ابن عجلان رضي الله عنه قال: قال
رسول الله: يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل) بفتح همزة أن
المصدرية وهي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب بدل اشتمال من
اسم إن: أي بذلك الفضل، وبكسرها على أنها شرطية، والفضل ما
زاد على ما تدعو إليه حاجة الإنسان لنفسه ولمن يمونه (خير
لك) خبر أن على الأول وخبر محذوف مع الفاء على الثاني: أي
فهو خير لك وبه يتبين ترجيح الفتح لأن الأصل عدم الحذف
(وأن تمسكه) بفتح الهمزة: أي وإمساكك إياه (شر لك) لأنك
تحاسب عليه ولا تلقاه بين يديك عند حاجتك إليه (ولا تلام)
أي ولا يلحقك لوم من الشرع (على كفاف) أي إمساك ما تكف به
الحاجة
(4/533)
(وابدأ بمن تعول) من زوجة وقريب وعبد ودابة
لأن حقهم واجب وهو أفضل من المندوب بسبعين ضعفاً (واليد
العليا) المنفقة، وقيل: المتعففة عن السؤال (خير من اليد
السفلى) أي الآخذة، وقيل: السائلة، والحديث تقدم مع الكلام
عليه في باب فضل الجوع (رواه مسلم) .
10 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - على الإسلام) على فيه تعليلية: أي لأجل
الإسلام (شيئاً) من الدنيا جل أو قل وهو ثاني مفعولي سئل
(إلا أعطاه) ترغيباً في الإسلام وإنقاذاً لذلك من النار
للرحمة التي طبع عليها (ولقد جاءه رجل) لم يتعرض المصنف في
«شرح مسلم» لبيانه ولعله كان من المؤلفة (فأعطاه غنماً بين
جبلين) أي كثيرة كأنها تملأ ما بين الجبلين، وهذا الإعطاء
منه يحتمل أن يكون عن سؤال من ذلك الرجل، ويحتمل أن يكون
ابتداء زيادة لترغيبه في الإسلام إن لم يكن أسلم، أو
لدوامه عليه إن أسلم ونيته ضعيفة فيه. قال المصنف: يجوز أن
يعطي المسلم من المؤلفة من الزكاة ومن بيت المال ولا يجوز
أن يعطي مؤلفة الكفار من الزكاة، وفي إعطائهم من غيرها
خلاف، الأصح عندنا لا يعطون منه الآن لأن الله قد أعزّ
الإسلام وكثرهم بخلاف أوّل الإسلام، وقد قل المسلمون اهـ
(فرجع إلى قومه) داعياً لهم إلى الإسلام (فقال: يا قوم
أسلموا) أي لتغنموا الدنيا لأنه لم يكشف له أنوار اليقين
إلى حينئذ كما يدل عليه قوله (فإن محمداً يعطي عطاء) مفعول
مطلق جوز الهمذاني في مثله من قوله تعالى: {وا أنبتكم من
الأرض نباتاً} (نوح: 17) أن يكون مصدراً مؤكداً لفعله
وفعله محذوف يدل عليه أنبت والتقدير: أنبتكم فنبتم نباتاً
وأن يكون مؤكداً لعين أنبت على حذف الهمزة من أوله، وله
نظائر في كلام العرب نظماً ونثراً اهـ. واقتصر ابن هشام في
«الجامع» على كونه مؤكداً لعامله، قال شارحه: فنبات مصدر
لفعل عين أنبت ووقع في التوضيح ما يقتضي التمثيل به لاسم
العين النائب عن المصدر قال قرينه: وهو مخالف لكلام
النحويين اهـ. وقيد العطاء إنما يدل على المبالغة فيه
بقوله:
(4/534)
(من لا يخشى) يخاف (الفقر) لشدة معرفته
بهبات ربه وسعة خزائن فضله، وقوله: (وإن) مخففة من
الثقيلة: أي وإنه (كان الرجل ليسلم) أي يدخل في الإسلام
وينتظم في عدادهم (ما يريد)
بإسلامه (إلا الدنيا) لما يرى من مزيد بذله تأليفاً على
الإسلام وترغيباً (فما يلبث) بفتح التحتية والموحدة وسكون
اللام بينهما: أي يمكث (إلا) زمناً (يسيراً) تشرق في قلبه
أشعة أنوار الإيمان وتخالط بشاشته قلبه فيتمكن منه (حتى
يكون الإسلام أحبّ إليه من الدنيا وما عليها) فهذا من كمال
رحمته ومزيد معرفته، أن دواء كل داء بما يقطع مادته من
أصلها لتقلب تلك الأمراض إلى ضدها، فصلى الله وسلم عليه
وزاده فضلاً وشرفاً لديه. وفيه عناية الله بأولئك الذين
أهلهم لمعاملة نبيه المصطفى إياهم بتلك المعاملة لينالوا
الدرجات العلية (رواه مسلم) في فضائل الأنبياء من «صحيحه»
.
11 - (وعن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه قال: قسم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً) أي ما يقسم من ماله
الغنائم أو الخراج أو نحو ذلك (فقلت) معطوف على مقدر دل
عليه الكلام فأعطى أناساً وترك آخرين (يا رسول الله لغير
هؤلاء) أي المعطين (كانوا أحق) أي أولى (به) أي بالعطاء
(منهم) أي من هؤلاء وآكد باللام المؤذنة بالقسم المقدر
وإسمية الجملة لما فهمه من ترك النبي إعطاءهم من أن غيرهم
أحق بذلك منهم، قال الأبي: وهذا التنبيه لظنه أن الإيثار
بالعطاء بحسب الفضيلة والسابقة في الدين، فبين له سببه
بقوله: (قال: إنهم خيروني) قال الأبي: الأظهر أنه بلسان
الحال: أي وكلوا الخيرة إلى (بين أن يسألوني بالفحش
فأعطيهم) أو أن (يبخلوني) معناه كما قال المصنف أنهم ألحوا
عليّ في السؤال لضعف إيمانهم وألجئوني بمقتضى حالهم إلى
السؤال بالفحش أو بنسبتي إلى البخل (ولست بباخل) ولا ينبغي
احتمال أحد الأمرين، وقال الأبي نقلاً عن عياض: المعنى
أنهم أشطوا عليه في السؤال على وجه يقتضي أنه إن أجابهم
إليه حاباهم، وإن منعهم آذوه وبخلوه، فاختار أن يعطي إذ
ليس البخل من خلقه مداراة وتألفاً كما قال: «شرّ الناس من
اتقاه
(4/535)
الناس اتقاء لشرّه» .g
وكما أمر بإعطاء المؤلفة ففيه ما كان عليه من عظيم الخلق
والصبر والحلم والإعراض عن الجاهلين كما أمر (رواه مسلم)
في الزكاة من «صحيحه» وقد انفرد به عن باقي الستة.
12 - (وعن) أبي محمد، ويقال: أبو عدي (جبير) بضم الجيم
وفتح الموحدة وسكون التحتية (ابن مطعم) بصيغة اسم الفاعل
ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي المدني
(رضي الله عنه) أسلم يوم الفتح وقيل: قبله وحسن إسلامه،
وكان سيداً حكيماً وقوراً بشأنه رئيساً كاتباً، روي له عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن الجوزي نحو
ثلاثين حديثاً، اتفق الشيخان على ستة منها وانفرد البخاري
بثلاثة، ومسلم بواحد وخرج عنه الأربعة، مات بالمدينة سنة
ثمان أو تسع بتقديم الفوقية (أنه قال بينما) ما مزيدة لكفّ
بين عن الإضافة، فالجملة الإسمية بعدها مستأنفة (هو يسير
مع النبي مقفله) منصوب على الظرفية الزمانية: أي زمن رجوعه
(من حنين) بضم المهملة وتخفيف النونين بينهما تحتية ساكنة
في السنة الثامنة بعد الفتح في شوال (فعلق) بفتح العين
وتخفيف اللام وبالقاف من أفعال الشروع بوزن طفق ومعناه:
وقد جاء بدله في رواية الكشميهني ثم هو في البخاري بالتاء
الممدودة بالتأنيث لإسناده إلى (الأعراب) وهو اسم جمع لعرب
كما قال سيبويه لأنه خواص بسكان البوادي والعرب تعمهم
والحاضرين، ورأيت في أصل مصحح فعلقه بهاء الضمير والظاهر
أنها تاء التأنيث وربطت في الرسم من تحريف الكتاب وقوله:
(يسألونه) جملة في محل الخبر المعلق (حتى اضطروه) أي
ألجأوه (إلى سمرة) بفتح المهملة وضم الميم: شجرة طويلة
متفرقة الرأس قليلة الظل صغيرة الورق والشوك صلبة الخشب
قاله ابن التين، وقال الداودي: السمرة هي العضاه، وقال
الخطابي: ورق السمر أثبت وظلها أكثف، ويقال: هي شجرة الطلح
(فخطفت) بكسر الطاء المهملة (رداءه) قال في «المصباح» :
خطفه من باب سمع استله بسرعة، وخطف من باب ضرب لغة فيفه،
وعند ابن شبة في كتاب
(4/536)
مكة: حتى عدلوا ناقته عن الطريق فمرّ
بسمرات فانتهش ظهره وانتزعن رداءه، والباقي بنحو حديث جبير
(فوقف النبيّ) أي بإمساك خطام الناقة الذي بيده (فقال:
أعطوني
ردائي) قال في «المصباح» : الرداء بكسر الراء وبالمد ما
يرتدي به مذكر لا يجوز تأنيثه. قال ابن الأنباري: وتثنيته
رداءان، وربما قلبوا الهمزة فقالوا: رداوان والجمع أردية
بالياء كسلاح وأسلحة (فلوكان لي عدد هذه العضاه) بالرفع
اسم كان وخبرها (نعماً) بالنصب ويجوز على التمييز كما في
«الفتح» للحافظ زاد الدماميني ولي خبر كان.
وفي رواية أبي ذرّ بالرفع على أنه اسم كان مؤخراً، وعدد
بالنصب خبر مقدم (لقسمته بينكم) قال ابن المنير: وهذا
تنبيه بطريق الأولى لأنه إذا سمح بمال نفسه فلأن يسمح بقسم
غنائمهم عليهم أولى (ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا
جباناً) أي لا تجدوني ذا بخل ولا ذا كذب ولا ذات جبن،
فالمراد نفي الوصف من أصله لا نفي المبالغة المدلول عليها
بالصيغة: قال ابن المنير: في جمعه بين هذه الصفات لطيفة،
وذلك أنها متلازمة وكذا أضدادها وأصل المعنى هنا الشجاعة،
فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسبه فبالضرورة لا
يبخل، وإذا أمهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد، لأن
الخلف إنما ينشأ من البخل، واستعمال ثم هنا ليس مخالفاً
لمقتضاها وإن كان الكرم يتقدم العطاء، لكن علم الناس بكرم
الكريم إنما يكون بعد العطاء، وليس المراد هنا بثم الدلالة
على تراخي العلم بالكرم، عن العطاء إنما التراخي هنا لعلو
رتبة الوصف كأن يقول: وأعلى من العطاء بما لا يتقارب أن
يكون العطاء عن كرم، فقد يكون عطاء بلا كرم كعطاء البخيل
قهراً أو نحو ذلك، قاله الدماميني في «المصابيح» . وفي
«الفتح» للحافظ: في الحديث ذم الخصال المنفية، وأن إمام
المسلمين لا ينبغي أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان
عليه من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود والصبر على جفاة
الأعراب، وفيه جواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند
الحاجة لخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك ولا يكون ذلك من
الفخر المذموم اهـ ملخصاً (رواه البخاري) في الجهاد وفي
الخمس
من «صحيحه» منفرداً به عن باقي الستة (مقفلة) بفتح أوله
وثالثه وسكون ثانيه (أي في حال) أحسن منه زمان (رجوعه) لما
قدمناه وبذلك عبر الحافظ في الفتح (السمرة شجرة) تقدم
بيانها (العضاه) بكسر العين المهملة وبالضاد المعجمة (شجر
له شوك)
(4/537)
قال الحافظ في «الفتح» : واختلف في واحدها
فقيل عضة بفتح أوليه كشفه وشفاه والأصل عضهه فحذفت الهاء
وقيل: عضاهة.
13ــــ (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: ما نقصت صدقة) هي المخرج من المال
تقرباً إلى الله (من مال) قال المصنف: ذكروا فيه وجهين:
أحدهما أنه يبارك فيه ويدفع عنه المفسدات فيجبر النقص
الصوري بالبركة الخفية وهذا مدرك بالحس والعادة، وثانيهما
أنه وإن نقصت صورته لكن ثوابه المعد له في الآخرة جابر
لنقصه (وما زاد الله عبداً بعفوا إلا عزاً) فيه وجهان:
أيضاً أحدهما أنه على ظاهره أن من عرف بالعفو والصفح ساد
وعظم في القلوب وزاد عزة وكرامة، والثاني أن المراد أجره
في الآخرة وعزه هناك (وما تواضع أحد ألا رفعه الله عزّ
وجلّ) ويجوز أن يكون في الدنيا بأن يرفعه ويثبت له في
القلوب بتواضعه منزلة يرفعه بها الناس ويجلوا مكانه،
ويحتمل أي يكون ذلك في الآخرة فيثبته الله في الجنة
بتواضعه في الدنيا، وقد يكون المراد فيهما جميعاً اهـ
ملخصاً (رواه مسلم) في البر والصلة من «صحيحه» ، ووقع في
«الأطراف» للمزي في الأدب منه، والذي رأيته في الأصول من
مسلم كما ذكرته.
14 - (وعن أبي كبشة) بفتح الكاف وسكون الموحدة وبالشين
المعجمة كنية (عمر) بضم ففتح (ابن سعد الأنماري) بفتح
الهمزة وسكون النون وبعد الألف راء نسبة إلى أنمار بطن من
العرب، وقد اختلف في اسمه (رضي الله عنه) فقيل كما ذكره
المصنف «عمر» ، وقيل سعد بن عمر، وقيل: عمرو بن سعد سماه
يحيى بن يونس وسعيد القرشي هكذا، وقيل: اسمه عمرو بن سعد.
قال ابن الأثير: وهو الأشهر أخرجه أبو موسى يعد في
الشاميين، روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أحاديث ذكر منها المزي في «الأطراف» أربعين وليس منها شيء
في «الصحيح» (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: ثلاثة) من الخصال أو خصال ثلاثة، وجاز إتيان
(4/538)
التاء في عدد المؤنث لحذف المعدود (أقسم
عليهن) تأكيداً لها في الأذهان للسامعين قبولهم لها ويشتد
حرصهم على العمل بها وأكد ذلك بقوله: (وأحدثكم حديثاً) أي
في ذلك (فاحفظوه) والجملتان معترضتان لذلك، وجعل العاقولي
من باب التقديم والتأخير فقال: أي أحدثكم في معنى من خصال
الخير وأقسم على ثلاث خصال منها، فقدم قوله ثلاث أقسم
عليهن للاهتمام بها اهـ. وما سلكته أولى لأن الأصل عدم
التقديم والتأخير (ما نقص مال عبد من صدقة) أي بل البركة
النازلة فيه أو الثواب المعد لباذله وذلك يجبر ما نقص منه
حساً، أو ما نقص ثوابه بل يضاعف يوم القيامة أضعافاً
كثيرة، وفي «أمالي» العز بن عبد السلام معنى الحديث أن ابن
آدم لا يضيع به شيء وما لم ينتفع به في دنياه انتفع به في
عقباه، فإن الإنسان إذا كان له داران فحول ماله من إحداهما
إلى الأخرى لا يقال في ذلك المحول إنه نقص من ماله، وكان
بعض السلف إذا رأى السائل يقول: مرحباً بمن جاء يحول مال
دنيانا إلى أخرانا قال: هذا معنى الحديث، وليس معناه أنه
لا ينقص في الحس ولا أن الله يخلف عليه فإن ذلك معنى
مستأنف اهـ (ولا ظلم عبد مظلمة) بفتح الميم وكسر اللام اسم
مصدر ظلم ظلماً بالفتح من باب ضرب، وفي «فتح
الباري» في كتاب المظالم: المظلمة بكسر اللام على المشهور.
وحكى ابن قتيبة وابن التين والجوهري فتحها، وأنكره ابن
القوطية، ورأيت بخط مغلطاي أن الفراء حكى الضم، قال في
«المصابيح» : هي ما يطلبه عند الظالم وهي ما أخذ منك وحذف
الفاعل ليعم ظلم القويّ والضعيف ونكر مظلمة في سياق النفي
ليعمّ الظلم في النفس والمال والعرض وقوله: (صبر عليها) أي
حبس نفسه على ألمها ولم ينتقم من ظالمه بشيء من الانتقام،
ويحتمل أن يعم ويدخل من ترك بعض حقه من الظلامة وانتصف في
البعض فيثاب فيما تركه احتساباً (إلا زاده ا) في الدنيا
وفي الآخرة أو فيهما (عزاً) وذلك من باب قولهم: كما تدين
تدان، ومن حديث: «اعمل ما شئت فإنك مجزيّ به» وفي تفسير
سورة فصلت من «صحيح البخاري» قال ابن عباس:
{ادفع بالتي هي أحسن} الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة
فإذا فعلوا عصمهم الله وخضع لهم عدوهم كأنه وليّ حميم اهـ.
وهذا يؤيد ظهور أثر العفو في الدنيا (ولا فتح عبد باب
مسألة) لينال بذلك الغنى تكثراً من أموال الناس (إلا فتح
الله عليه باب فقر) معاملة بنقيض قصده، وفي هذه الأخيرة
استعارة مكنية تتبعها استعارة تخييلية في الموضعين (أو) شك
من الراوي: أي قال:
(4/539)
فتح الله عليه باب فقر أو قال: (كلمة
نحوها) في إفادة ذلك (وأحدثكم حديثاً فاحفظوه) ظاهر أنه
مزيد على الثلاث ولعله استطرد مما أقسم عليه من الخصال إلى
ذلك لمناسبة بينه وبين ما انتقل عنه، إذ كل فيه ترغيب في
إنفاق المال في التقرب إلى الله وتحذير من الحرص على جمع
المال، ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام أبي كبشة لما
حدثهم بما تقدم، ذكر هذا الحديث بجامع ما ذكرناه فذكره
وقال: هذه الجملة قبله ليقبلوا عليه، ويؤيد هذا قوله:
(قال) أي النبي (إنما الدنيا لأربعة نفر) بفتح أوليه هو
لغة ما بين الثلاثة إلى العشرة، وهو هنا تمييز أربعة وجاز
مع أن تمييزها لا يكون إلا جمعاً كسبع ليال وثمانية أيام
اعتباراً بالمعنى لأنه كذلك البعد (عبد) يجوز فيه وفي
أمثاله من مفصل لمجمل استوفى العدة الجر على الإبدال مما
قبله بدل كل من كل بتقدير سبق العطف على الإبدال، والقطع
بالرفع بإضمار مبتدأ محذوف وجوباً، وبالنصب بإضمار نحو
أعني محذوف كذلك (رزقه الله مالاً وعلماً) فيه أن العلم من
الرزق (فهو يتقي فيه ربه) أي لا يصرفه في معصية بل يجتنب
ما لا يرضيه (ويصل فيه رحمه ويعلم الله فيه حقاً) سواء كان
ذلك واجباً عينياً من زكاة أو كفارة لمقتضاها أو نذر، أو
كفائياً ككفاية مضطر من جائع بسدّ جوعته وعار بكسوته، أو
مندوباً كالتقرّب إلى الله سبحانه بأنواع الطاعات المالية
(فهذا بأفضل المنازل) من الجنة لأنه علم وعمل وأدى الواجب
والمندوب واجتنب الحرام والمحظور، وعلمه هداه إلى الإخلاص
في
ذلك وجعل معاملته في ذلك مع الله سبحانه (وعبد رزقه الله
علماً) أي بالأحكام المتعلقة بالمال من حيث جمعه وإنفاقه
وما يتعلق بذلك، ويحتمل أن يراد ما يعم علم ذلك وغيره،
ويؤيده التنكير إذ الأصل فيه التعميم (ولم يرزقه مالاً
فهو) لعلمه النافع له (صادق النية) أي القصد في طلب ثواب
الله فيعزم على العمل المالي لو قدر عليه ليثاب به (يقول)
ناوياً لذلك (لو أن لي مالاً لعملت) أي فيه (بعمل فلان)
الجامع بين المال والعلم من طلب ما رضي الله به (فهو نيته)
قال العاقولي مبتدأ وخبر أي فهو سني النية وبها أجره. قلت:
ويجوز أن يكون نيته مبتدأ وخبره محذوف: أي ألحقته بمن
قبله، وبالجملة خبر هو يدل على ذلك قوله: (فأجرهما سواء)
أي من حيث النية وصحة القصد. ويزيد ذلك بثواب نفقة المال
التي زاد على صاحبه (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه
علماً) (يعرف به وجوه
(4/540)
التصرف المأذون فيها شرعاً والممنوع منها
كذلك (فهو يخبط) بكسر الموحدة (في مال الله بغير علم)
وقوله: (لا يتقي فيه ربه) بترك إتلافه في المحارم ويبذله
في المآثم (ولا يصل فيه رحمه) وفي الإتيان بفي هنا وفيما
قبله تجريد كقوله تعالى:
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) لأن
المال نفس الصلة لا أنها فيه، كما أنه نفس القدوة لا أنها
فيه (ولا يعلم فيه حقاً) لجهله به فلا يؤدي حق المال
واجباً كان أو مندوباً لجهله وحرصه على جمعه وإتلافه في
مستلذات نفسه (فهذا بأخبث المنازل) لماله من المآثم التي
ارتكبها بمال الذي أتلفه مع جهله وعدم علمه (وعبد لم يرزقه
الله مالاً ولا علماً فهو) أي العبد الفاقد لهما لجهله
(يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان) أي بصرفه في
الملابس الفاخرة واستماع الملاهي وأكل المستلذات المحرمة
وعير ذلك (فهو نيته) إعرابه كما تقدم أي فيجد إثم نيته قصد
الفصاد (فوزرهما سواء) باعتبار العزم على المحرم وإن زاد
الفاعل بإثم الفعل (رواه الترمذي) في أبواب الزهد من
«جامعه» (وقال: حديث حسن صحيح) .
15 - (وعن عائشة رضي الله عنهم أنها) أي ذوي عائشة أو أهل
بيت النبيّ (ذبحوا شاة) أي فتصدقوا بها ما عدا كتفها (فقال
النبي) بعد أن عاد لمنزلها لداع دعا للسؤال عما بقي من
لحمها وقد علم أنهم تصدقوا ببعضها (ما بقي منها) أي عندك
(قالت: ما بقي منها) أي عندنا (إلا كتفها) بفتح الكاف وكسر
الفوقية على الأفصح أي أنفقنا الجميع وتصدقنا به ما عدا
ذلك (قال: بقي كلها) أي ثواب كلها لأنه تصدّق به تقرّباً
إلى الله تعالى فهو يخلفه ويجزي عليه (غير كتفها) أي فإنه
يفنى بأكله. ومثله لا ثواب فيه إن لم يقارنه قصد صحيح،
وهذا تحريض على الصدقة والاهتمام بها، وأن لا يستكثر المرء
ما أنفقه فيها، فإنه
(4/541)
وإن فني صورة فهو باق حقيقة لصاحبه عند
الله يرى ثوابه مضاعفاً عند حاجته ومزيد فاقته، ففيه أعظم
تحريض عليها من كل م يأكله الإنسان، لأن من استحضر أن ما
يأكله لا ثواب له فيه حيث لا غرض صحيح معه، وأن ما يتصدق
به بقي له عند مولاه حمله ذلك على التصدق منه ولو بلقمة
(رواه الترمذي وقال: حديث صحيح ومعناه) أي الحديث من حيث
الجملة (تصدقوا بها إلا كتفها، فقال: بقيت لنا في الآخرة
إلا كتفها) وذلك لأن ما بقي منها يفنى بأكله وما تصدق به
باقياً عند الله سبحانه.
16 - (وعن أسماء) بسكون المهملة بعدها ميم ألف ممدودة (بنت
أبي بكر الصديق رضي الله عنهما) تقدمت ترجمتها في باب برّ
الوالدين (قالت: قال لي رسول الله: لا توكي) قال في
«النهاية» : أي لا تدخري وتشدي ما عندك وتمنعي ما في يدك
(فيوكي) بالنصب: أي فيقطع (اعليك) مادة الرزق، والجزاء من
جنس العمل وهذا مفهوم قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو
يخلفه} (سبأ: 39) .
(وفي رواية) هي لمسلم في الزكاة من «صحيحه» (أنفقي أو) شك
من الراوي (انفحي أو انضحي) قال المصنف: بكسر الضاد
المعجمة، والمعنى: أعطي النضح والنفح العطاء، ويطلق النضح
على الصبّ فلعله المراد هنا ويكون أبلغ من النفح (ولا
تحصي) أي تمسكي المال وتدخريه من غير إنفاق منه (فيحصى)
كذا هو في نسخ الرياض بالمبنى للمجهول وفي الزكاة من
البخاري ومسلم فيحصي الله (عليك) بذكر الفاعل ولعل حذفه من
نسخ الرياض إن لم يكن من سبق القلم من المصنف من تحريف
الكتاب: أي يمسك عنك مادة الرزق والبركة فيه ويناقشك
الحساب في الموقف، إذ أصل الإحاطة بالشيء جملة وتفصيلاً،
وهذا فيه تلف أيّ تلف، فيكون مطابقاً لأعط كل ممسك تلفاً،
ويستفاد منه أن الممسك يعاقب بتلف ما عنده وحبس مادة رزقه
والبركة فيه ومناقشة الحساب، وقد قال: «من نوقش الحساب
عذّب» وهذا أبلغ وأليق بمقام التنفير والتغليظ (ولا توعي)
أي لا تمنعي ما فضل عنك عمن هو محتاج إليه (فيوعي)
(4/542)
بالنصب (اعليك) أي يصيبك على أعمالك
بالتشديد عليك في الحساب أو يمنع عنك فضله وجوده، وبهذا
يعلم أن هذه بمعنى ما قبلها وأن القصد مزيد التأكيد والحث
على الإنفاق (متفق عليه) رواه مسلم بجملته وإن اقتصر
المصنف على عزو قوله وفي رواية إليه، والبخاري روى عنها في
حديث أن النبي قال لها: «لا توكي فيوكى عليك» وعند بعض
رواته قال: «لا تحصي فيحصي الله عليك» وفي حديث آخر عنها
أن النبي قال لها: «لا توعي فيوعي الله عليك انضحي ما
استطعت» (وانفحي) بسكون النون وفتح الفاء (وبالحاء المهملة
وهو بمعنى أنفقي وكذلك) أي ككون انفحي بمعنى أنفقي (أنضحي)
فانفحي المشار إليه مشبه به وانضحي مشبه، قال في «شرح
مسلم» : معنى انفحي وانضحي: أعطي النفح، والنضح: العطاء.
17 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول: مثل) بفتح أوليه: أي صفة (البخيل
والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان) بالموحدة أو النون كما
قاله غير واحد، وقول بعضهم: إنه لا شك ولا خلاف أنه بالنون
رده بعض المحققين أنه بالنون تصحيف، قيل: ومما يرجح النون
أن الدرع لا يسمى جبة بالباء بل النون (من حديد) حكمة
إيثاره الإعلام بأن القبض والشحّ من جبلة الإنسان، ولذا
أضيف إليه في {ومن يوق شحّ نفسه} (الحشر: 9) وأن السخاوة
من عطاء الله وتوفيقه يمنحها من شاء من عباده وإيثار الجنة
على الغلّ لأنه يأتى فيه الانقباض والانبساط المشار بهما
إلى ما يأتي (من ثديهما) قال المصنف: بضم الثاء المثلثة:
أي وكسر الدال وتشديد التحتية على الجمع، كذا في معظم نسخ
مسلم جمع ثدي بوزن فلس، وفيه رد على من قال: إنه خاص
بالمرأة، ويقال في مثله من الرجل «تندوة» بضم الفوقية
والدال المهملة وسكون النون بينهما ومن فيه ابتدائية (إلى
تراقيهما) جمع ترقوة بضم الفوقية والقاف وسكون الراء وهي
العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين. قال
بعضهم: ولا يكون لغير الإنسان من باقي الحيوان (فأما
المنفق فلا ينفق إلا سبغت) أي
(4/543)
امتدت وكملت (أو) شك من الراوي (وفرت)
بتخفيف الفاء (على جلده حتى تخفى بنانه) مفاصل الأصبع
بالموحدة ونونين، ومن قاله بالمثلثة والتحتية والموحدة فقد
صحف (وتعفو أثره) أي تغطي أثره حتى لا يبدو، وتعفو منصوب
عطفاً على تخفي وكلاهما مسند إلى ضمير الجنة أو الجبة،
وعفا يستعمل لازماً ومتعدياً، تقول عفت الديار: أي درست،
وعفاها الريح: إذا طمسها، وهو في الحديث متعد. قال الحافظ
في «الفتح» : والمعنى أن الصدقة تستر خطاياه كما يغطي
الثوب الذي يجرّ على الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل
عليه وسيأتي فيه مزيد (وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً
إلا لزقت) في رواية مسلم انقبضت، وفي رواية لهما عضت (كل
حلقة)
بسكون اللام (مكانها) والمفاد واحد إلا أن الأولى نظر فيها
إلى صورة الضيق والأخرى إلى سببه (فهو يوسعها) أي يريد
توسيعها بالبذل فتشح نفسه ولا تطاوعه (فلا تتسع) وفي هذا
وعد للمتصدق بالبركة وستر العورة والصيانة من البلاء، فإن
جبة الحديد لا تعد للستر فقط بل له وللصون من الآفات، وهذا
كما ورد «إن الصدقة تدفع البلاء» وفي البخيل على الضد فهي
معدة لهتك عورته وكونه هدفاً لسهام البلاء والعياذ با
تعالى، كذا في «مصابيح الجامع» . قال الخطابي وغيره: هذا
مثل ضربه النبي للبخيل والمتصدق، فشبههما برجلين أراد كل
واحد منهما لبس درع يستتر به من سلاح الإنسان يديه في
كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعاً سابغة فاسترسلت عليه حتى
سترت جميع بدنه، وجعل للبخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه
فكلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، وهو معنى
قلصت: أي تضامت واجتمعت، والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة
انفسح لها صدره وطابت نفسه وتوسعت في الإنفاق، والبخيل إذا
حدثها بها شحت بها فضاق صدره وانقبضت يداه
{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر: 9) وقال
المهلب: المراد أن الله يستر المنفق في الدارين، بخلاف
البخيل فإنه يفضحه، ومعنى يعفو أثره يمحو خطاياه. وتعقبه
عياض بأن الخبر جاء على التمثيل لا على الإخبار عن كائن.
وقيل: هو تمثيل لنماء المال بالصدقة، والبخيل بضده اهـ
(متفق عليه) واللفظ للبخاري في كتاب الزكاة وهو عند مسلم
بنحوه فيها من طرق (والجنة) في النسخ بالنون وهو ما صوّبه
في «شرح مسلم» ، وقال لوروده كذلك في رواية بلا شك، وتقدم
تعقب بعض المحققين له في ذلك
(4/544)
(الدرع) بكسر الدال وبالراء والعين
المهملات، وهي الثوب المنسوج من الحديد وهي مؤنثة في
الأكثر (ومعناه: أن المنفق كلما أنفق سبغت وطالت حتى تجرّ
وراءه وتخفي رجليه وأثر مشيه وخطوته) أي كما هو شأن الثوب
الرافل، هذا بيان لمعاد الضمائر باعتبار ظاهر اللفظ، أما
المعنى المراد فسكت عن بيانه هنا.
18 - (وعنه قال: قال رسول الله: من تصدق بعدل تمرة) قال
الحافظ في «الفتح» : أي بقيمتها لأنه بالفتح المثل،
وبالكسر الحمل بكسر المهملة هذا قول الجمهور. وقال الفراء
بالفتح: المثل من غير جنسه، وبالكسر من جنسه، وقيل: بالفتح
مثله في القيمة وبالكسر الشطر، وأنكر البصريون هذه
التفرقة، وقال «الكشاف» : هما بمعنى، كما أن لفظ المثل لا
يختلف، وضبط في هذه الرواية الأكثر بالفتح والتمرة
بالمثناة، ولفظ مسلم: «ما تصدق أحد بصدقة» (من كسب طيب) أي
خلال خال عن الغشّ والخديعة، وقوله: (ولا يقبل الله إلا
الطيب) جملة معترضة بين الشرط والجزاء لتقرير ما قبله، وفي
رواية سليمان ابن بلال التي أشار إليها البخاري: «ولا يصعد
إلى الله إلا الطيب» قال القرطبي: وإنما لم يقبل الله
الصدقة بالحرام لأنه غير مملوك للمتصدق، وهو ممنوع من
التصرف فيه والتصدق به تصرف فيه، فلو قبل لزم أن يكون
الشيء مأموراً ومنهياً من وجه واحد وهو محال (فإن الله
يقبلها بيمينه) وفي رواية لمسلم: «إلا أخذها الله بيمينه»
وعند مسلم أيضاً في رواية: «إلا أخذها الرحمن» قال الحفاظ
في «الفتح» : وفي رواية لمسلم: «فيقبضها» وفي حديث عائشة
عند البزار: «فتلقاه الرحمن بيده (ثم يريبها) في مسلم
فيريبها (كما يربي أحدكم فلوه) جاء في رواية: «كما يربي
أحدكم مهره» وفي أخرى عند البزار: مهره أو وصيفه أو فصيله
(حتى تكون) أي المتصدق به القليل بالتنمية (مثل الجبل) وفي
رواية عند الترمذي حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد» قال
الحافظ: والظاهر أن المراد بعظمها أن عينها تعظم لتثقل في
الميزان، ويحتمل أن يكون ذلك معبراً به عن ثوابها، ومثله
في كلام المصنف في «شرح مسلم» نقلاً عن عياض
(4/545)
وسيأتي حكمة ضرب المثل بالفلو، قال
المازري: وهذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في
خطابهم ليفهموا عنه، فكنى عن قبول الصدقة باليمين وعن
تضعيف أجرها بالتربية. وقال عياض: لما كان الشيء الذي
يرتضي
يتلقى باليمين ويؤخذ استعمل في مثل هذا واستعير اليمين
للقبول، وليس المراد به الجارحة، وقيل: عبر باليمين عن جهة
القبول إذ الشمال بضده، وقيل: المراد يمين الدافع إليه
الصدقة وإضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص لوضع
هذه الصدقة في يمين الآخذ تعالى، وقيل: المراد سرعة القبول
وقيل: حسنة. وقال الزين ابن المنير: الكناية عن الترضي
والقبول بالتلقي باليمين لتثبيت المعاني المعقولة في
الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات: أي لا تشكك
في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي الشيء باليمين، لا
أن التناول كالتناول المعهود ولا أن المتناول به جارحة.
وقال الترمذي في «جامعه» : قال أهل العلم من أهل السنة
والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيهاً، ولا
نقول كيف، هكذا روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك
وغيرهم. وأنكرت الجهمية هذه الروايات اهـ (متفق عليه)
روياه في الزكاة من «صحيحهما» واللفظ للبخاري (الفلو) فيه
لغتان أقصحهما وأشهرهما (بفتح الفاء وشم اللام وتشديد
الواو) وثانيهما أشار إليه بقوله: (ويقال أيضاً بكسر الفاء
وإسكان اللام وتخفيف الواو وهو المهر) قال أبو زيد: إذا
فتحت الفاء شددت الواو وإذا كسرتها سكنت اللام كجرىء، وقال
في «شرح مسلم» : سمي به لأنه فلى على أمه: أي فصل وعزل،
وقال الحافظ: وقيل: هو كل فطيم من ذات حافر وضرب به المثل
لأنه يزيد زيادة بينة. ولأن الصدقة نتاج العمل وأحوج ما
يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيماً، وإذا أحسن
العناية به انتهى إلى حد الكمال، وكذا عمل ابن آدم ولا
سيما الصدقة، فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر
الله يكسبها الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع
المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجمل.
19 - (وعنه رضي الله عنه عن النبي قال: بينما) ما مزيدة
لكفّ بين عن الإضافة فالجملة بعده مستأنفة (رجل بفلاة) هي
الأرض التي لا ماء فيها وجمعها فلا مثل حصاة
(4/546)
وحصى وجمع الجمع أفلاء كسبب وأسباب كذا في
«المصباح» ، ويؤخذ منه أن قوله: (من الأرض) تصريح بما فهم
مما قبله (فسمع صوتاً) لعله صوت الملك الموكل بالسحاب وهو
الرعد (في سحابة) واحدة السحاب سمي به لانسحابه في الهواء
وجمع السحاب سحب بضمتين (اسق حديقة فلان) لم أقف على من
سماه. والحديقة البستان يكون عليه حائط فعيلة بمعنى مفعولة
لأن الحائط أحدق بها: أي أحاط ثم توسعوا حتى أطلقوا
الحديقة على البستان وإن كان بغير حائط والجمع حوائط
(فتنحي ذلك السحاب) أتى بما يشار به للبعيد مع أن المشار
إليه قريب إما تعظيماً له فيكون كقوله تعالى: {ذلك الكتاب}
وإما لأنه لما كان اللفظ عرضاً لا يوجد التالي به إلا بعد
انعدام ما قبله صار ما قبل كالبعيد فيشار إليه بما يشار به
إليه، وهذا محتمل لكون السحاب أوتي فهماً فامتثل ما أمر،
ولأن يكون باقياً على جماديته، وقوله: اسق أمر تكويني،
وقوله: فتنحي بيان لترتب أثر الأمر الإلهي عليه حالاً من
غير توان ولا تراخ، قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا
أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) وعلى الثاني
فيكون في قوله: (فأفرغ) أي صب (ماءه) أي الذي فيه والإضافة
لأدنى ملابسة (في حرة) إسناده مجازي إن كان الفعل للمعلوم
وفاعله ضمير يعود إلى السحاب كما هو كذلك في أصل مصحح وإن
كانت الرواية ببنائه للمجهول فلا (فإذا شرجه من تلك
الشراج) أي مسيل من تلك المسايل (قد استوعبت ذلك الماء كله
فتتبع) أي الرجل السامع الصوت (الماء، فإذا رجل قائم في
حديقته) الظرف خبر بعد خبر، ويصح كونه حالاً من ضمير الخبر
فيكون مستقراً، ويجوز أن يكون لغواً متعلقاً بقائم (يحول
الماء بمسحاته فقال له: يا عبد ا) ناداه بالوصف القائم
حقيقة بكل إنسان {إن كل من في السموات
والأرض إلا آتى الرحمن عبداً} (مريم: 93) (ما اسمك) أي
العلم عليك ويحتمل أن يراد مطلق ما يعرف به من علم أو صفة
أو غيره (قال فلان) خبر لمحذوف دل عليه ذكره في السؤال
وفلان كما تقدم كناية عن المبهم من الإنسان (للاسم) في محل
الحال من فلان: أي موافقاً للاسم (الذي سمع) العائد محذوف:
أي سمعه (في السحابة فقال) أي بعد بيانه اسمه (له يا عبد
الله ولم تسألني) الواو عاطفة على مقدر: أي أجبتك عن
مسألتك وأسألك (عن) سبب سؤالك عن
(4/547)
(اسمي) واللام جارة لما الاستفهامية حذفت
ألفها كقوله تعالى:
{عم يتساءلون} (النبأ: 1) وقوله: {بم يرجع المرسلون}
(النمل: 35) (فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب) أل فيه
للعهد الذهني بقرينة قوله: (الذي هذا ماؤه) ويحتمل كونها
للجنس (يقول) جملة في محل الحال من الصوت على حذف مضاف: أي
ذا صوت قائلاً (اسق) بوصل الهمزة في الأصح ويجوز قطعها،
يقال: ما أنتج له من العناية الإلهية حسن هذه الثمرة
بالتخصيص (فقال: أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف
للتأكيد متضمن معنى الشرط (إذا قلت هذا) أي أخبرت بما سمعت
مما دعاك للسؤال (فإني) أبين لك عمل الذي نتج عنه بفضل
الله سبحانه ذلك وهو أني (أنظر إلى ما يخرج منها) أي من
الأرض من حب أو ثمر (فأتصدق بثلثه) بضم أوليه في الأفصح،
ويجوز تسكين ثانيه تخفيفاً زيادة في التقرب إلى الله
سبحانه وتعالى، وإلا فالواجب في شريعتنا في النصاب من ذلك
العشر تارة ونصفه أخرى (وآكل أنا وعيالي) أي أعولهم من أهل
وولد وزوجة وخادم وغير ذلك (ثلثاً وأرد فيها ثلثه) أي ثلث
الخارج (رواه مسلم) في «صحيحه» في أبواب الزهد (الحرة)
بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وبالتاء (الأرض الملبسة
حجارة سودا) أي التي علاها ذلك وغلب عليها فكأنها لبست،
وقال في «المصباح» : والجمع حرار كلكبة وكلاب (والشرجة
بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء وبالجيم) وسكت المصنف عن
التاء آخره، قال في «المصباح» : وبعضهم يحذف فيقول: شرج هي
(مسيل الماء) وجمعها شراج ككلبة وكلاب.
61 - باب النهي عن البخل والشح
قال في «المصباح» : بخل بخلاً: أي بفتح أوليه، بخلاً: أي
بضم فسكون من باب
(4/548)
تعب وقرب والاسم البخل، وزان فلس. والبخل
في الشرع: منع الواجب، وعند العرب: منع السائل مما يفضل
عنده، وفيه أيضاً الشحّ والبخل، وفي «شرح مسلم» للمصنف قال
جماعة: الشحّ أشد البخل وأبلغ في المنع منه، فقيل: هو
البخل مع حرص، وقيل: البخل في أفراد الحرص الأمور، والشح
عام وقيل: البخل بالأموال خاصة والشحّ بالمال والمعروف.
وقيل: الشحّ الحرص على ما ليس عنده، والبخل بما عنده اهـ.
وأصله في «النهاية» وزاد شح يشح شحاً فهو شحيح، والاسم
الشح، وترجمة المصنف تمشي على هذا، فإن الإصل في العطف
التغاير، وعلى ما في «المصباح» يكون من عطف الرديف اكتفاء
بتغاير اللفظ كهو في قوله تعالى: {إنما أشكو بثي وحزني إلى
الله} (يوسف: 86) .
(قال الله تعالى) : ( {وأما من بخل} ) أي بالإنفاق في
الخيرات ( {واستغنى} ) أي بالدنيا عن العقبى (وكذب بالحسنى
فسنيسره) في الدنيا (للعسرى) للخلة المودية إلى الشدة في
الآخرة وهي الأعمال السيئة، ولهذا قالوا من ثواب الحسنة
الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها ( {وما يغني
عنه ماله إذا تردى} ) أي هلك وسقط وتردى في جهنم.
(وقال تعالى) : ( {ومن يوق شحّ نفسه} ) أي ومن سلم من
الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم بمنع أداء ما
وجب عليه أداؤه، وفي تفسير ابن عطية: شحّ النفس فقر لا
يذهبه غنى المال، بل يزيده وينصب به. وقال ابن زيد وابن
جبير وجماعة: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يمنع
الزكاة المفروضة فقد برىء من شحّ النفس. وقال ابن مسعود:
شحّ النفس أكل مال الناس بالباطل، أما منع الإنسان ماله
فبخل وهو قبيح ولكن ليس بشحّ ( {فأولئك هم المفلحون} )
الفائزون ببغيتهم (وأما الأحاديث) أي النبوية (فتقدمت جملة
منها في الباب السابق) كقوله: «وإن تمسكه شرّ لك» وقوله:
«وأعط كل ممسك تلفاً، ولا توكي فيوكي الله عليك» وباقي
أحاديث ذلك الباب تدل بمفهومها على ما عقد له هذا الباب
لأن الثناء على الكرم والأمر به ذم بضده ونهي عنه.
(4/549)
1 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الظلم) أي اتخذوا لكم
وقاية منه بالقسط. والظلم التصرف في حق الغير بغير طريق
شرعي، وقيل: وضع الشيء في غير موضعه (فإن الظلم) أي في
الدنيا (ظلمات) بضم اللام وبإسكانها تخفيفاً وبالفتح (يوم
القيامة) يحتمل كما تقدم أنه على حقيقته وظاهره أنه يصير
ظلمة في الآخرة، ويحتمل كونها كناية عن شدائد ذلك اليوم
وما يلقاه من الأهوال (واتقوا الشحّ) بالضم على الأفصح من
لغات ثلاث في أوله (فإن الشحّ) أتى بالظاهر فيه وفيما قبله
تقبيحاً له وتنفيراً منه، ونعتاً بقبحه بالنداء عليه
بالاسم الدال على ذلك (أهلك من كان قبلكم) أي من بني
إسرائيل (حملهم على أن سفكوا) بفتح الفاء: أي أراقوا
(دماءهم) أي قتل بعضهم بعضاً فهو كقوله تعالى: {وإذ أخذنا
ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} (البقرة: 84) قال المفسرون: أي
لا يقتل بعضكم بعضاً (واستحلوا محارمهم) أي ما حرّم عليهم
من الشحوم فباعوه واحتالوا لولوج السمك إلى ما حفروه يوم
السبت ليدخل في حوزهم فيبيعوه بعد، فيوقعهم في ذلك الشحّ
(رواه مسلم) وقد تقدم مع شرحه في باب تحريم الظلم.
62 - باب الإيثار
بكسر الهمزة وسكون التحتية بعدها مثلثة مصدر آثر يؤثر
(والمواساة) مفاعلة من التواسي قال في «القاموس» : بماله
مواساة: أناله منه وجعله أسوة ولا يكون ذلك إلا من كفاف،
فإن كان من فضل فليس بمواساة الله - صلى الله عليه وسلم -
هـ. وقال في محل آخر منه: واساه مواساة أي بالواو بدل
الهمزة لغة رديئة اهـ.
(قال الله تعالى) : ( {ويؤثرون} ) أي يقدمون يعني الأنصار
(4/550)
والمهاجرين ( {على أنفسهم} ) فيما عندهم من
الأموال (ولو كان بهم خصاصة) أي حاجة إلى ما عندهم، ونزلت
في قصة الأنصاري الآتية أوّل الحديث.
(وقال تعالى) : ( {ويطعمون الطعام على حبه} ) الأولى أن
يكون الضمير للطعام ليكون موافقاً لقوله تعالى: {لن تنالوا
البرّ حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92) ولأن فيما
بعده وهو لوجه الله غنية عن أن يكون التقدير على حب الله
(مسكيناً ويتيماً وأسيراً) وإن كان من أهل الشرك أمر
بإكرام الأسراء يوم بدر والمراد المسجونون من المسلمين
{إنما نطعمكم لوجه ا} أي قائلين ذلك بلسان الحال أو المقال
لتعريف الفقير أنها صدقة لا تطلب جزاء، وقوله لوجه الله:
أي إطعاماً خالصاً غير مشوب {لا نريد منكم جزاء ولا
شكوراً} مصدر كالقعود والجملة حالية من فاعل نطعم {إنا
نخاف من ربنا} جملة مستأنفة كالتعليل {يوماً} أي عذابه فهو
مفعول به {عبوساً} شديد العبوس مجازاً: أي عبوساً فيه أهله
أو كالأسد العبوس في الضرر والشدة {قمطريراً} شديد العبوس.
عن عكرمة وغيره يعبس الكافر حتى يسيل من عينيه عرق
كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس الضيق، والقمطرير: الطويل
{فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقاهم نضرة} بدل عبوس الكفار
{وسروراً} بدل حزنهم {وجزاهم بما صبروا} بدل صبرهم على ترك
الشهوات وأداء الواجبات {جنة وحريراً} يلبسونه وهذا مراد
الشيخ رحمه الله بقوله: (الآيات) فإن فيها بيان مثوبة
الإيثار والمساواة في الله سبحانه.
1 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال الشيخ
زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو هريرة، وفي «تفسير ابن
عطية» : إنه مهاجري ولم يسمعه فلعله هو (إلى النبي فقال:
إني مجهود أي أصابني الجهد وهو المشقة والحاجة وسوء العيش،
والجوع فأرسل إلى بعض نسائه) يحتمل بدؤه بها لتجويزه وجود
شيء عندها مما يسدّ حاجة الرجل أو لقرب منزلهما منه وتأخير
الباقيات لبعد منزلهن بالنسبة إلى الأولى (فقالت) أي
المرسل إليها منهن (والذي بعثك بالحق) أي محقاً أو ملتبساً
به (ما عندي إلا ماء) ومرادها
(4/551)
ما عندي من جنس ما يطعم شيء من الأشياء إلا
الماء بقرينة السياق، فالاستثناء مفرغ من أعم الأشياء (ثم
أرسل إلى أخرى) أي منهن (فقالت مثل ذلك) هذا من باب
الرواية بالمعنى والمشار إليه قول السابقة والذي بعثك الخ:
أي فقالت الثانية ذلك المقال وهكذا (حتى قلن كلهن) توكيد
للضمير قبله لا فاعل للفعل قبله إلا على لغة أكلوني
البراغيث (مثل ذلك) هو من باب الرواية بالمعنى ولذا فسره
ببيان قول كل واحدة (لا) نافية لجملة بعدها: أي لا أحد له
ما طلبت، وقولها: (والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء) جملة
قسمية لتأكيد الأمر وأن ليس عندها ما يطعمه ذلك الضيف سوى
المال (فقال من يضيف) بضم أوله (هذا) أي الرجل المجهود
(الليلة) بالنصب على الظرفية (فقال رجل من الأنصار) زاد
مسلم: يقال له أبو طلحة، وقيل: هو ثابت بن قيس بن شماس،
وقيل: عبد الله بن رواحة ذكره السيوطي في «التوشيح» ، وفي
«تفسير ابن عطية» قال أبو هريرة في كتاب مكي: هذا الرجل هو
أبو طلحة. وقال المتوكل: هو ثابت بن قيس، وخلط المهدوي في
ذكر هذا الرجل اهـ. عزوه كونه أبا طلحة إلى ما ذكره من أنه
في «صحيح مسلم» عجيب منه مع أنه من حفاظ الإسلام (أنا)
يحتمل أن يكون مبتدأ حذف خبره لدلالة وجوده في السؤال: أي
أنا أضيفه، ويحتمل كونه فاعلاً لمحذوف: أي أضيف فحذف الفعل
اكتفاء بدلالة وجوده في السؤال عليه
وانفصل الضمير (يا رسولالله، فانطلق به إلى رحله) بفتح
الراء وسكون المهملة: أي منزله قال في «المصباح» رحل الشخص
مأواه في الحضر ثم أطلق على أمتعة المسافر لأنها هناك
مأواه (فقال لامرأته) إن كان أبا طلحة فامرأته أم سليم
(أكرمي ضيف رسول الله) أي فإنه نزل عليه ولم يكن في بيونه
ما يضيفه به، وفيه أن كرامة الضيف كرامة مضيفه (وفي رواية)
هي لمسلم (قال) في مسلم: فقال بفاء عاطفة على فانطلق في
قوله قبله فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسولالله،
فانطلق به إلى رحله فقال: (هل عندك شيء) وهذا في هذه
الرواية عوض قوله في الرواية السابقة: أكرمي الخ، ولعله
سألها أولاً بما في رواية مسلم فلما أخبرته بما عندها كما
قال: (قالت: لا) بعدها جملة مقدرة لدلالة ما قبلها عليها:
أي لا شيء عندي وقولها: (إلا قوت صبياني) استثناء من ذلك
القدر قال لها:
(4/552)
أكرمي الخ (قال: فعلليهم بشيء) محمول على
أن الصبيان لم يكونوا محتاحين للأكل وإنما تطلبه أنفسهم
على عادة الصبيان من غير جوع يضر، إذ لو كانوا بتلك الحال
بحيث يضرهم ترك الأكل لكان طعامهم واجباً مقدماً على
الضيافة، وقد أثنى الله عليه وعلى امرأته فدل على أنهما لم
يتركا واجباً بل أحسنا وأجملا، قاله المصنف.l
قلت: وحينئذ فيراد بقولها: «قوت صبياني» أي ما يعتادون
الاقتيات به على عادتهم من الولع بالطعام من غير حاجة حافة
إليه فيكون فيه مجاز (وإذا أرادوا العشاء فنوميهم) وذلك
لئلا يضيقوا الطعام على الضيف فلا يبلغ حاجته منه (وإذا
دخل ضيفنا) أي منزلنا (فاطفئي السراج) (وأريه أنا نأكل) أي
أظهري له فهو كناية عن تداول أيديهما على الطعام وتحريك
الفم والمضغ كفعل الآكل، وليس ذلك من باب الشبع بما ليس
للإنسان بل هو من باب المروءة والإيثار للضيف ليأنس ويأخذ
حاجته (فقعدوا) أي الضيف وهما (وأكل الضيف وباتا طاويين)
أي خاليين بطنهما جائعين ولم يأكلا، والجملة محتملة للعطف
والحالية (فلما أصبح) أي
دخل الصباح (غداً) أي جاء صباحاً عارضاً نفسه (على النبي
فقال: لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) قال القاضي
عياض: المراد بالعجب من الله رضاه عن ذلك الشيء وقيل:
مجازاته عليه بالثواب، وقيل: تعظيمه ذلك قال: وقد يكون
المراد عجبت ملائكة الله وأضافه إليه سبحانه وتعالى
تشريفاً (متفق عليه) واللفظ من قوله وفي رواية الخ لمسلم
وللبخاري بنحوه، أخرجه البخاري في فضائل الأنصار وفي
التفسير، وأخرجه مسلم في أواخر الأطعمة ورواه الترمذي
بنحوه في التفسير من «جامعه» وقال: حسن صحيح، ورواه
النسائي في التفسير أيضاً من «سننه» .
2 - (وعنه قال: قال رسول الله: طعام الاثنين كافي الثلاثة،
وطعام الثلاثة كافي
(4/553)
الأربعة) : قال المهلب: المراد بهذا الحديث
وما بعده الحض على المكارم والتقنع بالكفاية: يعني وليس
المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة
وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما وإدخال رابع أيضاً
بحسب من يحضر. ووقع عند الطبراني ما يرشد إلى العلة في ذلك
وأوله: «كلوا جميعاً ولا تفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي
الاثنين» الحديث، فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة
الاجتماع، وأن الجمع كلما زاد زادت البركة. وقال ابن
المنذر: يؤخذ من الحديث استحباب الاجتماع على الطعام وألا
يأكل المرء وحده، وفيه أيضاً الإشارة إلى أن المواساة إذا
حصلت حصل معها البركة فتعم الحاضرين، وفيه أيضاً أنه ينبغي
للمرء ألا يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه فإن القليل قد
يحصل به الاكتفاء بمعنى سدّ الرمق وإقامة البنية لا حقيقة
الشبع اهـ ملخصاً. وأما «أمالي» العز بن عبد السلام قوله:
طعام الاثنين الخ هو خبر بمعنى الأمر: أي أطعموا طعام
الاثنين بين الثلاثة، أو أنه التنبيه على أن طعامهما يقوت
الثلاثة وأخبر بذلك ليذهب الجزع، قال: والأول أرجح لأن
الثاني معلوم (متفق عليه) ورواه الترمذي أيضاً من حديث أبي
هريرة: ورواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي من حديث جابر
مرفوعاً بلفظ: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين
يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية» كذا في
«الجامع الصغير» .
(وفي رواية لمسلم) ورواها أيضاً أحمد والترمذي والنسائي
(عن جابر رضي الله عنه عن النبي قال: طعام الواحد يكفي
الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي
الثمانية) لا يقال: يؤخذ منه أن طعام الواحد يكفي الثمانية
بإسقاط المكرر فينتج ما ذكر من الشكل، لفقد شرط إنتاجه من
كلية الكبرى.
3 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال؛ بينما نحن في
سفر مع النبي) يجوز أن يكون الظرفان خبراً بعد خبر ويجوز
أن يكون أحدهما خبراً والثاني حالاً (إذ جاء
(4/554)
رجل على راحلة) هي المركب من الإبل ذكراً
كان أو أنثى، وبعضهم يقول: هي الناقة التي تصلح أن ترجل
والظرف في محل الصفة للفاعل، وقوله: (له) في محل الصفة
للراحلة (فجعل من) أفعال الشروع (يصرف) أي يحول (بصره
يميناً وشمالاً) ينظر من يجود عليه بما يسد خلته (فقال
رسول الله: من كان معه فضل ظهر) أي مركوب فاضل عن حاجته
فهو من إضافته الصفة للموصوف (فليعد) أي يتصدق (به على)
المحتاج إليه (من لا ظهر) أي مركوب (له) كافياً لحاجته
بذلاً لما فضل عن الحاجة في مرضاة الله فيبقى له بعد أن
كان فانياً (ومن كان معه فضل) أي فاضل عن حاجته (من زاد)
في «المصباح» : زاد المسافر هو الطعام المعد لسفره (فليعد
به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر) جمع
صنف. قال ابن فارس: هو فيما ذكر عن الخليل الطائفة من كل
شيء وقال الجوهري: الصنف هو النوع والضرب بكسر الصاد
وفتحها لغة، حكاه ابن السكيت وجماعة وجمع المكسور أصناف
كحمل وأحمال والمفتوح صنوف كفلس وفلوس، قاله في «المصباح»
: أي ذكر أنواع المال وأمر ببذل الفاضل عن الحاجة من كل
للمحتاج إليه من باب المواساة، وهذا الحديث كحديث: «إنك يا
ابن آدم إن تبذل الفضل من مالك خير لك وإن تمسكه شر لك»
وقد تقدم قريباً (حتى) غاية لمقدر: أي أمر بالعود بما فضل
عن الحاجة للمحتاج إلى أن (رأينا) من الرأي أو بمعنى العلم
(أنه لا حقّ لأحد منا) أي معشر بني آدم، أو معشر الصحابة
المخاطبين بذلك وحكم غيرهم من باقي الأمة حكمهم (في فضل)
أي في فاضل عن حاجته إلحاقه (رواه مسلم) .
4 - (وعن سهل بن سعد) الأنصاري الساعدي (رضي الله عنه: أن
امرأة) قال الحافظ في «الفتح» : لم أقف على اسمها (جاءت
إلى النبي ببردة) قال في «النهاية» : البرد نوع من الثياب
معروف الجمع أبراد وبرود، والبردة: الشملة المخططة، وقيل:
هي كساء أسود مربع
(4/555)
فيه صفر تلبسه الأعراب وجمعها برد اهـ. وقد
روى البخاري في باب حسن الخلق والسخاء من كتاب الأدب من
«صحيحه» تفسير البرد عن سهل ولفظه: «وقال سهل للقوم:
أتدرون ما البرد؟ فقالوا: هي شملة، فقال سهل: شملة منسوجة
فيها حاشيتها» اهـ. وهذا أولى ما قيل فيه لأن بيان الراوي
المشاهد للقصة (منسوجة) صفة بردة (فقالت: نسجتها بيدي
لأكسوكها، فأخذها النبيّ) جبراً لخاطرها بتلقي هديتها
بالقبول، ففيه استحباب المبادرة لأخذ الهدية لجبر خاطر
مهديها وأنها وقعت منه موقعاً، وقوله: (محتاجاً إليها) حال
من الفاعل وكأنهم عرفوا ذلك بقرينة الحال أو بتصريح سابق
منه بذلك، ومع ذلك فليس الباعث على أخذها الحاجة بل
التشريع بما ذكرنا (فخرج إلينا وإنها إزاره) بكسر الهمزة
وجمعه أزر: وهو ما يلبس في أسفل البدن لستر العورة والجملة
حال من ضمير خرج (فقال: فلان) هو كما أفاد المحب الطبري في
الأحكام له: عبد الرحمن بن عوف وعزاه للطبراني فقال
الحافظ: لم أره في «المعجم الكبير» لا في «مسند سهل» ولا
في «مسند ابن عوف» ، ونقل ابن النحوي عن المحبّ في «شرح
العمدة» وكذا قال لنا شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي إنه
وقف عليه لكن لم يستحضر مكانه، ووقع شيخنا ابن النحوي في
«شرح التنبيه» أنه سهل بن سعد وهو غلط كأنه تلبس عليه
الراوي، نعم أخرج الطبراني الحديث المذكور من طريق قتيبة
بن سعيد عن سهل بن سعد وقال في آخره: قال قتيبة هو سعد بن
أبي وقاص اهـ. وقد أخرجه البخاري في اللباس والنسائي في
الزينة عن قتيبة ولما يذكرا عنه ذلك، وجاء من طريق زمعة بن
صالح أن السائل المذكور كان أعرابياً، قال الحافظ: فلو لم
يكن زمعة
ضعيفاً لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن أو سعد، ويقال: تعددت
القصة (اكسينها ما أحسنها) بنصب النون وما تعجبية (فقال:
نعم) هذا وعد بأن يكسوه (فجلس النبي في المجلس) الذي وقع
فيه السؤال (ثم رجع) إلى منزله (فطواها ثم أرسل بها إليه،
فقال له القوم) ووقع في نفسير المعاتب له من الصحابة أنه
سهل الراوي، قال سهل: فقلت للرجل: لم سألته وقد رأيت حاجته
إليه؟ قال: رأيت ما رأيتم، ولكني أردت أن أخبأها حتى أكفن
فيها (ما أحسنت) ما نفاية (لبسها النبي محتاجاً إليها)
جملة استئنافية تعليل لنفي الإحسان عنه (ثم سألته وعلمت)
جملة حالية بتقدير قد: أي وقد علمت (أنه لا يرد) قال في
«الفتح» في كتاب الجنائز: كذا وقع هنا بحذف
(4/556)
المفعول، وثبت في رواية ابن ماجه بلفظ: لا
يرد سائلاً ونحوه، وفي رواية يعقوب في البيوع وفي رواية
ابن غسان في الأدب: لا يسأل شيئاً فيمنعه اهـ ويستفاد منه
أن (سائلاً) الذي أورده المصنف هنا إنما هو لابن ماجه،
ولعله من تغيير الكتاب أو أنه التبس على المصنف لورود
معناه به عند البخاري في البيوع فتوهمه فرواه والله أعلم
(فقال: إني وا ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني) في
رواية أبي داود. فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي» (قال
سهل: فكانت كفنه. رواه البخاري) في الجنائز من «صحيحه»
بهذا اللفظ، ورواه ابن ماجه في اللباس من «سننه» . وفي
الحديث التبرّك بآثار الصالحين، وجواز إعداد الشيء قبل
الحاجة إليه، لكن لا يندب عند الشافعية إعداد الكفن لنفسه
لئلا يحاسب على ادخاره كما يحاسب على اكتسابه، إلا أن يقطع
بحله أو يكون من أثر ذي صلاح، وفيه حسن خلق النبي وسعة
جوده وقبول الهدية.
5 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إن الأشعريين) نسبة للأشعر،
وهو ثبت بن أدد بن يشجب بن يعرب بن قحطان (إذا أرملوا) أي
في أزوادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة
كما في {ذا متربة} (في الغزو) أي الخروج لقتال العدو (أو)
يحتمل أن تكون للشك من الراوي أقال ما تقدم أو قال إذ (قل
طعامهم في المدينة) أي محل إقامتهم، ويحتمل أن تكون
للتنويع، أي إنهم يفعلون ذلك في السفر والحضر، ولفظ
البخاري: «أو قل طعام عيالهم» (جمعوا ما كان عندهم في ثوب
واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية) على قدر
الحاجة (فهم مني) قريبون خلقاً وهدياً (وأنا منهم) قال
المصنف هذا معناه المبالغة في اتحاد طريقتهما واتفاقهما في
طاعة الله تعالى. وقال الحافظ في «الفتح» : معناه هم
متصلون بي وتسمى «من» هذه الاتصالية قال الشيخ زكريا،
ومثله: «لا أنا من الدّد ولا الدّد مني» وقيل: المراد
فعلهم فعلي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الشركة ومسلم في
الفضائل، ورواه النسائي في السير. قال
(4/557)
المصنف: في الحديث فضيلة الأشعريين وفضيلة
الإيثار والمواساة وفضيلة خلط الأزواد في السفر وفضيلة
جمعها في شيء عند قلتها ثم قسمها، وليس المراد من القسمة
هنا المعروفة في كتب الفقه بشروطها ومنعها في الربويات
واشتراط المساواة وغيرها، بل المراد إباحة بعضهم بعضاً
ومواساتهم بالموجود (أرملوا: فرغ زادهم) هو ما اقتصر عليه
في «شرح مسلم» (أو قارب الفراغ) وكأن الأول بيان موضوع
اللفظ لغة. والثاني بيان المراد هنا لأن القسمة إنما تكون
في الموجود لا في الذاهب رأساً، والله أعلم.
63 - باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به
أي طلب ذلك لما جاء فيه. وفي «النهاية» : التنافس من
المنافسة وهي الرغبة في الشيء والانفراد به، وهو من الشيء
النفيس الجيد في نوعه اهـ. والاستكثار طلب لكثرة وقوله مما
يتبرك متعلق به، والتبرك بالشيء لأسباب كأن كان فيه أثر
صالح أو ظهر فيه آية أو كان قريب عهد بتكوين من الله
سبحانه.
(قال الله تعالى) : ( {وفي ذلك فليتنافس} ) فليرتقب (
{المتنافسون} ) المرتقبون: وقال ابن عطية: التنافس في
الشيء المغالاة فيه وأن يتبعه كل واحد نفسه فكأن نفسهما
تتباريان فيه، قيل: هو من قولك: شيء نفيس فكأن هذا يعظمه
الآخر ويستبقان إليه.
1 - (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي أتى بشراب) وهو
كما في «المصباح» ما يشرب من المائعات، وكان ذلك كما قال
الحافظ في بيت ميمونة أم المؤمنين (فشرب منه) فيه استحباب
شرب البعض إذا كان ثمة غيره (وعن يمينه غلام) هو كما سيأتي
في الأصل
(4/558)
عبد الله بن عباس، وقيل: هو الفضل أخوه،
حكاه ابن بطال، قال الحافظ: والصواب الأول (وعن يساره
الأشياخ) جمع شيخ من شاخ في السنّ إذا طعن فيها، وذلك من
الخمسين سنة ففوق، ويطلق الشيخ لغة على من مهر في العلوم
وإن لم يكن في السن كذلك فيقال الغلام، ويصلح كما قال
الحافظ أن يعد من جملة الأشياخ خالد. قال: وقد روى ابن أبي
حازم عن أبيه في حديث سهل بن سعد ذكر أبي بكر الصديق فيمن
كان على يساره، ذكره ابن عبد البرّ وخطأه (فقال للغلام:
أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) جاء في رواية الترمذي عن ابن
عباس: «فقال لي الشربة لك، فإن شئت آثرت بها خالداً»
الحديث، قال الحافظ: قال ابن الجوزي: وإنما استأذن الغلام
دون الأعرابي المذكور في حديث أنس من شربه للبن وعن يمينه
أعرابي وعن يساره أبو بكر الصديق. لأن الأعرابي لم يكن له
علم بالشريعة فاستألفه بترك استئذانه بخلاف الغلام (فقال
الغلام: وا يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً) أكد
بالقسم وتوسيط ندائه بوصف الرسالة إيماء إلى أن العلة في
عدم الإيثار ليس كونه شراباً، فإن الاهتمام بأمر المطاعم
شأن البهائم، إنما هو لحلول أثر بركته عليه لكونه سؤره
وفضله، وذلك يفزع إليه أرباب الأفهام ويتنافس فيه أولو
الأحلام، فلذا عبر بقوله بنصيبي منك: أي من أثر بركتك
وفيضك أحداً، والتنكير فيه للتعميم ليعم القريب والبعيد
والمشرف والشريف، وفيه مزيد نباهة ابن عباس وجودة فكره إذ
نظر إلى الأشياء في مكانها ولذا قال بقوله: عمر عند
استجلاء أفكاره فيما يدلهم عليه من الأمور: «غص يا غواص»
(فتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده. متفق
عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ
في كتاب المظالم والغضب وفي كتاب الشرب وزاد بعد «احداً»
قوله: يا رسولالله، وقال: بدل قوله: «فتله» فأعطاه إياه في
يده، رواه مسلم في الأشربة، وأخرجه النسائي في الأشربة من
«سننه» (تله بالتاء المثناة فوق) أي وتشديد اللام (أي
وضعه) في «تحفة القاري» أي وضعه بقوّة. وفي «النهاية» :
قيل: التل الصب فاستعير للالقاء يقال: تل يتل: إذا صب، وتل
يتل: إذا سقط، والأول بالضم والثاني بالكسر في المضارع
(وهذا الغلام) كما حكاه الحافظ عن ابن التين، وجاء كذلك في
رواية الترمذي من حديث ابن عباس نفسه (هو ابن عباس) أي عبد
الله بن عباس (رضي الله
(4/559)
عنهما) فإن هذا علم عليه بالغلبة كابن عمر
وابن مسعود على عبد الله.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: بينا أيوب
عليه السلام) قال العراقي في «شرح التقريب» : يقال: هو
أيوب بن رزاح بن روم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم (يغتسل
عرياناً) فيه جواز الاغتسال عرياناً في الخلوة مع إمكان
التستر، وهو مذهب الجمهور (فخرّ) بالخاء المعجمة: أي سقط
(عليه جراد من ذهب) هذا ظاهر في سقوطه عليه من علوّ وهو
إكرام من الله تعالى له، وهو معجزة في حقه، وهل كان جراداً
حقيقة ذا روح، إلا أن جسمه من ذهب، أو كان على شكل الجراد
ولا روح فيه؟ الأظهر الثاني. قال الجوهري: وليس المراد ذكر
الجراد وإنما هو اسم جنس كبقر وبقرة، فحق مذكره أن لا يكون
من لفظه لئلا يلتبس الواحد المذكر بالجمع (فجعل) شرح (أيوب
يحثي في ثوبه) استكثاراً من البركة لكونه قريب عهد بتكوين
من الله سبحانه (فناداه ربه عزّ وجلّ) لا يخفى ما في
التعبير من الرب المؤذن بالتربية والإيصال إلى الكمال في
هذا المقام وهذا النداء الله أعلم أنه كان بواسطة الملك
لأن المخصوص بالسماع من حضرة الحق سبحانه من الأنبياء
والمرسلين نبينا وموسى، ثم رأيت العراقي أشار إلى ما ذكرته
وزاد احتمال كونه إلهاماً قال: ويجوز كونه كفاحاً كما وقع
لموسى وفيه نقد ولعل وجهه ما ذكرنا، وقوله: (ألم أكن
أغنيتك عما ترى) محكي لقول مقدر أو للنداء لما فيه من معنى
القول، والقول محتمل لأن يراد منه غنى القلب، أو غنى
المال، وفيه على الثاني أن أيوب كان غنياً شاكراً، ولا
ينافيه قوله تعالى: {إنا وجدناه صابراً} لأن المراد صبره
على البلاء أو على الفقر معه. والذي يظهر أن الله تعالى
جمع لأيوب مقامي الصبر على الفقر والشكر على الغنى باعتبار
حالتيه، فكان في نفس البلاء فقيراً صابراً وقبله وبعده
غنياً شاكراً، ولذا قال تعالى: {إنا وجدناه صابراً} ثم
قال: {نعم العبد} ففيه الإيماء إلى أنه غنيّ شاكر كما قال
في حق سليمان {نعم العبد إنه أوّاب} مع أنه كان غنياً
شاكراً
(قال: بلى) واستدرك من مفهوم ذلك قوله: (ولكن لا
(4/560)
غنى لي عن بركتك) أي أغنيتني عنه من سائر
الجهاد من حيث إنه مال، وأنا لا آخذه كذلك شرهاً وحرصاً،
ولكن لكونه بركة، وفيها وجوه: فقيل لأنه قريب عهد بتكوين
من الله تعالى كما حسر نبينا عن جلده حين نزل عليه المطر
وقال: إنه حديث عهد بربه: أي بتكوينه. وقيل: لأنه نعمة
جديدة خارقة للعادة فينبغي تلقيها بالقبول، ففي ذلك منه
شكر لها وتعظيم لشأنها وفي الإعراض عنها كفر بها، وقريب
منه حديث: «إن الله يحب أن تأتى رخصه كما تؤتى عزائمه»
وقيل: إن هذا آية ومعجزة وكل ما نشأ عنها فهو بركة، ومن
ذلك قول الصحابة: كنا نعد الآيات بركة، وقيل: غير ذلك
(رواه البخاري) في كتاب الأنبياء من «صحيحه» .
64 - باب فضل الغني الشاكر
أي ما جاء في ذلك، والشاكر: هو القائم بما أمر الله تعالى
به في المال فعلاً وتركاً كما قال المصنف: (وهو من أخذ
المال من وجهه) أي طريقه المأذون بأخذه منه شرعاً
كالمعاوضة المستجمعة لشروط الصحة السالمة من غش وخديعة،
وكالإرث والوصية والاكتسابات المأذون فيها من احتطاب ونحوه
(وصرفه) الأولى وإنفاقه لقوله: (في وجوهه) أي طرقه
(المأمور بها) شرعاً واجباً عينياً كأداء الزكوات
والكفارات والنذور، أو كفائياً كالقيام بحاجة المحتاج من
طعام وكسوة، أو مندوباً كالتطوعات.
(قال الله تعالى) : ( {فأما من أعطى} ) أي أنفق ماله لوجه
الله ( {واتقى} ) محارمه ( {وصدق بالحسنى} ) المجازاة
وأيقن أن الله سيخلفه عليه، أو بالكلمة الحسنى وهي كلمة
التوحيد ( {فسنيسره} ) نهيئه في الدنيا ( {لليسرى} ) للخلة
التي توصله إلى اليسرى والزلفى في الدار الآخرة يعني
الأعمال الصالحة والآية بعدها
(4/561)
في ضدّ ذلك تقدمت مع الكلام على ما يتعلق
بها في باب النهي عن البخل.
(وقال تعالى) : ( {وسيجنبها} ) أي النار ( {الأتقى} ) أي
الذي اتقى الشرك والمعصية فلا يدخلها أصلاً، وأما من اتقى
الشرك فقط فيمكن أن يدخلها لكن لا يصلاها ولا يلزمها (
{الذي يؤتي ماله} ) يعطيه وينفقه في طاعة الله ( {يتزكى} )
أي يطلب تزكية نفسه وماله فصله الذي بدل أو حال فلا محل له
على الأول ( {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} ) فيقصد إتيانه
مجازاتها ( {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} ) أي لكن يؤتى
طلباً لمرضاة الله سبحانه، والجمهور على نصب ابتغاء وأنه
على الاستثناء المنقطع، وإلا بمعنى لكن كما تقرر فهو في
الحقيقة مفعول له، قاله الهمذاني، وانظر ابن عطية في كون
الاستثناء منقطعاً وجعل الكواشي الاسثناء المنقطع
والمفعولية له وجهين متقابلين محمول على المعنى، والتقدير:
لم يعط الشيء إلا ابتغاء وجهه سبحانه، والابتغاء: الطلب أي
إلا لطلب التوجه إلى ربه الأعلى (ولسوف يرضى) من ربه حين
يدخله في رحمته، وعن كثير من السلف أن هذه السورة في
الصديق وهو الأتقى فيكون الحصر ادعائياً لا حقيقياً، كأن
غير هذا الأتقى غير مجتنب بالكلية كذا في «تفسير» السيد
معين الدين الصفوي، وفي «تفسير ابن عطية» لم يختلف أهل
التأويل أن المراد بالأتقى إلى آخر السورة أبو بكر ثم هي
تتناول كل من دخل في هذه الصفات. وقال ابن كثير في
«تفسيره» : قد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآي نزلت
في أبي بكر رضي الله عنه حتى أن بعضهم حكى الإجماع عن
المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الناس
بعمومها، وأن لفظها لفظ العموم وهو قوله: {وسيجنبها
الأتقى} الخ. ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه
الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً
بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصر رسوله، وفي «تفسير
الكواشي» : والمراد بالأتقى أبو بكر الصديق قالوا بإجماع
المفسرين، وما ذكره ابن عطية وابن كثير من أن الآية تشمل
من دخل في تلك الصفات تعقبه الحافظ السيوطي في
«الإتقان» فقال بعد أن مهد قاعدة: «العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب» :
«تنبيه» : قد علمت أن فرض المسألة في لفظ له عموم أما آية
نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعاً كقوله
تعالى: {وسيجنبها الأتقى} الخ فإنها نزلت في الصديق
إجماعاً وقد استدل بها الفخر الرازي مع قوله: {إن أكرمكم
عند الله أتقاكم} على أنه
(4/562)
أفضل الناس بعد رسول الله، ووهم من ظن أن
الآية عامة في كل عمله إجراء له على القاعدة، وهذا غلط،
فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم، إذ أل إنما تفيد العموم
إذا كانت موصولة أو معرّفة في جمع، زاد قوم أو مفرد بشرط
أن لا يكون هناك عهد، واللام في الأتقى ليست موصولة، لأنها
لا توصل بأفعل التفضيل إجماعاً، والأتقى ليس جمعاً، بل
مفرد، والعهد موجود خصوصاً مع ما يفيد صيغة أفعل من
التمييز وقطع المشاركة، فبطل القول بالعموم وتعين القطع
بالخصوص والقصر على من نزلت فيه رضي الله عنه» اهـ.
(وقال تعالى) : ( {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} ) أي إن
أظهرتموها فنعم شيئاً إبداؤها ( {وإن تخفوها وتؤثرها
الفقراء} ) أي تعطوها مع إخفاء ( {فهو} ) أي إخفاؤها (
{خير لكم} ) والآية عامة في كل صدقة، لكن عن ابن عباس:
السرّ في التطوع أفضل من العلانية يقال: بسبعين ضعفاً،
وصدقة الفريضة علانيتها أفضل بخمسة وعشرين ضعفاف ( {ويكفر
عنكم} ) أي الله أو الإخفاء ففيه إسناد مجازي، ومن قرأ
مجزوماً فهو عطف على محل جواب الشرط ( {من سيئاتكم} ) من
للتبعيض أو لبيان الجنس أي شيئاً هو السيئات ( {وا بما
تعملون خبير} ) ترغيب في الإخفاء.
(وقال تعالى) : ( {لن تنالوا البرّ} ) الجنة: أو التقوى،
أو كمال الخير ( {حتى تنفقوا مما تحبون} ) أي بعضه،
والمراد منه أداء الزكاة أو صدقة السنة، ويدل على الثاني
أن كثيراً من الصحابة تصدقوا بأراضيهم وأعتقوا جواريهم حين
أنزلت، والمعنى: لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا وأنتم أصحاء
أشحاء ( {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} ) فيجازي
بحسبه (والآيات) الكائنة أو كائنة (في فضل الإنفاق في
الطاعات) هي ما تقرب بها إلى المولى (كثيرة معلومة) وفيما
ذكر كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
1 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول
الله: لا حسد) أي
(4/563)
لاغبطة محمودة (إلا في اثنتين) من الخصال
أو في ذي اثنتين منها فعلى الأول يقدر مضاف نحو خصلة قبل
قوله رجل وهو في الأصول مرفوع خبر محذوف: أي هما خصلتان
رجل ورجل، فحذف المضاف وأقيم رجل مقامه فارتفع (رجل آتاه)
أي أعطاه (امالاً) أي بطريق لا تبعة فيه كما يومىء إليه
إسناد الإعطاء إلى الله سبحانه، وإلا فالتصدق بالسحت لا
غبطة فيه (فسلطه على هلكته) أي إتلاف عينه بإبقائه عند
الله بإنفاقه لوجهه ومرضاته (في الحق) متعلق بالمصدر قبله
(ورجل آتاه الله حكمة) أي علماً ويجوز أن يراد بها القرآن
لورود كل منهما في رواية، ويجوز أن يراد بها السنة والأول
أقرب (فهو يقضي بها) أي عند التحاكم إليه (ويعلمها) ففيه
أن شكر المال إنفاقه في وجوه الطاعات ابتغاء مرضاة الله
تعالى، وأن شكر العلم العمل به وتعليمه (متفق عليه) (وتقدم
شرحه) أي تبيان المراد من قوله لا حسد (قريباً) نصبه على
أنه صفة مصدر: أي تقدماً قريباً، أو على الظرفية: أي في
مكان قريب من الكتاب وهو باب فضل الكرم والجود.
2 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: لا حسد) أي
لا ينبغي أن يحسد أي يغبط (إلا في اثنتين) ثوابهما بحسن
التصرف من فاعلهما (رجل آتاه الله القرآن) قدم هنا على
المال من باب التدلي من الشريف إلى المشروف، وعكس في
الحديث قبله من باب الترقي، أو لأن ذلك سبق للحضّ على
الاشتغال بالقرآن فقدم في كل ما سبق له الحديث وذكر الآخر
بالتبع، أو أن ذلك على وجه التفنن في التعبير، وعبر هنا
بالقرآن الذي هو منبع العلوم ومعدنها وأصلها ومكمنها، قال
تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام: 38) وقال
تعالى: {والكتاب المبين} (الدخان: 2) أي لكل شيء محتاج
إليه كما يؤذن به حذف
(4/564)
المعمول، لأنه الأصل، وثم بالحكمة المراد
بها العلم الشرعي على قوم لعموم حاجة الناس في معاشهم
ومعادهم إليه (فهو يقوم به) أي في صلاته (آناء الليل وآناء
النهار) منصوب على الظرفية وأعاد المضاف دفعاً لتوهم أن
المراد آناء مجموعهما لا كل على الانفراد، ويحتمل أن يراد
من القيام المداومة على تلاوته لا يخصوص كونه في صلاة
(ورجل آتاه الله مالاً) التنكير فيه للتعظيم كما يدل عليه
قوله: (فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) ويحتمل أن يكون
للشيوع فيشمل الجليل منه والحقير، قال تعالى: {لينفق ذو
سعة من سعته ومن قد عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا
يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} (الطلاق: 7) (متفق عليه)
تقدم ذكر من خرّجه من حديث ابن عمر في باب فضل الكرم
المذكور (الآناء) بالفتح ومد الهمزة قبل النون (الساعات)
جمع واحده أني بالكسر والقصر وأناء بالمد والفتح، وإني
بوزن قنو، وأنو بوزن دلو، ذكرها الواحدي في «تفسيره» .
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن) بالفتح ويجوز كسر
الهمزة بتقدير قول قبلها (فقراء المهاجرين) من إضافة الصفة
لموصوفها: أي المهاجرين الفقراء (قالوا) : على وجه الغبطة
والتأسف على عدم تمكنهم من ذلك (يا رسول الله ذهب أهل
الدثور بالدرجات) الباء فيه للتعدية وفيها معنى المصاحبة
(العلا) أي الرفيعة، قال ابن عطية في «التفسير» : الدرجات
العلا هي القرب من الله تعالى: (والنعيم المقيم) وهو نعيم
الجنة الذي لا ينقضي أبداً (فقال: وما ذاك) استفهام عن
الذي لأجله قيل فيهم إنهم فازوا بذلك دنيا وعقبى ولم
يتركوا منه للفقراء شيئاً كما يومىء إليه السياق، وأتى
باسم الإشارة الموضوع للبعيد فيه مع قربه لفخامة شأنه
كقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين} (الشعراء: 2) بناء
على أن المشار إليه هو الحروف المقطّعة أوّل السور
(فقالوا: يصلون كما نصلي) ما كافة مهيئة للدخول على
(4/565)
الجملة الفعلية، وتفيد تشبيه مضمون الجملة
بالجملة أو مصدرية أي مثل صلاتنا، أو موصولة: أي مثل الذي
نصليه (ويصومون كما نصوم) أي هم في العبادات البدنية
مماثلون لنا مساوون فيها وزائدون علينا بالعبادات المالية
المدلول عليها بقولهم (ويتصدقون ولا نتصدق) كذا في النسخ
بإظهار الفوقية وتخفيف المهملة الأولى فيهما (ويعتقون)
بفتح التحتية وكسر الفوقية فيهما (ولا نعتق) أي فهم يرجحون
علينا بذلك، إذ لا مال لنا نصل به إلى مثل ذلك (فقال رسول
الله: أفلا أعلمكم) أي أترككم تعاباً من ذلك فلا أعلمكم
(شيئاً) أي عظيماً بقرينة وصفه بقوله: (تدركون به من
سبقكم) أي إلى المنازل العلى أو من سبقكم من مؤمني الأمم
(وتسبقون) بكسر الموحدة (به من بعدكم) أي في الرتبة: أي
دونكم أو في الزمن (ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل
ما صنعتم) الاستثناء فيه منقطع: أي ولكن من صنع مثل ما
صنعتم فلا تسبقونه ولا يفضل عليه أحد كما لا يفضل عليكم
(قالوا: بلى يا رسول الله) أي تعليم ذلك مرادنا
لنلحق به من سبق ونجوز به على من بعد فضل السبق، وفي
قولهم: يا رسول الله تحريض على الإعلام: أي إن الله رحم بك
العباد وتعليم ذلك منها فجد به (قال: تسبحون وتكبرون)
بتضعيف الفعلين اعتباراً بتكرير الفعل (وتحمدون) بفتح
الفوقية والميم (دبر) أي خلف (كل صلاة) أي من المكتوبات
كما جاء كذلك في رواية، ودبر ظرف تنازعه الأفعال قبله وكذا
تنازعت (ثلاثاً وثلاثين) وهو منصوب على المفعولية المطلقة
للعامل فيه منها (فرجع) العطف على محذوف دلّ عليه السياق:
أي فذهب فقراء المهاجرين بما علمهم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فعملوا فعلمه الأغنياء فعملوا به وشاركوها فيه
كغيره من العبادات البدنية فرجع (فقراء المهاجرين إلى رسول
الله) إذا فاتهم ما استأثروا به عن الأغنياء ليلحقوهم في
فضل عملهم المالي بمشاركتهم فيه (فقالوا: سمع إخواننا أهل
الأموال) هذا تفسير منهم للدثور المذكور عنهم أول الحديث
(بما فعلنا) أي مما ذكرت وما فيه من عظيم الفضل (ففعلوا
مثله) فساورنا فيه وازدادوا عليه بالعمل المالي فرجع الأمر
بالآخرة إلى ما اشتكوا منه أولاً (فقال رسول الله: ذلك فضل
ا) أي
(4/566)
ثوابه (يؤتيه) أي يعطيه (من يشاء) من فقير
وغنيّ، والمشار إليه يحتمل أن يكون السبق إلى المنازل
العلى المذكور أوّل الخبر: أي أنالهم الله ذلك وقصره
عليهم، فلا سبيل لمشاركتهم فيه من غيرهم، ويحتمل أن يكون
الثواب المرتب على هذا المذكور أنه فضل الله إن شاء خص به
الفقراء فلا يلزم من إتيان الأغنياء به مساواة الفقراء
فيه: أي فلا عليكم من مشاركتهم في ذلك صورة، والأول قال به
من مال إلى تفضيل الغنيّ الشاكر، والثاني قال به ما قال
بتفضيل الفقير الصابر (متفق عليه) رواه البخاري في الدعوات
ومسلم (وهذا لفظ رواية مسلم) في كتاب الصلاة وليس في رواية
البخاري وصف الدرجات بالعلا، وفيها أن كلاً من التكبير
والتسبيح والتحميد عشراً عشراً وليس عنده من قوله فرجع
فقراء المهاجرين
إلى الآخر، وسبق في باب بيان طرق الخيرات أن حديث أبي ذرّ
عند مسلم بنحو حديث الباب، وأن كلاً من التسبيح والتحميد
والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة
وفيه زيادة على ما في حديث الباب ونقص عنه (الدثور) بضم
المهملة والمثلثة (الأموال الكثيرة) كما في «النهاية» ،
وبه يعلم ما في اقتصار الكازروني شارح «الأربعين» على قوله
الدثر: المال ولم يقيده بالكثير، وفي باب بيان طرق الخيرات
الدثور واحدها دثر، فأفاد ثمة بيان مفرده وهنا بيان معناه.
وفي «النهاية» : الدثور جمع دثر: أي كفلس يقع على الواحد
والاثنين والجمع اهـ.
(4/567)
65 - باب ذكر الموت
الأكثر أنه أمر وجودىّ. وهو عرض مضادّ الحياة، وقيل عدمي
أي عدم الحياة عما من شأنه، وفسر هذا قوله تعالى: {خلق
الموت} (الملك: 2) بقوله أي قدرّه (وقصر) بكسر ففتح
(الأمل) بفتحتين. قال السيوطي في «التوشيح» : هو رجاء ما
تحبه النفس، قال ابن الجوزى: وهو مذموم للناس لا للعلماء
فلولا أملهم لما ألفوا ولا صنفوا (قال الله تعالى) : ( {كل
نفس ذائقة الموت} ) ألم مقدماته وحال سكراته، وهذا وعد
ووعيد للمصدّق والمكذب ( {وإنما توفون أجوركم} ) تعطون
جزاء أعمالكم خيراً كان أو شراً تاماً وافياً ( {يوم
القيامة} ) إذ هو يوم الجزاء للعمال على ما لهم في الدنيا
من الأعمال ( {فمن زحزح} ) أي نحى وأبعد ( {عن النار وأدخل
الجنة} ) هو كالتصريح بالملزوم، إذ يلزم الإبعاد عن النار
إدخال الجنة إذ لا واسطة بينهما عند أكثر أهل الحق ( {فقد
فاز} ) من الفوز، وهو الظفر بالمراد والمرام ( {وما الحياة
الدنيا} ) أى زخارفها ( {إلا متاع الغرور} ) أى كمتاع يدلس
به على المستام فيغر ويشتريه، فمن اغترّ بها وآثرها فهو
مغرور (وقال تعالى) في الآية التي فيها ما جاء في الحديث:
إنها من مفاتيح الغيب ( {إن الله عنده علم الساعة وينزل
الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا} ) أي أيّ
شىء خير أو شرّ ( {تكسب غدا} ) والجملة عطف على جملة: إن
الله أثبت اختصاصه
(5/5)
به تعالى على سبيل الكفاية على الوجه
الأبلغ ( {وما تدري نفس بأيّ أرض تموت} ) وإذا كان هذا
شأنها فيما هو أخص الأشياء بها فكيف هي بمعرفة ما عداهما.
(وقال تعالى) : ( {فإذا جاء أجلهم} ) أي وقت انقضاء عمرهم
( {لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} ) أي لا يستمهلون لحظة.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم
ولا أولادكم عن ذكر الله} ) الصلوات الخمس وسائر العبادات،
والمراد نهيهم عن اللهو بها ( {ومن يفعل ذلك} ) أي الشغل
عن ذكر الله بالمال والولد ( {فأولئك هم الخاسرون} ) حيث
آثروا العاجل على الآجل والفاني على الباقي ( {وأنفقوا مما
رزقناكم} ) المراد كما قال جمهور المتأولين: الزكاة، وقيل:
هو عام في كل مفروض ومندوب ( {من قبل أن يأتي أحدكم الموت}
) أي علامته وأوائل أمره ( {فيقول ربّ لولا أخرتني} ) أي
أمهلتني وهو طلب الكرّة والإمهال ( {إلى أجل قريب} ) أي
زمن يسير آخر، قال ابن عطية: سماه قريبا لأنه آت أو لأنه
إنما تمناه ليقضي فيه العمل الصالح فقط، وليس يتسع الأمل
حينئذ لطلب العيش ونضرته (فأصدّق) أي أتصدق وهو منصوب في
جواب الطلب ( {وأكن من الصالحين} ) بالتدارك، وكل مفرّط
يندم عند الاحتضار ويسأل الإمهال للتدارك، وقرأ الجمهور
أكن بالجزم. قال الزمخشري: عطف على محل فأصدق، كأنه قيل:
إن أخرتني أصدق وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي. وأما ما
حكاه سيبويه عن الخليل، فهو غير هذا، وهو أنه جزم أكن على
توهم الشرط الذي يدل على التمني، ولا موضع هنا لأنه الشرط
ليس بظاهر، وإنما يعطف على الموضع حيث يظهر الشرط كقوله:
«من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم» فيمن جزم ويذر عطف على
موضع «فلا هادي له» لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوماً.
والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم مفقود
وأثره موجود دون مؤثره اهـ ( {ولن يؤخر الله إذا نفساً إذا
جاء أجلها} ) حض على المبادرة والمسابقة للأجل بالعمل
الصالح ( {والله خبير بما تعلمون} ) قرىء بالفوقية وعد
وبالتحتية
(5/6)
وعيد: أي فهو مجازيكم على صالح عملكم
ومجازيكم على سيئها. (وقال تعالى) ( {حتى} ) متعلق بيصفون
المذكور قبله في قوله {وسبحان الله عما يصفون} وما بينهما
اعتراض لتأكيد الاعتناء بالاستعاذة بالله من الشيطان
الرجيم: أي لا يزالون على سوء الذكر
إلى أن جاء أحدهم. وجوّز ابن عطية كونها غاية لكلام محذوف،
واقتصر عليه أبو حيان في «النهر» قال: والتقدير فلا أكون
كالكفار الذين يهمزهم الشياطين ويحضرونهم ( {حتى إذا جاء
أحدهم الموت} ) ورجح ابن عطية كونها ابتدائية (
{قال ربّ ارجعون} ) ردوني إلى الدنيا، والواو لتعظيم
المخاطب. وقيل: لتكرر قوله ارجعني، قال ابن عطية: أو
استغاث بربه أوّلا ثم خاطب ملائكة العذاب بقوله أرجعون (
{لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} ) أي في الذي تركته من
الإيمان لعلي آتي به وأعمل فيه صالحاً، أو المال، أو
الدنيا ( {كلا} ) ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها. وفي
النهر قيل: هي من قوله الله تعالى، وقيل من قول من عاين
الموت، يقولها لنفسه تحسرا وتندما ( {إنها} ) أي رب أرجعون
ألخ ( {كلمة} ) والكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها
مع بعض ( {هو قائلها} ) لا محالة لتسلط الحسرة عليه، وهذا
محتمل كما قال ابن عطية للأخبار المؤكدة بوقوع هذا الشيء،
أو بأن المعنى: إن هذه كلمة لا تغني من أكثر قولها ولا نفع
له بها ولا غوث فيها، وإشارة إلى أنهم لو ردوا لعادوا كما
كانوا، ففيه ذمهم، قال الصفوي: وعلى الثالث فهو علة الردع:
أي ارتدعوا، فوعدكم بالعمل الصالح لو رجعتم مجرد وعد لا
وفاء بحقه ( {ومن ورائهم} ) أي أمامهم ( {برزخ} ) حاجز
بينهم وبين الرجعة ( {إلى يوم يبعثون} ) هو إقناط كلي
للعلم بأن لا رجعة إلى الدنيا يوم البعث فلا رجعة أصلاً (
{فإذا نفخ في الصور} ) وهو القرن، وقيل جمع صورة وأيده
القاضي البيضاوي بقراءة صور بضم ففتح وكسر، والمراد النفخة
الأخيرة ( {فلا أنساب بينهم} ) أي لا تنفع ( {يومئذ ولا
يتساءلون} ) كما يفعلون اليوم بل يفرح القريب إن وجب له حق
ولو على ولد ووالده فيأخذ منهما، ولا يتساءلون: أي لا يسأل
حميم قريب حميمه وقريبه، ولا ينافيه قوله تعالى: {فأقبل
بعضهم على بعض يتساءلون} لأن يوم القيامة مواطن ومواقف أو
ما
(5/7)
نحن فيه عند النفخة.
والآية الثانية بعد المحاسبة، أو دخول أهل الجنة. هذا وعن
عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي
ونسبي» ( {فمن ثقلت موازينه} ) بأن تكون له عقائد وأعمال
صالحة تثقل ميزانه (فأولئك هم المفلحون) الفائزون بالنجاة
والدرجات ( {ومن خفت موازينه} ) بأن لا عقائد ولا أعمال
صالحة تثقل ميزانه ( {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} ) حيث
أبطلو استعدادها، وجمع الموازين من حيث أن الموزون جمع وهي
أعمال. ومعنى الوزن: إقامة الحجة على العباد وإظهار للعدل
بالمحسوس على عادتهم وعرفهم. وفي وزن الكافر وجهان: قيل
يوضع كفره في كفة فلا يوجد شيء يعادله في الكفة الأخرى.
وقيل بأن يوضع في الثانية ماله من عمل صالح من صلة رحم
ووجه برّ فيخف عمله (
{في جهنم خالدون} ) بدل من خسروا أنفسهم ولا محل له، لأن
المبدل منه وهو الصلة لا محل له، أو خبر بعد خبر لأولئك،
أو خبر مبتدإ محذوف: أي متعلق الظرف بدل من الصلة وهو من
بدل المطابق كما في «النهر» ، قال: وأجاز أبو البقاء أن
يكون الذين نعت أولئك وخبر أولئك في جهنم، والظاهر أنه خبر
أولئك لا نعته وخالدون خبر ثان وفي جهنم متعلق به ( {تلفح}
) تحذف ( {وجوههم النار وهم فيها كالحون} ) أي عابسون وهو
تقلص الشفتين من الإنسان، وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما
في الإنسان، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من
الأعضاء، فإذا لفح فغيره ملفوح، ولما ذكر اللفح ذكر الكلوح
المختص ببعض الأعضاء وهو الوجه فتتقلص الشفة العليا حتى
تبلغ الرأس وتسترخى الشفة السفلى حتى تبلغ السرّة كما جاء
ذلك في حديث مرفوع عند الترمذي وقال: إنه حسن صحيح ( {ألم
تكن آياتي تتلى عليكم} ) أي يقال لهم ذلك ( {فكنتم بها
تكذبون. قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا} ) الشقاوة: سوء
العاقبة ( {وكنا قوماً ضالين} ) عن الهدى ( {ربنا أخرجنا
منها فإن عدنا} ) لما تكره ( {فإنا ظالمون. قال اخسئوا
فيها} ) أي ذلوا وانزجروا كما تنزجر الكلاب ( {ولا تكلمون}
) في رفع العذاب أو لا تكلمون رأساً. وعن بعض السلف أنه لم
يكن لهم بعد ذلك إلا زفير وشهيق وعواء كالكلاب ( {إنه} )
أي الشأن ( {كان فريق من عبادي يقولون. ربنا آمنا فاغفر
لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} ) قال ابن عطية: والفريق
المشار إليه هم المستضعفون من المؤمنين، وهي وإن نزلت في
شأن الكفار من قريش مع صهيب وبلال وعمار ونظرائهم إلا أن
نظراءهم في ذلك مثلهم (فاتخذتموهم سخريا) بكسر
(5/8)
السين وضمها لغتان بمعنى الهزؤ، وزيدت ياء
النسبة للمبالغة. وعند الكوفيين المضموم من السخرة بمعنى
الانقياد والعبودية، وكسرها من الاستهزاء والكسر فيه أكثر
وهو أليق بالآية، ألا ترى أن قوله ( {حتى أنسوكم ذكرى
وكنتم منهم تضحكون} ) ونسبة الإنساء إلى الفريق من حيث
إنه كان بسببهم. والمعنى: اشتغالهم بالهزؤ بهؤلاء أنساهم
ما ينفعهم ( {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} ) أي بصبرهم على
أذاكم ( {أنهم هم الفائزون} ) قال الزمخشري: من فتح همزة
إن فهي ومعمولاها المفعول الثاني أني جزيتهم فوزهم، ومن
كسر فهو استئناف، وقال في «النهر» : الظاهر أنه تعليل من
حيث المعنى لا من الإعراب لاضطرار المفتوحة إلى عامل،
والفائزون: المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم، ومعنى
الفوز: النجاة من هلكة إلى نعمة (
{قال} ) أي الله، أو الملك المأمور بسؤالهم ( {كم لبثتم في
الأرض} ) أي أحياء ( {عدد سنين} ) تمييز لكم، وسؤاله لهم
توقيف وهو تعالى يعلم عدد ما لبثوا، أو لفرط هول العذاب
نسوا ذلك ( {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} ) قال ابن
عطية. والغرض توقيفهم على أن أعمارهم القصيرة أداهم الكفر
فيها إلى عذاب طويل، وقيل معناه: السؤال عن مدة لبثهم في
التراب أمواتاً، وعليه جمهور المتأولين. قال ابن عطية: وهو
أصوب من حيث إنهم أنكروا البعث وكانوا يرون أن لا يقوموا
من التراب، قيل لهم لما قاموا منه كم لبثتم ( {فسئل
العادين} ) أي القادرين على العدد فنحن في شيء لا نقدر معه
على أعمال الكفر. والعادين الملائكة الحفظة ( {قال إن
لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون} ) أي ما لبثتم فيها
إلا زماناً قليلا على فرض أنكم تعلمون مدة لبثكم (
{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} ) أي عابثين بلا فائدة، حال
أو مفعول له ملهياً بكم، وما زيدت للتأكيد ( {وأنكم إلينا
لا ترجعون} ) عطف على أنما.
(وقال تعالى) ( {ألم يأن} ) أي ألم يحن، يقال أنى الشيء
يأنى إذا حان ( {للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما
نزل من الحق} ) أي ألم يأت وقت خشوعها عند ذكر الله، أو
لأجل ذكر الله والموعظة وسماع القرآن. عن ابن عباس: عوتب
المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
وحكى السبكي عن ابن المبارك أنه في صباه حرّك العود ليضربه
فإذا به قد نطق بهذه الآية، فتاب ابن المبارك وكسر العود
وجاءه التوفيق والخشوع والإخبات والتطامن، وهي هيئة تظهر
في الجوارح متى كانت في القلب ولذا خص
(5/9)
القلب بالذكر ( {ولا يكونوا كالذين أوتوا
الكتاب من قبل} ) كاليهود والنصارى عطف على تخشع على
قراءته بالتحتية، ونهى عن مماثلة أهل الكتاب على القراءة
بالفوقية وفيه التفات ( {فطال عليهم الأمد} ) الزمان بينهم
وبين أنبيائهم ( {فقست قلوبهم} ) معناه صلبت وقلّ خيرها
وانفعالها للطاعات وسكنت إلى المعاصي ففعلوا منها ما هو
مأثور عنهم ( {وكثير منهم فاسقون} ) خارجون عن الدين
(والآيات) القرآنية (في الباب) أي التحريص على تذكر الموت
وترك الاغترار بالحياة (كثيرة معلومة) والسعيد يكفيه واعظ
واحد، بخلاف من لا نور له فلا ينجع فيه ألف عظة وشاهد.
1574 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بمنكبي) كأنه فعل به ذلك ليقبل على
سماع ما يلقي إليه ويفيق من عمرة ما هو فيه من الشغل عن
ذلك، ونظير هذا التنبيه الفعلي التنيه القولي في قوله «ألا
أنبئكم بخير أعمالكم» الحديث والياء يحتمل أن تكون
بالتشديد على أن المضاف مثنى أدغمت ياؤه في ياء المتكلم،
وإنما أخذ بهما زيادة في التنبيه، ويحتمل أن تكون بالتخفيف
على إفراد ما قبله وهو الأقرب (فقال كن في الدنيا كأنك
غريب) أي فلا تستكثر فيها من أمتعتها وزهراتها فإن شأن ذي
الأسفار التخفيف عن نفسه بإلقاء ما يثقله، قال الشاعر:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله
والزاد حتى نعله ألقاها
والإنسان في الدنيا غريب على الحقيقة، لأن الوطن الحقيقي
هو الجنة كما حمل عليه كثير «حب الوطن من الإيمان» على
الجنة وهي التي أنزل الله بها الأبوين ابتداء وإليها
المرجع إن شاء الله تعالى بفضل الله ومنه، والإنسان في
الدنيا في دار غربة كالمسافر من وطنه حتى يرجع إليه، والله
الموفق لما يوصل إلى الرجوع إليه (أو عابر سبيل) أي داخل
البلد على سبيل المرور بها لكونها على طريقك، ومن كان كذلك
لا يأخذ منها إلا ما تدعو
(5/10)
إليه ضرورة سفره من نحو طعام أو شراب (وكان
ابن عمر يقول) كالتذييل لما قبله من حيث المعنى، حضا
للنّاس على ورود هذا المنهل ورد عناية ببركة حلول نظر
المصطفى (إذا أمسيت) أي دخلت في المساء (فلا تنتظر الصباح)
وهو لغة من نصف الليل إلى الزوال، ومنه إلى نصف الليل
المساء كما نقله السيوطى عن الجمهرة لابن دريد وقال: إنها
فائدة عزيزة النقل، أما الصباح شرعاً فمن طلوع الفجر إلى
طلوع الشمس، والمعنى: إذا أدركك المساء فبادر بصالح العمل
والتوبة من الزلل ولا تسوّف بأن تدرك زمن الصباح فتؤخر ذلك
له فلعل الأجل ينقضي قبله كما يقع كثيراً، وعقدت هذا
المعنى في قولى:
إذا أمسيت فابتدرالفلاحا
ولا تهمله تنتظر الصباحا
وتب مما جنيت فكم أناس
قضوا نحبا وقد باتوا صحاحاً
(وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك) أي زمنها لعمل
البر ما تدخره (لمرضك) لعجزك عن ذلك (ومن حياتك) لتمكنك
فيها من عمل الطاعات (لموتك) ليؤنسك في القبر (رواه
البخاري) والحديث تقدم مع «شرحه» في باب فضل الزهد.
2575 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما
حق) أي ليس شأن (امرىء مسلم) من جهة الحزم والاحتياط،
والتقييد بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو
للتهييج لتقع المبادرة إلى امتثاله لمايشعر به من نفي
الإسلام عن تارك ذلك قاله في «فتح الباري» (له شيء) في
رواية: له مال (يوصي فيه يبيت) كأنه على تقدير أن أي
بيانه، وهو كقوله تعالى: {ومن آياته يريكم البرق} أي ليس
شأنه من جهة الحزم والاحتياط بياته كذلك لعله يفجؤه الموت
وهو على غير وصية، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت
والاستعداد له، والمصدر المؤول من أن بدل من امرىء، ويجوز
أن يكون يبيت صفة لمسلم وبه جزم الطيبى وقال: هي صفة
ثانية، وقوله «يوصى فيه» صفة شيء ومفعول يبيت محذوف: أي
آمنا أو ذاكراً وقال ابن التين: تقديره موعكا، والأول أولى
لأن طلب
(5/11)
الوصية لا يختص بالمريض، وخبر «ما» هو
المستثنى كذا نقل الطيبى والكرماني، وفيه أن الرواية
بإثبات الواو في المستثنى وهي لا تدخل الخبر. ويؤخذ عن
إعراب ابن مالك لرواية مسلم الآلي أنّ يبيت خبر ما: أي من
غير تقدير قبلها. قال ابن عبد البر: والوصف بالمسلم خرج
مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو ذكر تهييجاً للمبادرة
لامتثال مضمونه لإشعاره بنفي إسلام تاركها، ووصية الكافر
جائزة في الجملة (ليلتين) كذا لأكثر الرواة، ولأبي عوانة
والبيهقي من طريق حماد بن زيد «يبيت ليلة أو ليلتين»
وسيأتي ما عند مسلم، وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج
لتزاحم أشغال المرء التي لا بد له منها ففسح له بهذا القدر
ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات دال على أنه
للتقريب لا للتحديد، والمعنى: لا يمضي عليه زمان وإن كان
قليلا (إلا ووصيته مكتوبة عنده) أي مشهود بها لأن الغالب
في كتابتها الشهود، ولأن أكثر الناس لا يحسن الكتابة فلا
دليل فيه على اعتماد الخط (متفق عليه) رواه البخاري ومسلم
في الوصايا وفي «الجامع الصغير» ، ورواه مالك
والأربعة من حديث ابن عمر (هذا لفظ البخاري) في أول كتاب
الوصايا من «صحيحه» (وفي رواية لمسلم يبيت ثلاث ليال) كأن
التقييد بالثلاث غاية التأخير، ولذا قال ابن عمر: ما مرّت
علىّ ليلة إلى آخر ما يأتي، وفي رواية لمسلم «ما حق امرىء
مسلم تمر عليه ثلاث ليال إلا عنده وصيته» قال ابن مالك في
شرح «المشارق» : ما نافية وتمر خبره. والجمهور على استحباب
الوصية لأنه جعلها حقا للمسلم لا عليه، ولو وجبت لكانت
عليه لا له، وهو خلاف ما يدل عليه اللفظ، وهذا في الوصية
المتبرّع بها، أما الوصية بأداء الدين ورد الأمانات فواجبة
(قال ابن عمر) وكان دأبه الاقتداء والاقتفاء (ما مرت عليّ
ليلة منذ) أي من زمن (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال ذلك إلا وعندي وصيتي) أخذا بالأحوط ومسارعة لما حرّض
الشارع إلى فعله.
3576 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خطّ النبيّ خطوطا)
يحتمل أن يكون على الكيفية
(5/12)
الآتية في حديث ابن مسعود بما فيها من
الخلاف (فقال: هذه أمله) التأنيث باعتبار مفهوم الواحدة
وهذا الذي هو خارج عن الخط المربع أمله وإلا فالخط مذكر
كما قال فيه (وهذا) أي المعترض القاطع للخط المستطيل
(أجله) ولعل في تأنيثه المشار إليه إلى الأمل إيماء إلى
ذمه ونقصه، وأنه الذي ينبغي قصره ليبادر إلى صالح العمل
والتوبة من الزلل، فإن التأنيث ناقص بالنسبة إلى التذكير
(فبينما هو كذلك) أي تتعارضه حال بعد حال والأمل مستطيل
(إذ جاء الخط الأقرب) أي من منتهى الخط الخارج الذي هو
الأمل فقطعه (رواه البخاري) في كتاب الرقاق.
4577 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ النبيّ خطا
مربعاً وخط خطاً في الوسط) بفتح السين (خارجاً منه) أي من
الخط المربع، قال الحافظ وقيل خارجاً منه (وخط خططا) بضم
المعجمة والطاء الأولى للأكثر، ويجوز فتح الطاء كذا في
«فتح الباري» (صغاراً) بكسر المهملة (إلى هذا) أي الخط
(الذي في الوسط من جانبه) متعلق بقوله وخط (الذي في الوسط)
وهذا منه من باب تصوير المعاني وإدخالها في أذهان السامعين
بالتمثيل بالمحسوسات (فقال: هذا الإنسان) مبتدأ وخبره: أي
هذا الخط هو الإنسان على سبيل التمثيل والمشار إليه هو
الخط الأوسط (وهذا الذي هو خارج) عن الخط المربع (أمله
وهذا) أي الخط الحافّ (أجله) بدليل قوله «حافاً به» بالحاء
المهملة وتشديد الفاء منصوب على الحال: أي محيطاً بحفافيه
أي بجوانبه (وهذه الخطط) بضمتين أو بضم ففتح (الصغار
الأعراض) جمع عرض بفتحتين: ما ينتفع به في الدنيا في الخير
والشرّ (فإن أخطأه هذا) بأن نجا منه (نهشه) بالنون والهاء
والشين المعجمة: أي
(5/13)
أصابه (هذا) وعبر بالنهش استعارة من لذغ
ذات السم مبالغة في الإصابة والإهلاك. واستشكلت هذه
الإشارات الأربع مع أن الخطوط ثلاثة. وأجاب الكرماني بأن
للخط الداخل اعتبارين، فالمقدار الداخل منه هو الإنسان
والخارج أمله، والمراد بالأعراض الآفات العارضة، فإن سلم
من هذا لم يسلم من ذاك، وإن سلم من الجميع بأن لم تصبه آفة
من مرض أو فقد حال أو غير ذلك بغته الأجل. والحاصل أن من
لم يمت بالسيف مات بالأجل، ففي الحديث التحريض على قصر
الأمل والاستعداد لبغتة الأجل (رواه البخاري) .
قال الحافظ: والأول أي مما ذكرنا عنه وهو المعتمد، وسياق
الحديث يدل عليه والإشارة بقوله هذا الإنسان إلى النقطة
الداخلة، وبقوله هذا أجله محيط به إلى المربع، وبقوله الذي
هو خارج أمله إلى الخط المستطيل المنفرد، وبقوله هذه الخطط
وهي مذكورة على سبيل المثال، لا أن المراد انحصارها في عدد
معين، ويدل عليه قوله في حديث أنس: «إذا جاء الخط الأقرب»
فإنه أشار به إلى المحيط به، ولا شك أن الذي يحيط به أقرب
إليه من الخارج عنه اهـ. وفي «المفاتح» صورة هذه الخطوط،
الخط الوسط
(5/14)
هو الإنسان، والمربع هو أجله أحاط به بحيث
لا يمكنه الفرار والخروج عنه، والصغار هي أعراضه: أي
الآفات والعاهات من نحو مرض وجوع من سائر الحوادث فهذه
الأعراض متصلة به، والقدر الخارج من المربع أمله، يعنى هو
يظن أنه يصل إلى أمله قبل الأجل وظنه خطأ، بل الأجل أقرب
إليه من الأمل فعسى أن يموت قبل أن يصل إليه أمله اهـ.
5578 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: بادروا بالأعمال) أي اسبقوا بما
تمكنتم منه من الأعمال الصالحة (سبعاً) من النوازل أو
الشئون وتذكير العدد لحذف المعدود (هل تنتظرون) أي في ترك
المبادرة بالعمل (إلا فقرا منسيا) استثناء من أعم
المفاعيل: أي شيئاً من الأشياء المترقبة أو المترجاة،
ونسبة النسيان إلى الفقر مجازية لأنه سبب النسيان والذي به
تذهل الحافظة عمل أورد فيها، قال إمامنا الشافعي: لو احتجت
إلى بصلة ما فهمت مسئلة، وكذا إسناد الإطغاء إلى الغنى في
قوله (أو غنى مطغياً) أي يجاوز المرء عن حده ومقامه فيقع
به في هوة المخالفات ومهامه المشتبهات (أو مرضا مفسداً)
للأجزاء البدنية التي بسلامتها يحصل التمكن من التوجه إلى
العبادات بخلافه فيذهل الشخص بما يلقاه من الألم على
التوجه لها، ولذا قال ابن عمر: خذ من صحتك لمرضك (أو هرما)
عجز خلقي يحصل عند الكبر لا دواء له (مفنداً) أي ينسب به
صاحبه لنقص العقل بسبب الهرم: أي يتسبب عنه نقص العقل تارة
واختلاله أخرى (أو موتا مجهزا) بإسكان الجيم وكسر الهاء:
أي سريعا. قال في «النهاية» : يقال أجهز على الجريح إذا
أسرع قتله وحرره (أو الدجال فشر غائب) أي فهو شر غائب
(ينتظر) لما يمتحن به العباد، فلا يكادون ينجون من فتنته
إلا من عصم الله، فكيف التمكن من صالح العمل (أو الساعة
فالساعة أدهى) أي أشد داهية وهي نازلة لا يهتدى لدوائها
(وأمرّ) مما ينزل به من مصائب الدنيا. وحاصله أن الصحيح
البدن ذا الكفاف المقصر في العبادات المفرّط في تعمير
الوقت بصالح العمل مغبون في أمره ندمان في صفقته كما قال
«نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» (رواه
الترمذي) في «الزهد» من جامعه (وقال: حديث حسن) وقد تقدم
مع شرحه في باب المبادرة إلى الخيرات.
(5/15)
6579 - (وعنه قال: قال رسول الله: أكثر
واذكر هاذم اللذات) قال السيوطى في «حاشيته» على جامع
الترمذي بالذال المعجمة: أي قاطعها، وفي التحفة لابن حجر
الهيثمي: هو بالدال المهملة: أي مزيلها أي من أصلها،
وبالذال المعجمة: أي قاطعها. قال السهيلي: والرواية
بالمعجمة اهـ. والعجب أنه غفل عن نقل كلام السهيلي في «شرح
المشكاة» مع أنه بذلك المحل أقعد وفيه بعد ذكر إعجام الذال
وإهمالها وعليه فهو استعارة تبعية أو بالكناية، شبه وجود
اللذات ثم زوالها بذكر الموت ببنيان مرتفع هدمته صدمات
هائلة حتى لم تبق منه شيئاً (يعني الموت) هذا تفسير لهاذم
اللذات، وفي المشكاة بحذف يعني، وظاهر كلام شارحها أن
الموت من جملة الحديث وليس مدرجاً فيه، فإن جوّز فيه
الأعاريب الثلاثة بتقدير هو أو أعني أو أعطف بيان أو بدل
من هاذم (رواه الترمذي) والنسائي وابن ماجه (وقال حديث
حسن) قال في فتح الإله: وسند صحيح على شرطهما اهـ. وفي
«الجامع الصغير» حديث «أكثروا ذكر هاذم اللذات» رواه
الترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في «الحلية» من حديث
ابن عمر، والحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي في «الشعب» من
حديث أبي هريرة، ورواه الطبراني في «الأوسط» وأبو نعيم في
«الحلية» والبيهقي في «الشعب» من حديث أنس وحديث «أكثروا
ذكر هاذم اللذات فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا
وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه» اهـ. رواه
البيهقي في «الشعب» وابن حبان من حديث أبي هريرة والبزار
من حديث أنس ومن هذا وأمثاله أخذ أئمتنا قولهم: يسنّ لكل
أحد من «صحيح» وغيره ذكر الموت بقلبه ولسانه وإلا فبقلبه،
والإكثار منه حتى يكون نصب عينيه، فإن ذلك أزجر عن المعصية
وأدعى إلى الطاعة كما يدل عليه زيادة «فإنه لم يذكره أحد»
الخ.
7580 - (وعن أُبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء
(ابن كعب رضي الله عنه. قال: كان رسول الله إذا ذهب ثلث)
بضم أوليه، وتسكين ثانيه تخفيف (الليل) قال في
(5/16)
فتح الإله: وفي رواية: ربع الليل. ويجمع
بأنه كان يختلف قيامه، فتارة يقدم وتارة يؤخر (قام) أي من
نومه (فقال) منبها لأمته من سنة الغفلة محرضا لها على ما
يوصلها لمرضاة الله سبحانه من كمال رحمته (با أيها الناس
اذكروا الله) أي باللسان والجنان ليَحمِل ما يحصل من ثمرة
الذكر على الإكثار من عمل البرّ وترك غيره (جاءت الراجفة)
وهي النفخة الأولى التي تضطرب وتتحرك عندها الجبال، قال
تعالى: {يوم ترجف الأرض والجبال} (المزمل: 14) (تتبعها
الرادفة) أي في الواقعة التي تردف الأولى وهي النفخة
الثانية وبينهما أربعون سنة، والجملة حال (جاء الموت بما
فيه) من الأهوال عند الاحتضار كما جاء في حديث «أنه كان
يدخل يده في علبة الماء أو الركوة ويمسح وجهه ويقول: إن
للموت سكرات» وفي القبر من فتنته وعذابه وأهواله كما صحّ
الأمر بالاستعاذة منها وفي قوله «بما فيه» تفخيم للأمر على
السامعين (قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك) فيه
جواز ذكر الإنسان صالح عمله إذا أمن نحو العجب لغرض
كالاستفتاء هنا المدلول عليه بقوله (فكم أجعل لك من
صلاتي؟) أي من دعائي بدليل ما جاء في رواية أخرى «قال رجل:
يا رسول الله أريد أجعل شطر دعائي لك» الحديث قال في «فتح
الإله» : وبفرض صحة هذا فلا مانع أن يكون وقع له ما وقع
لأبي ذر رضي الله عنهما: أي ما قدر ما أصرفه في الدعاء لك
والصلاة عليك؟ وأشتغل فيه عن الدعاء لنفسي؟ وقيل المراد
بالصلاة حقيقتها، والتقدير: فكم أجعل لك من ثوابها أو
مثله. قال في «فتح الإله» : وفيه نظر، بل السياق يرده لا
سيما تفريع «فكم» على ما قبله إذ لا يلتئم مع إرادة الصلاة
الحقيقية إلا بمزيد تعسف، وأيضاً فالثواب أمر يتفضل الله
به على من يشاء من عباده ويحرمه من يشاء، إذ لا
يجب عليه سبحانه لأحد شيء كائناً من كان. وعندنا يمتنع
النيابة في التطوّع البدني المحض كالصلاة فلا تجوز ولا
إهداء ثواب ذلك (فقال ما شئت) لم يحد له تحديداً بل فرضه
لمشيئته حثا له على أنه لو صرف زمن عبادته لنفسه جميعه
للصلاة عليه لكان أحرى وأولى، وخوفاً من أنه لوحد له بحد
لأغلق عليه باب المزيد (قلت الربع) بالنصب أي أجعل لك
الربع وكذا ما بعد (قال: ما شئت، فإن زدت) بالفاء وفي
رواية بالواو في الكل (فهو) أي المزيد (خير لك) لزيادة
الثواب بزيادته
(5/17)
بشهادته «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره»
(قلت فالنصف) الفاء فيه عاطفة على ما قبله: أي أجعل لك
النصف (قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك. قلت: فالثلثين،
قال: ما شئت. فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل) يحتمل
الاستفهام لتناسب ما قبله ويحتمل الإخبار: أي فإذا أجعل
(لك صلاتي كلها) إذ ما بقي بعد الثلثين ما يستفهم عن
زيادته عليها مما له وقع حتى ينتقل بعده إلى الجملة، فأخبر
بذلك لأن الأمر انتهى إليه ووقف عنده، والمعنى: أصرف جميع
أوقات دعائي لنفسي للصلاة عليه أو جميع صلواتي وثوابها
إليه على ما عرفت (قال: إذن تكفي همك) المتعلق بالدارين
بدليل ما جاء في رواية سندها حسن «قال رجل: يا رسول الله
أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: إذن يكفيك الله أمر
دنياك وآخرتك» وبفرض صحة هذه الرواية فلا مانع من تعدد
القصة وأنها وقعت لأبي ولغيره ووجه كفاية المهمات بصرف ذلك
الزمن إلى الصلاة عليه أنها مشتملة على امتثال أمر الله
تعالى وعلى ذكره وتعظيمه وتعظيم رسوله، وقد جاء في الحديث
القدسي «من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي
السائلين» ففي الحقيقة لم يفت بذلك الصرف شيء على المصلي،
بل حصل له بتعرضه بذلك الثناء الأعظم أفضل ما كان يدعو به
لنفسه، وحصل له مع ذلك صلاة الله وملائكته عليه عشراً أو
سبعين أو ألفاً كما جاء بذلك روايات، مع ما انضم لذلك من
الثواب الذي لا يوازيه ثواب،
فأيّ فوائد أعظم من هذه الفوائد، ومتى يظفر المتعبد بمثلها
فضلا عن أنفس منها، وأنى يوازي دعاؤه لنفسه واحدة من تلك
الفضائل التي ليس لها مماثل ببركته (ويغفر لك ذنبك) لأنه
يبارك على نفسك بواسطته الكريمة في وصول كل خير إليك إذ
قمت بأفضل أنواع الشكر المتضمن لزيادة الإفضال والإنعام
المستلزمين لرضا الحق عنك ومن رضى عنه لا يعذبه (رواه
الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه عبد بن حميد في «مسنده»
وأحمد بن منيع والروياني والحاكم وصححه.
66 - باب استحباب زيارة القبور للرجال
القبور: جمع قبر وهو معروف، وهو مما أكرم به بنو آدم، وأول
من سنه الغراب حين
(5/18)
قتل قابيل أخاه هابيل. وقد قيل إن بني
إسرائيل أول من أقبر وليس بشيء كذا في لغات المناج، وخرج
بالرجال النساء والخناثى فيكره لهم على الصحيح مطلقاً خشية
الفتنة وارتفاع أصواتهن بالبكاء نعم يسنّ لهن زيارته. قال
بعضهم: وكذا مآثر الأنبياء والعلماء والأولياء، قال
الأذرعى: إن صح فأقاربها أولى بالصلة من الصالحين اهـ.
وظاهره أنه لا يرتضيه لكن ارتضاه غير واحد بل جزموا به.
والحق أن يفصل بين أن تذهب بمشهد كذهابها للمسجد فيشترط
فيه ما يشترط ثمة من كونها عجوزاً ليست متزينة بطيب ولا
حليّ ولا ثوب زينة كما في الجماعة بل أولى، وأن تذهب في
نحو هودج مما يستر شخصها عن الأجانب فيسنّ لها ولو شابة،
إذ لا خشية فتنة هنا، ويفرق بين نحو العلماء والأقارب بأن
القصد إظهار تعظيم نحو العلماء بإحياء مشاهدهم، وأيضا
فزوّارهم يعود عليهم منهم مدد أخروى لا ينكره إلا
المجرمون، بخلاف الأقارب. فاندفع قول الأذرعي إن صح الخ،
كذا في «التحفة» لابن حجر (وما يقوله الزائر) أي من
التحتية والدعاء لهم وما مع ذلك.
1581 - (عن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية
بعدها مهملة ثم هاء تأنيث، وهو ابن الحصيب بضم المهملة
الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها فموحدة، ابن
الحارث الأسلمي. أسلم (رضي الله عنه) قبل بدر ولم يشهدها،
وقيل أسلم بعدها، وشهد خيبر، روى له عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - مائة حديث وسبعة وسبعون حديثاً، منها في
الصحيحين أربعة عشر، اتفقا على واحد منها، وانفرد البخاري
بحديثين، ومسلم بأحد عشر، روى عنه ابناه والشعبي وأبو
المليح الهذلي، سكن المدينة ثم البصرة ثم مرو، وتوفى بها
سنة ثنتين أو ثلاث وستين، وهو آخر الصحابة موتاً بخراسان
وبقى ولده بها (قال: قال رسول الله: كنت نهيتكم عن زيارة
القبور) لقرب عهدهم بالجاهلية وكلماتها القبيحة التي كانوا
يألفونها على القبور (فزوروها) نسخ لذلك النهي لما تمهدت
القواعد واتضحت الأحكام، فعلموا ما ينفع وما يضرّ، فحينئذ
طلبها منهم وعللها كما في رواية أخرى لمسلم بأنها تذكر
الآخرة: أي لأنها ترقّ القلوب بذكر الموت وأحواله وما
بعده، وأكد في تحفظهم عن عادة الجاهلية كما صح: ألا يقولوا
هجرا: أي باطلا لأجل ما في ذلك من التذكير بالآخرة خلاف ما
هذا. والقاعدة الأصولية أن الأمر بعد الحظر للإباحة على
أنه اعتضد بتكرر زيارته للأموات وبالإجماع على طلبها، بل
حكى ابن عبد البرّ عن بعضهم وجوبها، واتفقوا على ندبها
للرجال في قبور المسلمين وإن بلوا، لأنه يبقى منه عجب
الذنب ولبقاء الروح
(5/19)
بمحل القبر، وأخذوا من تعليله بأنها تذكر
الآخرة قصر استحبابها على من قصد بها التفكر في الموت ومآل
الدنيا إلى ماذا؟ مع الترحم والاستغفار والتلاوة والدعاء
لهم، وهي لمن كان يعرفهم في الدنيا آكد. وقد قسم المصنف
الزيارة إلى أقسام، لأنها إما لمجرد تذكر الموت والآخرة
فيكفي رؤية القبور من غير معرفة أصحابها، وإما لنحو الدعاء
فيسن لكل مسلم، وإما للتبرك فيسن لأهل الخير لأن لهم في
برازخهم
تصرفات وبركات لا يحصى مددها. وإما لأداء حق نحو صديق
ووالد لخبر أبي نعيم «من زار قبر والديه أو أحدهما يوم
الجمعة كان كحجة» ولفظ رواية البيهقي «غفر له وكتب له
براءة» وإما رحمة وتأنساً لخبر أنس «ما يكون الميت في قبره
إذا رأى من كان يحبه في الدنيا» ولا يسن سفر الرجل لأجل
الزيارة إلا لقبر نبيّ أو عالم أو صالح، وشذّ الروياني
فقال: يحرم السفر لها في غير ما استثنى (رواه مسلم) أول
حديث فيه أشياء كان نهى عنها ثم نسخ ذلك النهي وأباحها، في
«الجامع الصغير» «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا
القبور، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» رواه ابن ماجة
وابن مسعود، وحديث «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا
فزوروها، فإنها ترقّ القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا
تقولوا هجراً» رواه الحاكم في «المستدرك» عن أنس اهـ.
2582 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - كلما) «ما» فيه وقتية، فلذا وصلت بها
كل في الخط ونصبت على الظرفية (كان ليلتها) أي باعتبار دور
القسم (من رسول الله) متعلق بالليلة لأنها بمعنى النصيب أو
بمحذوف أي التي تخصها منه (يخرج) جواب كلما لأنه وإن كان
ظرفا فيه معنى الشرط لعمومه وهو العامل فيه وهما خبر كان،
وذلك حكاية معنى كلامها لا لفظه، فكأن الراوي قال عن عائشة
كان عادته أن يخرج (من آخر الليل إلى بقيع) بالموحدة
فالقاف فالتحتية فالمهملة بوزن سميع (الغرقد) بالغين
المعجمة والراء والقاف والدّال المهملة وزن جعفر. قال في
«النهاية» : هو ضرب من شجر العضاة وشجر الشوك واحدته
الغرقدة، ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة بقيع الغرقد لأنه
كان
(5/20)
فيها غرقد وقطع (رواه مسلم) وآخره «فيقول:
السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون
وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل البقيع أهل
الغرقد» .
3583 - (وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان النبي يعلمهم إذا
خرجوا إلى المقابر) جمع مقبرة، ورواه في «المشكاة»
«القبور» (أن يقول قائلهم) أن ومنصوبها في تأويل مصدر
مفعول يعلمهم وإذا ظرف له، ولا يصح كونه ظرفا ليقول مقدراً
قبله يدل عليه منصوب أن المذكورة بعد، نظير ما قيل فى فيه
من قوله تعالى: {وكانوا فيه من الزاهدين} (يوسف: 20) أي
علمهم قولهم، وفيه يخرجوا إلى القبور ويصلوها (السلام
عليكم) أخذ منه أفضلية تعريف السلام على تنكيره والرد على
من قال الأولى أن يقال للأموات عليكم السلام لأنهم ليسوا
أهلاً للخطاب، والحديث «إن عليك السلام تحية الموتى» وردّ
بأن الخطاب لا فرق في النظر إليه بين تقدمه وتأخره على أن
الصواب أن الميت أهل للخطاب مطلقاً، لأن روحه وإن كانت في
أعلى عليين لها مزيد تعلق بالقبر فيعرف من يأتي، ومن لا
كما دل عليه الخبر الصحيح «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه
المؤمن يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه
السلام» والحديث إخبار عن عادتهم في الجاهلية لا تعليم
لهم، أو المراد بالموتى كفار الجاهلية: أي تحية موتى
القلوب فلا تفعلوه (أهل الديار) بالنصب على الاختصاص وهو
الأصح، أو النداء وأيد بوروده في رواية أخرى «يا أهل
الديار» فكانت تلك قرينة على إرادة النداء هنا وتقدير
أداته وترجيحه على الاختصاص وإن كان أفصح وبالجر بدل من
كم، والمراد بالديار القبور، وسميت بذلك لأنها للموتى من
حيث اجتماعهم كالديار للأحياء (من المؤمنين والمسلمين)
بيان لأهل الديار ولللاحتراز عمن قد يكون في المقبرة من
خارج عن
(5/21)
الملة من الجاهلية (وإنا إن شاء الله) أتى
به للتبرك امتثالا للآية أو تعليق بالنظر للحوق بهم في هذا
المكان بعينه أو للموت على الإسلام أو أنّ إن فيه بمعنى إذ
كما قيل به في قوله تعالى: {وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل
عمران: 175) (بكم للاحقون نسأل الله) استئناف على طريقة
أسلوب الحكيم، فإنهم لما سلموا عليهم
ودعوا لهم خبروا أنهم لاحقون بهم، قال لسان حالهم: جئتمونا
فلم لا تدعوا لنا بدعاء جامع وتشركوا أنفسكم فيه معنا كما
هو السنة؟ فقالوا نسأل الله (لنا ولكم العافية) وهي الأمن
من مكره (رواه مسلم) في الجنائز، رواه أبو داود في رواية
أبي الحسن بن العبد عنه لا في رواية أبي القاسم، ورواه
النسائي وابن ماجه.
4584 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرّ رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بقبور بالمدينة، فأقبل عليهم بوجهه)
ضمير المذكرين العقلاء باعتبار من فيها من الأموات
بتغليبهم على من سواهم. ويؤخذ منه سنّ استقبال وجه الميت
بوجه الزائر حال السلام عليه، وظاهر الحديث استمرار ذلك
حال الدعاء أيضاً وعليه العمل كما قالوه، لكن السنة عندنا
أنه حال الدعاء يستقبل القبلة كما علم ذلك من أحاديث أخرى
في مطلق الدعاء، وقدمت على هذا الحديث لاحتمال أنه إنما
أقبل بوجهه حال السلام، قال أصحابنا: ويسنّ التأدب مع
الميت حال زيارته كما كان يفعل معه حال حياته أي ولو
تقديراً بأن أدرك زمنه (فقال: السلام على أهل القبور، يغفر
الله لنا ولكم) وقدم نفسه اهتماما وفيما مرّ إعلاما بأن من
أدب الداعي للغير أن يشرك فيه نفسه وأن يقدمها لحديث «ابدأ
بنفسك» (أنتم سلفنا) قيل هو مجاز من سلف المال فكأنه أسلفه
وجعله ثمنا للأجر المقابل لصبره عليه، وقيل حقيقة لأن سلف
الإنسان من مات قبله ممن يعزّ عليه وبهذا سمى الصدر الأول
من الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم بالسلف الصالح، ومن خص
اسم السلف بالتابعين فقد أبعد، والذي دل عليه كلامهم في
مواضع ما ذكرنا، وضابطه القرون الثلاثة التي شهد بخيريتها
(ونحن
(5/22)
بالأثر) بفتحتين أو بكسر ففتح: أي ميتون عن
قريب، إذ كل آت قريب (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن) وسكت
المصنف عن وصف الترمذي له بالغرابة أيضا كما يفعله كثيراً،
لأنه يرى أن ذلك لا يضرّ في حسن الحديث وحجيته لأنها غرابة
نسبية.
67 - باب كراهية تمني الموت بسبب ضر نزل به..
بتخفيف التحتية مصدر كره (تمنى الموت) مفعول كراهية فهو
مصدر مضاف لمفعوله والفاعل محذوف: أي كراهية الشارع تمنى
الموت. ويحتمل أن يكون مصدراً مبنياً للمجهول كحديث «أمر
بقتل الأسود ذي الطفيتين» أي بأن يقتل فيكون مضافاً
لمرفوعه النائب عن الفاعل (بسبب ضرّ نزل به) الضرّ بضم
الضاد المعجمة وهو كما في المصباح الفاقة والفقر اسم
وبفتحها مصدر ضرّه يضرّه من باب قتل: إذا فعل به مكروها
اهـ. وحينئذ فيقاس كراهية تمني الموت بسبب الأمراض
والجراحات على ما صرح به في الترجمة من كراهيته بسبب الفقر
والفاقة بجامع عدم الصبر في كل أحكام المولى سبحانه،
والجملة الفعلية في محل الصفة، وفي التعبير بذلك إيماء إلى
استحباب لجأ من نزلت به إلى مولاه في كشفها عنه وإنجائه
منها، لأن ذلك مطلوب في النوازل (ولا بأس به) كلمة تدل على
الإباحة، بل قال جمع باستحباب تمنيه، ونقلوه عن الشافعي
وعمر بن عبد العزيز وغيرهما (لخوف الفتنة في الدين) ومن
قال بالإباحة استند إلى عدم ورود الأمر بتمنيه حالتئذ وقد
رد من جاءه مسلماً في قصة الحديبية إلى الكفار لاشتراطهم
ذلك مع أنهم إنما فروا خوف الفتنة في الدين، فلو استحب
تمنيه لدلهم.
1585 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: لا يتمنى) بالرفع كما هو في كتب
الحديث فهو خبر بمعنى النهي كـ «لا يمسه إلا المطهرون» أو
بالجزم على بابه، وأثبت
(5/23)
حرف العلة فيه على لغة شهيرة فيه، والأوّل
أبلغ لإفادته أن من شأن المؤمن انتفاء ذلك عنه وعدم وقوعه
منه بالكلية لما يأتي (أحدكم الموت) أي لضرّ نزل به كما
يأتي في أحاديث الباب، وإنما نهى عن تمنيه، لأنه (إما) أن
يكون (محسنا) أي مطيعاً لله تعالى قائماً بوظائف الواجبات
والمندوبات أو الواجبات فقط (فلعله) إذا طال عمره وهو على
هذا الكمال (يزداد) أي خيراً كثيراً، فلا ينبغي له وهو على
مدرج التزوّد للآخرة والاستكثار من حيازة ثواب الأعمال
الصالحة أن يتمنى ما يمنعه عن البرّ والسلوك لطريق الله
تعالى وزيادة رضاه وقد ورده «خياركم من طال عمره وحسن
عمله» أي أنه يزداد الترقي في زيادة الأعمال المزيدة في
القرب من الله تعالى فكيف يسأل قطع ذلك (وإما) أن يكون
(مسيئاً فلعله يستعتب) أي يرجع إلى الله سبحانه بالتوبة
وردّ المظالم وتدارك الفائت وطلب عتبى الله تعالى: أي رضاه
عنه، فالعتبى والإعتاب: الإرضاء، ولعل فيهما لمجرد الرجاء
وكثر مجيئها له إذا صحبه تعليل نحو {واتقوا الله لعلكم
تفلحون} (البقرة: 189) (متفق عليه، وهذا لفظ البخاري) في
آخر حديث أوله «لن يدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت
يا رسول الله قال: إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا
وقاربوا ولا يتمنى» الحديث أخرجه في كتاب المرضى.
(وفي رواية مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول
اللُّه قال: لا يتمنى أحدكم) أي الواحد منكم، وكونه من
ألفاظ العموم إنما هو إذا تقدمه نفى أو ما في معناه
(الموت) والفعل يحتمل الرفع والجزم كما تقدم، ويؤيد الثاني
قوله (ولا يدع به) فإنه مجزوم والأصل تناسب المتعاطفات في
الخبر والإنشاء، وإن كان المختار جواز عطف الإنشاء على
الخبر وعكسه وحينئذ فيكون في الحديث الجمع بين لغتين حذف
حرف العلة للجازم وإثباته (من قبل أن يأتيه) وقوله (إنه)
يصح فتحها تعليلا وكسرها استئنافا على أن الثاني لا ينافي
الأول، والضمير يرجع إلى فاعل يتمنى (إذا مات انقطع عمله)
في رواية «أمله» وهما متقاربان إذ المراد بالأمل ما يطمع
فيه من ثواب العمل الذي يستكثر منه لو بقي والأمل كذلك
ممدوح والمذموم من الأمل الذي يحمل على بطر أو فتور عن
صالح العمل (وإنه) أي الشأن (لا
(5/24)
يزيد المؤمن عمره) أي طوله (إلا خيراً)
كثيراً لأن صدق إيمانه يحمله على استكثار صالح العمل سيما
في آخر عمره.
2586 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا
يتمنين) هذا يؤيد لكون يتمنى في الروايتين قبله مجزوماً
جاء على لغة من أثبت حرف العلة مع الجازم (أحدكم الموت
لضرّ أصابه) أي في دنياه لما تقدم عن المصباح، ويقاس به
تمنيه لضر أصابه في بدنه، وإنما كره تمنيه حينئذ لأنه يشعر
بعدم الرضا بالقضاء بخلافه عند عدمه (فإن كان لا بد
فاعلاً) أي لا غنى له عن فعل التمني لغلبة نفسه وهواه عليه
حتى منعاه من اجتناب المنهيّ عنه (فليقل: اللهم أحيني ما
كانت الحياة) أي مدة كونها (خيرا لي) من الموت لاستكثاري
فيها من صالح العمل من غير فتنة ولا محنة (وتوفني إذا كانت
الوفاة خيراً لي) من الحياة لخوف فتنة أو تثبيط عن العمل،
فيسن للمتمني قول ذلك لأنه تيقظ به من سنة الغفلة الحاملة
على التمني، ولأن الله هو العالم بحقائق الأمور وعواقبها،
وغاير بين الأسلوبين بما المصدرية الظرفية وإذا الشرطية
لأن المراد بالحياة زمنها الذي يبقى وبالموت وجوده القاطع
لذلك الزمن (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطب ومسلم في
الدعوات.
3587 - (وعن قيس) بفتح القاف وسكون التحتية (ابن أبي حازم)
بالمهملة والزاي واسمه عبد بن عوف بن الحارث، وقبل عوف
الأحمسي بالمهملتين البجلي الكوفي التابعي الجليل المخضرم،
أدرك الجاهلية وجاء ليبايع النبي فتوفي النبي وهو بالطريق
وأبوه صحابي. روى عن جمع من الصحابة منهم العشرة وليس في
التابعين من روى عن العشرة غيره. وقال أبو داود السجستاني:
روى عما عدا ابن عوف منهم توفي سنة أربع وثمانين،
(5/25)
وقيل سبع وقيل ثمان اهـ من «التهذيب»
للمصنف (قال: دخلنا على خباب) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة
الأولى بينهما ألف (ابن الأرتّ) بتشديد الفوقية تقدمت
ترجمته (رضي الله عنه) في باب الصبر (نعوده) جملة مستأنفة
لبيان سبب دخوله عليه وإتيانه بالنون لعله لكونه مع غيره
(وقد اكتوى) أي بالنار (سبع كيات) جملة حالية من خباب: أي
اكتوى سبع كيات في سبع مواضع من بدنه، وهو نافع مجرب لبعض
الأمراض والنهي عنه محمول على من ينسب الشفاء إليه
كالجاهلية بخلاف من يراه سبباً، وأن الله الشافي أو على
أنه إرشاد للتوكل الأفضل كما حمل عليه حديث «لا يسترقون
ولا يكتوون» (فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا) أي ماتوا
وسلفوا إلى حضرة الحق سبحانه (مضوا) أي ذهبوا من الدنيا
(ولم تنقصهم الدنيا) شيئاً مما لهم من المراتب المعدة لهم
في الآخرة لأنهم لم يتمتعوا بشيء من مستلذات الدنيا فيكون
ذلك منقصا لهم مما أعد لهم في الآخرة، بل انتقلوا وأجورهم
موفورة كاملة، وإسناد النقص إلى الدنيا مجاز عقلي من
الإسناد إلى السبب: أي لم ينقصه الله شيئاً من درجاته بسبب
الدنيا (وإنا) يعني نفسه وأرباب اليسار من الصحابة الذين
نالوا من الغنائم وفاض فيهم العطاء (أصبنا مالا) جاء عند
الترمذي عنه «لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لا أملك درهما، وإن في جانب بيتي الآن أربعين ألف
درهم» الحديث (لا نجد له موضعا) لزيادته على الحاجة (إلا
التراب) أي يدفن فيه ليحفظ من أيدي نحو
السراق ففيه جواز دفن المال: أي إذا أعطى حق الله الواجب
فيه، أو المراد البناء به ليحصل ريع ذلك بالأجر ونحوها،
وعليه اقتصر الشيخ زكريا في «تحفة القاري» (ولولا أن
النبيّ نهانا أن ندعو بالموت) ظاهره العموم حتى ولو كان
لخوف الفتنة في الدين وكأنه سمع النهي مطلقاً كما في أوّل
أحاديث الباب، ويدل له ما يأتي عند الترمذي وإن كان يحتمل
أنه من تضرره بألم الكي (لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو
يبني حائطاً) أي جداراً كما في النهاية (له فقال: إن
المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه) أي من المال طلباً لمرضاة
الله سبحانه (إلا في شيء) بدل من المجرور قبل بإعادة
الجار، وهذا باعتبار المعنى أي ما
(5/26)
ينقص ثوابه في كل شيء ينفقه إلا في شيء،
وإلا فالمستثنى من كلام تام موجب يجب نصبه ولا يجوز فيه
الإبدال (يجعله في هذا التراب عبر في هذا بالجعل لأن
الإنفاق إنما يستعمل فيما كان في القرب واستعماله في غيره
مجاز، وهذا من كمال خباب ومزيد عرفانه بمولاه فاشتد اتهامه
لنفسه ونظره لها بعين النقص، وخشي بمراقبته لمولاه أن يكون
ما هو فيه من تلك الدنيا استدراجا، ومن حاسب نفسه قبل أن
يحاسب أمن وقت الخوف (متفق عليه. وهذا لفظ رواية البخاري)
ولفظ رواية مسلم «دخلنا على خباب وقد اكتوى سبع كيات في
بطنه فقال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به» وقد روى أحمد والترمذي
الحديث عن حارثة بن مصرف قال «دخلت على خباب وقد اكتوى
سبعا فقال: لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يقول: لا يتمنينّ أحدكم الموت لتمنيته، ولقد رأيتني مع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أملك درهما، وإن في
جانب بيتي الآن أربعين ألف درهم، ثم أني بكفنه. فلما رآه
بكى وقال: لكن حمزة لم يوجد له كفن له إلا بردة ملحاء. إذا
جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإن جعلت على قدميه قلصت عن
رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر» وليس عند
الترمذي «ثم
أتى بكفنه الخ» وقد تقدم له نحو هذا الحديث ليس فيه الكيّ
وتمنى الموت عن البخاري في باب فضل الزهد في الدنيا.
68 - باب الورع
هو عند العلماء ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وفي
شرح الرسالة القشيرية للشيخ زكريا هو ترك الشبهات وهو
الورع المندوب ويطلق على ترك المحرمات وهو الورع الواجب
اهـ (وترك الشبهات) بضم أوليه وبضم ففتح خفيف جمع شبهة بضم
فسكون كظلمات بالوجهين جمع ظلمة كما تقدم وهو ما لم يتضح
وجهاً حله وحرمته.
(قال الله تعالى: وتحسبونه هينا) أي سهلاً لا تبعة فيه
(وهو عند الله عظيم) أي إثما
(5/27)
وجرماً، والآية وإن نزلت في قصة الإفك لكن
المصنف استشهد بذلك فيما عقد له الترجمة، لأن سائر المآثم
وإن كان بعضها صغيرة هي بالنظر إلى جراءة مرتكبها على
الحدود الإلهية عند الله الله عظيم وزرها، وفي «الصحيح»
مرفوعا «لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش» .
(وقال الله تعالى) : ( {إن ربك لبالمرصاد} ) هو مكان يترقب
فيه الرصد وهذا تمثيل لإرصاده لعباد بالخير فإنهم لا
يفوتونه، وعن ابن عباس: يرصد خلقه فيما يعملون.
1588 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون العين المهملة (ابن
بشير) بفتح فكسر فتحتية ساكنة تقدمت ترجمته (رضي الله
عنهما) في باب المحافظة على السنة (قال: سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الحلال بين) أي ما أحلّ ظهر
حليته بأن ورد نص على حله أو مهد أصل يمكن استخراج
الجزئيات منه كقوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً}
(الفجر: 14) فإن اللام للنفع، فعلم منه أن الأصل ما فيه
الحلّ إلا أن يثبت ما يعارضه (وإن الحرام بين) أي ما حرم
واضح حرمته بأن ورد نص على تحريمه كالفواحش والمحارم وما
فيه حدّ أو عقوبة أو مهد أصل مستخرج منه ذلك، كقوله «كل
مسكر حرام» (وبينهما) أي البين من الأمرين (مشتبهات)
لوقوعها بين أصلين ومشاركتها لأفراد كل منهما، فلكونها ذات
جهة إلى كل منهما لم يجز أن تعدم البين عن أحدهما (لا
يعلمهنّ كثير من الناس) لتعارض الأمارتين، والجملة صفة
مشتبهات، ولم يقل كل الناس لأن العلماء المحققين لا يشتبه
عليهم ذلك، فإذا تردد ذلك بين الحلّ والحرمة ولم يكن نص أو
إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بدليل شرعي، وإذا
لم يبق له شيء فالورع تركه. وقد اختلف العلماء في
المشتبهات المشار إليها في هذا الحديث فقيل حرام لقوله:
فمن اتقى الشبهات الخ، قالوا: ومن لم يستبرىء لعرضه ودينه
فقد وقع في الحرام. وقيل هي حلال بدليل قوله: كالراعي يرعى
حول الحمى، فدل على أنه لابس الحرام المرموز عنه بالحمى،
وأن الترك ورع وتوقفت طائفة (فمن اتقى الشبهات) أي من
احترز وحفظ نفسه عنها (فقد
(5/28)
استبرأ) أي طلب البراءة أو حصلها (لدينه)
من ذم الشرع (وعرضه) من وقوع الناس فيه لاتهامه بمواقعة
المحظورات إن واقع الشبهات. وقيل المراد بالعرض البدن: أي
طهر دينه وبدنه، وقيل المراد به موضع المدح والذم من
الإنسان سواء في نفسه أو سلفه، ولما كان موضعها النفس حمل
عليها من إطلاق المحل على الحال واستبرأ من برىء من الدين
والعيب، فأطلق
العلم بالحصول وأراد الحصول أو طلب براءته، فالسين فيه
للتأكيد على الأوّل لا للطلب إذ الطلب لا يستلزم به الحصول
وعلى الثاني للطلب (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) لأن
من سهل على نفسه ارتكاب الشبهة أو صله الحال متدّرجا إلى
ارتكاب المحرمات المقطوع بحرمتها أو ارتكب المحرّمات لأن
ما ارتكبه ربما كان حراماً في نفس الأمر فيقع فيه (كالراعي
يرعى حول الحمى) هو ما حمى من الأرض لأجل الدواب، ويمنع
دخول الغير وهذا غير جائز إلا لله ورسوله لحديث «لا حمى
إلا الله ورسوله» (يوشك) بضم التحتية وكسر المعجمة: أي
يسرع (أن يرتع فيه) أي في ذلك الحمى بناء على تساهله في
المحافظة وجراءته على الرعي. ثم نبه بكلمة «ألا» على أمور
خطرة في الشرع في ثلاثة مواضع إرشاداً إلى أن كل أمر دخله
حرف التنبيه له شأن ينبغي أن يتنبه له المخاطب ويستأنف
الكلام لأجله فقال (ألا) وهي مركبة من همزة الاستفهام وحرف
النفي فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها، وإلا فأداة
التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم
(وإن لكل ملك حمى) يمنع الناس عنه ويعاقب عليه والواو
عاطفة على «أنبه» مقدر المشير إليه أداة التنبيه. وقال
الكازروني: إنه معطوف على لفظ الإنباه، قال: على أنه يفهم
من لفظ ألا أنبه ومن قوله إن لكل ملك حمى أحقق، فبهذا
التأويل صح العطف إذ عطف الجملة على المفرد لا يستقيم إلا
باعتبار أن يتضمن المفرد معنى الفعل كما في
{فالق الإصباح وجاعل الليل} (الأنعام: 96) والأولى أن يقال
الواو استئنافية دالة على انقطاع ما بعدها عما قبلها (ألا
وإن حمى الله محارمه) وهي المعاصي فمن دخلها بالتلبس بشيء
منها استحق العقوبة، شبه المحارم من حيث إنها ممنوع التبسط
منها بحمى السلطان. ولما كان التورّع والتهتك مما يتبع
سلامة القلب وفساده نبه على ذلك بقوله (ألا إن في الجسد
مضغة) أي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ (إذا صلحت) بفتح اللام
أفصح من
(5/29)
ضمها: أي بالإيمان والعلم والعرفان (صلح
الجسد كله) بالأعمال والأخلاق والأحوال، وما أحسن قول من
قال:
وإذا حلت العناية قلباً
نشطت في العبادة الأعضاء
(وإذا فسدت) بفتح السين المهملة وضمها، والرواية بالاوّل:
أي تلك المضغة بالجحود، والشك والكفران (فسد الجسد كله)
بالفجور والعصيان (ألا وهي) أي المضغة الموصوفة بما ذكر
(القلب) فهو الملك والأعضاء كالرعية، وهذا الحديث أصل عظيم
من أصول الشريعة قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على
أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث وأجمع العلماء على عظم
موقعه وكثرة فوائده (متفق عليه. روياه) أي في مواضع من
صحيحيهما (من طرق) جمع طريق وهي رجال السند (بألفاظ
متقاربة) بالقاف والراء: أي بعضها يقرب من بعض من حيث
المعنى، وفي نسخة بالفاء والواو: أي من جهة المبنى، فرواه
البخاري في الإيمان عن أبي نعيم عن زكريا بن أبي زائدة عن
الشعبي عن النعمان باللفظ الذي ساقه المصنف، ورواه في
البيوع عن عليّ بن عبد الّله بن محمد كلاهما عن سفيان بن
عيينة، وعن محمد بن كثير عن سفيان الثوري كلاهما عن أبي
فروة الهمداني، وعن محمد ابن المثنى عن ابن أبي عديّ عن
عبد الله بن عون كلاهما عن الشعبي عن النعمان بلفظ «الحلال
بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه
من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه
من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من
يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» ورواه مسلم في «البيوع» عن
محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه، وعن أبي بكر بن أبي
شيبة عن وكيع، وعن إسحاق ابن إبراهيم عن جرير عن مطرف وأبي
فروة، وعن عبد الله بن شعيب بن الليث عن أبيه عن جده عن
خالد بن يزيد عن معبد بن أبي هلال عن عون بن عبد الله بن
عتبة، وعن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن محمد بن عجلان
عن عبد الرحمن بن سعيد أربعتهم عن الشعبي عن النعمان كذا
في «الأطراف» للمزي. قلت: وأورده مسلم في «صحيحه» من طريق
ابن نمير عن أبيه عن زكريا عن
(5/30)
الشعبي عن النعمان، ولم أر في نسختي من
«الأطراف» ذكر زكريا بين ابن نمير والشعبي في هذا
الإسناد في «الصحيح» باللفظ الذي أورده المصنف عنه، ثم بعد
إيراده ذكر طريقيه عن ابن أبي شيبة وإسحاق ابن إبراهيم عن
عيسى. بن يونس عن زكريا وقال بهذا الإسناد مثله، وأخرجه عن
إسحاق أيضاً عن جرير عن مطرف وأبي فروة، وأخرجه عن قتيبة
عن يعقوب، ابن عبد الرحمن القاري عن ابن عجلان عن عبد
الرحمن بن سعيد القاري عن الشعبي عن النعمان عن النبيّ
بهذا الحديث، إلا أن حديث زكريا أتم من حديثهم وأكثر، وذكر
حديث عبد الملك بن شعيب بن الليث «الحلال بين والحرام بين»
وذكر مثل حديث زكريا عن الشعبي إلى قوله «يوشك أن يقع فيه»
هذه ألفاظ الحديث وطرقه في «الصحيحين» ، وقد رواه أبو داود
الترمذي وقال: حسن صحيح والنسائي كلهم في البيوع، ورواه
ابن ماجه في الفتن ومداره عند الجميع على الشعبي عن
النعمان.
2589 - (وعن أنس رضي الله عنه أن النبيّ وجد تمرة في
الطريق) أي كائنة فيه (فقال: لولا) امتناعية (أنى أخاف أن
تكون من الصدقة لأكلتها) أن ومعمولاها في تأويل مصدر مبتدأ
والخبر محذوف: أي خوفي من كونها من تمر الصدقة موجود
لأكلتها والمراد الصدقة التي لم تنته إلى محلها، وإلا ففي
قصة برمة بريرة بما تصدق عليها من الشاة قوله «هو لها صدقة
ولنا هدية» وقد خص بحرمة قبول الصدقة الواجبة والمندوبة،
وحكمته أنها تنبىء عن ذلّ الآخذ وعزّ الباذل، وقد قال
«اليد العليا» أي المعطية «خير من اليد السفلى» أي الآخذة.
ويؤخذ من الحديث. جواز تملك وأكل ما يجده الإنسان في الأرض
من الحقير الذي يعرض عنه غالباً وإن كان متمولاً للعلم
بقرائن الأحوال المفيدة للقطع في مثل ذلك أن مالكه أعرض
عنه وسامح آخذه، ومن ثم رأى عمر رضي الله عنه رجلاً ينادي
على عنبة التقطها فضربه بالدرة وقال: إن من الورع ما يمقت
الله عليه: أي لأن الغالب من حال فاعل ذلك أنه إنما يقصد
به الرياء والسمعة وإظهار الورع والتعفف.c
ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي للإنسان إذا شك في إباحة شيء
ألا يفعله، لكن هل الترك حينئذ واجب أو مندوب؟ تقدم فيه
الخلاف في حديث النعمان، وكلام أئمتنا مصرّح بالثاني لأن
الأصل الإباحة والبراءة الأصلية ما لم تعلم جهة محرمة قبل
ذلك في شيء بعينه ويشك في زوالها، كأن يشك في شرط من شروط
الذبح المبيح هل وجد أم لا، لأن الأصل حينئذ بقاء الحرمة
فلا يحلّ إلا بيقين، ثم لا يرعى من الاحتمال في ذلك إلا
القريب لأن الظاهر أن تمرّ الصدقة
(5/31)
كان موجودا إذ ذاك، أما الاحتمال البعيد
فتؤدي مراعاته إلى التنطع المذموم والخروج عما عرف من
أحوال السلف، فقد أتى بجبنة وجبة فأكل ولبس ولم ينظر
لاحتمال مخالطة الخنزير لهم ولا إلى صوفها من مذبوح أو
ميتة، ولو نظر أحد للاحتمال المذكور لم يجد حلالاً على وجه
الأرض، ومن ثم قال أصحابنا: لا يتصوّر الحلال بيقين إلا في
ماء
المطر النازل من السماء المتلقي باليد (متفق عليه) رواه
مسلم في كتاب «الزكاة» .
3590 - (وعن النوّاس) بفتح النون وتشديد الواو آخره سين
مهملة (ابن سمعان) بكسر السين وفتحها ابن خالد بن عمرو بن
قرط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن
صعصعة العامري الكلابي، ووقع في «صحيح مسلم» أنه أنصاري
وحمل على أنه حليف لهم (رضي الله عنه) الأولى عنهما لأن
لأبيه وفادة كذا في «الفتح المبين» ، وكأن اقتصار المصنف
عليه دون أبيه لأن ذلك قول ضعيف كما أشار إليه الأثير
بقوله في «أسد الغابة» : يقال إن أباه وفد على النبيّ فدعا
له النبيّ، وأهدي إلى النبيّ نعلين فقبلهما، وزوّج أخته من
النبيّ، فلما دخلت على النبيّ تعوّذت منه فتركها وهي
الكلابية وفي المتعوذة خلاف كبير اهـ. وهو صريح في أن
المتعوذة عمة النوّاس وبه يدفع قول ابن حجر في «الفتح
المبين» : تزوّج النبي أخت النوّاس وهي المتعوذة إلا إن
كان ذلك على قول آخر، روى للنواس عن النبيّ سبعة عشر
حديثاً، روى منها مسلم ثلاثة، وروى له أصحاب السنن. وقال
الكازورني في «شرح الأربعين» : كان من أصحاب الصفَّة وسكن
الشام (وعن النبي قال: البر) وهو لمقابلته بالفجور: عبارة
عما اقتضاه الشرع وجوبا كما أن الإثم عما نهى عنه الشرع
وجوبا أو ندبا، وتارة يقابل بالعقوق فيكون عبارة عن
الإحسان كما أن العقوق عبارة عن الإساءة، من بررت فلاناً
بالكسر أبرّه برّا فأنا برّ بفتح أوله، وبارّ وجمع الأوّل
أبرار والثاني بررة (حسن الخلق) أي معظم البر حسن الخلق:
أي التخلق فالحصر فيه مجازي كما في قوله «الحج عرفة» و
«الدين النصيحة» والمراد من الخلق المعروف الذي هو طلاقة
الوجه وكف الأذى وبذل الندى وأن يحب للناس ما يحب
(5/32)
لنفسه، وهذا راجع لقول بعضهم: هو الإنصاف
في المعاملة والرفق في المجادلة والعدل في الأحكام والبذل
والإحسان في اليسر والإيثار في العسر وغير ذلك من الصفات
الحميدة (والإثم) أي الذنب كما علم من تعريفه وهمزته عوض
من الواو كأنه يتم الأعمال: أي يكسرها بإحباطه (ما حاك) أي
تردد وتحرك وقيل أي رسخ وأثر (في نفسك) اضطراباً وقلقاً
ونفوراً وكراهية لعدم طمأنينتها ومن ثم لم يرض بالاطلاع
عليه كما قال (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي وجوههم
وأشرافهم إذ المطلق ينصرف للفرد الكامل، والمراد الكراهية
العرفية الجازمة لا العادية فقط ككراهة أن يرى آكلاً من
حياء أو بخل، ولا غير الجازمة كمن يكره أن يركب بين مشاة
تواضعاً فإنه لو رؤى كذلك لم يكره. وقد تبين من الحديث أن
للاثم علامتين، وفيه أن للنفس شعوراً من أصل الفطرة بما
تحمد وتندم عاقبته ولكن غلبت عليها الشهوة فأوجبت لها
الإقدام على ما يضرّها، فإذا عرفت هذا اتضح لك وجه كون
التأثير في النفس علامة للإثم لأنه لا يصدر إلا لشعورها
بسوى عاقبته، ووجه كون كراهة اطلاع الناس على الشيء دليل
الإثم أن النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها وبرّها
وتكره ضد ذلك، فكراهتها اطلاع الناس على فعلها ذلك يدل على
أنه إثم، ثم هل كل منهما علامة مستقلة على الإثم من غير
احتياج إلى الأخرى أولا؟ بل كل جزء علامة، والعلامة
الحقيقية مركبة منهما كل محتمل وحينئذ فما وجد فيه
العلامتان معا فإثم قطعا كالرياء والزنا وما انتفيتا
متلازمتان لأن كراهة النفس تستلزم كراهة اطلاعهم وعكسه،
والحديث مخصوص بغير مجرد خطور المعصية ما لم يعمل أو يتكلم
(رواه مسلم) وهو من جوامع كلمه بل من أوجزها، إذ البرّ
كلمة جامعة لجميع أفعال الخير وخصال المعروف، والإثم كلمة
جامعة لجميع أفعال الشرّ والقبائح كبيرها وصغيرها، ولذا
قابل بينهما (حاك بالحاء المهملة والكاف: أي تردد فيه)
الأولى «فيها» أي النفس.
4591 - (وعن وابصة) بكسر الموحدة بعدها مهملة (ابن معبد)
بفتح الميم والموحدة وسكون العين المهملة وبالدال المهملة
بن مالك بن عبيد الأسدي من أسد بن خزيمة، قاله
(5/33)
ابن عبد البر وقيل غير ذلك في نسبه (رضي
الله عنه) قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
عشرة رهط من قومه بني أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ورجع
إلى بلاده، ثم نزل الجزيرة وسكن الرقة ودمشق ومات بالرقة
ودفن عند منارة جامعها، روى له عن النبي أحد عشر حديثاً
روى عنه ابناه عمرو وسالم والشعبي وغيرهم، وكان كثير
البكاء لا يملك دمعته وله عقب بالرقة (قال: أتيت رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فقال) من باب الإخبار بالغيوب من
جملة معجزاته الكبرى (جئت تسأل عن البرّ) جملة حالية من
الضمير (قلت: نعم، قال: استفت قلبك) أي اطلب الفتوى منه،
وفيه إيماء إلى بقاء قلب المخاطب على أصل صفاء فطرته وعدم
تدنسه بشىء من آفات الهوى الموقعة فيما لا يرضى، ثم بين
نتيجة الاستفتاء وأن فيه بيان ما سأل عنه فقال (البرّ ما
اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) أي نفسه وقلبه إن
كان من أهل الاجتهاد، وإلا فليسأل المجتهد فيأخذ ما اطمأنت
إليه نفسه وسكن إليه قلبه، فإن لم يوجد شيء من ذلك فليترك
ما التبس عليه من مطلوبه ولم يدر حله وحرمته. والقلب القوة
المودعة في الجزء الصنبوري المسمى بالقلب أيضاً، والنفس
لغة: حقيقة الشيء، واصطلاحاً: لطيفة في البدن تولدت من
ازدواج الروح بالبدن واتصالهما معاً (والإثم ما حاك في
النفس) أي في نفس المجتهد، ولم يستقرّ حله عنده (وتردد في
الصدر) ولم ينشرح له (وإن أفتاك الناس) أي غير أهل
الاجتهاد من أولى الجهل والفساد وقالوا لك إنه حق، فلا
تأخذ بقولهم لأنه قد يوقع في الغلط وأكل الشبهة أو مطلق
الناس فيشمل ما أفتى فيه المفتي بالحلّ في ظاهر الحكم
الشرعي، والورع تركه، وذلك كمعاملة من أكثر ماله حرام فلا
يأخذ منه شيئاً ولا يعامله، وإن أباح المفتي معاملته
لعدم تعين ما يأخذه منه للحرام، فلا يأخذه ورعا لاحتمال
كونه الحرام في نفس الأمر. قال الكازروني: ولأن الفتوى غير
التقوى، وجملة «وإن أفتاك الخ» معطوفة على مقدر: أي إن لم
يفتك الناس وإن أفتاك وقوله (وأفتوك) هو بمعنى ما قبله كرر
للتأكيد والحاصل أن فيه الأمر بترك الشبهات التي تحصل
للنفوس المعتد بها الحرارة عند تناولها وأخذها خشية أن
تكون حراماً في نفس الأمر، وتقدم أن محل ذلك إذا كان عن
مستند قريب يعتد بمثله شرعا وإلا فمراعاة ذلك تنطع (حديث
حسن) قال في «الفتح المبين» : بل «صحيح» (رواه أحمد) يعني
ابن حنبل الشيباني الإمام المشهور أفردت
(5/34)
ترجمته بالتأليف ومنها كتاب حافل لابن
الجوزي، ولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة وتوفي بها ضحوة
الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين
وله سبعة وسبعون سنة (و) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن
السمرقندي (الدارمي) منسوب إلى دارم بطن من تميم، مات سنة
خمس وخمسين ومائتين (في مسنديهما) .
المسند: هو ما جمع من الأحاديث على مسانيد الصحابة كل
مسندّ على حدة ويقال أول مسند صنف مسند أبي داود الطيالسي،
وعن الدارقطني أول من صنف مسنداً وتتبعه أبو نعيم بن حماد،
وتبع المصنف في عد كتاب الدارمي من المسانيد الإمام ابن
الصلاح، وقد تعقبه الحافظ زين الدين العراقي في «ألفيته»
وشرحها في ذلك وقال: إنه مؤلف على الأبواب لا على
المسانيد.
5592 - (وعن أبي سروعة بكسر السين المهملة) وإسكان الراء
وبالعين المهملة (عقبة ابن الحارث) تقدمت ترجمته (رضي الله
عنه) في باب المبادرة إلى الخير (أنه تزوّج ابنة لأبي إهاب
ابن عزيز) قلت: وفي كتاب الشهادات من البخاري أنه تزوّج أم
يحيى بنت أبي إهاب فهذه كنيتها واسمها غنية، ذكره
الدارقطني في المؤتلف والمختلف. قال السيوطي في «التوشيح»
: تكنى أم غنى، قال الحافظ بن زين الدين العراقي في
مبهماته: يعني بغين معجمة ونون مكسورة وياء آخر الحروف قال
وقال والذي في «شرح ألفيته» أنه وقع في بعض طرق الحديث عن
عقبة بن عامر بن الحارث قال: تزوجت زينب بنت أبي إهاب.
قلت: وقد عزا الحافظ المزي في «الأطرف» إلى البزار أنه
أخرج الحديث عن عقبة قال «تزوجت زينب بنت أبي إهاب» قال
الحافظ في أوائل الشهادات من «الفتح» : قد تقدم في العلم
أن اسمها غنية بفتح المعجمة وكسر النون بعدها تحتية مثقلة،
ثم وجدت في النسائي أن اسمها زينب فلعل غنية لقبها أو كان
اسمها فغير بزينب كما غير اسم غيرها، والأمة المذكورة لم
أقف على اسمها اهـ. وأبو إهاب لم أر من ذكر اسمه فكأن
كنيته هي اسمه، وهو ابن عزيز بن قيس بن سويد بن ربيعة بن
زيد بن عبد الله بن دارم التميمي، قاله خليفة، وقد ذكره
(5/35)
في «أسد الغابة» قال: حليف بني نوفل (فأتته
امرأة) في رواية البخاري في البيوع امرأة سوداء، وفي رواية
له في الشهادات: فجاءت أمة سوداء (فقالت: إني قد أرضعت
عقبة والتي قد تزوج بها، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك
أرضعتني ولا أخبرتني) قال الحافظ في «الفتح» : عند
الدارقطني من طريق أبي أيوب عن مليكة عن عقبة: فدخلت
علينا: مرأة سوداء، فسألت فأبطأنا عليها فقالت: تصدّقوا
عليّ فوالله لقد أرضعتكما جميعاً، وقوله «ولا أخبرتني» على
ما أعلم وأتى به ماضياً لأن نفيه باعتبار المعنى وبأعلم
مضارعاً لأن نفي العلم حاصل في الحال (فركب) أي من مكة كما
في «التوشيح» (إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالمدينة) حال من رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لا متعلق بركب (فسأله) أي عن حكم هذه النازلة (فقال
رسول الله: كيف) ظرف يسأل به عن الحال وهو خبر محذوف: أي
كيف اجتماعكما بعد (وقد قيل) جملة في محل الحال في المقدر:
أي كيف اجتماعكما على حال قولها إنكما أخوان من الرضاعة.
إذ ذاك بعيد من المروءة (ففارقها عقبة) أي صورة أو طلقها
احتياطاً أو ورعاً. ولا حكماً بثبوت الرضاع وفساد النكاح،
إذ ليس قول المرأة الواحدة شهادة يجوز بها الحكم، نعم أخذ
بظاهره الإمام أحمد فقال: الرضاع يثبت بشهادة المرضعة
وعدمه، وفي المسألة خلاف طويل بينه الحافظ في كتاب
الشهادات في باب شهادة المرضعة من «فتح الباري» (ونكحت
زوجا غيره) هو ضريب بضم المعجمة وفتح الراء آخره موحدة ابن
الحارث، وفي الحديث الحض على ترك الشبه والأخذ بالأحوط في
الأمر (رواه البخاري) في العلم والبيوع والشهادات والنكاح
من «صحيحه» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (إهاب بكسر
الهمزة) أي وتخفيف الهاء وبالموحدة (وعزيز بفتح العين
وبزاي مكررة) قال في فتح الباري: ووقع عند أبي ذرّ عن
المستملي والحموي بزاي وآخره راء مصغر، والأوّل هو الصواب.
6593 - (وعن الحسن) بفتح الحاء والسين المهملتين والنون
(ابن عليّ) بن أبي طالب ابن
(5/36)
عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي سبط
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته من الدنيا (رضي
الله عنهما) تقدمت ترجمته وحديثه في باب الصدق (قال: حفظت
من رسول الله: دع) الظاهر أنه أمر ندب وإرشاد وحض على
مكارم الأخلاق بالتورّع عن الشبه وليس أمر إيجاب بحيث يأثم
تاركه ويكون عاصياً بتركه (ما يريبك إلى ما لا يريبك) بفتح
التحتية وضمها والفتح أفصح، تقول رابني فلان: إذا رأيت منه
ما يريبك وتكرهه، وهذيل تقول أرابني (رواه الترمذي) «في
الزهد» من جامعه (وقال: حديث حسن) الذي تقدم في باب الصدق
وقال: حسن صحيح، وكذا نقله عنه المزي في «الأطراف» ،
وحينئذ فلعل سقوط «صحيح» من بعض النسخ أو سهو من قلم
المصنف، ورواه النسائي. والحديث قد تقدم مع ترجمة الحسن،
وشرح الحديث في باب الصدق أوائل الكتاب بزيادة في آخره:
فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة (ومعناه) أي الحديث
(اترك ما تشك فيه) أي مما تعارض فيه دليلاً الحل والتحريم
(وخذ ما لا تشك فيه) مما قام النص على حله، أو قال بحله
مجتهد، قياساً على ما جاء حله في النص ولم يعارضه ما يرده.
والمصنف بين هذا المعنى، وسكت عن ضبط المضارع لأنه قدمه
ثمة، وقد سبق له نظير ذلك كما نبهنا عليه قريباً.
7594 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر
الصديق رضي الله عنه غلام) قال الحافظ في «الفتح» : لم أقف
على اسمه، ووقع لأبي بكر مع النعيمان بن عمر وأحد الأحرار
من الصحابة قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد مرسل «أنهم نزلوا
بماء فجعل النعمان يقول لهم يكون كذا، فيأتونه بالطعام
فيرسله إلى الصحابة، فبلغ أبا بكر فقال: أراني آكل كهانة
النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه» وفي
الورع لأحمد عن ابن سيرين: لم أعلم أحداً استقاء من طعام
غير أبي بكر، فإنه أتي بطعام فأكل، ثم قيل له جاء به ابن
النعيمان قال: وأطعمتموني كهانة ابن النعيمان؟ ثم استقاء.
ورجاله ثقات لكنه مرسل، ولأبي بكر قصة أخرى في ذلك أخرجها
يعقوب بن أبي شيبة في «مسنده» (يخرج له الخراج) أي يأتيه
بما
(5/37)
يكسبه من الخراج، وهو ما يقرره السيد على
عبده من مال يحضره من كسبه وسيأتي في الأصل (وكان أبو بكر
يأكل من خراجه) أي بعد أن يسأله عنه كما في رواية
الإسماعيلي (فأتاه في ليلة بكسبه فأكله) ولم يسأله ثم سأل
(فقال له الغلام: تدري) همزة الاستفهام قبله مقدرة: أي
أتدري (ما هذا) أي الذي أكلته: أي سبب حصوله ووصوله (فقال
أبو بكر: وما هو) سؤال عن بيان حقيقة جهة وصوله (فقال: كنت
تكهنت لإنسان) قال الحافظ: لم أعرف اسمه (في الجاهلية) هو
ما قبل الإسلام سميت بذلك لكثرة جهالاتها (وما أحسن
الكهانة) فجمع إلى قبح الكهانة قبح التشييع بما ليس له
والخديعة كما قال (إلا أني خدعته) وهو استثناء منقطع،
والخدع الإطماع بما لا وصول إليه. وفي «مفردات الراغب» :
الخداع إنزال الغبي عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما
يخفيه (فلقيني فأعطاني) أي في الإسلام (لذلك) أي لأجله،
وفي نسخة من البخاري بالموحدة: أي عوض تكهني له (هذا الذي
أكلت منه) وكأنه دفع له حينئذ لأنه تبين له إذ ذاك ما كان
قال قبل (فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) الظرف في
محل الصفة لشيء، قال ابن
التين: إنما استقاء أبو بكر تنزّهاً لأن أمر الجاهلية وضع،
ولو كان في الإسلام لغرم مثل ما أكل أو قيمته ولم يكفه
القيء. قال الحافظ: كذا والذي يظهر أن أبا بكر إنما قاء
لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن وحلوان الكاهن ما
يأخذه على كهانته، والكاهن من يخبر بما سيكون من غير دليل
شرعي، وكان ذلك قد كثر في الجاهلية قبل ظهور النبيّ (رواه
البخاري) في أيام الجاهلية من «صحيحه» (الخراج) بفتح أوليه
وتخفيف ثانيه آخره جيم (شيء يجعله السيد على عبده يؤديه
إلى السيد كل يوم) أي مثلاً، إذ منه ما تجعل المرأة على
عبدها والسيد على أمته أو يجعل عليه في الجمعة أو في الشهر
أو في العام، وكأن ما ذكر لأنه الغالب خصوصاً وفي التوقيت
بنحو شهر تعويض لضياع ما يوظف عليه (وباقي كسبه يكون
(5/38)
للعبد) أي يبيح له السيد أن ينتفع به إلا
أنه لا يملكه العبد ولا يخرج عن ملك سيده، إذ لا يملك
الرقيق شيئاً وإن ملكه سيده.
8595 - (وعن نافع) مولى ابن عمر تابعي جليل (أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه كان فرض) أي قدر (للمهاجرين الأولين)
أي لكل منهم: أي من فيء ديوان العطاء (أربعة آلاف) أي درهم
(وفرض لابنه) أي عبد الله مع أنه منهم (ثلاثة آلاف
وخمسمائة) احتياطاً (فقيل له) لم يتعرض الحافظ لبيان
القائل (هو من المهاجرين) أي فينبغي أن يكون له مثل ما لكل
مهاجر (فلم نقصته؟) أي خمسمائة فالمفعول الثاني محذوف لأن
نقص جاء قاصراً نحو حديث «ما نقص مال من صدقه» ومتعدياً
لاثنين نحو نقصت المال ديناراً وما نحن فيه من الثاني
(فقال: إنما هاجر به أبوه) كذا في نسخ الرياض أبوه مرفوعاً
بالواو. والذي رأيته في أصل مصحح معتمد من البخاري: أبواه
بصيغة المثنى بتغليب الأب على الأم، كالعمران في تثنية أبي
بكر وعمر والقمران في تثنية شمس وقمر، ونسبة المهاجرة به
إلى الأم مجاز، والمهاجر به حقيقة إنما هو أبوه (يقول ليس
هو كمن هاجر بنفسه) أي كأنه حينئذ كان في كنف أبويه، فليس
هو كمن هاجر بنفسه وعانى كلفتها وذاق مرارة وعثاء السفر
ومشقتها. وجاء في رواية الداودي: فقال عمر لابن عمر: إنما
هاجر بك أبواك. وكان سن ابن عمر حين هاجر به أبوه إحدى
عشرة سنة، ووهم من قال ثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة لما ثبت
في «الصحيح» من أنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة،
وكانت أحد في شوال سنة ثلاث (رواه البخاري) في أبواب
الهجرة في «صحيحه» .
9596 - (وعن عطية بن عروة) بضم المهملة وسكون الراء قال
المزي في الأطراف: ويقال أبو عمرو بن عوف ويقال أبو سعد
(السعدي) بفتح المهملة وسكون الثانية والدال مهملة أيضاً.
قال في «أسد الغابة» : من سعد بن بكر. وفي «أطراف المزي» :
من سعد من بني خيثم بن سعد بن بكر بن هوازن اهـ (الصحابي
رضي الله عنه) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ
(5/39)
ثلاثة أحاديث (قال: قال رسول الله: لا يبلغ
العبد) أي لا يصل (أن يكون من المتقين) أي من الموصوفين
بكمال التقوى، فإن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل (حتى
يدع) أي يترك خشية من الله (ما لا بأس به) أي بظاهر الفتوى
أو مطلقاً (حذراً) بفتح أوليه مفعول مطلق لفعل هو وفاعله
في محل الحال: أي حال كونه يحذر حذراً. أو مفعول له (لما)
أي للذي (به بأس) وهذا من باب قوله «فمن اتقى الشبهات فقد
استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»
(رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) غريب
لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه ابن ماجه في الزهد من
«سننه» أيضاً، والحاكم في «مستدركه» ، والله أعلم.
69 - باب استحباب العزلة
بضم المهلة وسكون الزاي اسم مصدر اعتزله وتعزله: أي تجنبه
كما في «الصحاح» ، قال: ويقال العزلة عبادة (عند فساد
الزمان) أي تغيره بحسب ما يظهره الله فيه من فساد بعد صلاح
أهله كأن يبدو الرياء والكذب بعد الصدق والخيانة بعد
الأمانة وهكذا (أو) عند (الخوف) أي الخشية (من فتنة) أي
محنة (في الدين) بسبب الدين التي تنشأ عن الاجتماع به كأن
يداهنهم على محرّم أو يرى منهم منكراً أو يقرهم عليه أو
نحو ذلك أي وإن لم يكن ذلك من فساد الزمان وإنما ذلك ناشىء
عن اجتماع مخصوص له (ووقوع في حرام وشبهات ونحوها) معطوفة
على محنة من عطف الخاص على العام، وكون الوقوع في الشبه من
المحنة في الدين إما باعتبار كونها حراماً في نفس الأمر،
وأن الوقوع فيها يجرّ إلى الوقوع فيه كما تقدم في قوله
«ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» وفهم من الترجمة فضل
الخلطة عند الأمن من ذلك. قال المصنف: المختار تفضيل
المخالطة لمن لا يغلب على ظنه وقوع المخالفة بسببها، فإن
أشكل فالعزلة أولى، وسيأتي فيه مزيد في الباب بعده.
(5/40)
(قال الله تعالى) : ( {ففرّوا إلى الله} )
أي من جميع ما عداه، وهوأمر بالدخول في الإيمان بالله
وطاعته وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار تنبيهاً على أن وراء
الناس عقاباً وعذاباً وأمراً حقه أن يفر منه فجمعت لفظة
ففروا التحذير والاستدعاء، وينظر إلى هذا المعنى قوله «ولا
ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» الحديث. قال الحسين بن الفضل:
من فرّ إلى غير الله لم يمتنع من الله ( {إنى لكم نذير
مبين} ) يجب أن ينذر ويحذر، أو يبين كونه منذراً من الله
بالمعجزات.
1597 - (وعن سعد بن أبي وقاص) واسمه مالك، وسعد أحد العشرة
المبشرة بالجنة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: سمعت
النبي يقول: إن الله يحبّ) المراد من المحبة لاستحالة قيام
حقيقتها من الميل النفساني به تعالى غايتها، مجازاً مرسلاً
من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم من التوفيق للطاعة أو
الإنابة بأحسن الفضل أو الثناء عليه عند ملائكته أو يكون
صفة فعل أو إرادة ذلك فتكون صفة ذات (العبد) أي المكلف ولو
حرّا وهو اسنى أوصاف الإنسان (التقي) الممتثل للأوامر
والمجتنب للنواهي (الغني) الغنى المحمود شرعاً الآتي بيانه
في الأصل (الخفي) بالخاء المعجمة هذا هو الموجود في النسخ
والمعروف في الروايات. وذكر القاضي عياض أن بعض رواة مسلم
رواها بإهمال الحاء، ومعناه بالإعجام الخامل المنقطع إلى
العبادة والاشتغال بها وبأمور نفسه التي تعنيه دينا ودنيا.
وقال آخرون: هو الذي يعتزل الناس ويخفي عنهم مكانه،
وبالإهمال الوصول للرحم، اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء،
والصحيح المعجمة. ففيه دليل تفضيل الاعتزال على الخلطة،
أما مطلقاً كما قيل به، أو عند خوف فتنة في الدين كما جرى
عليه المصنف وترجم به تبعاً للكثير (رواه مسلم) وأحمد كما
في «الجامع الصغير» (المراد بالغني) بفتح المعجمة أي
المراد من الغني المذكور في الحديث (غني النفس) كذلك، ويصح
أن يقرأ بكسر المعجمة وبالقصر فيهما، وحينئذ فيكون المعنى
المراد بالغنى المشتق منه الغنى في الحديث، ويؤيد هذا قوله
(كما
(5/41)
سبق في الحديث الصحيح) أي من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي «ليس الغني عن كثرة العرض
ولكن الغنى غنى النفس» ويؤيد الأول سلامته من التكلف
والتقدير في الثاني.
2598 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل)
قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ويبعد تفسيره بما جاء في
حديث أن أبا ذرّ سأل عن ذلك أنه جاء عند البخاري في كتاب
الرقاق: جاء أعرابيّ وأبو ذرّ لا يحسن أن يقال فيه إنه
أعرابي (أيّ الناس أفضل) وعند البخاري في رواية «أي الناس
خير» وفيه روايات أخر. وقوله: (يا رسول الله) تلذذ بذكره
واستعذاب لمخاطبته، قال الشاعر:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره
هو المسك ما كررته يتضوّع وفي النداء به الإيماء إلى سبب
توجيه السؤال إليه عن ذلك، وأن مثل هذا لا يعلم إلا من
حضرة الحق سبحانه فيطلب معرفته من أمينه على وحيه (قال)
أتى به على طريق الاستئناف لأن المراد الإخبار عن حصول
جواب السؤال مع قطع النظر عن كونه عقبه كما هو مدلول الفاء
أو بعده كما هو مدلول ثم أو غير ذلك، وقوله (مؤمن يجاهد
بنفسه وماله في سبيل الله) خبر مبتدأ محذوف التقدير هو: أي
الأفضل مؤمن، وقوله في سبيل الله) هو في لسان الشرع عبارة
عن جهاد الكفار وإعزاز الدين: أي يقاتل بنفسه ويحمل ويعين
بماله في ذلك، وقد يراد منه مطلق طاعة الله سبحانه (قال ثم
من) أي بعده في ذلك (قال: ثم) أتى بها في الجواب مع وجودها
للتنصيص على نزول مرتبة مدخولها عمن قبله،: أي ثم بعده
(رجل) وعند مسلم: مؤمن (معتّزل في شعب من الشعاب) فرجل
مبتدأ محذوف الخبر عكس ما قبله، والشعب بكسر الشين
المعجمة: هو الطريق في الجبل وما انفرج بين الجبلين ومسيل
الماء. وقوله (يعبد ربه) زاد مسلم في رواية له «يقيم
الصلاة ويؤتي الزكاة حتى يأتيه
(5/42)
اليقين ليس من الناس إلا في خير» والجملة
مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان الحامل له على الاعتزال،
فإن في الاجتماع بالناس الشغل عن ذلك. وفي الخلوة الجلوة،
ويجوز إعرابها خبراً بعد خبر، ولا ينافي هذا الحديث حديث
«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» وحديث «خيركم من طال عمره
وحسن عمله» ونحوهما لأن هذا الاختلاف بحسب الأوقات
والأقوام والأحوال، وفي الحديث فضل العزلة به. قال الحافظ:
والذي يظهر أنه محمول على ما بعد عصر النبيّ (وفي رواية)
وهي للبخاري في «الجهاد صحيحة» إلا أنه قال: ثم مؤمن في
شعب من الشعاب (يتقي) الله أي لمراقبته مولاه وعلمه بأنه
رقيب عليه محيط به (ويدع الناس) أي يتركهم (من شره)
باعتزاله عنهم وانفراده فلا يصل إليهم شرّه، ثم جملة يتقي
ربه عندهما آخر الحديث الذي أورده المصنف، وكأنه غفل رحمه
الله عن ذلك فاحتاج لعزوه إلى رواية أخرى (متفق عليه)
فأخرجه البخاري في الجهاد وفي الرقاق، وأخرجه مسلم في
الجهاد، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في الجهاد،
ورواه ابن ماجه في الفتن وقال الترمذي حسن صحيح.
3599 - (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يوشك) بضم التحتية وكسر الشين المعجمة. قال في «الصحاح»
والعامة تفتح الشين وهي لغة رديئة: أي يقرب (أن يكون خير
مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال) قال ابن مالك: في
الحديث شاهد على إسناد أوشك إلى أن ومنصوبها وغنم نكرة
موصوفة اسم يكون، والخبر قوله خير، والمراد بالمسلم الجنس،
وقدم الخبر للاهتمام بالاعتزال لأن الكلام مسوق فيه لا في
الغنم ولذا أخرها. قال في «الفتح» : ويجوز العكس بأن يكون
خير اسمها مال الخبر والأشهر في غنم الرفع، وقيل يجوز رفع
الجزءين على الابتداء والخبر. والجملة في موضع نصب خبر
يكون، واسمها
(5/43)
ضمير شأن لأنه كلام يتضمن تحذيراً وتعظيماً
وتقديم ضمير الشأن مؤكد لمعناه، قال الحافظ: ولا يخفى
تكلفه (ومواقع القطر) أي الغيث ومواقعه هي مواضع الكلأ
(والغيث) لأن المطر إذا أصاب الأرض أعشبت (يفر بدينه من
الفتن) قال الكرماني: جملة حالية من الضمير المستكن في
يتبع أو المسلم إذا جوّزنا الحال من المضاف إليه فقد وجد
شرطه وهي شدة الملابسة فكأنه جزؤه. ويجوز أن تكون
استئنافية وهو واضح اهـ (رواه البخاري) في الإيمان وفي
الجزية والفتن ورواه أبو داود في الفتن، ورواه النسائي في
الإيمان، وابن ماجه في الفتن (وشعف الجبال) بفتح الشين
المعجمة والمهملة بعدها فاء جمع شعفة كأكم وأكمة وجمعها
شعاف (أعلاها) قال الحافظ: والماء والمرعى يكون فيها ولا
سيما في بلاد الحجاز. والخبر دالّ على فضيلة العزلة لمن
خاف على دينه.
4600 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ما بعث
الله نبياً) يحتمل أن يكون المراد من النبي مطلق من أوحى
إليه بشرع سواء أمر بتبليغه أو لا، فيفسر البعث بالإيحاء،
ويحتمل أن المراد منه الرسول من إطلاق العام مراداً به
الخاص وقرينته قوله بعث: أي أرسل (إلا رعى) وفي نسخة من
البخاري راعي بصيغة اسم الفاعل (الغنم) وذلك ليتمرّنوا
برعيها على ما سيكلفون من القيام بأمر الأمة ولأن في
مخالطتها يحصل الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها،
وجمعها بعد تفريقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى آخر،
ودفع غدرها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها
وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من
ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها،
فجبروا كسرها ورفقوا بضعفائها وأحسنوا التعاهد لها فيكون
تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول
وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعى الغنم، وخضت
الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها فهي أسرع انقياداً من
غيرها (فقال أصحابه: وأنت) بحذف همزة الاستفهام: أي وأنت
أيضاً رعيتها (فقال نعم) ذكره لذلك بعد علم
(5/44)
كونه أكرم خلق الله على الله من عظيم
تواضعه لربه، وفيه اعتراف بمنة الله سبحانه، وفيه التحريض
للأمة على سلوك ذلك (كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) قيل
المراد بالقيراط هنا جزء من الدينار والدرهم، وقال إبراهيم
الجرمي: قراريط اسم مرعى بمكة ولم يرد القراريط من الفضة،
وصوّبه ابن الجوزى تبعاً لابن ناصر وخطأ الأول، لكن رجح
الأول آخرون بأنه لا يعرف أهل مكة بها محلاً يقال له
القراريط (رواه البخاري) في الإجارة من صحيحه، ورواه ابن
ماجه في الإجارة من «سننه» .
5601 - (وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من
خير معاش) والمراد: أي عيش به الحياة (الناس لهم) قال
المصنف: أي من خير أحوال عيشهم (رجل) هو على تقدير مضاف:
أي معاش رجل فحذف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع (ممسك
عنان) بكسر المهملة وبالنونين الخفيفتين (فرسه في سبيل
الله) حال من رجل لتخصيصه بالوصف أو وصف له، والمراد به
جهاد الكفار، وقوله (يطير على متنه) يجوز فيه الوجهان
(كلما) ظرف لقوله طار أي في وقت (سمع هيعة) بفتح الهاء
والعين المهملة وسكون التحتية بينهما (أو) يحتمل أن تكون
شكاً من الراوي ويقرّ به قول المصنف الآتي: والفزعة نحوه،
ويحتمل أنها للتنويع بناء على ما سيأتي ثمة من الفرق
بينهما (فزعة) بفتح الفاء والمهملة وسكون الزاي بينهما
(طار عليه) أي على فرسه وهو كما في «المصباح» يطلق على
الذكر والأنثى من الخيل (يبتغي القتل) أي من الكفار له (أو
الموت) أي حتف أنفه (مظانه) أي فيما يظن وجوده فيه: أي
يطلب ذلك في مواطنه التي يرجى فيها لشدة رغبته في الشهادة.
وفيه فضيلة الموت في سبيل الله وإن لم يقتله العدوّ، وجملة
يبتغي الخ مستأنفة أتى بها لبيان سبب ملازمته عنان فرسه:
أي الحامل له على ذلك مزيد رغبته في الشهادة وإعلاء كلمة
الله سبحانه (أو) للتنويع ويحتمل كونها بمعنى الواو فإن
كلاً منهما عيشه محمود آخره (رجل في غنيمة) بضم الغين
المعجمة وفتح النون وسكون التحتية والتصغير للتقليل إيماء
إلى الإعراض عن الاستكثار من الدنيا والاقتصار على ما تدعو
إليه الحاجة (في رأس شعفة من هذه الشعف)
(5/45)
الظرف الأول في محل الصفة لغنيمة والثاني
صفة لشعفة: أي في أعلى جبل من هذه العوالي (أو) للتنويع
(بطن واد من هذه الأودية) جمع قلة لواد والوادي كل منفرج
بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل وذلك لأن صاحب الغنيمة
تابع للكلأ سواء كان في الأعلى أو في الأسفل. وقوله (يقيم
الصلاة) جملة حالية من رجل لتخصيصه بالوصف أو
مستأنفة جىء بها لبيان ما لأجله كان من ذوي المعاش النسبي
ومعنى يقيم الصلاة: أي يؤديها جامعة لأركانها وشرائطها
وآدابها (ويؤتي الزكاة) أي المفروضة (ويعبد ربه) بأنواع
الطاعات (حتى يأتيه اليقين) أي الموت المتيقن لحاقه (ليس
من الناس) أي من أمورهم وأحوالهم (في شيء) من الأشياء (إلا
في خير) فهو استثناء من أعم الأشياء كما قدرناه لاعتزالهم
عنه ومجانبته لهم، والجملة في محل الحال من فاعل يقيم
فيكون حالاً متداخلة، أو من رجل لتخصيصه بالوصف فيكون
حالاً مترادفة إن أعربت الجملة السابقة حالاً (رواه مسلم)
وجعله المزي في «الأطراف» ، والحديث الذي نقله المصنف في
أول الباب وقال إنه متفق عليه واحداً: أي باعتبار المعنى
وإن تفاوت في بعض المبنى (يطير) بفتح أوله (أي يسرع) وأراد
به مع بيان معنى طار المذكور في الحديث التنبيه على أنه من
باب ضرب (ومتنه) بفتح الميم وسكون الفوقية بعدها نون
(ظهره) مأخوذ من متن الأرض وهو ما صلب وارتفع منها
(والهيعة) بضبطه السابق (الصوت للحرب) في «شرح مسلم»
للمصنف: الصوت عند حضور العدو، وفي «النهاية» : الهيعة
الصوت الذي يفزع منه ويخافه عدو، وبها يعلم أن ما فسره به
المصنف مراده بيان المراد في خصوص الحديث بدليل السياق، لا
تفسير مطلق الهيعة لأنه أعم مما ذكره (والفزعة) بالضبط
السابق (نحوه) هذا محتمل للتوافق كما جرت به عادة المحدثين
من استعمالهم فيما يكون معناه موافقاً لمعنى ما قبله، فإن
توافقا لفظاً ومعنى قالوا فيه «مثله» وهو ما يثبت عليه كون
«أو» في الحديث للشك، ومحتمل أن يراد به القريب فيكون غير
ما قبله وهذا أقرب، ففي شرح مسلم للمصنف الفزعة النهوض إلى
العدو، وإنما كان حينئذ قريباً، لأنه إنما يكون عند الصوت
(ومظان الشيء) بفتح الميم والظاء
(5/46)
المعجمة جميع مظنة بفتح الميم وكسر الظاء
كما في «المصباح» (المواضع التي يظن وجوده فيها) أي ظناً
قوياً يقرب أن يلحق بالعلم، ففي «المصباح» المظنة
بالكسر: العلم وهو حيث يعلم الشيء «قال النابغة: فإن مظنة
الجهل الشباب» .
وقال ابن فارس مظنة الشيء موضعه ومآلفه اهـ (والغنيمة بضم
الغين) المعجمة وسكت عن باقي ضبطه الذي ذكرناه لدلالة ما
ذكره عليه عند العارف بصيغ التصغير (تصغير الغنم) بفتح
أوليه، قال في «المصباح» : وتدخله الهاء إذا صغر فيقال
غنيمة، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا
كانت لغير الآدميين وصغرت فالتأنيث لازم لها (والشعفة بفتح
الشين) أي المعجمة (والعين) أي المهملة، وكان الظاهر ذكر
هذا الضبط عند ذكر الشعف أولاً وإحالة ما هنا عليه ولعل
المصنف تركه ثمة نسياناً وذكر هنا استدراكاً (وهي أعلى
الجبل) والله أعلم.
70 - باب فضل الاختلاط بالناس
أي عند السلامة مما ذكر في الباب قبله، والناس اسم جنس
محلي بأل، فهو من صيغ العموم فيحتمل بقاؤه على عمومه ويكون
الشرط مقدراً في الكلام بدليل السياق «بالوحدة» ويحتمل أن
يراد به الخصوص: أي الذين ينبغي الاختلاط بهم (وحضور
جمعهم) بضم ففتح جمع جمعة بضم فسكون أو فتح (وجماعاتهم)
جمع جماعة: أي في الصلوات المكتوبات (ومشاهد الخير) من
الأعياد (ومجالس العلم) والتذكير بالله تعالى (ومجالس
الذكر معهم) الظرف متعلق بحضور: أي حضوره ما ذكر مع
المسلمين وفي جملتهم ليندرج معهم في ثوابهم ولتعود بركة
الفالح على غيره (وعيادة مريضهم) وسيأتي أنها مندوبة
(وحضور جنائزهم) وهي مندوبة إن حصل الكفاية من نقله إلى
المقبرة
(5/47)
بسواء لسقوط الطلب عنه حينئذ، وهل يثاب
عليه ثواب الفرض كما يثاب المصلي على جنازة صلى عليها قبل
أو يفرق؟ كل محتمل والله أعلم (ومواساة محتاجهم) وتقدم
أنها فرض كفاية على مياسير المسلمين (وإرشاد جاهلهم) وهو
فرض كفاية بذلاً للنصيحة الواجبة لعامة المسلمين بعضهم على
بعض (وغير ذلك من مصالحهم) التي يتمكن منها بالاجتماع
بالناس (لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عى المنكر وقمح
نفسه عن الإيذاء والصبر على الأذى) اللام تنازعها المصادر
المذكورة فكل يطلبها معمولة له والأولى جعله معمولاً
للأخير كما هو مذهب البصريين وحذف معمول العوامل السوابق
عليه، لأنه فضلة وحذفه في مثل ما ذكر جائز بل واجب، ولو
أعربته معمول الأول لوجب إضمار مثله في كل من المذكورات
بعده خلافاً لمن أجاز الحذف في ذلك كما أشار إليه ابن هشام
في توضيحه، ويؤخذ من هذا أن من لم يقدر على ما ذكر فيه
فالاعتزال أفضل له لما تقدم، فإن أشكل الأمر عليه قال
المصنف: فالعزلة أولى.
(اعلم) أيها الصالح للخطاب (أن الاختلاط بالناس على الوجه
الذي ذكرته) أي من شهود خيرهم دون شرهم وسلامتهم من شره
(هو المختار الذي كان عليه رسول الله) إذ كان يجمع الناس
ويقيم لهم أعمالهم ويبين لهم أحوالهم (وسائر الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم) أي وباقي الأنبياء فيكون من عطف
المغاير، أو وجميع الأنبياء بناء على أن سائر يجيء بمعنى
الجميع، وهو ما ذكره الجوهري ووافقه عليه الجواليقي أول
شرح آداب الكتاب واستشهد له. قال المصنف: وإذا اتفق هذان
الإمامان على نقل ذلك فهو لغة. وحينئذ فيكون من عطف العام
على الخاص، وذكر ذلك بعد ما قبله إيماء إلى أن هذا سنن
قديم ونهج مستقيم وسيأتي دليل استحباب الصلاة والتسليم على
سائر الأنبياء في كتاب الصلاة على النبيّ (وكذلك) أي
وكالمذكور من الأنبياء (الخلفاء الراشدون) هم الأربعة الذي
تمت بهم مدة الخلافة المشار إليها في حديث «الخلافة بعدى
ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً عضوضاً» (ومن بعدهم من الصحابة)
أفرد الخلفاء بالذكر لمزيد فضلهم وكمال علمهم ولمزيد
ملازمتهم المصطفى وباقي الصحابة رضي الله عنهم لا يساوونهم
في ذلك، والصحابة بفتح الصاد وبالحاء المهملة، قال في
المصباح: جمع صاحب وكذا يجمع على صحب وأصحاب اهـ. والذي
عليه سيبويه أن صحبا اسم جمع لا جمع وما جرى عليه في
المصباح هو قول الأخفش: والمراد من الصاحب هنا الصحابى
(5/48)
وهو من اجتمع مؤمناً بنبينا حال حياته ولو
لحظة ومات على الإيمان (والتابعين) جمع تابعي، وهو من
اجتمع بالصحابى؟ وهل يكتفي بأدنى مدة كما في الصحابى أولاً
ويفرق والراجح الثاني كما تقرر في كتب أصول الفقه (ومن
بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم) جمع خير بالتشديد أو
بالتخفيف مشددا منه كأموات جمع ميت مخفف ميت كأقوال جمع
قول كما قاله السمين، دفعا لما قيل من أن قياس جمع ميت
ميائت كسيد وسيائد، لكن تعقبه شيخنا بأنه على ما ذكره لا
يستقيم له مراده لأن أفعالاً إنما تنقاس
جمعيته لما كان ثلاثياً، وإذ كان ميت مخفف ميت فهو رباعي
لا محالة، فيكون جمعه على أموات كجمع ميت عليه على خلاف
القياس (هو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم) أي من أتباع
التابعين المشهود لقرونهم الثلاثة بالخيرية، وذكر هذا
ثانيا لبيان أنه مذهب اقتضاه الدليل وأولاً لبيان أنه
عمهم.d
وفيه إيماء إلى أن بعض التابعين ومن بعدهم كان يرى
الانفراد أفضل ولكنه يعمل بخلافه لحكم الوقت عليه بذلك
(وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء) أي من أئمة المذاهب
الذين هم الأسوة وفيهم القدوة (رضي الله عنهم أجمعين) وقال
الحافظ في فتح الباري بعد نقل اختيار المصنف المذكور: وقال
غيره يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتعين عليه أحد
الأمرين، ومنهم من يترجح له وليس الكلام فيه، بل إذا
تساويا فيختلف باختلاف الأوقات، فمنهم من يتحتم عليه
المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما
عينيا وإما كفائيا بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من
يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه لكن يتحقق
أنه لا يطاع، وهذا حيث لا تكون فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة
ترجحت العزلة لما ينشأ عنها غالباً من الوقوع في المحذور،
وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما
قال تعالى:
{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ويؤيد
التفضيل حديث أبي سعيد «خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله،
ورجل في شعب من
(5/49)
الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شرّه» (قال الله تعالى:
{وتعاونوا على البرّ والتقوى} ) أي ففيه الاجتماع للتعاون
على البرّ: أي فعل المأمورات كالجمعة والجماعات وإقامة
الشرائع والتعاون على التقوّى عن المنهيات (والآيات في
معنى ما ذكرته) أي من طلب الاجتماع لإقامة الشرائع وإبطال
المفاسد (كثيرة معلومة) قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة
يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل
عمران: 104) وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر} (آل عمران: 110) وقال تعالى:
{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان
مرصوص} (الصف: 4) . |