دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين

71 - باب التواضع
في «الرسالة القشيرية» : التواضع هو الاستسلام للحق وترك الاعتراض في الحكم، قال الشيخ زكريا: وهو أعم من الخشوع لأنه يستعمل فيما بين العباد وفيما بينهم وبين الرب سبحانه، والخشوع لا يستعمل إلا في الثاني، فلا يقال خشع العبد لمثله ويقال تواضع له اهـ. وفي «فتح الباري» : من الضعة بكسر أوله وهي الذلّ والهوان، والمراد بالتواضع إظهار الذل لمن يراد تعظيمه، وقيل هو تعظيم من فوقه لفضله. وسئل الفضيل عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله، وكذا قال ابن عطاء: التواضع قبول الحق من كل من قاله. وقيل لأبي يزيد البسطامي متى يكون الرجل متواضعاً؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً، ولا يرى أن في الخلق من هو شرّ منه اهـ. وسيأتي فيه مزيد في الكلام على الأحاديث والمراد (وخفض الجناح) قال أبو حيان في النهر: هو كناية عن التعطف والرفق،

(5/50)


وأصله أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه ثم قبضه على فرخه، والجناحان من ابن آدم جانباه.
(وقال الله تعالى) : ( {واخفض جناحك للمؤمنين} ) قال ابن عطية: وهذه استعارة بمعنى لين لهم جانبك ووطىء لهم أكنافك والجناح الجانب والجنب ومنه واضمم يدك إلى جناحك فهو أمر بالميل إليهم، والجنوح الميل اهـ. ولا مخالفة بين كونه كناية واستعارة: أي تمثيلية لاختلاف الاعتبار، قال في «النهر» : وقد كان كثير الشفقة على من بعث إليه، وقد تقدمت الآية مع الكلام عليها في باب ضعفة المسلمين.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} ) وقد ارتد قبائل في عهده، وفي خلافة أبي بكر وعمر ( {فسوف يأتي الله بقوم} ) بدلهم ومكانهم، وحرف التنفيس لتحقيق الوعد (يحبهم) يهديهم ويثبتهم (ويحبونه) أي يطيعونه وهم أبو بكر وأصحابه أو أهل اليمن أو الأشعريون، قال في النهر في «مستدرك الحاكم» عن أبي موسى الأشعري: لما نزلت أشار إلى أبي موسى وقال: هم هذا. وهذا أصح الأقوال وكان لهم بلاء في الإسلام زمن رسول الله، وعامة فتوح عمر على أيديهم ( {أذلة على المؤمنين} ) أي متذللين لهم عاطفين عليهم خافضين عليهم أجنحتهم. وأذلة جمع ذليل لا ذلول الذي هو نقيض الصعب لأنه لا يجمع على أفعلة، بل على ذلل وتعديته بعلى لما أشرنا إليه من تضمينه معنى الحنوّ والعطف ( {أعزّة على الكافرين} ) شداد متغلبين عليهم. قال في «النهر» : جاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه المبالغة لأن أذلة وأعزة جمع ذليل وعزيز، وهما من صيغ المبالغة، وجاءت الصفة قبلهما بالفعل في قوله، يحبهم ويحبونه لأنه الاسم يدل على الثبوت، فلما كانت صيغة مبالغة وكانت لا تتجدد، بل هي كالغريزة جاء الوصف بالاسم. ولما كانت الصفة قبل تتجدد لأنها عبارة عن فعل الطاعات والإنابة المرتبة عليها جاء الوصف بالفعل المقتضي للتجدد، ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن آكد ولموصوفه ألزم قدم على الوصف المتعلق بالكافر ولشرف المؤمن أيضاً، ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه آكد مما بينه وبين المؤمن قدم قوله
يحبهم ويحبونه على قوله أذلة على المؤمنين وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم والفعل لا يتقدم الفعل إلا في ضرورة الشعر، وقرىء شاذاً بنصب أذلة وأعزّة على الحالية من

(5/51)


النكرة لقربها بالوصف من المعرفة.

(وقال تعالى) : ( {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} ) آدم وحواء فأنتم متساوون في النسب فلا فخر لأحد على أحد بالنسب ( {وجعلناكم شعوباً} ) الشعب بالفتح رأس القبائل والطبقة الأولى والقبائل تشعبت منه ( {وقبائل} ) هي دون الشعب كتميم من مضر، وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب ( {لتعارفوا} ) أي ليعرف بعضكم بعضاً لا للتفاخر، وفي الحديث «لتعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل» ( {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ) بيان للخصلة التي بها التفاضل.
(وقال تعالى) : ( {فلا تزكوا أنفسكم} ) أي لا تمدحوها ولا تنسبوها إلى الطهارة ولا تفخروا بأعمالها. قال ابن عطية: ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه. ويحتمل أن يكون نهياً عن تزكية بعض بعضاً، وحينئذ فالمنهي عنه منه ما كان للدنيا أو القطع بالتزكية، وأما تزكية الإمام أو القدوة أحداً ليؤتمّ به أو ليتمم به الخير فجائزة، فقد زكى بعض أصحابه أبا بكر وغيره ( {هو أعلم بمن اتقى} ) فربما ينسبون أحداً إلى التقوى، والله يعلم أنه ليس كذلك، ولذا ورد في الحديث الصحيح «إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكى على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا أن يعلم ذلك» وأفعل التفضيل قيل هو بمعنى عالم، وقال الجمهور: بل هو على بابه: أي هو أعلم بالموجودين جملة (وقال تعالى) : ( {ونادى أصحاب الأعراف} ) وهو السور المضروب بينهما ( {رجالاً يعرفونهم بسيماهم} ) من رؤساء الكفار يقولون يا أبا جهل يا فلان يا فلان ( {قالوا} ) أي لهم ( {ما أغنى عنكم} ) أي لم ينفعكم، ويجوز أن تكون ما استفهامية: أي أيّ شىء نفعكم، بل قال ابن عطية إنه أصوب ( {جمعكم} ) أي كثرتكم التي كانت في الدنيا وجمعكم المال ( {وما كنتم تستكبرون} ) أي

(5/52)


واستكباركم عن الحق وعدم انقيادكم له، ويقول أهل الأعراف لأولئك الكفار ( {أهؤلاء} ) المشار إليهم ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفار يحقرونهم في الدنيا ويسخرون بهم ويقسمون إنهم لا يدخلون الجنة كما قال ( {الذين أقسمتم} ) من القسم: الحلف ( {لا ينالهم الله برحمة} ) المراد منها هنا إدخال الجنة مجازاً مرسلاً، وقدمنا عن البدر الدمامينى أنه يتعين في بعض المواضع تأويل الرحمة بالإحسان ولا يجوز تأويلها فيه إرادة ذلك لأن المقام يأباه كما يتعين عكسه في بعض آخر ( {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم} ) من مكروه يتوقع فأنتم مؤمنون ( {ولا أنتم تحزنون} ) على فوات محبوب لكم، وبناء الحكم على الضمير للتأكيد لما فيه من تكرار الإسناد، والمخاطب
بقوله: ادخلوا يحتمل أنه ضعفاء المؤمنين: أي قيل لهم ذلك، أهل الأعراف أي يقال لهم ذلك، أو لما عير أهل الأعراف أهل النار وقال أهل النار: إن دخل هؤلاء الجنة فوالله أنتم لا تدخلونها تعبيراً لهم، فقالت الملائكة: أهؤلاء؟ يعني أهل الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار إنهم لا ينالهم الله برحمة، ثم قالت الملائكة لهم: أدخلوا الجنة.

1602 - (وعن عياض) بكسر العين المهملة وتخفيف التحتية والضاد (ابن حمار) بكسر المهملة وتخفيف الميم على لفظ الحمار: الدابة المعروفة ابن أبي حمار بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم التميمي المجاشعي (رضي الله عنه) وقيل في نسبه غير هذا، نزل عياض البصرة وهو معدود من أهلها، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون حديثاً، روى منها مسلم حديثين كذا في «التهذيب» للمصنف (قال: قال رسول الله: إن الله أوحى إليّ) قال ابن رسلان: لعله وحي إلهام أو برسالة (أن تواضعوا) أن فيه مفسرة فالموحى هو الأمر بالتواضع، قال الحسن: التواضع أن تخرج من بيتك فلا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً. وقال أبو زيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شرّ منه فهو متكبر، وقيل التواضع الإنكسار والتذلل، ونقيضه التكبر والترفع، وقيل غير ذلك مما تقدم بعضه في الكلام على الترجمة. وقال القرطبى: التواضع الإنكسار والتذلل وهو يقتضي متواضعاً له:

(5/53)


هو الله تعالى، ومن أمر الله بالتواضع له كالرسول والإمام والحاكم والعالم والوالد، فهذا التواضع الواجب المحمود الذي يرفع الله به صاحبه في الدارين، وأما التواضع لسائر الخلق فالأصل فيه أنه محمود ومندوب إليه ومرغب فيه إذا قصد به وجه الله تعالى، ومن كان كذلك رفع الله قدره في القلوب وطيب ذكره في الأفواه ورفع درجته في الآخرة. وأما التواضع لأهل الدنيا ولأهل الظلم فذاك الذل الذي لا
عزّ معه، والخيبة التي لا رفعة معها، بل يترتب عليه ذل الآخرة وكل صفقة خاسرة، وقد ورد «من تواضع لغني لغناه ذهب ثلثا دينه» (حتى) غاية للتذلل وكسر النفس وعدم النظر إليها: أي افعلوا ذلك إلى أن (لا يفخر) بفتح الخاء المعجمة ومصدره الفخر والاسم منه الفخار كسلام، قال في «المصباح» : هو المباهاة بالمكارم والمناقب من حسب ونسب وغير ذلك سواء كان فيه أو في آبائه، أي لا يباهي (أحد) مستعلياً بفخره (على أحد) ليس كذلك فالخلق من أصل واحد والنظر إلى العرض الحاضر الزائل ليس من شأن العاقل (ولا يبغي) بالنصب عطف على يفخر: أي وحتى لا يظلم ولا يتعدى (أحد على أحد) وذلك أن من انكسر وتذلل امتثالاً لأمر الله عزّ وجل حال ذلك بينه وبين الفساد والوقوع في الظلم والاعتداد والعناد (رواه مسلم) ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عياض أيضاً.

2603 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: ما نقصت صدقة من مال) قيل هو عائد إلى الدنيا بالبركة فيه ودفع المفسدات عنه: أي ما ينقص منه بالصدقة يتدارك بما يحصل فيه من النماء ببركتها. وقيل إلى الآخرة بالثواب والتضعيف (وما زاد الله عبداً يعفو) عمن جنى عليه في نفس أو عرض أو مال أو نحو ذلك (إلا عزّاً) قيل في الدنيا، وقيل في الآخرة (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) فيه القولان فيما قبله، قال المصنف: ويجوز إرادة الوجهين معاً في الأمور الثلاثة (رواه مسلم) والحديث سبق مع

(5/54)


الكلام عليه وعلى من خرّجه في باب الكرم والجود.
3604 - (وعن أنس رضي الله عنه إنه) بدل من أنس على تقدير مضاف: أي وعن قصة أنس أنه (مرّ على صبيان) بكسر المهملة، وضمها وسكون الموحدة بعدها تحتية جمع كثرة ويجمع في القلة على صبية بكسر المهملة أي على جماعة مميزين منهم (فسلم عليهم وقال: كان النبيّ يفعله) أي تواضعاً وكسراً للنفس، فإن من طبعها الترفع عن خطابهم فضلاً عن مؤانستهم بالسلام. قال ابن بطال: وفيه تدريبهم على آداب الشريعة وطرح رداء الكبر وتناول التواضع ولين الجانب وظاهر «كان» تكرر ذلك فإنها تفيده كما أشار إليه ابن الحاجب لكن عرفاً كما قيد ابن دقيق العيد: أي في مقام تقبله كما قال بعضهم، لكن نقل المصنف في «شرح مسلم» عن المحققين والأكثر من الأصوليين أنها لا تفيده (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الاستئذان من «صحيحه» كما قال الحافظ في «الفتح» . وأخرج النسائي حديث الباب بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزور الأنصار فيسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم ويدعو لهم» وهو مشعر بوقوع ذلك منه غير مرة، بخلاف سياق الباب حيث قال «مرّ على صبيان فسلم عليهم» فإنها تدل على أنها واقعة حال، قلت: قول أنس «كان النبيّ» يشعر بما تشعر به رواية النسائي، وقول ثابت «إنه مر الخ» لا ينافي ذلك لأن أنساً أشار إلى أن حكمة تسليمه عليهم الاتباع لكونه رآه كان يفعل ذلك، والله أعلم. قال: وأخرجه مسلم والنسائي وأبو داود بلفظ غلمان بدل صبيان. ووقع لابن السني وأبي نعيم في «اليوم والليلة» بلفظ «فقال: السلام عليكم يا صبيان» وعثمان بن مطر الراوي له عن ثابت رواه. ولأبي داود من طريق حميد عن أنس «انتهى إلينا النبي وأنا غلام في الغلمان فسلم علينا» الحديث.
4605 - (وعنه قال: إن) مخففة من الثقيلة: أي إنه (كانت الأمة) بفتح أوليه ولامه واو محذوفة أي الجارية (من إماء) بكسر الهمزة والمد بوزن كتاب: أي جواري أهل (المدينة) علم بالغلبة على دار هجرته (لتأخذ بيد النبيّ) اللام فيه فارقة بين المخففة والنافية

(5/55)


(فتنطلق به حيث شاءت) ففيه مزيد تواضعه من وجوه: الأول أنها أمة وليست من وجوه الناس. الثاني أنها تأخذ بيده وذلك يدل على مزيد الانقياد. الثالث أنها تذهب به لحاجتها أيّ مكان كانت قريبة أو بعيدة، ففيه منه التحريض على ذلك والحث على سلوكه (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» .
5606 - (وعن الأسود بن يزيد) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية وكسر الزاي وهو أبو عمرو، ويقال أبو عبد الرحمن الأسود بن يزيد بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة ابن سلامان بن كهيل النخعي الكوفي التابعي الجليل. قال أحمد بن حنبل: هو ثقة من أهل الخير، واتفقوا على توثيقه وجلالته، روينا عن ميمون بن حمزة قال: سافر الأسود ثمانين حجة وعمرة لم يجمع بينهما اهـ ملخصاً من «التهذيب» (قال: سألت عائشة رضي الله عنها ما كان النبيّ يصنع) هو أخص من الفعل كما قاله البيضاوي في سورة المائدة (في بيته) أي منزله (قالت: يكون في مهنة أهله) قال في «المصباح» : المهنة أخص من المهن كالضربة والضرب، وقيل المهنة بالكسر لغة، وأنكرها الأصمعي وقال: الكلام في الفتح وهو في مهنة أهله: أي في خدمتهم، وفي «النهاية» الرواية بفتح الميم الخدمة وقد تكسر. وقال الزمخشري: وهو عند الإثبات خطأ، قال الأصمعي: المهنة بفتح الميم الخدمة ولا يقال المهنة بالكسر، وكان القياس لو قيل مثل جلسة وخدمة إلا أنه جاء على فعلة واحدة اهـ. وفي بعض «حواشي الشفاء» : المهنة الخدمة بفتح الميم، وكسرها خطأ، قاله سمرة، وقال غيره: فيه الكسر وأنكر الفتح. وفي «شرح ابن أقبرس» : قيل الفتح أفصح وأنكره البعض، وقيل الكسر أفصح، وأنكره البعض الآخر ووجه لغة الكسر على وزن خدمة اهـ (تعني) أي عائشة بقولها في مهنة أهله (في خدمة أهله) وقد فسرت المهنة بما رواه عياض في الشفاء والحسن وأبو سعيد وغيرهم في صفته قال وبعضهم يزيد على بعض «كان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه ويحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ويعلف ناضحه ويقمّ البيت ويعقل البعير ويأكل مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق»

(5/56)


الله. هـ، وظاهر عبارة المصنف أن تعني الخ قول الأسود، ويحتمل أن تكون قول من دونه، وهذا التفسير لم أجده في أصلين مصححين من البخاري، وبه يظهر أنه من صنيع المؤلف فيكون مخالفاً لعادته في
مثله من تأخيره عن سوق الحديث بجملته، ثم بيان مخرجه ثم غريبه، وكونه يباشر خدمة أهله من مزيد فضله وكمال تواضعه، إذ سيد القوم خادمهم، وظاهر أن المراد من قوله كان كذلك في بيته إذا انفرد بهم ولم يكن ثم ما هو أهم منه وإلا اشتغل بالأهم (فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) أي مبادراً لأدائها تحريضاً على فعلها أول وقتها الذي جاء في الصحيح أنه أفضل الأعمال (رواه البخاري) في الصلاة وفي النفقات في الأدب من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» وقال: حسن صحيح.
6607 - (وعن أبي رفاعة) بكسر الراء وخفة الفاء وإهمال العين (تميم) بفتح الفوقية وكسر الميم الأولى بينهما تحتية ساكنة (ابن أسيد) قال الحافظ العسقلاني في «تبصير المنتبه» اختلف فيه هل هو بضم الهمزة مصغراً أو أسد بفتح أوليه مكبراً، ابن عبد العزّى بن جعونة بن عمرو بن العين بن رزاح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو الخزاعي (رضي الله عنه) قال في «أسد الغابة» : أسلم وولاه النبيّ تجديد أنصاب الحرم وإعادتها، نزل مكة قاله ابن سعد اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر حديثاً فيما يؤخذ من كلام ابن الجوزي في «المستخرج المليح» . أخرج له مسلم هذا الحديث الواحد ولم يخرّج عنه البخاري شيئاً (قال: انتهيت إلى النبيّ وهو يخطب) أي خطبة الجمعة (فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه) كل من الجملتين الفعليتين محتمل لكونه صفة رجل من الوصف بالجملة بعد المفرد كقوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} (الأنبياء: 50) ومحتمل لكونه حالاً، إما كلاهما من رجل لتخصيصه بالوصف فيكونان مترادفين أو الأول منه كذلك، والثاني من المستكنّ في جاء فيكونان متداخلين، والمراد يسأل عما يلزمه عمله حالاً من الأحكام الدينية (لا يدري ما دينه) أي ما هو، وجملة الاستفهام معلقة للفعل قبلها عنها. قال المصنف: وفي

(5/57)


قوله رجل غريب إلى قوله ما دينه استحباب تلطف السائل (فأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إليّ فأتى) بالبناء للمفعول (بكرسي) بضم الكاف وفتحها والضم أشهر وتشديد الياء (فقعد عليه رسول الله) أي ليسمع باقي الناس الحاضرين كلامه ويروا شخصه الكريم (وجعل) أي شرع (يعلمني مما علمه الله) أي من الدخول في الإسلام والإيمان وما يجب الإيمان به (ثم أتى خطبته فأتم آخرها) قال المصنف: فيه كمال تواضعه ورفقه بالمسلمين وكمال شفقته عليهم وخفض جناحه لهم. وفيه المبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهم الأمور فأهمها،
ولعله كان يسأل عن الإيمان وقواعده المهمة.
t وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجبت إجابته وتعليمه على الفور، ويحتمل أن هذه الخطبة التي كان النبيّ فيها خطبة أمر غير الجمعة فلذا قطعها بهذا الفصل الطويل، أو كان كلامه لهذا الغريب متعلقاً بالخطبة فيكون منها ولا يضرّ المشي في أثنائها (رواه مسلم) في أبواب الجمعة من «صحيحه» ، ورواه النسائي في «سننه» .
7608 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أكل طعاماً) أي ملوّثاً كالمائعات (لعق) بكسر المهملة وبالقاف (أصابعه الثلاث) الإبهام والمسبحة والوسطى يبدأ بالوسطى لأنها أكثر تلويثاً إذ هي أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما ينزل في الطعام ثم السبابة ثم التي تليها لخبر الطبراني في «الأوسط» «ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها، الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام» واعترض ذلك بأن نسبة الثلاث للفم سواء غفلة عن الخبر والمعنى المذكورين. وفيه رد على من كره لعق الأصابع استقذاراً. قال الخطابي: عاب قوم أفسد قلوبهم الترفه لعقها وزعموا أنه مستقبح كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع جزء ما أكلوه، وإذا لم يستقذر كله فلا يستقذر بعضه، وليس فيه أكثر من مصها بباطن الشفة، ولا يشك عاقل أن لا بأس بذلك، وقد

(5/58)


يدخل إنسان أصبعه في فيه ويدلكه ولم يستقذر ذلك أحد اهـ. ويؤيده أن الاستقذار إنما يتوهم في اللعق أثناء الأكل لأنه يعيدها في الطعام وعليها آثار ريقه وذلك غير سنة. وظاهر أن الكلام فيمن استقذر ذلك من حيث هو لا مع نسبته للنبي إذ من استقذر شيئاً من أحواله كفر، قاله في أشرف الوسائل (قال) أي أنس (وقال) أي النبيّ (إذ سقطت لقمة) بضم اللام (أحدكم فليمط) بضم التحتية: أي يزل (عنها الأذى) الذي لابسها عند سقوطها (وليأكلها) كسراً لنفسه في إبائها بحسب الطبع واستنكافها من تناولها بعد ملاقاتها ما سقطت عليه (ولا يدعها) بالجزم عطف طلبي على مثله: أي لا يتركها (للشيطان وأمر) عطف على قال (أن تسلت) بضم الفوقية: أي تلعق (القصعة) بفتح القاف وجمعها قصع بكسر ففتح وهي التي يأكل عليها عشرة أنفس كما في «مهذب الأسماء» ، والصحفة هي التي يأكل عليها خمسة أنفس على ما في «الصحاح» و «المهذب» ، وقيل هما واحدة، والمراد بالقصعة هنا مطلق الإناء الذي فيه الأدم المائع (قال: فإنكم لا
تدرون) أي لا تعلمون (في أيّ طعامكم البركة) أي هي في المأكول أم في الباقي بالأصابع والقصعة أو في الساقط. قال المصنف في شرح «مسلم» : معنى قوله فإنكم لا تدرون الخ: أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة، فلا يدري أهي فيما أكل أو فيما سقط أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي بأسفل الصحفة؟ فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصيل البركة. وأصل البركة: الزيادة وثبوت الخير والانتفاع به، والمراد هنا - والله أعلم - ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوّي على طاعة الله وغير ذلك اهـ (رواه مسلم) في الأطعمة من «صحيحه» ورواه أبو داود في الأطعمة من «سننه» والنسائي في الوليمة من «سننه» ومداره عندهم على حماد بن أسامة عن ثابت عن أنس، وقد تقدم الحديث في باب الأمر بالمحافظة على السنة من حديث جابر.

8609 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ما بعث) أي نبأ أو أرسل (الله نبيا إلا رعى الغنم) ليتدرب برعايتها إلى رعاية أمته الذين يدعوهم إلى ما أوحي إليه من الشرائع (قال أصحابه: وأنت) أي وأنت رعيتها أخذاً بعموم «نبياً» المذكور من نكارته في سياق النفي أو

(5/59)


لست كذلك، والمراد من عداك لأن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه فيكون عاماً: أي أريد به خاص فيكون مجازاً (قال: نعم) أي أنا منهم في ذلك، وبين ما قد يكتفي بدلالة نعم عليه بقوله (كنت أرعاها) زيادة في الإيضاح وتنبيهاً على التواضع وأن تعاطي الكامل ما فيه كسر النفس وعدم النظر إليها لا يخلّ من كمالها ما لم يكن فيه إخلال بمروءة أو وقوع في منهيّ عنه (على قراريط) اسم مكان بمكة وقيل جزء من الدرهم والديناري (لأهل مكة) متعلق بأرعاها ففيه أن الكسب لا يخل بالكمال، ويحتمل كونه ظرفاً مستقراً لقرار بناء على أنه اسم مكان بمكة (رواه البخاري) وتقدم مع شرحه وتخريجه في باب استحباب العزلة.
9610 - (وعنه عن النبي قال: لو دعيت إلى كراع) بضم الكاف وتخفيف الراء آخره عين مهملة: وهو من الدابة ما بين الركبتين إلى الساق، وقيل هو اسم مكان، ولا يثبت. ويرده حديث أنس عند الترمذي بلفظ «لو أهدي إليّ كراع لقبلت» وللطبراني في حديث أم حكيم الخزاعية «قلت: يا رسول الله، يكره ردّ الظلف؟ قال: ماأقبحه، لو أهدي إليّ كراع لقبلت» الحديث (أو ذراع) قال الحافظ: خص الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الخطير والحقير، لأن الذراع كانت أحبّ إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له، وفي المثل: أعط العبد كراعاً يطلب ذراعاً (لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت) قال ابن بطال: أشار إلى الحض على قبول الهدية، وإن قلت لئلا يمتنع الباعث من الهدية لاحتقار الشيء فحض على ذلك لما فيه من التآلف، وفي الحديث إجابة الداعي وإن قلّ المدعو إليه، وفي ذلك كله تحريض على التواضع وحث على تعاطي ما يبعث على التآلف ويغرس الوداد (رواه البخاري) في الهبة وفي النكاح من «صحيحه» ، ورواه النسائي في الوليمة من «سننه» .
10611 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كانت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء) بفتح المهملة

(5/60)


وسكون المعجمة بعدها باء موحدة فألف ممدودة. قال المصنف في «شرح مسلم» : قال ابن قتيبة: كانت للنبي نوق: القصوى، والجدعاء والعضباء، قال أبو عبيدة: العضباء اسم لناقة النبي، ولم تسم بذلك لشىء أصابها. قلت: وفي «تحفة القاري» للشيخ زكريا: ناقته لم تكن عضباء ولا قصوى، وإنما كان ذلك نعتاً لها، قاله الجوهري اهـ. وهو موافق لأبي عبيدة، ثم نقل عن القاضي أحاديث فيها ذكر الناقة قال: فهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة، وأن هذا كان اسمها أو وصفها بهذا الذي بها خلاف ما قاله أبو عبيدة، لكن يأتي أن القصوى غير العضباء. قال الحربيّ: العضب والجدع: الخرم والقصوى والخضرمة في الأذن. قال ابن الأعرابي: القصوى التي قطع طرف أذنها، والجدع أكبر منه. وقال الأصمعي في القصوى مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع، فإن جاوز الربع فهي عضباء، والمخضرمة المستأصلة، والعضباء المقطوعة النصف فما فوقه. وقال الخليل: المخضرمة مقطوعة الأذن، والعضباء مشقوقة الأذن. قال الحربي: والحديث يدل على أن العضباء اسم لها وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها، هذا كلام القاضي. وقال إبراهيم بن محمد التيمي التابعي وغيره: العضباء والقصوى والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. وفي «فتح الباري» اختلف هل العضباء هي القصوى أو غيرها؟ فجزم الحربي بالأول وقال: تسمى العضباء والقصوى والجدعاء، وروى ذلك ابن سعد عن الواقدي، وقال بالثاني غير وقال: الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحمله عند نزول الوحي غيرها، وذكر له عدة غير هذه جمعها من اعتنى بجميع سيره (لا تسبق أو) شك من حميد الراوي عن أنس كما صرّح به البخاري في كتاب الجهاد من «صحيحه» فقال حميد أو (لا تكاد) تقارب (تسبق) وهو في باقي الروايات «لا تسبق» بغير شك (فجاء أعرابي)
هو ساكن البادية. قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الأعرابي بعد التتبع الشديد (على قعود له) بفتح القاف: هو ما استحق الركوب من الإبل، قال الجوهري: هو البكر حتى يركب، وأقل ذلك أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل في السادسة فيسمى جملاً. وقال الأزهري: لا يقال إلا للذكر، ولا يقال للأنثى قعود إنما يقال لها قلوص، قال: وقد حكى الكسائي في النوادر قعودة للقلوص وكلام الأكثر على غيره. وقال الخليل: القعود ما يعتقده الراعي يحمل متاعه والهاء فيه للمبالغة (فسبقها فشق ذلك) أي سبقها (على المسلمين حتى عرفه) أي عرف النبيّ شق السبق عليهم. وفي الرقاق من البخاري: فلما رأى ما في وجوههم

(5/61)


وقالوا: أي سبقت العضباء (فقال) النبيّ من حسن خلقه إذهاباً لذلك الغضب من نفوسهم: إن هذا السبق لهذه من جنس ما جرت به الأقضية الإلهية من ضعة المرتفع من الدنيا فيها كائناً ما كان (حق) أي واجب (على الله) تعالى لقضائه به على ذاته (ألاّ يرتف شيء من الدنيا) من مال أو جاه أو غيرها ذلك من زهرات الدنيا وما ينظر إليه منها (إلا وضعه) ففيه التزهيد في الدنيا وإغماض الطرف عن زهراتها، فإنها تتناهى في مكان من النظر الفائق إذا بها صارت بأدنى حال ما لم تنظر إليها العيون. قال ابن بطال: فيه هوان الدنيا على الله والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، وفيه الحث على التواضع وطرح رداء التكبر والإعلام بأن أمور الدنيا ناقصة غير كاملة، وفيه ما كان عليه لحسن خلقه من إذهاب ما يشق على أصحابه عنهم وما كان قصد به من الدنيا التقرّب إلى الله تعالى فليس منها إنما هو فيها فلا يدخل تحت هذا الخبر، بل لا يزال مرفوعاً دنيا وأخرى، وفيه تواضعه إذ سابق أعرابياً (رواه البخاري) في الجهاد وفي الرقاق من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الجهاد من «سننه» .

72 - باب تحريم الكبر
هو: احتقار المرء غيره وازدراؤه له، والكبر على الله كفر بأن لا يطيعه ولا يقبل أمره، فمن ترك أمر الله أو وقع في منهيه استخفافاً به تعالى فهو كافر، وأما من تركه لا على سبيل ذلك بل لغلبة الشهوة أو الغفلة فعاص. والتكبر على الخلق وهو ما عرّف به الكبر في الترجمة فعصيان إن لم يكن فيه استخفاف الشرع، وإلا كأن يحقر نبياً أو ملكاً أو عالماً عن اعتقاد حقارة العلم فذاك كفر أيضاً قاله المظهري (والإعجاب) أي النظر إلى النفس بعين الكمال والفخر بما فيها من علم أو صلاح صورى أو عندها من مال أو جاه (قال الله تعالى) : ( {تلك الدار الآخرة} ) الإشارة لتعظيم الآخرة: أي التي سمعت بذكرها، أو بلغك وصفها هي

(5/62)


الدار الآخرة ( {نجعلها} ) إما خبر تلك والدار صفة أو الدار خبره، والجملة استئناف أو خبر بعد خبر ( {للذين} ) أو حال من الدار والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ( {لا يريدون علواً} ) كبراً أو استكباراً ( {في الأرض} ) يحتمل أن يكون مستقراً على أنه صفة لما قبله، ويحتمل أن يكون لغواً متعلقاً به ( {ولا فساداً} ) عملاً بالمعاصي أو دعوة الخلق إلى الشرك ( {والعاقبة} ) الحسنى ( {للمتقين} ) عن معاصيه (وقال تعالى) : ( {ولا تمش في الأرض مرحاً} ) بفتح أوليه عند الجمهور وسيأتي معناه في الأصل وهو مصدر في موضع الحال أي مرحاً أو ذا مرح أو مفعول له. قلت: فيكون كقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس} (الأنفال: 47) ويجوز أن يكون مفعولاً من معناه مطلقاً عامله: أي لا تمرح مرحاً وقرىء بكسر الراء منصوب على الحال، وفضل أبو الحسن المصدر على اسم الحال لما فيه من التأكيد: أي والمبالغة، ولم يظهر حكمة إيراد هذه الآية مع أنها من جملة التي بعدها، ولعل المصنف كتبها قبل استحضار ما بعدها ثم رأى إبقاءها وإن اشتمل ما بعدها عليها تأكيداً في النهي عن ذلك بذكر ما فيه النهي عنه المرة بعد الأخرى (وقال تعالى) : ( {ولا تصعر خدك
للناس} ) كما يفعله المتكبر أي تعرض وجهك عنهم إذا حدثوك تكبراً ( {ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب} ) أي لا يوافق ( {كل مختال فخور} ) ذي خيلاء أي تكبر يفخر على الناس ولا يتواضع لهم. وقوله إن الله الخ مستأنفة على النهي (ومعنى تصعر خدك) برفع تصعر كما يومىء إليه قوله (أي تميله) إذ لو كان المفسر مجزوماً لكان المفسر كذلك لأن ما بعد أي عطف بيان لما قبله أو بدل منه والمراد تميله عن مخاطبك (وتعرض عن الناس) حال خطابهم لك (تكبراً عليهم) مفعول له بخلاف ما إذا به كانت الإمالة والإعراض عن الناس المخاطبين تأديباً لهم لكونهم وقعوا في منكر أو تركوا معروفاً

(5/63)


فذلك لا يكون تصعيراً بل هو مندوب، فقد أمر بمهاجرة الثلاثة المخلفين حتى نزلت توبتهم، وفي الحديث «من أحبّ لله وغضب لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (والمرح) أي بفتح أوليه مصدر معناه (التبختر) وذلك يكون عن الإعجاب النفس واحتقار الناس.
(وقال تعالى) : ( {إن قارون} ) اسم أعجمي فلذا منع من الصرف (كان من قوم موسى) ابن عمه كما قال ابن جريج وإبراهيم النخعي وهو أشهر الأقوال، وقال ابن إسحاق: هو عمه، وقيل هو ابن خالته، وهو بالإجماع من بني إسرائيل آمن بموسى وحفظ التوراة ثم لحقه الزهو والإعجاب (فبغى) أي تكبر (عليهم) بأنواع من البغي، من ذلك كفره بموسى واستخفافه به ورميه له بما رماه من البغي فبرأه الله من ذلك، وقيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم وبغى عليهم، وقيل بغى بكثرة ماله، وقيل بزيادة في طول ثيابه شبراً وقيل بالكبر والعلو (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه) جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب، وقيل خزائنه، قال ابن عطية وأكثر المفسرون في شأن قارون: فروي أن في الإنجيل أن مفاتيح قارون كانت من جلود الإبل، وكان المفتاح من نصف سير وكانت وقر ستين بعيراً أو بغلاً لكل كنز مفتاح، وقد روي غير هذا مما يقرب منه، وذلك كله ضعيف، والنظر يشهد بفساده، ومن كان الذي يميز بعضها عن بعض وما الداعي إلى هذا وفي الممكن أن ترجع كلها إلى مالا يحصى ويقدر على حصره بسهولة، ولكان يقال مفاتيح بالياء كما قرىء به شاذاً، والذي يشبه على هذا أن تكون المفاتيح من حديد ونحوه وفي «النهر» قيل أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام، وقيل سمى ماله كنوزاً لأنها كانت لا تزكى، وبسبب ذلك كانت أول معاداته لموسى. وفي «تفسير الكواشي» قيل: سبب كثرة ماله أنه كان يعلم الكيمياء ويعلمها وما موصولة ثاني مفعولي آتى وصلتها إن ومعمولاها ( {لتنوء بالعصبة} ) أي الجماعة الكثيرة ( {أولي القوة} ) والجملة خبر إن، ومعنى تنوء: تثقل. قال أبو حيان: الصحيح أن الباء للتعدية: أي لتثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها يتعب حفظها القائمين عليها اهـ. وهو ما نحاه سيبويه وشيخه الخليل فجعلا الباء للتعدية وقالا: التقدير لتنوء العصبة، فجعل بدل ذلك تعدية الفعل بحرف الجر

(5/64)


كما
تقول: ناء الحمل وأناءه ونؤت به بمعنى جعلته ينوء، وجعله ابن عطية من باب القلب فقال: والوجه أن يقال لتنوء العصبة بالمفاتيح المثقلة لها، وكذا قال كثير من المتأولين إن المراد هذا، لكنه قلب كما تفعله العرب كثيراً، ثم نقل ما تقدم عن سيبويه: ثم قال: ويحتمل أن تنوء مسند إلى المفاتيح إسناداً مجازياً لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها. والعصبة قال ابن عباس: ثلاثة، وقال قتادة: من العشرة إلى الأربعين، وقال مجاهد خمسة عشر، وقيل أحد وعشرون. وقيل أربعون ( {إذ قال له قومه} ) قال «البيضاوي» «كالكشاف» منصوب بتنوء، قال في «النهر» : وهو ضعيف جداً لأن إيناء المفاتيح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له. وقال ابن عطية: متعلق ببغى، قال أبو حيان: وهذا ضعيف أيضاً لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول. قال ابن عطية أيضاً: ويجوز أن يكون ظرفاً لمحذوف دل عليه الكلام: أي بغى عليهم وقت قولهم له. قال في «النهر» : ويظهر لي أن يكون التقدير: وأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز وقت قولهم له (لا تفرح) أي فرحاً مطغياً، وهو انهماك النفس والأشر والإعجاب، ونهى عنه لأن الفرح بالدنيا مذموم لأنه ينتجه حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بمفارقة ما فيها من اللذات لا محالة يوجب النزع، قال الشاعر:

أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالاً
وعلل النهي هنا بقوله ( {إن الله لا يحبّ الفرحين} ) أي بزخارف الدنيا، قال ابن عطية: لا يحبّ في هذا الموضع صفة فعل لأنه أمر قد وقع لا محالة، فمحال أن يرجع إلى الإرادة وأنها هو، لا تظهر عليهم بركته ولا تعمهم رحمته ( {وابتغ} ) أي اطلب ( {فيما آتاك الله} ) من المال ( {الدار الآخرة} ) بأن تصرفه في مرضاة الله تعالى ( {ولا تنس نصيبك من الدنيا} ) (القصص: 77) أي ما ينفعك منها في المآل وما هو إلا الأعمال الصالحة فنصيب الإنسان من الدنيا عمره وعمله الصالح فيه فلا ينبغي أن يهمله، وقيل هو أخذ ما يكفيك منها

(5/65)


( {وأحسن} ) فيما أنعم الله عليك ( {كما أحسن الله إليك} ) وقيل أحسن بالشكر والطاعة، كما أحسن إليك بالإنعام (ولا تبغ) أي تطلب (الفساد في الأرض) بأمر يكون علة للظلم والبغي، قيل كل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض ( {إن الله لا يحبّ المفسدين} ) لسوى أفعالهم (قال) أي لما وعظه قومه وأخذته العزّة بالإثم وأعجب بنفسه ( {إنما أوتيته على علم عندي} ) أي فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلاً لهذا ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. واختلف في هذا العلم فقيل علم التوراة وحفظها، قالوا: وكانت هذه مغالطة منه، وقيل العلم بالتجارة ووجوه تثمير المال فكأنه قال أوتيته بإدراكي وسعيي، وقيل علم الكيمياء، وقيل مراده إنما أوتيته على علم من الله وتخصيص من لدنه قصدني به: أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم، وعلى هذا فقوله عندي خبر مبتدأ: أي هذا عندي كما تقول: في معتقدي أو في رأيي، وعلى كلا الوجهين فقد نبه القرآن على خطئه في اعتزازه ( {أولم يعلم} ) عطف على مقدر: أي عنده مثل ذلك العلم الذي ادعى ولم يعلم ( {أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوّة وأكثر جمعاً} ) فلا تدل كثرة المال على أن صاحبها يستحق رضا الله ليبقى بعلمه بذلك نفسه مصارع الهالكين ( {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} ) سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليه أو
معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة فلا ينافي الآيات التي فيها سؤال المجرمين لأنه سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت ( {فخرج على قومه في زينته} ) قال ابن عطية: أكثر المفسرون في تحديد زينة قارون وتعيينها بما لا حجة له فاختصرته (

{قال الذين يريدون الحياة الدنيا} ) على ما هو عادة الناس من الرغبة فيها ( {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون} ) تمنوا مثله لاعينه حذراً عن الحسد ( {إنه لذو حظ} ) أي نصيب ( {عظيم} ) من الدنيا ( {وقال الذين أوتوا العلم} ) أي الأحبار لمن تمنى (ويلكم) دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرضى ( {ثواب الله} ) في الآخرة ( {خير} ) مما أوتي قارون ( {لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها} ) الضمير للكلمة التي تعلم بها العلماء أو للثواب فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو الإيمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة، وجرى ابن عطية على أن الضمير عاد إلى غير مذكور لفظاً دل عليه المقام كهو في حتى توارت بالحجاب، وكل من عليها فان ( {إلا الصابرون} ) أي على الطاعات وعن الشهوات وهذا جماع الخيرات كلها ( {فخسفنا به} )

(5/66)


أي بقارون ( {وبداره الأرض} ) وذلك لدعاء موسى عليه وأمر الله الأرض بطاعة موسى فقال لها: يا أرض خذيهم فأخذته ومن معه، ففي الآيات شؤم البغي وسوء مصرع الكبر، قال الشاعر:
والبغي مصرع مبتغيه وخيم
1612 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ قال: لا يدخل الجنة) أي أبداً إن استحلّ ما يأتي مع علمه بتحريمه، والمراد من في قلبه كبر عن الإيمان. وقيل لا يدخلها ذو كبر: أي لا يكون في قلبه شيء منه حال دخولها، قال تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ} قال المصنف: وهذا كتأويل الخطابي فيهما بعد، فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر الآتي معناه في الحديث، فلا ينبغي حمله على هذين المخرجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخلها دون مجازاة إن جازاه، وقيل هذا جزاؤه إن جازاه وقد تكرم بأنه لا يجازيه، بل لا بد أن يدخل كل الموحدين الجنة إما أولاً وإما ثانياً بعد تعذيب أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها، وقيل لا يدخلها مع المتقين أول وهلة (من في قلبه مثقال ذرة) أي زنة نملة صغيرة أو جزء من أجزاء الهباء (من كبر) بكسر فسكون (فقال رجل) هو مالك بن مرارة بضم الميم الرهاوي بفتح الراء فيما ذكره الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، وبضمها كما يؤخذ من كلام الجوهري في «صحاحه» وكون القائل مالكاً، قاله القاضي عياض وأشار إليه ابن عبد البرّ وقد جمع ابن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالاً من جهات فقال: هو أبو ريحانة واسمه شمعون ذكره ابن الأعرابي. وشمعون قال المصنف بالشين المعجمة وإهمال العين وإعجامها، وقيل ربيعة ابن عامر ذكره عليّ ابن المديني في «الطبقات» . وقيل سواد بالتخفيف ابن عمرو ذكره ابن السكن، وقيل معاذ بن جبل ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع. وقيل مرارة الرهاوي ذكر أبو عبيد في غريب الحديث، وقيل عبد الله بن عمرو بن العاص ذكره عمر في «جامعه» ، وقيل خُريم بن فاتك هذا ما ذكره ابن بشكوال ذكره المصنف في «شرح مسلم» (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: إن اللَّه جميل يحب الجمال) أي فليس ذلك من

(5/67)


الكبر: أي إذا لم يكن على وجه الفخر والخيلاء والمباهاة بل
على سبيل إظهار نعمة الله امتثالاً لقوله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11) واختلف في معنى قوله «إن الله جميل» فقيل معناه: كل أمره جميل فله الأسماء الحسنى والصفات العلا. وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم بمعنى مكرم. وقال القشيري: معناه جليل. وحكى الخطابي أنه بمعنى ذي النور والبهجة: أي مالكها. وقيل معناه جميل الأفعال بكم والنظر إليكم، يكلفكم اليسير ويغنيكم عن الكثير ويثيب الجزيل ويشكر عليه. واعلم أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد، وورد أيضاً في الأسماء الحسنى وفي إسناده مقال، والمختار جواز إطلاقه عليه تعالى. ومن العلماء من منعه، قال إمام الحرمين: ما ورد في الشرع إطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع من إطلاقه منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم لأن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكماً بغير الشرع، قال: ثم لا يشترط في جواز الإطلاق ورود ما يقطع به في الشرع ولكن ما يقتضي العمل وإن لم يوجب العلم فإنه كاف، إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل، ولا يجوز التمسك بها في تسمية الله تعالى ووصفه، هذا كلام إمام الحرمين ومحله من الإتقان والتحقيق بالعلم مطلقاً، وبهذا العلم خصوصاً معروف بالغاية العليا، وكذا قال القاضي عياض: الصواب جواز العمل في ذلك بخبر الآحاد لاشتماله على العمل: أي بأن يدعي بها ويثني على الله بها، وذلك عمل لقوله
{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف: 180) (الكبر بطر الحق) وعدم الانقياد له (وغمط الناس. رواه مسلم) في كتاب الإيمان من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في كتاب اللباس من «سننه» ، والترمذي في البرّ والصلة من «جامعه» ، والنسائي في السنة من «سننه» ، ومداره عندهم على الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود اهـ ملخصاً من «الأطراف» (بطر) بفتح الموحدة والطاء والراء المهملتين (الحق دفعه) قال في «النهاية» : هو أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده وعبادته باطلاً. وقيل هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله اهـ. قلت: وعليه فالدفع على المعنى الأول عدم الإذعان لذلك، وعلى المعنى الثاني عدم الانقياد. ومن الأول آية النساء {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (النساء: 65) الآية. ومن الثاني آية النور في صفة المنافقين {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم

(5/68)


معرضون} (النور: 48) أقول: إن جعلت أل في الحق للاستغراق فالكبر لا يكون إلا من الكافر وهو لا يدخلها أبداً، وإن أريد بالحق بعض أفراده: أي ما عدا الإيمان من أحكام الشرع كان الكبر موجوداً في الكافر والمؤمن، لأنه قد يمتنع من الانقياد له عصياناً ولا يخرجه ذلك عن إيمانه، ويؤيد إرادة الثاني قوله (ورده على قائله) أي كائناً من كان من كبير أو صغير جليل أو حقير، وذلك الدفع والردّ قد صدرا منه ترفعاً وتجبراً، أما لو لم يتضح له حقيقة أمر ولم ينقد له ورده على قائله لا تكبراً عن الحق ولا ترفعاً عليه بل لعدم ظهور أن ذلك من الحق عنده فلا يكون من الكبر، وقد تقدم في التواضع أنه قبول الحق والإذعان له من غير نظر لقائله فهذا ضده (وغمط الناس) بفتح الغين المعجمة وسكون الميم وبالطاء المهملة، قال: وبالظاء ذكره أبو داود في «مصنفه» ، وذكره أبو عيسى الترمذي وغيره بالصاد المهملة وهما بمعنى واحد، وهو ما بينه المصنف بقوله (احتقارهم) يقال في الفعل منه غمطه يغمطه
من باب ضرب، وجاء من باب علم.
2613 - (وعن سلمة) بفتح أوليه (ابن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً) تقدم تعيينه مع الكلام على الحديث وشرحه في باب المحافظة على السنة (أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله) يحتمل أن يكون فعله لذلك ابتداء جهلاً بالسنة ثم لما عرفها كما قال (فقال) يعني النبيّ (كل بيمينك) أي كما هو الأدب المندوب المحبوب، أخذته نفسه فلم ينقد للحق واعتذر بما ليس كذلك في الواقع (فقال: لا أستطيع) أي الأكل بها أي لعلة تمنع من إعمالها (فقال: لا استطعت) ويحتمل أن يكون ذلك منه من أوّل الأمر عناداً واستكباراً فأصابه ما أصابه، وقوله (ما منعه إلا الكبر) جملة مستأنفة لبيان الذي اقتضى دعاءه عند ذلك مع كمال رحمته ومزيد عفوه وصفحه: أي إنه لما علم أن المانع له عن الانقياد كبره عن الحق ودفعه له دعا عليه، ففيه الدعاء على من قصد الخروج عن الشريعة عمداً (قال) أي سلمة (فما رفعها) أي فما رفع المدعو عليه شماله (إلى فيه) إجابة لدعائه، وقدمنا ثمة أنه

(5/69)


كان مؤمناً خلافاً لما قال القاضي عياض إنه كان من المنافقين (رواه مسلم) في باب الأطعمة من «صحيحه» .
3614 - (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة (ابن وهب) وهو الخزاعي أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه، ذكره ابن الأثير في «أسد الغابة» وقال روى عنه أبو إسحاق السبيعي ومعبد بن خالد الجهني ثم أخرج عنه الحديث الذي فيه الكلام ولم يزد عليه في ترجمته (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا أخبركم بأهل النار؟) أي بأغلبهم (كل عتلّ) بضم المهملة والفوقية وتشديد اللام: أي غليظ جاف (جواظ) بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: أي جموع منوع. وقيل المختال في مشيته (مستكبر) وفي التعبير بتاء الاستفعال إيماء إلى أن داء الكبر يطلبه لنفسه وليس هو له، بل الذي له العبودية والتذلل، والكبرياء لله سبحانه (متفق عليه. وتقدم شرحه) ومن خرّجه (في باب ضعفة المسلمين) وكذا ذكر في الباب المذكور الحديث عقبه.
4615 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: احتجت الجنة والنار) قال المصنف: هو على ظاهره، وإن الله تعالى جعل فيهما تمييزاً يدركان به فتحاجا، ولا يلزم من ذلك دوام التمييز لهما (فقالت النار: فيَّ الجبارون) قال الراغب في «مفرداته» :

(5/70)


الجبار في صفة الإنسان يقال لمن تجبر بمعصية بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، ولا يقال إلا على طريق الذم نحو {وخاب كل جبار عنيد} (إبراهيم: 15) ويقال للقاهر غيره جبار نحو {وما أنت عليهم بجبار} (ق: 45) اهـ. قلت: والأنسب هنا المعنى الأول بقرينة قرينه وهو (والمتكبرون) وأنه جاء عند أبي هريرة «أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين» كما سيأتي، ويحتمل المعنى الثاني ويراد يجبر غيره على الباطل فيكون مذموماً إذ الجبر على الحق لمن تمكن منه محمود، وفي التعبير بصيغة التفعيل إيماء إلى ما تقدم فيما قبله من تكلف المتكبر صفة التكبر وادعائه ما ليس له (وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس) جمع ضعيف وألفه ممدودة: أي الخاضعون لله سبحانه المذلون أنفسهم له (ومساكينهم) جمع تكسير لمسكين: أي ذوو حاجاتهم من فقير ومسكين قال الشافعي رضي الله عنه: الفقير والمسكين إذا اجتمعا: أي في الذكر افترقا: أي في المعنى، وإذا افترقا: أي بأن ذكر أحدهما فقط اجتمعا: أي في المعنى بأن يفسر المذكور بما يشملهما (فقضى الله بينهما) أي فصل بينهما قائلاً (إنك) بكسر الهمزة والكاف (الجنة) يجوز رفعه كما رأيته مضبوطاً بالقلم في أصل مصحح من الرياض خبر إن ونصبه بدلاً من الضمير بدل كل، وقوله (رحمتي) خبر إن على الثاني، وعلى الأول خبر بعد خبر، ويكون ذلك الخبر الأول كالموطىء للثاني نحو جاء كما في جاء زيد رجلاً راكباً من الحال الموطئة وضابطها كل جامد موصوف بما يبين الهيئة به، وظاهر أن ما ذكر يجيء في قوله وإنك النار الخ، وجملة (أرحم بك من أشاء) مستأنفة ببيان حكمة إنشائها وإيجارها، ويجوز
كونهاحالاً مما قبلها (وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء) وتقديم الأول على الثاني إيماء إلى سبق الرحمة على العذاب والفضل على العقاب (ولكليكما عليّ ملؤها) أي ما يملؤها من الخلائق (رواه مسلم) في باب صفة الجنة والنار منفرداً به عن باقي السنة، لكن قضية صنيع المصنف أنه ساقه بهذا اللّفظ عن أبي سعيد. والذي في مسلم أنه أورد الحديث عن أبي هريرة من طرق قال في أولها «تحاجت النار والجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، فقالت الجنة: وما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم، فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاى من عبادي، وقال للنار: أنت النار أعذب بك من أشاء

(5/71)


من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلىء فيضع قدمه عليها فتقول قط قط، فهنالك تمتلىء ويزوى بعضها إلى بعض، وفي باقيها عنه نحو هذا وفي آخره «قال اللَّه للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أتت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» الحديث، وهو بهذا اللّفظ عند البخاري بالطريق التي عند مسلم، ثم أورد مسلم الحديث عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله «احتجت الجنة والنار» وقال مسلم: فذكر أبو سعيد نحو حديث أبي هريرة إلى قوله: ولكليكما عليّ ملؤها، ولم يذكر ما بعده من الزيادة انتهت عبارة مسلم، وبهذا يظهر أن ما ساقه المصنف من لفظ الحديث لم يسقه مسلم كذلك، وإنما أشار إلى أنه نحو حديث أبي هريرة، ولعل المصنف وقف عليه من طريق آخر أن هذا لفظه، وأنه الذي أشار إليه الحافظ مسلم بقوله نحو حديث أبي هريرة والله أعلم.
5616 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينظر الله يوم القيامة) أي نظر رحمة (إلى من جر إزاره بطراً) بفتح أوليه الموحدة والطاء المهملة، قال الراغب: البطر دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها، ويقارب البطر الطرب وهو خفة أكثر ما يعتري من الفرح، وقد يقال ذلك من البرح اهـ. وبطراً منصوب على العلة أو الحالية بتقدير مضاف: أي ذا بطر أو بتأويله بالوصف أي بطراً أو بإبقائه على ظاهره مبالغة في وصفه كأنه عينه (متفق عليه) أخرجاه في اللباس، وعندهما عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» قال المصنف: والخيلاء بالمد والمخيلة والبطر والزهو والكبر والتبختر كلها بمعنى واحد، وهو حرام، وحديث ابن عمر يدل على أن الإسبال يكون في الإزار والقميص والعمامة، والمستحبّ فيما ينزل إليه طرف القميص والإزار من الرجل نصف الساق، ففي حديث أبي سعيد مرفوعاً: «إزرة المؤمن إلى أنصاف سامية لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين فما نزل عن الكعبين

(5/72)


فممنوع تحريماً إذا كان على سبيل الخيلاء وتنزيهاً إن لم يكن كذلك والأحاديث المطلقة بأن ما تحت الكعبين في النار محمولة على ما كان للخيلاء، لأن المطلق يحمل على المقيد، قاله المصنف في «شرح مسلم» ، وحديث أبي هريرة قال السيوطي في «الجامع الكبير» : خرّجه البيهقي أيضاً في «الشعب» ، ولم أره تعرض فيه لحديث ابن عمر مرفوعاً «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» مع أنه عندهما وهذا من العجب/ والنسيان من طبع الإنسان وبالله المستعان.
6617 - (وعنه قال: قال رسول الله: ثلاثة) أي أصناف ثلاثة، أو ثلاثة من الأصناف، فللوصف ساغ الابتداء به (لا يكلمهم الله يوم القيامة) كناية عن الغضب أو لا يكلمهم بما يسرهم، قال المصنف: وقيل المعنى لا يكلمهم تكليم أهل الخير بإظهار الرضا بل كلام أهل السخط (ولا يزكيهم) أي لا يقبل أعمالهم فيثنى عليهم أو لا يطهرهم من الذنوب (ولا ينظر إليهم) أي نظر رحمة (ولهم عذاب أليم) أي مؤلم، قال الواحدي: هو الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، قال: والعذاب كل ما يعي الإنسان ويشق عليه، وهذا منه على أن أليم بمعنى مؤلم اسم فاعل، ويجوز أن يكون بمعنى المفعول فيكون فيه إيماء إلى شدة فظاعة العذاب، لأنه إذا تألم من نفسه فكيف بمن فيه، وقدم الخبر للاهتمام به تحذيراً عما يؤدي إلى الاندراج في شيء منه (شيخ) أي من طعن في السن واستطال فيه، وذلك من الخمسين فما فوق (زان، وملك) بكسر اللام (كذاب، وعائل مستكبر) قال القاضي عياض: سبب تخصيص هؤلاء بهذا الوعيد أن كلاً منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب، لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعي معتادة أشبه إقدامهم عليها المعائدة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها، فإن الشيخ لكمال عقله وتمام معرفته بطول ما مرّ عليه من الزمان وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلاف دواعيه لذلك عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا وتخلى سرّه فكيف بالزنى الحرام، وإنما دواعي ذلك الشباب والحرارة الغريزية وقلة المعرفة وغلبة الشهوة لضعف العقل وصغر السن. وكذلك الإمام لا يخشى من أحد من رعيته، ولا يحتاج إلى مداهنة ومصانعة، فإن الإنسان إنما يداهن ويصانع بالكذب من يحذره ويخشى أذاه أو معاتبته ويطلب عنده بذلك منزلة أو منفعة

(5/73)


فهو غنى عن الكذب مطلقاً، وكذلك الفقير العائل قد عدم المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والكبر
الارتفاع عن القرناء بالثروة في الدنيا لكونه ظاهراً فيها وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويستحقر غيره؟ فلم يبق فعله وفعل الشيخ الزاني والإمام الكاذب إلا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى اهـ (رواه مسلم) في كتاب الإيمان من «صحيحه» ، ورواه النسائي في الرحم من «سننه» (العائل الفقير) من العيلة بفتح العين وهو الفقر وجمع عائلاً عالة وهو في تقدير فعله ككافر وكفرة، قاله في «المصباح» .

7618 - (وعنه: قال رسول الله: يقول الله عزّ وجل: العزّ إزاري والكبرياء ردائي) قال المظهري: الكبرياء غاية العظمة والترفع عن أن ينقاد لأحد أو إلى شيء بوجه من الوجوه، وهذا لا يكون إلا لله، والإزار والرداء متشابهان، لأن الرداء ما يلبس به الرجل رأسه وكتفه وأسفل من ذلك، والإزار ما يلبس به الرجل من وسطه إلى قدميه، والعزّ والكبرياء صفتان مختصتان بي لا يشاركني فيهما غيري كما لا يشارك الرجل في ردائه وإزاره اللذين هما لباساه (فمن نازعني عذبته) يقال نازعه إذا جذب وأخذ شيئاً من واحد وجذب ذلك الواحد من صاحبه ذلك ويقول كل منهما هذا ملكي وحقي: أي يقول تعالى: إن هذين حق لا يستحق واحداً منهما غيري، فمن ادعى العزّ أو الكبرياء فقد خاصمني ومن خاصمني صار كافراً عذبته (رواه مسلم) قال المزي في «الأطراف» : رواه في اللباس من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الزهد وابن ماجه في «سننهما» / ورواه البزار اهـ ملخصاً. وفي الأحاديث القدسية التي جمعها الحافظ العلائي بعد إبراد الحديث عن الأغرّ عن أبي هريرة كما أورده مسلم باللفظ المذكور ما لفظه متفق عليه من هذا الوجه.
8619 - (وعنه: أن رسول الله قال: بينما رجل) قال الدماميني في «المصابيح» نقلا عن

(5/74)


السهيلي في «مبهمات القرآن» : إنه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم من الترك. وفي «صحاح الجوهري» : إنه قارون اهـ. وفي «تفسير الخازن» : قال قتادة: خسف به، أي قارون فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغها: أي إلى قعرها إلى يوم القيامة (يمشي في حلة) بضم المهملة: ثوب له ظهارة وبطانة (تعجبه نفسه) جملة مستأنفة لبيان سبب الخسف به أو حالية من ضمير يمشي أو خبر بعد خبر (مرجل رأسه) بتشديد الجيم من الترجيل وهو تسريح الشعر (يختال) أي يزهو ويتكبر في مشيته بكسر الميم (إذ خسف الله به) أشار ابن حجر الهيثمي في شرح حديث جبريل في الإسلام والإيمان والإحسان أن إذ أفادت هنا مع كونها ظرف زمان المفاجأة. قال وخالف في ذلك أبو حيان في «بحره» فقال: وهو ملازم للظرفية، ولا يكون مفعولاً به ولا حرفاً للتعليل أو المفاجأة ولا ظرف مكان خلافاً لزاعمي ذلك اهـ. وقد بسطت الكلام في «إذ» في أوّل رسالتي في قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} (البقرة: 60) (فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة) وإنما فعل به ذلك تدريجاً ليدوم عليه العذاب فيكون أبلغ في نكايته وإهانته لكبره (متفق عليه) روياه في اللباس. والذي في مسلم في روايته «قد أعجبته جمته وبرداه» وفي أخرى له «بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه» وفي رواية له «بينما رجل يتبختر يمشي في بردين» وفي رواية «إن رجلاً ممن كان قبلكم يتبختر في حلته» ولم أر قوله «يختال في مشيته» عند البخاري في أبواب اللباس ولا عند مسلم، والله أعلم (مرجل رأسه: أي ممشطه) كذا بصيغة الماضي والأنسب ممشط قال: بصيغة الوصف (يتجلجل بالجيمين: أي يغوص وينزل) به إلى أسفل. وروي بالخاء المعجمة واستبعده القاضي إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذ أخذت ما عليه من اللحم، ورويناه في غير الصحيحين بحاء مهملة.
9620 - (وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يزال الرجل يذهب

(5/75)


بنفسه) قال العاقولي: الباء فيه للتعدية: أي يرفع نفسه ويعتقدها عظيمة مرتفعة المقدار على الناس، ويجوز أن تكون للمصاحبة: أي يرافقها ويوافقها على ما تريد من الاستعلاء ويعززها ويكرمها كما يكرم الخليل الخليل حتى تصير متكبرة. وفي الأساس ذهب به فرّ مع نفسه، ومن المجاز ذهب به الخيلاء اهـ (حتى يكتب في الجبارين) أي من جملتهم ومندرجاً غمارهم (فيصيبه ما أصابهم) أي من العذاب، وأتى به بلفظ ما الموصولة تفظيعاً في الوعيد (رواه الترمذي) في البر والصلة (وقال: حديث حسن. يذهب بنفسه: أي يرتفع ويتكبر) سكت عن الكلام على الباء وقد علمته.

73 - باب حسن الخلق
بضم المعجمة واللام وقد تسكن تخفيفاً، وحسن الخلق: ملكة بالنفس يقتدر بها على صدور الأفعال الجميلة بسهولة، واختلف هل هو غريزي، أو كسبي؟
(قال الله تعالى) : ( {وإنك لعلى خلق عظيم} ) سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن: أي آدابه وأوامره. وقال عليّ: الخلق العظيم آداب القرآن. وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع، وذلك لا محالة رأس الخلق ووكيده، إما أن الظاهر من الآية أن الخلق الذي أثنى تعالى عليه به فهو كرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب، ومنه قوله «بعثت لأتمم مكارم الأخلام» وقال الجنيد: سمى خلقه عظيماً إذ لم يكن همه سوى الحق سبحانه عاشر الخلق يخلقه وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق. وفي وصية الحكماء: عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق وحسن الخلق خير كله. وقيل وصف خلقه بالعظم إشارة إلى أنه كان يؤدي كل مقام من رفق وغلظ حقه، فكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، وكان يغلظ على الكفار وينتقم لله سبحانه.
(وقال تعالى)

(5/76)


( {والكاظمين الغيظ} ) الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه ( {والعافين} ) التاركين ( {عن الناس} ) عقوبة استحقوها قبلهم ( {والله يحبّ} ) أي يثيب ( {المحسنين} ) إشارة إلى أن هؤلاء في مقام الإحسان.
1621 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله أحسن الناس خلقاً) كيف وقد قال «أدبني ربي فأحسن تأديبي» (متفق عليه) وعندهما من حديث البراء بن عازب «كان النبيّ أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً» الحديث.
2622 - (وعنه قال: ما مست) بكسر السين وجاء بفتحها: من باب قتل، والمس الإفضاء باليد بلا حائل، هكذا قيدوه، كذا في «المصباح» (ديباجاً) بكسر الدال المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة آخره جيم: وهو ثوب سداه ولحمته إبريسم ويقال هو معرّب، واختلف في الياء فقيل زائدة ووزنه فيعال ولذا يجمع على ديابيج، وقيل هي أصل والأصل دباج بالتضعيف فأبدل من أحد الضعفين حرف العلة ولذا ترد في الجمع إلى الأصل فيقال دبابيج بياء موحدة بعد الدار (ولا حريراً) هو الإبريسم وهو هنا من باب الترقي لأنه أنعم من الديباج (ألين من كفّ رسول الله) لا ينافيه ما جاء في صفته أنه شثن الكف والقدمين بالمعجمة والمثلثة، وضبطه الحافظ السيوطي بالمثناة الفوقية بدل المثلثة، وفسره الأصمعي بالغلظ مع الخشونة، فأورد عليه أنه جاء في صفته عند البخاري وغيره أنه لين الكف، فحلف أن لا يفسر شيئاً في الحديث، إما أن ذلك تفسير لشثنها لا في خصوص هذا الحديث والمراد منه فيه ميلها إلى الغلظ من غير قصر ولا خشونة: أي غلظ العضو لا خشونة الجلد وهذا محمود في الرجال كما في «النهاية» ، لأنه أشد لقبضهم لا في النساء، وإما لأن المراد اللين بحسب أصل الخلق والخشونة لعارض عمل أو سفر. والكفّ هي الراحة مع الأصابع، سميت

(5/77)


بذلك لأنها تكفّ الأذى عن البدن وهي مؤنثة. وقال ابن الأنباري: زعم من لا يوثق به أنها مذكر ولا يعرف تذكيرها عمن يوثق بعلمه، وأما كفّ مخضب فعلى معنى ساعد مخضب (ولا شممت) من باب تعب وشم يشم من باب قتل في لغة (رائحة قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة المضمومة: أي في زمن من الأزمنة الماضية (أطيب من رائحة رسول الله) وهي له عرض لازم غير منفك ومن ذاته غير مستمدّ من شيء خارج (ولقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين) هي مدة توطنه المدينة بعد هجرته إليها جاء به أهله إليه ليخدمه فأخدمه (فما قال لي قط أفّ) هو صوت دلّ على التضجر وهو مبنى على الكسر
والتنوين للتنكير، ومن فتح فعلى التخفيف وفيها لغات عديدة تقدمت الإشارة إليها، وفي ذلك حفظ أنس من الأفعال المحظورة، إذ لو وقعت منه لما سكت على شيء منها (ولا قال لشيء فعلته) جليلاً كان أو حقيراً كما يؤذن به تنكير شيء في سياق النفي (لم فعلته) سؤال عن سبب الفعل والباعث عليه (ولا لشيء لم أفعله ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة عرض (فعلت كذا) وذلك منه كما تسليم منه لمولاه سبحانه وشهود لما يصدر من أقداره في عالم الشهادة، وأن ما ترك ولم يظهر مما لم يرد الله عدم ظهوره لا سبيل لظهوره فلا فائدة لطلب حصول ما لم يحصل ولا للسؤال عن السبب الحامل. وفيه كمال حسن خلقه، فإن شأن المجاورة والمخالطة تقتضي السؤال عن ذلك، ولكن حسن خلقه حمله على ألا يسأل عما وقع من خادمه (متفق عليه) .
3623 - (وعن الصعب) بتشديد المهملة الأولى وسكون الثانية آخره موحدة (ابن جثامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة، واسم جثامة يزيد بن قيس بن عبد الّله بن يعمر بن عوف بن عامر ابن ليث الليثي الحجازي، توفي (رضي الله عنه) في خلافة الصديق رضي الله عنه كذا في «التهذيب» للمصنف وفي «المستخرج المليح» لابن الجوزي، روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ

(5/78)


ستة عشر حديثاً، أخرج له في الصحيحين حديثان متفق عليهما وأحدهما يجمع حديثين للبخاري أحد الحديثين وما سوى ذلك متفق عليه (قال: أهديت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حماراً وحشياً) وهو أحد ما روي في هديته كما بينه الحافظ في أواخر الحج من «الفتح» (فرده عليّ) لأن المحرم لا يتعرض للصيد بوجه (فلما رأى ما في وجهي) من الأثر الناشيء فيه عن رد هديته فإن ذلك يكسر في نفس المهدي (قال: إنا لم نرده) بضم الدال على الأفصح إتباعاً لحركة الضمير، وقول القاضي بوجوب الضم فيه حينئذ رده المصنف في «شرح مسلم» بأنه أفصح، وإلا فيجوز فيه الكسر بضعف، والفتح هو أضعف منه، وممن ذكره ثعلب في الفصيح لكن غلطوه لكونه يوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه (عليك إلا لأنا حرم) بضمتين أي محرمون (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الهبة، ولفظه في الهبة «فلما رأى في وجهي» بإسقاط «ما» وأخرجه مسلم في الحج ورواه الترمذي فيه وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه في الحج من «سننهما» .
4624 - (وعن النواس) بفتح النون وتشديد المهملة آخره سين مهملة (ابن سمعان) بفتح السين وكسرها، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) مع الكلام على حديثه في باب الورع وترك الشبهات (قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر) أي الطاعة (والإثم) أي المعصية لأنها سببه (فقال البرّ) أي معظمه (حسن الخلق) وذلك لأنه يقتدر به صاحبه على محاسن الأفعال وترك رذائل الأعمال وهذا وضع الشريعة (والإثم ما حاك) بالمهملة أي تردد (في نفسك) أن تفعله لداعية النفس لفعله أو تتركه لكراهة النفس له لعدم وضوح جوازه شرعاً (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي فيعبرونه بفعله فإن النفس بطبعها تحب المدحة وتكره

(5/79)


المذمة (رواه مسلم) في البر والصلة.
5625 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) كذا فيما وقفت عليه بحذف الياء، وتقدم أن الأفصح إثباتها في مثله من كل منقوص حذفت لامه تخفيفاً (رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً) أي ليس ذا فحش في كلامه وأفعاله. والفحش ما يشتد قبحه من الأقوال والأفعال (ولا متفحشاً) أي متكلف ذلك ومتعمده (وكان يقول: إن من خياركم) عند البخاري «من أخيركم» بإثبات الألف في رواية وبحذفها في رواية الأصيلي، والأولى هي الأصل إلا أنهم تركوه غالباً فيها وفي شر (أحسنكم أخلاقاً) وذلك لما تقدم من دعاء حسن الخلق إلى المحاسن والانكفاف عن المساوي، ومن كان كذلك فلا شك في كونه من الخيار والأخيار، وقيل المراد منه هو لأنه أحسن خلقاً فيكون عاماً مراداً به خاص، والأول لما فيه من التهييج على التخلق بذلك أنسب (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة النبيّ وفي الأدب، وأخرجه مسلم في الفضائل، ورواه الترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح.
6626 - (وعن أبي الدرداء) تقدمت ترجمته وبيان اسمه (رضي الله عنه) في باب ملاطفة اليتيم (أن النبي قال: ما من) مزيدة لتأكيد العموم المستفاد من (شيء) لكونه نكرة في سياق النفي وهو اسم ما وخبرها (أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) وهذا الحديث ظاهر في أن نفس العمل بوزن بأن يجسد. وتجسد المعاني جائز كما جاء «يؤتى بالموت في صورة كبش» الحديث. وقد اختلف على ذلك في أقوال: ثانيها أن الموزون

(5/80)


الأعمال. ثالثها الموزون نفس العمل. وفي التقييد بالمؤمن إيماء إلى أن الكافر لا يوزن عمله لأنه لا طاعة له لتوزن في مقابلة كفره، وهو أحد قولين في ذلك أيضاً. وفيه إشارة إلى سوء خلق الكافر، وذلك لأنه ترك عبادة خالق كل شيء إلا عبادة من لا يخلق من شيء (وإن الله يبغض) بضم التحتية من الإبغاض، قال في «المصباح» : ولا يقال بغضته بغير ألف ويقال أبغضته فهو مبغض وبغضه الله بتشديد الغين فأبغضوه: أي لا يثنى عليه في عالم الملكوت خيراً أو لا يثيبه أو لا يوفقه (الفاحش البذيء. رواه الترمذي) في البر والصلة من «جامعه» (وقال: حديث صحيح) وفي «الجامع الصغير» بعد ذكر الحديث بلفظ «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي الدرداء بلفظ «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب الخلق الحسن ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة» رواه الترمذي عن أبي الدرداء (البذي) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتية على وزن فعيل من بذا يبذو وبذاء بالفتح والمد: سفه وأفحش في منطقة وإن كان كلامه صدوقاً، كذا في «المصباح» (هو الذي يتكلم بالفحش) أي الخارج عن الاعتدال من القول (ورديء الكلام) وقال العاقولي: البذي هو السىء الخلق، وهو ملازم لما قبله لأن الفحش إنما يصدر عنه.
7627 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة) أي من الأعمال والأقوال والأحوال (فقال: تقوى الله وحسن الخلق) قال ابن القيم: جمع بينهما لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه (وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج) وذلك لأنه يصدر من الفم الكفر والغيبة والنميمة ورمي الغير في المهالك وإبطال الحق وإبداء الباطل وغير ذلك مما أشار إليه الشارع بقوله «وهل يكبّ الناس على وجوههم/ أو قال على مناخرهم إلا

(5/81)


حصائد ألسنتهم» وبقوله «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً» والفرج يصدر منه الزنى واللواط (رواه الترمذي) في أبواب الصبر والصلة (وقال: حديث حسن صحيح) .

8628 - (وعنه قال: قال رسول الله: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) وقد تقدم حديث «البرّ حسن الخلق» فكلما كان العبد أحسن أخلاقاً كان أكمل إيماناً. وفيه دليل زيادة الإيمان ونقصانه (وخياركم) أي عند الله سبحانه (خياركم) أي في الظاهر (لنسائهم) وذلك بالبشاشة وطلاقة الوجه وكفّ الأذى وبذل الندى والصبر على إيذائها، فالتغاير بين المسند إليه والمسند حاصل (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وأورده في «الجامع الصغير» بلفظ «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله» وقال: رواه الترمذي والحاكم في «مستدركه» عن عائشة، وقد تقدم الحديث مع شرحه في باب الوصية بالنساء.
9629 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه) الباء فيه سببية، قال العاقولي: قيل هو بسط الوجه وبذل الندى وكفّ الأذى، وقيل هو ألا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. وقال سهل: أدنى حسن الخلق الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه: أي ليبلغ بحسن خلقه الداعي له إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذامّ (درجة الصائم القائم)

(5/82)


أي أعلى الدرجات، فإن أعلى درجات الليل درجات القائم في التهجد، وأعلى درجات النهار درجات الصائم في حرّ الهواجر (رواه أبو داود) وكذا أخرجه ابن حبان في «صحيحه» كما في «الجامع الصغير» .
10630 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين واسمه صدى بن عجلان (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة) بفتح الراء والموحدة وضاد معجمة: ما حولها خارجاً عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدينة وتحت القلاع، قاله في «النهاية» (لمن ترك المراء) بالكسر مصدر كالمماراة وهي المجادلة، ويقال ماريته أيضاً: إذا طعنت في قوله تزييفاً للقول وتصغيراً للقائل، ولا يقال المراء إلا اعتراضاً بخلاف الجدال فإن يكون ابتداء واعتراضاً، قاله في «المصباح» (وإن كان محقاً) بضم أوله وكسر المهملة فيما يماري ويجادل: أي وإن كان ذا الحق في نفس الأمر، وذلك لأنه بعد أن يرشد خصمه إليه ويأبى عن قبوله، وليس من طالبي الاستبصار فلا ثمرة للمراء إلا تضييع الوقت فيما هو كالعبث (وببيت في وسط الجنة) الواو عاطفة على ما قبله: أي وأنا زعيم ببيت في وسطها وهو بفتح المهملة: أي متوسطها، ويجوز إسكان المهملة كما في «المصباح» (لمن ترك الكذب) أي الإخبار بخلاف الواقع، والمراد ترك المذموم منه وهو مالا مصلحة راجحة فيه. فيكون عاماً مخصوصاً مما عدا ذلك، إذ قد يكون مندوباً تارة كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين وواجباً أخرى، كما إذا تيقن ترتب هلاك معصوم على صدقه بالإخبار عنه، ودليل التخصيص الأحاديث الواردة باستثناء ذلك (وإن كان مازحاً) أي بكذبه غير قاصد به الجد ولا يتناول التعريض فإنه ليس بكذب أصلاً كقول إبراهيم: {إني سقيم} أي سأسقم، وقوله في سارة إنهاأخته: أي باعتبار الإسلام وإطلاق الكذب على ذلك في بعض الأحاديث من مجاز المشاكلة: أي ظاهر صورته ذلك (وببيت في أعلى الجنة) هو ظاهر في أن المراد بوسط الجنة فيما قبله متوسط درجاتها ومنازلها، ففيه شرف كل من ترك الكذب وحسن الخلق على ما

(5/83)


قبله (لمن حسن) بتشديد السين المهملة (خلقه) وفي الإتيان به بصيغة التفعيل إيماء إلى مشقة التخلق بذلك والاحتياج فيه إلى مزاولة للنفس
ورياضة لها (حديث صحيح رواه أبو داود) في الأدب (بإسناد) هو رجال السند (صحيح) أي ولا علة بالمتن ولا شذوذ فلذا صحح المصنف المتن، وإلا فظاهر أنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن لجواز عروض شذوذ أو نكارة أو علة فادحة (الزعيم) بوزن عظيم بالزاي والعين المهملة والتحتية (الضامن) ومنه قوله تعالى: {قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (يوسف: 72) .

11631 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: إن من أحبكم إليّ) أي أكثركم حباً إليّ: أي اتباعاً لسنتي (وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) أي في الجنة فإنها دار الراحة والجلوس، أما الموقف فالناس فيه قيام لرب العالمين، والنبيّ حينئذ قائم للشفاعة للعباد وتخليصهم مما هم فيه من الكرب إذ هو المقام المحمود الذي أعطيه يومئذ، ويوم تنازعه الوصفان قبله، ويحتمل ألاّ يكون من ذلك ويكون للأقرب منه (أحاسنكم أخلاقاً) جمع أفعل التفضيل هنا وأفرده في حديث أبي هريرة السابق، لأن المضاف إلى المعرفة يجوز فيه الوجهان، وأخلاقاً جمع خلق بضمتين أو بضم فسكون تخفيفاً ويجمع على خلائق أيضاً كما قاله الحافظ في كتاب الإنقاض في دفع الاعتراض (وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني) حذف الظرف لدلالة ما قبله عليه أو لزيادة التفظيع للمعصية وشناعتها بتعميم البعد للمجلس والموقف لأن حذف المعمول يؤذن به. قال العاقولي في «شرح المصابيح» : هذا الحديث مبني على قاعدة هي أن المؤمنين من حيث الإيمان محبوبون ويتفاضلون بعد في صفات الخير وشعب الإيمان، فيتميز الفاضل بزيادة محبة، وقد يتفاوتون في الرذائل فيصيرون مبغوضين من حيث ذلك ويصير بعضهم أبغض من بعض، وقد يكون الشخص الواحد محبوباً من وجه مبغوضاً من وجه. وعلى هذه القاعدة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبّ المؤمنين كافة من حيث هم مؤمنون، وحبه لأحسنهم خلقاً أشد، ويبغض العصاة من حيث هم عاصون، وبغضه لأسوئهم

(5/84)


أخلاقاً أشد، كما يؤخذ ذلك من المعاملة. بل جاء عند البيهقي في «الشعب» «وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مساوئكم أخلاقاً الثرثارون» والحديث أورده في «المشكاة» من حديث أبي ثعلبة الخشني (الثرثارون والمتشدقون) بضم الميم وبفتح أوليه وكسر الدال المشددة (والمتفيهقون) أي إنهم الذين يتعمقون في الكلام، والتشدق: تكلف السجع والفصاحة والتصنع بالمقامات، وهو بضم الميم وفتح أوليه وكسر الهاء (قالوا) أي الحاضرون من الصحابة، ولم أقف على أسمائهم (يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون) كذا هو بالواو في الأصول على الحكاية لما وقع منه في لفظ الخبر، أي عرفنا المراد منهما (فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون. رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه البيهقي بنحوه في «الشعب» من حديث ثعلبة الخشني، وليس فيه قالوا قد علمنا الخ (والثرثار) بالمثلثتين المفتوحتين بينهما راء ساكنة (هو كثير الكلام) تكلفاً. زاد العاقولي: وخروجاً عن الحق، والثرثرة كثرة الكلام وترديده (والتشدق: المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعاظماً لكلامه) قال ابن الحاجب في «الشافية» : ويجىء بمعنى تفاعل ليدل على أن الفاعل أظهر أن أصله: أي الفعل حاصل له وهو منتف عنه: نحو تجاهلت وتغافلت اهـ.u وما نحن فيه من هذا: أي لإظهار أن عنده الفصاحة. وعظم الكلام وهما منتفيان عنه. وقال العاقولي: قيل المتشدق المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز. وقيل هو المستهزىء بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم (والمتفيهق أصله) أي اشتقاقه (من الفهق) بفتح الفاء وسكون الهاء وبالقاف (وهو الامتلاء) زاد العاقولي: والاتساع، يقال أفهقت الإناء ففهق فهقاً (وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه) بالإتيان بالزائد على الحاجة على سبيل الإطناب والإسهاب (ويغرب به) أي يأتي بالألفاظ الوحشية الاستعمال، الغير المألوفة في الكلام

(5/85)


(تكبراً) علة ملء الفم بالكلام (وارتفاعاً) علة التوسع فيه
(وإظهاراً للفضيلة على غيره) بالاطلاع على غريب الألفاظ والوصول إلى محاسن النفس والرضا عنها، وفي ذلك الإغماض عن محاسن السوى والإعراض عنها وهو الكبر.
(

وروى الترمذي) في «جامعة» (عن عبد الله بن المبارك) بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي الأئمة الأعلام، حمل عن أربعة آلاف شيخ، وروى عن ألف منهم، وقيل له: إلى متى تكتب العلم؟ فقال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كتبتها بعد، قال ابن مهدي: كان ينسخ وحده وكان يفضله على الثوري، وقال: ما رأيت أنصح للأمة منه، وقال ابن عيينة: ما رأيت للصحابة عليه فضلاً إلا بصحبتهم للنبي وغزوهم معه، وقال: كان ففيهاً عالماً زاهداً سخياً شجاعاً شاعراً، وقال الفضيل: ما خلف بعده مثله، وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً إماماً حجة. ولد سنة ثماني عشرة ومائة ومات منصرفاً من الغزو بهيت سنة إحدى وثمانين ومائة، زاد غيره في رمضان، وقد بسطت ترجمته في كتابي «رجال الشمائل» (رحمه الله في تفسير حسن الخلق قال: هو طلاقة الوجه) أي فرح ظاهر البشرة ويقال هو طليق الوجه وطلقه، وقال أبو زيد: طلق الوجه متهلل بسام (وبذل المعروف) من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للكلمة الطيبة باللسان وبذل الندى والإحسان باليد وغير ذلك من صنائع المعروف (وكف الأذى) من قول وفعل عن الناس. وقد جمع جماعة محاسن الأخلاق في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199) وقيل حسن الخلق احتمال المكروه الذي ينزل به بحسن المداراة بترك حظه من الدنيا وتحمل الأذى من غير إفراط ولا تفريط، وقال الحافظ: حسن الخلق اختيار الفضائل وترك الرذائل، وقال السيوطي: قال الباجي: هو أن يظهر منه لمن يجالسه أو ورد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير، والله تعالى أعلم.

(5/86)


74 - باب الحلم
بكسر المهملة وسكون اللام: وهو الصفح، وفي «المصباح» حلم بالضم حلماً بالكسر: صفح وستر فهو حليم وحلمته نسبته إلى الحلم (والأناة) بفتح أوليه والألف مقصورة بوزن حصاة اسم مصدر من تأتي في الأمر تمكث ولم يعجل (والرفق) وهو بكسر أوله ضد الخرق.
(قال الله تعالى) : ( {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} ) أي وذلك إنما صدر عنهم لما عندهم من الحلم ( {والله يحبّ المحسنين} ) . فيه تحريض على التخلق بالإحسان والصفح عن الإخوان، وقد تقدم ما يتعلق بها في الباب قبله (وقال تعالى) ( {خذ العفو} ) من أخلاق الناس من غير تحسيس مثل قبول أعذارهم والمساهلة معهم، وقد ورد «أنه لما نزلت قال رسول الله: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفو عن من ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك» ( {وأمر بالعرف} ) وهو كل ما يعرفه الشرع ( {وأعرض عن الجاهلين} ) لا تقابل السفيه بسفهه، وقد تقدم الكلام على الآية في مواضع من الكتاب كباب توقير العلماء والكبار وغيره (وقال) الله (تعالى) ( {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} ) لا الثانية لتأكيد النفي ( {ادفع بالتي هي أحسن} ) وهي الحسنة وهو استئناف كأنه قيل: كيف أفعل فقال ادفع، والمراد بالأحسن الزائد مطلقاً. قال ابن عباس: أمر بالصبر عند الغضب وبالعفو عند الإساءة، وقيل معناه: لا تستوي الحسنات بل تتفاوت إلى حسن وأحسن وكذا السيئات، فادفع السيئة التي ترد عليك بالحسنة التي هي أحسن من أختها مثلاً: وتحسن إلى من أساء إليك فلا تكتفي بمجرد العفو عنه ( {فإذا الذي بينك وبينه عداواة} ) وإذا فعلت هذا يصير العدو ( {كأنه وليّ حميم} )

(5/87)


صديق شفيق ( {وما يلقاها إلا الذين صبروا} ) على مخالفة النفس ( {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} ) من كمال النفس ( {وقال تعالى ولمن صبر} ) على الأذى ( {وغفر} ) ولم ينتصر ( {إن ذلك} ) إشارة إلى صبره لا إلى مطلق الصبر فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ( {لمن عزم الأمور} ) أي الأمور المشكورة المحمودة المعزوم عليها.
1632 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأشج) بالشين المعجمة (عبد القيس) واسمه المنذر بن عاذل بالذال المعجمة العصري بفتح المهملتين، قال المصنف: هذا الصحيح الذي قاله ابن عبد البرّ والأكثرون أو الكثيرون، وقال الكلبي: اسمه المنذر بن الحارث بن زياد بن عصر بن عوف، وقيل المنذر بن عامر، وقيل ابن عبيد، وقيل اسمه عائذ بن المنذر، وقيل عبد الله بن عوف (إن فيك خصلتين يحبهما الله) أي يرضاهما ويثني على فاعلهما ويثيبه (الحلم) قال المصنف: هو العقل. وفي النهاية: الحلم بالكسر الأناة والتثبت في الأمور وذلك من شأن العقلاء اهـ. ففيه إيماء إلى أن تفسيره بالعقل بمعنى كونه ينشأ عنه لا أنه مدلوله ولا يخالف ما تقدم عن «المصباح» (والأناة) التثبت وترك العجلة وهي مقصورة، وسبب قول النبيّ له ذلك ما جاء في حديث الوفد «أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبيّ، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته وليس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبيّ، فقرّبه النبي فأجلسه إلى جانبه ثم قال لهم النبيّ: تبايعوني على أنفسكم وقومكم، فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول الله إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا وترسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه، قال: صدقت إن فيك خصلتين يحبهما الله» الحديث، قال القاضي عياض: فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب، ولا يخالف هذا ما جاء في «مسند أبي يعلى» وغيره أنه لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشج: «إن فيك خصلتين» الحديث، قال: «يا رسول الله أكان فيّ أم

(5/88)


حدثاً؟ قال: بل قديم، قال: قلت الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله» (رواه مسلم) في أوائل كتاب الإيمان من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في «جامعه» .
2633 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إن الله رفيق) من الرفق بكسر الراء وسكون الفاء وبالقاف وهو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل وهو ضد العنف، وفي النهاية يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة فهو فعيل بمعنى فاعل اهـ. وقال العاقولي: معنى كونه تعالى رفيقاً أنه لطيف بعباده اهـ. ويحتمل أن الرفق في حقه تعالى بمعنى الحلم، فإنه لا يعجل بعقوبة العصاة بل يمهل ليتوب من سبقت له السعادة ويزداد غيره إثماً، قاله ابن رسلان، قال القرطبي: وهذا المعنى أليق بالحديث فإنه سبب الحديث، ثم لا يجوز إطلاق رفيق في أسمائه تعالى لأنه لم يجىء على وجه الإسمية وإنما أخبر به تمهيداً للحكم الذي بعده، وكأنه قال: إن الله يرفق بعباده فيعطيهم على الرفق مالا يعطيهم على سواه: قال العاقولي: وكأن مراده أنه ذكر على سبيل المقابلة والمشاكلة، وما كان كذلك لا يكتفي به في ورود الإطلاق (يحب) أي يرضي (الرفق في الأمر كله) لما فيه من لين الجانب المقتضي للتواصل وسداد الأمر (متفق عليه) .

3634 - (وعنها أن النبيّ قال: إن الله رفيق يحبّ الرفق) لأنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده (ويعطي على الرفق) في الدنيا من الثناء الحسن الجميل وفي الآخرة من الثواب الجزيل (مالا يعطي على العنف) بضم العين المهملة وسكون النون وبالفاء، قال في «النهاية» : هي الشدة والمشقة وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف ضده. وحكى ابن

(5/89)


رسلان جواز ضم عين العنف وفتحها قال: وهو التشديد والتصعيب في الأشياء (وما لا يعطي على ما سواه) أي على الذي هو سوى الرفق وهو مع ما قبله إطناب أتى به ليدل على الحض على الرفق كما أشار إليه في «المفاتيح» (رواه مسلم.)
4635 - (وعنها أن النبيّ قال) لها: عليك بالرفق وإياك والفحش والعنف (وإن الرفق لا يكون في شيء) يحتمل أن تكون «يكون» تامة وفي شيء متعلق بها، وأن تكون ناقصة وفي شيء خبرها، والاستثناء في قوله (إلا زانه) مفرغ من أعم عام وصف الشيء: أي لا يكون الرفق مستقراً في شيء موصوف بصفة من الأوصاف إلا الشين (رواه مسلم) .
5636 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أعرابيّ) منسوب إلى الأعراب بفتح فسكون وهم ساكنو البادية، وقيل ساكنوها من العرب وجمع الأعرابي أعراب، قال ابن دقيق العيد: وقعت النسبة إلى الجمع دون الواحد لأنه جرى مجرى القبيلة، وقيل لأنه لو نسب إلى الواحد فقيل عربي لاشتبه المعنى، فإن العربي كل من ولد إسماعيل كان بالبادية أو بغيرها، وهذا غير المعنى الأول اهـ. وهذا مشعر بأن الأعراب جمع عرب والمعروف خلافه، قال الجوهري: العرب جيل من الناس والنسبة إليه عربي، والأعراب سكان البادية خاصة والنسبة إليه أعرابي، ولا واحد له من لفظه وليس جمعاً للعرب وإنما العرب اسم جنس. قال العراقي في «شرح التقريب» : ولم أر من صنف في المبهمات ذكر اسم هذا الأعرابي اهـ. وفي غاية الأحكام: اختلف فيه، فقال عبد الله بن نافع المدني: إنه الأقرع بن حابس التميمي اهـ. وقال ابن الملقن: لم أر من سماه ممن تكلم على المبهمات، وقد

(5/90)


ظفرت به في «معرفة الصحابة» لأبي موسى المديني لأنه روي من حديث سلمان بن يسار قال: طلع ذو الخويصرة اليماني وكان رجلاً جافياً على رسول الله في المسجد» وساق الحديث، وفي آخره: أنه بال فيه، وأنه أمر بسجل فصبّ على مباله. قلت: وقد سبقه الذهبي فقال في «التجريد» في ترجمة ذي الخويصرة اليماني: يروي في حديث مرسل أنه لذي بال في المسجد. قال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث الرافعي» : وهو غير ذي الخويصرة التميمي، واسمه حرقوص بن زهير رأس الخوارج اهـ. وبه يعلم أن ما وقع في «شرح المشكاة» و «المنهاج» لابن حجر الهيثمي أنه ذو
الخويصرة التميمي إن لم يكن من تحريف الكتاب فسبق قلم من الشيخ بلا ارتياب (في المسجد، فقام إليه الناس) الظرف متعلق بمحذوف: أي فقاموا قاصدين إليه (ليقعوا) بفتح أوله (فيه) أي بالسب ونحوه. قال في «المصباح» : وقع فلان في فلان وقيعة: سبه وثلبه، وجاء في رواية البخاري: فتناوله الناس ليقعوا به، وفي رواية: فتناوله الناس، وفي رواية لمسلم: فصاح به الناس، وفي أخرى له: فقال لأصحاب رسول الله: مه مه (فقال النبيّ: دعوه) أي اتركوه وذلك لعذره بقرب عهده إلى الإسلام.
ففيه الرفق في إنكار المنكر وتعليم الجاهل واستعمال التيسير وإنكار التعسير، وقد قال لأصحابه «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» وفي رواية ابن ماجه: وقال الأعرابي بعد أن فقه: بأبي وأمي فلم يؤنب ولم يسب، فقال: «إن هذا المسجد لا يبال فيه، وإنما بني لذكر الله والصلاة فيه» (وأريقوا على بوله) أي محل بوله من المسجد بعد جفافه منه (سجلا من ماء) يعلم مما يأتي في تفسير السجل أن قوله من ماء مستدرك يغني عنه السجل لأن ذلك داخل فيه، إلا أن يقال أريد بالسجل مطلق الدلو لا بقيد كونها ممتلئة ماء، أو يقال صرح بذلك لزيادة الإيضاح (أو ذنوباً) بفتح الذال المعجمة وبالنون المضمومة والموحدة بينهما واو ساكنة وهل مجموع المتعاطفين من كلامه وأنه خير المأمور بينهما، أو أن الذي في لفظ الحديث أحدهما غير أن الراوي شك في تعيينه؟ قال الحافظ الولي العراقي: الظاهر الثاني بدليل رواية أبي داود «وصبوا عليها سجلاً من ماء، أو قال ذنوباً من ماء» وإذا كان ذلك شكا من بعض الرواة فالراجح الذنوب لأنه متفق عليه من حديث أنس من غير شك، وكذا في بعض طرقه ذكر الدلو من غير شك، وفي رواية ابن ماجه لحديث أبي هريرة «بسجل من ماء» بغير شك. ففي الحديث نجاسة بول الآدمي ووجوب تنزيه المسجد عنه والتفريق بين الماء الوارد على النجاسة فيطهرها وبين الواردة عليه فتنجسه إذا كان قليلاً أو كثيراً وتغير بها.
وفيه: أنه لا يشترط في تطهير الأرض بعد صبّ الماء عليها

(5/91)


نضوب الماء ولا جفاف الأرض، إذ لو اشترط ذلك لبينه لهم، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
وفيه: أن غسالة النجاسة طاهرة إذا زالت عين النجاسة ولم تتغير الغسالة ولم يزد وزنها بعد اعتبار ما يتشربه المحل من الماء الطاهر ويلقيه فيها من الوسخ.
وفيه: غير ذلك (فإنما يعثّم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) هذا كالتعليل لما قبله: أي إن قضية كونكم كذلك ألا تؤدبوا الرجل ولا توبخوه لأنه معذور لحداثة عهده بالإسلام وعدم علمه بالأحكام، فالمناسب للتيسير ما أشار إليه البشير النذير (رواه البخاري) في الطهارة وأخرجه بن ماجه (السجل بفتح السين المهملة وإسكان الجيم وهي الدلو الممتلئة ماء) وفي الدلو لغتان التذكير والتأنيث (وكذلك) المشبه به كون معنى السجل الممتلئة ماء والمشبه قوله (الذنوب) أي إنه أيضاً الدلو كذلك وهذا أحد قولين حكاهما العراقي، قال: وقيل هو الدلو العظيم، وقيل لا يسمى دلواً حتى يكون فيها ماء اهـ.

6637 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: يسروا ولا تعسروا) اليسر ضد العسر، وذكر في الثانية تأكيداً وإطناباً وإلا فالأمر بالشيء النهي عن ضده أو لأنه لو اقتصر على الأمر بالتيسير لصدق على من أتى به مرة، وبالعسر بعض أوقاته، فلما قال ولا تعسروا انتفى العسر سائر الأوقات وذلك لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج: 78) ولما ورد في «الصحيح» عند مسلم من أنه لما قيل: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: قد فعلت، ولما في الحديث «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة» وفي «الصحيح» «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (وبشروا) من البشارة الإخبار بالخير ضد النذارة (ولا تنفروا) قابل به البشارة مع أن ضدها النذارة لأن القصد من النذارة التنفير عن المنذر عنه فصرح بالمقصود منها (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي كما في «الجامع الصغير» .

(5/92)


7638 - (وعن جرير بن عبد الله) وهو البجلي الأحمسي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب ثوب من سن سنة حسنة (قال: سمعت رسول الله يقول: من يحرم الرفق) بأن لا يوفق له بل يكون فيه العنف والشدة وأل فيه لتعريف الحقيقة (يحرم الخير) أل فيه للعهد الذهني أي الخير الناشيء عن الرفق (كله) الفعل فيهما مبني للمفعول من الحرمان، مفعوله الأول: الضمير المستتر فيه القائم مقام الفاعل، والثاني: منهما المنصوب المذكور بعد كل منهما وحرمان من حرم الرفق جميع الخير المذكور لما سبق من قوله «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» وذلك أن الرفق به انتظام خير الدارين واتساق أمرهما، وفي العنف ضد ذلك قال الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159) (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح وابن ماجه.
8639 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً) قال ابن بشكوال: قيل إنه جارية بن قدامة بالجيم والتحتية، وكذا في مسند ابن أبي شيبة والمؤتلف والمختلف للدارقطني، ويحتمل أن يكون أبا الدرداء لما في فوائد أبي الفضل بن خيرون، ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمر لما في فوائد ابن صخر بسنده عن ابن عمر «قلت: يا رسول الله قل لي قولاً وأقلله، قال: لا تغضب» قال ابن صخر: وهذا روي عن غير واحد من الصحابة مسنداً، وهو من حديث ابن عمر صحيح وإسناده صالح، وفي الفوائد أيضاً عن سفيان الثقفي «قلت للنبيّ مثل حديث ابن عمر فعاودته مراراً أسأله كل ذلك يقول لا تغضب» كذا في «مصابيح الدماميني» ، وفي «تخريج الأربعين حديثاً» التي جمعها المصنف للسخاوي، والسائل المذكور يحتمل أن يفسر بجارية بن قدامة، فعند البيهقي في «الشعب» وابن أبي الدنيا عن الأحنف بن قيس «قال أخبرني ابن عم لي وهو جارية بن قدامة قال: قلت يا رسول الله قل لي قولاً وأقلل لعلي أعقله فقال لا تغضب فقلت له مراراً فكل ذلك يقول لا تغضب» ثم رواه أيضاً من طريق ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة، فجعله عن ابن عمر كما في «مسند أبي

(5/93)


يعلى» وغيره، قال البيهقي: إنه وهم والمحفوظ الأول ثم ساقه كذلك من طريق هشام بن عروة عن أبيه، وكذا أخرجه أحمد والطبراني وابن منده في «المعرفة» ، وابن حبان والحاكم في «صحيحيهما» ، ثم ذكر اختلاف الرواية عليه في أنه قال عن عمه أو عم أبيه أو عن الأحنف عن عمه عن جارية، كما رواه بهذا ابن أبي شيبة عند الداقطني في «علله» فيه خلاف غير هذا والأول أكثر وأولى لمتابعة ابن أبي الزناد في كونه من مسند جارية بل له طريق عند الطبراني من حديث محمد ابن كريب عن أبيه قال: شهدت الأحنف بن قيس يحدث عن جارية، ونشأ عن هذا الاختلاف تردد نظر الأئمة في إثبات صحبة جارية فأثبتها ابن أبي حاتم عن أبيه، وكذا ابن سعد وآخرون وهو الذي اعتمده شيخنا، ونفاها العجلى وغيره فقالوا:
إنه تابعي وليس بصحابي، وذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال: هكذا قال هشام بن عروة، يعني أن هشاماً ذكر في الحديث أن جارية سأل، قال يحيى: وهم يقولون إنه لم يدرك النبي ثم أخرج السخاوي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت للنبي الحديث. وقال: وعلى هذه الرواية اقتصر العراقي في أماليه وقال: إنه حديث حسن. قال العراقي: والحديث صحيح من وجه آخر يشير إلى طريق البخاري، وإنما أوردته من حديث سفيان لفائدة كونه هو السائل، قال: وقد روينا في أحاديث عن بن عمر وابن عمرو وأبي الدرداء وجارية بن قدامة أن كلا منهم سأل النبيّ. قال السحاوي: وبمقتضى ما بينه صار في الباب عن جابر وجارية وسفيان الثقفي وابن عمرو وابن عمرو وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبى هريرة وعم جارية اهـ. والحديث سبق مشروحاً ببعض ما هنا في باب الصبر (قال للنبي: أوصني) قال الأزهري: الإيصاء من الوصية وهي مصدر وصيت الشيء بكذا وصلته إليه، فالمعنى: صلني إلى ما ينفعني ديناً ودنيا، ولما علم من هذا الرجل كثرة الغضب وهو طبيب في الدين يعالج كلا بمرضه المخصوص خصه بهذه الوصية (قال لا تغضب) الغضب فوران دم القلب أو عرض يبعثه ذلك على إرادة الانتفام، وهو من وساوس الشيطان يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله فيتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح، بل قد يكفر (فردد) أي فكرر الرجل قوله: أوصني (مراراً) تعريضاً بأنه لم يقنع بذلك وأنه يطلب وصية أبلغ وأنفع فلم يزده لعلمه أن لا أنفع من ذلك له (قال لا تغضب) وعلاجه أن يرى الكل من الله سبحانه ويذكر نفسه أن غضب الله أعظم وفضله

(5/94)


أكبر (رواه البخاري) في الأدب من «صحيحه» ، والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
9640 - (وعن أبي يعلى) بفتح التحتية واللام وسكون المهملة (شداد) بفتح المعجمة وتشديد الدال المهملة الأولى (ابن أوس) ابن أخي حسان بن ثابت تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المراقبة (عن رسول الله قال: إن الله كتب) أي أوجب وقدر (الإحسان) إتقان الفعل، أو بمعنى التفضل والإنعام (على كل شىء) للشىء إطلاقان: أحدهما ما أمكن وجوده بالإمكان العام فيكون أخص من المعلوم، إذ المستحيل معلوم ولا يطلق عليه بهذا الإطلاق شيء. ثانيهما ما صح أن يعلم ويخبر عنه فهو من أعم العام يطلق على الجوهر والعرض والقديم والحادث والممتنع، ويصح إطلاقه على الله تعالى بالإطلاقين، وهو في الحديث مخصوص بالممكن بدليل العقل. وما من شعبة من شعب الإيمان ولا ركن من أركان الإسلام إلا وقد قرن به إحسان لائق به بدليل عموم كل شيء في الحديث (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) بكسر القاف: هيئة القتل وحالته فأحسنوا القتل في كل قتيل حد أو قصاص (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) بكسر الذال المعجمة وهي هيئة الذبح (وليحد) بضم التحتية (أحدكم شفرته) بفتح المعجمة وسكون الفاء: السكين العريض (وليرح ذبيحته) أي ليوصل إليها الراحة بأن يعجل إمرار الشفرة ولا يسلخ قبل البرودة، ويقطع من الحلقوم لا من القفا ولا يصرع بعنف ولا يجرها من موضع إلى موضع وأن يوجهها للقبلة ويسمي (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو عوانة في «مستخرجه» ، والطبراني في «معجمه الكبير» ، والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح اهـ ملخصاً من «تخريج السخاوي» المذكور فيما قبله.
10 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت ما خير) بالبناء للمفعول وحذف الفاعل ليعم

(5/95)


أي ما خير أحد (رسول الله بين أمرين) ديني أو دنيوي (قط إلا أخذ) أي تناول وفي بعض النسخ إلا اختار (أيسرهما) إرشاداً للأمة ولابتناء دينه على اليسر يريد الله بكم اليسر «إن هذا الدين يسر» وذلك كأن يخبره الله تعالى بين ما فيه عقوبتان على أمته فيختار أخفهما، أو في قتال الكفار وأخذ الجزية، أو في العبادة في المجاهدة في حق الأمة فيختار الأخف، وعلى كون المخير غير الله بأن يخيره الكفار أو المنافقون بين الحرب والموادعة فيختار الموادعة. وكقول جبريل وملك الجبال: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فاستعفى عنهم واختار الأخفّ وهو بقاؤهم رجاء أن يخرج منهم من يوحد الله سبحانه، وهذا التخيير في الحقيقة إنما هو من الله سبحانه والملك واسطة (ما لم يكن) أي الأيسر (إنما) أي معصية لأنها سببه، من إطلاق المسبب وإراده السبب مجازاً مرسلاً لعلاقة السببية: أي فإن كان الأيسر معصية فلا معصية فلا يخيره الله بينه وبين مقابله، وإن كان المخبر غيره فهو لا يختاره بل يبعد منه كما قال (فإن كان) أي الأيسر الذي خيره بعض الناس بينه وبين مقابله (إنما كان أبعد الناس منه) أما المكروه فقال المصنف: إنه كالمعصية لا يختاره، وإن كان يجب عليه فعل ذلك تشريعاً وبيان أن النهي ليس للتحريم بل للتنزيه (وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء) يتعلق بحقه من نفس أو مال أو عرض (قط) وذلك لأن من عرف الله حق معرفته سد عليه باب الانتصار لنفسه لاقتضاء معرفته ألا يشهد فعلاً لغير معروفه فكيف ينتصر من الخلق من يرى الله تعالى فعالاً فيهم، وكيف يترك تعالى الانتصار لهم وقد ألقوا نفوسهم بين يديه وسلموا واستسلموا لما يرد منه إليهم؟ فهم في معاقل عزّه وتحت سرادقات مجده، يصونهم من كل إلا من ذكره، ويقطعهم عن كل إلا عن حبه، فالأنبياء حمَّال أسراره ومعادن أنواره
فهو يتولى انتصارهم، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون} (الصافات: 171) . وإنما لم ينتقم لنفسه مع كون منتهكها قد باء بإثم عظيم لأنه حق آدمي فيسقط بإسقاطه بخلاف حقه سبحانه، كما قالت (إلا أن تنتهك) بالبناء للمجهول (حرمة الله) وانتهاكها بارتكاب المحرمات وحينئذ فهو ليس مما قبله فيكون الاستثناء

(5/96)


منقطعاً، ويحتمل كما قال القاضي عياض: أن انتهاكها بإيذائه بما فيه غضاضة في الدين فذاك انتهاك حرمات الله تعالى، وعفوه عمن قال في قسمة خيبر: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، مع أن ذلك المقال غضاضة في الدين، إما لكون القائل لم يقصد الطعن عليه في الميل عن الحق بل اعتقد أنه من مصالح الدنيا التي يجوز الخطأ فيها، أو أنه كان استئلافاً كما استألف ببذل الأموال ترغيباً في الإسلام. وقيل هذا الصواب، وقيل هذا القول طبعاً في قائله وسجية فهو نوع عذر كمن جفا في رفع صوته عليه ومن جذبه بردائه حتى أثر في عنقه وقال: إنك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك، فضحك وأمر له بالعطاء وقوله (فينتقم لله) جواب لشرط مقدر: أي فإن انتهكت حرمة الله فهو ينتقم لله من مرتكب ذلك كما هو شأن أكابر المسلمين، إلا أن موسى أخذ برأس أخيه يجرّه إليه لما أحدث قومه بعده ما أحدثوا، وكان إذا غضب لله خرج شعره من مدرعته كسل النخل، والأخبار والآثار الدالة على وقوع غضب المصطفى وانتقامه له كثيرة مع الإجماع على أنه كان أحلم الناس وأكثرهم عفواً وصفحاً واحتمالاً وتجاوزاً، وفي الحديث الأخذ باليسر والرفق في الأمور وترك التكلف والمشاق، وفيه الميل إلى الأخذ برخص الله تعالى ورخص نبيه ورخص العلماء ما لم يكن ذلك القول خطأً بيناً وما لم يتبع الرخص بحيث تنحل ربقة التكليف منه، وفيه ما كان عليه من الحلم والصبر والقيام بالحق والصلابة في الدين، وهذا هو الخلق الحسن، فإنه لو ترك كل حق كل ضعفاً وخوراً ومهانة ولو انتقم لنفسه
لم يكن ثم صبر ولا حلم ولا احتمال بل بطشاً وانتقاماً فانتفى عنه الطرفان المذمومان وخير الأمور أوساطها (متفق عليه) رواه البخاري في باب صفة النبي، وفي الأدب من «صحيحه» ، ورواه مسلم في الفضائل ورواه أبو داود في الأدب مختصراً، قاله المزي في «الأطراف» . قلت: ورواه الترمذي في «الشمائل» .

11641 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ألا) أداة استفتاح أتى بها لتنبيه السامع على ما بعدها كقوله (أخبركم) ليستيقظ المخاطب من غمرات الأفكار ويتوجه

(5/97)


لتلقي ما يلقى عليه (بمن يحرّم على النار) أي يحرمه الله عليها فيسلب منها قوة إحراقه وإيذائه كنار الخليل عليه السلام (أو) شك من الراوي: أي أو قال: ألا أخبركم (بمن تحرم عليه النار) أي لا يستحقها، والأول أبلغ لأنه لو فرض أنه دخلها لم تضرّه، بخلاف الثاني فإن المحرم عليه دخولها فقط، قاله العاقولي أقول: هما في المؤدي واحد لأنه إذا انتفى إدخاله لها انتفا مسها له والله أعلم، وما ذكرته من أن العاطف «أو» هو ما في نسخ الرياض والذي جرى عليه العاقولي في «المصابيح» أنه «الواو» وأنه أخبر عن فرقتين وأن الأربعة الأوصاف الآتية اثنان للفريق الأول والأخيران لللأخير، ويؤيد كونها «أو» أنه جاء بلفظ «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غداً على كل هين لين قريب سهل» أورده السيوطي في «الجامع الصغير» وهو قولهم «بلى» اقتصاراً ولدلالة الحال على طلبهم ذلك وإتيانهم به لما لهم من التشوق والتشّوف لما ندبهم إلى معرفته (تحرم على كل قريب) أي من الناس بحسن ملاطفته لهم (هين لين) قال في «النهاية» : «المسلمون هينون لينون» وهما بالتخفيف قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالهين اللين مخففين وتذم بهما مثقلين وهين: أي بالتشديد فيعل من الهون وهو السكينة والوقار والسهولة فعينه واو، وشيء هين لين أي أسهل اهـ (سهل) أي يقضي حوائجهم ويسهل أمورهم وبما ذكر عن «النهاية» علم
ترادف هين وسهل، وحينئذ فأتى بهما إطناباً (رواه الترمذي وقال: حديث حسن وتقدم في كلام السيوطي من خرجه أيضاً.

75 - باب العفو
أي عن الجاني (والإعراض) بترك المؤاخذة (عن الجاهلين) فلا يؤاخذهم بما يصدر منهم من قول وعمل.
(قال الله تعالى) : ( {خذ العفو} ) وهو وإن كان معناه ما سبق في الباب قبله إلا

(5/98)


أن عموم لفظه متناول للعفو عن الظالم ( {وأمر بالعرف} ) أي بالمعروف شرعاً ( {وأعرض عن الجاهلين} ) وذلك لأن في الإعراض عنه إخماداً لشرّه وإذهاباً للهيب جهله قال الشافعي:
قالوا سكتّ وقد خوصمت قلت لهم
إن الجواب لباب الشر مفتاح
(وقال تعالى) : ( {فاصفح الصفح الجميل} ) أي عاملهم معاملة الحليم الصفوح.
(وقال تعالى) في شأن الصدّيق رضي الله عنه لما آلى ألاّ ينفق على مسطح لقوله في الإفك ما قال ( {وليعفوا} ) أي عما فرط منهم ( {وليصفحوا} ) بالإغماض عنه ( {ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟} ) بعفوكم عن الناس وصفحكم.
(وقال تعالى) : ( {والعافين عن الناس} ) التاركين عقوبة من استحقها طلباً لمرضاة الله تعالى ( {والله يحب المحسنين} ) فيه إيماء إلى أن المذكور في الآية صفات المحسنين وأن القائم بها في مقام الإحسان.
(وقال تعالى) : ( {ولمن صبر} ) على الأذى ( {وغفر} ) ولم ينتصر ( {إن ذلك} ) أي صبره المذكور ( {لمن عزم الأمور} ) والآيات قد تقدم الكلام عليها، بعضها في الباب قبله وبعضها قبل ذلك (والآيات في الباب) أي العفو عن المذنب والإعراض عن الجاهل (كثيرة معلومة) .
1643 - (وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت) بفتح الهمزة بدل اشتمال من الضمير

(5/99)


المجرور: أي وعنها قولها (للنبي: هل أتى) أي مرّ (عليك يوم) أي زمان (كان أشد من يوم أحد) بضمتين: الجبل المعروف عند المدينة: أي غزوته، وكانت في السنة الرابعة من الهجرة، فإنه شجّ فيها وجهه وكسرت رباعيته وسقط في الحفرة التي حفرها الفاسق الذي كان يلقبه الكفار بالراهب وحصل ما حصل في المؤمنين من قتل نيف وسبعين منهم (قال: لقد لقيت من قومك) أي كفار قريش (وكان) أي ذلك (أشد ما لقيته منهم) والجملة معترضة بين الفعل ومفعوله (يوم العقبة) لم أر من تعرض لبيان محلها والمراد منها في هذا الحديث، لا المصنف في «شرح مسلم» ولا الحافظ في «الفتح» ، ولعلها عقبة عند الطائف بدليل قوله (إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل) طالباً منه النصر والإعانة على إقامة الدين، ويا ليل بتحتية وبعد الألف لام مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم لام (ابن عبد كلال) بضم الكاف وتخفيف اللامين بينهما ألف واسمه كنانة، قال في «الفتح» : والذي في المغازي أن الذي كلمه هو عبد يا ليل نفسه، وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه لا أبوه، وأنه عبد يا ليل بن عمر بن عمير بن عوف، ويقال اسم عبد يا ليل مسعود وكان ابن عبد يا ليل من أكبر أهل الطائف من ثقيف، وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه وابن إسحاق أن عبد يا ليل اسمه كنانة وفد مع وفد الطائف سنة عشر فأسلموا، وذكر ابن عبد البر في الصحابة كذلك، لكن ذكر القاضي أن الوفد أسلموا إلا كنانة، وأنه خرج إلى الروم بعد ومات بها والله أعلم. وقد جاء عند أبي موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري أنه لما مات أبو طالب توجه إلى الطائف أن يؤووه، فعمدوا إلى ثلاثة نفر من ثقيف وهم ساداتهم وهم إخوة، عبد يا ليل وحبيب ومسعود، بنو عمرو فعرض نفسه عليهم وشكا إليهم ما انتهك مه قومه فردوا عليه أقبح رد، وكذا ذكره ابن إسحاق وذكر ابن سعد أن ذلك كان في شوال سنة عشر من المبعث
بعد موت خديجة وأبي طالب اهـ ملخصاً (فلم يجبني إلى ما أردت) أي من الإيواء والإعانة على تبليغ الرسالة إلى العباد (فانطلقت وأنا مهموم) فيه جواز طروء الهم من الأعراض البشرية على الأنبياء وهذا هم في أخروي والمذموم الهم على ما فات من أمور الدنيا (على وجهي) أي الجهة المواجهة لي (فلم أستفق) أي من الغمرة التي لحقته من عدم تسديد أولئك وتأييدهم له. وقال المصنف: أي لم أفطن لنفسي وأنتبه لحالي وللموضع الذي أنا ذاهب إليه وفيه (إلا وأنا بقرن الثعالب) هو بسكون الراء على الصحيح ميقات أهل نجد،

(5/100)


ويقال له قرن المنازل على يوم وليلة من مكة، والقرن: كل جبل صغير منقطع منه جبل كبير. وحكى عياض أن بعض الرواة يفتح الراء قال القاضي عياص: وهو غلط. وحكى الفاسي أن من سكن الراء أراد الجبل ومن حركتها أراد الطريق التي تتفرق منه، وأفاد ابن سعد أن مدة إقامته بالطائف كانت عشرة أيام (فرفعت رأسي) يحتمل أن يكون ذلك لكونه أحس بشيء من جانب العلوي أو يكون اتفاقاً فصادف ما قاله (وإذا أنا بسحابة قد أظلتني) أي كستني الظلّ عن الشمس (فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام) إذا فيه وفيما قبله: فجائية وجبريل حينئذ لم يكن في صورته الأصلية لما جاء أنه لم يره فيها إلا في بدء الرسالة وعند سدرة المنتهى (فسلم عليّ) فيه بدء القادم بالسلام (ثم قال) لعل الإتيان بثم إيماء إلى تراخي إخبار جبريل عن أمر الملك باشتغاله بأمر آخر إما مع النبي أو مع غيره من الأملاك (إن الله قد سمع قول قومك) أي الذين دعوتهم إلى الإيمان (وما ردوا عليك) في جواب الدعوة (وقد بعث إليك ملك الجبال) أي الموكل بها المتصرف بما يرد عليه فيها من حضرة الحق (لتأمره بما شئت فيهم) ما فيه موصول اسمي: أي بالذي أردته منهم والعائد محذوف، ويحتمل كونها مصدرية: أي بمشيئتك فيهم، ويؤيد الأخير قول ملك الجبال: لتأمرني بأمرك، وأتى به كذلك ليعم ما يراد منها من التعذيب (فناداني ملك الجبال) أي
عقب كلام جبريل كما يومىء إليه الفاء (فسلم عليّ ثم قال: يا محمد قد سمع الله قول قومك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك) أي من رجم وإطباق، وقله (فما شئت) الفاء تفريعية وما استفهامية منصوبة المحل مفعولاً به مقدماً، ومقتضى كلام الحافظ في فتح الباري أنه عند البخاري فيما شئت بكسر الفاء وزيادة تحتية. قال: وقد رواه الطبراني عن مقدام بن داود عن عبد الله بن يوسف شيخ البخاري قال: «يا محمد إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت» اهـ. ثم رأيته في صحيح البخاري كما قال الحافظ وحينئذ فلعل هذا لفظ رواية مسلم (إن شئت) حذف مفعوله: أي إطباق الأخشبين عليهم إيجازاً لدلالة وجوده في قوله (أطبقت عليهم الأخشبين) بالمعجمتين بعدهما موحدة يأتي المراد به (فقال النبيّ) ممتناً عليه بعفوه

(5/101)


عما يتعلق بجنابه الشريف من إيذائهم له وإساءتهم في جوابهم له المقتضى لحلول ذلك بهم إيجازاً (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) المعطوف عليه ببل مقدر يدل عليه الكلام: أي لا آمرك بما فيه هلاكهم بل أرجو الخ، قال العلماء: وما جاء من ألفاظ الترجي في كلام الله سبحانه أو كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو واقع البتة، لكنه عبر بذلك على عادة الملوك، قال البيضاوي في التفسير: عسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونه إظهار لوقارهم وإشعاراً بأن الرمز كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده اهـ. قال الحافظ: وفي الحديث بيان شفقة النبيّ على قومه ومزيد صبره وحلمه وهو موافق لقوله تعالى:
{فيما رحمة من الله لنت لهم} (آل عمران: 159) ولقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107) (متفق عليه) رواه البخاري في بدء الخلق ومسلم في المغازي ورواه النسائي في البعوث (الأخشبان الجبلان المحيطان بمكة) في النهاية: هما المطبقان بمكة أبو قبيس والأحمر وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان (والأخشب هو الجبل الغليظ العظيم) عبر بدله في النهاية بقوله الخشن.
2644 - (وعنها قالت: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً) من الحيوانات ولا من غيرها (قط) أي في شيء من الأزمنة التي كان فيها وهي ماضية حال الأخبار عنه وقوله (ولا امرأة ولا خادماً) من عطف الخاص علة العام، وصرح بهما لأنه يعتاد ضربهما وإذا لم يضربهما مع جريان العادة فغيرهما ممن لم يعتد ضربه أولى (إلا أن يجاهد في سبيل الله) استثناء من أعم الأحوال: أي في حال من الأحوال إلا في حال الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى (وما نيل)

(5/102)


بالبناء للمجهول (منه شيء) أي ما نال أحد منه شيئاً كما وقع من شج الكفار لرأسه في أحد وإسقاط رباعيته وغير ذلك مما وقع من جهالاتهم وإضراراتهم به في بدنه الشريف وغير ذلك (قط فينتقم) بالنصب في جواب النفي (من صاحبه) أي صاحب الذنب لنفسه، كان يعفو ويصفح ويزيد بالإحسان، كما ورد أنه قيل له يوم أحد: ادع الله عليهم فقال «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» فعفا عن حقه وصفح وزاد إحساناً بالدعاء لهم بغفر ذلك الذنب المتعلق بحقه، إذ لو سأل لهم مطلق لغفران لأجيبت دعوته وآمنوا حالاً واعتذر عنهم (إلا أن ينتهك شيء من محارم الله) يحتمل كون الاستثناء متصلاً: أي إلا ما نيل منه بأن كان فيه انتهاك المحارم كالطعن بارتكاب المحارم (فينتقم) حينئذ من ذلك الطاعن (لـ) حق (الله تعالى) لا لحق نفسه، وعدم انتقامه ممن قال في قسمته: هذه ما أريد بها وجه الله تعالى تأليفاً للقوم على الإسلام كما قال «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» ويحتمل أن
يكون الاستثناء منقطعاً وهو الأقرب، أي لكن إذا انتهكت حرمات الله تعالى انتقم من منتهكها كائناً ما كان (رواه مسلم) .

3645 - (وعن أنس رضي الله عنه قال كنت أمشي) أتى به بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية إشعاراً باستحضاره لذلك (مع رسول الله وعليه برد) تقدم ضبطه (نجراني) منسوب إلى نجران بلدة من بلاد همدان من اليمن، قال البكري: سميت باسم بانيها نجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان كذا في المصباح (غليظ الحاشية) أتى به ليرتب عليه مزيد الأثر الآتي (فأدركه أعرابيّ) لم أر من سماه (فجبذه) قيل إنه لغة في جذب وقيل إنه مقلوبه (جبذة شديدة) زاد في رواية «حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه» (فنظرت إلى صفحة) بفتح المهملتين وسكون الفاء بينهما: أي جانب من (عاتق النبيّ) وهو بالمهملة والفوقية والقاف ما بين العنق والكتف (وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته) وذلك من سوء أدبه وجفائه على عادة الأعراب، فمن بدا جفا (ثم قال) على

(5/103)


عادتهم في ذلك (يا محمد) ويحتمل أن يكون قبل تحريم ندائه باسمه (مر لي من مال الله الذي عندك) زاد البيهقي في روايته «فإنك لا تحمل من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي ثم قال: المال مال الله وأنا عبده» (فالتفت إليه فضحك) أي من قوله المنبىء بشأنه فشأن الإنسان دليل عقله (ثم أمر له بعطاء) العطاء عبارة عما يجتمع من الأموال من فىء أو غنيمة وخراج وتركة من لا وارث له، والمراد هنا أمر له بشيء من ذلك، وقد جاء أنه حمل له على بعير شعيراً وعلى الآخر تمراً ذكره في الشفاء، وهذا فيه مزيد حسن خلقه، فإنه عفا عن جنايته عليه بجبذه وإيلامه بحاشية ذلك البرد حتى أثر في عاتقه، وزاد على العفو بالبشر الذي هو كما قال من قال:

بشاشة وجه المرء خير من القرى
فكيف بمن يعطي القرى وهو يضحك
ويبذل الإحسان (متفق عليه) .
4646 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر) أي الآن (إلى رسول الله) وعبر بما ذكره إيماء إلى استحضاره فكأنه يخبر عن معاين، وقوله (يحكى نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) جملة حالية من رسول الله، وقوله (ضربه قومه فأدموه) أي أجروا دمه بالجراحات (وهو يمسح الدم) عن وجهه جملة حالية، إما من الضمير البارز في فأدموه لكونه أقرب فيكون حالاً متداخلة إن أعربت الجملة المعطوف عليها حالاً أو من نبياً (ويقول) في تلك الحالة المثيرة للغضب المقتضية للانتقام بعد عفوه عنهم زيادة في الفضل (اللهم اغفر لقومي) أي ما صنعوه معي من الضرب والإدماء، وقوله (فإنهم لا يعلمون) كالتعليل لسؤال المغفرة لهم: أي ما أوقعهم في ذلك إلا جهلهم بقدر النبي وعدم

(5/104)


معرفتهم بعلوّ مرتبته إذ لو عرفوه لقدروه حق قدره ففيه بعد الصفح زيادة الفضل بالدعاء لهم بالغفران والاعتذار عنهم بعدم العلم (متفق عليه) .

5647 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ليس الشديد) أي المحمود شدته شرعاً (بالصرعة) بضم ففتح وهو الذي يكثر صرع الناس ويغلبهم. أما الصرعة بضم فسكون: فهو الذي يصرعه الناس كثيراً (إنما الشديد) أي المحمود شرعاً (الذي يملك نفسه عند الغضب) أي الذي هو فوران دم القلب من حدوث أمر غير مرضي ممن هو دونك: أي فيملك نفسه حينئذ عن أن يقع منها إضراراً بالمغضوب منه، بل يعفو عنه ويكظم غيظه (متفق عليه) ورواه الإمام أحمد أيضاً كما في الجامع الصغير.

76 - باب احتمال الأذى
أي في فضل من احتمله لوجه الله سبحانه طلباً لمرضاته.
(قال الله تعالى) : ( {والكاظمين الغيظ} ) بحبس النفس عن مرادها من الانتقام ( {والعافين عن الناس} ) أي التاركين مؤاخذتهم في ذلك ( {والله يحبّ} ) أي يثيب ( {المحسنين} ) وفيه إيماء إلى أن من كان

(5/105)


متصفاً بهذه الصفات فهو من المحسنين.
(وقال تعالى) : ( {ولمن صبر} ) على الإيذاء ( {وغفر} ) وصفح عمن آذاه ( {إن ذلك} ) أي ما ذكر ( {لمن عزم الأمور} ) أي معزومها شرعاً (وفي الباب) أي باب احتمال الأذى (الأحاديث السابقة في الباب قبله) وزيادة عليه.
1648 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة) أي ذوي قرابة (أصلهم ويقطعوني) كذا في النسخ بنون واحدة مخففة، وهو محمول على أن المحذوف نون الوقاية اكتفاء عنها بنون الرفع القائمة مقامها فيما قصد بها من وقاية آخر الفعل الكسر بكسرها. ويجوز أن تكون الموجودة نون الوقاية، وحذف نون الأفعال الخمسة لغير جازم ولا ناصب لغة حكاها ابن مالك. ولا يخفي حسن المقابلة في كلامه بين الوصل والقطع، وكذا المقابلة في قوله (وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم) بضم اللام (عنهم ويجهلون عليّ) وحذف متعلقات كل من أصل وأحسن لتذهب النفس في تعيين ذلك كل مذهب وليعم كل ما يطلق عليه اسم شيء من تلك الأنواع (فقال: لئن) اللام فيه مؤذنة بقسم مقدر أتى به تأكيداً للمقام للترهيب من مقابلة الحسن بالسيء. قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) أي والله لئن (كنت كما قلت) من إسدائك الجميل لهم ومقابلتهم حسن صنيعك بقبيح فعلهم (فكأنما تسفهم الملّ) بضم الفوقية أي تجعلهم يسفون الرماد الحار وهذا من خلاف الغالب فإن الغالب من اجتماع القسم، والشرط أن يذكر جواب المقدم منهما ويحذف جواب الثاني لدلالة ذلك عليه، وهذا بعكس ذلك فأجازه ابن مالك تبعاً للفراء ومنعه الجمهور وحملوا قول الشاعر:
لئن كنت ما حدثته اليوم صادقاً
أصم في نهار القيظ للشمس بادياً على أنه ضرورة أو على أن اللام زائدة. ويمكن أن يخرج الحديث على وجه اتفقوا فيه

(5/106)


على جواز جعل الجزاء للشرط وإن تأخر عن القسم، وذلك بأن يقدر قبله مبتدأ: أي وأنت والله لئن كنت الخ، وفي مثله يجوز ذلك. وقال ابن مالك يجب، ومنه زيد والله إن يقيم أقم (ولا يزال معك من الله تعالى ظهير) أي معين (عليهم) من تجريدية لكمال إعانة المولى سبحانه لمن كان كذلك (ما دمت على ذلك) ففيه تحريض على الصبر على الإيذاء وأن الانتصار في ذلك يكون من حضرة الحق سبحانه وتعالى لمن كان كذلك (رواه مسلم، وقد سبق شرحه في باب صلة الأرحام) .

77 - باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع
بضمتين: أي ما حرمه، وهو مقتبس من قوله «حرم أشياء فلا تنتهكوها» وقوله «ألا وإن حمى الله محارمه» (والانتصار لدين الله تعالى) أي فعل ذلك كائناً من كان على أيّ شأن، وفي تعقيبه به الباب قبله تقييد لبيان أن محل فضل احتمال الأذى إذا كان مما لا انتهاك فيه للمحارم، وإلا فمن أو ذي بطلب محرم منها لا يصبر على ذلك الإيذاء، بل يدفعه بحسب طاقته.
(قال الله تعالى) : ( {ومن يعظم حرمات الله} ) ومن تعظيمها عدم خرق حجابها وترك انتهاكها والبعد عن حريمها حذر الوقوع في جميعها ( {فهو خير له عند ربه} ) لأن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً. قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} (الزلزلة: 7) .
(وقال تعالى) : ( {إن تنصروا الله} ) في دينه ( {ينصركم} ) على عدوكم، قال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره} (الحج: 40) وقال تعالى: {وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 172) و {إنهم لهم المنصورون} (ويثبت أقدامكم) في

(5/107)


الجهاد والطاعة (وفي الباب حديث عائشة السابق في باب العفو) عبر به دون الباب قبله تفنناً في التعبير، والمراد منه قولها «وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله تعالى» .
1649 - (وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو) بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي (البدري) نسبة إلى بدر لنزوله وسكناه إياها وإلا فلم يشهد وقعتها مع النبي، تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: جاء رجل) قيل هو حزم بن أبيّ بن كعب، ووقع كذلك في سنن أبي داود وتاريخ البخاري الكبير. وقال الحافظ في «فتح الباري» : إنه وهم ولم أقف على تسميته، وقيل هو حرام بن ملحان، وعليه اقتصر الخطيب، ومشى عليه ابن الأثير، وقيل حازم، وقيل سلمان بن الحارث، قاله البخاري أيضاً في تاريخه، ووقع في أصل قرىء على القرطبي من «شرحه» عن رواية البزار أنه سلم بن علي، وعلى لام سلم علامة الاسكان، وقيل مليكة، وقال القاري: هو كعب بن أبي حزة بفتح المهملة وتشديد الزاي ابن أبي العين وهو وهم كذا في غاية الأحكام، و «جاء» يكون متعدياً كقوله تعالى: {فإن جاءوك} (المائدة: 42) وتارة متعدياً بحرف ومنه ما نحن فيه إذ عدّاه بإلى في قوله (وإلى رسول الله فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح) وعند البخاري صلاة الغداة وعنده أيضاً زيادة القسم والله إني لأتأخر، ومراده أنه ترك حضور الجماعة لتطويل الإمام (من أجل فلان) قال الحافظ هو أبيّ بن كعب كما أخرجه أبو يعلى بإسناده حسن من حديث جابر وليس معاذ ابن جبل خلافاً لابن الملقن وغيره، قال الحافظ: وهو وهم. وفلان كناية عن ذي العلم العاقل المذكر، والظاهر أن الراوي هو الذي كنى عنه والرجل الذي شكاه للنيّ سماه وذلك من حسن الأدب في التعبير (مما يطيل بنا) بدل مما قبله بإعادة العامل: أي من إطالته الصلاة بنا (فما رأيت) أي علمت (النبي غضب في موعظة قط) يفتح القاف وضم الطاء المهملة في أفصح اللغات (أشد) بالنصب نعت مصدر محذوف: أي غضباً أشد، وسببه إما

(5/108)


مخالفة الموعوظ لما أعلمه: أي إن ثبت ذلك، أو التقصير في تعليم ما ينبغي تعلمه، ويحتمل أنه لإرادة الاهتمام بما يلقيه لأصحابه، قال في «فتح الباري» :
وهذا أحسن في الباعث على أصل الغضب، أما كونه أشد فالثاني من الاحتمالين الأولين أوجه (مما غضب) ما مصدرية أي من غضبه (يومئذ) ولا يعارض هذا ما جاء من نهيه القاضي أن يقضي حال غضبه لمكانه من العصمة المانعة من حمل الغضب إياه على ما لا ينبغي من قول أو فعل بخلاف غير المعصوم، قاله البرماوي (فقال) عطف على مقدر دلّ عليه سابق الكلام: أي فوعظ فقال (يا أيها الناس إن منكم منفرين) فيه من الإخفاء وتعميم الحكم ما في حديث «ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله» إما للستر عليه وإما للإعراض وذلك من أشد الوعيد (فأيكم أمّ الناس) عند البخاري في بعض طرقه/ «فأيكم ما صلى» وما مزيدة ويكثر زيادتها مع أي الشرطية وفائدتها التوكيد وزيادة التعميم (فليوجز) هو لفظ مسلم، ولفظ البخاري «فليتجوز» أي ليقتصر مع إتمام الأركان والسنن. قال أهل اللغة: أوجزت الكلام قصرته فهو موجز بفتح الجيم وكسرها ووجز ووجيز (فإن من) بكسر الميم (ورائه) أي ممن اقتدى به (الكبير) فيعجز عن الطول لكبره إذ هو مظنة الضعف غالباً (والصغير) الذي لاثبات عنده على الصبر على الإطالة. وفي عمدة الأحكام «الضعيف» بالمعجمة بدل المهملة وبالفاء بدل الراء (وذا الحاجة) فتمنعه من درك حاجته الإطالة ويشتغل خاطره فيسلبه خشوعه الذي هو لب العبادة (متفق عليه) وإخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن الجارود وابن حبان والطبراني والإسماعيلي وأبو عوانة والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، كذا في شرح عمدة الأحكام للقلقشندي.
2650 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله وآله وسلم من سفر) قال في «فتح الباري» في رواية البيهقي: إنها غزوة تبوك وفي أخرة لأبي داود والنسائي غزوة تبوك أو خيبر.

(5/109)


على الشك (وقد سترت سهوة لي بقرام) جملة حالية من رسول الله والسهوة بفتح السين المهملة وسكون الهاء سيأتي معناه ومعنى القرام «فيه تماثيل» جملة صفة القرام أو الظرف صفة وتماثيل فاعله، والتماثيل بمثناة ثم مثلثة جمع تمثال وهي الشيء المصرّر أعم من أن يكون شاخصاً، أو يكون نقشاً أو دهاناً أو نسجاً في ثوب (فلما رآه رسول الله) هتكه: أي نزعه، وفي رواية البخاري عن عائشة «فأمرني أن أنزعه فنزعته» (وتلوّن وجهه) أي تغير من غضبه لله سبحانه (وقال: يا عائشة أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة) ظرف لأشد، وقوله (الذين يضاهون بخلق الله) خبر أشد: أي الذين يشبهون ما يصنعونه بما يصنعه الله. وقد استشكل كون المصور أشد عذاباً من قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} فإنه يقتضي كون المصوِّر أشد عذاباً من آل فرعون. وأجاب الطبري بأنه محمول على من يصوّر ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصد له فإنه يكفر بذلك. وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات «من ثابتة ويحذفها محمولة عليها: أي إن المصورين من أشد الناس عذاباً. وقال أبو الوليد بن رشد: إن كان الحديث في حق كافر فلا إشكال فيه لأنه يكون مشتركاً في ذلك مع آل فرعون ويكون فيه دلالة على عظم كفر المذكورين، وإن كان ورد في حق عاص فيكون المراد أشد عذاباً من غيره من العصاة ويكون دالاً على عظم المعصية المذكورة. وأجاب القرطبي في المفهم بأن الناس إذا أضيف إليه أشد لا يراد به كلهم بل البعض، وهو من يشارك في المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس الذين ادعوا الألوهية عذاباً ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد عذاباً ممن يقتدي به في ضلالة فسقه. ومن صوّر صورة ذات روح للعبادة أشد ممن يصورها لا
للعبادة. واستشكل ظاهر الحديث أيضاً إبليس وابن آدم الذي سنّ القتل. ويجاب بأن المراد من الحديث من ينسب إلى آدم فخرج إبليس، وأما ابن آدم فالثابت في حقه أن عليه أوزار من يقتل ظلماً، ولا منع أن يشاركه في مثل تعذيبه من ابتدأ الزنى مثلاً فإن عليه مثل أوزار الزناة بعده، لأنه أوّل من سن ذلك، ولعل عدد الزناة أكثر من القاتلين (متفق عليه) أخرجه البخاري ومسلم في اللباس من صحيحيهما وأخرجه النسائي في الزينة (السهوة) بضبطها السابق (كالصفة تكون بين يدي البيت) وقيل الكوة وقيل الرف، وقيل أن يبني من البيت حائط صغير ويجعل السقف على الجميع، فما كان وسط

(5/110)


البيت فهو السهوة وما كان داخله فهو المخدع، وقيل داخله في ناحية البيت وقيل بيت صغير شبيه المخدع، وقيل بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض كالخزانة الصغيرة ويكون فيها المتاع، ورجح هذا الأخير أبو عبيد ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله. ووقع في رواية البخاري عن عائشة أنها علقته على بابها وكذا عنها عند مسلم، فتعين أن السهوة بيت صغير علقت الستر على بابه، قاله في الفتح (والقرام بكسر القاف) وتخفيف الراء (هو ستر رقيق) في الفتح هو ستر فيه رقم ونقش. وقيل ثوب من صوف ملون يفرش في الهودج أو يغطى به اهـ. (وهتكه أفسد الصور التي فيه) وهذا أحد معاني هتك. قال في «المصباح» : هتك زيد الستر من باب ضرب خرقه فانتهك، قاله الأزهري وتبعه الزمخشري جذبه حتى نزعه من مكانه أو شقه حتى أظهر ما وراءه.
3651 - (وعنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية) قال العراقي في مبهماته: هي فاطمة بنت أبي الأسد بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد ذكره عبد الغني. وقيل هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد ذكره عبد الرزاق (التي سرقت) وكان ذلك يوم الفتح (فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟) أي شفيعاً عنده فيها، والشفاعة في الحدود بعد بلوغها الإمام ممتنعة لحديث الباب وما في معناه وقيل بلوغها له مستحبة إلا إذا كان ذلك صاحب شرّ وأذى فلا يشفع فيه (فقالوا من يجترىء) من الجرأة الإقدام أي يتجاسر عليه بطريق الإدلال (عليه إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله) بكسر الحاء: أي محبوبه ففيه منقبة ظاهرة لأسامة (فكلمه) معطوف على محذوف دلّ عليه السياق: أي فكلموه فكلمه (أسامة فقال رسول الله: أتشفع في حدّ من حدود الله تعالى؟) أي بعد رفعه إليّ (ثم قام فاختطب) أي خطب كما في نسخة، وأتى به من باب الافتعال الدال على الاعتمال إيماء إلى أنه

(5/111)


بالغ في الموعظة (ثم قال) أي بعد أن وعظ وخوّف وحذر وأنذر كما تومىء إليه ثم (إنماأهلك الذين من قبلكم) أي الأمم (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف) قدراً ووجاهة (تركوه) لوجاهته وشرفه. ثم الجملة الشرطية خبر كان (وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) لخموله وسقوط وجاهته (وايم الله) بضم الميم والهمزة فيه للوصل وهو من لغات أيمن بفتح الهمزة في الأفصح وتكسر. قال ابن هشام: هوا سم مفرد مشتق من اليمن والبركة لا جمع يمين خلافاً للفراء وفيه اثنتا عشرة لغة جمعها ابن مالك في قوله:
همز ايم وايمن فافتح واكسرن أم قل
أو قل م أو من بالتثليث قد شكلا
وأيمن اختم به والله كلا أضف
إليه في قسم تستوف ما نقلا
وذكر السيوطي في «شرح جمع الجوامع» له في النحو في ذلك عشرين لغة (لو أن فاطمة بنت محمد) (سرقت) أتى به مبالغة وهو على سبيل الفرض الذي يستعمل فيما لا يكون أصلا لا الوقوع، وكان التقى السبكي يزيد بعد هذا قوله. حاشاها من ذلك، وهو أدب حسن (لقطعت يدها) مع أنها أشرف نساء هذه الأمة. ففيه أن شرف الجاني لا يسقط الحد عنه، وأن أحكام المولى سبحانه يستوي فيها الشريف والوضيع (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام، ومسلم في الحدود، ورواه أصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
4652 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله رأى نخامة) بضم النون. قال ابن سيده في «المحكم» : نخم الرجل: دفع بشيء من صدره وأنفه. وقال في «الصحاح» والمجمل: النخامة: النخاعة. وفي «المغرب» و «المطرب» للمطرزي: هو ما يخرج من الخيشوم. وفي التهذيب للمصنف: النخامة ما يلفظه الإنسان كالنخاعة (في القبلة) أي في الجدار الذي يستقبلونه حال استقبالهم القبلة (فشقّ ذلك عليه حتى رؤى) أثر ذلك (في وجهه) من الغضب

(5/112)


الذي كان يعتريه لله إذا انتهكت حرمات الله (فقام) أي عقب الإطلاع عليه (فحكه) إزالة للمنكر باليد. ويحتمل أنه كان باقياً على طراوته فأزاله بيده مها. ويحتمل أن يكون قد جف فمعنى أزله (بيده) أي بما فيها من نحو عود (فقال: إن أحدكم) أي الواحد منكم (إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه) جواب إذا، ومناجاته لربه من جهة إتيانه بالقرآن والأذكار ومناجاة ربه له من جهة لازم ذلك وهو إرادة الخير مجازاً، لأن الحقيقة وهو الكلام المحسوس مستحيلة في حقه تعالى. والمناجاة: المسارة يقال ناجيته ونجوته إذا ساررته (وإن) بكسر الهمزة وفتحها والواو للعطف وهذا ما في بعض نسخ البخاري، وفي بعضها «أو» وهي إيماء إلى أن بعض رواته شك في ذلك (ربه بينه وبين القبلة) قال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار التقدير أن مقصوده بينه وبين قبلته. وقيل هو على تقدير مضاف: أي عظمة الله أو ثوابه، وقيل هو كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة (فلا يبزقن) بضم الزاي وقد تبدل صادا لوقوعها قبل القاف (أحدكم قبل) بكسر ففتح: أي مقابل (القبلة) أي لأنها الجهة التي أمر الله بتعظيمها فلا تقابل بالبزاق. قال الشيخ زكريا في «تحفة القارى» : والنهي للتحريم (ولكن عن يساره أو تحت قدمه) متعلق الظرف محذوف دلّ عليه ما قبله: أي ليبزق فيهما (ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه) الصاد فيه بدل من الزاي (ثم ردّ بعضه على بعض) ليذهب جرم البزاق ويستهلك بذلك
(فقال أو يفعل هكذا) وأو فيه وفيما قبله للتنويع: أي هذه أحب (متفق عليه) رواه البخاري في أبواب المساجد من «صحيحه» ، ومسلم في كتاب الصلاة (والأمر بالبصاق عن يساره، أو تحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد) فيفعل ما أراد من الأمور الثلاثة (فأما في المسجد) جامعاً كان أو غيره (فلا يبصق إلا في ثوبه) لحرمة البصاق فيه، قال «البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها

(5/113)


دفنها» قال المصنف: أي كفارة دوام إثم ذلك، أما الابتداء فلا يكفره إلا التوبة أو فضل الله سبحانه وتعالى.)

78 - باب أمر ولاة الأمور
بضم الواو جمع وال كقاض وقضاة وغاز وغزاة (بالرفق برعاياهم) جمع رعية كخطية وخطايا: وهم الذين على ولاة الأمور مراعاة شؤونهم وإصلاح أمورهم (ونصيحتهم) عطف على الرفق وكذا قوله (والشفقة عليهم والنهي) معطوف على أمر (عن غشهم) كتم ضرائرهم عنهم (والتشديد عليهم) في الأحكام وفي الأحوال (وإهمال مصالحهم) بأن يتركها حتى تفوتهم (والغفلة) معطوف على غش: أي والنهي عن الغفلة (عنهم وعن حوائجهم) لأن ذلك يضرّهم معاشاً ومعاداً.
(قال الله تعالى) : ( {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} ) الظرف في محل الحال بيان للموصول، والآية تقدم الكلام عليها وساقها المصنف هنا استدلالاً على ما قدمه من الرفق بالرعايا.
(وقال تعالى) : ( {إن الله يأمر بالعدل} ) بالتوسط في الأمور اعتقاداً وعملاً ( {والإحسان} ) إلى الناس، وعن ابن عباس: العدل التوحيد، والإحسان: الإخلاص فيه (وإيتاء ذي القربى) صلة الرحم ( {وينهي عن الفحشاء} ) ما غلظ من المعاصي كالزنى ( {والمنكر} ) ما ينكره الشرع ( {والبغى} ) العدوان على الناس (يعظكم لعلكم تذكرون) أي تتعظون، وللَّه درّ من قال: لو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة» ولعل إيرادها عقب قوله: {وأنزلنا عليك الكتاب} () للتنبيه عليه، وجملة يعظكم مستأنفة أو في محل الحال من ضمير يعظكم، والآية مشتملة على

(5/114)


جميع المطالب التي ترجم لها.
1653 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله يقول: كلكم راع) تشبيه بليغ: أي مثل الراعي، قاله العاقولي وأفرد الخبر اعتباراً بلفظ كل، ويجوز فيها إذا كانت مضافة إلى المعرفة اعتبار لفظها واعتبار معناها (وكلكم مسئول عن رعيته) أي أقام بالحق الذي لها أم لا (الإمام) أي ذو الخلافة العظمى ومثله سائر ولاة الأمور (راع ومسؤول عن رعيته) يحتمل كونه من عطف خبر على مثله نحو زيد كاتب وشاعر، ويحتمل كونه من عطف الجمل: أي وهو مسئول فيكون معطوفاً على الجملة قبله (والرجل راع) أي على أهله وأولاده وخدمه (ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) من بيته هل حفظته أو أضاعته؟ وعن أهله المقامة عليهم، هل قامت بما عليهم لها أم لا؟ (والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته) أحفظها عليه أم أضاعها؟ (متفق عليه) تقدم معنى الحديث وتخريجه في باب حق الزوج على امرأته.
2654 - (وعن أبي يعلى) ويقال أبو عبد الله ويقال أبو يسار (معقل بن يسار) بفتح التحتية وبالسين المهملة ابن معبر بضم الميم وفتح العين وتشديد الموحدة، وقيل بإسكان العين وفتح المثناة تحت ابن حراف بضم المهملة، وقيل حسان بدل حراف ابن لأي بن كعب بن نور بن عدنان المزني البصري (رضي الله عنه) شهد بيعة الرضوان، ونزل البصرة وتوفي بها آخر خلافة معاوية، وقيل توفي أيام يزيد، روى له عن رسول الله أربعة وثلاثون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين. قال أحمد ابن عبد الله العجلي، ليس في الصحابة من يكنى أبا علي غير معقل. وردّ بأنها كنية طلق بن علي. وذكر أبو يحيى أحمد الحاكم أن قيس بن عاصم كنيته أبو علي ومعقل هذا

(5/115)


هو الذي ينسب إليه نهر معقل البصري وإليه ينسب التمر المعقلي الذي بالبصرة (قال: سمعت رسول الله يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية) أي يفوض إليه رعايتها والرعية بمعنى المرعية (يموت) خبر ما، كذا أعربه ابن مالك في شرح المشارق، والظاهر أنه كما قبله صفة عبد والخبر محذوف (يوم يموت) ظرف مقدم على عامله، والمراد من اليوم فيه إزهاق روحه، وما قبله من حين المعاينة التي لا يقبل عندها التوبة لا قبل ذلك، فإن التوبة قبل المعاينة صحيحة مقبولة والتائب عن جنايته وتقصيره لا يستحق هذا الوعيد (وهو غاشّ لرعيته) جملة حالية من ضمير يموت الأول وهو قيد في الفعل ومقصود بالذكر لأن المعتبر من الفعل هو الحال، بمعنى أن الله ولاه لينصحهم لا ليغشهم فيموت كذلك، والخبر عامل في الظرف قبله وقوله غاش أي خائن (إلا حرم الله عليه الجنة) أي دخولها مع الفائزين الناجين أو مطلقاً إن اعتقد حل غش المسلمين وخيانتهم (متفق عليه) .
(وفي رواية) ذكرها البخاري في كتاب الأحكام قبل الحديث قبله في باب من استرعى رعية فلم ينصح لهم. وظاهر قول المصنف الآتي وفي رواية لمسلم أن هذه لهما كالتي قبلها ولم أره فيه (فلم يحطها) بفتح التحتية وضم الحاء وسكون الطاء المهملتين: أي يكلؤها، أو يصنها وزنه ومعناه والاسم الحياطة يقال حاطه إذا استولى عليه وأحاط به مثلها أي يشملها (بنصحه) فيسعى فيما ينفعهم ودفع ما يضرهم (لم يجد) قيل الصواب إثبات إلا قبل لم لتقدم ما النافية أول الحديث، وقد جاء كذلك في نسخة الصغاني، ولذا قال الكرماني: مفهوم الحديث أنه يجدها وهو عكس المقصود. والجواب أن إلا مقدرة والخبر محذوف. والتقدير: ما من عبد فعل كذا جوزي بحال من الأحوال إلا حرّم الله عليه الجنة ولم يجد عرف الجنة استئناف كالمفسر للخبر المحذوف أو ليست ما نافية، وجازت زيادة من للتأكيد في الإثبات عند بعض النحاة. قال الحافظ ابن حجر: لم يقع الجمع بين اللفظين المتوعد بهما في طريق واحدة بل كل في طريق غير الأخرى، وكأنه أراد أن الأصل

(5/116)


في الحديث جمعهما فحفظ بعض ما لم يحفظه بعض وهومحتمل، لكن الظاهر أنه لفظ واحد تصرفت فيه الرواة، ومفعول يجد قوله (رائحة الجنة) أي ابتداء أو مطلقاً على ما تقدم، وقوله فلم يحطها بنصحه بدل قوله في الحديث قبله «يموت يوم يموت» إلى آخر الحديث. زاد الطبراني «وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاماً» قال في التوشيح: وللطبراني «من مسيرة خمسمائة» وفي الفردوس «ألف عام» وجمع بأن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأعمال وتفاوت الدرجات، فيدركه من شاء من مسيرة ألف عام ومن شاء من مسيرة أربعين أو مائتين، قاله ابن العربي وغيره (وفي رواية لمسلم) أي وما قبلها للبخاري فقط كما أشرنا إليه وإن كان ظاهر الاستصحاب لما قبله أن يكون لهما أيضاً (ما من أمير يلي أمور المسلمين) ما تفيده عموم إضافة الجمع غير مرادة بل الحديث شامل لذى الإمامة العظمى ولغيره من
باقي الولاة، وظاهر أن مثل المسلمين أولى بالعصمة من ذمي ومعاهد لحمرة التعرض لهم حينئذ فيجب على الإمام أن يسعى فيما لهم ويكف عنهم أذى من يؤذيهم بغير طريق مأذون فيه شرعاً، ولعل الاقتصاد عليهم لكونهم أشرف، وقد تقدم بلفظ «يسترعيه الله رعية» فيشمل الجميع (ثم لا يجهد لهم) بفتح الهاء قال في «المصباح» جهد في الأمر من باب نفع: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب (وينصح لهم) بتقدير «لا» قبله لأن الوعيد مرتب على ترك أحدهما لا على ترك المجموع بدليل رواية البخاري السابقة (إلا لم يدخل معهم الجنة) .
3655 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول في بيتي هذا) الظرف في محل الحال من الضمير المستكن في الفعل وإضافة البيت إليها لكونه سكناها وإلا فهو بالحقيقة له، والإشارة إليه زيادة في الإيضاح ودفعاً لتوهم كون الإخبار في غير بيتها الذي به دفن ومعه صاحباه رضي الله عنهما (اللهمّ من ولي من أمر أمتي شيئاً) التنكير فيه للتعميم فيشمل جليل الولاية ودنيئها، و «من» في قوله «من أمر أمتي» ابتدائية،

(5/117)


ويصح كونها بيانية لشيئاً في محل الحال وكان صفة فلما قدمت أعربت حالاً (فشق عليهم) قولاً وفعلاً (فاشقق عليه) فيكون الجزاء من جنس العمل: أي وقعه في المشاق دنيا كتسليط الأعادي عليه، وأخرى بأنواع التعذيب (ومن ولى من أمر أمتي شيئاً) أتى به ظاهراً مع أن المقام للإضمار بأن يقال «منه» زيادة في الإيضاح لكون غالب شأن ولاة الأمور قلة العلم وبعد الفهم لاشتغالهم بأمور الإمامة وسياستها عن دقائق العلوم ورياستها، فأوضح لتقوم الحجة عليهم فلا يعتذورا بخفاء المراد من عبارة الشارع عليهم وتنبيهاً على السبب الداعي لجزاء الأمير بما فعله فيهم من رفق ومشقة: أي كونهم أمته مضافين لحضرته مستأهلين لذلك السعي في مصالحهم والجهد في دفع ضرائرهم والله أعلم (فرفق بهم) قولاً وفعلاً (فارفق به) دنيا وأخرى، وقد جاء «كما تدين تدان» (رواه مسلم) في المغازي من «صحيحه» ، ورواه النسائي في السير.
4656 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كانت بنو إسرائيل) هو اسم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بالعبرانية، وإسر معناه عبد، وإيل معناه الله: أي عبد الله (تسوسهم الأنبياء كلما هلك تبنى خلفه نبيّ آخر) أي إنهم كانوا إذا ظهر فيهم فساد بعث الله نبياً يقيم لهم أمرهم ويزيل ما غيروه من أحكام التوراة. وفيه إيماء إلى أنه لا بد لرعية ممن يقوم بأمرها ويحملها على الطريق وينصف المظلوم من ظالمه، وجملة كلما الخ في محل الحال من فاعل يسوس: أي الأنبياء تترى بعضهم إثر بعض، وجملة (وإنه لا نبي بعدي) معطوفة على كانت بنو إسرائيل واسم إنّ ضمير الشأن وخولف بين المعطوف والمعطوف عليه لإرادة الثبات والتوكيد في الثاني، والمراد لا نبيّ بعدي: أي فيفعل ما كان يفعل أولئك (وسكون بعدي خلفاء) الظرف في هذه لم أجده في النسخ المصححة من «الصحيحين» بل في «فتح الباري» «وستكون خلفاء» أي بعدي فهو صريح في عدم وجودها في البخاري، ولعله في بعض النسخ عندهما أو عند أحدهما (فيكثرون) بالمثلثة، وحكى عياض أن منهم

(5/118)


من ضبطه بالموحدة وهو تصحيف، ووجه بأن المراد إكبار قبيح فعلهم (قالوا فما) مفعول ثان مقدم لقوله (تأمرنا) ويجوز إعراب ما مبتدأ ويقدر بعد الفعل مفعول، إما صريحاً: أي تأمرناه، أو مع حرف الجر: أي به والفاء فيه جواب شرط مقدر: أي إذا كثر بعدك الخلفاء أو تنازعوا فما تأمرنا نفعل؟ (قال: أوفوا ببيعة الأول) أي بقضيتها من طاعته والانقياد وقتال من بغى عليه وخرج عن طاعته وذلك لانعقاد إمامته لعدم اشتغال الأمر بأحد (ثم أعطوهم حقهم) أي أطيعوهم وعاشروهم بالسمع والطاعة وهو كالبدل من قوله «أوفوا بطاعة الأول» (واسألوا الله الذي لكم) أي عليهم من الرفق بكم والجهد في مصالحكم والنصيحة لكم إذا لم يقوموا به (فإن الله سائلهم عما استرعاهم) هو كحديث ابن عمر السابق في الباب «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» . وفي الحديث تقديم أمر الدين
على أمر الدنيا، لأنه أمر بتوفية حق السلطان لما فيه من إعلاء كلمة الدين وكفّ الفتنة والشرّ وتأخير المرء المطالبة بحقه لا يسقطه. وقد وعده الله أن يخلصه له ويوفيه إياه ولو في الدار الآخرة (متفق عليه) رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل أواخر كتاب الأنبياء من «صحيحه» ومسلم في المغازي، ورواه ابن ماجه.

5657 - (وعن عائذ) بالعين المهملة وبعد الألف همزة فذال معجمة (ابن عمرو) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الأمر بالمعروف (أنه دخل على عبيد الله) بضم المهملة وفتح الموحدة مصغراً (ابن زياد) بكسر الزاي وبالتحتية وهو أمير العراقين بعد أبيه (فقال) : أي بفتح الهمزة وسكون التحتيّة حرف لنداء القريب، و (بنى) بصيغة التصغير للتحبب والتحنن يطرد في يائه الكسر دلالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً والفتح والإسكان تخفيفاً، وقد قرىء بهذه اللغات في السبع (إني سمعت رسول الله يقول: إن شرّ الرعاء) بكسر الراء آخره ألف ممدودة جمع راع ويجمع على رعاة بضم أوله بزيادة هاء كقاض وقضاة (الحطمة) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية، قال في «النهاية» : هو العنيف برعاية الإبل في السوق والإيراد

(5/119)


والإصدار ويلقى بعضها على بعض ويعسفها، ضربه مثلاً لوالي السوء، ويقال حطم بلا هاء اهـ. وهو مأخوذ من الحطم: وهو الكسر، والمراد منه لفظ القاسي الذي يظلمهم ولا يرق لهم ولا يرحمهم، وهذا آخر الخبر المرفوع، وقوله (فإياك أن تكون منهم) من كلام عائذ نصيحة لابن زياد وأدرجه في آخر الحديث (متفق عليه) فيه أن الحديث إنما أخرجه مسلم في آخر المغازي، وقد رمز له كذلك الحافظ المزي في «الأطراف» ولم يرمز للبخاري، وكذا اقتصر في «الجامع الصغير» على رمز مسلم وزاد: وأخرجه أحمد، وليس فيه رمز للبحاري. وفي التيسير مختصر جامع الأصول للديبع بعد ذكر حديث معقل المذكور آنفاً: أخرجه الشيخان، وفي أخرى لمسلم عن الحسن البصري: أن عائذ بن عبد
الله دخل علة ابن زياد فذكر الحديث، فبان أنه من أفراد مسلم لا من المتفق عليه، وهذا إن يكن من تحريف الكتاب سبق قلم من المصنف.

6658 - (وعن أبي مريم الأزدى) بفتح الهمزة وسكون الزاي، قال الحافظ في «تبصير المنتبه» : هذا هو الأكثر، ويقال في مثله بإبدال الزاي سينا مهملة نسبة إلى الأزد اهـ. وقال ابن الأثير: هو الكندي، ويقال الأزدي، يعد في الشاميين. قيل إنه غير أبي مريم الغساني، وقيل إنه هو، وقد ذكره ابن منده في ترجمة أبي مريم السلولي فقال: أراه الكندي ولا يبعد، فإن السلول قبيلة من كندة. قال الحافظ المزي في «الأطراف» : قيل إن أبا مريم هذا هو عمرو بن مرة الجهني، وقد روى عليّ بن الحكم النسائي عن أبي الحسن الجزري الشامي قال: قال عمرو ابن مرة لمعاوية فذكره قريباً منه اهـ. روى له عن رسول الله هذا الحديث (رضي الله عنه أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: من ولاه الله شيئاً) أيّ شيء كان كما يؤذن به عمومه بكونه نكرة في سياق النفي (من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم) بفتح المعجمة وتشديد اللام في النهاية: هي الحاجة والفقر فهو من عطف المرادف أو الخاص على العام، وكذا عطف قوله (وفقرهم) والجمع بين الثلاثة إطناب. وقال العاقولي بل بين الثلاثة فرق، فالحاجة ما يهتم به الإنسان وإن لم تبلغ

(5/120)


حد الضرورة بحيث لو لم تحصل لاختل أمره، والخلة ما كان فوق ذلك مأخوذ من الخلل ولم يبلغ حد الاضطرار، والفقر هو الاضطرار التام مأخوذ من الفقار كأنه كسر فقاره اهـ. وكأنه باعتبار المراد في الحديث وما أشرنا إليه باعتبار موضوع اللفظ لغة، إذ الفقر مطلق الحاجة وكذا الخلة، والله أعلم. قال العاقولي: المراد باحتجاجه مع أرباب الحاجات من الوصول إليه فيعسر عليهم إنهاؤها (احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره) أي لم يجب له دعاء ولم يحقق له أملاً (يوم القيامة) ظرف لاحتجب الثاني (فجعل
معاوية) أي عقب سماع ذلك منه (رجلاً على حوائج الناس) أي لإيصالها إليه وإبلاغه إياها لتخفّ عنه المؤنة فلا يصعب عليه الأمر (رواه أبو داود) في الخراج من سننه (والترمذي) في الأحكام من «جامعه» .

79 - باب فضل الوالي العادل
عبر بالوالي ليشمل كل ذي ولاية.
(قال الله تعالى) : ( {إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية} ) بالنصب: أي أتم الآية، وبالرفع: أي الآية المعروفة، وبالجرّ على حذف الجار وإبقاء عمله وهذا شاذ (إلى آخرها) وقد سبق الكلام على معناها في الباب قبله.
(وقال تعالى) : ( {وأقسطوا} ) بفتح الهمزة أي اعدلوا من الإقساط: العدل ( {إن الله يحبّ} ) أي يثيب ويوفق ( {المقسطين} ) العادلين.

(5/121)


1659 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: سبعة) أي من أصناف الناس فهو مبتدأ سوغ الابتداء به ما أشرنا إليه، وقوله (يظلهم الله في ظله) خبره وقوله (يوم لا ظلّ إلا ظله) ظرف له وهو القيامة (إمام عادل) بالرفع خبر مبتدإ محذوف: أي هم والعطف سابق على الربط، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لمن قال: من هم؟ وذكر الإمام لأنه الأشرف والأفضل العادل يشمله وغيره من الولاة كما تومىء إليه ترجمة المصنف (وشاب نشأ في عبادة الله تعالى) مخلصاً لله سبحانه (ورجل قلبه معلق بالمساجد) فهو من عمارها المشهود لهم بالاهتداء، وتعلق قلبه بها، ليعبد الله تعالى فيها بصلاة واعتكاف ونحو ذلك فلذا قرنة بما قبله (ورجلان تحابا في الله) في تعليلية أي لله لا لغرض ولا لعرض. وفي الحديث «أفضل الحبّ الحبّ في الله» (اجتمعا عليه وتفرقا عليه) جملة صفة بعد صفة للكرة قبلها أو حال منها لتخصيصها بالوصف (ورجل دعته امرأة ذات) صاحبة (منصب) إشارة لغناها (وجمال) إشارة لما يدعو لموافقتها، ومع ذلك كفّ نفسه عنها (فقال إني أخاف الله) أي وخوفه يمنع من المعصية التي منها الزنى فذكر السبب وأراد المسبب (ورجل تصدق بصدقة) هي ما يتبرع به لمحتاج تقرباً إلى الله سبحانه (فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) أي أنه من شدة الإخفاء لو كان بجانبه إنسان نبيه فطن لما فطن بصدقته إلى من عن يمينه (ورجل ذكر الله) أي جلاله وعظمته (خالياً) قيد به لأنه حينئذ أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص وإلا فالمراد البكاء خوفاً من الله مخلصاً له سواء كان في الخلا أو في الملا (ففاضت عيناه) من هيبته وجلاله، أو ذكر نعماء الله عليه وتقصيره في أداء شكرها ففاضت عيناه حياء من الله تعالى (متفق عليه) تقدم تخريجه مع بسط الكلام في شرحه في باب فضل

(5/122)


الحبّ في الله تعالى.
2660 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف الياء تخفيفاً وتقدم بيان وجهه مراراً (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: إن المقسطين) أو العادلين (عند الله) عندية شرف ومكانة وهو محتمل لكونه خبر إنّ، وقوله (على منابر من نور) في محل الحال من الضمير المستقر فيه أو خبر بعد خبر، أو هو خبر والظرف قبله حال من الضمير المستقر فيه، ومن نور صفة منابر مخصصة لبيان الحقيقة، ويجوز أن يكون حالاً بعد حال على التداخل. قال العاقولى: هذا يحتمل الحقيقة وهي جمع منبر سمى به لارتفاعه، ويحتمل أن يكون كناية عن المنازل الرفيعة والمراد بذلك كرامتهم ولذا قال عند الله فهو كناية عن ارتفاع شأنهم في معارج القدس (الذين يعدلون في حكمهم في أليهم وما ولوا) صفة المقسطين أو خبر محذوف: أي الممدوحون أو مفعول أمدح مقدراً وفي حكمهم صلة يعدلون وفي أهليهم صلة حكم، ويجوز كونه ظرفاً مستقراً: أي حال كون الحكم كائناً في أهلهم، قال العاقولي: أي إن هذا الفضل إنما هو لذي العدل فيما قلده من دنيوي أو أخروي كلي أو جزئي في أهله وغيره وهو ملخص من كلام المصنف في «شرح مسلم» (رواه مسلم) وأحمد والنسائي، وعندهم زيادة «عن يمين الرحمن» بعد قوله: «من نور» . 9
3661 - (وعن عوف بن مالك) هو الأشجعي كما في «أطراف» المزي (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: خيار) بكسر المعجمة فتحتية مخففة. قال في المصباح جمع خير: ضد الشرّ كسهم وسهام ومنه: خيار المال الكرائم (أتمتكم) بهمزتين وتخفف بقلب الثانية ياء جمع إمام وأصله أأممة علة وزن أفعلة فنقلت الكسرة إلى الساكن قبلها وأدغمت الميم الساكنة في المتحركة (الذين تحبونهم) لحسن سيرتهم فيكم ورفقهم بكم (ويحبونكم) وذلك لأن المحبة رابطة من الجانبين، ولذا عجب من حب زوج بريرة لها وبغضها إياه

(5/123)


(وتصلون عليهم) أي تدعون لهم بخير وعدى بعلى لتضمنه معنى الحنو والعطف (ويصلون عليكم) أي يدعون لكم لامتثالكم ما أمر الله بامتثاله واجتنابكم ما نهى الله عنه ويصلون عليكم إذا متم وتصلون عليهم كذلك. قال العاقولي: وإن حمل على الدعاء فحسن. أي تدعون لهم ويدعون لكم وذلك إنما يكون عند التقارب والتآلف والتناصف وكلا المعنيين قريب وكل منهما يلزم الآخر اهـ. وكونه يلزم من كل منهما الآخر في محل المنع، والله أعلم (وشرار أئمتكم) بكسر المعجمة جمع شرّ ضد الخير كما تقدم (الذين تبغضونهم) لشقهم عليكم وعدم رفقهم بكم (ويبغضونكم) كما تقدم في نظيره (وتلعنونهم) أي تدعون عليهم بالبعد من الرحمة لسوء أعمالهم، ولا يلزم منه جواز الدعاء بلعن المعين لأن هذا بيان عادة الناس مع أمراء السوء لا أن ذلك مشروع (ويلعنونكم) مجازاة لما فعلتم معهم (قال قلنا يا رسول الله أفلا ننابدهم) أي أنطيعهم على سوء وصفهم المذكور فلا ننابذهم أي نخالفهم بترك الطاعة لهم (قال لا) أي لا تنابذوهم (ما) مصدرية ظرفية (أقاموا فيكم الصلاة) أي مدة إقامتهم لها فيكم، وفيه دليل تعظيم الصلاة. ويؤخذ منه أن ترك إقامة الصلاة كالكفر البواح لقوله في حديث عبادة «لا إلا أن تروا كفراً بواحاً» وقد تقدم في باب الأمر بالمعروف وكذا تقدم فيه من حديث أم سلمة «قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال
لا ما أقاموا فيكم الصلاة» رواه مسلم، وبه يتبين تفسير ننابذهم في حديث الباب لأن تفسير السنة بالسنة أولى، وفي «المصباح» نابذته الحرب كاشفته إياها وجاهرته بها (رواه مسلم) .

(تصلون عليهم: تدعون لهم) أي بخير كما يدل عليه تعدية دعا باللام وهذا أحد المحتملين في ذلك كما تقدم.
4662 - (وعن عياض بن حمار) بكسر أول كل منهما وهو مهمل وتجفيف التحتية والميم

(5/124)


وآخر الأول ضاد معجمة والثاني راء، وقد تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب فضل الاختلاط بالناس (قال: سمعت رسول الله يقول: أهل الجنة ثلاثة) مفهوم العدد غير معتبر عند الأصوليين والاقتصار على ذلك لعله لدعاء المقام حين التكلم إليه، والتمييز محذوف أي ثلاثة أصناف (ذو) أي صاحب (سلطان) أي تسلطن بالولاية في شيء من أمور المسلمين (مقسط) بالرفع صفة ذو أي عادل (موفق) أي لمراضى الله سبحانه وتعالى من امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وقد جاء في حديث عبادة «ساعة من الملك العادل تعدل عبادة سبعين سنة من غيره» والتوفيق لغة: جعل الأسباب موافقة للمسببات. وشرعاً خلق قدرة الطاعة في العبد، وقيل خلقها فيه بالفعل (ورجل رحيم) من الرحمة وهي ميل نفساني إلى جانب المرحوم (رقيق القلب) بقافين من الرقة خلاف الغلظ والعنف أي إنه لصفاء قلبه ورحمته اللتين قامتا به خال عن الغلظ والعنف على الخلائق بل يحنو عليهم ويشفق في أحوالهم، وقوله (لكل ذي قربى ومسلم) تنازعه الوصفان قبله، ففيه إيماء إلى صلته للرحم لأن الداعي لها موجود مع فقد المانع فكأنه قال الثاني واصل رحمه فذكر السبب مراداً به المسبب (وعفيف) بالطبع عن السؤال بحسب أصل طبعه (متعفف) مبالغ في ذلك بالاكتساب ففيه إيماء إلى أن الأخلاق غريزية باعتبار أصلها وإنما تزكو وتنمو بالمزاولة (ذو عيال) أي إنه لكمال يقينه ووثوقه بمولاه لتضمنه بأرزاق العباد فضلاً منه لا يسأل أحداً وإن كان قام بسبب السؤال من كثرة
العيال المؤذن بها الإتيان بذي التي هي أبلغ من صاحب وبصيغة جمع الكثرة (رواه مسلم) .

80 - باب وجوب طاعة ولاة الأمر
مفهوم الجمع غير قيد في وجوب الطاعة بل المراد ذي الولاية سواء كان إماماً أو سلطاناً أو ملكاً أو أميراً أو عاملاً (في غير معصية) متعلق بطاعة، والأمر فيما عدا المعصية

(5/125)


لتجتمع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أحوال الدين والدنيا قاله المصنف (وتحريم طاعاتهم) أي طاعة كل منهم (في المعصية) دخل في شق الوجوب الواجب والمندوب والمباح والمكروه فتجب طاعة أمر ولي الأمر به والثاني قاصر على المحرم صغيرة كانت أو كبيرة.
(قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} ) ذكر طاعته تعالى تشريفاً لرسوله وإيماء إلى طاعة الرسول طاعة له ( {وأولي الأمر منكم} ) ولعل حكمة إعادة العامل في المعطوف الأول دون الثاني الإيماء إلى مزيد الاهتمام بطاعته والانقياد لأمره لأن ذلك علامة الإيمان قال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} () الآية. وطاعة ولاة الأمور وإن كانت واجبة أيضاً للآية ولغيرها إلا أنها ليس الإخلال بها مخلا بالإيمان، والله أعلم.
1663 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ قال: على المرء المسلم) أي يجب عليه (السمع والطاعة) أي القبول والانقياد لقول ولي الأمر (فيما أحب) المرء إن كان موافقاً لمراد المأمور أيضاً (وكره) بأن كان مخالفاً لمراده والعائد محذوف إن كانت ما موصولاً إسمياً، فإن أعربتها مصدرية فلا خلاف في حبه وكراهيته والمصدر بمعنى اسم المفعول (إلا أن يؤمر بمعصية) كقتل محترم (فإن أمر بمعصية) أتى به ظاهراً والمقام للضمير زيادة في الإيضاح ورفع الإلباس وبنى الفعل للمجهول ليعم كل آمر من ولي أمر أبوين وغيرهم (فلا سمع ولا طاعة) لبناء الاسمين اشتغراقاً لأفراد كل منهما أي فلا يطلب شيء من هذين حينئذ بوجه بل يحرم ذلك على من كان قادراً على الامتناع وهو نفي بمعنى الخبر أي فلا تسمعوا ولا تطيعوا وهو أبلغ كأنه امتثل وانتفى ما أمر بتركه فأخبر عنه بما يحبر به عن المنفي

(5/126)


(متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، وأخرجه مسلم في كتاب المغازي.
2664 - (وعنه رضي الله عنه قال: كنا إذا بايعنا رسول الله) الإتيان بصيغة المفاعلة لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم من الله تعالى على يده وباعهم ما أعده الله لهم من نعيم الآخرة (على السمع والطاعة) لولاة الأمر (يقول لنا) ملقنا (فيما استطعتم) أي خصصوا المبايعة بقولكم فيما استطعنا وذلك شفقة منه عليهم ورحمة لئلا يدخل في عموم بيعته ما لا يطيقون وهو نحو قوله «عليكم من الأعمال ما تطيقون» قال العاقولي وفيه إشكال على قولنا يجب إحضار الاستثناء على خاطر المستثنى قبل تمام المستثنى منه. قلت: ولا إشكال ولعلهم أعادوا المبايعة ليقيدوها بذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام ومسلم في آخر المغازي ومداره عندهما على عبد الله بن دينار عن ابن عمرو ورواه الترمذي في السير من «جامعه» وقال حسن صحيح والنسائي في السير وفي البيعة من «سننه» هذا ما ذكره المزي في «أطرافه» ثم الحديث في الصحيحين بضمير الواحد المخاطب وليس فيه ميم الجماعة فلعل ما في نسخ «الرياض» من زيادة الميم من تحريف الكتاب، وإلا فسبق قلم بلا ارتياب.
3665 - (وعنه قال: سمعت رسول الله يقول: من خلع يدا من طاعة) أي خرج عنها بالخروج على الإمام وعدم الانقياد له في غير معصية بأي وجه كان، أطلق خلع اليد وأراد به لازمه وهو إبطال المبايعة بالخروج عن الطاعة مجازاً مرسلاً، قال العاقولي: يكنى بخلع اليد عن نكث العهد لأن المعاهد يضع يده في يد من عاهد غالباً (لقي الله يوم القيامة ولا

(5/127)


حجة له) أي لا حجة له يومئذ فيما فعله من نبذ الطاعة ولا عذر له فيه (ومن مات وليس في عنقه بيعة) أي للإمام بالسمع والدخول في طاعته والجملة في محل الحال من فاعل مات قيد له. (مات ميتة جاهلية) هي صفة ميتة أي مات على الضلالة كما يموت أهل الجاهلية عليها من جهة أنهم كانوا لا يدخلون تحت طاعة أمير ويرون ذلك عيباً بل كان ضعيفهم نهباً لقويهم (رواه مسلم) في المغازي من «صحيحه» منفرداً به عن باقي الستة.
(وفي رواية له) أي لمسلم عن ابن عمر مرفوعاً (ومن مات وهو مفارق للجماعة) وهو شامل لعدم المبايعة والدخول في الطاعة ابتداء وللخروج عنها بعد الدخول فيها، والمراد بالجماعة الإمام وجيش الإسلام، ويجوز أن يراد به مفارقة الجماعة في الصلوات كالروافض فإنه لبدعتهم لا يرون الدخول تحت طاعة أئمة الحق والانقياد لهم إلا اضطراراً وتقية (فإنه يموت ميتة جاهلية) أي مات على هيئة موت أهل الجاهلية فإنهم كانوا أفراداً لا إمام يردعهم ولا جماعة تجمعهم، قال المصنف (الميتة بكسر الميم) للنوع والحالة.
4666 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: اسمعوا) ما قال أمراؤكم (وأطيعوا) أي أطيعوهم في غير معصية (وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأنّ رأسه زبيبة) أي أمر عليكم في نحو سرية أو جيش أو كان عاملاً، لا الإمامة العظمى وإن أريد به الإمامة فيكون على ضرب المثل للمبالغة نحو «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت» على سبيل الفرض لا الوقوع قلت أو كان ذلك على سبيل التغلب عليها فإنها تنعقد حينئذ ولو لم يكن جامعاً لشروطها ثم الجملة وصلية قيل معطوفة على مقدر وقيل في محل الحال. وقوله كأن رأسه زبيبة جملة في محل الحال من عبد لتخصيصه بالوصف أو وصف بالجملة بعد الوصف بالمفرد، ومعنى كأنّ رأسه إلخ أي أسود صغير قطط فيكون أبلغ في حقارته (رواه البخاري) في كتاب لصلاة وكتاب «الأحكام» من «صحيحه» ورواه ابن ماجة في «الجهاد» من

(5/128)


«سننه» .

5667 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: عليك) اسم فعل مبني الزم (السمع) أي لقول الأمير (والطاعة) له فيما لا معصية فيه لله تعالى (في عسرك ويسرك) بضم أولهما وسكون ثانيهما أي في فقرك وغناك (ومنشطك ومكرهك) بفتح أولهما وثالثهما وسكون ثانيهما. قال القرطبي في المفهم هما مصدران أي ما تحب وما تكره مما هو موافق لنشاطك وهواك أو مخالف له مما ليس معصية فإن كان معصية فلا سمع ولا طاعة للأحاديث المصرحة به المحمول المطلق عن التقييد بذلك على المقيد به (وأثرة عليك) بفتح الهمزة والمثلثة ويقال بضم وبكسر فسكون فيهما لغات ثلاث حكاهن في المشارق قال القرطبي: ورويناه بفتحهما وبضم الهمزة وكلاهما بمعنى وهو كما تقدم اللاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا: أي عليكم الطاعة وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم (رواه مسلم) ورواه أحمد والنسائي كذا في «الجامع الصغير» .
6668 - (وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله في سفر فنزلنا منزلاً) بفتح فسكون فكسر قال في «المصباح» : هو موضع النزول (فمنا من يصلح خباءه) بكسر المعجمة وتخفيف الموحدة بعدها ألف ممدودة: هو ما يعمل من وبر أو صوف، وقد يكون من شعر وجمعه أخبية بغير همز ككساء وأكسية ويكون على عمودين أو ثلاثة وما فوق ذلك فهو بيت، كذا في المصباح (ومنا من ينتضل) بفتح التحتية والفوقية وسكون النون بينهما ثم ضاد معجمة: أي يرمي بالسهام تدرّباً ومداومة (ومنا من هو في جشره إذ) ظرف لـ «كنا» بناء على دلالتها على الحدث كما هو الصحيح (نادى منادي رسول الله الصلاة جامعة) برفعهما مبتدأ وخبر ونصبهما الأول على الإغراء والثاني على الحالية، ورفع الأول

(5/129)


مبتدأ محذوف الخبر: أي مدعوّ إليها ونصب الثاني حالاً وعكسه، ونصب الأول على الإغراء ورفع الثاني خبر محذوف: أي هي حاضرة. قال المصنف في «شرح مسلم» : هو بنصب الجزءين: أي من حيث الرواية وما ذكرناه هو من حيث الدراية إن لم تدفعه رواية وإلا فهي المقدمة، قال القرطبي: خبر بمعنى الأمر كأنه قال اجتمعوا للصلاة. قلت: هذا منه يقتضي أنهما مرفوعان، إذ لو نصبا لكان من الطلب لا من الخبر بمعنى الطلب. قال القرطبي: وكأن الوقت كان وقت صلاة، فلما جاءوا معه صلوا معه وسكت الراوي عن ذلك، وإلا فمن المحال أن ينادي منادي الصادق بالصلاة ولا صلاة (فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: إنه لم يكن) أي يوجد (نبيّ قبلي) ويصح كونها ناقصة وقبلي صفة للإسم والخبر محذوف: أي متحلياً بشيء من الأحوال، أبدل منه قوله (إلا إن كان حقاً) أي واجباً (عليه) خبر مقدم والإسم (أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم) بضم التحتية من الإنذار (شرّ ما يعلمه لهم) لأن ذلك حكمة الإرسال والبعثة ليسوق العباد إلى نفعهم ويدفع عنهم ضررهم ولأنه من طريق النصيحة والاجتهاد في التبليغ والبيان، والاستثناء كما علم مما قررناه
مفرغ (وإن أمتكم هذه) يعني الأمة المحمدية (جعل عافيتها) أي سلامتها من فتن الدين (في أولها) قال القرطبي: المراد به زمان الخلفاء الثلاثة إلى قتل عثمان فهذه كانت أزمنة اتفاق هذه الأمة واستقامة أمرها وعافية دينها، فلما قتل عثمان هاجت الفتن ولم تزل ولا تزال إلى يوم القيامة، وعليه فأول الآخر ما بعد مقتل عثمان وهو آخر بالنسبة لما قبله من زمن العافية، ويدل له قوله «وأمور تنكرونها» والخطاب للصحابة فدل على أن منهم من يدرك أول ما سماه آخراً وكذلك كان اهـ. قلت: ويحتمل أن يراد بالأول زمن الصحابة والتابعين وبالآخر ما بعدهما وذلك بشهادة قوله «خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم» الحديث، ولحديث «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضواً عليها بالنواجذ» وذلك أن غلبة أشعة الأنوار المحمدية حينئذ مخمدة لسائر ظلمات البدع والشكوك والفتن الدينية (وسيصيب) بالسين لتأكيد تحقيق ما دخلت عليه (آخرها بلاء) بالمد اسم مصدر من الابتلاء ومثله البلية بمعنى المحنة، قاله في المصباح (وأمور تنكرونها) لمخالفتها للشرع، وجملة وسيجيء الخ معطوفة على خبر إن، وجملة (وتجيء فتن يرقق) فيه روايات

(5/130)


يأتي بيانها (بعضها بعضاً) يجوز أن تكون مستأنفة لتأكيد ما قبلها من تتابع الفتن وأن تكون معطوفة كالتي قبلها فيقدر رابط: أي وتجيء فيها فتن (وتجيء الفتنة) أي العظيمة في الدين كما يومىء إليه قوله (فيقول المؤمن هذه مهلكتي) بضم الميم وكسر اللام بصيغة اسم الفاعل وإسناد الإهلاك إليها مجازى من الإسناد للسبب (ثم تنكشف) أي تذهب (وتجيء الفتنة) أي غير الأولى، ولا يخالف قاعدة أن المكررين إذا كانا معرفتين أو كان الثاني كذلك كان الثاني عين الأول لأن أل فيه جنسية والمحلى بها نكرة من حيث المعنى، فكأنّ المكررين نكرتان، وإذا تكررت النكرة كان الثاني غير الأول على أن القاعدة أغلبية وإلا فهي مشكلة (فيقول المؤمن هذه هذه) أي هذه الفتنة هي الفتنة
العظمى فهما وإن اتحدا لفظاً تغايرا اعتباراً، وذلك كاف في تغاير المسند والمسند إليه، فاسم الإشارة لتعظيم الأمر وفخامته، ثم فرّع على ذلك قوله (فمن أحبّ أن يخرج نفسه من النار ويدخل الجنة) أي يتسبب في عدم دخوله النار ابتداء مجاوزاً عنها إلى الجنة، فأطلق الخروج مراداً به المباعدة مجازاً مرسلاً: أي أحبّ الخروج منها وعدم التأبيد في العذاب بل الحلول في الجنة: أي أحبّ الموت على الإسلام (فلتأته منيته) بفتح الميم وكسر النون وتشديد التحتية أي الموت كما في «النهاية» (وهو يؤمن بالله واليوم الآخر) جملة حالية من فاعل مات، والمراد ليدم على الإيمان بذلك حتى يأتيه الموت وهو كذلك فهو في الحقيقة أمر بدوام الإيمان، ونظيره قوله تعالى:
{ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران: 102) (وليأت) اللام فيه للأمر وكسرها هو الأصل وتسكن بعد الواو والفاء وثم وهو مضارع أتى مقصوراً أي ليجيء (إلى الناس الذي يحب أن يؤتي) بالبناء للمفعول: أي يجاء (إليه) قال في المصباح: أتى الرجل يأتي أتيا جاء وأتيته، يستعمل لازماً ومتعدياً: أي ليجئهم في الأفعال بما يحبّ أن يأتوه بمثلها. قال المصنف: هذا من جوامع كلمه وبدائع حكمه، وهذه قاعدة ينبغي الاعتناء بها وهي أن الإنسان يلتزم ألا يفعل مع الناس إلا ما يحبّ أن يفعلوه معه. قال القرطبي: وهذا مثل قوله «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» والناس هنا الأئمة والأمراء، فيجب عليه لهم من السمع والطاعة والنصرة والنصيحة ما يجب له عليهم لو كان هو الأمير.

(5/131)


قلت: وكأن هذا التخصيص باعتبار سابق الكلام ولو أبقى على العموم وشمل ما ذكره لما كان بعيداً وهو الذي مشى عليه المصنف كما نقلناه عنه (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده) هو كالبيان للبيعة فهو كقولهم توضأ فغسل وجهه الخ فالفاء فيه للترتيب الذكرى، والصفقة بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها قاف: ضرب اليد على اليد وكانت عادة العرب إذا أوجبت ضرب أحدهما على يد صاحبه، ثم استعملت الصفقة في العقد فقيل: بارك الله في صفقة يمينك، كذا في «المصباح» . وقال القرطبي: أصلها الضرب بالكف والكف أو بأصبعين على الكف (وثمرة) بفتح المثلثة (قلبه فليطعه) قال القرطبي: دل على أن البيعة لا يكتفي فيها بمجرّد عقد اللسان بل لا بد من الضرب باليد كما قال تعالى: في أية المبايعة {يد الله فوق أيديهم} (الفتح: 10) لكن ذلك في الرجال فقط وعقد القلب وإلزام البيعة به وترك الغش والخديعة فذلك من أعظم العبادات (إن استطاع) قيد في الأمور: أي يطيعه فيما يطيقه وهذا كما تقدم من تلقينه حال البيعة على السمع والطاعة بقوله «فيما استطعت» (فإن جاء آخر ينازعه) أي خرج عن طاعته ونازعه في الملك (فاضربوا عنق الآخر)
أي إن لم يندفع عن ذلك إلا بذلك فافعلوه ولو بأن تحاربوه وتقاتلوه، ولا ضمان على قاتله حينئذ لأنه ظالم متعدّ في قتاله (رواه مسلم) في المغازي من «صحيحه» وزاد فيه «فقال عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة: فدنوت منه فقلت: أنشدك الله، أأنت سمعت هذا من رسول الله: فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي» والحديث رواه أبو داود في الفتن والنسائي في البيعة وابن ماجه في الفتن، قاله المزي في «الأطراف» .
(وقوله ينتضل) مضارع يفتعل من النضل بالمعجمة (أي يسابق بالرمي بالنبل) بفتح النون وسكون الموحدة: السهام العربية لا واحد لها من لفظها بل الواحد سهم فهي مفردة اللفظ مجموعة المعنى (والنشاب) بضم النون وتشديد المعجمة. قال في «الصحاح» : السهام الواحدة نشابة اهـ، وعليه فهو من عطف العام على الخاص لأن النشابة تعم العربية وغيرها بخلاف النبل (والجشر بفتح الجيم والشين المعجمة وبالراء وهي الدوّاب التي ترعى وتبيت مكانها) وفي

(5/132)


«المشارق» للقاضي عياض: الجشر المال يخرج به أربابه في مكانه يمسك فيه. قال الأصمعي: قال جشر إذا كان بمرعاه ولا يأوي أهله، قال غيره: وأصله أن الجشر نقل الربيع، وقال أبو عبيدة: الجشر الذين يثبتون مكانهم لا يرجعون إلى بيوتهم، وبه يعلم أن المصنف تبع قول الأصمعي كما أن قول «النهاية» : الجشر قوم يخرجون بدولبهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت اهـ تابع لأبي عبيدة (وقوله يرقق بعضها بعضاً) روى بوجوه أحدها ما اقتصر عليه المصنف هنا، وقال في «شرح مسلم» : إنه الذي نقله عن جمهور الرواة يرقق بضم التحتية وفتح الراء وبقافين (أي يصير بعضها بعضاً رقيقاً: أي خفيفاً لعظم ما بعده فالثاني يجعل الأول رقيقاً) الأنسب فالبعض يجعل البعض ليشمل ما إذا كان الثاني أشد وهو ما ذكره المصنف والعكس (وقيل يسوق بعضها بعضاً بتحسينها وتسويلها) هو ما اقتصر عليه القرطبي في المفهم فقال: ورواه أكثر الرواة بالراء المفتوحة والقاف الأولى مكسورة: أي يسبب بعضها بعضاً، ويشير إليه كما في المثل: عن صبوح ترقق، ويزحزح عن النار: أي ينحى عنها ويؤخر منها. قال المصنف في «شرح مسلم» : وقيل معناه يشبه بعضها بعضاً، وقيل يدور بعضها في بعض ويذهب ويجىء به، قال: والثاني من جوه رواياته بفتح التحتية وسكون الراء ضم الفاء بعدها قاف. والثالث يدقق بدال بدل الراء والفاء ومكسورة وبالقاف: أي يدفع ويصب. والدفق: الصب. قال القرطبي: وهذه
رواية الطبري عن الفارسي، قال: ومعناه يدفق: أي يدفع أي إن الفتن كموج البحر الذي يدفق بعضه بعضاً، قال: وشبه المؤمن فيها بالعائم الغريق بين الأمواج فإذا أقبلت عليه موجة قال هذه مهلكتي. ثم تروح عنه تلك فتأتيه أخرى فيقول هذه هذه: أي التي تغرق إلى أن يغرق بالكلية، وهذا تشبيه واقع اهـ.

(5/133)


7669ـ (وعن أبي هنيدة) بضم الهاء وفتح النون وسكون التحتية بعدها دال مهملة ثم هاء ويقال بلا هاء (وائل) بالهمزة بعد الألف (ابن حجر) بضم المهملة وسكون الجيم آخره راء ابن ربيعة بن يعمر الحضرمي (رضي الله عنه) كذا قال ابن عبد البر، وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل بن ضمعج بن وائل بن ربيعة بن وائل بن النعمان بن زيد. قال: وقيل غير ذلك، كان من ملوك حمير ويقال للملك منهم قيل بفتح القاف وسكون التحتية جمعه أقيال وكان أبوه من ملوكهم. وفد على رسول الله وكان بشر أصحابه قبل قدومه بأيام وقال «يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً راغباً في الله وفي رسول الله وهو بقية الأقيال» فلما دخل عليه رحب به وأدناه من نفسه وبسط له رداءه وأجلسه إليه مع نفسه وقال اللهم بارك في وائل وولده، وأصعده معه على المنبر وأثنى عليه واستعمله على بلاده وأقطعه أرضاً وأسل معه معاوية بن أبي سفيان وقال أعطه إياها، روى له عن رسول الله أحد وسبعون حديثاً روى مسلم منها ستة ولم يرو البخاري له شيئاً، نزل الكوفة وعاش إلى أيام معاوية ووفد عليه فأجلسه معه على السرير وشهد مع علي صفين وكانت معه راية حضرموت اهـ. من «التهذيب» للمصنف (قال: سأل سلمة) بفتح أوليه (ابن يزيد) بفتح التحتية وكسر الزاي وسكون التحتية الثانية ابن مشجعة بن المجمع بن مالك بن كعب بن سعد بن عوف بن حريم بضم المهملة وفتح الراء ابن جعفي (الجعفي) بضم الجيم وسكون المهملة بعدها فاء نسبة لجده المذكور، وما ذكره المصنف
في اسمه أحد قولين فيهز قال ابن عبد البر: اختلف الشعبي وأصحاب سماك في اسمه، فقبل سلمة بن يزيد وقيل يزيد بن سلمة (رسول الله فقال: يا رسول الله أرأيت) بفتح الفوقية أي أخبرني (إن قامت علينا أمراء يسألونا) كذا في الأصول من «الرياض» و «صحيح مسلم» بنون واحدة هي نون الضمير وحذف نون الرفع من الأفعال الخمسة. قال المصنف في «شرح مسلم» لغة وهذا منها والجملة صفة: أي أمراء طالبون (حقهم) أي من السمع والطاعة (ويمنعونا حقنا) من العطاء والاهتمام بمصالحنا والنصيحة في أمرنا (فما تأمرنا) أي فأي شيء تأمرنا (فأعرض عنه) لما

(5/134)


رأى من المصلحة في ذلك، أو لينتظر الوحي به (ثم سأله فقال رسول الله: اسمعوا وأطيعوا) أي أعطوهم ما لهم وإن لم يعطوكم ما لكم (فإنما عليهم ما حملوا) من المأثم وإثمهم لا يمنع من أدائهم معهم ما عليهم من الحق (وعليكم ما حملتم) أي فلا يمنعكم من أداء ما عليكم تفريطهم بعدم أداء ما لكم (رواه مسلم) في المغازي ورواه الترمذي في الفتن.
8670 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله إنها) ضمير القصة (ستكون بعدي أثرة) أي استئثار من ولاة الأمر بالأموال على المسلمين المستحقين فيها فيفضل غيركم عليكم في الفيء أو الغنيمة وغيرها وتقدم ضبطه أثرة قريباً (وأمور تنكرونها) أي لقبحها شرعاً، وقد ظهر ما أخبر عنه كما أخبر فهو من جملة معجزاته (قالوا: يا رسول الله: كيف تأمرنا) أي أيّ حال تأمرنا أن تكون عليها حينئذ؟ (قال تؤدون) بحذف المفعول الأول أي تعطونهم (الحق) أي الواجب (الذي عليكم) من السمع والطاعة (وتسألون الله لكم) أي تسألونه أن يوصل إليكم حقكم بأن يلهم الأئمة ذلك أو يوجد من يفعل ذلك لكم منهم ويولى من ينصفكم، وهو دليل على عدم التعرض للأئمة وإن جاروا والاعتماد على مكافأة الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في علامات النبوة ومسلم في المغازي ورواه الترمذي في الفتن من جامعه وقال حسن صحيح.
9671 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من أطاعني فقد أطاع الله)

(5/135)


قال الله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء: 80) (ومن عصاني) وأعرض عما أمرت به وخالف ما نهيت عنه (فقد عصى الله) قال الله تعالى: {ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} أي ومن تولى بالإعراض {فما أرسلناك عليهم حفيظاً إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} فالآية والحديث من واد واحد (ومن يطع الأمير) عند مسلم «أميري» (فقد أطاعني ومن يعص الأمير) فيما أمر مما ليس معصية لله (فقد عصاني) لأن رسول الله صلى بطاعته فيما ليس كذلك فطاعته طاعة للرسول ونهى عن معصيته كذلك فمعصيته معصية للرسول (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام ومسلم في المغازي، وعند البخاري في الجهاد من طريق لآخر من حديث أبي هريرة «من أطاعني فقد أطاع الله من أطاع الأمير فقد أطاعني وإنما الإمام جنة» .
10672 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول قال: من كره من أميره شيئاً) دنيوياً كان كاستئثار عليه وظلم له أو دينياً كأن فسق بعد عدالته فلا ينعزل الإمام الأعظم بفسقه، نعم إن كفر انعزل بكفره كما تقدم من حديث «إلا أن تروا كفراً بواحاً» فمن رأى ما لا ينعزل به الإمام مما يكرهه (فليصبر) أي بعدم الخروج على الأمير، أما الإنكار عليه بمراتبه إذا لم يؤد إلى شق العصا والخروج عليه، فمطلوب الحديث «أفضل الشهداء حمزة ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله» (فإنه) الضمير فيه للشأن والجملة بعد تفسير وذلك تعليل للأمر بالصبر على ما يكرهه (من خرج من السلطان) أي من طاعته (شبراً) كناية عن القلة أي وإن كان الخروج يسيراً كأن بعد عنها لو كانت محسوسة قدر شبر (مات ميتة) بكسر الميم (جاهلية) فإنهم كما تقدم شأنهم عدم الائتمار

(5/136)


للأمير بل ضعيفهم نهب للكبير (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأحكام ومسلم في المغازي.

11673 - (وعن أبي بكرة) نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: من أهان السلطان) مستخفاً بشأنه غير سامع ولا مطيع لأمره وأل فيه للاستغراق: أي كل ذي سلطنة وولاية لشيء من أمور المسلمين (أهانه الله) أي في الدنيا بالذل لسعيه في إذلال من أعزه الله وفي الآخرة لعصيانه مولاه سبحانه بالعذاب المهين إن لم يعف الله عنه (رواه الترمذي) وقال حديث حسن.
(وفي الباب) أي وجوب طاعة الإمام في غير معصية (أحاديث كثيرة في الصحيح) المراد منه ما يشمل الصحيحين وإن كان الغالب انصرافه لصحيح الحافظ البخاري لأن المحلي بأل عند الإطلاق ينصرف للفرد الكامل وهو أصح من مسلم كما تقدم أوّل الكتاب (وقد سبق بعضها في أبواب) فليتنبه مريد ذلك لها وليطلبها منه.

81 - باب النهي عن سؤال الإمارة
مصدر مضاف لمفعوله: أي طلبه من الإمام الإمارة (واختيار الولايات) عطف على سؤال (إذا لم يتعين عليه) بأن لم يكن ثم متأهل للإمارة سواه بشهادة العقلاء من أولى الحل والعقد وإلا فيجب عليه حينئذ سؤالها واختيارها (و) إذا (لم تدع حاجته إليها) أي عند عدم التعين: أي وما لم تدعه الحاجة للاسترزاق بالعمل، ولا كسب لائق في ذلك فله الطلب حينئذ، وإن لم يكن متعيناً دفعاً للحاجة.
(قال الله تعالى) ( {تلك} ) أتى باسم الإشارة

(5/137)


الموضوع للبعد إيماء لفخامتها وعلوّ رتبتها ( {الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً} ) تكبراً واستكباراً ( {في الأرض ولا فساداً} ) عملاً بالمعاصي ( {والعاقبة} ) الحسنى ( {للمتقين} ) عن معاصيه، والآية تقدم الكلام في معناها في باب تحريم الكبر والإعحاب.
1674 - (وعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم ابن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف كذا نسبه ابن عبد البر والبخاري في آخرين، وزاد مصعب والزبير في نسبه ربيعة بعد حبيب، قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: الصحيح الأول وهو قرشى عبشمي المكي ثم البصري (رضي الله عنه) أسلم يوم الفتح وصحب النبي، كان اسمه عبد الكعبة وقيل عبد كلال فسماه رسول الله عبد الرحمن، سكن البصرة وغزا خراسان في زمن عثمان، وفتح سجستان سنة ثلاث وثلاثين، روى له عن رسول الله أربعة عشر حديثاً، اتفقا على حديث وانفرد مسلم بحديثين، توفي سنة خمسين وقيل سنة إحدى وخمسين بالبصرة، وقيل توفي بمرو، وإنه أوّل من دفن بها من الصحابة والصحيح الأوّل. كان متواضعاً، فإذا وقع المطر لبس البرنس وأخذ المسحاة وكنس الطريق (قال: قال لي رسول الله لا تسأل الإمارة) يحتمل صدوره منه بعد أن سأل منه أن يوليه عملاً فيكون كحديث أبي موسى الآتي، ويحتمل أن النبيّ منه أنه جاء لذلك باطلاع الله على ما في قلبه فقال ذلك، قال القرطبي: والنهي ظاهره التحريم ويدل عليه ظاهر قوله بعد: إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو حرص عليه لما سيأتي فيه، والكلام في السؤال الممنوع كما علم من الترجمة، والإمارة بكسر الهمزة ويقال الإمرة بالكسر أيضاً: هي الولاية، قاله في المصباح، وعلل النهي بقوله على سبيل اللاستئناف البياني (فإنك إن أعطيتها) بالبناء للمفعول وترك ذكر الفاعل للعلم به حقيقة أي أعطاكها الله ولعدم التعيين باعتبار الصورة: أي أعطاكها ذو الإمامة العظمى (من غير مسألة) منك لها (أعلنت عليها) بالبناء للمجهول: أي أعانك الله تعالى بالتسديد والتوفيق للصواب. قال المهلب: جاء تفسير

(5/138)


الإعانة عليها في حديث أنس رفعه «من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله له ملكاً يسدده» أخرجه ابن المنذر، قال في «فتح الباري» : وأخرجه أبو
داود والترمذي وابن ماجه، وأخرجه الحاكم من الطريق التي اتفق عليها الثلاثة على إخراج الحديث منها وصححه. وتعقب بأن ابن معين لين خيثمة، وضعف عبد الأعلى وكذا قال الجمهور في عبد الأعلى وهو الثعلبي إنه ليس بقوي، قال المهلب: وفي معنى الإكراه أن يدعي إليه فلا يرى نفسه أهلاً لذلك هيبة له وخوفاً من الوقوع في المحذور فإنه يعان عليه إذا دخل فيه ويسدد، والأصل فيه أن من تواضع لله رفعه الله (وإن أعطيتها عن مسألة) أي سؤال (وكلت إليها) بضم الواو وكسر الكاف مخففاً ومشدداً وسكون اللام، ومعنى المخففة صرفت إليها ومن كل إلى نفسه هلك، ومعنى وكله بالتشديد استحفظه: أي من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته من أجل حرصه عليها. قال في «فتح الباري» : من المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من المشقة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلاً، بل إذا كان كامناً وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة ولا يخفي ما جاء فيه من الفضل (وإذا حلفت على يمين) أي بها أو على محلوفها (فرأيت) أي علمت (غيرها خيراً منها) لحسن ثمرة ذلك الغير (فأت الذي هو خير) أي أفعله وإن حلفت على تركه (وكفر عن يمينك) فيه تأخير الكفارة عن الحنث وهو أفضل وهذه رواية مسلم. وعند البخاري في الأيمان والأحكام بلفظ «فكفر عن يمينك أئت الذي هو خير» قال الشرّاح: والعبارة للتحفة للشيخ زكريا، الواو لا تقتضي الترتيب فيجوز تقديم التكفير على إتيان المحلوف عليه وإن كان تأخيره أفضل، واستثنى الشافعي هذه الجملة لما قبلها أن الممتنع من الإمارة قد يؤدي به الحال إلى الحلف على عدم القبول مع كون المصلحة فيها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأيمان والأحكام، ومسلم في الأيمان والنذور، ورواه أبو داود في الخراج مقتصراً على قصة الإمارة فقط من

(5/139)


«سننه» والترمذي في النذور والأيمان من «جامعه» وقال: حسن صحيح، والنسائي قصة
الإمارة فقط في القضاء والسير وقصة اليمين في الأيمان والنذور.

2675 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يأبا ذر إني أراك ضعيفاً) أي عن القيام بوظائف الولايات فتعجز عن تنفيذ أمورها ورعاية حقوقها (وإني أحبّ) أي أرضى (لك ما أحبّ) العائد محذوف أي ما أحبه (لنفسي) وهذا تلطف من النبيّ وتحريض على سماع قوله (ولا تأمرن) بفتح الهمزة والميم المشددة وإحدى التاءين محذوفة من أوله أي لا تتأمرن (على اثنين) أي لا تصيرن حاكماً بينهما وأميراً عليهما (ولا تولين) بفتح أوليه مع تشديد ثالثه: أي لا تتولين وهو بإثباتهما في نسخة من «المشارق» ، قال ابن مالك: هو من الولي: أي القرب أي لا تقربنّ (مال يتيم) أي سواء كان من أقربائك أو بعيداً منك وسواء كان ذكراً أو أنثى والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن الاستيلاء عليه (رواه مسلم) في المغازي وأبو داود والنسائي في الوصايا من «سننهما» .
3676 - (وعنه) أي أبي ذرّ (قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني) أي تصيرني عاملاً كاستحجر الطين إذا صار حجراً (فضرب بيده على منكبي) بوزن مسجد وهو مجتمع رأس العضد والكتف، سمى بذلك لأنه يعتمد عليه كذا في «المصباح» ، ثم هو بتخفيف الموحدة كأنه فعل ذلك به ليتنبه من سنة غمرة طلبه لذلك وتوهمه في نفسه الاستعداد له (ثم قال: يأبا ذرّ إنك ضعيف) أي عن القيام بالإمارة ووظائف العمل، قال القرطبي: ووجه ضعفه عنها أن الغالب عليه كان الزهادة واحتقار الدنيا والإعراض عنها، ومن كان كذلك لم يعتن بمصالح الدنيا ولا بأموالها، وبمراعاتها تنظم مصالح الدين ويتم أمره، وقد أفرط أبو ذرّ في الزهد حتى أفتى بتحريم جمع المال وإن أديت زكاته، فلما علم منه ذلك نصحه ونهاه عن الإمارة وولاية مال الأيتام (وإنها) أي الإمارة (أمانة) أي في الدنيا: أي ائتمان من

(5/140)


المولى لذلك المولى على رعيته، فمن لم يفرط في حقها ولم يخن فيها برىء من عهدتها وضده بضده (وإنها يوم القيامة) ظرف (خزي) أي فضيحة قبيحة وذلك لمن لم يؤد في الأمانة حقها ولا قام للرعية بمستحقها (وندامة) على تقلده لذلك مع تفريطه فيها، فالذم محمول على الأهل للولاية إذ لم يعدل فيها، أو على غير الأهل، أما الأهل لها إذا وليها وعدل فيها فله فضل عظيم وأجر جسيم، وهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله. قال القرطبي: وهو مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وإلى الجانب الأخير أشار بقوله (إلا من أخذها) أي الإمارة (بحقها) أي بأن كان متأهلاً لها (وأدى الذي عليه فيها) من نشر ألوية العدل وبسط بساط الإنصاف والرفق وعدم الاعتساف، ثم قال العاقولي: الاستثناء منقطع: أي هي خزى وندامة لكن من أخذها بحقها لم تكن خزيا عليه. قلت: ولا يتعين انقطاعه فيجوز كونه متصلاً: أي أن الإمارة كذلك إلا إذا كانت مأخوذة بالحق مقاماً فيها بالعدل.
قال المصنف: ومع فضل العدل لكن خطر الولاية كثير فلذا حذره منها، وكذا حذر العلماء وامتنع منها خلائق من السلف وصبروا على الأذى حين امتنعوا. وقال العاقولي: الحديث أصل عظيم في اجتناب الولاية فإنه لا يفي الوصل بالصد (رواه مسلم) في المغازي.

4677 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال) من جملة معجزاته من الإخبار عن المغيب قبل وقوعه فوقع كما أخبر (إنكم ستحرصون) بكسر الراء ويجوز فتحها أكد باسمية الجملة وتصديرها بإن وتقدير القسم قبلها والإتيان بحرف الاستقبال، كأنه لما يومي إليه حال زهدهم حينئذ في الدنيا وإعراضهم عنها من استبعاد طلبهم لها فضلاً عن الحرص عليها فعوملوا معاملة المنكر (على الإمارة) بطلبها وهو شامل للإمارة الكبرى والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد (وستكون ندامة يوم القيامة) أي لمن لم يكن من أهلها ولم يقم بحقها، إذ المطلق محمول على المقيد وكونه حذف ذلك هنا تنفيراً عنها وتبعيداً منها لما تقدم فيما قبله (رواه البخاري) في الأحكام ورواه النسائي في القضاء وفي البيعة وفي

(5/141)


التفسير.

82 - باب حث بفتح المهملة وتشديد المثلثة أي تحريض (السلطان) أي ذي السلطنة سواء فيه الإمام ومن دونه (والقاضي) أي من يقضي بين الناس بالأحكام الشرعية (وغيرهما من ولاة الأمور) من الشرطيين وولاة الأخبار وقوله (على اتخاذ وزير صالح) متعلق بحثّ والوزير مأخوذ من الوزر الثقل لأنه يحمل على الملك ثقل التدبير وجمعه وزراء، والمراد بصلاحه إقامة العدل وإعانته عليه (وتحذيرهم من قرناء السوء) وذلك لأن المرء على دين خليله كما جاء في الحديث (و) تحذيرهم من (القبول منهم) وذلك لأن قبول إشاراتهم تحرّضهم على السعي في الفساد.
(قال الله تعالى) : ( {الأخلاء} ) جمع خليل كنبيّ وأنبياء ( {يومئذ} ) أي يوم القيامة وهو ظرف لقوله ( {بعضهم لبعض عدوّ} ) أي معاد والفصل بالمبتدأ غير مانع والجملة خبر قوله الأخلاء (إلا المتقين) فإن محبتهم تبقى يومئذ ولا تزول.
1678 - (وعن أبي سعيد) الخدري (وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ما بعث الله من نبي) من مزيدة لتأكيد العموم المستفاد من النكرة في سياق النفي (ولا استخلف من خليفة إلا كانت) أي وجدت (له بطانتان) بكسر الوحدة خلاف الظهارة وبطانة الرجل صاحب سره والمراد بها هنا الداعي، قال المحب الطبري: البطانة الأولياء والأصفياء وهو مصدر وضع موضع الإسم يصدق على الواحد والمذكر وفروعهما (بطانة تأمره بالمعروف) أي ما عرف واستحسن شرعاً من نشر ألوية العدل وبسط الإنصاف وإقامة الشرائع في رعاياه (وتحضه) بفتح الفوقية وضم المهملة وتشديد الضاد المعجمة أي يحمله (عليه وبطانة

(5/142)


تأمره بالشرّ) أي تدعوه إليه (وتحضه) أي تحرضه (عليه والمعصوم من عصم الله) قال الشيخ أكمل الدين: أراد به نفسه لأنه بين في حديث آخر أن كل واحد وكل به قرينه من الجنة وقرينه من الملائكة إلا أن الله تعالى أعان نبينا فأسلم قرينه من الجن ولم يبق له داع إلى الشرّ اهـ «أقول» إن أريد من العصمة منع الوقوع في الذنب مع استحالته فهو كما قال من قصر الأمر عليه إذ لا عصمة لأحد من الأمة، وإن أريد منها الحفظ من الذنب مع جواز الوقوع فيه فلا اختصاص به، والمراد من قوله والمعصوم من عصم الله، إما المنع من الوسواس ابتداء بمنع قرينه من ذلك وإن كان باقياً على كفره والله على كل شيء قدير، أو عدم قراره في نفسه، ومثله غير مؤاخذ بذلك لحديث «إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل» أو صرف نفسه عن العمل بقضية ذلك الوسواس والله أعلم، وقريب منه على الوجه الثاني حديث عائشة الآتي بعده وهذا بناء عى أن المراد بالبطانة القرين
والملك وقد بين. قال ابن التين: ويحتمل أن يكون المراد بهما ذلك. ويحتمل أن يكون الوزيرين، وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بهما النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوّامة المحرّضة على الخير، إذ لكل منهما قوة ملكية وقوة حيوانية اهـ. قال في فتح الباري: والحمل على الجميع أولى إلا أنه جائز ألا يكون لبعضهم إلا البعض (رواه البخاري) في كتاب القدر والأحكام من «صحيحه» ، ورواه النسائي في البيعة وفي السير من «سننه» .
2679 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إذا أراد الله بالأمير خيراً) أورده في فتح الباري بلفظ «من ولي منكم عملاً فأراد الله به خيراً» والباقي سواء وأورده في «الجامع الصغير» كما أورده المصنف، وتنكير خيراً للتعظيم فيشمل الخاص والعام، وذلك لأن من أعطى ذلك وفق لخيري الدارين، وفسر الخير بالجنة (جعل له وزير صدق) في القول والفعل والظاهر والباطن وأضافه إلى الصدق لأنه الأساس في الصحبة وغيرها، وقال الطيبي: أصله وزير صادق ثم وزير صدق على الوصف به ذهاباً إلى أنه نفس الصدق مخبراً

(5/143)


عنه به، ثم أضيف لمزيد الاختصاص، والمراد من الوزير فيه الصاحب المؤازر (إن نسي) ما يحتاج إليه أو ضلّ عنه من حكم شرعي أو قضية مظلوم أو مصالح لرعية (ذكره) وهداه (وإن ذكر) ذلك (أعانه) عليه بالرأي والقول والفعل. وأدب الوزارة وما يتأكد عليه فعله مذكور في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وفي كتاب سراج الملوك للطرطوشي وغيرهما من كتب السياسة (وإذا أراد به غير ذلك) الخير بأن أراد به شرّاً. وعبر عنه بما ذكر إيماء إلى الترحيض على اجتناب الشرّ لأنه إذا اجتنب ذكر اسمه لبشاعته وشناعته فلان يجتنب المسمى به أولى، والإتبان فيه باسم الإشارة الموضوع للبعيد تعظيم للخير وإعلاء لرتبته تحضيضاً على طلبه والسعي في تحصيله (جعل له وزير سوء) بضم السين المهملة وفتحها، والمراد وزير سوء في القول والفعل نظير ما سبق في ضده (إن نسي) أي ترك مالاً بد منه (لم يذكره) به لأنه ليس عنده من النور القلبي ما يحمله على ذلك (وإن ذكر لم يعنه) بل يسعى في صرفه عنه لشرارة طبعه وسوء صنعه (رواه أبو داود بإسناد جيد) ورواه البيهقي أيضاً، قال السيوطي في «شرح التقريب» نقلا عن الحافظ بن حجر: في أثناء كلام وهذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح، وكذا قال البلقيني بعد أن نقل ذلك، ومن ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة، وكذا قال
غيره: لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته، ويتردد في بلوغه الصحة، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح، قال وكذا القوى اهـ. فلذا قال المصنف في السند: إنه (على شرط مسلم) أي برجال روى عنهم مسلم في «صحيحه» ، وإلا فالصحيحان ليس لهما شرط ولا لأحدهما شرط مصرح به في شيء من كتابيهما.

83 - باب النهي عن تولية الإمارة
بكسر الهمزة: الولاية على العباد بإمارة (والقضاء وغيرهما من الولايات) كأن يكون

(5/144)


شرطياً أو مقدم جيش أو عاملاً على عمل، وقوله (لمن سألها) أي التولية وإن لم يحرص عليها متعلق بتولية (أو حرص عليها) أي وإن لم يسألها: أي إذا علم الإمام ذلك من شأنه أو مقاله كما قال (فعرض) بالتشديد: أي حرص عليها بالتعريض (بها) وذلك كأن يمدح الولايات ويتمنى الأعمال.
1 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبيّ أنا ورجلان من بني عمي) أي من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن شمالي (فقال أحدهما يا رسول الله أمرنا) بتشديد الميم: أي صيرنا أمراء (على بعض ما ولاك الله عزّ وجل، وقال الآخر مثل ذلك) أي كلفظ صاحبه فكنى عنه بما ذكر اختصاراً (فقال) أي النبي مؤكداً لامتناعه لهما ولمثلهما (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص) من باب ضرب (عليه) وذلك لأن سؤاله لذلك وحرصه عليه يشعر أنه لم يسع في ذلك لنفع الإسلام والمسلمين وإنما سعى لنفع نفسه لجمع الدنيا وتكثيرها له، وفي ذلك إفساد لأمر الناس دنيا وأخرى وإهلاك له (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين وفي كتاب الأحكام من «صحيحه» ، ومسلم في المغازي.

(5/145)