دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين

8 - كتاب الفضائل
جمع فضيلة: وهي الخير والفضل خلاف النقيصة. وفي «فتح الإله» الفضائل: جمع فضيلة بمعنى فاضلة وهي صفة، والأغلب أن تكون محمودة تمييز من قامت به. وفي «القاموس» : الفضل ضد النقص جمعه فضول، ثم قال: والفضيلة الدرجة الرفيعة في الفضل والاسم منه الفاضلة، ثم قال والفواضل: الأيادي الجسيمة أو الجميلة.

180 - باب فضل قراءة تلاوة القرآن
1991 - (عن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين كنية صدى بن عجلان (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: اقرءوا) الخطاب للحاضرين إذ ذاك من الصحابة رضي الله عنهم وهو سار على جميع الأمة (القرآن فإنه) أي القرآن (يأتي يوم القيامة) قال العلقمي قال شيخة: قيل يصور القرآن بصورة بحيث يجيء يوم القيامة ويراه الناس كما يجعل الله لأعمال العباد خيرها وشرها صورة ووزناً بوضع في الميزان (شفيعاً) أي شافعاً (لأصحابه) أي القارئين له المشتغلين به المتمسكين بأمره ونهيه (رواه مسلم) هو طرف حديث في آخر فضل الزاهدين، والحديث بجملته كذلك رواه أحمد.
2992 - (وعن النواس) بتشديد النون المفتوحة والواو وآخره مهملة (ابن سمعان) بفتح

(6/477)


المهملة الأولى وكسرها (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: يؤتى) بالبناء للمفعول (يوم القيامة) بالنصب على الظرف (بالقرآن) نائب فاعله (وأهله) وصفهم وصفاً بيانياً بقوله (الذين كانوا يعملون به في الدنيا) فيأتمرون بما أمر وينزجرون عما زجر عنه (تقدمه) بفتح الفوقية وضم المهملة أي تتقدمه (سورة البقرة) فيه رد لمن قال: لا يقال سورة البقرة بل السورة التي يذكر فيها البقرة (وآل عمران) يحتمل أن يكون التقدير وسورة آل عمران فحذف لدلالة ما قبله عليه، ويحتمل أنه من باب قطعت رأس الكبشين أفرد المضاف لكراهة ثقل تثنية المضاف في مثله (تحاجان) بضم الفوقية وتشديد الجيم من المحاجة وهي المجادلة (عن صاحبهما) أي التالي لهما المتدبر لما اشتملتا عليه العامل بما أمرتا به أن يعمل والتارك ما نهتا عنه (رواه مسلم) .
3993 - (وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: خيركم) يا معشر القراء (من تعلم القرآن) هو يطلق على بعضه وعلى كله، ويصح إرادة البعض هنا باعتبار أن من وجد منه ما يأتي ولو كان في آية خير ممن لم يكن كذلك (وعلمه) مخلصاً في كلا الأمرين مبتغياً به وجه الله تعالى عاملاً بما فيه من الأخلاق والآداب والأحكام، ووجه أخيريته ما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أن لا يوحى إليه» وغيره من الاحاديث، فإذا حاز خير الكلام وتسبب مع ذلك أن يكون غيره مثله، فقد ألحق ببعض درجات الأنبياء وكان من جملة الصديقين القائمين بحقوق الله تعالى وحقوق عباده على أقصى الطاعة وأكمل الاتباع. واستفيد من ربط التعلم والتعليم بالقرآن أن المراد به كلام الله لا المعنى النفسي القائم بالذات، بل اللفظ المتعبد بتلاوته المنزل على محمد للإعجاز بأقصر سورة منه (رواه البخاري) في الجامع الصغير أن حديث «خيركم

(6/478)


من تعلم القرآن وعلمه» رواه البخاري والترمذي عن علي، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عثمان وهو من سبق قلم الناسخ، فحديث عثمان عند البخاري في كتاب فضائل القرآن باللفظ المذكور، وبلفظ «أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه» وليس عنده فيه على شيء.
4994 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به) جملة حالية: أي مجيد لفظه على ما ينبغي بحيث لا يتشابه ولا يقف في قراءته مع الملائكة (السفرة) أي الرسل لأنهم يسفرون إلى الرسل برسالات ربهم، أو الكتبة لأنهم بكتابتهم سفرة بين الله وخلقه. وفي «القاموس» : السفرة الكتبة جمع سافر والملائكة يحصون الأعمال (الكرام) لعصمتهم عن دنس الآثام (البررة) بفتح أوليه، أو المطيعين من البرّ، وهو الطاعة والإحسان: أي معهم في منازلهم في الآخرة لأنهم مثلهم في حمل كتاب الله تعالى أو نفع المسلمين بإسماعهم القرآن وهدايتهم إلى ما فيه كما أنهم معهم بالحفظ والبركة (والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه) أي يتردد عليه في قراءته (وهو عليه شاق) بثقله على لسانه لضعف حفظه (له أجران) أجر لقراءته وأجر لتتعتعه، ومع ذلك فالأول أكمل كما دلت عليه تلك المعية لمزيد اعتنائه بالقرآن وكثرة دراسته له وإتقانه لحروفه حتى مهر فيه (متفق عليه) رواه أبو داوود وابن ماجه.
5995 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن) أي صفته العجيبة ذات الشأن من حيث طيب قلبه لثبات الإيمان واستراحته بقراءة القرآن واستراحة الناس بصوته وثوابهم بالاستماع إليه والتعلم منه، وعبر

(6/479)


بقوله يقرأ لإفادة تكريره ومداومته عليها حتى صارت دأبه وعادته كفلان يقرى الضيف (مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب) فيستلذ الناس بطعمها ويستريحون بريحها، قيل خصت لأنها أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان: أي التي يقصد بها الريح من الفواكه لا مطلقاً وإلا فالثمر والعنب أفضل. وفي أفضلهما خلاف مع ما اشتملت عليه من الخواص الموجودة فيها مع حسن المنظر وطيب الطعام ولين الملمس وأخذها الأبصار صبغة ولوناً فاقع لونها تسرّ الناظرين تتوق إليها النفس قبل التناول، ويستفيد المتناول لها بعد الالتذاذ بها طيب النكهة ودباغ المعدة وقوة الهضم، فاشتركت الحواس الأربع في الاحتفاظ بها الشمّ والبصر والذوق واللمس. وهي في أجزائها تنقسم على طبائع: فقشرها حارّ يابس ولحمها حارّ رطب وحميضها بارد يابس وبزرها حارّ مجفف. وفيها من المنافع ما هو مذكور في الكتب الطيبات (مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن) من حيث طيب باطنه لثبات الإيمان فيه وعدم استراحته بشيء يظهر منه، والمراد نفي قراءته ما عدة الواجب منه كالفاتحة (كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو) فاشتماله على الإيمان كاشتمال التمرة على الحلاوة، بجامع أن كلاّ أمر باطني، وعدم ظهور ريح لها يستريح الناس لشمه لعدم ظهور قراءة منه يستريح الناس بسماعها (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن) من حيث تعطل باطنه عن الإيمان واستراحة الناس بقراءته (مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرّ) فريحها الطيب أشبه قراءته وطعمها المرّ أشبه كفره (ومثل المنافق لا يقرأ القرآن) من حيث تعطل باطنه عن الإيمان وظاهره عن سائر المنافع وتلبسه بالمضارّ (كمثل الحنظلة ليس لها ريح
وطعمها مرّ) فسلب ريحها أشبه سلب ريحه لعدم قراءته، وسلب طعمها الحلو أشبه سلب إيمانه (متفق عليه) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.

6966 - (وعن عمر رضي الله عنه أن النبي قال: إن الله يرفع) رفعة معنوية (بهذا

(6/480)


الكتاب) هو القرآن (أقواماً) هم الذين آمنوا به وائتموا بسائر ما اشتمل عليه (ويضع) أي يخفض (به آخرين) هم من صدّ عن الإيمان به، أي لم يقف عند حدوده (رواه مسلم) وابن ماجه.
7997 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: لا حسد) أي لا غبطة: أي لا تنبغي الغبطة (إلا في اثنتين) من الخصال لعظم شرفهما عند الله تعالى (رجل) بوجوه الإعراب الثلاثة فالجرّ إتباع والآخران على القطع (آتاه) بالمد: أي أعطاه (الله القرآن) أي بتيسير حفظه عليه (فهو يقوم به آناء الليل) أي ساعاته بالمد جمع إني بالكسر والقصر أو أنا بالفتح أو إني بوزن نحى أو إنو بوزن قنو (وآناء النهار) والمراد استغراق أوقاته بالتلاوة مع التدبر والتفكر وامتثال ما فيه (ورجل آتاه الله مالاً) شمل القليل والكثير وإسناد الإتيان إلى الله سبحانه يدل على طيب وصوله إليه وعدم لحاق دنس الحرمة به (فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار) أي يجاهد نفسه ببذل ما تصل إليه طاقته قاصداً وجه الله تعالى والتقرب. إليه (متفق عليه) والحديث قد تقدم مع شرحه في باب الكرم والجود وباب فضل الغنيّ الشاكر (الآناء) يمد الهمزة قبل النون (الساعات) .
8998 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: كان رجل) هو أسيد بن حضير كما في «تحفة القارىء» (يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو) أي تقرب وتنزل (وجعل فرسه) قال في «المصباح» : الفرس يقع على الذكر والأنثى من الخيل (بنفر) بالتحتية والنون والفاء والراء (منها) أي من الصحابة أو بسببها

(6/481)


(فلما أصبح أتى النبي فذكر ذلك) المرئي (له فقال تلك) أتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد تفخيماً للمشار إليه (السكينة تنزلت) والتضعيف للمبالغة (للقرآن) لأجله أو السماع قراءته (متفق عليه. الشطن بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة) وبالنون (الحبل) بالمهملة والموحدة قال في «المصباح» . وجمعه أشطان كسبب وأسباب.
9999 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من قرأ حرفاً من كتاب الله) القرآن المنزل على رسول الله للإعجاز بأقصر سورة منه المتعبد بتلاوته (فله حسنة) هي ذلك الحرف المقروء (والحسنة) مجزية (بعشر أمثالها) فالقارىء مجازى عن الحرف الواحد بعشر حسنات (لا أقول الم حرف) أي لا أقول إن مجموع الأحرف الثلاثة حرف (بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أي فيثاب قارىء ذلك ثلاثين حسنة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ولا يشكل على هذا حديث «من قرأ القرآن فأعرب في قراءته كان له بكل حرف منه عشرون حسنة، ومن قرأ بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات» رواه البيهقي من حديث ابن عمر لأنه يحتمل أن العشر الحسنات الأخرى في مقابلة الحرص على ضبطه وإتقانه.

(6/482)


101000 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله إن الذي ليس في جوفه) أي ليس في قلبه إطلاقاً لاسم المحل على الحال، واحتيج لذكره ليتم التشبيه له بالبيت الخرب (شيء من القرآن كالبيت الخرب) بفتح المعجمة وكسر الراء، وذلك بجامع أن القرآن إذا كان في الجوف بأن حفظه أو بعضه يكون عامراً مزيناً بحسب قلة ما فيه وكثرته، وإذا خلا عنه الجوف بأن لم يحفظ منه شيئاً يكون شيئاً خرباً كالبيت الخالي عن الأمتعة التي بها زينته وبهجته (رواه الترمذي) والدارمي أيضاً (وقال) الترمذي (حديث حسن صحيح) وفيه تأكيد طلب حفظ القرآن والدأب فيه.
111001 - (وعن عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما عن النبي قال: يقال) بالبناء للمفعول وذلك عند دخول الجنة، وتوجه العاملين إلى مراتبهم على حسب أعمالهم كما دل عليه السياق (لصاحب القرآن) أي حافظه عن ظهري قلب، أو حافظه بعضه الملازم لتلاوته وتدبره والعمل به والتأدب بآدابه (اقرأ وارتق) في درج الجنة بقدر ما حفظته من أي القرآن لما جاء في الحديث الذي رواه البيهقي في «الشعب» من حديث عائشة، وصححه الحاكم لكنه شاذّ أنه «عدد درج الجنة عدد آي القرآن، ومن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة» أي إن كان من أهله حقيقة لا حفظه فحسب، وإلا كان المراد أنه ليس فوقه درجة لغيره من الحفاظ لباقي الكتب الإلهية، وفي حديث عند النسائي في «مسنده» كذاب خبيث «مقدار درج الجنة على قدر رأي القرآن بكل آية درجة، فتلك ستة آلاف آية ومئتا آية وستة عشر آية بين كل درجتين مقدار ما بين السماء والأرض» واستفيد من حديث المتن وحديث الحاكم أن من استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى درج الجنة التي لللأتقياء، ومن لا كان رقيه إلى قدر منتهى قراءته، هذا كله إن أريد بالصاحب ما ذكرنا (ورتل) أي قراءتك بالجنة التي هي لمجرد التلذذ والشهود الأكبر كعبادة الملائكة إذ لا تكليف ولا عمل في الجنة (كما كنت

(6/483)


ترتل) قراءتك (في الدنيا) يؤخذ منه أنه لا يقال هذا الثواب العظيم إلا لمن حفظ القرآن وأتقن أداءه وقراءته كما ينبغي له، والترتيل هو التأني بالقراءة على ما رسمه وبينه أئمتنا حتى يكسبه ذلك أبهى رونق وأعظم حسن وزينة، وتخصيص الصاحب في الحديث بالحافظ عن ظهر قلب دون التالي من المصحف، لأن ما في الجنة أصله أن يحكى ما في الدنيا، وفي الدنيا لا يطلق ذلك إلا على الحافظ له، نظراً إلى أن القارىء إنما يطلق على من لا يفارقه القرآن أبداً، وذلك الحافظ له عن ظهر قلب، وقد وردت أحاديث تومىء إلى تفسير الصاحب بالحافظ عن ظهر قلب نبه عليه في «فتح الإله»
(فإن) تعليل يفيد الترغيب في حفظ جميع القرآن كما تقدم من أن عدد درج الجنة عدد آية (منزلتك) أي من الجنة (عند آخر آية تقرؤها) فإن قرأت الكل فأعلى المنازل وإلا فمنزلك أدون منه بقدر قراءتك، وقيل إن المراد بالصاحب العامل بالقرآن المتدبر له وهو أفضل من الحافظ المرتل، بغيرهما، والمراد بالدرجات ما نالها من علمه، وحينئذ فلا يقدر في الجنة أن يتلو من الآيات إلا ما هو على مقدار عمله، فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها، وقيل المراد به الحافظ المرتل العالم العامل فيكون له درجات لقراءته ودرجات بعمله، ويرتقي الحافظ له كله والعامل به المتدبر له إلى ما لا نهاية له، قال تعالى:

{إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب} () (رواه أبو داود والترمذي وقال) أي الترمذي (حديث حسن صحيح) ورواه أحمد والنسائي أيضاً.
(تتمة) قضية هذه الأحاديث وما في معناها الدأب في التلاوة والإكثار منها مع التدبر والتفكر والتأمل، ولو تيسر له مع ذلك الخيم في كل يوم أو ليلة أو ختمات في كل. ومحل النهي عن ختمه في أقل من سبع لمن له شغل يمنعه عنها أو عن التدبر فيها كما تقدم في باب الاقتصاد. قال المصنف في «الأذكار» بعد ذكر الخلاف في مدة الختم المختار أن ذلك مختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق التفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو فصل الخصومات بين المسلمين أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة للمسلمين فليقتصر على قدر

(6/484)


لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات، كماله، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد المال والهذرمة في القراءة اهـ.

181 - باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان
بكسر النون، وهو والنسى والنساوة بكسر النون فيهما أيضاً والنسوة وتفتح النون مصادر نسيه: ضد حفظه.
11002 - (عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي قال: تعاهدوا القرآن) أي حافظوا على قراءته وواظبوا على تلاوته (فوالذي نفس محمد بيده لهو أشدّ تفلتاً) تخلصاً (من الإبل) بكسر أوليه ويسكن الثاني تخفيفاً (في عقلها) بضم المهملة والقاف جمع عقال، وهو حبل يشد به البعير في وسط الذراع. قال الطيبي: شبه للقرآن في كونه محفوظ عن ظهر القلب بالإبل النافرة وقد عقل عليها بالحبل، ولبس بين القرآن والبشر مناسبة قريبة لأنه حادث وهو قديم، والله تعالى بلطفه منحهم هذه النعمة العظيمة فينبغي له أن يتعاهده بالحفظ والمواظبة عليه (متفق عليه) ورواه أحمد.
21003 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: إنما مثل) بفتحتين (صاحب القرآن) أي الحافظ له عن ظهر قلب: أي إنما صفته العجيبة الشأن (كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف المشددة: أي المربوطة بالعقال وبين وجه شبهه بقوله (إن عاهد عليها) أي بالربط (أمسكها، وإن أطلقها) أي بفك العقال عنها (ذهبت) وكذا صاحب القرآن إن دام على تعهده بالتلاوة قرّ وإن ترك ذلك فرّ من حفظه ولا يقدر على عوده إلا بعد غاية الكلفة والمشقة، ولا ينافي تشبيه صاحب القرآن

(6/485)


صاحب الإبل ما مرَّ من تشبيه القرآن بالإبل، لأنه كما يشبه القرآن بالإبل يشبه صاحبه بصاحبها في احتياج كل إلى تعهد ما عنده حتى لا يفقده (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .

182 - باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن
أي استعمال السواك ليذهب ما في الحلق مما يخل بحسنه وترقيق الصوت وتحزينه لأن ذلك أوقع في القلوب (وطلب القراءة من حسن الصوت) ليكون أنفع للسامع وأنجع (والاستماع) أي إلقاء السمع (لها) .
11004 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما أذن الله لشيء ما أذن) ما فيه مصدرية: أي أذنه بفتحتين وجاء عند البخاري بلفظ «ما أذن الله لشيء كأذنه» (لنبي حسن الصوت) والباقي سواء (يتغنى بالقرآن) مصدر بمعنى القراءة والمقروء، والمراد به الكتب المنزلة، والمراد بتغنيه الإفصاح بألفاظه، وقيل إعلانه، والجملة في محل الصفة لنبي، وقوله (يجهر به) تفسير له. وقال الكلاباذي: معنى تغنيه قراءته على خشية من الله تعالى ورقة من فؤاده، وقيل معناه: كشف الغموم، وذلك لأن الإنسان إذا أصابه غم ربما تغنى بالشعر يطلب بذلك فرجة مما هو فيه، والصديقون همومهم همة المعاد وضيق صدورهم عما يشغلهم عن الله، ولا ينفرجون من كربهم إلا بذكر كلام ربهم، وإليه أشار النبي بقوله «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا» أي من لم ينفرج من عمومه بقراءة القرآن والتدبر فيه فليس منا خلقاً وسيرة، وقيل معناه: يستغن بالقرآن عن غيره. لكن أنكره بعض الشراح بأن

(6/486)


الاستغناء به عن الناس وتكليمهم يفضي إلى مفاسد من تصنع القارىء وفوت التبليغ وغيرهما، على أن مجيء تفعل بمعنى استفعل قليل فلا يحمل عليه مع محمل آخر صحيح. قال ابن مالك: وأقول الظاهر أن الاستغناء يكون وقت قراءته، إذ لا دليل في اللفظ على استغراق استغنائه جميع الأوقات فلا يلزم منه الفساد، وقلة الاستعمال لا يمنع احتمال الإرادة، وقيل يتغنى: أي يتطرب لتحسين صوته لأن الغناء من علامات الطرب، وأباحه الجمهور إن لم يؤدّ إلى تغيير يزيادة حرف أو نقصه وإلا فلا. وعلى الأول حمل إباحة الشافعي له، وعلى الثاني حمل منعه منه أشار إليه المؤلف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي كما في «الجامع الصغير» (معنى أذن) بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة (الله أي استمع) والمراد بالاستماع لكونه محالاً على الله سبحانه لما فيه من الإصغاء المحال عليه تعالى غايته كما أشار إليه المؤلف
بقوله (وهو إشارة إلى الرضا والقبول) وفي «شرح المشارق» : المراد بهذا الاستماع إجزال ثوابه والاعتداد به كما يقال الأمير يسمع كلام فلان، لا الاصغاء إليه لأنه مستحيل على الله تعالى.

21005 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال له) أي لما سمع قراءته في بهجة (لقد أوتيت) بالبناء للمفعول: أي أعطيت (مزماراً من مزامير آل داود) أي داود نفسه، فآل مقحمة لأن أحداً منهم لم يعط من حسن الصوت ما أعطيه داود (متفق عليه) .
(وفي راية لمسلم أن رسول الله قال له: لو رأيتني) أي أبصرتني (وأنا أستمع لقراءتك) جملة حالية وجواب «لو» محذوف: أي لسرك ذلك، فقال أبو موسى: يا رسول الله لو أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيراً (البارحة) قال المصنف في التهذيب: اسم لليلة. قال ثعلب:

(6/487)


لا يقال البارحة إلا بعد الزوال، ويقال فيما قبله الليلة، ثم تعقبه بحديث جابر بن سمرة عند مسلم «وكان إذا صلى الصبح أقبل علينا بوجهه فقال: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا» قال المصنف: فيحمل قول ثعلب على أن ذلك حقيقة وهذا مجاز، وإلا فقوله مردود بهذا الحديث.
31006 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: سمعت النبي قرأ في العشاء) جاء عن البراء أن النبي كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، أخرجه البخاري في التفسير، وقوله (بالتين والزيتون) أي بالسورة المشتملة عليهما (فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه) وقد جاء عند الترمذي من حديث أنس «ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجهاً وأحسنهم صوتاً» (متفق عليه) .
41007 - (وعن أبي لبابة) بضم اللام وتخفيف الموحدتين (بشير) بفتح الموحدة وتخفيف الشين المعجمة (ابن عبد المنذر) الأوسي ثم من بني عمرو بن عوف من بني أمية بن زيد، وقيل اسمه رفاعة وهو بكنيته أشهر، وتوفي (رضي الله عنه) قبل عثمان بن عفان رضي الله عنه، روي له عن رسول الله خمسة عشر حديثاً (أن النبي قال: من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا) أي من أهل هدينا وطريقنا (رواه أبو داود بإسناد جيد معنى يتغن: يحسن صوته بالقرآن) وروى الطبراني «حسن الصوت زينته القرآن» وروى الحاكم وغيره «حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً» وروى عبد الرزاق وغيره «لكل شيء حلية

(6/488)


وحلية القرآن الصوت الحسن، قالوا فإن لم يكن حسن الصوت؟ قال حسنه ما استطاع» .
51008 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله: اقرأ عليّ القرآن) هو دليل طلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لهما المذكورين في الترجمة وفي الحديث «من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأ بقراءة ابن أم عبد» (فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك) بتقدير الهمزة قبل المضارع وحذفها لنقل توالي همزتين (وعليك أنزل) جملة حالية من الضمير المجرور (قال: اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه) أي سماعه، فهو على تقدير أن المصدرية أو تنزيل الفعل منزلة المصدر (من غيري) ومنه أخذ العلماء الأخيار والصلحاء الأبرار استحباب طلب التلاوة من حسن الصوت والاستماع لها (فقرأت عليه سورة النساء) يحتمل أن يكون قراءته لها لكونها حضرته إذ ذاك أو عن تروّ، وذلك لما اشتملت عليه من الأمر بالتقوى وما فيها من الثناء على المصطفى وذكر ما منّ به عليه مولاه من عظيم الخير والاصطفاء مع ما فيها من أنواع الأحكام (حتى جئت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء} ) أي أمتك ( {شهيداً} ) ، (قال: حسبك) أي كافيك قراءتك (الآن) أي فإني أخذت من استماعي غرضي (فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان) أي تجري دموعهما رحمة لأمته فإن الشاهد لا يكتم شيئاً، فإذا كلف الشهادة عليهم وهو لا يحبّ لهم إلا الكمال، ومن لازم الشهادة أن يذكر ما فعلوه من النقائص خشي عليهم أن يحلّ بهم العذاب بسبب شهادته، فرق قلبه خوفاً وحزناً عليهم حتى جرت دموعه شفقة عليهم، لعل الله بواسطة ذلك يشفعه فيهم، فكان ذلك البكاء غاية الرقة بهم والرحمة لهم قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة: 128) فعنده من الشفقة عليهم ما ليس عند نبي على أمته، ومن ثم لما أعطي كل نبي دعوة مجابة دعا كل منهم بدعوته لنفسه وخبأ دعوته لأمته (متفق عليه) وقد تقدم مع الكلام عليه في باب فضل البكاء من

(6/489)


خشية الله تعالى قال المؤلف: في الحديث
استحباب استماع قراءة القرآن والإصغاء إليها والتدبر فيها واستحباب طلب القرآن من الغير ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه، وفيه التواضع لأهل العلم والفضل ورفع منزلتهم اهـ. قال في «فتح الإله» ، وقد يؤخذ من الحديث أن الاستماع أفضل من التلاوة، وينبغي أن محله إذا كان فيه من الخشوع والتدبر ما ليس في القراءة.

183 - باب في الحث على سور
جمع سورة، وهي كما قال الكافيجي: الطائفة من القرآن المترجمة باسم مخصوص توفيقاً: أي بالنسبة إلى الاسم المشتهرة به، فلا يشكل عليه تسمية كثير من الصحابة والتابعين سوراً بأسماء من عندهم، كتسمية حذيفة التوبة بالفاضحة وسورة العذاب، وكتسمية سفيان ابن عيينة الفاتحة بالوافية، وسماها يحيى بن أبي كثير بالكافية، وتهمز السورة أخذا لها من أسأرت: أي أفضلت كأنها قطعة من القرآن، ولا تهمز من أسارت أيضاً لكن سهلت، ومنهم من يشهدها بسورة البناء: أي القطعة منه لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى، وقيل من سور المدينة لإحاطتها بآياتها واجتماعها فيها كاجتماع البيوت بالسور، ومنه السوار لإحاطته بالساعد، وقيل لارتفاعها لأنها كلام الله والسورة المنزلة الرفيعة، وقيل لتركب بعضها على بعض من التسوّر بمعنى التصاعد، ومنه {إذ تسوروا المحراب} (ص: 21) (وآيات) جمع آية وفي وزنها أقوال ستة ذكرها ابن الصائغ في «شرح البردة» أرجحها أن أصلها أبية بوزن شجرة والآية طائفة من كلمات القرآن متميزة بفصل ويقال بفاصل وهو آخر الآية (مخصوصة) .
11009 - (عن أبي سعيد رافع بن المعلى) بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام

(6/490)


المفتوحة، وقيل اسمه الحارث، وقال ابن عبد البر: إنه أصح ما قيل في اسمه، قال: ومن قال اسمه رافع فقد أخطأ لأن رافع بن المعلى قتل ببدر، قال: وأصح ما قيل فيه إنه الحارث بن نفيع بن المعلى بن لوان بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بن عدي بن مالك بن زيد بن مناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن عضب الأنصاري الزرقي (رضي الله عنه) وأمه آمنة بنت قرط بن خنساء عن بني سلمة نسبه كما ذكرنا جماعة وحبيب بن عبد حارثة هو أخو زمرمق، وقيل لأبي سعيد الزرقي لأن العرب كثيراً ما تنسب ولد الأخ إلى أخيه المشهور وهو معدود في أهل الحجاز روي له عن رسول الله حديثان، روى عنه البخاري هذا الحديث انفرد به عن مسلم. (قال: قال لي رسول الله: ألا) بتخفيف اللام أتى بها لتنبيه المخاطب لما يلقي إليه بعدها (أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد) وإنما قال له ذلك ولم يعلمه بها ابتداء ليكون أدعى إلى تفريغ ذهنه لتلقيها وإقباله عليها بكليته (فأخذ بيدي) أي بعد أن قال ذلك ومشينا (فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمتك) هو رواية بالمعنى إن كان الصادر من النبي ما حكاه عنه أولاً وإن كان قاله له مع ذلك لأعلمنك فيكون رواية باللفظ (أعظم سورة في القرآن، قال: الحمد لله ربّ العالمين) أي سورة الفاتحة، وإنما كانت أعظم سورة لأنها جمعت جميع مقاصد القرآن، ولذا سميت بأم القرآن. ولا ينافيه حديث البقرة أعظم السورلأن المراد به ما عدا الفاتحة من السور التي فصلت فيها الأحكام وضربت فيها الأمثال وأقيمت فيها الحجج إذ لم تشتمل سورة على ما اشتملت عليه سورة البقرة ولذا سميت فسطاط القرآن، ولعظيم فقهها أقام عمر كما في الموطأ ثمان سنين على تعلمها، وحكي ذلك عن ابنه أيضاً، ثم أشار إلى ما تميزت به الفاتحة عن غيرها من بقية السور حتى صارت أعظم منها بقوله (هي السبع
المثاني) أي المسماة به جمع مثناة من التثنية لأنها تثنى في الصلاة في كل ركعة كما جاء عن ابن عمر بسند حسن قال «السبع المثاني فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة» أو لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنهانزلت بمكة ونزلت بالمدينة وذلك للجمع بين ما جاء من كونها مكية وكونها مدنية ومثلها في ذلك خواتيم سورة النحل وأول سورة الروم وآية الروح «وأقم الصلاة طرفى النهار» أو سميت بذلك لاشتمالها على قسمين: ثناء ودعاء، أو لما اجتمع فيها من

(6/491)


فصاحة المباني وبلاغة المعاني، أو لأنها تثنى على مرور الزمان وتتكرر فلا تنقطع وتدرس فلا تندرس، أو لأن فوائدها تتجدد حالاً فحالاً إذ لا منتهى لها أو جمع مثناه من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله تعالى فكأنها تثنى عليه بأسمائه الحسنى وصفاته أو لأنها تدعو أبداً بواسطة وصفها المعجز ببراعة النظم وغزارة المعنى إلى الثناء عليها ثم قال من يتعلمها أو من الثنايا لأن الله استناها لهذه الأمة ولا تنافي بين ما هنا وبين قوله تعالى «سبعاً من المثاني» لأن «من» فيه للبيان أو للتبعيض ولا مانع من أن القرآن كله يسمى مثاني أيضاً (والقرآن العظيم) أي وهي المسماة بذلك أيضاً (الذي أوتيته) بالبناء للمجهول: أي أعطيته وتسميتها بالقرآن العظيم وجهه الأئمة بما حاصله كما أخرجه الحسن البصري «إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن ثم أودع علومه في الفاتحة، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسيره» وقد ورد عن عليّ رضي الله عنه. لو شئت أن أوقر على الفاتحة سبعين وقراً لأمكنني ذلك، وهو صحيح لجمعها سائر ما يتعلق بالموجودات دنيا وأخرى وأحكاماً وعقائد، وتفصيل كل ذلك وتوابعه على وجهها يستغرق العمر وزيادة (رواه البخاري) في أول كتاب تفسير القرآن وفي باب فاتحة الكتاب من كتاب فضائل القرآن.
21010 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال في قل هو الله أحد) أي السورة المسماة بذلك وبسورة الإخلاص (والذي نفسي بيده) فيه استحباب القسم لتأكيد الأمر والحث على الخير والحض عليه، وقوله بيده: أي بقدرته (إنها) أي سورة الإخلاص المتقدم ذكرها في الحديث الذي حكى المصنف منه هذا المقدار وسيأتي بجملته بأثره (لتعدل) أي باعتبار ثواب قراءتها (ثلث القرآن. وفي رواية) أي عن أبي سعيد أيضاً (أن رسول الله قال لأصحابه: أيعجز) بكسر الجيم على الأفصح (أحدكم) أي الواحد منكم (أن يقرأ بثلث القرآن) الباء فيه مزيدة في المفعول به (في ليلة) ظرف ليقرأ

(6/492)


(فشق ذلك) أي ما ذكر من قراءتهم الثلث في الليلة (عليهم) أي رأوه شاقاً عليهم (وقالوا: أينا يطيق ذلك) لكثرته مع الأمر بتدبر القراءة وإعطاء كل حرف حقه من وجوه الأداء فهو ذلك مشقّ جداً، وقولهم (يا رسول الله) أتوا به إيماء إلى أن المراد سؤالهم منه سؤال الله تعالى التخفيف والرفق بهم لما يعلمون له من علوّ المكانة عند الله سبحانه (فقال) أي مبيناً للمراد وأنه لا مشقة فيه (قل هو الله أحد الله الصمد) الذي في البخاري في باب فضل {قل هو الله أحد} من كتاب «فضل القرآن» فقال {الله أحد الله الصمد} (ثلث القرآن. رواه البخاري) باللفظ المذكور في الباب المذكور، وروى مسلم من حديث أبي الدرداء مرفوعاً «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف نقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قل هو الله} أحد تعدل ثلث القرآن»
31011 - (وعنه) أي عن أبي سعيد (أن رجلاً) قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو سعيد (سمع رجلاً) قال في «التحفة» : قيل هو قتادة بن النعمان (يقرأ قل هو الله أحد يرددها) جملة حالية من فاعل يقرأ أو مستأنفة لبيان كيفية قراءته إياها (فلما أصبح) أي دخل في الصباح (جاء إلى رسول الله فذكر ذلك) أي ما ذكر من قراءة الرجل وترديده السورة (له) أي لرسول الله (وكأن) بتشديد النون (الرجل يتقالها) بفتح التحتية والفوقية والقاف وتشديد اللام: أي يعدّها قليلة في العمل والجملة كلها حالية، وجملة يتقالها خبر كأن (فقال رسول الله: والذي نفسي بيده) أي بتصاريف قدرته (إنها لتعدل ثلث القرآن) هذا هو الحديث الذي ذكر أوّلا طرقه، وعجيب ما فعله المصنف هنا من كونه ذكر بعضه أولاً ثم ذكره، كله، وكان ذكر جملته مغنياً عن ذكر بعضه، والله أعلم (رواه البخاري) في الباب المذكور.

(6/493)


41012 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، قال في: قل هو الله أحد، إنها) بالكسر لكونها في ابتداء الكلام. ويحتمل كونها جواب قسم مقدر يدل عليه تصريحه به في الرواية قبله (لتعدل ثلث القرآن، رواه مسلم) واختلف في معنى كونها تعدل ثلث القرآن. فقيل إن ثواب قراءتها يعدل ثواب قراءة ثلثه بلا تضعيف، وقيل معناه أن القرآن على ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بالقصص، وقسم يتعلق بالأحكام، وقسم يتعلق بصفات الله، وهي متمحضة لها فكانت بمنزلة الثلث. نقلهما المصنف عن المازري، فعلى الأول يلزم من تكريرها ثلاثين مرة استيعاب القرآن وختمه لا على الثاني، وبيان الملازمة أن من قرأها ثلاثين مرة يكون كمن قرأ القرآن مع المضاعفة، لأن كل ثلاث مرات تعدل القرآن كله، فمن قرأ الثلاثين كأنه قرأ القرآن عشر مرات بلا مضاعفة، وهي يمنزلة قراءته مرة مع المضاعفة. وقيل لأن معارف القرآن المهمات ثلاث: معرفة التوحيد، والصراط المستقيم، والآخرة، وهي مشتملة على الأول فكانت ثلثاً. وقيل لأن البراهين القاطعة دلت على وجود الله ووحدانيته وصفاته، وهي: إما صفات الحقيقة، وإما صفات الفعل، وإما صفات الحكم، ويه تشتمل على صفات الحقيقة فهي ثلث. وقيل معظم مطالب القرآن معرفة الله ورسوله ولقائه وهي تفيد الأول، وقيل غير ذلك. ورجح أن المراد ثلثه من حيث الأجر، ولا يرد عليه حديث «من قرأ القرآن أعطي بكل حرف عشر حسنات» إما لأن المراد ثواب الثلث من غير مضاعفة أو معها، ولا بدع أن يجعل الله في الأحرف القليلة من الثواب ما لم يجعله في الكثيرة ألا ترى أن الصلاة بمكة بمائة ألف ألف ألف صلاة فيما عدا مسجد المدينة والقدس وفي مسجد المدينة بمائة ألف ألف، وفي الأقصى بمائة ألف. واختار ابن عبد البر أن السكوت عن ذلك كله أفضل وأسلم كما فعل أحمد وكذا ابن راهويه، فإنه حمل الحديث على أن معناه أن لها فضلاً وثواباً تحريضاً على تعلمها، لا أن قراءتها ثلاث مرات
كقراءة القرآن، قال: هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة.
51013 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبّ هذه السورة)

(6/494)


وعطف عليها عطف بيان قوله (قل هو الله أحد) أيقانه لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتقديسه وذلك يحمل كل ذي إيمان كامل على أن يستمد بقراءتها ما يكمل به إيمانه ويزيد ءيقانه (قال: إن حبها) مصدر مضاف لمفعوله: أي حبك إياها كما جاء هكذا عند الترمذي (أدخلك الجنة) أي أنا لك أفاضل درجاتها، والداعي لتأويله بما ذكر الجمع بينه وبين حديث «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» الحديث (رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه البخاري في «صحيحه» تعليقاً) أي حذف أول إسناده.
61014 - (وعن عقبة بن عامر) بن عبس بفتح المهملة وسكون الموحدة آخره سين مهملة الجهني القضاعي (رضي الله عنه) قال الحافظ الذهبي: فيه صحابي كبير أمير شريف فصيح مقرىء فرضى شاعر، ولي غزو البحر. وقال الحافظ ابن حجر: اختلف في كنيته على سبعة أقوال أشهرها أبو حماد، وكان عقبة من فضلاء الصحابة ونبلائهم، وباشر فتوح الشام فإذا حزم عزم. وكان البشير إلى عمر بفتح دمشق، ووصل إلى المدينة في سبعة أيام ورجع منها إلى دمشق في يومين ونصف ببركة دعائه عند قبر النبي أن يقرب الله عليه المسافة وكان سكن دمشق ثم انتقل لمصر والياً لمعاوية سنة أربع وخمسين ومات بها سنة ثمان وخمسين، روي له عن رسول الله خمسة وحمسون حديثاً اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بتسعة (أن رسول الله قال: ألم تر) أي ألم تبصر والخطاب لعقبة (آيات أنزلت) بالبناء للمفعول: أي لم يبصر (مثلهن) أي فيما جاء في التعويذ (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة ظرف لاستغراق ما مضى من الزمان (قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس) وقد استعاذ بهما لما سحره لبيد بن الأعصم فذهب عنه ذلك بالكلية، وحديثه في الصحيح (رواه مسلم) وما أفاده الحديث من كونهما من

(6/495)


القرآن هو ما أجمع عليه الأمة. وما جاء عن ابن مسعود مما يخالف ذلك محمول على أنه باعتبار ما عنده ثم أجمعوا على خلافه، وفيه أجوبة أخرى ذكرتها أول تفسير سورة المعوذتين.
71015 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله يتعوذ من الجان وعين الإنسان) لعظم ضررهما: أي كان يقول «اللهم إني أعوذ بك من الجان وعين الإنسان» (حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا) أي المعوذتان (أخذ بهما) في التعوذ لعمومهما لذلك وغيره (وترك ما سواهما) من التعاويذ (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وإنما اختصا بذلك لاشتمالهما على الجوامع في المستعاذ به والمستعاذ منه، أما الأول فلأن الافتتاح برب الفلق مؤذن بطلب فيض رباني يزيل كل ظلمة في الاعتقاد أو العمل أو الحال، لأن الفلق الصبح وهو وقت فيضان الأنوار ونزول البركات وقسم الأرزاق وذلك مناسب للمستعاذ منه. وأما الثاني لأنه في الأولى ابتدأ في ذكر المستعاذ منه باعلام وهو شرّ كل مخلوق حيّ أو جماد فيه شر في البدن أو المال أو الدنيا أو الدين كإحراق النار وقتل السمّ، ثم بالخاص اعتناء به لخلفاء أمره، إذ يلحق الإنسان من حيث لا يعلم كأنه يغتال به، وهو القمر إذا غاب لأن الظلمة التي تعقب ذلك تكون سبباً لصعوبة التحرز من الشرّ المسبب عنها، ثم نفث الساحرات في عقدهن الموجب لسريان شرهن في الروح على أبلغ وجه وأخفاه فهو أدق من الأول، ثم بشرّ الحاسد في وقت التهاب نار حسده فيه لأنه حينئذ يسعى في إيصال أدق المكائد المذهبة للنفس والدين فهو أدق وأعظم من الثاني، وفي الثانية خص شرّ الموسوس في الصدور من الجنة والناس لأن شرّه حينئذ يعادل تلك الشرور بأسرها، لأنها إذا كانت في صدر المستعيذ ينشأ عنهما كل كفر وبدعة، وضلالة، ومن ثم زاد التأكيد والمبالغة في جانب المستعاذ به إيذاناً بعظمة المستعاذ منه، وكأنه قيل أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بمن رباهم بنعمه وملكهم بقهره وقوته، وهو إلههم ومعبودهم الذي يستعيذون به ممن سواه

(6/496)


ويعتقدون أن لا ملجأ لهم إلا إياه، وختم به لأنه مختص به تعالى، بخلاف الأولين فإنهما قد يطلقان على غيره.
81016 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: من القرآن سورة ثلاثون آية) صفة سورة أو خبر مبتدأ محذوف: أي هي ثلاثون أية (شفعت) صفة أيضاً أو حال أو خبر بعد خبر أو استئناف (لرجل حتى غفر) بالبناء للمفعول ونائب فاعله قوله (له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك) طوّل ما قبله وأبهمه ثم بينه وحصره بقوله وهي الخ ليكون أوقع في شرفها وفخامتها وأبلغ في المواظبة على قراءتها، وقوله شفعت إما على ظاهره إخبار عما وقع بعد نزولها أن رجلاً قرأها فشفعت حتى غفر له، أو اطلع على ذلك فأخبر به ترغيباً فيها، فرجل حينئذ إما باق على تنكيره بالنسبة لعلمه والأمة بأن أخبر به على إبهامه أو للأمة فقط؟ بأن أعلم به وكتمه للأمر له به أو لمصلحة رآها، أو بمعنى تشفع في القيامة على حد {ونادى أصحاب الجنة} (الأعراف: 44) فرجل المراد به جنس القارىء وإثبات الشفاعة للقرآن صحيح باعتبار أنه يجسد فلا معدل عنه (رواه أبو داود والترمذي) زاد في «المشكاة» وأحمد والنسائي وزاد في «فتح الإله» وابن حبان والحاكم (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) .
(وفي رواية أبي داود تشفع) أي بدل قوله شفعت وخصت بذلك لافتتاحهما بخلق الحياة وختمها بالماء الذي هو سبب الحياة فأنتجت الشفاعة التي هي سبب الحياة الكاملة للمشفوع له، وأيضاً افتتاحها بعظائم عظمته ثم بباهر قدرته وإتقان صنعته، ثم بذم من نازع في ذلك أو أعرض عنه، ثم بذكر عقابهم وماله عليهم من النعيم، ثم ختمها بما اختصها به من بين سائر السور وهو الإنعام بالماء المعين الذي هو سبب الحياة المناسب لذلك لكه أثمر المعافاة عن سوء القطيعة بتشفيع هذه السورة في قارئها وجعلها مانعة عنه منجية له.

(6/497)


91017 - (وعن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (البدري) نسبة لبدر لكونه سكنها، وقيل شهد وقعتها (رضي الله عنه عن النبي قال: من قرأ بالآيتين) الباء مزيدة للتأكيد أو الاستعانة وتجويز كونها لإلصاق القراءة به بعيد إذ قراءة الحرف التلفظ به (من آخر سورة البقرة) من {آمن الرسول} إلى آخر السورة (في ليلة كفتاه متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي كما في «الجامع الكبير» ، ورواه الديلمي بلفظ «من قرأ خاتمة سورة البقرة حتى يختمها في ليلة أجزأت عنه قيام تلك الليلة» (قيل كفتاه المكروه تلك الليلة) أي ودفعتا عنه شرّ الإنس والجنّ ويشهد له حديث الحاكم «إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا تقرآن في دار فيقربها شيطان ثلاث ليال» (وقيل كفتاه عن قيام الليل) حتى لا يبول الشيطان في أذنيه ولا يقعد على ناصيته: أي فقراءتها تتكفل بمنع ذلك لكن على وجه الاحتمال، لكن تعقب بأن مثل هذا لا يكتفي فيه بالاحتمال. وقيل من الكفاية بمعنى الإجزاء: أي أجزأتاه عن فوائد قراءة سورة الكهف المشتملة على الآيات العشر آخرها التي من قرأها أمن من الدجال، وعن قراءة آية الكرسي المتضمنة لقارئها عند النوم الأمن على داره الحديث الآتي، ويحتمل وهو الظاهر المناسب لنظمها أنهما كفتاه عن تجديد الإيمان لأن من تأمل أولاهما أدنى تأمل حصل له من الرسوخ في الإيمان والإيقان مقام خطير وحظ كبير، لاشتمالها على غاية التفويض والتسليم لأقضية الله وأوامره ونواهيه لأن من تأمل قول أولئك الكمل «سمعنا وأطعنا» حمله ذلك على التأسي بهم في هذا المقام العلي وغاية التواضع للَّه وهضم النفس باعتقاد أنها ليست على شيء، لأن من تأمل قول أولئك الكمل ربما حمله على التأسي بهم فيه أيضاً، وغاية ذكر الموت واستحضار البعث الحامل أو لهما على تكثير العمل وتقليل الأمل، وثانيهما على التبري من حقوق الخلق، لأن من تأمل رجوعه إلى
الله تعالى للحساب سارع فيما يبرئه ويخلصه من ورطة المناقشة في الحساب، أو كفتاه عما ورد من الأدعية الكثيرة لأن الدعاء بما فيهما متكفل لخير الدنيا والآخرة.

(6/498)


101018 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله: قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر) جمع مقبرة: أي لا تكن بيوتكم مثلها في عدم اشتغال من فيها من الموتى بنحو الصلاة والقراءة، ولا تكونوا كالموتى في ترك ذلك (إن الشيطان ينفر) بكسر الفاء على الأفصح وضمها لغة: أي يصدّ ويعرض إعراضاً بالغاً، فلا يقال إنه ينفر من كل ما يقرأ فيه غير البقرة أيضاً (من البيت الذي تقرأ فيه) بالفوقية في الأصول المصححة مبنياً للمجهول ونائب فاعله (سورة البقرة) ليأسه من إغوائهم وإضلالهم ببركة قراءتها وامتثالها لما فيها، لأنه ليس في سورة من القرآن ما في سورة البقرة من تفصيل الأحكام والحكم وضرب الأمثال وإقامة الحجج والبراهين وبيان الشرائع أو القصص والمواعظ والوقائع الغريبة والمعجزات العجيبة وذكر خاصة أوليائه والمصطفين من عباده، وتفضيح الشيطان ولعنه وكشف ما توسل به إلى التسويل لآدم وذريته، ومن ثم قيل فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي كما في «الجامع الكبير» .l
111019 - (وعن أبي) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء (ابن كعب) الأنصاري البدري وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب البكاء. (قال: قال رسول الله: يا أبا المنذر) بصيغة الفاعل من الإنذار ضد التبشير وهي كنية أبي (أتدري أي) اسم الاستفهام معرب ملازم للإضافة، وعند إضافته لمؤنث كما هنا يجوز تذكيره وتأنيثه (آية من كتاب الله معك) حال أي مصاحباً لك، وأشار بذلك: أي أشار بقوله معك إلى أنه رضي الله عنه ممن حفظ جميع القرآن في زمنه، ومن مزاياه التي لم يشاركه فيها غيره أن النبي أقرأ عليه سورة «لم يكن» كما تقدم في باب البكاء (أعظم؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أي جميع آية

(6/499)


الكرسي ثم الذي في مسلم أنه قال: أولاً قلت الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أيّ أية في كتاب الله معك أعظم قلت: {الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} فوّض أولاً العلم إلى الله ورسوله لأنه جوّز فضيلة شيء من الآيات غيرها عليها، فلما كرر عليه السؤال علم أن المراد سؤاله عما عنده فأجاب بذلك، أو يقال إنه لم يكن عنده أولاً علم ذلك ففوض، فلما رأى حسن تفويضه ألقى الله عليه من أنوار علومه ومنحه عن مكنون معارفه ما علم به الجواب فسأله ثانياً ليظهر عليه شيء من ذلك الإمناح، فأجابه فزاده تثبيتاً وإمداداً بضربه في صدره وهنأه بما منحه كم قال (فضرب في صدري) عداه بفي مع أنه متعد بنفسه على حد قوله تعالى: {وأصلح لي في ذريتي} (الأحقاف: 15) أي أوقع الصلاح الكامل فيهم حتى يكونوا محلاً له فكذا هنا (وقال: ليهنك العلم أبا المنذر) من هناني الطعام يهنيني ويهناني، وهنأت به: أي تهنأت به: أي جاءني من غير مشقة ولا تعب، والقصد الدعاء له بتيسير العلم ورسوخه فيه، وحقيقته الإخبار على طريق الكناية بأنه راسخ في العلم لإجابته بما هو الحق عند الله تعالى، وأبرز ذلك في صورة أمر العلم بأن يكون هو هناء له مبالغة في البشارة والمنة وإعلاماً بما
قدمته من أن النبي أمده من علومه الإلهية بما هنأه به وأزال عنه مشقة التعلم، فأجاب فوراً بالحق، وفي هذا منقبة جليلة لأبيّ، ودليل ظاهر على كثرة علومه وسابغ منته، وأنه خصه من إمداداته الإلهية بما لم يخص به نظراءه وتكريمه بالكنية، وجواز بل ندب مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب لرسوخه في التقوى وعدم نظره إلى شيء من حظوظ نفسه وكان فيه مصلحة كإظهار علمه للآخذين منه والمنتفعين به. وفيه دليل على تفضيل بعض القرآن على بعض وهو الذي عليه الجمهور، وهو الحق الذي لا مرية فيه. ومن أول أعظم بمعنى عظيم فقد أبعد لأن العقل لا يوجب تأويله، بخلاف قوله «وهو أهون عليه» فإنه يوجب تأويله بهين لتساوي جميع المكوّنات بالنسبة للقدرة الإلهية ويخلاف قوله تعالى:
{هو أعلم بكم} (النجم: 32) الآية، فإن العقل أيضاً يوجب تأويله بعالم لتساوي المعلومات بالنسبة للعلم الإلهي، وأما في حديث الباب فالعقل لا يمنع من بقائه على ظاهره، إنما كانت الآية المذكورة أعظم الآيات وسيدتها لما تضمنته من عظم مقتضاها، إذ الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته، وهي اشتملت على إثبات الذات والصفات والأفعال، ومعرفة هذه الثلاثة هي المقصد الأقصى في العلوم معنى القيوم الذي يقوم

(6/500)


بنفسه ويقوم به غيره وذلك غاية الجلال والعظمة {لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة: 255) تنزيه وتقديس له عما يستحيل عليه من صفات الحوادث والتقديس عما يستحيل عليه أحد أقسام المعرفة {له ما في السموات وما في الأرض} إشارة إلى الأفعال كلها وأن جمعيها منه وإليه من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه إشارة إلى انفراده بالملك والحكم والأمر، وأنه لا يملك الشفاعة عنده في أمر من الأمور إلا من شرفه بها وأذن له فيها، وهذا نفي للشركة عنه في الملك والأمر يعلم ما بين أيديهم، إلى قوله: بما شاء إشارة إلى صفة المعلم وتفضيل بعض المعلومات والانفراد بالعلم، ولا علم لغيره إلا ما أعطاه ووهبه على قدر مشيئته وإرادته {وسع كرسيه السموات والأرض} إشارة إلى عظم ملكه وكمال قدرته ولا يؤوده حفظهما إشارة إلى صفة العزة وكمالها وتنزيهها عن الضعف والنقص وهو العليّ العظيم إشارة إلى أصلين عظيمين في الصفات، وحينئذ لا تجد في آية غيرها جميع هذه المعاني حتى آية {شهد الله} إذ ليس فيها إلا التوحيد {وقل اللهم مالك الملك} (آل عمران: 26) إذ ليس فيها إلا توحيد الأفعال «والإخلاص» ليس فيها إلا التوحيد والتقديس «والفاتحة» فيها الثلاثة لكنها مرموزة لا مشروحة، نعم يقرب منها في جميعها آخر الحشر وأول الحديد ولكنها آيات لا آية الكرسي اشتمالها على ستة عشر موضعاً فيها اسم الله تعالى لفظاً أو ضميراً، بل إن عدّ المحتمل في الحيّ القيوم والعليّ العظيم والفاعل المقدر
في حفظهما المضاف لمفعوله بلغت إحدى وعشرين، وكما وصفت هذه الآية بأنها أعظم أي القرآن كما في حديث الباب وصفت بكونها سيدة أي القرآن في حديث الترمذي والحاكم، ووصفت بهما دون الفاتحة، فإنها إنما وصفت بالأعظمية والأفضلية لما قال الغزالي: إن الجامع بين فنون الفضل وأنواعه الكثيرة يسمى أفضل، فإن الفضل هو الزيادة والأفضل هو الأزيد: وأما السؤدد فهو رسوخ معنى الشرف الذي يقتضي الاستتباع ويأتي التبعية، والفاتحة تتضمن التنبيه على معان كثيرة ومعارف مختلفة فكانت أفضل، وآية الكرسي تشتمل على المعرفة العظمى المقصودة المتبوعة التي يتبعها سائر المعارف فكان اسم السيد بها أليق اهـ. ملخصاً من «فتح الإله» (رواه مسلم) .

(6/501)


121020 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله بحفظ) أي في حفظ (زكاة رمضان) أي زكاة الفطر، وأضيفت لرمضان لكون إدراك جزء منه شرطاً لإيجابها ولجبرها خلل ما يقع خلال الصوم مما ينقصه ويمنع كماله فهي بمعنى اللام (فأتاني آت فجعل) أي شرع (يحثو) بسكون المهملة بعدها مثلثة، وللنسائي: فوجد التمر كأنه قد أخذ منه، ولابن الضريس: فإذا قد أخذ منه ملء كف (من الطعام) في إنائه أو ثوره (فأخذته) أي أمسكته، قال السيوطي في «التوشيح» للنسائي: إن أبا هريرة شكا ذلك للنبي أولاً فقال: إن أردت تأخذه فقل: سبحان من سخرك لحمله، قال: فقلتها فإذا أنا به قام بين يديّ فأخذته (فقلت: لأرفعنك) أي والله لأذهبن بك (إلى رسول الله) أي لأعلمه بك وفاء بما فوّض إليّ من الحفظ المقتضى لمنع كل خائن ورفع من سرق أو اختلس شيئاً إليه ليحده أو يعزره بحسب ما يراه (قال: إني محتاج) أي وهذا لذوي الحاجة (وعليّ عيال) أي نفقتهم (وبي حاجة شديدة) أي إلى ما أخذت وهو تأكيد لما قبله بوجه أقوى أو تأسيس حملاً لقوله إني محتاج على أني فقير في نفسي ولهذا عليّ الحاجة للعيال ووصفها بشديدة لأن الحاجة لهم أشد لأنه يصبر أكثر منهم، واقتصار أبي هريرة لما ذكر النبي على قوله شكا حاجة شديدة يؤيد التأكيد (فخليت عنه) اجتهاد منه حمله عليه أن الطعام بجمع لذوي الحاجة، فمن أخذ منه وهو محتاج ملكه والحراسة المفوضة إليه إنما هي من غير المحتاج (فأصبحت فقال رسول الله: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟) واستفهام تقرير لأن الله تعالى أطلع نبيه على ما وقع لأبي هريرة وأن سيقع له، فأراد إعلام أبي هريرة حاله وبأنه سيعود (قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله) كناية عن إطلاقه وفكه من الأسر (قال: أما) بتخفيف الميم للاستفتاح وتدل على تحقيق ما بعدها (إنه قد كذبك وسيعود) أي إليك فتحذر منه (فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله) وفي نسخة
«لقوله» (إنه سعود فرصدته) أي راقبته (فجاء يحثو) حال مقدرة لأن الحثو عقب المجيء لا معه، ويحتمل أن التقدير: فجاء وجعل يحثو (من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، قال: دعني) أي

(6/502)


اتركني، وأتى به زيادة على ما قبله لأنه طمع في الخلاص بمقتضى ما فعله معه أولاً (فإني محتاج وعليّ عيال) حذف قوله «ولي حاجة شديدة» اكتفاء بوجوده فيما قبله (لا أعود) أي والله لا أرجع (فرحمته فخليت سبيله) وإنما خلاه مع قول النبي له فيه «إنه قد كذبك» لأنه ظن بتقرير النبي على إطلاقه أول مرة أن كذبه لا يوجب حرمانه، أو أنه قد كذب في مجموع الأخبار لا في كل جزء منه، أو أنه قد تاب من كذبه (فأصبحت فقال لي رسول الله: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك) لم يقل له البارحة لأنه لم يمض بعد قوله له غيرها بخلافه في الأول، فإنه لو أطلق لم يقيده بالبارحة لتوهم أن السؤال عما وقع له في عمره أو بعضه (قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، فقال: إنه قد كذبك وسيعود) وإنما أقره على إطلاقه بعد أن بين له أنه كاذب لأنه علم أن له عذراً بظنه الذي ذكر آنفاً أو بغيره (فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله) ثم ذكر له ما يقطع طمعه أنه يطلقه فقال (وهذا) أي المجيء الذي جئته (آخر ثلاث مرات إنك) تعليل لما تضمنه كلامه من عدم إطلاقه (تزعم لا تعود ثم تعود، فقال: دعني) أي اتركني (فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها) إنما عبر عنها بالكلمات الموضوعة لجمع القلة إيماء إلى سهولة قراءتها وتيسر تلاوتها تنشيطاً للعامل، والباء فيه للسببية وهي بجعل الله لها سبباً للنفع المذكور (قلت ما هن) أي الكلمات النافعة (قال إذا أويت) بالقصر على الأفصح لكونه قاصراً: أي أتيت (إلى فراشك) المعدّ للنوم (فاقرأ آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم حتى تختم الآية، فإنه) أي الشأن (لن يزال عليك من الله حافظ) ومن
ابتدائية: أي حافظ مبتدأ من حضرته تعالى، وقيل من للسببية مجرورها محذوف:

(6/503)


أي من أمره تعالى كقوله تعالى:

{يحفظونه من أمر الله} (الرعد: 11) أي بسبب أمره لهم بحفظه وتنوين حافظ للتعظيم (ولا يقربك) بفتح الراء وبالنصب عطف على يزال، ويجوز الرفع على الاستئناف (شيطان) أتى بهذه الجملة بعد ما قبلها مع تضمنها لهذه لعظم ضرر الشيطان، فنص على إبعاده فضلاً عن حصول وساوسه وإيذائه (حتى تصبح) أي تدخل في الصباح، وظاهر الخبر انتهاء ذلك بدخول الفجر وإن كان التالي للآية لم يقم من منامه، ويحتمل أن يكون عبر به عن الاستيقاظ حينئذ كما هو الغالب (فخليت) أي تركت (سبيله) لعظم رغبة الصحابة في أعمال البر وتجويزه توبته عن الكذب وحاجته كما أخبر ولأنه قد علم ما يمنعه به عن الوصول لذلك بعد (فأصبحت فقال لي رسول الله) المعطوف عليه من هذه الجملة فيه وفيما تقدم مقدر: أي فأتيته فقال (ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم) أتى به مع صحة معناه واستقامة مبناه، لأنه جوّز ذلك لقوله فيه قد كذبك (أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها) أي بسببها لما رتبه تعالى على ذلك (فخليت سبيله، قال: ما هي) أي الكلمات (قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي) مبتدئاً (من أولها) واستمر (حتى تختم الآية) ثم عطف على آية الكرسي عطف بيان قوله (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أي إلى قوله: {وهو العليّ العظيم} (وقال لي لا يزل) رواية بالمعنى، وهو مؤيد لقول أهل الحق إن لن مثل «لا» في إفادة النفي من غير تأكيد ولا تأييد، إذ لو أفادت أحدهما لما وضع أبو هريرة موضعها لا هنا، ولما وضع لن موضع لا في الجملة الثانية (عليك من الله حافظ) أحد الطرفين خبر يزال، والثاني في محل الحال من حافظ لتقدمه عليه وكان قبل صفة له لنكارته (ولن يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي: أما) بفتح الهمزة والميم الخفيفة حرف استفتاح لتنبيه
المخاطب لما بعدها (إنه قد صدقك) بتخفيف الدال: أي قال لك قولاً

(6/504)


مطابقاً للواقع (وهو كذوب) جملة حالية من فاعل صدق، أتى بها تتميماً واستدراكاً لما أوهمه صدقك من أنه مدح له برفعه بصيغة المبالغة المبينة لغاية ذمه وقبحه (تعلم) بإضمار الهمزة الاستفهامية قبله: أي أتعلم (من تخاطب) أي تخاطبه (منذ) أي من مدة (ثلاث) أي من الليالي (يا أبا هريرة؟ قلت لا) أي لا أعلمه (قال: ذلك شيطان. رواه البخاري) في مواضع من «صحيحه» .
131021 - (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله قال: من حفظ) أي عن ظهر قلب (عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) بفتح المهملة وتشديد الجيم وهو الكذاب، قال ثعلب: الدجال هو المموّه، يقال سيف مدجل: إذا طلي بذهب، وقال ابن دريد: كل شيء غطيته فقد دجلته. واشتقاق الدجال من هذه لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير وجمعه دجلون كذا في «المصباح» ، والمراد أن حفظها يكون عاصماً من فتنة المسيح الدجال الذي يخرج بآخر الزمان مدعياً الألوهية لخوارق تظهر على يديه كقوله للسماء أمطري فتمطر لوقتها، وللأرض أنبتي فتنبت لوقتها زيادة في الفتنة، ولذا لم توجد فتنة في الأرض أعظم من فتنته، وما أرسل نبيّ إلا حذر قومه منه، وكان السلف يعلمون خبره الأولاد في الكتاتيب، وجوّز في «فتح الإله» كون المراد به جنس الدجال: أي من يكثر منه الكذب والتلبس وقد ورد «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً» الحديث وفي حديث آخر «يكون في رخر الزمان دجالون» قلت: وفي هذا بعد.
(وفي رواية) أي لمسلم كما صرح به (من آخر سورة الكهف) وسرّ عصمة من حفظ تلك الآيات منه اشتمالها على عجائب وآيات يمنع تدبرها من فتنته، وأيضاً ففي أولها ذكر أولئك الفتية الذين نجاهم الله من جبار زمنهم فتعود بركتهم على قارئها حتى ينجيه الله كماأنجاهم وفي آخرها {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من

(6/505)


دوني أولياء} (الكهف: 102) (رواهما مسلم) أي الروايتين المذكورتين، وقد روى حديث فضل العشر أولها أحمد وأبو داود والنسائي، ورواه أبو عبيدة وابن مردويه من حديث أبي الدرداء أيضاً بلفظ «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف كانت له نوراً يوم القيامة» .
141022 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما) ما فيه كافة لبين عن الإضافة لما بعده (جبريل قاعد عند النبي سمع نقيضاً) بفتح النون وكسر القاف وسكون التحتية وبالضاد المعجمة وسيأتي معناه (من فوقه فرفع رأسه فقال) ظاهر السياق أن الضمائر الثلاثة لجبريل، وأيد بأنه أكثر اطلاعاً على أحوال المساء وأحق بالإخبار عنها. وقيل هي للنبي، وقال بعضهم: الأولان له والأخير لجبريل أي لأن الظاهر أن جبريل إنما حضر لإعلام النبي بالأمر الغريب الآتي، فالأنسب جعل ذلك النقيض تنبيهاً له ليستعلم جبريل عنه فيقع إخباره له به على غاية من التوجه والتمكن، والظاهر أن مستند ابن عباس في حكاية ذلك التوقيف منه وحذف ذلك لوضوحه، ويحتمل أن الله كشف له حتى رأى جبريل والملك النازل من السماء ورفع رأسه وسمع النقيض والقول (هذا باب من السماء) أي الدنيا لأن الأصح الأشهر الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ جملة إلى بيت العزة وهو في سماء الدينا ليلة القدر، ثم نزل منها بعد منجماً بحسب المصالح والوقائع في عشرين أو ثلاث أو خمس وعشرين سنة على الخلاف في مدة إقامته بمكة بعد البعثة (فتح) بالبناء للمفعول (اليوم) أي الآن (لم يفتح) بالبناء للمفعول أيضاً (قط إلا اليوم) أشار به لتخصيصه بالفتح (فنزل منه) أي الباب (ملك قال) أي جبريل (هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل) بوزن يضرب (قط إلا اليوم) اختصاص هذين النورين بهذين الأمرين

(6/506)


اللذين لم يقعا في غيرهما للدلالة على تمييزهما أو أفضليتهما واختصاصهما بما لم يوجد في غيرهما (فسلم) أي ذلك الملك (وقال أبشر) بفتح الهمزة وكسر الشين أو بوصل الهمزة وفتح الشين في «المصباح» بشر بكذا يبشر مثل فرح يفرح وزناً ومعنى، وهو الاستبشار أيضاً ويتعدى بالحركة فيقال بشرته أبشره من باب نصر في لغة تهامة وما والاها، والتعدية بالنقل إلى باب التفعيل لغة عامة العرب، وقرأ السبعة باللغتين اهـ. فقرأ
من باب نصر ابن كثير وأبو عمر وحمزة والكسائي قوله تعالى:

{ذلك الذي يبشر الله عباده} (الشورى: 23) وقرأ الباقون من باب التفعيل، وفي «مفردات الراغب» بشرت الرجل وبشرته وأبشرته: أخبرته بسار بسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا بشرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر، وبين هذه الألفاظ فرقة فبشرته عام وأبشرته أو بشرته على التكثير، وقرىء بالثلاث قوله يبشرك اهـ (وظاهره أن يبشرك قرىء بالثلاث حيث وقع في القرآن وليس كذلك، فإنه لم يقرأ أحد من طريق السبعة ولا من طريق العشرة) بل ولا من طريق الأربعة عشر إلا باللغتين وهما كونه من باب نصر ومن باب التفعيل (بنورين) أي لأن كلاً منهما يكون لصاحبه نوراً يوم القيامة يسعى أمامه لإجلاله وتعظيمه، أو في الدنيا بأن يتأمل في معانيه كناية عن هدايته بسبب ذلك إلى الصراط المستقيم (أوتيتهما) أي أعطيتهما (لم يؤتهما نبيّ قبلك) إن قيل القرآن كله هكذا فما وجه اختصاص هذين بذلك؟ قيل الإشارة إلى علو شأنهما وذلك لما اشتملا عليه من المعني الجامعة المتعلقة بالألوهية وتوابعها مع وجازة لفظهما وبراعة نظمهما مما لم يشتمل على مثله غيرهما من بقية كتاب الله تعالى (فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة) خبر مبتدأ محذوف: أي هما هذان وابتداء خواتيم سورة البقرة من قوله تعالى: {آمن الرسول} (البقرة: 285) كما في «فتح الإله» قلت ولو قيل إنه من قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} (البقرة: 284) لم يبعد (لن تقرأ) الخطاب له والمراد هو وأمته إذ الأصل مشاركتهم له في كل ما أنزل عليه حتى يجيء ما يدل على التخصيص (بحرف) الباء فيه صلة للتأكيد وتجويز كونها للإلتصاق بعيد، نعم يجوز كونها للاستعانة: أي لن تقرأ مستعيناً بحرف: أي جملة (منهما) على قضاء غرض لك (إلا أعطيته) كيف لا؟ والفاتحة هي الكافية وتلك الخواتيم لمن قرأها في ليلة كافية،

(6/507)


والمراد ثوابه الأعظم من ثواب نظيره
في غير هذين، أو المراد بالحرف معناه اللغوي وهو الطرف، وكنى به كل جملة مستقلة بنفسها: أي أعطيت ما تضمنته إن كانت دعائية {كاهدنا} {وغفرانك} الآيتين وثوابهما إن لم يتضمن ذلك كالمشتملة على الثناء والتمجيد (رواه مسلم.
t النقيض) بالضبط السابق (الصوت) وقال بعضهم: إنه صوت مثل صوت الباب إذا فتح.

184 - باب استحباب الاجتماع على القراءة
وذلك لما فيه من تعظيم القرآن وإظهار شعاره بتكثير مجالسه وتعميم المواظبة بتلاوته.
11023 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: وما اجتمع قوم) المراد به هنا ما يشمل الإناث، ويحتمل تخصيصه بالذكور لأنهم لكمال عقولهم بالنسبة إليهن يقومون بآداب مجلس التلاوة، ولا كذلك هن (في بيت من بيوت الله) أي المساجد، وذكرها لأنها الأعلى لا للتخصيص (يتلون كتاب الله) أي يقرءونه جملة حالية من الفاعل (ويتدارسونه بينهم) أي يتوازعون دراسته، والأولى فيها أن يقرأ الثاني ما قرأ الأول، قيل إنه هكذا كانت مدارسة النبي مع جبريل (إلا نزلت عليهم السكينة) بالتخفيف، وحكي في «النوادر» تشديدها وقال: لا نعرف في كلام العرب فعيلة مثقلة إلا هذا الحرف وهو شاذ كما في «المصباح» ، قل المصنف في «شرح مسلم» : وقد قيل في معنى السكينة أشياء، المختار أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة ومنه الملائكة، والله أعلم (وغشيتهم) أي

(6/508)


عمتهم (الرحمة) أي الفضل والإحسان، ويجوز أن يراد بها إرادة ذلك والتعميم باعتبار التعلق (وحفتهم) بفتح المهملة وتشديد الفاء. أي أحاطت بهم (الملائكة) تشريفاً وتعظيماً لهم لما تلبسوا به من التلاوة (وذكرهم الله فيمن عنده) من الملائكة، والعندية عندية مكانة لا عندية مكان تعالى الله عن ذلك، والظاهر أن كل جملة من العطايا فوق ما قبلها فيكون فيه كالترقي، وذلك لأن ذكر الله أعلى المقامات كما قال تعالى: {ولذكر الله أكبر} (العنكبوت: 45) ويليه إحاطة الملائكة بهم، ويليها عموم الرحمة لهم الشاملة لتنزل السكينة إذ هو منها، والله أعلم (رواه مسلم) .

185 - باب فضل الوضوء
بضم الواو من الوضاءة: وهي الحسن والنظافة. وشرعاً: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة فمتتحاً بنية، وفرض مع فرضية الصلاة ليلة الإسراء.
(قال الله تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم} ) أي أردتم القيام ( {إلى الصلاة} ) ثم قيل في الآية حذف، والتقدير: وأنتم محدثون. وقال القاضي أبو الطيب: في الآية حذف وتقديم وتأخير ذكره الشافعي عن زيد بن أسلم، تقديرها: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم إلى وأرجلكم، وإن كنتم جنباً فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا. قال: وزيد من العالمين بالقرآن. والظاهر أنه إنما قدرها توفيقاً مع أن التقدير لا بد منه، فإن نظمها يقتضي أن المرض والسفر حدثان ولا قائل به. قال الشيخ زكريا: ويغني عن تكلف التقديم والتأخير أن يقدر جنباً في قوله: {وإن كنتم مرضى

(6/509)


أو على سفر} (المائدة: 6) وقال آخرون: لا تقدير في الآية ولا تقديم ولا تأخير، فقيل بل الآية على عمومها والأمر شامل للمحدث على سبيل الإيجاب وللمتطهر على سبيل الندب. وقيل إن الآية نزلت للإعلام بأن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال، إذ كان لا يمنع من غيرها من الأعمال عند الحدث. قال العز بن عبد السلام في كتاب «أحكام القرآن» : ظاهر الآية الكريمة إيجاب الوضوء لكل صلاة سواء أحدث أم لا، لكن ورد في «صحيح مسلم» «أن النبي كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال عمر: فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال: عمداً فعلته يا عمر» قال الحازمي: قال الخطابي: ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يجب الوضوء إلا من حدث، وما روي عن النبيّ أنه كان يتوضأ: أي لكل فرض محمول على التماس الفضل وبين النبي للناس الجواز بالحديث المتقدم. وفيه أيضاً دليل على أنه لا يشترط فعل الوضوء عند القيام إلى الصلاة، بل لو قدمه أو أخره عن الوقت أجزأه وإن كان ظاهر الآية الكريمة لا يشعر بذلك ( {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} ) أي معها لأن الجمهور على دخول المرفقين في الغسل
( {وامسحوا برؤوسكم} ) الباء فيه للإلصاق أو للتبعيض ( {وأرجلكم إلى الكعبين} ) قرىء بالنصب عطفاً على الوجوه أو الأيدي لفظاً، وبالجر لفظاً للجواز، وهي منصوبة محلاً عطفا على أحدهما، أو بالجر لفظاً ومحلاً عطفاً على رؤوس، وتحمل على لابس الخف أو الغسل الخفيف. وهذه الآية الكريمة ذكر فيها أربعة من أركان الوضوء، فمن قال لا ركن إلا تلك الأربعة فأمره واضح، ومن قال بوجوب غيرها كالنية والترتيب عند إمامنا الشافعي أخذ ذلك من أدلة تقتضيه، أما النية فمن نحو قوله «إنما الأعمال بالنيات» ، وأما الترتيب فمن الآية لأنه فصل فيها بالرأس الممسوح بين اليد والرجل المغسولين، والعرب لا تفصل بين المتجانسين إلا لنكتة وهي هنا وجوب الترتيب لا ندبه لأن الآية مسوقة لبيان مفروضاته، وكالتسمية عند جمع، وكغسل الكفين عند القيام من النوم، وكالمضمضة والاستنشاق في أشياء قيل بوجوبها لأدلة أخرى تشهد لها من كتاب أو سنة (

{وإن كنتم جنباً فاطهروا} ) أي فاغتسلوا ( {وإن كنتم مرضى أو على سفر

(6/510)


أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم} ) أي لمستم ( {النساء} ) أي الأجنبيات لا من وراء حائل، وقيد بذلك أخذا من قاعدة يستنبط من النص معنى يعود عليه بالتخصيص ( {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ) فاقصدوا ( {صعيداً} ) تراباً ذا غبار يتصاعد (طيباً) طهوراً ( {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} ) مع المرافق ( {منه} ) عوضاً عن استعمال الماء للعجز عنه ( {ما يريد الله ليجعل عليكم} ) بما فرض من الغسل والوضوء والتيمم ( {من حرج} ) ضيق ( {ولكن يريد ليطهركم} ) من الأحداث والذنوب ( {وليتم نعمته عليكم} ) ببيان ما هو مطهرة للقلوب والأبدان من الآثم والأحداث ( {لعلكم تشكرون} ) أي نعمتي فأزيدها عليكم.
11024 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إن أمتي) أي أمة الدعوة (يدعون) بالنباء للمفعول: أي يسمون والواو نائب فاعله (يوم القيامة) ظرف لما قبله (غراً) بضم الغين المعجمة وتشديد الراء جمع أغر كخمر جمع أحمر وليس أغر أفعل تفضيل كما قال ابن فرحون في إعراب «عمدة الأحكام» ، لأنه لو كان كذلك لما جمع لوجوب إفراد وتذكير أفعل التفضيل النكرة، وغراً مفعول ثان ليدعون: أي يسمون بذلك (ومحجلين) حال من الضمير فيه، ويجوز أن يكونا حالين: أي يدعون يوم القيامة حال كونهم فيها غراً محجلين، أو يدعون بمعنى ينادون وهم بهذه الحالة، وما قيل من أن كلاً من الغرة والتحجيل صفة لازمة لهم في الآخرة غير منتقلة عنهم فكيف يكون حالاً؟ أجيب عنه بأنها هنا في حكم المنتقلة لأن المعلوم من سائر الخلق عدم الغرة والتحجيل، فلما جعل الله ذلك لهذه الأمة دون سائر الأمم صارت في حكم المنتقلة بهذا المعنى، ويحتمل أن تكون هذه علامة لهم في الموقف وعند الحوض ثم تنتقل عنهم عند دخولهم الجنة فتكون منتقلة بهذا المعنى. والغرة: غسل ما زاد على فرض الوجه من أطراف الناصية والأذن وبعض العنق، والتحجيل: غسل ما فوق الواجب من اليد والرجل وغايته استيعاب العضد والساق (من) تعليلية (آثار الوضوء) جمع أثر ويجوز أن تكون من لابتداء الغاية وعليه لا تعارض بينه وبين حديث الترمذي «أمتي يوم القيامة غر من السجود محجلون من الوضو» لأن نور الوجه له

(6/511)


سببان: الوضوء والسجود والظرف تنازعه يدعون وغراً ومحجلين. قال ابن فرحون: قلت قال في «الكشاف» في قوله تعالى:
{إذا دعاكم دعوة من الأرض} (الروم: 25) فإن قلت: بم تعلق من الأرض أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات إذا جاء نهر الله بطل نهر العقل اهـ. وظاهره أنه ليس من التنازع بل يتعلق بالفعل على المذهبين والله أعلم (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) وفي رواية الغرة، والمراد منه ما يشمل التحجيل أو حذف اكتفاء بدلالة مقابله عليه، ومن اسم شرط مبتدأ والخبر جملة الشرط، وقيل الخبر الجواب لأن به تتم الفائدة، وقيل الخبر مجموع فعل الشرط والجواب، وقيل ما فيه ضمير منهما والظرف متعلق بالفعل ومن فيه محتملة للتبعيض ولبيان الجنس، وأن يطيل مفعول وعدل إليه عن إطالة لأن المطلوب نفس الفعل لا هيئته. قال السهيلي: إذا قلت كرهت خروجك احتمل أن يكون المكروه نفس الخروج وهيئته، وإذا قلت كرهت أن خرجت كان المكروه نفس الفعل (متفق عليه) قال القلقشندي في «شرح عمدة الأحكام» : وأخرجه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي وأبي ماجة والإسماعيلي وأبو عوانة والترمذي وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم.
21025 - (وعنه رضي الله عنه قال: سمعت خليلي) أصل الخليل الصديق فعيل بمعنى مفعول وهو المحبوب الذي تخللت محبته في القلب فصارت في خلاله أي باطنه واختلف في الخليل فقيل الصاحب. وقيل الخالص في الصحبة وقيل من ليس في صحبته خلل وقيل الذي يوالي فيه ويعادي وقيل غير ذلك، واختلف في اشتقاقه فقيل من الخلة بفتح المعجمة أي الحاجة وقيل بضمها، أي تخلل المودة في القلب، وقيل من الخلة بالضم نبت تستخليه الإبل، وقد تقدم في صدر الكتاب الخلاف في الأرفع من مقامي المحبة والخلة ولا منافاة بين هذا وقوله «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي» الحديث لأن الممتنع اتخاذ المصطفى لأحد غير مولاه تعالى خليلاً لا اتخاذ غيره له خليلاً (يقول

(6/512)


تبلغ الحلية) بكسر الحاء المهملة وسكون اللام (حيث يبلغ الوضوء) قيل المراد هنا حلية أهل الجنة لما أخرج ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة مرفوعاً «تبلغ حلية أهل الجنة مبلغ الوضوء من المؤمن» وقيل المراد أن حلي المؤمن في الجنة يصل ما يصله ماء الطهارة، وفيه تحريض على الغرة والتحجيل (رواه مسلم) وذكر البخاري معناه في آخر كتاب اللباس في باب نقص الصور من طريق أبي قال: دخلت مع أبي هريرة داراً بالمدينة فرأى أعلاها مصوراً بصور فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الحديث. وفيه «ثم دعا بتور من ماء فغسل يديه حتى بلغ إبطيه فقال: يا أبا هريرة أشيء سمعته من النبي؟ قال منتهى اللحية» .
31026 - (وعن عثمان بن عقان رضي الله عنه قال قال رسول الله من توضأ فأحسن الوضوء) أي من توضأ فأحسن الوضوء وهو المشتمل على سننه وآدابه. قال المصنف ففيه الحث على الاعتناء بتعلم أدب الوضوء وشروطه والعمل بذلك والاحتياط فيه والحرص على وجه يصح عند جميع العلماء ولا يترخص بالاختلاف فينبغي أن يحرص على التسمية والنية والمضمضة والاستنشاق والاستنثار وغير ذلك من المختلف فيه اهـ. (خرجت خطاياه) المراد بها الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى وخروجها مجاز عن غفرانها لأنها ليست بأجسام (حتى) غاية لتعميم خروجها من جميع جسده كما صرح به في رواية مسلم كما في «المشارق» : أي خرجت من جميع أجزائه حتى (تخرج من تحت أظفاره) قال ابن مالك: وهذا تأكيد لدفع ما يتوهم أن المراد ما يصيبه الوضوء، فإن قيل ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة الآتي «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن الخ» يدل على أن المغفور ذنوب أعضاء الوضوء فقط فلم لم يحمل الساكت على الناطق؟ قلنا: لا حاجة لأن كلاهما معمول به، فغفران جميع الجسد يكون عند التوضؤ بالتسمية. وفي قوله (فأحسن الوضوء) إشارة لوجودها فيه وغفران أعضاء الوضوء يكون عند عدم التسمية يدل عليه حديث عبد الرزاق عن حسن الكوفي مرسلاً «من ذكر الله أوّل وضوئه طهر به جسده كله وإن لم يذكر الله لم يطهر إلا مواضع الوضوء» (رواه مسلم) .

(6/513)


41027 - (وعنه قال) بعد أن أتى بالوضوء على كمال المشروع (رأيت رسول الله توضأ مثل) في رواية نحو (وضوئي هذا) رأى فيه إن كانت علمية فالجملة تأتي مفعولها وإن كانت بصرية فالجملة في محل الحال بإضمار قد (وقال من توضأ هكذا) أي مثل هذا فالكاف في محل المفعول المطلق صفة لمصدر مقدر، وفي رواية «من توضأ نحو وضوئي هذا» قال المصنف: إنما لم يقل لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، لكن يشكل عليه أنه وقع في رواية البخاري «من توضأ مثل هذا الوضوء» وفي رواية لمسلم وابن حبان «من توضأ مثل وضوئي هذا» فظهر أن التعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازاً ومثل يطلق على الغالب أيضاً وبه تلتئم الروايتان قاله في «فتح الباري» (غفر له) بالبناء للمفعول نائب فاعله (ما تقدم من ذنبه) أي الذي تقدم أو المتقدم منها، والمراد كما تقدم صغائرها المتعلقة بحق الله تعالى (وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة) عطف على جملة الجواب (رواه مسلم) ورواه بدون قوله «وكانت صلاته» الخ وبزيادة قوله «ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه» البخاري وأبو داود والنسائي وابن خزيمة والطبراني والبزار والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم ذكره القلقشندي في «شرح عمدة الأحكام» .
51028 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا توضأ العبد) أي المكلف حراً أو رقيقاً ذكراً أو أنثى (المسلم أو) شك من الراوي (المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة) كناية عن غفرانها كما تقدم (نظر إليها بعينيه) ذكر تأكيداً للمبالغة وإلا فالنظر لا يكون بغيرها وكذا يقال في يداه ورجلاه الآتيين ثم الكلية فيها مخصوصة بغير الكبائر وحقوق العباد لما ورد مما يشهد بالتخصيص (مع الماء) فيكون خروج خطيئة كل جزء منه

(6/514)


مع جزء الماء الماس له (أو) شك من الراوي (مع آخر قطر) بضم ففتح جمع قطرة أي مع آخر قطرات (الماء) وقيل خصت العين بالذكر مع أن في الوجه الفم والأنف والأذن لأنها طليعة القلب ورائده فأغنت عن غيرها ويؤيده حديث «فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه» اهـ. وتعقبه في «فتح الإله» في قوله إن الأذن من الوجه وفي أن كون العين طليعة لا ينتج الجواب عن تخصيص خطيئتها بالمغفرة، قال: بل الذي يتجه في الجواب أن سبب التخصيص كون كل من الفم والأنف والأذن له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه فكانت متكلفة بإخراج خطاياه بخلاف العين ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه فحطت خطيئتها عند غسله دون غيرها مما ذكر اهـ (فإذا غسل يديه خرج) من يديه (كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً) أي منقى ومطهراً (من الذنوب) أي الصغائر بحق الله تعالى كما ذكر آنفاً (رواه مسلم) .
61029 - (وعنه أن رسول الله أتى إلى المقبرة) بتثليث الموحدة: قاله المصنف، والمراد بها البقيع (فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين) هو بنصب دار، قال صاحب «المطالع» : هو منصوب على الاختصاص أو النداء المضاف، والأول أظهر، قال: ويصح الخفض على البدل من الكاف في «عليكم» والمراد بالدار على هذين الوجهين الآخرين الجماعة أو أهل الدار، وعلى الأول مثله أو الثاني (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) قال المصنف أتى بالاستثناء مع أن الموت لاشك فيه. وللعلماء فيه أقوال: أظهرها ليس للشك ولكنه للتبرك وامتثال أمر الله يفعله في قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23، 24)

(6/515)


والثاني حكاه الخطابي أنه عادة للمتكلم يحسن به الكلام، والثالث أن الاستثناء عائد إلى لحوق في خصوص المكان، وقيل أقوال أخر ضعيفة جداً (وددت) بكسر المهملة الأولى (أنا قد رأينا) أي أبصرنا (إخواننا) أي رأيناهم في الحياة، قال عياض: وقيل المراد تمني لقائهم بعد الموت وفيه جواز التمني لا سيما في الخير ولقاء الفضلاء (قالوا) أي الصحابة الذين معه حينئذ (أو لسنا إخوانك) المعطوف عليه مقدر بين همزة الاستفهام والواو: أي أتتمنى لقاء إخوانك أولسنا إخوانك (قال أنتم أصحابي) وفي نسخة من مسلم بزيادة بل (وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) قال المصنف: قال الإمام الباجي ليس هذا نفياً لأخوتهم ولكن ذكر مزيتهم بالصحبة: أي فأنتم إخوة صحابة، والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة كما قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) قال القاضي عياض: ذهب أبو عمر بن عبد البر في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وأن قوله «خيركم قرني» على الخصوص، معناه خير الناس قرنى: أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة وهم المرادون بالحديث، أما
من خلط في زمنه وإن رآه وصحبه ولم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما ذلت عليه الآثار. قال القاضي عياض: وقد ذهب إلى هذا أيضاً غيره من المتكلمين على المعاني. قال: وذهب معظم العلماء على خلاف هذا، وأن من صحب النبي ورآه مرة من عمره وحصلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعد، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، قالوا:

{وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} ، واحتجوا بقوله «لو أنفق أحد منكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» اهـ (قالوا: وكيف تعرف من لم يأت بعد) بالبناء على الضم (من أمتك) متعلق بيأت (يا رسول الله) تشرف لهم بالخطاب لسيد الأحباب (فقال: أرأيت) بفتح الفوقية أي أخبرني (لو أن رجلاً) أي لو ثبت أن رجلاً (له خيل غر محجلة) الغرة بياض

(6/516)


في وجه الفرس، والتحجيل بياض قوائمه إذا جاوز البياض الأرساغ إلى نصف الوظيف أو نحو ذلك. وذلك موضع التحجيل فيه، قاله في «المصباح» (بين ظهري) بفتح الراء، ويقال ظهراني بزيادة الألف والنون، قيل وهو مفخم للتأكيد (خيل) أي بينها (دهم) بضم المهملة وسكون الهاء جمع أدهم وهو الأسود والدهمة السواد (بهم) بضم الموحدة وسكون الهاء، قيل معناه السود أيضاً، وقيل البهيم الذي لا يخالط لونه لوناً سواه، سواء كان أبيض أم أحمر بل يكون لونه خالصاً، وهذا قول ابن السكيت وأبي حاتم السجستاني (ألا يعرف) أي الرجل (خيله) المتميزة من خيل غيره (قالوا بل، قال: فإنهم يأتون غراً محجلين) منصوبين على الحال، ويحتمل أن يكونا مترادفين من فاعل يأتي، وأن يكونا متداخلين بأن يكون الثاني من ضمير ما قبله (من الوضوء) من تعليلية: أي لأجل الوضوء (وأنا فرطهم) بفتح الواو والراء وبالطاء المهملة، قال الهروي وغيره: أي أتقدمهم (إلى الحوض) يقال: فرطت القوم إذا تقدمتهم لترد لهم الماء وتهيى لهم الدلاء. والحوض هو الكوثر الذي أعطيه
، وهو اثنان: واحد في عرصات الموقف من شرب منه لم يظمأ أبداً، والثاني داخل الجنة، قاله القرطبي وغيره. وفي الحديث بشارة لهذه الأمة زاد الله شرفها، فهنيئاً لمن كان رسول الله فرطه (رواه مسلم) .

71030 - (وعنه أن رسول الله قال: ألا) بتخفيف اللام حرف أتى به لتنبيه السامع لما بعده (أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا) بالعفو عنها بالغفران أو يمحوها من ديوان الكتبة فيكون دليل غفرها، جعل العفو مسبباً عن مدخول الباء، يومىء إليه أن الممحو الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى لأنها المكفرة بالطاعات، ولما كان تكفير الخطايا تخلية بالمعجمة قدمه على قوله (ويرفع به الدرجات) أي في الجنة لكونه تحلية بالمهملة وهي متأخرة عن تلك. وفيه شرف ما يذكر فيه وإن لم يقتصر على تكفير المأثم بل ضم لذلك إعلاء الدرجات وذكر ذلك قبل ذكر المحدث عنه به، فيه تشويق أي تشويق فيكون ذلك أقر في ذهن السامعين لشدة طلبهم له فلذا قال (قالوا بلى) أي دلنا عليه (يا رسول الله) أي وشأن

(6/517)


الرسول الحرص على ما ينفع أمته، ولا نفع كالمذكور في الحديث (قال إسباغ الوضوء) بالرفع: أي هو إسباغ الوضوء مع ما يعده مما تقدم فيه العطف للربط، وإسباغه إتمامه (على المكاره) أي من نحو شدة البرد (وكثرة الخطا) بضم المعجمة (إلى المساجد) وتلك تكون من بعد الدار وكثرة التكرار. وفي الصحيح أن بنى سلمة أرادوا أن ينتقلوا من محلتهم لمحل بقرب المسجد فقال «دياركم تكتب آثاركم» (وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال الباجي: هذا في المشتركتين من الصلوات في الوقت، وأما غيرهما فلم يكن من علم الناس، قال المصنف: وفي التخصيص نظر (فذلكم الرباط) أي المرغب فيه، وأصل الرباط الحبس على الشيء كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة. قيل ويحتمل أنه أفضلها، وجاء في رواية لمسلم تكرار هذه الجملة مرتين، وفي الموطأ تكرارها ثلاثاً، فقيل التكرار للاهتمام به وتعظيم شأنه، وقيل
تكراره جرى على عادته من تكراره الكلام ليفهم عنه (رواه مسلم) وقد تقدم الحديث مشروحاً في باب بيان طرق الخير.
81031 - (وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الطهور) بضم الطاء المهملة التطهير ويصح فتحها ويكون على تقدير مضاف: أي استعمال الطهور حالة الطهارة (شطر الإيمان) أي شطر الصلاة أو جزء من الإيمان، وعبر عنه بالشطر إيماء إلى تشريفه (رواه مسلم) وغيره (وقد سبق بطوله في باب الصبر) أوائل الكتاب (وفي الباب حديث عمرو بن عبسة) بفتحات (رضي الله عنه السابق) بالرفع (في آخر باب الرجاء، وهو حديث عظيم مشتمل على جمل) بضم ففتح جمع جملة: أي مطالب (من الخيرات) هذا، وكان على المصنف أن يقول: وهما حديثان عظيمان الخ لأن حديث أبي مالك مشتمل

(6/518)


على جملة من الخيرات أيضاً، وقد أفرد شرحه بالتأليف الحافظ العلائي، والمراد منهما ثواب أعمال من الطاعات.
91032 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي قال: ما منكم) الظرف خبر مقدم (من أحد) مزيدة في المبتدأ للتنصيص على العموم (يتوضأ) صفة المبتدأ أو حال منه خبر، والظرف قبله حال من المبتدأ أو من ضميره في الجملة (فيبلغ) بضم أوله وكسر ثالثه مرفوع من الإبلاغ: أي يكمل الوضوء بالإتيان بواجباته، ويحتمل ومندوباته (أو) شك من الراوي (فيسبغ الوضوء) قال المصنف: هو بمعنى يبلغ، قلت: فيؤيد إرادة مندوباته (ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) مدلول لا إله إلا الله توحيد الذات، والمراد من «وحده» توحيد الصفات، ومن «لا شريك له» توحيد الأفعال (وأشهد أن محمداً عبده) بدأ به لأن عبوديته أشرف من رسالته كما يدل عليه وصفه تعالى له بها على أشرف المواطن (ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية) بضم الفاء فكسر الفوقية المخففة، ويحتمل التشديد للتكثير لتكرر الفعل لتعدد الأبواب والظرف للربط تقول حفظت لزيد ماله (يدخل من أيها شاء) جملة مستأنفة لبيان حال المتطهر أو حال مقدرة، ولا مخالفة بين هذا الحديث وحديث «الريان يدخل منه الصائمون دون غيرهم» لأن ما في حديث الباب أنه ينادي منها كلها لكونه عمل بعمل أهل كل باب شريفاً له في ذلك الموقف، ثم يلهم الدخول من الباب الغالب عليه عمله (رواه مسلم) قال الحافظ العسقلاني في «أمالي الأذكار» بعد إخراج الحديث: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (وزاد الترمذي: اللهم اجعلني من التوابين) صيغة المبالغة إما لتكرارها وإما للمبالغة في إتقانها وضبط

(6/519)


مكملاتها (واجعلني من المتطهرين) أي من الذنوب والمآثم كما يومىء إليه حذف المعمول، ثم ما عبر به المصنف عبر بمثله في «الأذكار» ، وقد تعقبه فيه الحافظ ابن حجر بأن هذه الزيادة لم تثبت في هذا الحديث، فإن جعفر بن محمد شيخ الترمذي تفرد بها ولم يضبط الإسناد ثم بين وجه عدم ضبطه بمخالفته للثقات، قال ووجدت لهذه الزيادة
شاهداً من حديث ثوبان مولى رسول الله قال: قال رسول الله «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال عند فراغه، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتح الله له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء» .

186 - باب فضل الأذان
أي والإقامة. والأذان والتأذين والأذين: لغة الإعلام. وشرعاً قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة. والأصل فيه قبل الإجماع قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} () وقوله {وإذا ناديتم إلى الصلاة} (الجمعة: 9) وخبر عبد الله بن عبد ربه الأنصاري في الأذان والإقامة رواه الشيخان في «صحيحيهما» .
11033 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لو يعلم الناس) قال الطيبي: أتى بالمضارع محل الماضي إقامة له مقام ما يستدعيه، إذ المراد ثم حاولوا الاستباق عليه لوجب عليهم ذلك، أو ليفيد استمرار العلم فإنه ينبغي أن يكون على بال (ما في النداء) أي الأذان وحذف «من» البيانية لإبهام «ما» إيماء إلى أن الفعل المبين بها إبهامها مما لا تسعه عبارة (والصف الأول) هو على الصحيح الصف الذي يلي الإمام، وإن كان أبعد من الكعبة من

(6/520)


صف أقرب إليها في غير جهة الإمام بل أقربية المأموم على إمامه للكعبة مكروهة مفوتة لفضل الجماعة كما نبه عليه ابن حجر الهيتمي في «تحفته» . قال التيمي:
وفضل الصف الأول لاستماع القرآن إذا جهر الإمام والتأمين لقراءته، ومن فضله أنه إذا احتاج الإمام للاستخلاف استخلفه ولينقل صفة الصلاة ويعلمها الناس، والصف الثاني أفضل من الثالث وهكذا (ثم لم يجدوا) أتى به لتراخي رتبة الاتهام عن العلم (إلا أن يستهموا) أي يقترعوا (عليه) لأداء تأذين المتنازعين إلى تهويش وضيق المكان عن قيامهم لاستهموا عليه لعظمه وفضله، وإفراد الضمير لعوده على «ما» العائد هو إليها أو تنزيلاً له منزله اسم الإشارة في نحو قوله تعالى: {عوان بين ذلك} (البقرة: 68) باعتبار لفظه، وقد وقع الأذان على الاستهام: قال البرماوي: حين فتح القادسية صدر النهار فاتبع الناس العدو فرجعوا وقد حانت صلاة الظهر وأصنت المؤذن، فتشاحّ الناس في الأذان حتى كادوا يجتلدون بالسيوف، وأقرع بينهم سعد فأذن من خرج سهمه. والقرعة أصل في الشريعة في تعيين ذي الحق في مواضع (ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه) لما فيه من المسارعة إلى الطاعة ولأن منتظر الصلاة في صلاة ولعدم التضايق فيه زماناً ومكاناً لم يحتج إلى المساهمة فيه وللقرعة (ولو يعلمون ما في العتمة) بفتحتين، قال في «المصباح» : هي من الليل بعد غيبوبة الشفق إلى آخر الثلث الأول، وعتمة الليل ظلام أوله عند سقوط نور الشفق اهـ. والمراد منها هنا صلاة العشاء، والتعبير بها مع النهي عن تسميتها بذلك، إما قبله أو تنبيهاً على أن النهي للتنزيه لا للتحريم، أو لدفع توهم أن المراد بالعشاء المغرب لأنهم كانوا يسمونها عشاء فتفوّت المطلوب فاستعمل العتمة التي لا شك فيها دفعاً لأعظم المفسدتين بأخفهما (والصبح لأتوهما) أي لو علموا ما في فضل صلاتهما جماعة لأتوهما بأي وجه أمكن (ولو حبواً) بفتح المهملة وسكون الموحدة، وهو المشي على اليدين والركبتين، أو على المقعدة (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والنسائي كما في «الجامع الصغير» (الاستهام الاقتراع) وذلك لأنهم كانوا يقترعون بسهام لا ريش
فيها (والتهجير: التبكير إلى الصلاة) مطلقاً ولا ينافي تناول عمومه للظهر الأمر بالإبراد بها لأنه لقصر زمنه في الجملة لا يخرج فاعله عن التبكير بها.

(6/521)


21034 - (وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: المؤذنون أطول الناس أعناقاً) بفتح الهمزة جمع عنق، واختلف في معناه، فقيل أكثر الناس تشوفاً إلى رحمة الله تعالى لأن المتشوف يطيل عنقه لما يتطلع إليه، فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب. وقال النضر بن شميل: إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق، وقيل معناه: إنهم سادة ورؤساء، والعرب تصف السادة بطول العنق: وقيل معناه: أكثر أتباعاً. وقال ابن الأعرابي: معناه أكثر الناس أعمالاً، وفي سنن البيهقي عن أبي بكر بن أبي داود عن أبيه: ليس معنى الحديث أن أعناقهم تطول ولكن الناس يعطشون يوم القيامة ومن عطش انطوت عنقه والمؤذنون لا يعطشون فأعناقهم قائمة. قال القاضي عياض وغيره: ورواه بعضهم بكسر الهمزة: أي إسراعاً إلى الجنة وهو من سير العنق (يوم القيامة) ظرف لما قبله (رواه مسلم) ورواه ابن ماجه في «سننه» .
31035 - (وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) بفتح الصادين المهملتين وإسكان العين المهملة الأولى المازني. قال في «الكاشف» : يروي عن أبي سعيد وعنه ابناه عبد الرحمن، ومحمد ثقة خرّج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وصفه الحافظ في «التقريب» بقوله الأنصاري المدني، وزاد من كبار التابعين (أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: إني أراك تحب الغنم) بفتحتين معروف (والبادية) هي خلاف الحاضرة والنسبة إليها بدوي على خلاف القياس وجمعها بواد (فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة) أي أردت الأذان لها (فارفع صوتك) إلى ما لا يعود عليك بالضرر (بالنداء) بكسر النون وبالمد: أي بالأذان (فإنه) أي الشأن (لا يسمع مدى) بفتحتين والدال المهملة مخففة: أي غاية (صوت المؤذن) قال التوربشتي: وفي زيادة «مدى» مع الغنية عنها تنبيه على أن آخر من ينتهي إليه الصوت يشهد له كما يشهد الأول، ففيه الحث على استفراغ الجهد في رفع الصوت

(6/522)


بالأذان، وقال البيضاوي: إذا شهد من يسمع آخر الصوت مع كونه أخفى لا محالة للبعد فلأن يشهد من هو أدنى وسمع مبادئه أولى (جن ولا إنس) اقتصر عليهما دون غيرهما من أفراد الخاص لكونهما مكلفين بفروع الشريعة (ولا شيء) قيل المراد شيء يصح منه الشهادة كذلك، وقيل عام في كل ما يسمع ولو غير عاقل من سائر الحيوانات دون الجماد، وقيل عام في الجماد وغيره بأن يخلق الله له إدراكاً وعليهما فهو تعميم بعد تخصيص (إلا شهد له يوم القيامة) وفائدة هذه الشهادة «وكفى بالله شهيداً» إشهاره بالفضل يومئذ وعلو الدرجة كما يفضح من يفضح بالشهادة عليه. وفي «فتح الباري» : السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نسق أحكام الخلق في الدنيا من توجه الدعوى والجواب والشهادة قاله الزين ابن المنير.
(قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله) المسموع الكلام الأخير وهو «إنه لا يسمع مدى صوت المؤذن الخ» وذكر الغنم موقوف وهذا ما عليه المصنف في آخرين، وقيل المسموع جميعه وهو ما فهمه الرافعي تبعاً للغزالي وتعقبهم فيه المصنف واستبعده الحافظ في الفتح (رواه البخاري) ورواه مالك والنسائي.
41036 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا نودي بالصلاة) بالموحدة في نسخ «الرياض» وهذا لفظ مسلم وكذلك رواه النسائي، وهو عند البخاري للصلاة باللام، ذكره الحافظ قال: ويمكن حملهما على معنى واحد (أدبر الشيطان له ضراط) جملة اسمية حالية وإن لم تكن بواو اكتفاء بالضمير كما في قوله تعالى: {اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ} () وفي رواية الأصيلى «وله ضراط» وهي عند البخاري في بدء الخلق قال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره، ويقرّبه رواية لمسلم «له حصاص» بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي بشدة العدوّ، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان وإغفاله نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطاً تقبيحاً له، قال الحافظ: والظاهر أن المراد

(6/523)


بالشيطان إبليس ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد به كل متمرد من الجن والإنس لكن المراد هنا شيطان الجن (حتى لا يسمع التأذين) ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن أو يصنع ذلك استخفافاً كما يصنعه السفهاء، ويحتمل أنه يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، ويحتمل أنه يتعمد ذلك ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، وقد وقع بيان غاية الإدبار عند مسلم في حديث جابر فقال «حتى يكون مكان الروحاء» وحكى مسلم من طريق قتيبة عن جابر أن بين المدينة والروحاء ستة وثلاثين ميلاً. وأدرجها في الخبر قال الحافظ: وهو المعتمد بالنسبة لرواية ابن
راهويه في مسنده أن بينهما ثلاثين ميلاً (فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى) أي فرغ وانتهى (التثويب أقبل حتى يخطر) بضم الطاء المهملة. قال الحافظ: كذا سمعناه من أكثر الرواة وضبطناه عن المتقنين بالكسر وهو أوجه، ومعناه يوسوس، وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه، وأما بالضم فمن المرور: أي يدنو من المرء فيمر بينه وبين قلبه فيشغله، وضعف الهجرى في «نوادره» الضم مطلقاً وقال: هو يخطر بالكسر في كل اهـ. قال البرماوي: وإنما هرب الشيطان عند الأذان لما يرى من الاتفاق على إعلان كلمة التوحيد وغيرها من العقائد وإقامة الشعائر، وإنما جاء عند الصلاة مع أن فيها قراءة القرآن لأن غالبها سر ومناجاة فله تطرّق إلى إفسادها على فاعلها أو إفساد خشوعه، وقيل هربه عند الأذان حتى لا يضطر إلى الشهادة لابن آدم يوم القيامة لما تقدم في حديث أبي سعيد (بين المرء ونفسه) يقتضي أن المرء غير نفسه فيحمل على أن المراد بينه وبين قلبه كما في

{إن الله يحول بين المرء وقلبه} () قال الحافظ: وجاء كذلك عند البخاري في بدء الخلق (يقول: اذكر كذا واذكر كذا لما) أي لشيء (لم يكن يذكر من قبل) بالبناء على الضم أي قبل شروعه في الصلاة (حتى يظل الرجل) بفتح الظاء المشالة بمعنى يصير، أو يكون ليتناول صلاة الليل أيضاً والقصد أنه يسهيه، ولذا حكى فيه الراوي يضل بكسر الضاد المعجمة: أي ينسى ويذهب وهمه (ما يدري كم صلى) الجملة معلق عنها العامل لوجود ماله صدر الكلام وهو كم الاستفهامية وهي مفعول صلى مقدم عليه لذلك، قال الطيبي: كرر لفظ حتى خمس مرات: الأولى والرابعة

(6/524)


والخامسة بمعنى كي، والثانية والثالثة دخلتا على الجملتين الشرطيتين وليستا للتعليل (متفق عليه) أخرجاه في الأذان وأخرجه مالك وأبو داود والنسائي.
(التثويب) كما قال الجمهور (الإقامة) قال الحافظ في «الفتح» : وجزم به أبو عوانة «صحيحه» والخطابي والبيهقي وغيرهم. وقال القرطبي: ثوَّب بالصلاة: أي أقيمت وأصله من ثاب إذا رجع: أي رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوتاً فهو مثوب يدل عليه رواية مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة «فإذا سمع الإقامة ذهب» وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة. وحكى ذلك ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به، لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة. فهذا يدل على أنه له سلفاً في الجملة، ويحتمل أن الذي تفرد به القول الخاص. وقال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب بعد الأذان إلا قول المؤذن في الأذان «الصلاة خير من النوم» لكن المراد في هذا الحديث الإقامة والله أعلم.
51037 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: إذا سمعتم النداء) بكسر النون والمد: أي الأذان (فقولوا مثل ما يقول) تعليق الإجابة بسماع الأذان يقتضي ظاهره اختصاص الإجابة بالسامع دون غيره ولو لبعد أو صمم، وإن رأى المؤذن في المنارة في الوقت وعلم أنه يؤذن فلا تشرع له المتابعة، قاله المصنف في مجموعه، وبحث فيه القلقشندي باحتمال أن التقييد بالسماع لكونه الغالب. ويقتضي ندب إجابة كل مؤذن ولو ثانياً، وفيه خلاف حكاه الطحاوي وغيره، وقال المصنف المجموع: لا نص فيه لأصحابنا، والمختار اختصاصه بالأول لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وأما أصل الفضيلة والثواب في المتابعة فلا يختص بالأول اهـ. وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب، وإجابة الأول أفضل إلا في الصبح والجمعة فهما سواء لأنهما مشروعان قال ابن سيد الناس: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول المؤذن عقب فراغ المؤذن من الأذان،

(6/525)


لكن دلت الأحاديث المتضمنة للإجابة على أن المراد المساوقة. وقال الكرماني: إنما قال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيب عقب كل كلمة بمثل كلمتها اهـ. وقال الشافعية: يستحب التتابع عقب كل كلمة لا معها ولا يتأخر عنها عملاً بما تقتضيه فاء التعقيب، ظهر هذا الحديث أن الإجابة تكون بحكاية لفظ المؤذن في جميع ألفاظ وبه قال بعض الأئمة منهم الحنابلة. وذهب الشافعي والجمهور إلى أن السامع يبدل الحيعلة بالحوقلة لحديث معاوية المخرّج في «صحيح البخاري» وحديث عمر المخرج في «صحيح مسلم» ففيهما ذلك تصريحاً فيخص بهما عموم هذا الحديث ونحوه، ومن جهة المعنى أن ألفاظ الأذان غير الحيعلة ذكر يحصل الثواب بذكرها للمؤذن والمجيب، والحيعلة يقصد بها الدعاء لصلاة وهو خاص بالمؤذن، فعوّض المجيب من الثواب الذي يفوته بترك الحيعلة الثواب الذي يحصل له بالحوقلة، ثم ظاهر قوله «قولوا» وجوب الإجابة، قال ابن قدامة
في «المغني» : لا أعلم أحداً قال به. قلت: حكى الطحاوي والخطابي والقاضي عياض الوجوب عن بعض السلف (ثم صلوا عليّ) أي عقب الإجابة عرفاً فـ «ثم» في محل الفاء وعلل هذا الأمر بقوله على سبيل الاستئناف البياني (فإنه) أي الشأن (من صلى عليّ) أتى بأي صيغة من صيغها (صلاة) أي واحدة (صلى الله عليه بها عشراً) أي شرف عبده بذكره له بالرحمة اللائقة به عشر مرّات وهذا فيه تعظيم شرف الصلاة على النبي إذ جعل جزاءها كجزاء ذكره تعالى قال تعالى:

{فاذكروني أذكركم} (البقرة: 152) وقال تعالى: في الحديث في القدسي «أنا عند ظن عبدي بي إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» وهذا قدر زائد على ما أفاده قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام: 160) الشامل لكل فرد منها (ثم سلوا الله لي الوسيلة) في الإتيان بـ «ثم» رمز إلى استحباب تصدير الدعاء بالثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله، وإن كان الدعاء لرسول الله (فإنها) أي الوسيلة (منزلة) أي شريفة عالية (في الجنة لا تنبغي) أي لا تليق (إلا لعبد) أي كامل في العبودية فالتنوين للتعظيم (من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا) تأكيد لاسم أكون، وأتى به

(6/526)


في ضربتك أنت، وكل ما جاء من ألفاظ الرجاء في الكتاب والسنة فإنه واجب الوقوع غير جائز الخلف (فمن سأل الله) أي طلب (لي الوسيلة) أي إعطاءها (حلت) أي وجبت (له الشفاعة) أي شفاعتي: فأل بدل من الضمير أو الشفاعة الكاملة العظيمة وهي شفاعته، فأل على بابها (رواه مسلم) وأخرجه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي.
61038 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا سمعتم النداء) أي الأذان ومثله الإقامة (فقولوا كما يقول) أي قولا مثل ما يقوله أو مثل قول (المؤذن) وادعى ابن وضاح أن لفظ المؤذن مدرج في الحديث، ولذا حذفه منه في «عمدة الأحكام» ، ولا دليل له على دعواه فأشار المصنف إلى رد ذلك بإثباته وتقدم في شرح الحديث السابق ما يبين إجمال قوله فقولوا كما يقول متفق عليه وأخرجه مالك وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم قاله القلقشندي في كتابه «غاية الإحكام شرح عمدة الأحكام» .
7 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: من قال حين) أي وقت (يسمع النداء) أي سماعه، إما على تقدير أن المصدرية، وإما على تنزيل الفعل منزلة المصدر، الوجهان في قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» ، أي سماعك به، والمراد كما دلت عليه الأحاديث بعد إجابته لا قبلها (اللهم) أي الله فلذا لا يجمع بينهما إلا في الضرورة (رب) بدل مما قبله لا وصف له، أو منادى وكرر النداء اهتماماً بالمطلوب (هذه الدعوة) بفتح الدال

(6/527)


المرّة من الدعاء، والمراد بها الأذان أو الإقامة (التامة) أي السالمة من تطرق النقص إليها لجمعها الفائدة بتمامها أو لأنها المستحقة للوقف بالكمال والتمام وغيرها من الدنيا عرضة للنقص والفساد، أو لأنها محمية عن التغيير والتبديل باقية إلى يوم النشور، ومعنى رب هذه الدعوة المستحق لأن يوصف بها (والصلاة القائمة) أي التي ستقوم، أو الباقية لا تغير ولا تنسخ (آت) بمد الهمزة: أي أعط (محمداً الوسيلة) أصلها ما يتوسل به ويتقرب، والمراد منها مابينه في حديث مسلم قبله، ووقع للبيضاوي في «تفسيره» أنه ذكر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} (المائدة: 35) ما لفظه: أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه فعل الطاعات وترك المعاصي، من توسل إلى كذا إذا تقرب إليه. وفي الحديث منزلة في الجنة اهـ. فحذف قوله آخر الحديث لا تنبغي إلا لعبد الخ، فأوهم ندب طلب كل لها مع أنها مخصوصة بمن اتصف بكمال العبودية وهو سيد البرية (والفضيلة) المرتبة الزائدة على الخلق (وابعثه مقاماً محموداً) مفعول به على تضمين ابعث معنى أعط، أو مفعوله فيه وإن كان مكاناً غير مبهم لكونه نزل منزلة المبهم، أو هو مشبه رميت مرمي زيد، وفي «الكشاف» أنه نصب مقاماً على الظرف: أي فيقيمك مقاماً أو ضمن يبعثك معنى يقيمك، أو حال: أي ذا مقام محمود، وإنما نكر للتفخيم: أي مقاماً أيّ مقام (الذي وعدته) بقولك {عسى أن يبعثك ربك
مقاماً محموداً} (الإسراء: 79) وأجمع المفسرون على أن عسى من الله واجب. والموصول بدل مما قبله (حلت) أي وجبت (له شفاعتي) الخاصة به (يوم القيامة) ظرف للوجوب، وفيه تبشير قائل ذلك بالموت على الإسلام إذ لا تجب الشفاعة لغيره (رواه البخاري) وأخرجه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي.

81040 - (وعن سعد بن أبي وقاص) بفتح الواو وتشديد القاف آخره مهملة كنية مال كما تقدم (رضي الله عنه عن النبي أنه قال) بفتح الهمزة بدل من النبي بدل اشتمال أو بكسرها

(6/528)


على تقدير قال: أي قال سعد بياناً لقوله عن النبيّ أنه قال (من قال حين يسمع المؤذن) وقوله (أشهد) وفي رواية «وأنا أشهد» (أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) محتمل لأن يكون مقولاً للمؤذن فيكون مفعولاً ليقول المقدر بعده، فإن حذف القول وإبقاء المقول كثير جداً حتى قال أبو علي الفارسي: هو من قبيل حديث البحر «حدث ولا حرج» فيكون مقول قال: رضيت بالله رباً الخ، ومحتمل لأن يكون من جملة ما يقوله سامع المؤذن، وكلام المصنف في «شرح مسلم» ظاهر في الثاني، لكنه يقتضي أنه يأتي بذلك إجابة لقول المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول أشهد، أو، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله الخ، ثم يقول (رضيت بالله رباً) تمييز محول عن المفعول به بواسطة وكذا قرينه وهو قوله (وبمحمد) (رسولاً) وفي رواية نبياً فيجمع بينهما احتياطاً لتحقيق الإتيان بالوارد كما قال المصنف بنظيره في قوله في دعاء عرفة «ظلماً كثيراً كبيراً» (وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه) أي صغائره المتعلقة بالله (رواه مسلم) وأخرجه مالك وأبو داود والترمذي، وهو عند البيهقي بزيادة أوردتها في شرح الأذكار.
91041 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الدعاء لا يرد) بصيغة المجهول للعلم بالفاعل أي لا يرده الله (بين الأذن والإقامة) ظرف للدعاء في محل الحال قدم عليه الخبر لمزيد الاهتمام لما فيه من مزيد التشويق والحث على فعله لذلك (رواه أبو داود والترمذي) وأخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (وقال: حديث حسن) وقال الحافظ في

(6/529)


«تخريج أحاديث الأذكار» من إملائه بعد تخريجه من طريق الطبراني في كتاب الدعاء. هذا الحديث حسن غريب، قال: وسكت عليه أبو داود إما لحسن رأيه في زيد العمى وإما لشهرته في الضعف وإما لكونه في فضائل الأعمال، وضعفه النسائي. وأما الترمذي فقال: هذا حديث حسن، وقد رواه أبو إسحاق: يعني السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أنس قال أبو الحسن القطان: إنما لم يصححه لضعف زيد العمي، وأما يزيد فهو موثق عنده فينبغي أن يصحح من طريقه. قال المنذري: طريق يزيد أجود من طريق زيد العمى اهـ. قال الحافظ في «أماليه» : وقد نقل المصنف: يعني مصنف «الأذكار» أن الترمذي صححه، ولم أر ذلك في شيء من النسخ التي وقفت عليها، وكلام ابن القطان والمنذري يعطي ذلك، ويبعد أن الترمذي يصححه مع تفرد زيد العمي به وقد ضعفوه، نعم طريق يزيد التي أشار إليها صححها ابن خزيمة وابن حبان اهـ. وأشار به إلى قول المصنف في «الأذكار» . قل الترمذي: حديث حسن صحيح اهـ. وحينئذ فما هنا من اقتصاره على قوله عن الترمذي حديث حسن هو الحسن، وفي «الأذكار» : وزاد الترمذي في روايته في كتاب الدعوات من «جامعه» «قالوا فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة» .

187 - باب فضل الصلوات
الشاملة للفرض منها والنفل المؤقت وذي السبب والمطلق المؤكد وغيره (قال الله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء) المعصية الشنيعة (والمنكر) شرعاً: أي شأنها ذلك ما دام المرء فيها أو أن مواظتبها تحمل على ذلك، وفي الحديث «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً» أو أن مراعاتها تجر إلى الانتهاء وفي الحديث «قيل له عليه الصلاة والسلام إن فلاناً يصلي الليل فإذا أصبح سرق، قال: سينهاه ما تقول» .
11042 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: أرأيتم)

(6/530)


أخبروني (لو أن نهراً) لو ثبت أن نهراً لأن لولا تدخل إلا على فعل وجوابها محذوف: أي لما بقي من درته شيء، والنهر بسكون الهاء ويجمع على نهر بضمتين وبفتحها في لغة وجمعه أنهار كسبب وأسباب، ومثله كل ما كان وزنه وثانيه حرف حلق كبحرْ وبحرَ وشعرْ وشعرَ، وهو مكان الماء الجاري المتسع، ويطلق النهر على الماء الجاري فيه مجازاً للمجاورة فيقال جرى النهر كما يقال جرى الميزاب، كذا في «المصباح» (بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم) ظرف للمضارع قبله (خمس مرات) مفعول مطلق: أي خمس اغتسالات فعامله من معناه، أو يقدر: خمس مرات من الاغتسال (هل يبقى) بفتح التحتية (من درنه) بفتح أوليه المهملين آخره نون وهو الوسخ وفاعل يبقى قوله (شيء) وقدم البيان على المبين اهتماماً به (قالوا لا) حصل به الجواب وإنما صرحوا بالجملة التي كان يمكن حذفها اكتفاء بدلالة وجودها في السؤال عليها وهي قولهم (يبقى من درنه شيء) إطناباً وزيادة توضيح (قال فكذلك) أي فمثل رفع النهر المنغمس فيه خمس مرات كل يوم الدرن الحسي (مثل الصلوات الخمس) في رفعها الدرن المعنوي من الذنب، وبين وجه الشبه بقوله (يمحو الله بهن) أي بسببهن، وفي رواية بها، وفي رواية به: أي بأدائها (الخطايا) أي الصغائر المتعلقة بالله سبحانه والفاء في قوله فكذلك فصيحة: أي إذا قلتم ذلك فهو مثل الصلوات الخمس وفائدة التمثيل التأكيد وجعل المعقول كالمحسوس وقصر الخطايا على الصغائر مأخوذ من تشبيهها بالدرن وهو لا يبلغ مبلغ الجذام ونحوه (متفق عليه) وأخرجه الترمذي والنسائي.
21043 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله) مبيناً شرف الصلوات (مثل) بفتحتين (الصلوات الخمس) أي شأنها الذي هو لغرابته وفخامته كالقصة التي يتحدث عنها

(6/531)


(كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات) وجه الشبه ما تقدم في الحديث قبله من إزالة كل من الغمر والصلوات الدرن (رواه مسلم. الغمر بفتح الغين المعجمة الكثير) وهذا تفسير له بالمعنى المراد هنا المناسب له، وإلا فقال ابن مالك في المثلث: الغمر الماء الكثير والفرس المتقدم في الجري ووصف للبحر، ومنه رجل عمر الرداء وعمر الخلق: أي سخي، والغم بالكسر: الحقد والعطش أيضاً. قلت: والغمر بالضم: الرجل الجاهل بالأمور الغرّ فيها وقد تفتح عينه، ثم هذا الحديث تقدم مع شرحه في باب الرجاء وكذا الحديث بعده.

31044 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة) بضم القاف اسم مصدر من التقبيل بمعنى اللثم كذا في «المصباح» وهي من الصغائر (فأتى النبي فأخبره) أي بما فعل (فأنزل الله تعالى) : ( {أقم الصلاة طرفي النها وزلفاً من الليل} ) طرفا النهار الصبح والعصر أو الظهر، وزلف الليل ساعات منه. قيل المراد به العشاء أو المغرب والعشاء، وقيل نزول هذه كان قبل وجوب الخمس، فإنه كان يجب صلاتان صلاة قبل طلوع الشمس وأخرى قبل غروبها، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى أمته ثم نسخ ( {إن الحسنات. يذهبن السيئات} ) وفي الحديث «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» وفي الحديث الآخر «إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها» (قال الرجل: ألي) الهمزة للاستفهام: أي أينتهي لي (هذا) دون

(6/532)


غيري (قال لجميع أمتي) أي هذا لجميعهم وأكده بقوله (كلهم) دفعاً لتوهم أن المراد من الجميع الأعم الأغلب (متفق عليه) .
41045 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة) أي مكفرة (لما بينهن) أي من الصغائر والمبالغة في التكفير، باعتبار كثرة المكفر بها، والمراد أن كلاً مما ذكر يكفر ما وقع من تلك بينها وبين ما قبلها فهو من باب: ركب الناس دوابهم: أي كل إنسان ركب دابته من توزيع المفرد على المفرد، وجمع السلامة للمؤنث غير العاقل يجوز معاملته معاملة الواحدة نحو الصلوات أقمتها ومعاملة الجمع نحو أقمتهن وجاء الاستعمالان في الحديث (ما) مصدرية ظرفية (لم تغش) بالبناء المجهول: أي تؤت (الكبائر) أي وذلك مدة عدم إتيان الكبائر، والمراد منه أن الكبائر لا تكفر بأعمال البر لأن إتيانها مانع من تكفير الطاعات للصغائر المتعلقة بالله، هذا ما عليه الجمهور (رواه مسلم) وتقدم في باب بيان كثرة طرق الخير.
51046 - (وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما من) صلة أنى بها لتأكيد عموم (امرىء مسلم) ومثله المرأة المسلمة (تحضره صلاة مكتوبة فيحسن) يجوز رفعه عطفاً على تحضره ونصبه بأن مضمرة في جواب النفي (وضوءها) إضافته إليها للملابسة لتوقف صحتها عليه عند التمكن منه (وخشوعها) أي إقباله على الله تعالى بقلبه فيها وإضافته لما ذكر قبله من حث إنه كمالها (وركوعها) وإحسان الوضوء: الإتيان به جامع الفرائض والسنن والآداب، وإحسان الخشوع: كمال الإقبال والتوجه (إلا كانت) أي الصلاة (كفارة) أي مكفرة، والتعبير بالمصدر للمبالغة (لما قبلها من الذنوب) أي الصغائر التي هي لله تعالى (ما لم تؤت) بصيغة المجهول، ونائب فاعله (كبيرة) وفي

(6/533)


نسخة الكبائر: أي مدة عدم إتيان الكبائر (وذلك) أي تكفير ما ذكر بقيده (الدهر) بالنصب ظرف للتكفير المدلول عليه بسياق الكلام وسباقه، وأكده بقوله (كله) تنبيهاً على تعميم تكفير الطاعات للصغائر كل زمن، وأن ذلك غير مقصور على أشرف الأزمنة من عصره وعصر الصحابة رضي الله عنهم بل عام لسائر الأعصار (رواه مسلم) .

188 - باب (فضل صلاة) (بالإفراد في عامة النسخ) (الصبح والعصر)
وهما أشرف الخمس وهما في الجمعة أشرف منهما في غيرها.
11047 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال: من صلى البردين دخل الجنة) يحتمل أن يراد مع الناجين: أي إذا لم يقترف الكبائر أو اقترفها وتاب منها، أو لم يتب وتجاوزها الله له، ويحتمل أن يراد دخلها بعد المجازاة، ففيه إيماء إلى حسن خاتمة مصليهما بوفاته على الإسلام، إذ لا يدخلها إلا من مات مسلماً (متفق عليه) والحديث سبق مع شرحه في باب بيان كثرة طرق الخير (البردان الصبح والعصر) سميا بذلك لفعلهما وقت البرد فهو من وصف الشيء بما يلابسه.
21048 - (وعن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء وسكون التحتية مصغر زهر (عمارة) بضم العين المهملة وتخفيف الميم وبالراء كما أشار إليه الحافظ ابن حجر في «تبصرة المنتبه» (ابن

(6/534)


رؤيبة) بضم الراء وفتح الواو وبالموحدة وسكون التحتية بينهما، الثقفي من بني خيثم بن ثقيف كوفي، روى عنه ابنه أبو بكر وأبو إسحاق السبيعي وغيرهما، كذا في «أسد الغابة» ، وفي «تقريب التهذيب» للحافظ قال: هو صحابي نزل الكوفة وتأخر إلى بعد السبعين. خرّج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، روي له (رضي الله عنه) عن النبي تسعة أحاديث، قاله الكازروني في «شرح المشارق» ، أخرج له مسلم منها حديثين وانفرد به عن البخاري (قال: سمعت رسول الله يقول: لن يلج) بفتح التحتية وكسر اللام مضارع ولج والأصل يولج حذفت الواو لوقوعها بين حرف مضارعة مفتوح وحرف مكسور: أي لن يدخل (النار) أصلاً بالاعتبار الآتي. ولا ينافي الورود عليها المحتوم على كل أحد لأنه غير الدخول للتعذيب، أو المراد لا يدخلها على التأبيد فيها، وإنما أولت هذا وما قبله بما ذكر فيهما لما في الحديث الصحيح «إن من المسلمين من يأتي يوم القيامة وله صلوات وصيام وغيرهما وعليه ظلامات الناس فيأخذون ذلك منه» قيل ما عدا الصوم لاختصاص عمله به تعالى. قلت: وردّ بأنه جاء في صحيح مسلم «أنه كغيره من العبادات يؤخذ في ظلامات العباد، فإذا لم يبق له عمل وضع عليه من سيائتهم ثم يلقى في النار» (أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها: يعني) أي النبي (الفجر) بما قبل الطلوع (والعصر) بما قبل الغروب، هذا تفسير للصلاة فيهما المذكورة في الحديث المحتملة لهما ولغيرهما من النافلة، وتخصيصهما بالذكر ليس لإفادة حصول النجاة من النار لمن جاء بهما دون باقي الخمس لأنه بخلاف المنصوص، بل لأمر آخر فلا مفهوم للاقتصار عليهما، بل لا بد في النجاة منها من الإتيان بالبقية مع عدم تحمل حق آدمي، وذلك الأمر هو أن وقت الصبح يكون عند
النوم ولذته، ووقت العصر يكون عند الاشتغال بتتمات أعمال النهار وتجارته وتهيئة العشاء، ففي صلاة تينك مع ذلك دليل على خلوص النفس من الكسل ومحبتها للعبادة، ويلزم من ذلك إتيانها ببقية الصلوات الخمس، وأنها إذا حافظت عليهما كانت أشد مخافظة على غيرهما، ومن ثم مدح الله تعالى من هجر النوم ولذته والبيع وربحه في جنب عبادته وطاعته فقال عزّ وجل: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} (الذاريات: 17) وقال: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} (النور: 37) الآيتين، ومن هو كذلك

(6/535)


حريّ أن لا يرتكب كبيرة ولا صغيرة لآدمي وإن فعل تاب، وصغائره المتعلقة بالله تعالى تقع مكفرة فحينئذ هو لا يلج النار أبداً (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي.

31049 - (وعن جندب) بضم الجيم وفتح الدال المهملة وضمها وسكون النون بينهما آخره موحدة (ابن سفيان) بتثليث السين والضم أشهرها، ويقال الكسر.
p وحكى الفتح ابن أبي عمران: ثم إن المصنف نسب جندباً هنا إلى جده سفيان وقد نسبه إلى أبيه، إذ أورد الحديث في باب التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة حيث قال: وعن جندب بن عبد الله وقدمنا ترجمته (رضي الله عنه) ثم (قال: قال رسول الله: من صلى الصبح) أي جماعة كما قيل به في رواية أخرى (فهو في ذمة الله) أي كلاءته وحفظه (فانظر) أي تدبر (با بن آدم) واحذر من التعرض لمن هو كذلك. وقوله (لا يطلبنك الله من ذمته بشيء) جواب شرط مقدر دل عليه الطلب قبله ولذا أكد، وبه يضعف احتمال الاستئناف لشذوذ تأكيد الفعل لا في طلب أو جواب قسم أو شرط، وفي قوله بشيء مبالغة في التحذير عن التعرض لمن هو كذلك في أي أمر كان وأي شيء عرض (رواه مسلم) .
41050 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) أي تعقب طائفة منهم طائفة أخرى. قال المصنف: فيه دليل لمن قال من النحويين بجواز إظهار ضمير التثنية والجمع في الفعل إذا تقدم: أي على المثنى والمجموع وهو لغة بني الحارث وحكوا فيه قولهم: أكلوني البراغيث، وحمل عليه الأخفش ومن وافقه قول الله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} (الأنبياء: 3) وقال سيبويه وأكثر النحويين: لا يجوز إظهار الضمير مع تقدم الفعل، ويتأولون كل هذا ويجعلون الاسم بعده بدلاً من الضمير ولا يرفعونه بالفعل كأنه لما قيل «وأسروا النجوى» وقيل من هم؟ قيل هم

(6/536)


الذين ظلموا، وكذا «يتعاقبون» ونظائره اهـ. وهو تابع لشيخه الإمام جمال الدين ابن مالك في جعله الحديث من هذا القبيل. قال الشيخ جلال الدين السيوطي في الاقتراح بعد أن ذكر من تعقب ابن مالك فيما سلكه من إثبات القواعد العربية بالأحاديث النبوية ما لفظه: ومما يدل لصحة ما ذهب إليه ابن الضائع وأبو حيان من تعقب ابن مالك في ذلك أن ابن مالك استشهد على لغة أكلوني البراغيث بحديث الصحيحين «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وأكثر من ذلك حتى صار يسميها لغة «يتعاقبون» وقد استدل به السهيلي ثم قال: لكني أقول إن الواو فيه علامة إضمار لأنه حديث مختصر رواه البزار مطولاً فقال: «إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» اهـ. قلت: والحديث في صحيح البخاري في بدء الخلق من طريق الأعرج عن أبي هريرة. قال: قال النبي «الملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث، فلو استدرك به لكان أولى لأصحيته لكونه دالاً على أن ما في لفظ الرواية الأولى من تصرف الرواة والله أعلم (ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر) اجتماعهم فيهم من لطف الله تعالى بالمؤمنين وتكرمته لهم، إذ جعل اجتماع الملائكة عليهم ومفارقهم لهم في أوقات
عبادتهم واجتماعهم على طاعتههم ربهم فتكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير (ثم يعرج) بضم الراء يصعد (الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي) السؤال على ظاهره وحقيقته وهو تعبد منه للملائكة كما أمرهم بكتب الأعمال وهو أعلم بالجميع، قال القاضي عياض: الأظهر قول الأكثرين: إن هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكتاب، قال: وقيل يحتمل أن يكونوا من جملة الملائكة كجملة الناس غير الحفظة (فيقولون تركناهم وهم يصلون) أي الفجر (وأتيناهم وهم يصلون) أي العصر (متفق عليه) .
51051 - (وعن جرير) بفتح الجيم وكسر الراء الأولى (ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه

(6/537)


قال: كنا) أي جماعة من الصحابة (عند النبي فنظر إلى القمر) أي في (ليلة البدر) هي ليلة الرابع عشر من الشهر، سمي بذلك لمبادرة طلوعه غروب الشمس وطلوعها غروبه (فقال: إنكم سترون) السين فيه لتأكيد الوعد وتحقيق الأمر (ربكم) على ما يلييق به سبحانه من غير جهة ولا إدراك له ولا اتصال شعاع به ولا غير ذلك مما يكون في رؤية المحدث (كما ترون هذا القمر) التشبيه في أصل الرؤية وانجلائها في كل من المشبه والمشبه به لا من كل وجه، إذ القمر مرئي وهو في جهة باتصال شعاع من الرائي به وإدراك له، والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع ذلك، والمخاطب بذلك المؤمنون، فالكفار محجوبون عن رؤيته تعالى لا فرق فيه بين منافقيهم وغيرهم على الصحيح الذي عليه الجمهور من أهل السنة كما ذكره المصنف (لا تضامون) قال المصنف: روي بتشديد الميم وتخفيفها فمن شددها فتح التاء ومن خففها ضم التاء (في رؤيته) ومعنى المشدد: لا تتضامون وتتلاصقون في التواصل إلى رؤيته، ومعنى المخفف: لا يلحقكم ضيم وهو المشقة والتعب (فإن استطعتم أن لا تغلبوا) بالبناء للمفعول (على صلاة قبل طلوع الشمس) يعني صلاة الصبح (وقبل غروبها) يعني العصر (فافعلوا) أي ترك المغلوبية التي لازمها الإتيان بالصلاتين كأنه قال صلوا، قال البرماوي في قوله «فإن استطعتم الخ» رمز إلى أن المحافظة على هاتين الصلاتين يرجى بها نيل الرؤية (متفق عليه) .
(وفي رواية) للبخاري في أبواب مواقيت الصلاة (فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة) وهي في «صحيح مسلم» عن جرير قال «كنا جلوساً عند رسول الله إذ نظر إلى القمر ليلة البدر» ولعله مراد المصنف أيضاً إلا أنه رواه بمعناه والله أعلم.
61052 - (وعن بريدة) بضم الموحدة وفتح الدال المهملة وسكون التحتية بينهما (رضي الله

(6/538)


عنه قال: قال رسول الله: من ترك صلاة العصر حبط) بكسر الموحدة: أي بطل وفسد (عمله) والمراد به بطلان ثوابه، فلا حجة للمعتزلة في قولهم إن المعصية تحبط الطاعة، أو المراد من تركها مستحلاً لذلك، أو جاحداً لوجوبها، أو المراد بحبوط العمل الكفر. كما قال الإمام أحمد: إن تارك الصلاة عمداً يكفر، ويشهد له حديث أنس مرفوعاً «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر جهاراً» أخرجه الطبراني في «الأوسط» ، فيحبط عمله بسبب كفره، أو يقال المراد بالعمل عمل الدنيا الذي شغله عن الصلاة: أي لا ينتفع به ولا يتمتع، أو المراد بالحبوط نقصان عمله في يومه، أو الأعمال بالخواتيم لا سيما في الوقت الذي يقرب أن ترفع فيه الأعمال، أو هو وارد على سبيل التغليظ: أي فكأنما حبط عمله، ذكره البرماوي في «اللامع الصبيح» (رواه البخاري) وأحمد والنسائي.

189 - باب فضل المشي إلى المساجد
11053 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: من غدا) من الغدوّ: وهو السير قبل الزوال (إلى المسجد أو) للتنويع (راح) من الرواح السير بعد الزوال أي سار بعد الزوال إليه: أي ليؤدي فيه عبادة من صلاة أو اعتكاف أو قراءة قرآن أو إقراء علم أو نحو ذلك (أعد) بتشديد الدال المهملة: أي هيأ (الله له في الجنة نزلاً) بضمتين: وهو ما يهيأ للضيف من كرامة عند قدومه، والتنوين فيه للتعظيم كما يومىء إليه إسناد الفعل إلى اسم الذات الجامع لمعاني الأسماء والنعوت الحسنى (كلما غدا أو راح) ظرف لأعد. قال الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» : عادة الناس تقديم طعام لمن دخل بيتهم، والمسجد بيت الله تعالى فمن دخله أي

(6/539)


وقت كان من ليل أو نهار أعطاه الله تعالى أجره من الجنة لأنه أكرم الأكرمين ولا يضيع أجر المحسنين (متفق عليه) ورواه الإمام أحمد.
21054 - (وعنه رضي الله عنه: أن النبي قال: من تطهر في بيته) شمل أنواع الطهارة حتى التيمم للعاجز حساً أو شرعاً عن استعمال الماء (ثم مضى) أي ذهب إلى بيت من بيوت الله، المراد منها المساجد كما يومىء إليه إضافتها إلى الاسم الكريم الدالة على التبجيل والتعظيم (ليقضي) أي ليؤدي فيه (فريضة) أي مفروضة (من فرائض الله) التي فرضها أصالة كالصلوات الخمس أو إلزام المكلف بها نفسه من القُرَب كالطاعة المنذورة (كانت خطواته) بضم أوليه وسكون ثانيه تخفيفاً جمع خطوة بالضم ما بين القدمين، وفي نسخة بفتح أوليه جمع خطوة بالفتح واحد الخطو: أي رفع القدم للسير (إحداهما) أي الخطوتين المدلول عليهما بالخطوات، رأيته في «الجامع الكبير» معزوّاً إلى روايته بلفظ كانت خطوتاه بصيغة المثنى المرفوع بالألف وهو ظاهر سالم من التكلف، ولعل ما في أصول الرياض من صيغة الجمع من عمل الكتاب لكن رأيت مثل ما في الرياض عند مسلم (تحط خطيئة) أي من الصغائر المتعلقة بالله تعالى (والأخرى) أي منهما (ترفع درجة) أي بعد تكفير الصغائر وتنزيهه منها. فالباقي من الخطوات ترفع بها الدرجات وهذا لمن لا كبائر له، فمن عمل من الخطوات ما يزيد على صغائره المكفرة بها عدداً وله كبائر رجى أن يكفر عنه منها بقدر ما يغفر بها من الصغائر، فإن لم يكن ذا ذنب أصلاً أو كان ذا صغائر وزادت خطواته على المكفر بها رفع له بما زاد الدرجات والله أعلم (رواه مسلم) ورواه ابن حبان كما في «الجامع الكبير» .
31055 - (وعن أُبي) بضم الهمزة ففتح للموحدة فتشديد للياء (ابن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار) لم أقف على من سماه (لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه) أي باعتبار داره (وكانت لا تخطئه) بضم الفوقية وكسر المهملة: أي لا تفوته (صلاة) أي في

(6/540)


المسجد كما يدل عليه السياق (فقيل له) القائل هو أبيّ كما عند مسلم في هذا الحديث بزيادة «أو قلت له» وأو للشك، وفي رواية أخرى عنده قال: قال أي أبيّ، فتوجهت له فقلت يا فلان (لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء) فيقيك من أذى الحشرات المنتشرة في أوّل الظلمة (وفي الرمضاء) فيقيك من نصب الحر لأنهم كانوا حفاة (قال ما يسرني) بفتح التحتية: أي يفرحني (أن منزلي إلى جنب المسجد) وعلل ذلك بقوله على سبيل الاستئناف البياني (إني أريد) أي أقصد ولما تعين المقصود منه سكت عن ذكره (أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي) أي أجرهما أو يكتبان هما فيضاعف أجرهما والفعل المضارع بالبناء للمفعول وما بعده نائب الفاعل، ويجوز قراءته مبنيا للفاعل وهو الله سبحانه وتعالى وعاد إليه، وإن لم يتقدم ذكراً (فقال رسول الله) عطف على مقدر: أي فبلغ ذلك النبيّ فقال مخاطباً له (جمع الله لك ذلك) أي ما ذكرت من أجر المشي والرجوع، فاسم الإشارة فيه كهو في قوله تعالى: {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} (البقرة: 68) وأكد الجمعية لئلا يذهب الوهم ويسري إلى الفهم أنه تجوز عن الأكثر بذلك فقال (كله) (رواه مسلم) .
41056 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: خلت البقاع) بكسر الموحدة جمع بقعة، قال في المصباح: البقعة من الأرض القطعة منها (حول المسجد) بالنصب على الظرفية لقوله خلت، أو صفة للبقاع لكونه محلى بأل الجنسية، وهي كالنكرة معنى (فأراد بنو سلمة) بفتح المهملة وكسر اللام بطن من الأنصار، والنسبة لهم سلمى بفتح أوليه من تغيير النسب. قال ابن عبد البر في كتاب «الأنساب» : وأما الخزرج فمن بطونهم النجار، وفي النجار بطون كثيرة إلى أن قال: ومنهم سلمة بن سعد بن الخزرج (أن ينتقلوا) إلى المكان الذي خلا قرب المسجد

(6/541)


(فبلغ ذلك) أي إرادتهم الانتقال (النبي فقال لهم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ قالوا نعم يا رسول الله) حذف العاطف لأن القصد حكاية لفظ جوابهم من غير تعرض لكونه عقب السؤال المدلول عليه بالفاء أو بعده بمدة المدلول عليه بثم، أو محتملاً لدينك وغيرهما المدلول عليه بالواو، وجملة الجواب وهي قولهم (قد أردنا ذلك) أتوا بها مع كفاية نعم عنها زيادة في الإقرار والتصريح بما كانوا أرادوا (فقال: بني سلمة) بتقدير حرف النداء قبله (دياركم) منصوب على الإغراء (تكتب) بالجزم جواباً للشرط المقدر لكونه في جواب الأمر المدلول عليه بالاسم المنصوب على الإغراء، والفعل مبني للمجهول ونائب فاعله قوله (آثاركم) أي خطاكم الكثيرة إلى المسجد (فقالوا: ما يسرنا أنا كنا تحولنا) لحوز القرب من المسجد لما يفوت عليه من نقص الآثار بقلة الخطا لقرب المكان (رواه مسلم) في كتاب الصلاة، وقد تقدم الحديث مشروحاً في باب بيان كثرة الخيرات (وروى البخاري معناه) في باب احتساب الآثار من كتاب الصلاة وفي فضل المدينة آخر المناسك (من رواية أنس) وهو في الصلاة بلفظ «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم» وبلفظ «إن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلون قريباً من النبي، قال: فكره النبي أن يعروا منازلهم فقال: ألا تحتسبون آثاركم» ولفظه في المناسك
«أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول الله أن تعرى المدينة وقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا» .
51057 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أعظم الناس أجراً) منصوب على التمييز (في الصلاة) في تعليلية: أي لأجلها (أبعدهم إليها ممشى) اسم مكان،

(6/542)


ويحتمل أن يكون مصدراً ميمياً، والأول أولى لأنه الذي يوصف بالبعد (فأبعدهم) وكلما كان البعد أكثر فيكون ذلك أعظم للأجر (والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام) غاية الانتظار، ويجوز كون حتى تعليلية لبيان علة الانتظار المرتب عليه قوله (أعظم أجراً) أي ثواباً (من الذي يصليها) أول الوقت منفرداً (ثم ينام) وذلك لأن الأول في صلاة مدة انتظاره لها، ولذاكره له ما يكره للمصلي من تشبيك أصابع وفرقعتها وعبث ونحوه مع فضل الجماعة (متفق عليه) .
61058 - (وعن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء والدال المهملتين وسكون التحتية بينهما (رضي الله عنه قال: قال النبي: بشروا) أمر من التبشير وهو في الأصل موضوع للإخبار بالخبر السار، والمخاطب بذلك الصحابة فمن بعدهم، وهكذا هو في الرياض بضمير الجمع، وفي «الجامع الصغير» بصيغة الإفراد، قال شارحه العلقمي نقلاً عن السيوطي: هذا من الخطاب العام ولم يرد به أمر واحد بعينه (المشائين) بالهمز والمد (في الظلم) بضم ففتح جمع ظلمة وهي تعم ظلمة العشاء والفجرلكن في الطبراني عن أبي أمامة «بشر المدلجين إلى المساجد» والإدلاج بالتخفيف المشي جميع الليل، وبالتشديد المشي آخره (إلى المساجد) الجمع نظراً لجمع المشائين وهو نظير ركب الناس دوابهم من مقابلة الجمع بالجمع: أي ركب كل دابته: أي بشر كل ماش إلى المسجد في الظلمة (بالنور التام) أي من جميع جوانبهم فإنهم يختلفون في النور على قدر الأعمال (يوم القيامة) أي على الصراط. قال ابن رسلان: ويحتمل أن يراد بالنور المنابر التي من النور لرواية الطبراني «بشر المدلجين إلى المساجد في الظلم بمنابر من نور يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزعون» وفي الحديث: فضل المشي إلى الصلاة سواء كان المشي طويلاً أو قصيراً، وفضل المشي

(6/543)


إليها للجماعات في ظلم الليل. (رواه أبو داود والترمذي) .
71059 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ألا) بتخفيف اللام حرف استفتاح لتنبيه المخاطب لما بعده (أدلكم على ما) أي الذي أو شيء (يمحو الله به الخطايا) بإذهابها من ديوان الحفظة أو بترك المؤاخذة عليها في الآخرة، والمراد الصغائر المتعلقة بالله تعالى، ولا يضر كون الباء سببية لأن السببية لذلك يجعل الله سبحانه وتعالى (ويرفع به الدرجات) أي يعطي به المنازل الرفيعة في الجنة، إذ التفاوت فيها إنما يظهر بذلك وظاهره جمع الأمرين لفاعل ما يأتي، وقدم الأول على الثاني لأنه من باب التخلية بالمعجمة، والثاني من باب التحلية بالمهملة، والأول مقدم على الثاني (قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء) أي استيعاب أعضائه بالغسل والمسح مع استيفاء آدابه ومكملاته (على) بمعنى مع (المكاره) جمع مكره بفتح الميم من الكره وهو المشقة، ومنها طلب الماء وشراؤه بثمن المثل بشرطه فإنه يشق على النفس (وكثرة) بفتح الكاف قال في «المصباح» الكسر رديء ويقال خطأ (الخطأ) بضم ففتح وبالقصر جمع خطوة (إلى المساجد) فيه فضل الدار البعيد عن المسجد على القريبة ويدل له أحاديث الباب، ولا ينافيه عده «من شؤم الدار بعدها عن المسجد» لأن بعدها وإن كان فيه شؤم من حيث إنه قد يؤدي إلى تفويت الصلاة عن وقتها لكن فيه فضل عظيم إذا توجه منها إلى الصلاة بالمسجد فشؤمها وفضلها اعتباريان فلا تنافي (وانتظار الصلاة بعد الصلاة) أي الجلوس لانتظارها بعد انقضاء. عمل الأولى منفرداً أو جماعة وذلك لدوام فكره وتعلق قلبه بها، فهو دائم المراقبة والحضور غير ملته عن فضل عبادات بدله بشيء (فذلكم) عدل إليه عن هذا الذي هو القياس للدلالة على بعد منزلته

(6/544)


وعظمها فهو نظير {ذلك الكتاب لا ريب فيه} (البقرة: 2) (الرباط) لا غيره كما أفاده تعريف الجزءين الدالّ على الحصر لكنه إضافي: أي ما ذكر من الثلاث هو المستحق أن يسمى رباطاً، وغيره الذي هو الرابط الحقيقي وهو
ملازمة الثغر لحفظ عورة المسلمين لا يستحق ذلك بالنسبة إليه، لما فيه من أعظم القهر لأعدى عدوك الذي هو النفس الأمارة بالسوء وقمع سورتها وقلع مكايد الشيطان وأعوانه من جميع أجزائها، وفي هذا أعظم تأييد لما روي «ورجعنا من الجهاد الأصغر» أي الذي هو جهاد العدو «إلى الجهاد الأكبر» أي الذي هو جهاد النفس، وذلك لأن تلك الأعمال لما كانت تسد طرق الشيطان والهوى عن النفس وتقهرها وتمنعها من قبول الوساوس واتباع الشهوات فيغلب بها حزب الله وجنوده عدوه كانت هي المرابطة الحقيقية. والجهاد الأكبر جهاد الكفار وإن شرع للخروج عن النفوس والأولاد والأموال لإعلاء كلمة الله تعالى مع تكميل النفوس بخروجها عن مألوفاتها ومستلذاتها، لكنه لا يدوم زمنه وإنما يكون برهة ثم ينقضي، وتلك الأعمال دائمة الوجود وذلك التكميل موجود فيها بزيادة، ووقع في نسخة مصححة من «الرياض» قوله (فذلكم الرباط) مرة ثانية وقدمنا أنه كذلك في رواية لمسلم (رواه مسلم) والحديث سبق في فضل الوضوء.
81060 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: إذا رأيتم) أي علمتم (الرجل يعتاد المساجد) وفي رواية «يتعاهد المساجد» والمراد باعتياد المساجد أن يكون قلبه متعلقاً به منذ يخرج منه إلى أن يعود إليه. 4 قال السيوطي: المراد شدة حبه له وملازمة الجماعة فيه، وليس معناه دوام القعود فيه. وقال التوربشتي: هو بمعنى التعهد وهو التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، ويروى «يتعاهد» ومعناه لاعتياد معاودته إلى المسجد مرة بعد أخرى لإقامة الصلاة اهـ. وكلاهما حسن. وقال الطيبي: يتعاهد أشمل معنى وأجمع لما يناط به أمر المساجد من العمارة واعتياد الصلاة وغيرهما، ألا ترى كيف استشهد بالآية. قال في «الكشاف» : العمارة تتناول رمّ ما انهدم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وتعظيمها واعتيادها والذكر فيها (فاشهدوا) أي اقطعوا (له بالإيمان) فإن الشهادة تصدر عن مواطأة

(6/545)


القلب اللسان على سبيل القطع كذا في «الكوكب المنير» (قال الله عزّ وجل) : ( {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله} ) أي لا يعمرها إلا المؤمن الموصوف بما في الآية من قوله: {وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله} (التوبة: 18) كما أومأ إليه المصنف بقوله (الآية) بالنصب بإضمار نحو اقرأ وبالرفع بإضمار مبتدأ: أي المتلو الآية وقوله: {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} (التوبة: 18) إيماء إلى أن الطاعات أمارات على الاهتداء فيرجى الاهتداء عندها لا علامات قطعية (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في «المستدرك» والبيهقي في «السنن» .

190 - باب فضل انتظار الصلاة
أي الجلوس لانتظارها.
11061 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي من حيث الثواب لا في سائر الأحكام (ما) مصدرية ظرفية صلتها (دامت الصلاة تحبسه) أي تمنعه في مدة حبسها: أي منعها له عن انصرافه لحاجاته، وقوله (لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) جملة حالية مؤكدة لمضمون عاملها (متفق عليه) .

(6/546)


21062 - (وعنه أن رسول الله قال: الملائكة تصلي) أي تستغفر وتطلب الرحمة (على أحدكم) أي الواحد منكم، وعدّى بعلى لتضمنه معنى الحنوّ أو إيماء إلى علو الرحمة المدعو بها على المدعو له (ما دام في مصلاه) أي مكان صلاته (الذي صلى فيه) عمومه متناول لفرض الصلاة ونقلها (ما لم يحدث) ما فيه مصدرية ظرفية، والمراد بالإحداث الإتيان بالحدث الناقص للوضوء، أو المراد ما لم يتكلم بكلام الدنيا المنهيّ عنه، ثم بين صيغة دعائها له بقوله (تقول) أي الملائكة (اللهم اغفر له) ظاهر عمومه المستفاد من حذف المعمول شامل لكبائر الذنوب، ولا مانع منه لأنه سؤال من الله الغفران والله يغفر ما شاء غير الشرك (اللهم ارحمه. رواه البخاري) .
31063 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل) أي نصفه (ثم أقبل بوجهه بعد ما صلى فقال) مبشراً لهم بالفضل الذي نالهم من تأخيره الصلاة بهم (صلى الناس) أي غير من في مسجده المصلي معه فهو عام مراد به خاص (ورقدوا ولم تزالوا في صلاة) أي من حيث الثواب (منذ انتظرتموها) أي من ابتداء وقت انتظاركم إياها، وفي الإتيان بثم إيماء إلى أن ذلك الحكم زال بإتمامهم الصلاة (رواه البخاري) .

(6/547)


191 - باب فضل صلاة الجماعة
واختلف فيها هل هي فرض أو سنة؟ وعلى الأول هل هي فرض عين أو كفاية؟ خلاف بين الأئمة. والصحيح في مذهب الشافعي أنها في غير الجمعة فرض كفاية على الأحرار الذكور المقيمين غير أولي العذر، أما في الجمعة ففرض عين لأنها شرط لصحتها في الركعة الأولى، وأقلها في غير الجمعة إمام ومأموم.
11064 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: صلاة الجماعة) الإضافة فيه بمعنى في والظرفية مجازية أو بمعنى اللام (أفضل) أي أكثر ثوابا (من صلاة الفذ) بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة، قال في «المصباح» : هو الواحد وجمعه فذوذ (بسبع وعشرين درجة) لا ينافي هذا ما يأتي في الحديث بعده من أنها تضعف على غيرها خمساً وعشرين، إما لأن العدد القليل لا ينفي الكثير أو أنه أعلم بالقليل أولاً فأعلم به ثم أعلم بالكثير فأخبر به، أو أن ذلك يختلف بحسب كمال الصلاة ومحافظة هيئتها وخشوعها وكثرة جماعتها وشرف البقعة ونحو ذلك. وقال الحافظ في «الفتح» : ظهر لي في الجمع بين الحديثين أن أقل الجماعة إمام ومأموم، فلولا الإمام ما سمي المأموم مأموماً وبالعكس، فإذا تفضل الله على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بفضلها على الفضل الزائد، والخبر الوارد بلفظ سبعة وعشرين على الأصل والفضل اهـ. قلت هذا أحسن من قول البرماوي بعد حكاية ما ذكر في أوجه الجمع بين الحديثين ما لفظه، وحيئذ يظهر وجه مناسبة السبع والعشرين أن فرائض اليوم والليلة سبع عشر ركعة، والرواتب المؤكدة للدوام عليها عشر، فضعف أجر الجماعة بهذا الاعتبار، وأماالوتر فلا مدخل له لأنه شرع بعد ذلك، وأحسن منه ما نقله الحافظ في الفتح عما كتبه شيخه السراج البلقيني على «العمدة» وقال: إنه لم يسبق إليه أن لفظ الحديث صلاة الجماعة معناه صلاة في الجماعة كما وقع في حديث أبي هريرة «صلاة الرجل في الجماعة» وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة. وأدنى الأعداد التي يتحقق
فيها ذلك ثلاث حتى يكن، وكل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشر فتحصل من مجموعه ثلاثون، فاقتصر في الحديث على

(6/548)


الفضل الزائد وهو سبع وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك اهـ (متفق عليه) ورواه الإمام مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كذا في «الجامع الصغير» .

21065 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: صلاة الرجل في جماعة) الظرف إما في محل الحال أو الصفة للرجل لأنه محلى بأل الجنسية، ويجوز جعله لغواً متعلقاً بصلاة (تضعف) بتشديد العين المهملة (على صلاته في بيته وفي سوقه) أي منفرداً كما يومىء إليه مقابلته بصلاة الجماعة، ولأن الغالب في فعلها في البيت والسوق الانفراد (خمساً وعشرين ضعفاً) مفعول مطلق كقوله تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} (النور: 4) قال البرماوي: السرّ في الأعداد خفيّ لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، نعم يحتمل أن يقال في مناسبة الخمس والعشرين: إن صلوات اليوم والليلة خمس فإذا ضربت في نفسها بلغت ذلك، فأريد تضعيف ثوابها على الانفراد بذلك لمناسبته في جنس الأصل، ويحتمل أن الأربعة لما كانت تؤلف منها العشرة فيقال واحد واثنان وثلاثة وأربعة وهذا المجموع عشرة ومن العشرات المئات ومن المئات الألوف فكانت أصل جميع مراتب العدد، ومع ذلك زيد عليها واحد مبالغة ثم ضعفت بعدد الصلوات الخمس مبالغة أخرى اهـ. (وذلك) إن كان المشار إليه فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ اقتضى اختصاص ذلك بجماعة المسجد، وقد حكى القرطبي في «المفهم» خلاف العلماء هل الفضل المضاف للجماعة لأجل الجماعة فقط حيث كانت، أو إنما يكون الفضل للجماعة التي تكون بالمسجد لما يلازمها من فضائل تختص بها من إكثار الخطا إليه وكتب الحسنة ومحو السيئة بكل خطوة المذكورة في قوله (إنه) أي الشأن أو الرجل (إذا توضأ فأحسن الوضوء) أي أسبغه مع الإتيان بالسنن والآداب (ثم خرج إلى المسجد) أي
متوجهاً إليه (لا يخرجه إلا الصلاة) جملة حالية من

(6/549)


فاعل خرج مقيدة لترتب الثواب الآتي على الخروج إلى المسجد بمضمونها، فإن أخرجه إليه غيرها أو هي مع غيرها فاته ما يأتي، وظاهر أن المفوت الخروج للشغل الدنيوي، أما إذا خرج للصلاة فيه وقراءة قرآن أو علم فذاك برّ ضم إلى بر (لم يخط خطوة) بفتح المعجمة (إلا رفعت) بالبناء للمجهول (له بها درجة) نائب الفاعل، والظرفان إما لغوان كل منهما متعلق بالفعل لاختلاف الجار لفظاً ومعنى، وإما مستقران حالان من درجة كانا صفتين لها فقدما وأعربا حالين، ومثل هذا الإعراب جار في قوله (وحط عنه بها خطيئة) أي من الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، ثم استظهر القرطبي أن الفضل للجماعة لذاتها قال: لأنها هي الوصف الذي علق عليه الحكم، وخالف الحافظ فقال: قوله: وذلك الخ ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور إذ التقدير وذلك لأنه، فكأنه يقول التضعيف المذكور سببه كيت وكيت، وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجودها بعضها إلا إن دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبراً أو ليس مقصوداً لذاته، وهذه الزيادة معقولة المعنى، فالأخذ بها متجه والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على مقيدها (فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه) تترحم وتستغفر له (ما دام في مصلاه) أي جالساً فيه، ويحتمل أن يراد ما دام مستمراً فيه ولو مضطجعاً (ما لم يحدث) وعطف عطف بيان على قوله تصلي عليه قوله (اللهم صل عليه اللهم ارحمه) أي تقول ذلك (ولا يزال) غير النافي للتفنن مع كون المحدث عنه فيما تقدم أمراً منقضياً وفيما هنا أمراً آتياً، واسم يزال مستتر يعود إلى المصلي المفهوم من السياق، والخبر قوله (في صلاة ما انتظر الصلاة) أي مدة انتظاره إياها (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع من الصلاة من «صحيحه» ومسلم في صلاة الجماعة (وهذا لفظ البخاري) ولفظ مسلم نحوه.

(6/550)


31066 - (وعنه قال: أتى النبيّ رجل أعمى) قال المصنف: وتبعه السيوطي في «الديباج» هو ابن أم مكتوم كما في «سنن أبي داود» وغيره، ونازعه في ذلك ابن حجر في «فتح الإله» فقال فيه لاختلاف سياق الحديثين كما يعلم من هذه وروايته الآتية بعد، قال: إلا أن تكون الواقعة متعددة (فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله أن يرخص له) في ترك الجماعة (فيصلي) بالنصب عطفاً على ما قبله وبالرعف على الاستئناف (في بيته فرخص له) من الرخصة وهي: تغير الحكم من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب الحكم الأصلي كتغير الحكم هنا من الصعوبة وهي إلزامه الحضور إلى سهولة، وهي التخفيف عنه بسقوط ذلك لعذر وهو العمى مع قيام سبب الحكم الأصلي وهو طلب اجتماع المسلمين (فلما ولى دعاه فقال له) أي بعد أن جاءه (هل تسمع النداء) أي الأذان (بالصلاة) وعدي بالياء لتضمنه معنى الإعلام وعدي بإلى في قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} (المائدة: 58) لبيان غاية النداء (قال نعم، قال فأجب) أي إن أردت كمال الفضيلة الأليق بك، ومعنى لا رخصة لك الوارد في حديث ابن أم مكتوم عند أبي داود: أي تلحقك بفضيلة من حضرها، والداعي إلى ذلك أنه رخص لعتبان حين شكا ضعف بصره أن يصلي في بيته، فأولنا حديث الباب بما ذكر جمعاً بين الأحاديث المتعين حيث أمكن. قال في «فتح الإله» : وفيه نظر بالنسبة لما ذكر عن عتبان، لأن الأصل في قصته في الصحيح أنه إنما سأل الترخيص في صلاته في منزله عند وجود مانع من حضور مسجد قومه من حيلولة السيل بينه وبينه، ولا شك أن في مثله يرخص حتى في حديث الباب اهـ. وفي الحديث تأكيد طلب الجماعة واحتمال خفيف التعب في حصوله. وذلك أن الغالب على من قرب داره من المسجد أن يعرف مكابد الطريق لقصره فيقل لحاق الضرر به، ثم الترخيص يحتمل أنه كان باجتهاد أو وحي ورفعه الناسخ له كان كذلك (روه مسلم) .

(6/551)


41067 - (وعن عبد الله) حكاه المصنف في «التهذيب» بصيغة التمريض وقال: ويقال عبد الله بن زائدة، ويقال عامر بن زائدة، وقدّم ما حكاه هنا ممرضاً له بقوله (وقيل عمر بن قيس) بن زائدة، ويقال زياد بن الأصم، والأصم جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن بغيض بن عامر بن لؤي بن غالب القرشي العامري (المعروف بابن أم مكتوم المؤذن) أي للنبي (رضي الله عنه) قال المصنف في «التهذيب» : الصحيح في اسمه عمرو كما ذكرنا أولاً، وقد ثبت في «صحيح مسلم» أن النبي سماه كذلك فقال لفاطمة بنت قيس في حديثها في طلاق زوجها: «اعتدى في بيت ابن عمك عمرو بن أم مكتوم» ونقل عن ابن الأثير أن الأكثر على أن اسمه عمرو قاله مصعب بن الزبير، وأم مكتوم: بالمثناة بصيغة المفعول اسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بمهملة فنون ساكنة فكاف فمثلثة مفتوحتين ثم هاء: ابن عامر ابن مخزوم وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنهما، لأن أم خديجة فاطمة بنت زائدة بن الأصم. هاجر ابن أم مكتوم إلى المدينة قبل مقدم النبي وبعده مصعب بن عمير، واستخلفه النبي ثلاث عشرة مرة في غزواته على المدينة، وشهد فتح القادسية وقتل بها شهيداً وكان معه اللواء، هذا هو المشهور. وذكر ابن قتيبة في «المعارف» أنه شهد القادسية ثم رجع إلى المدينة فمات بها، ونقل ابن الأثير هذا عن الواقدي، وهو الأعمى الذي ذكره الله تعالى في قوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} (عبس: 1، 2) وفضله مشهور، روي له عن رسول الله على ما قال ابن الجوزي ثلاثة أحاديث، قال: وقال البرقاني له حديثان (أنه قال: يا رسول الله إن المدينة) علم بالغلبة على طيبة دار الهجرة (كثيرة الهوام) بتشديد الميم جمع هامة كذلك هي خشاش الأرض ومنها المؤذيات كالأفعى والعقرب (والسباع) بكسر المهملة وتخفيف الموحدة آخر عين مهملة جمع سبع بفتح فضم أو سكون معروف، وقال في «المصباح» إسكان الباء هي اللغة الفاشية عند العامة، ولذا قال
الصغاني السبع والسبع لغتان، وقرىء بالإسكان في قوله تعالى: {وما أكل السبع} (المائدة: 3) وهو مروي عن الحسن البصري وطلحة بن سليمان وأبي حيوة، ورواه بعضهم عن ابن كثير أحد القراء السبعة، وبجمع المضموم على سباع كرجل ورجال لا جمع له على هذه اللغة غير ذلك، ويجمع على لغة السكون على

(6/552)


أسبع كفلس وأفلس، وهذا كما خفف ضبع وجمع على أضبع، وقال ابن السكيت: الأصل الضم لكن أسكن تخفيفاً. ويقع السبع على كل ماله ناب يعدو به ويفترس كالذئب لا الثعلب، فإنه وإن كان ذا ناب إلا أنه لا يعدو به ولا يفترس، وكذا الضبع قاله الأزهري اهـ. ومراد ابن أم مكتوم مما ذكره الترخيص له في ترك حضور الجماعة كما جاء عنه مصرحاً في رواية، ففي «المشكاة» بزيادة «وأنا ضرير البصر فهل تجد لي من رخصة أن أصلي في بيتي» (فقال رسول الله: تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح) أي تسمع الأذان الذي فيه ما ذكر، وخصا بالذكر لأنهما الداعيان إلى الحضور (فحيهلا) عطف على جواب ابن أم مكتوم المقدر: أي قال نعم المصرح به في رواية «المشكاة» وزاد «ولم يرخص له» وحى هلاً بالتنوين هنا وفيه لغات تقدم بيانها (رواه أبو داود) قال في «المشكاة» بعد أن أورده بما ذكرناه عنه: ورواه النسائي (بإسناد حسن) ورواه الترمذي في الصلاة عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء عن أبيه عن سفيان عن عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن أم مكتوم (ومعنى حيهلاً: تعال) .
51068 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال) وأقسم مؤكداً للمخبر عنه بقوله (والذي نفسي بيده) أي بقدرته (لقد هممت) أي قصدت (أن آمر بحطب فيحتطب) بالبناء للمجهول: أي يجمع، وفي الصيغة إيماء إلى كلفة معاناة ذلك (ثم آمر بالصلاة فيؤذن) بالبناء للمفعول: أي يعلم (بها) أي بالإقامة المشروعة لها (ثم آمر رجلاً فيؤم الناس) لاشتغاله عن الإمامة بما دل عليه قوله (ثم أخالف) صيغة المفاعلة للمبالغة أذهب (إلى) بيوت (رجال) قال البرماوي: أي أخالف المشتغلين بالصلاة قاصداً إلى بيوت الذين لم

(6/553)


يخرجوا إليها، قال الجوهري: هو يخالف إلى أمرأة فلان: أي يأتيها إذا غاب عنها. وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) تقول خالفني إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه (فأحرق) من التحريق والتفعيل لما ذكر فيما قبله (عليهم بيوتهم) هذا الحديث ظاهره مقوَ لمن قال بفريضة الجماعة عيناً. وأجاب عنه من قال إنها فرض كفاية بأنه ورد في قوم منافقين لا يشهدون الجماعة ولا يصلون العشاء فرادى والسياق يؤيده، فإنه افتتح الحديث في رواية أخرى بقوله «إن أثقل الى المنافقين صلاة العشاء والفجر» ومما يصرح به قوله في حديث ابن مسعود الآتي «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق» وكيف يظن بأدنى الصحابة رضي الله عنهم أنه يؤثر أدنى غرض دنيوي على الصلاة مع رسول الله أو أن همة بتحريقهم لاستهانتهم بصلاة الجماعة لا لمجرد الترك، أو أن المراد بها الجمعة أو أناس تركوا نفس الصلاة لا الجماعة، وجواز التحريق اللام لهمه به كان قبل تحريم المثلة، وقوله «لا يعذب بالنار إلا خالقها» وتركه إما لكونه هم به اجتهاداً ثم نزل وحي بالمنع أو تغير اجتهاده (متفق عليه) .
61069 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من سرّه أن يلقى الله غداً) أي يوم القيامة أو في الزمن المستقبل (مسلماً) حال من فاعل يلقى (فليحافظ على هؤلاء الصلوات) أي يبالغ في حفظها مراعياً لأركانها وواجباتها وسننها وآدابها (حيث ينادى بهن) أي في المكان الذي يعلم بهن للاجتماع لصلاتهن من نحو المساجد (فإن الله شرع) أي أظهر وسن (لنبيكم) عبر به دون نحولي إيماء إلى اتباعه في المشروع لأنه الأصل ما لم يقم دليل الخصوصية (سنن) بضم ففتح جمع سنة: أي طرائق (الهدى) ضد الضلال (وإنهن)

(6/554)


أي الصلوات (من سنن الهدى) أي بعضها أو مبتدؤها (ولو أنكم صليتم في بيوتكم) أي المكتوبة منفردين أو جماعة على وجه لا يظهر به الشعار (كما يصلي هذا المتخلف في بيته) فيه أقصى غاية من تحقيره وتبعيده عن مواطن القرب ولم أقف على من سماه (لتركتم سنة نبيكم) أي طريقه وهديه الذي أمر به من إظهار شعار الجماعة (ولو تركتم سنة نبيكم) (لضللتم) أي لوقعتم في الضلال ضد الهدى (ولقد رأيتنا) الواو فيه عاطفة على ما يتصيد مما قبله واللام مؤذنة بالقسم قبلها ورأى بصرية، وجملة (وما يتخلف عنها) أي عن الجماعة المدلول عليها بالسياق (إلا منافق معلوم النفاق) محل الحال في من فاعل رأى أو مفعوله، وجملة (ولقد كان الرجل يؤتى به) بالبناء للمجهول والظرف نائب فاعله مستأنفة (يهادى) بالدال المهملة مبنياً للمفعول: أي يتمايل (بين الرجلين) هما المعتمد عليهما (حتى يقام في الصف) غاية المهاداة (رواه مسلم) وفيه آكد حث وأبلغ داع على المحافظة على الصلوات في الجماعات وتحمل المشاق في تحصيلها ما أمكن (وفي رواية له) أي لمسلم (قال) أي ابن مسعود (إن رسول الله علمنا سنن) بفتح أوليه وبضم ففتح (الهدى) أي طريق الصواب والكمال وحثنا على الاعتناء بتحصيل الفضائل ما أمكن (الصلاة) أي جماعة كما يدل عليه السياق، وهو بالنصب بدل من سنن، وبالرفع مبتدأ محذوف الخبر: أي منها الصلاة جماعة
(في المسجد الذي يؤذن فيه) أي الذي يحصل بإقامة الجماعة فيه شعارها، خرج به مسجد البيوت ونحوه مما لا يحصل به ذلك.
d
71070 - (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ما من) مزيدة لتأكيد استغراق النفي (ثلاثة) مقيمين (في قرية) قال في «المصباح» : القرية الضيعة. وفي كفاية

(6/555)


المتحفظ: القرية كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قراراً ويقع على المدن وغيرها (ولا بدو) بوزن فلس خلاف الحضر (لا تقام فيهم الصلاة) أي جماعة (إلا قد استحوذ) أي غلب (عليهم الشيطان) حتى فوّتهم هذا الثواب الجزيل والأجر الجميل (فعليكم بالجماعة) أي الزموها، والباء مزيدة في المفعول وعلل ذلك بقوله مستأنفاً بيانياً (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) أي الشاة البعيدة عن باقي الغنم المنفردة عنهن، شبه استيلاء الشيطان بوساوسه على المنفرد وتمكنه منه كيفما أراد عند بعده عن الجماعة باستيلاء الذئب على المنفردة من الغنم عند بعدها عن جماعتهنّ، ففي الكلام استعارة مكنية تتبعها استعارة تخييلية (رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» (بإسناد حسن) فرواه عن أحمد بن يونس عن زائدة عن السائب بن خنيس عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء، ورواه النسائي أيضاً في الصلاة عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن زائدة نحوه، قاله المزي في «الأطراف» .

192 - باب الحث على حضور الجماعة في الصبح والعشاء
خصا بالذكر لثقلهما على النفوس غالباً، لأن وقت الأولى وقت طيب النوم ولذته ولذا أمر المؤذن أن يقول في أذانه: الصلاة خير من النوم، والعشاء وقت العشاء مع غلبة الظلمة وقتها فاختصا بالتحريض عليهما لذلك.
11071 - (عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: من صلى العشاء في جماعة) يشمل قليل الجماعة من إمام ومأموم وكثيرها وفاضلها ومفضولها (فكأنما قام نصف الليل) أي بصلاة التهجد، إذ القيام في عرف الشرع عبارة عن ذلك، ففيه فضل الجماعة في العشاء (ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) ما أفاده ظاهره من ترتب

(6/556)


حصول ثواب قيام جميع الليل لمن صلى الصبح جماعة وإن لم يصل العشاء جماعة غير مراد، بل إن المراد مجموع صلاتي العشاء والصبح جماعة كقيام الليل كله، فصلاة كل منهما جماعة كقيام نصف الليل كما يشهد بهذا التفصيل الحديث بعده (رواه مسلم) في الصلاة.
(وفي رواية للترمذي) في الصلاة من «جامعه» (عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من شهد العشاء في جماعة كان له كقيام نصف ليلة) أي مثل ثوابه غير مضاعف كما يومىء إليه قوله في الحديث قبله «فكأنما قام نصف الليل» (ومن شهد العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام اليلة) وإنما: حمل الحديث الأول على هذا الحديث لأن ذاك مجمل هذا مبين وهو يقضي به على المجمل، وإنما لم يجعل الحديثان من قبيل أنه أعلم أولاً بما اشتمل عليه حديث الترمذي هذا فأخبر به، ثم تفضل الله بما اشتمل عليه حديث مسلم فأخبر به ثانياً لأن الحديث واحد وليس متعدداً، فحمل حديث مسلم المجمل على حديث الترمذي البين الواضح (وقال الترمذي: حديث حسن صحيح) كذا في نسخ «الرياض» . والذي في «أطراف» المزي عنه الاقتصار على قوله حسن، وزاد: وقد روي من وجه عن عثمان موقوفاً ومن غير وجه عن عثمان مرفوعاً.
21072 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ولو يعلمون) أي الناس المذكورون أول الحديث، ولذا أتى المصنف بالعاطف أول الحديث تنبيهاً على أنه قطعة من الحديث (ما في العتمة والصبح) أي ما في شهود جماعتهما من الأجر العظيم المفصح به الحديثان قبله (لأتوهما ولو حبواً) فيه مزيد الحض على حضورهما (متفق عليه) وقد سبق

(6/557)


الحديث بطوله في باب فضل الأذان.

31073 - (وعنه قال: قال رسول الله: ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء) أي جماعة لو منفرداً، وذلك لأن وقت الصبح وقت طيب الرقاد لحسن الهواء عنده، ووقت العشاء وقت غلبة النوم لمزاولة الأعمال النهارية، والمنافقون لا يؤمنون بالله، ولا يصلون إلا رياء، فهي أثقل الصلوات عليهم، لأنها لكونها تفعل في ظلام لا يحصل غرضهم من المراءاة الحاصلة في صلاة الثلاثة الباقية جماعة مع ما فيها من فوات لذة النوم حينئذ، بخلاف المؤمن فإنهما وإن كانتا في ذينك الوقتين أشق عليه إلا أن عظم ثوابهما المرتب عليهما يخفف عنه ألم معاناتهما (ولو يعلمون ما فيهما) لا يخفى ما فيه من الإيماء إلى عظم ثواب ذلك فكأن العبارة تضيق عن تفصيله (لأتوهما ولو حبواً، متفق عليه) .

193 - باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات
أي التي كتبها الله أي فرضها على عباده (والنهي الأكيد) أي المتأكد (والوعيد)

(6/558)


ضد الوعد فالوعد في الخير والوعيد في الشرّ (الشديد في تركهن) أي أو واحدة منهن.
(قال الله تعالى) : ( {حافظوا} ) أي داوموا ( {على الصلوات} ) أي المفروضات ومن المحافظة عليهن الإتيان بأركانهن وشرائطهن.
(وقال تعالى) : ( {فإن تابوا} ) أي من الكفر ( {وأقاموا الصلاة} ) من التقويم أي أتوا بها جامعة ما تتوق صحتها عليه لا من الإقامة المقابلة للأذان إذ هي سنة ( {وآتوا} ) أي أعطوا ( {الزكاة} ) المفروضة ( {فخلوا سبيلهم} ) كسائر المؤمنين. ومن هذه الآية وحديث ابن عمر مرفوعاً «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها» أخذ إمامنا الشافعي أن من ترك الصلاة كسلاً حتى أخرجها عن وقت الضرورة يقتل حداً إن لم يتب.
11074 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله أي الأعمال أفضل) أي أكثر ثواباً عند الله تعالى (قال الصلاة على وقتها) أي أداؤها فيه، وعبر بعلى إيماء إلى استعلاء استحقاقها الوقت إذ لا يجوز إخلاؤه عنها بغير عذر، والتفضيل فيه بالنسبة لما بعده كما يدل عليه قوله (قلت: ثم أي) بالتنوين قيل وبتركه (قال بر الوالدين) أي الإلطاف معهما حسب الإمكان (قلت: ثم أي) بالتنوين قيل وبتركه (قال بر الوالدين) أي الإلطاف معهما حسب الإمكان (قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله طلباً لمرضاته، والحديث صريح في تقديم بر الوالدين على الجهاد، وأصرح منه ما في حديث مسلم وغيره «أن رجلا جاء إلى رسول الله يستأدنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد» (متفق عليه) وقد تقدم بشرحه في باب بر الوالدين.

(6/559)


21075 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: بني الإسلام على خمس) أي أعمدة أو دعائم كما زاده عبد الرزاق، وفي رواية لمسلم على خمسة بتاء التأنيث وكلاهما جائز عند حذف المميز فإن ذكر أنث أو ذكر بحسب حاله كما قاله المصنف في حديث «من صام رمضان وستاً من شوال» في «شرح مسلم» ، وفعل وعلى فيه بمعنى الباء عند من قال الإسلام قول، ومنه حديث «بني الإسلام على خمس» وفعل واعتقاد، والإلزام أن يكون غيرها ضرورة كون المبني غير المبني عليه أو بمعنى من كما في «إلا على أزواجهم» أي إلا من أزواجهم. وأما عند من قال هو التصديق فبناؤه على الأربعة ظاهر، والشهادة قطبها الذي تدور هي عليه. وفي الحديث على هذا استعارة تمثيلية شبهت حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباء أقيم على خمسة أعمدة فقطبها التي تدور عليه الأركان وهو الشهادة بمنزلة العمود الذي في وسط الخباء وبقية شعبه بمنزلة الأوتاد، فتكون مغايرته لهذه الأركان كمغايرة الخباء للأعمدة، قاله الكازوني، وخالفه الدلجي فقال: وفي الحديث استعارة مكنية فتشبيهه به استعارة مكنية، وتشبيه الخمس بالأعمدة تشبيه بليغ بشهادة زيادة عبد الرزاق «خمس أعمدة» وهو قرينة المكنية، وقولهم قرينتها تكون تخييلية جرى على الغالب، وإلا فقد تكون تحقيقية كما في {الذين ينقضون عهد الله} () وإسناد البناء إليه ترشيح وليس استعارة تمثيلية وإن زعم، إذ لم يذكر المشبه به الذي هو من شرطها كما في مالي أراك تقدم رجل وتؤخر أخرى. فإن الوليد بن يزيد شبه حال تردد مروان بن الحكم في البيعة له بالخلافة بحالة من قام لأمر فتارة يعزم فيقدم رجلاً وتارة يحجم فيؤخر أخرى فهي تمثيلية، وفي جعله استعارة تبعية تكلف لا يخفى اهـ. وفي «الفتح المبين» لابن حجر الهيتمي: واستعمال البناء الموضوع للمحسوسات في المعاني مجاز علاقته المشابهة، شبه الإسلام ببناء عظيم محكم وأركانه الآتية بقواعد ثابتة محكمة حاملة لذلك
البناء، فتشبيه الإسلام بالبناء استعارة مكنية، وإثبات البناء له استعارة ترشيحية اهـ. فتوافقا في المكنية وافترقا في قرينتها، فجعل ابن حجر في قرينتها الترشيحية وجعلها شيخه الدلجي التشبيه البليغ (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) بالجر عطف بيان أو بدل كل من كل إن اعتبر العطف

(6/560)


سابقاً على الإبدال، وبدل بعض من كل إن اعتبر العطف متأخراً عنه، وعلى هذا يحمل إطلاق الدلجي في «شرح الأربعين» أنه بدل بعض وبالرفع خبر مبتدأ محذوف وبالنصب مفعول، أعني قال الكازروني في «شرح الأربعين» : لكن الرواية على الأول (وإقام الصلاة) حذف التاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها، قاله الزجاج، وقيل هما مصدران، وقال الدلجى: التعويض عن المحذوف منه لازم إما بالتاء أو بالمضاف إليه اهـ، فتحصل فيه ثلاثة أوجه أشهرها الأول وإقامتها الإتيان بها جامعة الأركان والشروط (وإيتاء الزكاة) أي إعطائها مستحقها (وحج البيت) بفتح الحاء لغة الحجاز وكسرها لغة تميم نجد وكلاهما مصدر، وقيل المكسور هو الاسم منه، قال ابن حجر الهيتمي: وفي كونه بالفتح اسم مصدر نظر (وصوم رمضان) وجاء في بعض الروايات تقديمه على الحج والواو لا تقتضي الترتيب وإلا فالصوم فرض قبل الحج إجماعاً، وهذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده فإنه قد جمع أركانه (متفق عليه) . ورواه أحمد والترمذي والنسائي.
31076 - (وعنه قال: قال رسول الله: أمرت) بالبناء للمجهول للعلم بالفاعل: أي أمرني الله (أن أقاتل الناس) أي غير أهل الكتاب ومن ألحق بهم من المجوس (حتى) أي إلى أن (يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) أي يقروا بذلك وينطقوا بمضمونه (ويقيموا الصلاة) أي يأتوا بها جامعة الأركان والشرائط (ويؤتوا) أي يعطوا (الزكاة) الواجبة عليهم، أما أهل الكتاب فيقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (فإذا فعلوا ذلك) أي ما ذكر (عصموا) أي منعوا (مني دماءهم) فلا يجوز قتلهم (وأموالهم) فلا يجوز أخذها منهم (إلا بحق الإسلام) وذلك في الدماء بالقصاص وزنى المحصن وارتداد المسلم، وفي الأموال بالزكوات والكفارات والنفقات الواجبة عليهم لممونهم (وحسابهم على الله) أي إن الشارع عليه السلام إنما أمر بإجراء الأحكام على الظواهر وتفويض أمر البواطن إلى عالم

(6/561)


السرائر فيحاسبهم على ذلك (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة، وقد تقدم في باب إجراء أحكام الناس على ظواهرهم.
41077 - (وعن معاذ) هو ابن جبل الأنصاري (رضي الله عنه قال: بعثني) أي أرسلني (النبي إلى اليمن) أي أميراً على بعض أعماله (فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) لأنهم كانوا يهوداً (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) أي إلى الإقرار بذلك لساناً مع الصديق به جناناً، وقدمها لأنها الأساس لسائر الأعمال (فإن هم) فاعل محذوف دل على تعيينه قوله (أطاعوا لذلك) أي انقادوا له (فأعلمهم أن الله افترض) أي فرض. والتعبير بالافتعال إشارة إلى مزيد الاعتناء بذلك الفرض فينبغي مزاولته والاهتمام به (عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك) بالتصديق والعمل به (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة) هي زكاة الأموال والأبدان (تؤخذ) بالبناء للمفعول (من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم) في محل الصفة لصدقة أو الحال منه لتخصيصه بتقديم الظرف فهو كما في حديث «وصلى وراءه رجال قياماً» أو أنه مستأنف استئنافاً بيانياً كأنه قيل: ماذا يفعل بهذه الصدقة؟ فقال: تؤخذ الخ (فإن أطاعوا لذلك) بالانقياد والبذل (فإياك) منصوب على التحذير بعامل محذوف وجوباً (وكرائم) جمع كريمة: أي نفائس (أموالهم) بل خذ من الوسط من المال فلا تؤخذ من الخيار لئلا يجحف بالمالك، ولا من الأرداء لئلا يجحف بالفقراء (واتق) أي احذر (دعوة المظلوم) حذر من المرة من دعواته ليحذر من دعواته المتكررة بالأحرى، وعلل ذلك بقوله (فإنه) أي الشأن (ليس

(6/562)


بينها وبين الله حجاب) كناية عن سرعة إجابتها ونفوذ أثرها وقضيتها (متفق عليه) وسبق مشروحاً في باب تحريم الظلم.
51078 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إن بين الرجل) ذكر ليس للتخصيص فالمرأة مثله فيما يأتي (وبين) أعيدت تأكيداً (الشرك والكفر) من عطف العام على الخاص، فالشرك أن يعبد مع الله غيره من صنم أو نحوه، والكفر فعل ذلك وغيره من المكفرات (ترك الصلاة) اسم إن قدم عليه الخبر وهو الظرف لإفادة التخصيص والقصر الإضافي، إذ تقديم المعمول يفيد ذلك غالباً، فالصلاة هي الحد الفاصل بين وجهي الإسلام والكفر، فمن اتصف بصفة الإسلام وصلى فقد أوجد الحاجز بينه وبين الكفر فلا يتطرق إليه الاتصاف به، ومن اتصف بها ولم يصل لم يوجد حاجز بينه وبين الاتصاف بالكفر، إذ لا واسطة بين الوصفين عند أهل السنة، فهذا ما يظهر في تقرير هذا الحديث من أن الحاجز من الاتصاف بالكفر هو الصلاة، وأن تركها بمثابة هدم الحاجز الذي بينك وبين عدوك فيتمكن منك بمجرد هدمه، إذ يصح أن يقال بيني وبين لقاء عدوي هذا الحاجز، فكذا هنا يصح أن يقال بين الإسلام والاتصاف بالكفر هدم الحاجز المانع له منه وهو الصلاة وهدمها تركها، قاله في «فتح الإله» وقال: هو أظهر مما قال الطيبي وغيره لما في قولهم من تأويل الحديث من غير حاجة (رواه مسلم) .
61078 - (وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي قال: العهد الذي بيننا وبينهم) قال البيضاوي: الضمير للمنافقين، شبه الموجب لإبقائهم وحقن دماءهم بالعهد المقتضي بقاء المعاهد والكف عنه، والمعنى: أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم تشبيههم

(6/563)


بالمسلمين في حضور صلواتهم ولزوم جماعاتهم وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم وسائر الكفار سواء: وقال الطيبي: يمكن أن يقال الضمير عام فيمن بايع رسول الله على الإسلام مؤمناً كان أو منافقاً (الصلاة فمن تركها فقد كفر) لا يخفى ما فيه من تعظيم شأن الصلاة والحث على فعلها والحض على ملازمتها (رواه الترمذي) ورواه أحمد وابن ماجه والنسائي وابن حبان والحاكم في «المستدرك» كما في «الجامع الصغير» (وقال: حديث حسن صحيح) .
71080 - (وعن شقيق) بالمعجمة والقافين بوزن رفيق (ابن عبد الله التابعي) هو كما تقدم من اجتمع بالصحابي ولازمه مدة على الصحيح (المتفق على جلالته رحمه الله قال: كان أصحاب محمد) جمع صاحب بمعنى الصحابي، والمراد معظمهم للخلاف الآتي في ذلك (لا يرون) من الرأي (شيئاً من الأعمال) الظرف في محل الصفة لما قبله، وكذا قوله (تركه كفر) أو في محل المفعول الثاني ليرون (غير الصلاة) مستثنى من ضمير شيء المضاف إليه ترك أو صفة أخرى لشيئاً (رواه الترمذي في كتاب الإيمان) من «جامعه» (بإسناد صحيح) خالف ابن حجر الهيتمي فقال في «شرح المشكاة» : وسنده حسن، وقول المصنف في مثل هذا هو المقام.

إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام
واختلف العلماء في حكم هذه المسألة الوارد فيها هذه الأحاديث وأحاديث أخر بمضمونها أو قريب منه، فأخذ جماعة من الصحابة ومن بعدهم بظاهره من أن ترك إحدى

(6/564)


الخمس كسلاً كفر حقيقي فيرتب عليه أحكام الردة. وقال الأكثرون: ليس بكفر، وأولوه بحمله على المستحل لتركها إن لم يكن معذوراً بقرب عهد بإسلام أو بنشئه ببادية بعيدة عن العلماء، أو على أن تركها يؤدي إلى الكفر لأن المعاصي بريد الكفر، أو على الزجر والتغليظ ومن ثم قال الشافعي كبعض أئمة السلف من تركها كسلاً قتل مع الحكم بإسلامه. وقال الزهري وجماعة: يحبس ويضرب حتى يصلي، أو على كفر النعمة إذ حقيقة العبودية أن يخضع العبد لربه ويشكر نعماءه الظاهرة والباطنة، وحقيقة المتصف بالكفر أن يستنكف عن ذلك، ولا شك أن الصلاة رأس الشكر قوامه، فكأنه قيل الفرق بين المؤمن والكافر ترك أداء شكر المنعم الحقيقي، فمن أقامها فهو المؤمن الكامل ومن تركها فهو الكافر لنعم مولاه المقصر في شكرها.
81081 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله أي المتعلق بحق الله تعالى (صلاته فإن صلحت) بفتح اللام وذلك باستجماع مصححاتها وفقد مفسداتها (فقد أفلح وأنجح) أي فاز وظفر بمطلوبه (وإن فسدت) لفقد ركن أو شرط أو وجود ما يفسدها من قول أو عمل (فقد خاب) أي لم يظفر بما طلب (وخسر) أي هلك أو خسر في تجارته الأخروية فلم يربح الثواب المرتب على عملها لو كانت صحيحة (فإن انتقص) أي نقص (من فريضته شيئاً) أي غير مفسد تركه لها ويحتمل مطلقاً (قال الرب عزّ وجل) في التعبير بالرب إيماء إلى أن ما ذكر بعده من مظهر التربية لما فيه من الترقية من دنس الإخلال إلى شرف التكميل (انظروا) الخطاب والله أعلم للملائكة الموكلين به (هل لعبدي) في إضافته من التشريف ما يذهب التدنيس (من تطوع) أي من نافلة من الصلاة (فيكمل) بالبناء للمجهول (بها) أي بالنافلة (ما انتقص من الفريضة) فتعود كاملة بعد نقصها (ثم تكون سائر أعماله) من صوم وحج (على هذا) أي فيكمل نقص فرائضة منها بنقلها، ولا منافاة بين حديث الباب وحديث «أول ما يقضي فيه يوم القيامة بين العباد الدماء» الحديث، لأن ذلك بالنسبة لحق العباد وهذا بالنسبة لحق الله

(6/565)


تعالى: (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وفي «شرح المشكاة» : إنه حديث صحيح، ففيه حث على إتقان الفرائض والاهتمام بمصححاتها وترك مفسداتها، وحض على إكثار النوافل لتكون جابرة لخلل الفرائض الذي لا يخلو منها إلا الفذّ النادر.H

194 - باب فضل الصف الأول
هو الصف الذي يلي الإمام على الصحيح وإن تخلله نحو منبر أو مقصورة وإن تأخر أصحابه، وهو في المسجد الحرام من بحاشية محل الطواف دون من تقدم عليه إلى الكعبة، بل قرب المأموم إليها على الإمام في غير جبهته مكروه مفوت لفضل الجماعة كما في «التحفة» لابن حجر. وقيل الأول ما لم يتخلله شيء وإن تأخر أصحابه، وقيل هو من جاء أولاً وإن صلى في صف متأخر. قال المصنف في «شرح مسلم» : وهذان القولان غلط صريح: أي وإن جرى الغزالي على أولهما (والأمر بإتمام الصفوف الأول) أي لا يصف الثاني حتى يتم الأول والثالث حتى يتم الثاني وهكذا (وتسويتها) أي عدم تقدم بعض من بالصف على بعض (والتراص فيها) بحيث لا يكون فيها فرجة تسع مصلياً.
11082 - (عن جابر بن سمرة) بضم الميم كما تقدم (رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله فقال: ألا) بتخفيف اللام حرف استفتاح جيء بها لتنبيه السامع لما بعدها (تصفون) أي تسوون صفوفكم للصلاة (كما تصف الملائكة عند) قيامها لطاعة (ربها، فقلنا يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول) بضم

(6/566)


ففتح: أي لا يشرعون في صف حتى يكمل ما قبله، ومنه أخذ أصحابنا استحباب ذلك على التأكد فتكره مخالفته ويفوت بها ثواب الجماعة (ويتراصون) من التراص وهو الاجتماع والانتظام قال تعالى: {كأنهم بنيان مرصوص} (الصف: 4) (في الصف) أي بحيث لا يبقى بينهم فرجة وهذا أيضاً سنة متأكدة يترتب على تركها ما ذكر فيما قبله (رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي.
21083 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله: قال لو يعلم الناس) أي لو علموا (ما في النداء) أي الأذان (والصف الأول) أي من الثواب والشرف الذي يضيق نطاق العبارة عن بيانه كما يومىء إليه حذفه (ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا) أي يقترعوا (عليه) أي على ما ذكر لضيق الصف الأول عن جميعهم والوقت عن أذان كلهم (لاستهموا) لعظم فضلهما (متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب فضل الأذان.

31084 - (وعنه قال: قال رسول الله: خير صفوف الرجال أولها) لقربهم من الإمام واستماعهم قراءته ومشاهدتهم لأحواله وصلوات الله وملائكته عليهم كما جاء في الأحاديث، ويليه في ذلك ثانيها ثم ثالثها وهكذا، والصف الأول أفضل حتى بمكة والمدينة على الأصح عندنا، وذلك لجريان خلاف مشهور عندنا في بطلان صلاة الذين هم أقرب إلى الكعبة في غير جهة الإمام، ففي فضيلة الإتباع ما يزيد على المضاعفة الحاصلة للصف الثاني مثلاً الواقف في الروضة الشريفة، ومن ثم صرحوا بأفضلية النافلة في البيت عليها في مسجد مكة

(6/567)


والمدينة نظراً للاتباع وإن فاتت المضاعفة بناء على اختصاصها بالمسجد (وشرها آخرها) لحرمانهم ثواب تلك الفضائل الحاصلة لمن قبلهم، بل لوقوعهم في فتنة قربهم من النساء المؤدي إلى الاطلاع على بعض ما ينكشف منهن (وخير صفوف النساء آخرها) لبعده عن الرجال بعداً تنتفي معه الفتنة قطعا أو غالباً، ولامتثال أهله لما أمروا به من مزيد الستر والاحتجاب، ويليه في ذلك من قبله وهكذا (وشرها أولها) لقربه من الرجال المؤدي إلى الفتنة بهم والخير والشر في الصفين أمر نسبي باعتبار كثرة الثواب وقلته، وأيضاً فالتأخر عن الكمال مع القدرة عليه فيه غاية الهضم للقدر والتسفيه للرأي والتفنع بسفساف الأمور وعدم التطلع إلى معاليها، فلا يعد في تسميته شراً لذلك ولأنه يجر إليه كما يعلم مما يأتي في شرح قوله «ولا يزال قوم يتأخرون» الخ (رواه مسلم) ورواه أبو داود
والترمذي والنسائي.
41085 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله رأى في أصحابه تأخراً) أي في صفوف الصلاة أو في أخذ العلم (فقال لهم: تقدموا فائتموا) أي اقتدوا (بي وليأتم بكم من بعدكم) معناه على الأول: ليقف خلفي من غير تأخر كثير بأن لا يزيد ما بينهم وبينه على ثلاثة أذرع، وكذا ما بين كل صف، وما يليه أهل الفضل والصلاح ثم خلفهم من هو دونهم في ذلك وهكذا، ومعنى ائتمام كل صف بمن قبله أنه يتبعه في حركاته لأن من قبله أسرع علماً بانتقالات الإمام منه، وعلى الثاني ليتعلم كل منكم العلوم الظاهرة والباطنة مني وليتعلم التايعون منكم وهكذا قرناً بعد قرن إلى آخر الدهر (لا يزال قوم يتأخرون) أي عن اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل (حتى يؤخرهم الله) عن رحمته وعظيم ثوابه وفضله ورفيع منزلة أهل قربه حتى يكون عاقبة أمرهم النار كما جاء في رواية: (رواه مسلم) وفيه آكد حث على التسبق إلى معالي الأمور والأخلاق، وأبلغ زجر عن الميل إلى الدعة والرفاهية، وأبلغ تنبيه إلى أن ذلك يؤدي إلى تجرع غصص البعد والغضب، أعادنا الله من ذلك بمنه.

(6/568)


51086 - (وعن أبي مسعود) عقبة بن عامر البدري (رضي الله عنه قال: كان رسول الله يمسح مناكبنا في الصلاة) أي يسويها بيده الكريمة حتى لا يخرج بعض الصف عن بعضه (ويقول) أي حال تسوية المناكب كما هو الظاهر من السياق، ويحتمل كونها معطوفة على الجمثة الخيرية قبلها (استووا) في التصاف (ولا تختلفوا) بأن يتدم منكب بعضكم على منكب بعض (فتختلف) بالنصب لأنه في جواب النهي (قلوبكم) أي، أهويتها وإرادتها (ليلني) أي ليدن مني بحذف الياء وتخفيف النون كذا في جميع النسخ هنا، وفي إحدى رواياته بفتح الياء وتشديد النون على أنها للتوكيد كما تقدم في باب توفير العلماء والكبار، وبتخفيف النون مع الياء قيل وهي غلط لأن حقه لكونه أمراً باللام حذف الياء. وأجيب بأن عدم حذف الجازم لحرف العلة لغة صحيحة. قلت: هذا إن كانت الياء ساكنة، فإن كانت مفتوحة والنون للتأكيد خفيفة فلا يحتاج لجواب كما كان مع الثقيلة (منكم أولو الأحلام) جمع حلم بالكسر كأنه من الحلم وهو الأناة والتثبت في الأمر وذلك من شعار العقلاء (والنهي) بضم ففتح جمع نهية بالضم وهو العقل لأنه ينهي صاحبه عن القبائح، هذا ما جرى عليه المصنف في غير «شرح مسلم» وقال فيه: النهي العقول، وأولوا الأحلام هم العقلاء، وقيل البالغون، فعلى الأول اللفظان بمعنى، ولاختلافهما لفظاً عطف أحدهما على الآخر تأكيداً وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء اهـ. وفي «المجموع» : أولوا الأحلام معناه البالغون العقلاء الكاملون في الفضيلة، وقد نقل المصنف بعض هذا الخلاف في الباب المذكور آنفاً (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين، المراهق وغيره سواء (ثم الذين يلونهم) وهو الخناثى ويصح أن يراد بهم النساء وذكرهم على وزن ما قبله (رواه مسلم) .
61087 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: سووا صفوفكم) بترك تقدم بعض على آخر فيها، قال الشيخ تقي الدين القشيري: تسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد، وقد تدل تسويتها أيضاً على سدّ الفرج فيها بناء على التسوية المعنوية،

(6/569)


واتفقوا على أن المراد تسويتها بالمعنى الأول، وأن الثاني أمر مطلوب أيضاً (فإن تسوية الصف) المراد به الجنس بدليل رواية الصوف بصيغة الجمع الآتية (من إقامة الصلاة) وفي رواية «من تمام الصلاة» وفي رواية «من حسن الصلاة» (متفق عليه) .
(وفي رواية للبخاري) أي عن أنس أيضاً (فإن تسوية الصفوف) أي بصيغة الجمع (من إقامة الصلاة) وفي «الجامع الصغير» بعد إيراده كذلك رواه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه. قال ابن رسلان: في هذا رد على من قال المفرد المحلى بأل لا يعم، ووجهه أنه أضاف. الصفوف بصيغة الجمع فعمت ثم أفردها فلو لم يكن للعموم لتناقض بالعموم في الأول والخصوص في الثاني.
71088 - (وعنه قال: أقيمت الصلاة) وفي رواية ذكرها في «المشكاة» الصفوف (فأقبل علينا رضي الله عنه بوجهه) تأكيداً إذ الإقبال لا يكون إلا به (فقال: أقيموا صفوفكم) أي داوموا على إقامتها واعتنوا بها لعظم جدواها وشرف غايتها، هذا إن كان صدر منه بعد تمام الإقامة وإن كان قبلها فمعناه اجعلوها كذلك (وتراصوا) أي تلاصقوا بالمناكب حتى لا يكون بينكم فرجة (فإني أراكم من وراء ظهري) أي حقيقة فأعلم ما يقع منكم ثم الرؤية قيل بعينه معجزة له، وقيل بغير ذلك مما يأتي (رواه البخاري بلفظه) المذكور (ورواه مسلم بمعناه) ولفظه «أتموا الصفوف فإني أراكم من وراء ظهري» ولا ينافي هذا الحديث حديث «لا أعلم ما وراء جداري» لأن هذا خاص بحالة الصلاة، لأنه لما حصل له فيها قرة العين بما أفيض عليه فيها من غايات القرب المختص بها التي لا يوازيه فيها غيره صار بدنه الشريف كالمرآة الصافية التي لا تحجب ما وراءها، وقل كان له بين جنبيه عينان كسم الخياط لا تحجبهما الثياب (وفي رواية للبخاري) من حديث أنس أيضاً (وكان أحدنا يلزق منكبه) بفتح الميم وكسر الكاف: هو مجتمع رأس العضد والكتف (بمنكب صاحبه

(6/570)


وقدمه بقدمه) مبالغة في التراص الذي أمروا به. وعند البخاري أيضاً: قال النعمان بن بشير «رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه» .
81089 - (وعن النعمان بن بشير) الأنصاري (رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: لتسوّن) بصيغة المبني للفاعل وحذف الواو الفاعل لملاقاتها ساكنة مع النون المدغمة ودلالة الضمة عليها (صفوفكم) أي بعدم تقدم بعض من فيها على بعض وعدم الانتقال إلى الثاني حتى يكمل الأول (أو) للتنويع (ليخالفنّ الله بين وجوهكم) أي ليكونن أحد الأمرين تسوية الصفوف أو مخالفة الوجوه بتحويلها إلى أدباركم، أو بمسخها على صورة بعض الحيوان أو وجوه قلوبكم الخبر أبي مسعود السابق «فتختلف قلوبكم» أي أهويتها وإرادتها، وحينئذ تثور الفتن وتختلف الكلمة وتنحل شوكة الإسلام والمسلمين فيتسلط العدو ويفشو المنكر وتقل العبادات في ذلك من المفاسد ما لا يحصى (متفق عليه) .
(وفي رواية لمسلم) أي عن النعمان أيضاً (أن رسول الله كان يسوي صفوفنا حتى) غاية التسوية (كأنما يسوي بها القداح) جمع قدح بكسر فسكون وهو السهم قبل أن يراش ويركب نصله، وعكس فيه التشبيه إذ الظاهر كأنما يسويها بالقداح مبالغة في استوائها، لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد نهاية الاستواء، وجمع في مقابلة الصفوف: أي يسوى كل صف بقدح (حتى رأى أنا قد عقلنا عنه) أي لم يبرح يسويها حتى استوينا فيها الاستواء الذي أراده منا وفهمناه من قوله وفعله (ثم خرج يوماً فقام حتى كاد) أي قارب (يكبر) أي للإحرام (فأي رجلاً بادياً) أي ظاهراً (صدره من الصف) لخروجه عن مساواة من فيه،

(6/571)


وبادياً صفة رجل ورجل مفعول رأي البصرية (فقال: عباد الله) لم ينهه بخصوصه جريا على عادته الكريمة مبالغة في الستر (لتسوّن صفوفكم) اللام هي مؤذنة بالقسم المقدر ولذا أكد الفعل بالنون (أو ليخالفن الله بين وجوهكم) أي والله ليكونن أحد الأمرين، فيه من التوبيخ والتهديد الغاية، وفيه آكد حث على تسوية الصفوف وأبلغ زجر عن ترك تسويتها لما يترتب عليه من المخالفة المتقدم معناها والخلاف فيه.
91090 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يتخلل الصف) أي يذهب خلله نحو يتأثم ويتحنث: أي يتحرج من الوقوع في الإثم والحنث (من ناحية إلى ناحية) أي يستوعبه من سائر أطرافه (يمسح صدورنا ومناكبنا) بيده الكريمة حتى لا يخرج بعضها عن بعض (ويقول لا تختلفوا) بالتقدم والتأخر في الصف (فتختلف قلوبكم) أي أهويتها المؤدي إلى ما لا يحصى من المفاسد (وكان يقول) حثاً على تكميل الصفوف والمبادرة إلى الأقرب منها للإمام (إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول) بضم ففتح: أي بأن يكونوا في غير الأخير، وتسمية ما بين الصف الأول وهو الذي يلي الإمام والأخير صفوفاً أول مجاز لأنها كذلك بالنظر للأخير. ففيه تأكيد إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا، فالصفوف الأول خير الصفوف للرجال وعكسه للنساء كما تقدم في حديث أبي هريرة (رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» ورواه النسائي أيضاً فيها (بإسناد حسن) فرواه أبو داود عن هناد وأبي عاصم أحمد بن خواس الحنفي كلاهما عن أبي الأحوص عن منصور عن طلحة بن مطرف عن عبد الرحمن بن عويجة الهنمي، ويقال الهمداني، ويقال الهمداني الكوفي، ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي الأحوص بالسند المذكور، كذا في «أطراف» المزي.

(6/572)


101091 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: أقيموا الصفوف) بتسويتها كما جاء في رواية بلفظ: سووا الصفوف (وحاذوا بين المناكب) وذلك إنما يكون عند مساواة كل للغير في المسامنة في الصف (وسدوا الخلل) أي الفرج التي في الصفوف وذلك بأن تتراصوا حتى لا يبقى فيها فرجة ولا سعة، والفرق بينهما أن الفرجة خلاء ظاهر، والسعة أن يكونوا بحيث لو دل بينهم آخر لوسعه من غير مشقة تحصل لأحد (ولينوا بأيدي إخوانكم) أي إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم حتى يستوي الصف لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، ويصح أن يراد: لينوا بيد من يجركم من الصف: أي وافقوه ليزيلوا عنه وصمة الانفراد المبطلة للصلاة عند بعض (ولا تذروا فرجات) بضمتين أو بضم فسكون جمع فرجة (للشيطان) أضيفت إليه لأنها محل تردده للإغواء (ومن وصل صفا وصله الله) أي بإدرار أصناف رحمته وإغداق هوامع نعمته والجملة مستأنفة (ومن قطع صفاً قطعه الله) أي عن مواسم الخيرات وحقائق المبرات. وفيه أبلغ حث على وصل الصفوف بسد فروجها وتكميلها بأن لا يشرع في صف حتى يكمل ما قبله، وأبلغ زجر عن قطعها بأن يقف في صف وبين يديه صف آخر ناقص أو فيه فرجة، ومن تأمل بركة دعائه للواصل وخطر دعائه المقبول الذي لا يرد على القاطع وكان عنده أدنى ذرة من الإيمان بادر إلى الوصل وفر عن القطع ما أمكنه (رواه أبو داود) ورواه أحمد والطبراني كما في «الجامع الصغير» (بإسناد صحيح) ورواه أحمد أيضاً كما في «المشكاة» بلفظ «سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم ولينوا في أيدي إخوانكم وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل بينكم بمنزلة الحذف» يعني بمنزلة أولاد الضأن الصغار، وعدم تعقيبه الحكم بصحة الإسناد بوصف المتن بما يخالف ذلك يشعر بصحة الحديث عنده على القاعدة في مثله.
111092 - (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: رصوا صفوفكم) أي حتى

(6/573)


لا يبقى فيها فرجة ولا خلل (وقاربوا بينها) بأن يكون ما بين كل صفين ثلاثة أذرع تقريباً، فإن بعد صف عما قبله أكثر من ذلك كره لهم وفاتهم فضيلة الجماعة حيث لا عذر من حر أو برد شديد وهذا في غير النساء، أما هن فيسن لهن التأخر عن الرجال كثيراً (وحاذوا بالأعناق) ينبغي تفسيره بالمحاذاة بالمناكب التي سبق الأمر بها قولاً وفعلاً، إذ يلزم في المحاذاة بالأعناق بأن لا يتقدم عنق أحدهم ولا يتأخر المحاذاة بالمناكب (فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصفوف) أي فرجها أو تباعدها عن بعضها بأكثر مما مرّ (كأنها الحذف) ببه بهذا الإقسام العظيم على تأكيد التراص والتقارب لعظم فائدتهما وهي منع دخول الشيطان بينهم المستلزم لتسلطه وإغوائه ووسوسته حتى يفسد عليهم صلاتهم وخشوعهم الذي هو روح الصلاة وعود بركة ما فيها من الأنفاس الطاهرة على البقية، ولا مذهب للشيطان وكيده أعظم من الذكر الصادر من القلب الصالح ثم تأنيث ضمير كأنها الراجع إلى الشيطان صحيح لأنه اسم جنس بمعنى الشياطين فيجوز تذكير ضميره رعاية للفظه كما ورد به أيضاً وتأنيثه رعاية لمعناه وفيه أوجه أخر هذا أحسنها (حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح) فرواه عن مسلم بن إبراهيم عن أبان، عن قتادة، عن أنس (على شرط مسلم) أي برجال روى مسلم حديثهم في الصحيح، وإلا فليس لأحد من الشيخين شرط منصوص عليه في كتابيهما المذكورين، ورواه النسائي في الصلاة أيضاً من «سننه» عن محمد بن عبد الله بن المبارك عن أبي هشام المخزومي عن قتادة.
(الحذف بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين ثم فاء: وهي غنم سود صغار تكون باليمن) أو بالحجاز واحده حذفة بالتحريك سميت بذلك لأنها محذوفة عن مقدار غالب جنسها، وتقدم تفسيرها في حديث أحمد مرفوعاً بنحوه.
121093 - (وعنه أن رسول الله قال: أتموا الصف المقدم) أي الأول وذلك بسد فرجه

(6/574)


حتى لا يبقى منها ما يسع واحداً (ثم) أي بعد تمام الأول أتموا الصف (الذي يليه) وهو الثاني وهكذا (فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر) أي الأخير (رواه أبو داود) في الصلاة من سننه (بإسناد حسن) فرواه عن محمد بن سليمان الأنباري عن عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس، ومن هذا الحديث الصريح في إتمام الصف الأول والثاني أخذ أصحابنا قولهم يسن إتمام الصف الأول ثم الذي يليه حتى لا يبقى نقص في غير الأخير، وفيه أن من وقف قبل إتمام ما قبله كان مقصراً تاركاً للسنة فيفوته فضل الجماعة.
131094 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) أي الصفوف التي في ميمنة الإمام، ومنه أخذ أئمتنا أفضلية الوقوف عن يمين الإمام ولو تعارض مع القرب من الإمام ما استوجهه أئمتنا، والمراد أنه يسن إذا وصل المأموم المسجد ووجد الناس متوسطين الإمام ووجد فرجة على يمينه وأخرى عن يساره أن يسد فرجة اليمين، فلا يلزم من تفضيل التيامن فوات سنة توسيط الإمام المطلوب أيضاً، ومحل طلب التيامن إذا كانت جهته تسع جميع الجاءين وإلا سن التسابق إليها والباقون يصلون في اليسرى، كما أن السنة إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا (رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم) فرواه عن عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة (وفيه رجل مختلف في توثيقه) هو معاوية بن هشام، قال في «الكاشف» : قال ابن معين: معاوية بن هشام صالح وليس بذاك في «التهذيب» للذهبي: وقال فيه أبو داود إنه ثقة، وقال يعقوب ابن أبي شيبة: كان من أعلمهم بحديث شريك هو إسحاق الأزراق اهـ.
e قال المصنف في «الخلاصة» : وفيه رجل

(6/575)


مختلف فيه، وصححه أبو القاسم الطبراني، وأشار البيهقي إلى تضعيفه والمختار تصحيحه فلم يذكر ما يقتضي ضعفاً اهـ. وعبارة البيهقي التي أشار إليها في «الخلاصة» هي قوله بعد إيراد الحديث باللفظ المذكور لك المحفوظ بهذا الإسناد عن النبيّ «إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف» ثم ذكر له طرقاً متنها كما ذكره ثم قال: قال الطبراني: كلاهما صحيحان، قال البيهقي: يعني الإسنادين، أما المتن الأول فإن معاوية بن هشام انفرد به، ولا أراه محفوظاً فقد رواه عبد الله بن وهب وغيره عن أمامة نحو رواية الجماعة «يصلون على الذين يصلون الصفوف» اهـ. وكأن وجه عدم تضعيف ذلك الحدث المذكور أنه لا يلزم من روايتهم بهذا الإسناد ذلك المتن أن لا يروي به غيره متناً آخر،
والسكوت عن الشيء لا ينقيها والله أعلم. قال في «الجامع الصغير» : والحديث رواه ابن حبان في «صحيحه» وأبو نعيم في «حليته» أيضاً، والحديث رواه ابن ماجه بهذا الإسناد.
141095 - (وعن البراء رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا خلف النبيّ) فيه الإيماء إلى ندب تأخر المأموم عن الإمام وإن كانت المساواة له في الموقف لا تبطل الصلاة (أحببنا أن نكون عن يمينه) أي واقفين بجهة يمناه، وعلل حبهم ذلك على طريق الاستئناف البياني بقوله (يقبل علينا بوجهه) ولا مخالفة بين هذا الحديث وحديث ابن ماجه «من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر» لاختلاف زمنهما كما قال المحدثون، وذلك أنه لما حث على التيامن عمرت جهة اليمين وازدحموا عليها فتعطلت الميسرة فقال ذلك، ذكره الدميري في «الديباجة» (فسمعته يقول) خضوعاً لربه وتعظيماً لأمته (رب قنى عذابك يوم تبعث، أو) شك من الراوي (تجمع عبادك) والمراد منه عليهما يوم القيامة وطلب الوقاية من عذابه لأنه أشد العذاب وأعظمه (رواه مسلم) ورواه ابن ماجه أيضاً مقتصراً على قوله تبعت من غير شك.

151096 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: وسطوا الإمام) أي

(6/576)


اجعلوا موقفه وسط المصلى ليقف المأموم عن يمينه وعن يساره، وما دل عليه صدر هذا الحديث مزيد على الترجمة، ولا عيب في ذلك إنما المعيب خلوّ الباب عن بعض ما في الترجمة (وسدوا الخلل) بأن لا يبقى ثمة ما يسع مصلياً سداً لمداخل الشيطان كما تقدم (رواه أبو داود) وقد رمز السيوطي في «جامعه الصغير» عليه برمز الحسن.
151096 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: وسطوا الإمام) أي اجعلوا موقفه وسط المصلى ليقف المأموم عن يمينه وعن يساره، وما دل عليه صدر هذا الحديث مزيد على الترجمة، ولا عيب في ذلك إنما المعيب خلوّ الباب عن بعض ما في الترجمة (وسدوا الخلل) بأن لا يبقى ثمة ما يسع مصلياً سداً لمداخل الشيطان كما تقدم (رواه أبو داود) وقد رمز السيوطي في «جامعه الصغير» عليه برمز الحسن.

195 - باب فضل السنن الراتبة مع الفرائض
التابعة لها قبلية أو بعدية (وبيان أقلها) عدداً (وأكملها) أي عدداً أيضاً أو ثواباً (وما بينهما) أي من المرتبتين من المرتبة الوسطى عدداً أو فضلاً.
11097 - (وعن أم المؤمنين أم حبيبة) بفتح المهملة وكسر الموحدة الأولى وسكون التحتية بينهما (رملة) بفتح الراء وسكون الميم، هذا قول الأكثرين وهو الأصح المشهور، وقيل اسمها هند (بنت أبي سفيان) صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشية الأموية المكية، ثم الحبشية، ثم المدنية (رضي الله عنهما) بضمير المثنى كما في نسخة وهو الأولى لأنها صحابية بنت صحابي، وفي أخرى بضمير الواحدة كنيت بابنتها حبيبة بنت عبيد الله ابن جحش، كانت من السابقات إلى الإسلام هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبيشة فتوفي عنها، فتزوزجها رسول الله وهي هناك سنة ست من الهجرة، وقيل سنة سبع، وتوفيت سنة أربع وأربعين، وقيل قبل معاوية بسنة واستغرب، والصحيح أنها ماتت بالمدينة قال ابن منده: سنة اثنتين وأربعين، وقيل سنة أربع وأربعين، وكان النجاشي أمهرها أربعة آلاف درهم وبعثها إلى النبي مع شرحبيل بن حسنة، وقال أبو نعيم: أمهرها النجاشي أربعمائة دينار، وقيل غير ذلك، وقدمت المدينة ولها بضع وثلاثون سنة اهـ ملخصاً من «التهذيب» . روى لها عن رسول الله خمسة وستون حديثاً، رويا في «الصحيحين» أربعة منها، اتفقا على اثنين، وانفرد مسلم باثنين (قالت: سمعت رسول الله يقول: ما من

(6/577)


عبد مسلم يصلي لله تعالى) أي مخلصاً لذاته (كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة) صفة مؤكدة للتطوع، وهو لغة الزيادة، وشرعاً ما عدا الفرائض (إلا بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة أو) شك من الراوي (إلا بنى) بالبناء للمجهول وسكت عن ذكر الفاعل للعلم به (له بيت في الجنة) وهذا الحديث بعمومه يعطي أن الوعيد المرتب فيه على صلاة ما ذكر شامل للرواتب وغيرها من الضحا وصلاة الإشراق وغيرهما، فإيراد المصنف له في هذا الباب لأن الرواتب من جملة ما رتب عليه هذا الوعد (رواه مسلم) .
21098 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر ركعتين بعدها) والركعتان القبليتان والركعتان والبعديتان للظهر من سننه المؤكدة، ويسن أيضاً ركعتان قبل وركعتان أخريان بعد إلا أنهما ليستا مؤكدتين، والمفعول من السنن للظهر هو المفعول للجمعة يومها، فالاقتصار على قوله (وركعتين بعد الجمعة) باعتبار ما فعله ابن عمر مع رسول الله وعاينه (وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء) وفي «الصحيحين» عنه بزيادة في بيته: أي صليت معه ما ذكر في بيته وهو موافق للخبر الصحيح «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» وسكت عن ركعتي الصبح لما جاء عنه في الصحيح حدثتني حفصة «أن النبي كان يركع ركعتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي فيها» والله أعلم. فالسنن المؤكدة عشر: ركعتا الفجر وثنتان قبل الظهر وأخريان بعده وركعتان بعد كل من المغرب والعشاء (متفق عليه) .

(6/578)


31099 - (وعن عبد الله بن مغفل) بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المحافظة على السنة وفي باب فضل الزهد أيضاً (قال: قال رسول الله: بين كل أذانين) فيه تغليب الأذان لشرفه على الإقامة (صلاة) مطلوبة وأكد هذا الأمر بتكريره بقوله (بين كل أذانين صلاة) والتكرير عناية بالمقام وحث على فعل ذلك بينهما، وعموم قوله صلاة متناول للركعة، لكن اتفق الفقهاء على أن المراد ركعتان، ويزداد كل من الظهر والعصر ركعتين أيضاً (قال) أي النبي (في المرة الثالثة) من تكريراته (لمن شاء) أي طلبه ذلك بينهما ليس على سبيل الجزم والتحتم بل على سبيل الندب والاستحباب ووكل ذلك لخيرة المكلف، فإن أراد الاستكثار من الثواب وزيادة الدرجات في الجنة جاء بذلك، وإن تركه فلا إثم عليه، نعم قال أصحابنا: مداومة ترك الرواتب مسقط للشهادة (متفق عليه) وفي «الجامع الصغير» بعد إيراده من غير تكرير، ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة كلهم من حديث ابن مغفل، ورواه البزار من حديث بريدة بزيادة إلا المغرب (المراد بالأذانين الأذان والإقامة) .

196 - باب تأكيد ركعتي سنة الصبح
أي ما جاء مما يدل على تأكدهما من فعله وقوله.
11100 - (عن عائشة رضي الله عنها أن النبي: كان لا يدع) أي لا يترك لاهتمامه بها (أربعاً قبل الظهر) والأفضل فعل كل ركعتين بتسليمة وهذا يقتضي تأكيد أربع قبل الظهر، والمعروف في كتب الفقه أن المؤكد منها اثنتان، وكأنه لحديث آخر ورد بذلك فيه تخفيفاً لأمر

(6/579)


الثنتين بتركهما أحياناً وهذا بحسب ما رأته عائشة مما كان يفعله بمنزلها في نوبتها (وركعتين قبل الغداة) أي الصبح (رواه البخاري) .
21101 - (وعنها قالت: لم يكن النبي على شيء من النوافل أشد) خبر يكن، ويجوز خلاف ذلك، قاله في «فتح الإله» (تعاهداً) قال في «فتح الباري» : وفي رواية معاهدة والمعنى تفقداً، يقال تعاهده وتعهده واعتهده: أي تفقده وأحدث به وهو تمييز عامله أفعل التفضيل (منه على ركعتي الفجر متفق عليه) وأخرجه أبو داود والنسائي والترمذي في رواية لأبي داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله «لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل» .
31102 - (وعنها عن النبي قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) أي من الجمادات ونحوها، وخير أفعل تفضيل إن قوبلت بما فيه خير كالذكر، وبمعنى أصل الفعل إن قوبلت بما لا خير فيه من أعراض الدنيا وزهرتها (رواه مسلم. وفي رواية لهما) أي ركعتا الفجر (أحب إليّ) ويلزم منه كونهما أحب إلى الله تعالى لأن لا يحب إلا ما أحبه مولاه (من الدنيا جميعاً) وفي النسائي «ركعتان قبل الفجر خير من الدنيا جميعاً» .
41103 - (وعن أبي عبد الله) ويقال أبو عبد الكريم ويقال أبو عبد الرحمن ويقال أبو

(6/580)


عبيد (بلال) بكسر الموحدة (ابن رباح) بفتح الراء الموحدة آخره مهملة الحبشي التيمي مولى أبي بكر الصديق وأمه حمامة رضي الله عنها مولاة لبني جمح (رضي الله عنه مؤذن رسول الله) أي أحد مؤذنيه وعدتهم ستأتي في كتاب الصوم، كان بلال قديم الإسلام والهجرة، شهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله، وكان ممن يعذب في الله فيصبر على العذاب، وكان أمية بن خلف يعذبه ويتابع عليه العذاب فقدر الله أن بلالاً قتله ببدر، وكان بلال أول من أسلم أوّل النبوّة ومن أول من أظهر إسلامه وكانوا يطوفون به ويعذبونه وكان من مولدي مكة وقيل من مولد السراة، اشتراه أبو بكر بخمس أواقي ذهب وقيل سبع وقيل تسع وأعتقه لله وآخى رسول الله بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، وكان بلال يؤذن لرسول الله حياته سفراً وحضراً، وهو أول من أذن في الإسلام، ولما توفي رسول الله ذهب للشام للجهاد فأقام بها إلى أن مات وقيل أذن لأبي بكر مدته وأذن لعمر مرّة حين قدم الشام فلم يُرباك أكثر من ذلك اليوم وأذن في قدومه إلى المدينة لزيارة قبره طلب ذلك منه بعض الصحابة فأخذ ولم يتم، روى عنه جماعات من الصحابة منهم الصديق وعمر وعليّ. وكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا وفضائله مشهورة، توفي بدمشق سنة عشرين وقيل إحدى وعشرين وقيل ثمانية عشر وهو ابن أربع وستين سنة وقيل غير ذلك، ودفن بباب الصغير من دمشق وقبل غير ذلك. قال ابن السمعاني: والقول بأنه دفن بالمدينة غلط. والصحيح أنه بباب الصغير، انتهى ملخصاً من «التهذيب» للمصنف. روي له أربعة وأربعون حديثاً. وقال البرقي جاء عنه خمسة أحاديث، اتفق الشيخان على حديث منها وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بحديث (إنه أتى رسول الله ليؤذنه) أي يعلمه (بصلاة الغداة) أي الصبح، وعند الطبراني في «معجمه الأوسط» عن بلال «أنه كان يقول
عند إعلامه: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته رحمك الله» وعنده في «معجمه الكبير» عن قتادة «أن عثمان كان إذا جاءه المؤذن يؤذنه بالصلاة قال مرحباً بالقائلين عدلاً وبالصلاة مرحباً وأهلاً» وقتادة لم يسمع من عثمان (فشغلت) بفتح حر في الفعل المعجمين وما وبالصلاة مرحباً وأهلاً» وقتادة لم يسمع من عثمان (فشغلت) بفتح حر في الفعل المعجمين وما بعدها والتاء للتأنيث ساكنة (عائشة) رضي الله عنها (بلالاً بأمر سألته عنه) فيه جواز حديث المرأة لعتيق أبيها وسؤالها إياه عما تحتاج إليه وطول الحديث معه وإن كان جاء في حاجة لزوجها وتعظيمه لحرمتها في عدم إنكاره عليها وإعلامها أنها شغلته

(6/581)


ما جاء بسببه وأن المصلين ينتظرون حضور رسول الله ليصلي بهم (حتى أصبح) أي دخل في الصبح (جداً) بكسر الجيم (فقام بلال فآذنه) بالمد: أي أعلمه (بالصلاة وتابع) بالمثناة فالموحدة بينهما ألف: أي وإلى وكرر (أذانه) أي إعلامه بأن أتبع بعضه بعضاً وذلك لما رأى من الإصباح (فلم يخرج رسول الله) أي إليه (فلما خرج) أي بعد ذلك (صلى بالناس) واعتذر إليه بلال (فأخبره) أن سبب تأخره بالأذان (أن عائشة شغلته بأمر سألته عنه حتى أصبح جداً وإنه) أي النبيّ (أبطأ عليه) أي على بلال (بالخروج) حتى تابع أذانه (فقال) وقوله (يعني النبي) من المصنف تعيين لمرجع الصمير الستكنّ في الفعل (إني كنت ركعت ركعتي الفجر) جوز ابن رسلان أن يريد بهما فرضه وأن يريد بهما سنته، ثم قال: ولعل الأخير أصوب. قلت: وهو الذي يدل له صنيع المؤلف (فقال يا رسول الله إنك أصبحت جداً) أي وذلك مقتض للاهتمام بأمر الفريضة وترك النافلة (قال) أي النبي له (لو أصبحت أكثر مما أصبحت) أي ولم أكن ركعتهما (لركعتهما وأحسنتهما) بالإتيان بالسنن والهيئات (وأجملتهما) بالآداب والتطوعات. وفيه أن من ترك فعل الصلاة أول وقتها لغير عذر شرعي بل لنحو بيع أو شراء أن يأتي بها فيه زائدة عما كان يصليها
أوله من القراءة والتسبيح والدعاء والطمأنينة والخشوع ما بقي الوقت ويكون فيها خجلاً مستحيياً معترفاً بالتقصير لتأخير الصلاة عن أول وقتها وحرمانه فضيلته لذنب صدر منه ويتصدق ويعتق كما كان يفعل السلف. قال ابن رسلان: وهذا شأن ذوي القلوب اليقظة والناس اليوم عملهم بخلاف ذلك فإنهم يؤخرونها اشتغالاً بأمر دنياهم عن أول الوقت ثم يفعلونها آخره مقتصرين على الفرض دون السنة وينقصون عما كانوا يعتادون من القراءة إذا صلوها أوله ويتركون الأذكار والطمأنينة كما جاء في صلاة المنافق «ينقر فيها أربع نقرات لا يذكر الله إلا قليلاً» انتهى ملخصاً (رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» (بإسناد حسن) فرواه عن أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة وهو عبد القدوس ابن الحجاج الحمصي الخولاني عن عبد الله بن العلاء عن أبي زياد عبيد الله بن زياد الكندي عن بلال.

(6/582)


197 - باب تخفيف ركعتي الفجر
أي قراءة وأركاناً بأن يقتصر من الوارد فيهما على المجزىء في كل منهما مسارعة لأداء الفرض (وبيان ما يقرأ فيهما، وبيان وقتهما) إعادة بيان لمزيد البيان.
11104 - (عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يصلي ركعتين، خفيفتين) أي وذلك بتخفيفه أركانهما باقتصار على المجزىء منها، وهذا بيان مستند الأول، من الترجمة (بين النداء) أي الأذان (والإقامة من) سببية (صلاة الصبح) أي بسببها أو ابتدائية وهذا بيان لوقتها (متفق عليه. وفي رواية لهما) أي الشيخين من حديث عائشة بلفظ (يصلي ركعتي الفجر) أي السنة بدليل قوله (فيخففهما) لأنه كان شأنه إطالة ركعتي فرضه (حتى أقول) وفي البخاري ومسلم «حتى إني أقول» أي من شدة تخفيفهما (هل قرأ فيهما بأم القرآن) أي حتى أتردد في إتيانه بالفاتحة وليست شاكة في قراءته لها، بل إنه لما بالغ في تخفيفها جداً وعادته تطويل النفل جعلته مبالغة كأنه لم يقرأ، وسميت أمّ القرآن لاشتمالها على معاني القرآن: المبدأ: وهو الثناء على الله تعالى، والمعاش، وهو العبادة، والمعاد: وهو الجزاء (وفي رواية لمسلم) أي أنفرد بها عن البخاري من حديثها أيضاً (كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان) أي انفرد بها عن البخاري من حديثها أيضاً (كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان) أي بعد تمامه لأنه حال الأذان مشغول بإجابته (ويخففهما) مسارعة لأداء الفرض الذي كان يطيل قراءته فيه (وفي رواية) أي عنها (إذا طلع الفجر) أي بدل قوله إذا سمع الأذان والمآل واحد لأن وقت الأذان وقت طلوعه فأفادت هذه الرواية مبادرته بهما وإسراعه لأدائهما اعتناء بشأنهما.

(6/583)


21105 - (وعن حفصة رضي الله عنها أن رسول الله: كان إذا أذن المؤذن للصبح وبدأ الصبح) جملة حالية بتقدير قد، وهي لدفع توهم فعلهما عقب الأذان الأول المشروع قبل دخول وقته، والمراد من الصبح الفجر الصادق وهو الذي يطلع معترضاً في الأفق (صلى ركعتين خفيفتين، متفق عليه) .
(وفي رواية لمسلم) أي من حديثهما (كان رسول الله إذا طلع الفجر) أي تحقق طلوع الفجر الصادق (لا يصلى) من النوافل (إلا ركعتين خفيفتين) وذلك ليتسع الوقت للفريضة.
31106 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي يصلي من الليل) أي فيه أو يتهجد بعضه، وفيه إيماء إلى أنه لم يقم طول الليل، وأن السنة نوم بعضه أداء لحق البدن والنفس وقيام بعضه أداء لحق الله تعالى (مثنى مثنى) بلا تنوين وتكريره للتأكيد ومنع صرفه للعدل والوصف. قال في «الكشاف» : لتكرر العدل أي ركعتين ركعتين ومن ثم كان الأفضل في صلاة الليل فعلها كذلك (ويوتر بركعة) في آخر جزء (من آخر الليل) فيه أن أقل الوتر ركعة وأنها مفصولة عما قبلها بالتسليم وبه قال الأئمة الثلاثة خلافاً لأبي حنيفة (ويصلي الركعتين) أي سنة الفجر (قبل صلاة الغداة) أي الصبح، ففيه أنها سنة قبلية (وكأن) بالهمز وتشديد النون (الأذان بأذنيه) أي لقرب صلاته من الأذان قال في «فتح الباري» : والمراد بها

(6/584)


هنا الإقامة. والمعنى أنه كان يسرع ركعتي الفجر إسراع من يسمع إقامة الصلاة خشية فوات أول الوقت (متفق عليه) أخرجه البخاري في الوتر ومسلم في الصلاة، ورواه أيضاً فيها الترمذي. وقال حسن صحيح، ورواه ابن ماجه مختصراً فقال «كان يصلي الركعتين قبل الغداة» كأن الأذان بإذنه وقال في موضع آخر منه «وكان يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة» .
41107 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله كان يقرأ) وفي رواية أبي داود عن ابن عباس أيضاً «أنه كثيراً ما كان يقرأ» (في ركعتي الفجر) وأبدل منهما بدل مفصل من مجمل على اعتبار سبق العطف على الإبدال وأعاد العامل فقال (في الأولى منهما) أي الركعتين (قولوا آمناً بالله وما أنزل إلينا الآية) بالنصب: أي أتم الآية وبالرفع: أي هي الآية (التي في) سورة (البقرة) واحترز بذلك عن الآية التي في سورة آل عمران وهي: {قل آمناً بالله وما أنزل إلينا} () الآية (وفي الآخرة منهما آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) كذا في نسخ «الرياض» مثل ما في «صحيح مسلم» ، والمراد كما قال ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» أنه يبدأ في الركعة الأولى بقوله «قولوا آمناً بالله» وفي الثانية بقوله «آمناً» ويختم فيهما بقوله «ونحن له مسلمون» كذا قال في شرح حديث أبي داود ولفظه كلفظ هذه الرواية، وما حمله عليه تصحيف العبارة لأن آخر آية {آمناً بالله} التي في آل عمران كآخر آية {آمنا بالله} التي في البقرة، وهو قوله {ونحن له مسلمون} وأما {واشهد بأنا مسلمون} فهو آخر آية أخرى في آل عمران هي قوله: {تعالوا إلى كلمة} (آل عمران: 64) الآية الآتية في الرواية بعده، والذي يظهر لي أن مراده أنه كان يقرأ في الثانية منهما بقوله {آمنا بالله} الآية وبالآية الأخرى إلى آخرها {وأشهد بأنا مسلمون} (آل عمران: 52) فذكر أول إحداهما وآخر الثانية،

(6/585)


ويكون اقتصار الرواية الثانية الآتية على الآية الثانية إما نسياناف من الراوي أو غفلة من المخبر له، والله أعلم.
51108 ـــ......................
(وفي رواية) عن ابن عباس أيضاً (وفي الآخرة التي في آل عمران: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) أي الآية بجملتها، فذكر في هذه الرواية أولها وفي الرواية الأولى آخرها (رواهما مسلم) من طريقين عن ابن عباس وهما عند أبي داود أيضاً، وعنده أيضاً عن أبي هريرة «أنه سمع النبيّ يقرأ في الركعة الأولى: {قولوا آمناً بالله وما أنزل إلينا} الآية التي في البقرة وفي الآخرة {قل آمناً بالله وما أنزل إلينا} إلى آخر الآية كما صرح به ابن رسلان وبهذه الآية {ربنا آمناً بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} (آل عمران: 53) أو {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} (البقرة: 119) .

61109 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رمقت النبي شهراً) قال في «المصباح» : رمقته بعيني من باب قتل أطلت النظر له اهـ والمراد به التفحص والتتبع (يقرأ في الركعتين

(6/586)


قبل) فرض (الفجر: قل يا أيها الكافرون) أي في الأولى (وقل هو الله أحد) أي في الثانية (رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال الأصحاب: فيسن الجمع بين ذلك كله بأن يأتي في الأولى بآية البقرة وبقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية بآية البقرة إنا أرسلناك وآي آل عمران وقل هو الله أحد، ولا ينافي ذلك تخفيفهما لأنه نسبي وهذا تخفيف بالنسبة إلى الصلاة المطولة، والله أعلم.

198 - باب استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
أي في المسجد وفي البيت كما يومىء إليه عموم حذفه التقييد بذلك (على جنبه الأيمن) ليتذكر بذلك ضجعته في القبر فيحمله ذلك على الخشوع الذي هو لب العبادة، فإن تعذر الأيمن فالأيسر لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. قال في «فتح الباري» : ويحتمل أنه يومىء بالاضطجاع، ولم أقف فيه على نقل إلا أن ابن حزم قال: يومىء ولا يضطجع على الأيسر أصلاً وحمل الأمر بالأيمن على غير الندب اهـ (والحث عليه) أي على الاضطجاع المذكور (سواء كان تهجد بالليل أم لا) وعليه فقيل فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، قال في «الفتح» : وعليه فلا يتقيد بالأيمن، قال الشافعي: تتأدى السنة بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره، وقال: المختار أنها سنة لظاهر حديث أبي هريرة، وقد قال أبو هريرة الراوي: إن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي، وقال ابن

(6/587)


العربي: لا يستحب إلا للمتهجد، قال في «فتح الباري» : ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول «إن النبي لم يكن يضطجع لسنته، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح» وفي إسناده راو لم يسم، وعلى هذا ففائدتها الراحة، وقيل فائدتها الفصل بين الفرض والسنة، ومقابل استحبابها قول مالك وجماعة من الصحابة ومن بعدهم إنها بدعة، وأيده القاضي عياض وغلطه فيه المصنف وقال: الصواب استحبابه، قال في «فتح الباري» : وهو محمول على أنهم لم يبلغهم الأمر بفعله. على أن كلام ابن مسعود يدل على أنه أنكر تحتمها، وما حكى عن ابن عمر من أنه بدعة قد شذ بذلك اهـ. وقول ابن حزم إنها واجبة وإنها شرط لصحة صلاة الصبح، قال في «فتح الباري» : رد عليه العلماء بعده حتى طعن ابن تيمية ومن تبعه في صحة الحديث لتفرد عبد الرحمن بن زياد به وفي حفظه مقال. والحق أنه تقوم به الحجة ومقابل استحبابه في كل من البيت والمسجد قول بعض السلف إنه مخصوص بالبيت دون المسجد، قال في «فتح الباري» : وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي أنه
فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر «أنه كان يحصب من يفعله في المسجد» أخرجه ابن أبي شيبة اهـ.
11110 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن) وذلك لشرفه ولأنها هيئة الإنسان في القبر فيتذكر بذلك فتحمله على الخشوع (رواه البخاري) قال الحافظ في «الفتح» : قيل الحكمة في ذلك أن القلب في جهة اليسار، فلو اضطجع عليه لاستغرق نوماً لكونه أبلغ في الراحة، بخلاف اليمين فيكون القلب معلقاً فلا يستغرق. وفي أن الاضطجاع إنما يطلب إذا كان على الشق الأيمن اهـ.

21111 - (وعنها قالت: كان رسول الله يصلي فيما) أي في الوقت الذي (بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر) أي وقت صلاتها: أي ما بين صلاة العشاء وطلوع

(6/588)


الفجر (إحدى عشرة ركعة) وجاء عنها في رواية أخرى «ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» (يسلم بين كل ركعتين) جملة حالية من ضمير يصلي أو مستأنفة (ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر) أي من أذان صلاته (وتبين) أي ظهر (له الفجر) الصادق جملة معطوفة على الفعل قبلها، واحترز به عن الأذان الأول للفجر (وجاءه المؤذن) ليؤذنه بالصلاة ودخول وقتها (قام) فإن كان به مقتضي غسل اغتسل وإلا توضأ (فركع ركعتين خفيفتين) أي بالاقتصار على أقل كمالاتهما وتخفيفهما مسارعة لأداء الفرض بعدهما (ثم اضطجع) أي بعد فعلهما (على شقه الأيمن) واستمر كذلك (حتى يأتيه المؤذن للإقامة) أي معلماً له باجتماع الناس للصلاة (رواه مسلم) .
(قولها) أي عائشة (يسلم بين كل ركعتين هكذا هو في مسلم) أي فيوهم أنه يسلم بعد كل ركعة ويصدق ذلك على ما عدا الأخيرة وليس دلك مرادها قطعاً (ومعناه) أي وإنما معنى قولها المذكور (بعد كل ركعتين) كما جاء ذلك من فعله وقوله، كقوله «صلاة الليل مثنى مثنى» .
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع) أي عقب فعلهما (على يمينه) أي شقة الأيمن (رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة) فرواه أبو داود عن مسدد وأبي كامل الجحدري وعبيد الله بن عمر بن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة: ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ الغفاري عن عبد الواحد بسنده المذكور، وحينئذ فمدار الحديث عندهما على عبد الواحد بسنده المذكور فليس له إلا سند واحد، ففي قوله

(6/589)


بأسانيد ما لا يخفي (قال الترمذي حديث حسن صحيح) غريب.

199 - باب سنة الظهر قبلية وبعدية
11113 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها. متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب فضل السنن الرواتب، وتقدم أن من السنن المؤكدة ركعتين قبليتين للجمعة ومثلهما بعدها.
21114 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان لا يدع) أي لا يترك (أربعاً قبل الظهر) مقتضاه مداومته عليها أبداً فتكون مؤكدة وسبق أن المؤكد ثنتان، وكأنه لما ورد مما يدل على تسهيله في اثنتين منها (رواه البخاري) وسبق مشروحاً في باب تأكيد ركعتي الفجر، وما فعله المصنف فيه تقطيع الحديث والاقتصار على بعض وحذف بعض والصحيح جواز ذلك بشرط أن لا يكون للمذكور تعلق بالمحذوف من كونه غاية له أو شرطاً أو مستثنى منه.

(6/590)


31115 - (وعنها قالت) وفي نسخة رسول الله (كان النبي يصلي في بيتي) إضافة البيت إليها لكونه سكنها وإلا فهو ملك لرسول الله كسائر مساكن أزواجه (قبل الظهر أربعاً ثم يخرج) الظاهر أن التراخي المدلول عليه بثم كان طلب الاجتماع المصلين وتكاثرهم (فيصلي بالناس) أي المكتوبة (ثم يدخل) والإتيان بثم لتراخي الدخول بما قد يشتغل به بعد أدائها من تبليغ شرائع وقضاء بين متخاصمين ونحو ذلك (فيصلي ركعتين) أي عقب الدخول كما تومىء إليه الفاء (وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل) أي بعد فعلها، والإتيان بثم لذلك (فيصلي ركعتين ويصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين) الإتيان بالواو في قولها (ويدخل) يحتمل أن يكون للإيماء إلى عدم تراخي دخوله عن صلاتها لأنه كان يكره الحديث بعدها إلا في خير، ويحتمل أنها مرادة بها وخالفت بين الحرقين تفننا في التعبير (رواه مسلم) .
41116 - (وعن أم حبيبة) بفتح المهملة وكسر الموحدة الأولى وهي أم المؤمنين سبقت ترجمتها (رضي الله عنها) قريباً (قالت: قال رسول الله: من حافظ) التعبير بصيغة المبالغة للمبالغة: أي من اهتم بالحفظ وبالغ فيه (على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله) أي بفعل ذلك، وفي رواية «حرم الله لحمه» (على النار) أي كونه فيها خالداً مؤبداً كالكافر. ففيه بشارة للمحافظ عليها بالموت على الإسلام فلا ينافي ما تقرر من تعذيب بعض عصاة الموحدين لكن يشكل على هذا التأويل رواية «لم تمسه النار» إلا أن تؤول كذلك وفيه بعد وأجراه راويه على ظاهره، ففي رواية لأبي داود عن حسان بن عطية قال:

(6/591)


لما نزل بعنبسة الموت جعل يتفرز فقيل له في ذلك فقال: أما إني سمعت أم حبيبة زوج النبي تحدث عن النبي «أنه من ركع أربع ركعات قبل الظهر وأربعاً بعدها حرم الله لحمه على النار فما تركتهن منذ سمعتهن» وفي رواية له عن محمد بن أبي سفيان قال «إنه لما نزل به الموت أخذه أمر شديد فقال: حدثتني أختي أم حبيبة قالت: قال رسول الله: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار» (رواه أبو داود والترمذي) والنسائي (قال) أي الترمذي (حديث حسن صحيح) .
51117 - (وعن عبد الله بن السائب) بالمهملة وبعد الألف همزة فموحدة قال المزي في «الأطراف» : واسمه صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكنيته أبو عبد الرحمن المخزومي قارىء أهل مكة (رضي الله عنه) قال الذهبي في «الكاشف» : له صحبة قرأ على أبيّ ابن كعب، روى عنه مجاهد وعطاء. توفي في قتل ابن الزبير. خرج عنه مسلم والأربعة اهـ. قلت: روي له عن النبيّ سبعة أحاديث أخرج له مسلم فيها حديثاً واحداً ولم يخرج له البخاري، كدا في «مختصر التلقيح» لابن الجوزي (أن رسول الله كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس) وبه يدخل وقت الظهر (قبل الظهر) أي قبل فعل فرضها (وقال إنها) أي الساعة التي بعد الزوال (ساعة تفتح) بالبناء للمفعول (فيها أبواب السماء) أي لصعود الأعمال من الأرض كما يومىء إليه قوله (فأحب أن يصعد لي) أي يرتفع لي (فيها عمل صالح) وخير الأعمال الصلاة كما جاء كذلك في قوله «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» ويحتمل أن فتحها لهبوط الفيوض على أهل الأرض فتعرّض لحوزها بأعمال البر المرتبة تلك لفيوض عليها ترتب المسبب على السبب بالحكمة الإلهية (رواه الترمذي) والنسائي أيضاً (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) في إيراد هذا الحديث في هذا الباب ما لا يخفى لأن

(6/592)


الذي فيه سنة الزوال وهي غير سنة الظهر. قال في «فتح الإله» : أخذ أئمتنا من الحديث أنه يسن أربع ركعات عقب الزوال وأقلها ركعتان، وروى خبر «راقبوا زوال الشمس فإذا زالت فصلوا ركعتين، فلكم أجر بعدد كل كافر وكافرة» وكأن وجه تخصيص الكفار بذلك وقوع هذه الصلاة عقب تسجير النار لهم اهـ. إلا أن يقال هي في وقت الظهر لدخوله بالزوال فعدت من سننه وإن كانت شكراً لله تعالى على نعمة تحوّل الشمس من كبد السماء إلى جهة المغرب.
61118 - (وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعدها) فيه مزيد الاهتمام منه بها، وقد جاء أنه بعد الظهر أربعاً أيضاً، وأمر بالمحافظة عليها في حديث أم حبيبة، فمن ثم قال أصحابنا: إن من الرواتب صلاة أربع قبل الظهر وأربع بعدها. وفي كلام عائشة إيماء إلى العناية بالسنة القبلية وتقديمها على المكتوبة، فإن أخرت عنها تدوركت فيما بقي من الوقت أداء وبعده قضاء (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ومما جاء في فضل الأربع قبل الظهر حديث ابن عمر قال: قال رسول الله «رحم الله امرأ صلى قبل الظهر أربعاً» رواه أحمد والترمذي، وحسنه أبو داود، وصححه ابن خزيمة وحبان وإن أعله ابن القطان. قلت: ومن مظاهر الرحمة المرتبة عليها ما رتب عليها في حديث أم حبيبة السابق في الباب من كونه سبباً للخلوص من الخولد في النار المؤذن بالموت على الإسلام، حققه الله لنا بمنه وكرمه.

200 - باب سنة العصر
وليس فيه إلا قبلية غير مؤكدة.
11119 - (عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان النبي يصلي قبل العصر) أي

(6/593)


قبل صلاته (أربع ركعات) مفعول مطلق نحو قوله تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} (الور: 4) (يفصل) جملة حالية من فاعل يصلي أو خبر بعد خبر أو مستأنفة (بينهن) أي بعد الركعتين (بالتسليم) وهو التحلل من الصلاة (على الملائكة المقربين ومن تبعهم) أي في توحيد الله سبحانه وتعالى (من المسلمين والمؤمنين) من عطف المتساويين، إذ الإسلام والإيمان متحدان ما صدقا وإن اختلفا مفهوماً، وما فعله من الفصل بالتسليم هو الأفضل لما فيه من زيادة الأعمال والأذكار، ويجوز صلاتهن بتسليم واحد، وكذا سنة الظهر قبلية وبعدية وسنة الزوال (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) .
21120 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: رحم الله امرأ) أي أحسن وأنعم، أو أراد ذلك لشخص (صلى قبل العصر أربعاً) عمومه متناول لفعلها موصولة ومفصولة، فقصر ابن رسلان لها على الموصولة أخذاً من حديث عليّ قبله غير ظاهر وجملة رحم الله خبرية لفظاً دعائية معنى نحو غفر الله لك (روه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) فيه إيماء إلى التبشير لفاعل ذلك بالموت على الإسلام الذي هو أعظم الرحمات وأسنى العطيات لابتناء نعيم الآخرة عليه.
31121 - (وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي كان يصلي قبل العصر ركعتين) لا مخالفة بينه وبين حديثه السابق، إما لأن مفهوم العدد غير حجة أو أنه كان يلازم أولاً ركعتين ثم زاد الآخرتين أو بالعكس، أو ترك الأخيرتين لأمر أهم أو لغير ذلك (روه أبو

(6/594)


داود بإسناد صحيح) رواه عن حفص بن عمر الحوصي شيخ البخاري عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن عليّ. قال ابن حجر الهيثمي في «فتح الإله» : الحديث الأول ظاهر في داوم فعله للأربع مبنياً على المتعارف في كان، والثاني ظاهر في ركعتين منهن، وحينئذ فقول أصحابنا إنهن غير مؤكدات فيه نظر بالنسبة لهذين الخبرين المقتضي أولهما لتأكيد الأربع والثاني لتأكيد تنتين منها، وبه قال بعض أصحابنا اهـ. قال ابن رسلان: من قال إنها مؤكدة استدل بهذا الحديث.

201 - باب سنة المغرب بعدها وقبلها
ذكر الظرفين هنا دون الظهر للاهتمام بالقبلية للخلاف بين الأصحاب في استحبابها، ولا كذلك سنة الظهر القبلية والبعدية (تقدم في هذه الأبواب حديث ابن عمر) وذكر في باب فضل السنن الرواتي (وحديث عائشة) المذكور في باب سنة الظهر (وهما صحيحان) الأول متفق عليه والثاني لمسلم (أن النبيّ كان يصلي بعد المغرب ركعتين) .
11122 - (وعن عبد الله بن مغفل) بالغين المعجمة والفاء بصيغة المفعول من التغفيل (رضي الله عنه عن النبيّ قال: صلوا قبل المغرب) أي قبل صلاتها أي ركعتين كما في رواية صحيحة، وكرر ذلك ثلاثاً كما يدل عليه السياق حضاً وتحريضاً على الاهتمام بذلك (ثم قال) دفعاً لما يتوهم من الأمر من الوجوب سيما مع التكرار (في الثالثة لمن شاء) وفي

(6/595)


الصحيح زيادة كراهية أن يتخذها الناس سنة: أي عزيمة لازمة متمسكين بقوله: صلوا وأصل الأمر للوجوب فتعليقه بالمشيئة لدفع ذلك كما تقدم (رواه البخاري) في «المشكاة» أنه متفق عليه.
21123 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: لقد رأيت) أي أبصرت (كبار) بكسر الكاف وتخفيف الموحدة جمع كبير (أصحاب النبي يبتدرون) جملة حالية من مفعول رأيت البصرية، ويجوز كونها علمية فتكون في محل المفعول الثاني: أي يستبقونه (السواري) جمع سارية: هي الأسطوانة كجارية وجواري: أي يستبقون أساطين المسجد النبوي، وكانت من جذوع النخل على عهده إلى عهد عثمان رضي الله عنه (عند المغرب. رواه البخاري) بهذا اللفظ في باب الصلاة إلى الأسطوانة وهو ثاني ثلاثياته في «صحيحه» ، ورواه في الأذان من «صحيحه» بلفظ «يبتدرون السواري حتى يخرج النبيّ وهي كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الإقامة والأذان شيء» وهذه الزيادة تسفر عن وجه ذكر هذا الحديث في باب سنة المغرب.
31124 - (وعن أنس) الأظهر وعنه كما في نسخة صحيحة (قال: كنا) أي معشر الصحابة (نصلى على عهد) أي زمن (رسول الله ركعتين بعد غروب الشمس) وتكامله (قبل المغرب) أي قبل صلاته (فقيل) لم أقف على تعيين السائل لأنس (أكان رسول الله صلاها) أي فيستدل لاستحبابها بفعله قال (كان يرانا) أي يبصرنا أو يعلمنا (نصليها فلم يأمرنا) أي بها على الانفراد وإلا فهي داخلة في عموم قوله «بين كل أذانين صلاة» (ولم ينهنا) أي وتقريره على العبادة من دلائل ندبها (رواه مسلم) واللفظ المذكور موقوف على

(6/596)


أنس لفظاً مرفوع حكماً إجماعاً لما فيه من التصريح باطلاع النبيّ على ذلك، الخلاف بين علماء الأثر فيما لم يصرح فيه باطلاعه، قاله العراقي في «شرح ألفيته» .

41125 - (وعنه قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن) أي أتم الأذان (لصلاة المغرب ابتدروا السواري) أي استبقوا إليها (فركعوا ركعتين قبل) فعل (فرضها) وقوله (حتى) غاية لمقدر: أي وأكثروا من ذلك حتى (إن) بكسر الهمزة ويجوز فتحها على تقدير زيادة اللام (الرجل الغريب ليدخل المسجد) أي مسجد المدينة فأل فيه للعهد فيحسب أن الصلاة أي المغرب (قد صليت) أي شرع فيها جماعة وأن القوم واقفون لفعلها (من) تعليلية (كثرة) بفتح الكاف والكسر ردىء وقيل خطأ (من يصليهما. رواه مسلم) في سياق المصنف ما يشعر بأن البعدية مؤكدة دون القبلية، وذلك لأنه بدأ بها وذكر ما ورد فيها من الخبرين الصحيحين المرفوعين الناصين على فعله لها.

102 - باب سنة العشاء بعدها وقبلها
لا يظهر لذكر الطرفين هنا دون الظهر وجه (فيه) أي الباب (حديث ابن عمر) المتفق على صحته (السابق) في باب فضل الرواتب، وأبدل منه قوله (صليت مع النبيّ ركعتين بعد العشاء) وهذا دليل صدر الترجمة (و) دليل عجزها (حديث عبد الله بن مغفل

(6/597)


السابق) في الباب قبله وأبدل منه أو عطف عليه عطف بيان قوله (بين كل أذانين صلاة) وعكس المصنف الترتيب الطبيعي، فذكر دليل سنّ البعدية قبل دليل سن القبلية لتأكيد البعدية دون القبلية، وذلك لأن الأول ثابت بفعله والثاني بقوله، والفعل عندنا أقوى دلالة من القول (متفق عليه كما سبق) الذي سبق له في حديث ابن مغفل عند ذكره أنه للبخاري ولم يذكر ثمة أنه عند مسلم، وقد نبهنا ثمة على أنه في «المشكاة» عندهما، وحينئذ فكأن ما وقع له سابقاً من سق القلم عن رقم متفق عليه إلى رقم رواه البخاري، وأحال هنا على ما ظن أنه أورده ثمة من وصف الحديث بكونه متفقاً عليه بقوله هنا ما ذكر.

203 - باب سنة الجمعة
اعلم أن الجمعة يسن لها ما يسن للظهر قبلية وبعدية متأكدة وغير متأكدة.
(فيه) أي الباب (حديث ابن عمر السابق: أنه صلى مع النبي ركعتين بعد الجمعة) حكى القطعة هنا بالمعنى، وفي الباب قبله باللفظ تفنناً في التعبير وإعلاماً بجواز كل من ذينك باللفظ لكونه الأصل، وبالمعنى إذا صدر من عالم بمدلولات الألفاظ ومواقعها لأداء المعنى المراد. وقوله أنه بفتح الهمزة وهي مع مدخولها بدل من حديث بدل بعض من كل (متفق عليه) .
11126 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) صرف الأمر عن الوجوب الأحاديث الصريحة في نفي وجوب ما زاد

(6/598)


على المكتوبات الخمس (رواه مسلم) زاد في رواية «فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت» والحديث أخرجه أبو داود والترمذي أيضاً.
21127 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي كان لا يصلي بعد الجمعة) أي شيئاً من رواتبها (حتى ينصرف) أي من المسجد ءلى بيته (فيصلي ركعتين في بيته رواه مسلم) وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي واللفظ لأبي داود عن نافع «أن ابن عمر رآى رجلاً يصلي ركعتين في المسجد في مقامه فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعاً؟ وكان يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته ويقول: هكذا فعل رسول الله» وأخرج أبو داود والترمذي عن عطاء قال «كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين ثم يتقدم فيصلي أربعاً، فإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له، فقال: كان النبي يفعله» .

204 - باب استحباب جعل النوافل
أي من الصلاة بقرينة المقام (في البيت) لكونه أبعد عن الرياء وإخراج المنزل عن كونه شبيهاً بالقبر ولعود البركة عليه وعلى أهله (سواء الراتبة وغيرها) ما لم يخش بالتأخير نحو فوات لها (والأمر) معطوف على استحباب، وهو أمر ندب فهو من عطف الرديف (بالتحول للنافلة من موضع) فعل (الفريضة) إلى موضع آخر ليتميز بذلك الفرض عن النفل، ولتشهد له المواضع بالطاعة (أو الفصل) معطوف على التحول (بينهما بكلام) .
11128 - (عن زيد بن ثابت) بالمثلثة فالموحدة فالفوقية بن الضحاك بن زيد بن لوذان بفتح اللام وإسكان الواو وبذال معجمة، ابن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار

(6/599)


الأنصاري النجاري المدني الفرضي الكاتب كاتب الوحي وكاتب المصحف (رضي الله عنه) كان عمره حين قدم رسول الله المدينة إحدى عشرة سنة، وحفظ قبل قدوم النبيّ المدينة مهاجراً ست عشرة سورة، وقتل أبوه ولزيد ست سنين، واستصغره يوم بدر فرده، وشهد أحداً، وقيل لم يشهدها، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله، وأعطاه النبيّ يوم تبوك راية بني النجار وقال: القرآن مقدم وزيد أكثر أخذاً للقرآن، وكان يكتب الوحي لرسول الله ويكتب له المراسلات إلى الناس، وكتب لأبي بكر وعمر في خلافتهما، وكان أحد الثلاثة الذين جمعوا المصحف، وكان أمر بذلك أبو بكر وعمر، وكان كل من عمر وعثمان يستخلفه إذا حج، ورمى يوم اليمامة بسهم فلم يضره، وولى قسم غنائم اليرموك. قال ابن أبي داود: وكان زيد أعلم الصحابة بالفرائض لحديث «أفرضكم زيد» قال: وكان من الراسخين في العلم، وكان على بيت المال لعثمان، وأحواله كثيرة مشهورة. روي له عن رسول الله اثنان وتسعون حديثاً، اتفقا منها على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بحديث. روى عنه جماعات من الصحابة منهم ابن عمرو وابن عباس وأنس وأبو هريرة، وخلائق من كبار التابعين منهم سعيد بن المسيب وسليمان وعطاء بن يسار وآخرون، توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وقيل ست وخمسين، وقيل أربعين، وقيل غير ذلك. روى البخاري في «تاريخه» بإسناده الصحيح عن أبي عمار قال: لما مات زيد بن ثابت جلسنا إلى ابن عباس فقال: هذا ذهاب العلماء، دفن اليوم علم كذا وكذا، هكذا في «التهذيب» للمصنف بنوع تلخيص، وقد حوى اسمه لطائف في الفرائض نظمها الدميري فقال في كتابه «رموز الكنوز» :

لطيفة قواعد الوراثة
مرجعها للأحرف الثلاثة
فالزاي للأصول والنسوان
واليا لأهل الفرض والذكران
والدال أسباب ورتبة العدد
هبادبز أصحاب فرض بالمدد
(أن النبيّ قال: صلوا أيها الناس) الأمر متوجه للذكور والإناث، ففيه تغليب لهم

(6/600)


عليهن لشرفهم في الإتيان بواو جماعة الذكور (في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ففعلها في المساجد أفضل للذكور، أما النساء فلا استثناء بالنسبة إليهن، وصلاة النافلة ببيت الإنسان أفضل من فعلها في جوف الكعبة، وإن قيل باختصاص مضاعفة الأعمال بها وذلك لأن في الاتباع من الفضل ما يربو على ذلك (متفق عليه) اقتصر السيوطي في «الجامع الصغير» على رمز البخاري، وكأنه لكون اللفظ له، والمصنف عزاه لهما لاتفاقهما على معناه والله أعلم.
21129 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: اجعلوا من صلاتكم) أي بعضها وهو النفل (في بيوتكم) بكسر الموحدة وضمها وذلك لتعود البركة على المنزل ومن فيه، ولما أشار إليه بقوله (ولا تتخذوها قبوراً) أي كالقبور في عدم من عمل بها شيئاً من عمل البرّ، ففيه تشبيه بليغ (متفق عليه) ورواه الترمذي والنسائي بلفظ «صلوا في بيوتكم ولا تتركوا النوافل فيها» ورواه أبو يعلى والضياء المقدسي من حديث الحسن بن علي بلفظ «صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً» كذا في «الجامع الصغير» .
31130 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا قضى) أي أدى (أحدكم صلاته) أي المفروضة (في المسجد فليجعل لبيته نصيباً) التنوين فيه إن كان للتقليل

(6/601)


فلنقص مرتبة النفل عن الفرض، وإن كان للتعظيم ففيه إيماء إلى طلب الإكثار من النفل (من صلاته) أي وذلك النفل، وعلل ذلك بقوله على سبيل الاستئناف البياني بقوله (فإن الله جاعل) عدل عن المضارع إليه ليدل على الدوام والاستمرار (في بيته من) سببية (صلاته خيراً) أي عظيماً كا يومىء إليه التنوين بدليل السياق (رواه مسلم) .
41131 - (وعن عمرو بن عطاء) بن أبي الخوار بضم المعجمة. قال في «الكاشف» : هو صدوق خرّج له مسلم وأبو داود (أن نافع بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون التحتية وهو ابن مطعم، قال في «الكاشف» : هو شريف مفت، توفي سنة تسع وتسعين خرّج عنه الستة (أرسله إلى السائب بن يزيد) بفتح التحتية منقول من مضارع الزيادة (ابن أخت نمر) بفتح النون وكسر الميم وبعدها راء الكندي الصحابي توفي (رضي الله عنه) سنة إحدى وتسعين على الصحيح، وقيل سنة ست وثمانين، خرّج عنه الجميع. وفي «التهذيب» للمصنف: هو ابن أخت نمر لا يعرف إلا بذلك، ويقال له أيضاً الأسدي، ويقال الليثي، ويقال الهذلي، وأبوه صحابي، وله حلف في قريش في عبد شمس. ولد السائب سنة ثلاث من الهجرة. روى له عن رسول الله خمسة أحاديث، اتفق الشيخان على واحد منها وانفرد البخاري بأربعة اهـ. روى عن عمر وعنه ابنه عبد الله والزهري ويحيى بن سعيد (يسأله) الضمير المستكن لعمرو والبارز للسائب ويصح عود المستكن لنافع، ويراد منه يسأله بواسطة عمرو (عن شيء رآه منه معاوية) أي ابن أبي سفيان (في الصلاة) أي طلب منه تبيين ذلك الشيء وتعيينه (فقال: نعم صليت معه الجمعة في المقصورة) قال في «المصباح» : مقصورة الدار حجرتها وكذا مقصورة المسجد اهـ. قال المصنف: فيه دليل على جواز اتخاذها في

(6/602)


المسجد إذا رآها ولي الأمر مصلحة، قالوا: وأول من عملها معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي. قال القاضي: واختلفوا في المقصورة فأجازها كثير من السلف وصلوا فيها منهم الحسن والقاسم بن محمد وسالم وغيرهم، وكرهها ابن عمر والشعبي وأحمد وإسحاق وكان ابن عمر إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج منها إلى المسجد (فلما سلم الإمام) أي وسلمت معه (قمت في مقامي) بفتح الميم اسم مكان (فصليت) أي الراتبة (فلما دخل) أي منزله (أرسل إليّ) فيه لزوم الأدب مع أهل الفضل وفيه حسن الإنكار، قال الشافعي: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه
وزانه، ومن وعظه جهراً فقد فضحه وشانه (فقال لا تعد) أي ندباً (لما فعلت) من وصل النافلة بالمكتوبة ثم قال على سبيل الاستئناف البياني ما هو كالدليل لما ذكره (إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة) وقوله (حتى تتكلم أو تخرج) غاية لمقدر: أي واستمر على ترك التنفل إلى أحد هذين، إما الكلام بغير ذكر أو مفارقة محل فعل الفرض، ويصح جعله غاية لما قبله بأن يراد من الوصل فعل الثانية عقيب الأولى (فإن رسول الله أمرنا بذلك) ثم أبدل من المجرور قوله (أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) أي من المسجد إلى المنزل وهو أفضل أماكن فعل النفل كما تقدم، أو من محل الفرض الخ، فيحصل الفصل بمفارقة محل فعل الفريضة (رواه مسلم) .

205 - باب الحث على صلاة الوتر
بكسر الواو لغة الحجاز وتميم وتفتح في لغة غيرهم، ووقته ما بين فعل فرض العشاء وطلوع الفجر الصادق، وأقله ركعة، وأكمله على الصحيح إحدى عشر ركعة (وبيان أنه سنة متوكدة) أتى به من باب التفعل إيماء إلى مبالغة تأكده، كيف وقد قيل بوجوده (وبيان وقته) الذي ينبغي فعله فيه اتباعاً مؤكداً.

(6/603)


11132 - (عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: قال: الوتر) أي صلاته (ليس بحتم) أي فرض (كصلاة المكتوبة) في كونها حتماً مفروضاً بل هي سنة، وفي الصحيح: لما سأله عن الصلوات المفروضات فقال خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال لا إلا أن تطوّع. الحديث (ولكن سن) بفتح المهملة وتشديد النون (رسول الله) إن كان سن ماضياً فالعائد محذوف، وإن كان مصدراً فهي بمعنى المفعول مضاف لمرفوعه بعد تحويل إسناده عنه إلى الضمير، ثم بين ما استند إليه في ذلك فقال (قال إن الله وتر) أي واحد ذاتاً وصفة وفعلاً (يحب الوتر) ومن ثمة كان كل من مرات الطواف والسعي والرمي وتسبيحات الصلاة وصلاة الوتر وغيرها كذلك (فأوتروا يا أهل القرآن) قال الخطابي: تخصيصه أهل القرآن بالأمر به يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجباً لعمهم وغيرهم، وأهل القرآن في العرف هم القراء والحفاظ دون العوام (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن) وقدم هذا الحديث مع تأخره رتبة عما بعده من أحاديث الباب لتعلقه بصدر الترجمة من الحث وتأكيد الندب، للرد على القائلين بوجوبه.
21133 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: من) للتبعيض (كل الليل قد أوتر رسول الله) أي صلاة في جميع أبعاضه في أوقات متعددة كما أشارت إلى ذلك بقولها على سبيل البدل بإعادة العامل (من أول الليل ومن أوسطه ومن آخره) مرادها جميع أجزائه لا خصوص الجزء الأول والجزء الأوسط مثلاً دون ما بينهما، كما يدل على إرادة ذلك قولها

(6/604)


أول الحديث من كل الليل، ويجوز كون من ابتدائية، وكونها ظرفية. وجوَّز في من الثانية كونها بيانية لمعنى البعضية، أو لكل بناء على أنها ابتدائية (وانتهى وتره) أي فله الوتر (إلى السحر) فكان يفعله فيه غالباً كما يعلم من روايات أخر، وإنما حملناه على هذا ليفيد فائدة لا تعلم من سابقه وهو قوله وآخره (متفق عليه) .
31134 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) فيسن جعله الأقل منه والأكمل بعد صلاة الليل التي يريد فعلها فيه من راتبة أو تراويح أو تهجد أو نفل مطلق، وكأن حكمة ذلك أن الوتر أفضل من هذه الصلوات الليلية، فندب وقوعه عقبها ليختم عمله بالأفضل فتعود عليه بركته ويجوز نفعه، وما ورد من صلاته أول الليل محمول على بيان الجواز (متفق عليه) .

41135 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبيّ قال: أوتروا قبل أن تصبحوا. رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو قريب من حديث ابن عمر الآتي.

(6/605)


51136 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يصلي صلاته بالليل) أي التهجد وبين التهجد والوتر عموم خصوص من وجه، فالوتر المأتي به بعد النوم جامع للأمرين، وقبل النوم وتر لا غير، والنفل بعد النوم من غير الوتر تهجد لا غير (وهي معترضة بين يديه) أي بينه وبين القبلة (فإذا بقي) أي من صلاته الليلية (الوتر) أي صلاته (أيقظها) فتوضأت (فأوترت، رواه مسلم) .
(وفي رواية له) أي عنها أيضاً (فإذا بقي الوتر قال: قومي) فيه بيان لإجمال قوله أيقظها في الرواية السابقة، إذ هو محتمل للإيقاظ بالقول وغيره كتحريكها (فأوتري يا عائشة) وفي الإتيان بالفاء إيماء إلى طلب المبادرة بالوتر عقب الاستيقاظ لئلا يغلب عليه كسل النوم لو تماهل عنه فيفوته.
61137 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: بادروا الصبح بالوتر) أفاد زيادة على ما أفاده حديثه السابق من تأخير الوتر عن النفل المبالغة في تأخيره حتى طلب أن يبدر بفعله قبل طلوع الفجر، ومثله حديث أبي سعيد (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ووقع في «الجامع الصغير» في رمز مخرّجيه علامة مسلم بدل علامة أبي داود ولعله من قلم الناسخ.
71138 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من خاف) أي ظن أو توهم

(6/606)


(أن لا يقوم) أي يستقيظ من نومه (من آخر الليل) أي فيه أو استيقاظ مبتدأ منه (فليوتر أوله) احتياطاً ومسارعة لأداء العبادة (ومن طمع) بحسب عادته أو لوجود من يوقظه (أن يقوم) أي في القيام (آخره) أي الليل (فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة) أي شهدها الملائكة المتعاقبون والذين ينزلون بالنفحات الإلهية والفيوض الربانية الدلول عليهم بقوله «إذا بقي ثلث الليل ينزل ربنا» الحديث (وذلك) أي الوقت (أفضل) أوقاته وضح فعلها حينئذ أفضل من فعلها في باقي الأوقات، قال أصحابنا: لو تعارض صلاة الجماعة في وتر رمضان والتأخير إلى آخر الليل فالتأخير أفضل من الجماعة فيه (رواه مسلم) .

206 - باب فضل صلاة الضحى
قال العراقي في «شرح التقريب» : وهو بضم الضاد مقصور، قال في «الصحاح» : الضحا ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، مقصور يذكر ويؤنث. فمن أنث ذهب إلى أنه جمع ضحوة، ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على وزن فعل مثل صرد ونفر، وهو ظرف غير متمكن مثل سحر، تقول لقيته ضحاً بالتنوين، وإذا أردت به ضحا يومك لم تنونه، ثم بعد الضحاء ممدود مذكر وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. وفي «المحكم» : الضحو والضحوة والضحية على مثال العشية ارتفاع النهار، والضحا فويق ذلك، وتصغيرها بغيرها لئلا تلتبس بتصغير ضحوة والضحاء: إذا امتد النهار وقرب أن يتنصف، وفي «النهاية» : الضحوة ارتفاع أول النهار، والضحا بالضم والقصر، سميت صلاة الضحا والضحاء بالفتح والمد إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده، وفي «المشارق» : الضحاء بفتح الضاد ممدود والضحا بالضم مقصور، قيل هما بمعنى، وأضحى النهار أشرق ضوؤه، وقيل المقصور المضموم أول ارتفاع الشمس والممدود من حين حرها إلى قرب نصف النهار، وقيل المقصور حين تطلع

(6/607)


الشمس والممدود إذا ارتفعت، وقال ابن العربي: بالضم والقصر طلوع الشمس، وبالفتح والمد إشراقها وضياؤها وبياضها اهـ ملخصاً (وبيان أقلها) وهو ركعتان (وأكثرها) وهو ثمان على ما صححه المصنف في «المجموع» والتحقيق تبعاً لما عليه الأكثرون، وظاهر سياقه هنا الميل إليه، وقيل اثنتا عشرة، وجرى عليه في «المنهاج» لحديث ضعيف فيه، قيل وينبغي حمل ما في «المجموع» ليوافق عبارة الروضة على أن الثمان أفضلها لأنها أكثر ما صح عنه، وإن كان أكثرها الاثنتي عشرة لورود الحديث الضعيف، ويعمل به في مثل ذلك حتى تصح نية الضحا بالزيادة على الثمان (أو وسطها) وهو أربعة (والحث على المحافظة عليها) لعظيم ثوابها ومزيد فضلها الآتي بعضه في الباب. قال الزين العراقي: ومما ألقاه الشيطان في أذهان بعض العامة أن من صلى الضحا ثم تركها عمي، وهذا لا أصل له من كتاب ولا سنة، وإنما قصد به منعهم من حصول هذا
الأجر الفخيم.
11139 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي) في التعبير بخليل إيماء إلى الاهتمام بشأن هذه الصلاة، لأن شأن الخيل الاعتناء بنفع من يخالله، ولا ينافي تعبيره بذلك حديث «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً» الحديث لأن الممتنع اتخاذه غير ربه خليلاً لا اتخاذ غيره له خليلاً وما نحن فيه من التاني (بصيام ثلاثة أيام من كل شهر) ليكون كصيام الدهر كله كما جاء كذلك في حديث ابن عمر، والأولى أن تكون البيض أو السود أو غيرهما مما يندب صومه بخصوصه (وركعتي الضحا) اللذين هما أقل ما يحصل به صلاته (وأن أوتر) أي أصلي الوتر ولم يذكر فيه عدداً كما قبله كأنه تفنن في التعبير (قبل أن أرقد) وذلك احتياط لأنه قد لا يقوم له فيفوته، ولا ينافي هذا حديث «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» لأنه لمن وثق بيقظته حينئذ بعادته أو بإيقاظ أحد له كما سيأتي في كلامه (متفق عليه) .

(والإيثار) أي فعل صلاة الوتر الحاصل أقله بركعة (قبل النوم إنما يستحب لمن لا يثق بالاستيقاظ آخر الليل) لغلبة نومه حينئذ وانتفاء من يوقظه لذلك (فإن وثق) أي بالاستيقاظ حينئذ (فآخر الليل) بالنصب ظرف لمبتدإ محذوف: أي ففعله

(6/608)


آخر الليل (أفضل) الذ هو الخبر عن ذلك المبتدإ المحذف المدلول عليه بالسياق أو آخر بالرفع مبتدأ وأفضل خبره وثمة مضاف إليه محذوف: أي أفضل وقته.
21140 - (وعن أبي ذرّ رضي الله عنه عن النبيّ قال: يصبح) بمعنى الصيرورة ويصح إبقاؤها على مدلولها (على كل سلامى) بضم المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم بعدها ألف مقصورة، تقدم في باب بيان طرق الخير أنها المفصل وتقدم ثمة نقل أقوال أخر (من أحدكم) أي الواحد منكم السليم من الآفات (صدقة) عظيمة شكراً لله تعالى على عظيم مننه بسلامة ذلك (فكل تسبيحة) الفاء لتفصيل إجمال الصدقة قبله: أي مرة من التسبيح بأي صيغة كانت (صدقة وكل تحميدة) أي ذكر الحمد بأي عبارة دلت عليه (صدقة وكل تهليلة) أي قول لا إله إلا الله (صدقة، وكل تكبيرة صدقة) أشير بذلك إلى أن الصدقة المؤداة شكراً لسلامة السلامى لا تختص بالمال، بل تكون به وبغيره من صالح الأقوال والأعمال تخفيفاً من الله ورحمة (وأمر) بالرفع عطف على كل وتعميمه المستفاد من سياقه أغنى عن دخول كل عليه، وغاير بينه وبين ما قبله عليه لاختلاف النوعين، إذ ما قبل ثوابه باعتبار مدلوله من الثناء عليه تعالى وتقديسه وهذا باعتبار ثمرته (بالمعروف) أي ما عرف شرعاً من واجب أو مندوب (صدقة، ونهي عن المنكر) أي ما لم يعرف كذلك من محرم أو مكروه (صدقة) ثم لا يلزم من كون كل مما ذكر صدقة تساويها في الرتبة وتفاوتها بتفاوت ثمرتها أو مدلولها، فمدلول لا إله إلا الله فوق مدلول نحو سبحان الله فلذا فضل عليه (ويجزىء) بضم أوله مع همز آخره من الإجزاء وبفتح أوله من غير همز آخره من الجزاء بمعنى الكفاية (من ذلك) أي بدل ما ذكر من الصدقات المتعددة بتعدد السلامى المتصدق عنها (ركعتان يركعهما) أي يفعلهما أحدكم (من) أي في (الضحا) أو بسببه أو مبتدأة منه، وفيه كمال شرف هذه

(6/609)


الصلاة، وتقدم سبب ذلك في الباب المذكور (رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي في آخرين تقدموا ثمة.
31141 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يصلي الضحا) في نسخة من الضحا: أي فيه أو من جهته (أربعاً) عند الترمذي في «الشمائل» أربع ركعات (ويزيد ما شاء الله) قضيته أن لا حصر للزيادة، لكن باستقراء الأحاديث الصحيحة والضعيفة علم أنه لم يزد على الثمان ولم يرغب في أكثر من ثنتي عشرة (رواه مسلم) ورواه أحمد في «مسنده» . ولا تنافي بين إثباتها لها من فعله في هذا الحديث ونفيها لها عن فعله في رواية أخرى لما قال المصنف في «شرح مسلم» من أن النبي كان يصليها في بعض الأوقات لفضلها ويتركها في بعضها خشية أن تفرض.

41142 - (وعن أم هانىء) بالهمز آخره كما تقدم كنية (فاختة) بالفاء والخاء المعجمة المكسورة والمثناة الفوقية ثم هاء تأنيث (بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح) أي زمن فتح مكة وكان في عشرين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، وذهابها إليه لسؤاله تنفيذ جوارها لمن أجارته كما يأتي (فوجدته يغتسل) وفاطمة رضي الله تعالى عنها تستره بثوب (فلما فرغ من غسله) أي اغتساله فهو اسم مصدر له (صلى ثماني) بكسر النون وتخفيف الياء (ركعات) زاد ابن خزيمة «يسلم من كل ركعتين» (وذلك) أي المفعول من الصلاة (ضحا) أي صلاته أو المشار إليه مجموع الاغتسال

(6/610)


وما بعده وضحا ظرف متعلق بمحذوف هو الخبر، ولا يقدح عليه في الاستدلال به لصلاة الضحا، لأن في رواية أبي داود التصريح بأنها صلاة الضحا ولفظه «صلى سبحة الضحا ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين» (متفق عليه) أي أصل الحديث لا بخصوص هذا اللفظ ولذا قال.
(وهذا مختصر لفظ إحدى روايات مسلم) في «صحيحه» ومن ألفاظه في بعض رواياته قالت «ذهبت إلى رسول الله عام الفتح فسلمت، فقال: من هذه فقلت: أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: مرحبا يا أمّ هانىء، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي عليّ ابن أبي طالب أنه قاتل رجلاً أجرته فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله: قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء، قالت أم هانىء: وذلك ضحا» وله عنها ألفاظ أخر.

207 - بابٌ بالتنوين أو بتركه مضافاً إلى جملة (تجوز صلاة الضحى من ارتفاع الشمس) كرمح في رأى العين (إلى زوالها) أي ميلها عن كبد السماء إلى جهة المغرب، ودخل في عمومه وقت الاستواء فيجوز فعلها فيه، لكن ينبغي أن يكون محله مالم يقصد تأخيرها إليه لأنه بذلك مراغم للشارع قياساً على منع فعل القضاء فيه كذلك، لكن كلامهم صريح في الصحة ولو مع قصد التأخير، وكأنه لأن الوقت وقتها ولا كذلك المقضية المقصود تأخيرها لوقت الكراهة (والأفضل) أي الأكثر ثواباً (أن تصلى عند اشتداد الحر) بسبب ارتفاع الشمس (وارتفاع الضحا) أي وقته.
11143 - (عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه رأى قوماً يصلون من الضحا) أي بعضه أن فيه أو لأجله، والمراد يصلون في أول وقته بدليل قوله (فقال: أما) بتخفيف الميم وفتح

(6/611)


الهمزة حرف استفتاح أتى به لتنبيه السامع لما بعده لتأكده ولذا أقسم عليه كما تؤذن به اللام المؤذنة بالقسم في قوله (لقد علموا أن الصلاة) أي المعهودة وهي صلاة الضحا (في غير هذه الساعة) من ساعاته (أفضل) ثم قال على سبيل الاستئناف البياني أو النحوي (إن رسول الله قال: صلاة الأوابين) بفتح الهمزة وتشديد الواو ثم موحدة: أي الرجاعين من الغفلة إلى الحضور ومن الذنب إلى التوبة (حين ترمض الفصال) أي فثناؤه عليها حينئذ يدل على فضلها فيه (رواه مسلم) .
(ترمض بفتح التاء) المثناة الفوقية (والميم) وسكون الراء بينهما (وبالضاد المعجمة يعني) أي بقوله ترمض الفصال (شدة الحر) أي حين رمضها: أي احتراقها من حر الشمس، قال في «المصباح» : وجدت الفصال الرمضاء فاحترقت أخفافها وذلك وقت صلاة الضحا (والفصال) بكسر الفاء وتخفيف الصاد المهملة (جمع فصيل وهو الصغير من أولاد الناقة) سمي به لأنه يفصل عن أمه، قال في «المصباح» : فهو فعيل بمعنى مفعول والجمع فصلان بضم الفاء وكسرها، وقد يجمع على فصال بالكسر لأنهم توهموا فيه الصفة مثل كريم وكرام.

208 - باب الحث على صلاة تحية المسجد ركعتين
هذا بيان أقل ما تحصل به (وكراهة الجلوس قبل أن يصلي) أي الداخل (ركعتين في أيّ وقت دخل) وذكر الجلوس جرى على الغالب، وإلا فالاضطجاع والاستلقاء قبلهما كذلك، وكذا إطالة القيام عند من يرى فوت التحية بها (وسواء) في ارتفاع الكراهة عنه

(6/612)


بصلاتهما (صلى ركعتين بنية التحية) وذلك أفضل وجوهها (أو) صلى (صلاة فريضة أو سنة راتبة أو غيرها) لأنه يفعله هذه الخصال لم يتلبس بالمنهي عنه. وأما الإثابة على ذلك وحصول فضل التحية فاختلف فيه أو يتوقف على نيتها أم لا، فقال بالأول من المتأخرين ابن حجر الهيتمي وبالثاني الرملي والشربيني.
11144 - (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس) تخصيصه جرى على الغالب وإلا فيكره ترك الصلاة لداخله ولو ماراً فيه، وكذا يكره تركها لمن نام فيه كما مر (حتى يصلي ركعتين) هو بيان لأقل ما يخرج به من الكراهة ولا حد لأكثر التحية، فلو صلى مائة ركعة بتسليمة واحدة كانت تحية بناء على أن ما زيد على الواجب مما لا يقبل التجزؤ كالبعير المخرج عن شاة أو شاتين يكون جميعه فرضاً (متفق عليه) ورواه أحمد في «مسنده» والأربعة في «سننهم» كلهم عن أبي قتادة، ورواه ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة، ورواه العقيلي في «الضعفاء» وابن عدي والبيهقي في «الشعب» من حديث أبي هريرة «بلفظ حتى يركع ركعتين» وبزيادة «وإذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن الله جاعل له من ركعتيه في بيته خيراً» كذا في «الجامع الصغير» .
21145 - (وعن جابر رضي الله عنه) هو قطعة من حديث في بيع الجمل منه في السفر (قال: أتيت النبي) أي أتقاضاه ثمن الجمل (وهو في المسجد) فيه جلوس الإمام في المسجد للقيام بمصالح الأمة (فقال: صلّ) هو أمر ندب (ركعتين، متفق عليه) فيه كالحديث قبله حصول المأمور به والخروج عن عهده النهي، يفعل ركعتين أياً كانت والله أعلم.

(6/613)


209 - باب استحباب صلاة ركعتين بعد الوضوء
والأفضل عقبه، وفيما تفوت به خلاف بين المتأخرين، قال ابن المزجدي في «فتاويه» . إنها تفوت بالإعراض عنها، وقال محمد بن عبد السلام الناشري بطول الفصل، وأفتى بمثله البرهان ابن ظهيرة، وقول النووي في زيادة «الروضة» ومنه «ركعتان عقب الوضوء» يشهد لذلك، وأفتى الكمال الرداد بأنهما لا يفوتان إلا بالحدث، وأيده «جامع الفتاوى» المزجدية بأنه مقتضى إطلاق الشيخين أن من توضأ في الأوقات المكروهة يصليهما، ولأن المعنى في ذلك صيانة طهارته عن التعطيل وحديث بلال ظاهر فيه، وما تقدم عن الروضة يحمل على ندب المبادرة بهما عقبه لا أن الوقت منحصر فيه، صرح به السيد السمهودي واعتمده في «فتاويه» .
11146 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال) أي عند صلاة الفجر كما أخرجاه كذلك (لبلال) الحبشي مؤذنه (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام) .
(وفي رواية: بم سبقتني إلى الجنة) ومعنى بأرجى عمل: أي بالعمل الذي هو أكثر رجاء في حصول ثوابه، وبين حكمة هذا السؤال بقوله (فإني سمعت دف) وفي رواية بريدة في حديث نحوه «ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي» وهي بتكرير الخاء والشين المعجمتين مفتوحة الأول والثالث، ذكره أبو موسى المديني في ذيل الغريبين إنها حركة لها صوت كصوت السلاح وهي بمعنى رواية مسلم «خشف نعليك» بفتح الخاء وسكون الشن المعجمتين وفي آخرها فاء، واختلف في معناه، فقيل هو الحركة، وقيل الصوت. وفي رواية خشفة بزيادة الهاء، وعليها ففي الشين التحريك والإسكان. واختلف هل هما بمعنى الحركة والساكن بمعنى الحس (نعليك بين يدي في الجنة) لا ينافي

(6/614)


تقدمه بين يديه حدث «آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول محمد، فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك» لأن تقدم الخدم تقدم للمخدوم قال الشاعر:
إن سار عبدك أولاً أو آخراً
من ظل مجدك ما تعدى الواجبا
فإذا تأخر كا خلقك خادماً
وإذا تقدم كان دونك حاجباً
فالفتح للمخدوم وإن تقدمه خادمه دخولاً كرامة لمخدومه، أو يقال كما قال ابن العربي في «الفتوحات المكية» : معنى سمعت خشخشتك أمامي: أي رأيتك مطرقاً بين يدي كالمطرقين بين يدي ملوك الدنيا، وبمعناه ما يأتي عن الشعراوي (قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً) بضم الطاء وبفتحها على حذف الجار وشمل الطهور بوجهيه كلاً من الوضوء والغسل والتيمم ولو مندوبة ويومىء إليه قوله (في ساعة من ليل أو نهار) لكن جاء في رواية عنه «ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين» وظاهرها أن صلاته إنما كانت عند تطهره من الحدث فقط فلم تشمل الطهارة المجددة إلا أن يقال السكوت عن الشيء لا ينفيه (إلا صليت بذلك الطهور ما) أي الذي أو صلاة (كتب) مبني للمجهول والتذكير على الثاني باعتبار لفظ ما (لي) متعلق به ونائب فاعل الفعل قوله (أن أصلي) والعائد محذوف (متفق عليه. وهذا لفظ البخاري) وفي مسلم «فإني سمعت الليلة خشف نعليك» الحديث وقال «إني لا أتطهر طهوراً تاماً» الحديث (الدف) قال الحافظ العراقي في «شرح التقريب» : اختلف في ضبطه فقيل بالدال المعجمة وقيل بالمهملة وهي مفتوحة عليهما (بالفاء) قال أبو موسى المديني (صوت النعل) عند الوطء (وحركته على الأرض) عطف على النعل: أي وصت حركته، قال الشيخ الشعراوي في كتابه «العهود المحمدية» : والمعنى إني رأيتك مطرقاً بين يدي كالمطرقين بين يدي الملوك والأمراء.

(6/615)


210 - باب فضل يوم الجمعة
قال المصنف: يقال بضم الميم وإسكانها وفتحها، حكاهن الفراء والواحدي وغيرهما، ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها كما يقال همزة ولمزة لكثير الهمز واللمز ونحو ذلك، سميت جمعة لاجتماع الناس فيها، وحكي كسر الميم وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية العروبة اهـ. وكانوا يسمون الأحد أول والاثنين أهون والثلاثاء جباراً والأربعاء دباراً والخميس مونساً والسبت شباراً، قال الشاعر:
أؤمل أن أعيش وأن يومى
بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته
فمونس أو عروبة أو شبار
وقد أفرد الحافظ السيوطي فضائل الجمعة وخصائصها في مؤلف وكذا من قبله ابن أبي الصيف اليمني ومن قبله الحافظ النسائي (ووجوبها والاغتسال لها) معطوف على يوم لأن الصحيح من المذهب ندب الاغتسال وتأويل ما يوهم وجوبه، أو على وجوب ويكون حينئذ ساكتاً عن بيان حكمه من ندب وغيره، وإن قام الدليل على الأول فهو أولى (والطيب والتبكير لها) أي الوصول للمسجد من أول النهار (والدعاء يوم الجمعة والصلاة على النبي فيه) ولا يكره إفرادها فيه عن السلام لورود النص بها فيه منفردة كما ذكره الشيخ عبد الرزاق المكي الواعظ (وبيان ساعة الإجابة) أي تعيين وقتها فيه (واستحباب إكثار ذكر الله تعالى بعد الجمعة) أي صلاتها، عبر باستحباب بعد التعبير في الأعمال السابقة بفضل قمنا في التعبير.
(قال الله تعالى) : {فإذا قضيت الصلاة} أي فرغتم من الصلاة المعهودة وهي صلاة الجماعة (فانتشروا في الأرض) لقضاء حوائجكم ( {وابتغوا من فضل الله} ) أي رزقه، وهذا أمر إباحة بعد الحظر، عن بعض السلف: من باع واشترى بعد الجمعة

(6/616)


بارك الله ما سبعين مرة ( {واذكروا الله كثيراً} ) في حال انتشاركم وصرح به لئلا يغفل عنه بالاشتغال بطلب الرزق ( {لعلكم تفلحون} ) أي ائتوا بما ذكر راجين الفلاح، ففيه إيماء للحض على ترك الاعتماد على حال أو مقام، والحث على التوجه إلى الله سبحانه وحسن الرجاء منه، وهذه الآية دليل على آخر الترجمة، وقدمها مع ذلك لشرف الكتاب على السنة.
11147 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: خير يوم) حذفت الألف من خير للتخفيف لكثرة استعماله (طلعت عليه الشمس) جملة في محل الصفة ليوم وهي مسوقة لبيان الواقع إذ كل يوم كذلك (يوم الجمعة) فلذا كان سيد أيام الأسبوع ولا ينافيه خبر «سيد الأيام يوم عرفة» لأنه محمول على أيام السنة، وفي كلام العلقمي ما يوهم أن يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة. وذكر بعض أحوال اليوم بقوله (فيه خلق آدم) عليه السلام وهو أصل النوع الذي هو أفضل أنواع المخلوقات، وخلقه فيه يحتمل أن يكون سبب فضله أو بسببه، ثم رأيت العلقمي نقل عن شيخه يعني السيوطي عن القاضي يعني عياضا أنه قال: الظاهر أن هذه القضايا المعدودة ليست لذكر فضيله لأن إخراج آدم من الجنة وقيام الساعة لا يعد فضيلة، وإنما هو لبيان ما وقع فيه من الأمور العظام وما سيقع ليتأهب بصالح العمل لينال رحمة الله ويدفع نقمته. وقال أبو بكر بن العربي في كتابه «الأحوزي في شرح الترمذي» الجميع من الفضائل، وخروج آدم من الجنة هو سبب وجود الذرية والنسل والأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، ولم يخرج منها طرداً بل لقضاء أوطاره ثم يعود إليها، وقيام الساعة سبب تعجيل جزاء النبيين والصديقين اهـ ملخصاً. وقد زيد في رواية «وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة» (وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها) هذا الحديث هكذا فقط في رواية لمسلم، وفي أخرى له بزيادة «ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» وأخرجه كذلك أحمد والترمذي (رواه مسلم) هو كلفظ حديث أحمد والترمذي المزيد فيه ما ذكر فيصح أن تنسب روايته لهما.

(6/617)


21148 - (وعنه قال: قال رسول الله: من توضأ فأحسن الوضوء) بالإسباغ والإتيان به بآدابه وسننه (ثم أتى الجمعة) أتى بثم إيماء إلى تأخر الإتيان عن الوضوء لاشتغاله بالأذكار عقب الوضوء وصلاته (فاستمع) أي عقب إتيانه (وأنصت) أي ترك الكلام (غفر له ما بينه وبين الجمعة) أي ما بين صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية ليكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقص، نقله المصنف عن العلماء، وأعاد بين مع أنها لا تضاف إلا لمتعدد لفظاً نحو الود بين زيد وعمرو أو تقديراً نحو لا نفرق بين أحد من رسله» ويلزم على عودها إضافتها لغير متعدد دفعاً للعطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوع عند الجمهور (وزيادة) بالرفع عطف على الموصول المرفوع بغفر، وقال المصنف: إنه منصوب على الظرف: أي غفر له مدة ما بين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، فحذف المضاف المنصوب على الظرف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه، وما ذكرته أقرب إلا إن كانت الرواية بما قاله المصنف (ثلاثة أيام) أي غفر له ذنوب عشرة أيام: أي الصغائر المتعلقة بحق الله سبحانه المفعولة فيها دون الكبائر فلا تكفر إلا بالتوبة الصحيحة أو فضل إلهي، وحق العباد إذ لا يكفر إلا بارضاء صاحبه. قال المصنف: قال العلماء: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشرة أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشرة أمثالها (ومن مس الحصا فقد لغا) فيه نهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى الحض على إقبال القلب والجوارح على الخطبة، والمراد باللغو هنا الباطل المذموم المردود (رواه مسلم) .g
31149 - (وعنه عن النبيّ قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان) يجوز إبقاء الكلام على ظاهره، لأن كلاً من الجمعة ورمضان لما كان محل الأفعال الحسنة صار كأنه حسنة مكفرة كما قال المصنف في الحديث قبله. ويحتمل أن في الكلام

(6/618)


مقدراً: أي وصلاة الجمعة إلى صلاتها وصوم رمضان إلى صوم مثله (مكفرات) أي كل منها صالح لتكفير الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، فإن لم يجد البعض منها ما يكفره كان رفعة في درجاته، وإن وجد كبائر فقط، قال المصنف: رجونا أن يخفف عنه منها بقدر ما يكفر من الصغائر. قال العلقمي: قال شيخنا زكريا: إن قلت يلزم من جعل الصغائر مكفرة بالمذكورات عند اجتناب الكبائر اجتماع سببين على مسبب واحد وهو ممتنع. قلت: لا مانع من ذلك في الأسباب المعرفة لأنها علامات لا مؤثرات كما في اجتماع أسباب الحدث وما هنا كذلك اهـ (ما بينهن) وهو مفعول الوصف قبله إن كان منوناً كما هو في أصل مضبوط، ويؤيده أنه روى «مكفرات لما بينهن» أي بزيادة اللام وإلا فمضاف إليه (إذا اجتنبت الكبائر) قال المصنف: هو مؤول بعدم تكفير العمل الصالح للكبائر وإن كان صريحه أن شرط تكفيره اجتناب الكبائر فليس مراداً وإن قال به بعض (رواه مسلم) ورواه أحمد والترمذي.
41150 - (وعنه عن ابن عمر رضي الله عنهم) في نسخة عنهما والأولى أولى ليشمل الترضي أبا هريرة (أنهما سمعا رسول الله يقول) جملة في محل الحال من رسول الله، وقوله (على أعواد منبره) في محل الحال من ضمير يقول (لينتهين) بفتح الياء لكونه مسنداً للاسم الظاهر وهو قوله (أقوام) وإذا أسند العامل لمرفوع مثنى أو مجموع وجب في الأفصح تجريده من علامة التثنية والجمع وإفراده، ولعل جمعه لتنوع التاركين له باعتبار قبائل المنافقين وفرقهم (عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال وبالعين المهملتين مصدر ودع المستغني عنه برديفه وهو ترك: أي تركهم (الجمعات) بضمتين ويجوز إسكان الميم تخفيفاً: أي صلاتها (أو ليختمن الله على قلوبهم) فلا يصير فيها تأهل لقبول الهدى ولا استعداداً لتلقي الأنوار، والمعنى: ليكونن أحد الأمرين الانتهاء عن تركهم الجمعة أو الختم

(6/619)


على قلوبهم (ثم ليكونن) بضم النون والفاعل ضمير الجماعة المحذوف لملاقاته ساكناً النون الساكنة المدغمة (من الغافلين) قال المصنف: معنى الختم الطبع والتغطية، قالوا في قوله {ختم الله على قلوبهم} (البقرة: 7) أي طبع، ومثله الرين، وقيل الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر الإقفال الإقفال أشدها، قال القاضي: اختلف المتكلمون في هذا اختلافاً كثيراً، فقيل هو إعدام اللطف وأسباب الخير، وقيل هو خلق الكفر في صدورهم وهو قول أكثر متكلمي أهل السنة، وقال غيرهم: هو الشهادة عليهم، وقيل هو علامة جعلها الله تعالى في قلوبهم لتعرف بها الملائكة من تمدح ومن تذم (رواه مسلم) في أبواب الجمعة من «صحيحه» ، ورواه أحمد. وأبو داود وابن ماجه.
51151 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: إذا جاء أحدكم الجمعة) أي أراد المجيء إليها كما جاء في رواية أخرى «إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة» (فليغتسل) أي وجوباً وعليه طائفة من السلف، وحكي عن بعض الصحابة وبه قال أهل الظاهر، وحكاه ابن المنذر عن مالك أو ندباً، وعليه جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار، قال القاضي: وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه. واحتج الأولون بظاهر هذا الحديث وما بعده وما في معناهما. واحتج الجمهور بأحاديث منها حديث سمرة الآتي قريباً «من توضأ يوم الجمعة الخ» وهو حديث صحيح في السنن ومنها حديث سمرة الآتي قريباً «من توضأ يوم الجمعة الخ» وهو حديث صحيح في السنن ومنها حديث عمر وقوله وهو في الخطبة للرجل المتأخر إلى الآن، فقال ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت، فقال عمر: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله كان يأمرنا بالغسل؟ والحديث في البخاري، وأجابوا عن الأحاديث بأنها محمولة على الندب المتأكد جمعاً بين الأحاديث أشار إليه المصنف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه مالك والنسائي.

(6/620)


61153 - (وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال: غسل الجمعة) وفي رواية «غسل يوم الجمعة» (واجب على كل محتلم متفق عليه) ورواه مالك وأبو داود والنسائي كلهم عن أبي سعيد، وأخرجه الرافعي من حديثه بلفظ «غسل يوم الجمعة واجب كوجوب غسل الجنابة» (المراد بالمحتلم) بصيغة الفاعل (البالغ) أي ولو امرأة تحضر الجمعة بأن كانت عجوزاً، وحينئذ ففي التعبير به مجاز مرسل من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو إطلاق الخاص وإرادة العام (والمراد بالوجوب وجوب اختيار) أي يختار فعله ويطلب كما يختار فعل الواجب وإن افترقا يترتب الإثم بترك الواجب دون تركه (كقول الرجل لصاحبه حقك واجب عليّ) أي يطلب مني على سبيل الاختيار والإتيان به (والله أعلم) وقال في «شرح مسلم» : والمراد بالوجوب التأكد كما يقول الرجل لصاحبه حقك واجب على: أي متأكد لا أن المراد الواجب المتحتم المعاقب عليه.
71153 - (وعن سمرة) بفتح فضم (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من توضأ يوم الجمعة فيها) أي فبالرخصة المدلول عليها بالسياق أخذ (ونعمت) هي الرخصة والمخصوص بالمدح محذوف وهو الوضوء لدلالة قوله توضأ عليه (ومن اغتسل) معه (فالغسل أفضل) قال المصنف: فيه دليلان على أن غسل الجمعة ليس بواجب اهـ: أحدهما مدحه للإتيان بالوضوء دون الغسل وتارك الواجب لا يمدح. الثاني قوله فالغسل أفضل فإنه يدل على ندبه وزيادة فضله على الوضوء (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال المصنف

(6/621)


في «شرح مسلم» : هو حديث صحيح في «السنن» مشهور وفي «الجامع الصغير» ، ورواه أحمد في «مسنده» والنسائي في «سننه» وابن خزيمة.
81154 - (وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يغتسل رجل) تقدم أن المرأة كذلك في ندب الغسل للجمعة إن طلب منها الحضور (يوم الجمعة) ظاهره ولو بعد فعلها وهو غير مراد كما يدل عليه باقي الروايات (ويتطهر ما استطاع من طهر) قال البرماوي: التنكير فيه للتكثير ليشمل قص الشارب وقلم الظفر وحلق العانة وتنظيف الثياب وفي نسخة من البخاري من الطهر بالتعريف (ويدّهن) بالتشديد: أي يطلى بالدهن (من دهنه) بضم الدال (أو يمس من طيب بيته) أي يمس شيئاً من ذلك، فأو للتفصيل وفي قوله طيب بيته إيماء إلى ندب اتخاذ الطيب في البيت واعتياد الطيب، وقدم التطهير لما فيه من التخلية بالمعجمة عن الأوساخ ثم الادهان لما فيه من ترك الشعث وختم بالطيب لأنه كالتحلية بالمهملة، وقد زاد أبو داود في روايته «ويلبس من صالح ثيابه» (ثم يخرج) زاد ابن خزيمة «إلى المسجد» وزاد أحمد «ثم يمشي وعليه السكينة» (فلا يفرق) بالرفع عطف على ما قبله (بين اثنين) ولأبي داود «ثم لم يتخط رقاب الناس» قال البرماوي: وقوله فلا يفرق الخ كناية عن التبكير، فإنه إذا بكر لا يتخطى الرقاب ولا يفرق بين الناس (ثم يصلي ما كتب له) أي فرض من صلاة الجمعة أو ما قدر له من الصلاة فرضاً أو نفلاً (ثم ينصت) بضم التحتية على الأفصح من أنصت إذا سكت، ويجوز فتحها، قال المصنف: يقال أنصت وانتصت ونصت بمعنى. وتعقب قول القاضي عياض أن التعبير بانتصت بدل أنصت في حديث أبي هريرة السابق في تكفير الجمعة لما بينها وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام وهم من الراوي بأنه ليس وهماً بل هي لغة صحيحة، قال البرماوي: ويجيء أنصت أيضاً متعدياً يقال أنصته (إذا تكلم الإمام) أي خطب زاد ابن حبان «حتى يقضي صلاته» (إلا غفر له ما بينه) أي بين يوم الجمعة (وبين الجمعة الأخرى) قال البرماوي: يحتمل الجمعة الماضية والمستقبلة لأنها تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بالكسر، والمغفرة تكون للمستقبل كالماضي قال تعالى:
{ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (الفتح: 2) اهـ، وقد عين ابن خزيمة في

(6/622)


روايته أنها الجمعة التي قبلها وزاد ابن حبان «وزيادة ثلاثة أيام من اللتي بعدها» زاد ابن ماجه «ما لم تغش الكبائر» (رواه البخاري) ورواه أحمد في «مسنده» كما في «الجامع الكبير» .

91155 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: من اغتسل يوم الجمعة) ويدخل وقته بطلوع الفجر وتقريبه من الذهاب لصلاتها أولى، ولو تعارض هو والتبكير قدمه (غسل الجنابة) مفعول مطلق ناب فيه عن المصدر اسمه نحو سلمت عليك سلاماً وأعطيتك عطاء، أو هو مما ناب فيه صفته منابه والأصل اغتسالاً مثل غسل الجنابة فحذفت الصفة وأقيم المضاف إليه مقامها في ذلك، وإليه يومىء كلام المصنف الآتي ويؤيده أن عند عبد الرزاق في «مصنفه» «كما يغتسل من الجنابة» وأتى به لدفع توهم الاكتفاء بمسمى الغسل اللغوي في حصول سنة غسلها، بل لا بد فيه من الشرعي الشامل لجميع البشرة والشعر ظاهراً وباطناً وإن كثف (ثم راح) زاد في «الموطأ» «في الساعة الأولى» وراح تستعمل في جميع الأوقات بمعنى ذهب، قاله الأزهري منكراً على من زعم أنه لا يكون، إلا بعد الزوال (فكأنما قرب) بتشديد الراء (بدنة) أي تصدق بها متقرباً إلى الله تعالى، والبدنة هي البعير ذكراً كان أو أنثى والهاء فيه للوحدة لا للتأنيث سميت بذلك لعظم بدنها، وقال الجوهري: البدنة ناقة أو بقرة سميت بذلك لأنهم كانوا يسمونها (ومن راح في الساعة الثانية) أي من النهار (فكأنما قرب بقرة) مشقة من البقر وهو الشق لأنها تبقر الأرض أي تشقها بالحرث (ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) وصفه بذلك لأنه أكمل وأحسن صورة ولأن قرنه ينتفع به (ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة) ، بفتح الدال المهملة وهو الفصيح وحكي كسرها، وقيل إنه أفصح من الفتح،

(6/623)


حكاه الدماميني، في «مصابيحه» وضمها، واقتصر ابن حبيب على
الفتح في ذكورها قال: وأما في الإناث فبالكسر، وذكر الدجاجة وإن لم تكن من نوع ما يتقرب به من النعم لأن المراد مطلق التصدق (ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) قال السيوطي في «التوشيح» : ذكر الساعات هنا خمساً والنسائي ستاً، وجعل بين الدجاجة والبيضة العصفور. قلت: وفي رواية أخرى له بين الشاة والدجاجة بطة، أوردها عنه البرماوي ولها شواهد. واختلف في المراد بالساعات فقيل المراد بها بيان مراتب المبكرين، ورد بأنها متفاوتة إلى أكثر من هذا العدد، فدل على أن المراد حقيقة الساعات، ثم قيل هي لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر. قلت: وعليه مالك، وقيل هي من أول النهار، والمراد الساعات الزمانية المتفاوتة بتفاوت زيادة النهار ونقصه. وينقسم النهار إلى اثنتي عشرة ساعة منها طويلاً كان أو قصيراً. وأورد عليه لزوم تساوي الآيتين في طرفيها. وأجيب بالتساوي في مسمى البدنة مثلاً والتفاوت في صفاتها. قال المصنف: قال السيوطي في «تاريخ ابن عساكر» عن ابن عباس بسند ضعيف: أول من قدر النهار اثنتي عشرة ساعة وكذا الليل نوح عليه السلام حين كان في السفينة (فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة) قال البرماوي: أي غير الحفظة، وهم الذي وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة، وسيأتي ما ورد فيهم (يستمعون الذكر) لفظ مسلم «فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر» ولابن خزيمة «على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول» وفي «الحلية» «إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور» ولابن خزيمة «فيقول بعض الملائكة لبعض ما حبس فلاناً؟ فيقول: اللهم إن كان ضالاً فاهده، وإن كان فقيراً فاغنه، وإن كان مريضاً فعافه» (متفق عليه) قال في «الجامع الكبير» : ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان كلهم عن أبي هريرة.
(قوله غسل الجنابة) بالنصب على الحكاية (أي غسلاً كغسل الجنابة في الصفة) وهذا التأويل يحتاج إليه من يرى عدم حصول سنة غسلها بواجب غسل الجنابة إذا لم ينوه، وهو الذي عليه المصنف وهو المختار، والذي عليه الرافعي حصوله وإن لم ينوه،

(6/624)


فلا يحتاج للتأويل إلا من جهة عدم التقييد بكون الغسل واجباً يحصل به وإن كان وإلا فبالمندوب والله أعلم.
101156 - (وعنه أن رسول الله ذكر يوم الجمعة) أي بالثناء عليه وبيان فضله (فقال: فيها ساعة لا يوافقها) أي يصادفها (عبد مسلم وهو قائم) جملة حالية من ضمير وافق المستكن فيه وهو خارج مخرج الغالب فلا يعمل بمفهومه (يصلي) جملة حالية من ضمير قائم، أو جملة تفسيرية لقائم أو بدل منه (يسأل) حال مترادفة أو متداخلة (الله شيئاً) عند البخاري في رواية (خيراً) . ولابن ماجه «ما لم يسأل حراماً» ولأحمد «ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم» (إلا أعطاه إياه وأشار) أي رسول الله كما في «الموطأ» من رواية أبي مصعب (بيده يقللها) أي يبين أنها لحظة لطيفة خفيفة، وزاد مسلم «وهي ساعة خفيفة» وقد اختلف العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم هل هذه الساعة باقية أو رفعت؟ وعلى الأول هل هي في كل جمعة أو جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي في وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما اتبداؤه وما انتهاؤه وعلى كل ذلك هل تستمر أو تنتقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق الوقت أو بعضه؟ وحاصله أن الأقوال فيها خمسة وأربعون قولاً بينها الحافظ في «فتح الباري» والسيوطي في «شرح الموطأ» ، وقد بينتها بدلائلها في كتابي «سطوع البدر في فضائل ليلة القدر» (متفق عليه) .
111157 - (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهملتين فهاء تأنيث كنية (ابن أبي موسى) عبد الله بن قيس (الأشعري رضي الله عنه) واسم أبي بردة قيل الحارث وقيل عامر، كان قاضي الكوفة يروي عن أبيه وعلي والزبير وعنه بنوه عبد الله ويوسف وسعيد وبلال وحفيده بريد بن عبد الله، وكان من نبلاء العلماء توفي سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك جاوز الثمانين اهـ ملخصاً من «كاشف الذهبي» و «تقريب الحافظ» بن حجر (قال:

(6/625)


قال عبد الله بن رسول الله) أي مخاطباً لأبي بردة (أسمعت أباك يحدث) جملة حالية من المفعول (عن رضي الله عنه في شأن) أي بيان (ساعة الجمعة؟ قال: قلت نعم) حصل به الجواب وزاد لزيادة البيان قوله (سمعته يقول: سمعت رسول الله يقول: هي) أي ساعة الإجابة فيها (ما) أي الوقت الذي (بين أن يجلس الإمام) أي على المنبر (إلى أن تقضى الصلاة. رواه مسلم) قال المصنف في «شرحه» : هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال: لم يسنده غير مخرمة عن أبيه عن أبي بردة، ورواه جماعة عن أبي بردة من قوله، ومنهم من بلغ به أبا موسى رضي الله عنه عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة وتابعه وأصل الأحدب ومجالد، روياه عن أبي بردة من قوله، وقال النعمان بن عبد السلام: عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه موقوف ولا يثبت قوله عن أبيه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن حماد بن خالد «قلت لمخرمة: سمعت عن أبيك شيئاً؟ قال لا» هذا كلام الدارقطني وهذا الذي استدركه بناه على القاعدة المعروفة له ولأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع، أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة. والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال لأنها زيادة ثقة اهـ. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى وأشهر الأقوال قول عبد الله بن سلام: إنها آخر ساعة
بعد العصر، زاد الحافظ ابن حجر: وما عداهما إما ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف. ثم اختلف السلف في أي القولين أرجح فرجح كلاً مرجحون فمن رجح الأول البيهقي وابن العربي والقرطبي، وقال المصنف: إنه الصحيح أو الصواب، ورجح الثاني أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن عبد البر وابن الزملكاني من الشافعية، قال القاضي عياض: وليس معنى هذه الأقوال أن هذا كله وقت لها بل معناه أنها تكون في أثناء ذلك لقوله «وأشار بيده يقللها» والحكمة في إبهامها ألا يقتصر على إحيائها،

(6/626)


بل يعمم بالطاعات سائر أوقات الجمعة كإخفاء ليلة القدر بين الليالي، ولا يشكل على كل من القولين قوله في الحديث يصلي، لأن المراد منه عليهما أنه منتظرها وهو في حكم المصلي كما أجاب به ابن سلام رضي الله عنه لمَّا أورد عليه ذلك وهو جار على الوجه الثاني كما في «التوشيح» .

121158 - (وعن أوس) بفتح فسكون وآخره سين مهملة (ابن أوس) بضبط ما قبله، قال المصنف في «التهذيب» : هو الثقفي، وقال يحيى بن معين: يقال له أوس بن أوس، ويقال له أوس بن أبي أوس، وقال البخاري: أوس بن أوس وأوس بن أبي أويس وأوس بن حذيفة الثلاثة اسم لرجل واحد، ووافقه جماعة وخالفه بعضهم.
قلت: ممن خالفه الحافظ ابن حجر في «التقريب» فقال: أوس بن أوس الثقفي صحابي سكن دمشق وأوس بن أبي أوس، واسم أبي أوس حذيفة الثقفي صحابي أيضاً، وهو غير الذي قبله على الصحيح اهـ. قال المصنف: نزل أوس هذا دمشق ومسجده ودراه بها في درب العلي وقبره بها، روى حديثين في الجمعة حديث «من غسل واغتسل» وحديث «أكثروا من الصلاة عليّ» وحديثاً في الصيام اهـ. وفي «تقريب الحافظ» : خرج عنه الترمذي وابن ماجه، وفي «محتضر التلقيح» : أوس بن أوس له أربعة وعشرون حديثاً وليس له في الصحيح شيء (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من أفضل أيامكم) فيه دليل لأن أفضل أيام السنة يوم عرفة كما جاء «سيد الأيام يوم عرفة» (يوم الجمعة) ويوم الجمعة من الأفضل وهو أفضل أيام الأسبوع (فأكثروا عليّ من الصلاة فيه) ليزكوا ثوابها وينمو فضلها، لأن العمل الصالح يشرف بشرف زمانه ومكانه، وقوله (فإن صلاتكم معروضة عليّ) يحتمل أن يراد عرض خاص وإلا فسائر الأعمال صالحها وفاسدها في سائر الأيام تعرض عليه كما جاء في السنة. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي وغيره: ويوم الجمعة كغيره في أن النبي يسمع بأذنيه الصلاة عليه إن كانت بحضرته بين يديه، وإلا فتبلغه الملائكة إياها، وما اشتهر من قول العامة أن النبي ليلة الجمعة يسمع بأذنيه الصلاة عليه محمول على ما ذكر، وللحديث تتمة تأتي في كتاب الصلاة على النبيّ (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان

(6/627)


والحاكم في «المستدرك» .Y

121158 - (وعن أوس) بفتح فسكون وآخره سين مهملة (ابن أوس) بضبط ما قبله، قال المصنف في «التهذيب» : هو الثقفي، وقال يحيى بن معين: يقال له أوس بن أوس، ويقال له أوس بن أبي أوس، وقال البخاري: أوس بن أوس وأوس بن أبي أويس وأوس بن حذيفة الثلاثة اسم لرجل واحد، ووافقه جماعة وخالفه بعضهم.
قلت: ممن خالفه الحافظ ابن حجر في «التقريب» فقال: أوس بن أوس الثقفي صحابي سكن دمشق وأوس بن أبي أوس، واسم أبي أوس حذيفة الثقفي صحابي أيضاً، وهو غير الذي قبله على الصحيح اهـ. قال المصنف: نزل أوس هذا دمشق ومسجده ودراه بها في درب العلي وقبره بها، روى حديثين في الجمعة حديث «من غسل واغتسل» وحديث «أكثروا من الصلاة عليّ» وحديثاً في الصيام اهـ. وفي «تقريب الحافظ» : خرج عنه الترمذي وابن ماجه، وفي «محتضر التلقيح» : أوس بن أوس له أربعة وعشرون حديثاً وليس له في الصحيح شيء (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من أفضل أيامكم) فيه دليل لأن أفضل أيام السنة يوم عرفة كما جاء «سيد الأيام يوم عرفة» (يوم الجمعة) ويوم الجمعة من الأفضل وهو أفضل أيام الأسبوع (فأكثروا عليّ من الصلاة فيه) ليزكوا ثوابها وينمو فضلها، لأن العمل الصالح يشرف بشرف زمانه ومكانه، وقوله (فإن صلاتكم معروضة عليّ) يحتمل أن يراد عرض خاص وإلا فسائر الأعمال صالحها وفاسدها في سائر الأيام تعرض عليه كما جاء في السنة. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي وغيره: ويوم الجمعة كغيره في أن النبي يسمع بأذنيه الصلاة عليه إن كانت بحضرته بين يديه، وإلا فتبلغه الملائكة إياها، وما اشتهر من قول العامة أن النبي ليلة الجمعة يسمع بأذنيه الصلاة عليه محمول على ما ذكر، وللحديث تتمة تأتي في كتاب الصلاة على النبيّ (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في «المستدرك» .
Y

211 - باب استحباب سجود الشكر
هو سجدة واحدة تطلب خارج الصلاة، ويشترط لها شروط الصلاة، وأركانها: النية، وتكبيرة الإحرام، والسجود، والسلام (عند حصول نعمة ظاهرة) أي هجومها سواء كانت مما يتوقعها أولا، لكن يظهر من قولهم هجومها أنه يشترط ألا يكون متوقعاً لها، وسواء عمت النعمة المسلمين أو خصت كما صرح به المصنف وغيره (أو اندفاع بلية ظاهرة) ولو تصدق أو صلى شكراً فحسن، قاله في «التهذيب» ، قال الناشري في (الإيضاح) أي يفعل ذلك مع السجود كما صرح به النووي في «مجموعه» ، وفهم الخوارزمي تليمذ صاحب «التهذيب» أنه بدله فقال: لو أقام التصدق أو الصلاة مقام السجود للشكر كان حسناً اهـ.
11159 - (وعن سعد بن وقاص رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله من مكة نريد المدينة) بالتحتية حال من رسول الله على مذهب الفارسي في إجازته مجيء الحال من المضاف إليه من غير شرط، وعى الاشتراط فتعرب الجملة مستأنفة، وبالنون حال من فاعل خرجنا «فلما كنا قريباً من عزوزاء» بفتح العين وضم الزاي وسكون الواو وبالزاي الثانية مثل دبوقاً اسم للمعذرة، وفي بعض النسخ بسكون الزاي وفتح الواو والمد، وهو أقرب، ولابن العبد عزوزاه بالهاء بدل الهمزة قال البكري: هو بضم الزاي وواو وزاي أخرى: موضع بين مكة والمدينة، وأنا أظنه تصحيفاً وأنه بفتح العين المهملة وسكون الزاي وفتح الواو، وراء مهملة: موضع قريب من مكة، قاله ابن رسلان (نزل) أي عن راحلته (ثم رفع يديه فدعا الله) سبحانه وتعالى (ساعة) فيه استحباب رفع اليدين في كل دعاء (ثم خر) أي سقط بعزمة (ساجداً) منصوب على الحال، والسجود هو وضع الجبهة مكشوفة على الأرض وهو غاية الخرور ونهاية الخضوع (فمكث) ضم الكاف وفتحها: أي أقام. قال ابن عطية: وفتح

(6/628)


الكاف أحسن لأنه لغة القرآن في قوله ماكثين إذ هو من مكث بفتحها، ولو كان من مضمومها لكان مكيتين (طويلاً) فيه فضيلة تطويل سجدة الشكر ومثلها سجدتا السهو والتلاوة وغيرهما (ثم قام) أي من سجوده وسلم (فرفع يديه) أي للدعاء (ساعة) ويحتمل أن يكون المراد ثم قام للدعاء بعد التحلل من سجدة الشكر، فيؤخذ منه ندب القيام للدعاء بعد التحلل من سجدة الشكر (ثم خر ساجداً) لله عزّ وجل (فعله) أي ما ذكر من الخرور والسجود (ثلاثاً وقال: إني سألت ربي) سبحانه وتعالى حذف المفعول للتعميم أو لأنه المراد بقوله (وشفعت لأمتي) بفتح الفاء ظاهره حصولها منه لهم في الدنيا، ولا يشكل عليه حديث الصحيحين «لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي» خلافاً لمن توهمه لأنها وقعت منه لهم في الدنيا، وهناك شفاعة خاصة جعلها دعوته المقطوع بإجابها، وفيه مزيد كمال
شفقته بأمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة (فأعطاني) أي بالدعاء الأول (ثلث أمتي) أي أن يدخلهم الجنة (فخررت) بكسر الراء الأولى (ساجداً لربي) عز وجل (شكراً) نصب على المصدرية: أي خرور شكر، أو على العلة أو الحال فيه: أي ولما استجاب الله دعوته في أمته وذلك من أعظم النعم عنده وأثمها خر ساجداً شكراً لذلك. ففيه استحباب سجود الشكر عند تجدد النعمة، وظاهر الحديث أن سجوده كان خارج الصلاة وهو كذلك فإنها لا تشرع فيها (ثم رفعت رأسي) أي من سجدة الشكر (فسألت ربي وشفعت لأمتي) حذف المسؤول إيماء إلى كثرته وعظمته، وأنه فوق ما تحيط ببيانه العبارة، والمطلوب بهذا السؤال الثاني الزيادة على الحاصل الأول (فأعطاني ثلث أمتي) الثاني: أي أن يدخلوا الجنة (فخررت ساجداً لربي شكراً) فيه تكرير السجود بتكرير المقتضي له (ثم رفعت رأسي) أي من السجدة الثانية (فسألت ربي) وشفعت (لأمتي فأعطاني الثلث الآخر) بكسر الخاء (فخررت ساجداً لربي) سجدة ثالثة شكراً له سبحانه (رواه أبو داود) في «الجهاد» من «سننه» .

(6/629)


212 - باب فضل قيام الليل
أي التهجد فيه.
(قال الله تعالى) : ( {ومن الليل} ) أي بعضه ( {فتهجد به} ) أترك الهجود والتهجد ترك الهجود للصلاة كالتأثم والتحرج ( {نافلة لك} ) فإنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فجمع نوافله زيادة في رفع درجته أو معناه: فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة. وعن كثير من السلف أن التهجد كان واجباً عليه، ونصبها بالعلية أو بتقدير فرضها فريضة، أو حال من مضير به ( {عسى أن يبعثك ربك مقاماً} ) أي في مقام أو تقديره فيقيمك مقاماً ( {محموداً} ) وهو مقام الشفاعة لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون. وفي الآية إيماء إلى أن ارتقاء المقامات المحمودة من نتائج قيام الليل فإن للوارث مشرباً من بحار مورثه.
(وقال تعالى) : ( {تتجافى} ) ترتفع وتتنحى ( {جنوبهم عن المضاجع} ) أي الفرش ومواضع النوم ( {يدعون ربهم} ) داعين ( {خوفاً} ) من عقابه ( {وطمعاً} ) في ثوابه ( {ومما رزقناهم ينفقون} ) في مصارف الخير، والمراد التهجد وقيام الليل، وفي الأحاديث الصحيحة ما يدل عليه وهو المناسب لسياق المصنف، وقال آخرون: هو صلاة العشاء والصبح في جماعة. وقال آخرون هو صلاة الأوابين بين العشاءين، وعن بعض: هو انتظار صلاة العتمة.
(وقال تعالى) في مدح المحسنين ( {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} ) ينامون، وما زائدة، ويهجعون خبر كان، وقليلاً إما ظرف: أي زماناً قليلاً، ومن الليل إما صفة أو متعلق بيهجعون وإما مفعول مطلق: أي هجوعاً قليلاً، ولو جعلت ما مصدرية فما يهجعون فاعل قليلاً، ومن الليل بيان أو حال من المصدر. وأما جعلها نافية: أي الهجوع في قليل من الليل منتف بمعنى أن عادتهم إحياء

(6/630)


جميع أجزاء الليل فلا نوم لهم أصلاً، وأن عادتهم التهجد في جميع الليالي فلا يمكن أن يناموا جميع ليل واحد، فجائز عند من يجوز عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها إذا كان ظرفاً، ذكره الصفوي في «جامع البيان» .
11160 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يقوم من الليل) أي بعضه ولم يستوف ليلة بالقيام تخفيفاً على أمته (حتى تتفطر) بفتح الفاء والمهملة: أي تتشقق وفي نسخة تنفطر بالنون الساكنة فالفاء (قدماه) وهذا غاية لما دل عليه ما قبله: أي دأب في الطاعة إلى تفطر قدميه من طول القيام واعتماده عليها (فقلت له لم تصنع هذا) سؤال عن حكمة الدأب والتشمير في الطاعة (يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أتت به طبق الآية المكنى بها عن رفعة شأنه وعلو مكانه، لا أن هناك ذنباً فيغفر لوجوب العصمة له كسائر الأنبياء (قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) أي أأترك صلاتي لأجل مغفرته فلا أكون عبداً شكوراً؟ فالفاء عاطفة على مقدر بعد الهمزة كما جرى عليه «الكشاف» ، ظن السائل أن سبب تحمل مشاق الطاعة خوف الذنب، أو رجاء العفو فبين أن له سبباً آخر هو أعلى وأكمل وهو الشكر على التأهل لها مع المغفرة وإجزال النعمة والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن أدام بذل الجهد في ذلك كان شكوراً وقليل ما هم، ولم يوف أحد بعلي هذا المنصب إلا الأنبياء وأعلاهم فيه نبينا، وإنما ألزموا أنفسهم الجهد في العبادة لكمال علمهم بعظيم نعمة ربهم من غير سابقة استحقاق (متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب المجاهدة.

(وعن المغيرة) ابن شعبة (نحوه) ولفظه «إن كان رسول الله ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً (متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ ومسلم بنحوه، ورواه الترمذي في «الشمائل» بلفظ «صلى رسول الله حتى انتفخت قدماه فقيل له: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من

(6/631)


ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟» والحديث تقدم في باب المجاهدة.
31161 - (وعن علي رضي الله عنه: أن النبي طرقه وفاطمة) بالنصب عطف على الضمير المنصوب (ليلة) الإتيان به على تجريد الطروق عن جزء معناه الآتي وإرادة مطلق الإتيان، ونحو قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء: 1) بناء على أن الإسراء السير ليلاً وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإتيان (فقال ألا تصليان) ألا أداة عرض، واقتصر عليه المصنف لأنّه مقصود الترجمة لما فيه من طلب القيام حينئذ من عليّ وفاطمة، ووصوله إليهما إيقاظاً لهما من نومهما، أو تنبيهاً على عظم الصلاة حينئذ وفضلها. قال ابن جرير: لولا ما علم النبي من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكنا، لكنه اختار لهما تلك الفضيلة على الدعة والسكون، وسكت عما أجاب به على رضي الله عنه وما قاله النبيّ لعدم تعلقه بغرض الترجمة (متفق عليه. طرقه: أتاه ليلاً) .
41162 - (وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب) القرشي العدوي أبي عمر أو أبي عبد الله المدني أحد فقهاء المدينة السبعة، كان ثبتاً عابداً فاضلاً، وكان يشبه بأبيه في الهدي والسمت، من كبار التابعين مات آخر سنة ست ومائة على الصحيح كذا في التقريب للحافظ وفي قوله (رضي الله عنهم) تغليب لأبيه وجده الصحابيين عليه. (عن أبيه أن النبيّ) هو مرسل صحابي لأنه يرويه عن أخته حفصة عن النبيّ أنه (قال) لما عرضت عليه حفصة ما رآه ابن عمر من المنام المذكور في «الصحيحين» (نعم الرجل عبد الله) قال

(6/632)


القرطبي: إنما فسر الشارع من رؤيا عبد الله ما هو محمود لأنه عرض على النار ثم عوفي منها، وقيل له: لا روع عليك وذلك لصلاحه، وفيه جواز الثناء على من أمن عليه الإعجاب (لو كان يصلي من الليل) قال البرماوي: لو للتمني لا شرطية، قال المهلب: إنما فسرها بقيام الليل لأنه لم ير شيئاً منه يغفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار وعلم مبيته في المسجد فعبر ذلك بأنه منبه على قيام الليل. وفي الحديث إيماء إلى أن قيام الليل ينجي من النار، وفيه تمني الخير (قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك) أي التمني الصادر من رسول الله (لا ينام الليل) أي بعضه (إلا قليلاً) أي إلا بعضا قليلاً أو إلا نوماً قليلاً. ففيه إيماء لاستغراق قلبه بالتوجه للخدمة وإن نامت عينه فلا يستغرق قلبه فيه (متفق عليه) والحديث أخرجه أحمد.

51163 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله) مخاطباً له (يا عبد الله لا تكن مثل فلان) أي لا تماثله وتشابهه فيما بينه بقوله (كان يقوم الليل) هو كناية عن التهجد فيه/ وفي البخاري «من الليل» بزيادة من (فترك قيام الليل) ففيه ذم قطع ما يعتاده الإنسان من عمل البر ولذا أمر الإنسان ألا يفعل من البر إلا ما يطيق إدامته، والحديث تقدم في باب المحافظة على الأعمال (متفق عليه) .
61164 - (وعن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال ذكر) بالبناء للمجهول (عند

(6/633)


النبي رجل) حذف الذاكر وأبهم المذكور ستراً على كل، ففيه أن من الأدب الستر في مثل ذلك (نام ليله) بالإضافة إلى الضمير (حتى أصبح) أي لم يقم فيه للتهجد (فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه) بالتثنية (أو) شك من الراوي هل قاله بالتثنية (أو قال) أي النبي في (أذنه) بالإفراد. واختلف في معناه فقال قوم: هو على ظاهره وحقيقته لأن الشيطان ممن يبول، ولا يلزم من بوله رؤية البول ولونه فيها إذ اللفظ محتمل لكون في أذنيه ظرفاً للبول وكونه ظرفاً للشيطان، وأصل الطهارة محقق فلا يجب التطهر ما لم يتحقق التنجيس. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراوي في العهود المحمدية: ولقد رأيت عياناً إنساناً من أهل الزاوية نام حتى الفجر، فقام والبول يسيل من أذنه، قال: وكان يكذب بذلك، فينبغي الإيمان به وبما شاكله، وقيل إنه كناية أو استعارة عن كمال استهانة الشيطان به وتمكنه تمكن قاضي الحاجة من محل قضائها، وقيل معناه أفسده يقال بال في كذا: أي أفسده، وقيل استخف به واحتقره، يقال لمن استخف بإنسان وخدعه بال في أذنه، وأصل ذلك في دابة تفعل ذلك بالأسد إذلالاً له، وقيل معناه: ظهر عليه وسخر منه (متفق عليه) وفيه أن إهمال حق الله تعالى إنما ينشأ عن تمكن عدو الله في ذلك الإنسان حتى يحول بينه وبين القيام بحق الله سبحانه.
71165 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: يعقد الشيطان) أي إبليس أو أحد أولاده (على قافية رأس أحدكم) قيل العقد كناية عن تثقيله بالنوم وتثبيطه، وقيل مجاز عن تثبيطه عن قيام الليل قال في النهاية: المراد منه تثقيله في النوم وإطالته كأنه شد عليه شداداً وعقد عقداً، وقيل على ظاهره فعند ابن ماجه يعقد في حبل وهو من باب عقد السواحر النفاثات في العقد وذلك بأن يأخذن خيطاً فيعقدن عليه عقدة منه ويتكلمن عليه بالسحر فيتأثر المسحور بمرض أو تحريك فلب أو نحوه. وقال المصنف: هو عقد حقيقي بمعنى عقد السحر للإنسان ومنعه من القيام، فهو قول يقوله فيؤثر في تثبيط النائم كتأثير

(6/634)


السحر، ويحتمل أن يكون فعلاً يفعله كفعل النفاثات في العقد، وقيل هو من عقد القلب وتصميمه فكأنه يوسوسه ويحدثه بأن عليك ليلاً طويلاً فيتأخر عن القيام (إذا هو نام) أي تلبس به أو إذا أراده (ثلاث عقد) قال البيضاوي: الثلاث إما للتأكيد وإما لحل كل منها بواحد من الذكر والوضوء والصلاة، قال: وتخصيص القفا لأنه محل الواهمة ومجال تصرفها وهي أطوع القوى للشيطان وأسرعها إجابة لدعوته (يضرب على كل عقدة) أي عندها كما في رواية (عيك ليل طويل) مبتدأ وخبر مقدم، أو فاعل لفعل محذوف: أي بقي عليك ليل، قال المصنف: هو في معظم نسخ بلادنا: أي من مسلم، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين «عليك ليلاً طويلاً» بالنصب على الإغراء، ورواه بعضهم «عليك ليل طويل» بالرفع: أي بقي عليك ليل طويل اهـ. قال البرماوي: هو أولى وأمكن في المعنى من حيث إنه يخبره عن طول الليل ثم يأمره فيقول له (فارقد) فإذا كان إغراء كان أمراً بملازمة طول الرقاد فلا يبقى لهذا الأمر كبير فائدة، والجملة مقول قول محذوف: أي قائلاً هذا الكلام، قال ابن بطال: هو تفسير لمعنى العقد كأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ اهـ. والظاهر أنه يقول ذلك عند نومه ليحمله على الاستغراق في النوم وعدم القلق فيه
فيفوته القيام (فإن استيقظ فذكر الله تعالى) بأي ذكر من الأذكار (انحلت عقدة) بالتنوين (فإن توضأ انحلت عقدة) أي ثانية، وفي رواية لمسلم «فإن توضأ انحلت عقدتان» قال المصنف: معناه تمام عقدتين: أي انحلت عقدة ثانية وتم بها عقدتان وهو بمعنى قوله تعالى: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} () إلى قوله

{في أربعة أيام} (فصلت: 9، 10) أي في تمام أربعة أيام، ومعناه في يومين آخرين تمت الجملة بهما أربعة أيام، ومثله في الحديث الصحيح «من صلى على جنازة فله قيراط، ومن اتبعها حتى توضع في القبر فقيراطان» هذا لفظ إحدى روايات مسلم، ورواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة بمعناه، والمراد فله قيراط بالأول أي يحصل له بالصلاة قيراط، وبالاتباع قيراط: أي تتم به الجملة قيراطان، ومثله حديث مسلم «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله» اهـ. ملخصاً (فإن صلى) أي ولو ركعة أو أقل ما يعتاد وهو ركعتان كل محتمل (انحلت عقدة) روى بالإفراد كما قبله وبالجمع، قال البرماوي: ويؤيده رواية البخاري في بدء الخلق «عقده كلها» (فأصبح نشيطاً) لسروره بما وفقه الله (طيب النفس) لما بارك الله له في نفسه من

(6/635)


هذا التصرف الحسن (وإلا) أي وإن لم يأت بما ذكر من الأمور الثلاثة (أصبح خبيث النفس) أي بتركه ما كان اعتاده أو نواه من فعل الخير، ولا يعارض هذا الحديث «لا يقل أحدكم خبثت نفسي» لأن النهي لمن يقول ذلك عن نفسه، وهنا إنما أخبر عن غيره بأنه كذلك (كسلان) أي لبقاء أثر تثبيط الشيطان ولشؤم تفريطه وظفر الشيطان به بتفويته الحظ الأوفر من قيام الليل فلا يكاد تخف عليه صلاة ونحوها من القرب، وهو غير منصرف للوصف وزيادة الألف والنون ومؤنثه كسلى، وبما تقرر علم أنه يصبح كذلك ما لم يصل وإن أتى بما قبلها (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري، ورواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه
وابن حبان في «صحيحه» كذا في الجامع الكبير (قافية الرأس) بالرفع مبتدأ وبالجر على الحكاية (آخره) وقافية كل شيء مؤخره، ومنه قافية الشعر، وقال الزركشي: قافية أي القفا بالقصر وهو مؤخر العنق.
81166 - (وعن عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام الإسرائيلي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في كتاب السلام (أن النبيّ قال: أيها الناس) حذف حرف النداء اختصاراً وإيماء إلى شدة التوجه لما بعده (أفشوا السلام) بقطع الهمزة: أي أشيعوه وأذيعوه بينكم (وأطعموا الطعام وصلوا بالليل) أي التهجد بأن يكون بعد نوم أو ائتوا بها فيه مطلقاً (والناس نيام) لأن هجر المصلي فراشه وآداب نفسه في طاعة ربه وحرمان نفسه لذيذ المنام شديد، فلذا جوزي من محض الفضل بقوله (تدخلوا الجنة بسلام) أي مسلمين من العذاب قبل دخولها، ففيه بشارة لفاعل مجموع ذلك بالدخول لها ابتداء والله أعلم (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ورواه أحمد وعبد الله بن حميد والدارمي وابن أبي شيبة وابن ماجه وابن سعد

(6/636)


وسعيد بن منصور والحاكم في «المستدرك» والطبراني وابن زنجويه/ كلهم عن عبد الله بن سلام بزيادة «وصلوا أرحامكم» قبل قوله «وصلوا بالليل» كذا في «الجامع الكبير» .
91167 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أفضل الصيام) أي النفل المطلق منه (بعد رمضان شهر الله المحرم) أي صومه كما يدل عليه قرينة المقام وإضافته إلى الله تعالى للتشريف وتخصيصه بلفظ المحرم، مع أن كلا من الأشهر الحرم يوصف به لما قيل إنه اسم إسلامي وإن تحريمه كذلك فلم تغير حرمته بما كان يفعله أهل النسىء (وأفضل الصلاة) من النفل المطلق (بعد الفريضة صلاة الليل) لأنه وقت السكون والخشوع والخضوع مع ما فيه من البعد عن الرياء (رواه مسلم) ورواه الأربعة والدارمي أيضاً بلفظ «أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» ولا يخالفه حديث الترمذي والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعاً «أفضل الصوم بعد رمضان شعبان» لتعظيم رمضان لأن سبب الفضل مختلف، فالمحرم لكونه فاضلاً في ذاته، وشعبان لتعظيم غيره والله أعلم.
101168 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: صلاة الليل مثنى مثنى) أي ركعتان ركعتان، وهما معدولان عن اثنين اثنين، فلذا مع الوصف منع الصرف كما تقدم في باب تخفيف ركعتي الفجر (فإذا خفت) وفي رواية «فإذا خشي أحدكم» (الصبح) أي خشيت طلوعه بأن بدأ الصبح الكاذب أو نحوه مما يكون قبل الفجر الصادق (فأوتر بواحدة) فيؤخذ منه فضل فضل ركعات الوتر ركعتين ركعتين فركعة الوتر وهو الأصح من مذهبنا لأنه أكثر عملاً، وفي رواية زيادة «توتر له ما صلى» وفي أخرى «فإن الله وتريحب الوتر» (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد وأصحاب السنن الأربعة.

(6/637)


111169 - (وعنه قال: كان النبي يصلي من الليل) أي يتهجد، والتهجد يحصل بالوتر وغيره من كل نفل مفعول بعد نوم (مثنى مثنى ويوتر بركعة) والحديث تقدم بجملته في باب تخفيف ركعتي الفجر (متفق عليه) .
121170 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله يفطر من الشهر) أي بعضه ويديم الفطر (حتى نظن) لطول فطره (أن لا يصوم منه) استصحاباً لفطره (ويصوم) أي بعض الشهر ويتابع الصوم (حتى نظن أن لا يفطر) منه شيئاً من الأيام أو من الفطر، وفي الإتيان به هنا دون الجملة السابقة إيماء إلى أن متابعة الصوم إذا صام أطول من متابعة الفطر إذا أفطر (وكان) أي الشأن (لا تشاء) أي لا زمن تحب (أن تراه) تبصره (من الليل مصلياً) أي فيه (إلا رأيته) أي إلا زمان رؤيتك إياه كذلك ففي الكلام مضاف مقدر (ولا نائماً إلا رأيته) وقال القسطلاني: لا بمعنى ليس أو لم: أي لست تشاء أو لم تكن تشاء، أو تقديره: لا زمن تشاء، فعلى هذا يكون التركيب من باب الاستثناء على البدل، والتقدير على الإثبات: إن تشأ رؤيته متهجداً رأيته متهجداً، وإن تشأ رؤيته نائماً رأيته نائماً، فكان أمره قصداً لا إسراف ولا تقتير، وقال بعضهم: الحصر فيه إضافي باعتبار تعاور هاتين الحالتين عليه مع غلبة التهجد على النوم تارة وعكسه أخرى والحكم للغالب فبالنظر لذلك صح الحصر فيها. ما كان يعين بعض الليل للنوم وبعضه للصلاة كأصحاب الأوراد وكذا الصوم، بل كان يخالف بين أوقاتهما ليكونا مشقين على النفس لا عادتين لها، فإنه إذا صام مدة صار عادة له واطمأنت له النفس، فإذا أفطر كان شاقاً عليها وكذا عكسه/ قال الحافظ ابن حجر: لم يكن لتهجده وقت معين بل بحسب ما يتيسر له القيام، ولا يعارضه قول أنس: «كان إذا سمع الصارخ قام» لأنه محمول على ما وراء صلاة القيام، ولا يعارضه قول أنس: «كان إذا سمع

(6/638)


الصارخ قام» لأنه محمول على ما وراء صلاة، الليل، وحديث الباب محمول على صلاته، ولا قول عائشة «كان إذا صلى صلاة داوم عليها» وقولها «كان عمله ديمة» لأنّ المراد به ما اتخذه راتباً لا مطلق النفل اهـ ملخصاً، وهذه الطريقة المشار إليها بحديث أنس أعلى طبقات العبادة وأسناها، وهناك طرائق أخر: فمنهم من
شدد على نفسه بالمرة فمنعها حقها وحظها، ومنهم من أعطاها كليهما، وخير الأمور أوسطها: إعطاؤها حقها وحظها واستعمالها معه في خدمة ربها (رواه البخاري) والترمذي في «الشمائل» .
131171 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان يصلي) أي للتهجد والوتر (إحدى عشرة ركعة) وقول الراوي (تعني) بالفوقية: أي عائشة تريد بتلك الركعات النفل الذي كان يتهجد به (في الليل) وفيه أنه قد يتهجد بالوتر (يسجد السجدة من ذلك) أي القدر المذكور (قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه) ظرف ليقرأ، وجملة يسجد مستأنفة لبيان كيفية قيامه بها ولاستحباب إطالتها، أو حالية من ضمير يصلي (ويركع ركعتين) عدل إليه عن قول يصلي ركعتين تفنناً في التعبير، وفيه مجاز مرسل أطلق الجزء وأريد به الكل (قبل صلاة الفجر) بعد طلوع الفجر هما سنتاه القبليتان (ثم يضطجع على شقه) بكسر الشين المعجمة: أي جانبه (الأيمن) تشريعاً للأمة ليذكروا بها ضجعة القبر، فتحملهم على الخشوع الذي هو لب الصلاة ويستمر مضطجعاً عليه (حتى يأتيه المنادي) هو بلال (للصلاة) وذلك بعد اجتماع المصلين (رواه البخاري) .
141172 - (وعنها قالت: ما كان رسول الله يزيد) أي في الوتر (في رمضان ولا في غيره

(6/639)


على إحدى عشرة ركعة) فهي أكثره، ورواية أنه صلاه ثلاث عشرة محمولة على أن الراوي عد الركعتين اللتين كان يأتي بهما قبله لإزالة ما يبقي من كسل النوم معه ثم أتت على طريق الاستئناف البياني مفصلة لذلك بقولها (يصلي أربعاً) أي من الركعات (فلا تسأل عن حسنهن) لكما اشتمالهن على الآداب المطلوبة فيها وطولهن وكان ذلك أول الدخول لتوفر النشاط، كما قال الفقهاء باستحباب السورة في الأولين لذلك دون الأخيرتين مع ورود السنة بها فيهما أيضاً (ثم يصلي أربعاً فلا تسأل) بالجزم (عن حسنهن وطولهن) أي أن ظهور هذين الوصفين فيهن يغني عن السؤال، وأتت بذلك لئلا يتوهم أنهم دون الأربع قبلهن كما هو العادة من غيره من الناس (ثم يصلي ثلاثاً) أي كذلك وسكتت عنه لما ذكر من استواء أحواله في حسن الصلاة وإكمالها (فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر) استفهام لبيان حكمة النوم قبله مع أن النوم ربما يغلب على النائم فيؤدي النوم قبله إلى فواته (فقال) مرشداً للفرق بينه وبين باقي الأمة (يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) قال المصنف: هذا من خصائص الأنبياء، ولذا لا ينتقض وضوؤهم بالنوم، وأما نومه في قصة الوادي حتى طلعت الشمس وفات وقت الصلاة فلأن طلوع الفجر والشمس متعلق بالعين وهي نائمة لا بالقلب، وأماأمر الحدث فمتعلق بالقلب، وقيل إنه كان لا ينام قلبه تارة وينام أخرى، وصادف قصة الوادي نومه، قال المصنف: والصواب الأول اهـ. (متفق عليه) .
151173 - (وعنها: أن النبي كان ينام أول الليل) أداء لكل من العين والنفس حقها منه وذلك أن الجسد يصيبه الكلال من مزاولة الأعمال (ويقوم آخره) أي في أواخره/ وتقدم في حديث أنس «أنه كان يقوم إذا صرخ الصارخ» يعني الديك وهو يقوم وقت انتصاف الليل،

(6/640)


وقوله (فيصلي) تنبيه على المقصود من قيامه حينئذ، وفيه تنبيه على أن أفضل القيام لمن صلى به حينئذ وبها ترتفع العقد كما تقدم. بخلاف مجرد القيام وإن اقترن به نحو ذكر فلا يحلها كلها (متفق عليه) ورواه ابن ماجه بلفظ «كان ينام أول الليل ويحيى آخره» .
161174 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي ليلة) أي مقتدياً به في تهجده، ففيه جواز الجماعة في النفل المطلق (فلم يزل) بفتح الزاي (قائماً) أي ما برح على قيامه (حتى هممت) أي قصدت، والهم بمعنى القصد ويعدى بالباء (بأمر سوء) بالفتح نقيض المسرة مصدر وشاعت الإضافة إليه كرجل سوء ولا يقال بالضم وكما في الصحاح، وفي نسخة «بأمر سوء» على الوصف دون الإضافة. قال القسطلاني: الرواية بالإضافة كما أفهمه كلام الحافظ في «فتح الباري» (قيل وما هممت) به (قال هممت أن أجلس) وفي رواية الترمذي في «الشمائل» «أن أقعد» (وأدعه) أي بأن ينوي قطع القدوة ويتم صلاته منفرداً لا أنه يقطع صلاته كما ظنه القسطلاني وغيره، لأن ذلك لا يليق بجلالة ابن مسعود، وترك الاقتداء به والحرمان من مداومة جماعته أمر سوء، وفي الحديث تطويل الإمام لكن محله عند الشافعية عند انحصار الجمع إذا رضوا ولم يطرأ غيرهم ولم يتعلق بعينهم حق (متفق عليه) .

(6/641)


171175 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي) أي مؤتماً به في تهجده (ذات ليلة فافتتح البقرة) أي بعد الفاتحة لا أنه افتتح بها من غير قراءة الفاتحة فإنه كان يقرؤها، وصح عنه «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وإنما يذكره الراوي اعتماداً على فهم السامع (فقلت: يركع عند المائة) بكسر الميم وفتح الهمزة وبينهما في الرسم ألف، وبعض الجهال يقوله بفتح الميم والتحتية بينهما ألف، قال الراعي: وهذا جهل كأنه قائله ما قرأ القرآن، وإنما كتبت الألف على خلاف قاعدة الخط دفعاً للالتباس بمنه الجار (ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة) أي فيركع عند تمامها (فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها) هذا ترتيب مصحف ابن مسعود، فلا يقال إن ترك ترتيب السور وقراءة الأخيرة ثم ما قبلها خلاف الأولى، ولعل الترتيب كان حينئذ كذلك، ثم أمر النبي بتقديم آل عمران، وقال المصنف: فيه دليل لمن قال إن ترتيب السور اجتهاد لا توقيف فيه، وبه قال مالك والجمهور والباقلاني وقال إنه أصح القولين مع احتمالهما. قال المصنف: ومن قال إنه توقيفي حدده كما استقر في المصحف العثماني، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير فيتناول قراءته النساء فآل عمران، على أنه كان قبل التوقيف في الترتيب وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبيّ. قال المصنف: ولا خلاف في أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو خارج الصلاة، وأباحه آخرون وحملوا التنكيس المنهي عنه على من قرأ من آخر السورة إلى أولها، ولا خلاف أن ترتيب الآيات توقيفي اهـ. ملخصاً، وقد نقله هو عن القاضي عياض، وقوله (يقرأ مترسلاً) جملة مستأنفة أو

(6/642)


حالية لبيان كيفية قراءته، والترسل ترتيل الحروف وأداؤها حقها (إذ مر بآية فيها تسبيح) كقوله تعالى: {وسبحوه بكرة وأصيلاً} (الأحزاب: 42) (سبح) أي
قال سبحان الله (وإذا مر بسؤال) أي بآية فيها ذلك كقوله تعالى: {واسألوا الله من فضله} (النساء: 32) وقوله: {فليستجيبوا لي} (البقرة: 186) (سأل وإذا مر بتعوذ) أي بآية فيها ذلك كقوله تعالى عن أم مريم: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} (آل عمران: 36) أو طلبه كقوله تعالى:

{فإما ينزغك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} (الأعراف: 200) (تعوذ) أي سأل الله العوذ من الشيطان وخالف في تعبيره بما في الشرطية الأولى وبما في الأخيرتين تفننا في التعبير. ويؤخذ من الحديث استحباب جميع ما ذكر للقارىء (ثم ركع فجعل) أي عقب تمام ركوعه وهو من أفعال الشروع أي أخذ (يقول) فيه (سبحان ربي العظيم) أي يكرره لقوله (فكان ركوعه نحواً) أي قريباً (من قيامه) أي كان زمن ركوعه قريباً من زمن قيامه، ففيه تطويل الركوع (ثم قال) أي مع رفع رأسه من الركوع (سمع الله لمن حمده) أي تقبله منه (ربنا لك الحمد) قاله حال انتصابه (ثم قام) في الاعتدال من الركوع قياماً (طويلاً قريباً مما ركع) قال المصنف: فيه دليل لجواز تطويل الاعتدال عن الركوع وأصحابنا يمنعونه ويبطلون به الصلاة (ثم سجد فقال: سبحان ربّي الأعلى) صح «أنه لما نزل: {فسبح بسم ربك العظيم} (الواقعة: 74) ، قال: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت: {سبح اسم ربك الأعلى} (الأعلى: 14) قال: اجعلوها في سجودكم» وحكمته أنه ورد «أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً» فخصه بالأعلى: أي عن الجهات والمسافات لئلا يتوهم بالأقربية ذلك، وقيل لما كان الأعلى أفعل تفضيل وهو أبلغ من العظيم والسجود

(6/643)


أبلغ في التواضع فجعل الأبغ للأبلغ (فكان سجوده قريباً من قيامه. رواه مسلم) وتقدم في باب المجاهدة.
181176 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سئل) بالبناء للمجهول ولم أقف على السائل (رسول الله: أي الصلاة) أي أعمالها (أفضل؟ قال: طول القنوت. رواه مسلم المراد بالقنوت القيام) قال المصنف: فيه دليل لمن فضل تطويل القيام على تطويل السجود وتكثير الركوع، وهو مذهب الشافعي وجماعة لحديث جابر هذا، ولأن ذكر القيام القراءة وذكر السجود التسبيح والقرآن أفضل، ولأن المنقول عن النبيّ أنه كان يطول القيام أكثر من تطويل السجود. وفي المسألة مذاهب أخر، قيل تطويل القيام في الليل أفضل وتكثر الركوع والسجود نهاراً أفضل، وعليه إسحاق بن راهويه، وقيل تطويل السجود وتكثير الركوع أفضل مطلقاً، وقيل إنهما سواء.
191177 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال) مخاطباً (له) لما أمره بترك مداومة الصوم والقيام وأن يصوم ويفطر ويقوم وينام (أحب الصلاة) أي التهجد (إلى الله) أي أرضاها إليه وأكثرها ثواباً عنده (صلاة داود) عليه السلام (وأحب الصيام إلى الله) أي النفل المطلق منه (صيام داود) عليه السلام، ثم بين ذلك على طريق الاستئناف البياني أو العطف البياني بناء على مجيئه في الجمل بقوله (كان ينام نصف الليل) إعطاء للعين والجسد حقهما منه (ويقوم ثلثه) بضمتين ويخفف الثاني فيسكن: أي

(6/644)


يحييه بالقيام بالتهجد (وينام سدسه) إراحة للجسد مما أصابه من مرادفة الصلاة. وفيه طلب إخفاء عمل البر وستره عن الغير ليكون أقرب للإخلاص، فإن من قام ونام ما ذكر كان لم يقم لذهاب كلال ذلك السهر بالنوم، ففيه إخفاء التهجد بخلاف المستمر على السهر إلى الفجر فإنه يبدو عليه الأثر ففيه تعرّض لظهور عمله الليلي (ويصوم يوماً ويفطر يوماً) اختلف هل الصوم كما ذكر أفضل من صوم الدهر بشرطه لكل أحد أو ذلك خاص بابن عمرو؟ والجمهور على الأول وذلك لما فيه من المشقة على النفس ومن إعطاء النفس حقها، إذ يحصل لها من القوى يوم الفطر ما يجبر ما قام بها من ضعف يوم الصوم (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
201178 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول) مؤكداً بمؤكدات إسمية الجملة وتصديرها بأن وتقديم خبرها والإتيان باللام، وكأن الداعي إليه استبعاد كون الليل محل التجليات لكونه جعل سكناً، ومع ذلك الاستبعاد بأن فيض الله على حسب مشيئته فيجعله فيما شاء من ليل أو نهار (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم) التقييد به لكونه جريا على الغالب من قيام الرجل حينئذ لا مفهوم له فمن وافقها من النساء المسلمات كذلك (يسأل الله خيراً) مفعول مطلق: أي سؤال خير وأضافه إليه لكونه أثره وحاصلاً عنه أو مفعول به، وفيه إيماء إلى كمال كرم الله سبحانه وتعالى من عدم الوعد بإجابة السائل شراً حينئذ من أمر الدنيا والآخرة كالعافية فيهما وحصول التوفيق في الدنيا والجنة في العقبى (إلا أعطاه إياه) ففيه حث على الدعاء في الليل وحض عليه، وأبهم الساعة في جميعه طلباً لعمارته بالتوجه للمولى وعدم الغفلة فيه بالنوم وإراحة الجسم عنه فإن التوجه بالقلب

(6/645)


وهو لا ينافي النوم بالعين والجوارح، ويمكن أن تكون الساعة المطلقة في هذا الخبر محمولة على ما جاء من التقييد في رواية بأنها بعد مضي الثلث من الليل، وفي أخرى أنها في الثلث الأخير، ولا منافاة بينها إما بجعل الجميع على أنها في الثلث الأخير لصدق جميع الروايات عليه، وإما بأنها تنتقل فتارة تكون قبل النصف الأخير، وأخرى في النصف الأخير قبل الثلث الأخير، وأخرى في الثلث الأخير، أو على أنه أخبر أوّلاً أنها في الثلث الأخير فأخبر به، ثم أخبر بأنها نم نصف الليل فأخبر به، ثم أخبر بأنها من الثلث الأول فأخبر به، وفيه على كل وجه إيماء إلى اتساع زمنها، بخلاف ساعة الإجابة يوم الجمعة، ويؤيد ذلك أنه أشار لضيق ساعة الجمعة بقول الصحابي، وأشار: أي النبي بيده يقللها، ولم يقل مثل ذلك في الساعة التي في الليل، والله أعلم (وذلك) أي المذكور من إعطاء السائل ما سأل (كل ليلة) بالنصب ظرف والخبر
متعلقة أي كائن فيها، وفيه شرف الليل على النهار لأن التجليات الإلهية لا تختص بليلة دون ليلة بخلاف النهار فهي فيه مختصة بيوم الجمعة (رواه مسلم) ورواه أحمد. قال المصنف: في هذا الحديث إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة، ويتضمن الحث على الدعاء في سائر ساعات الليل رجاء مصادفتها اهـ.
211179 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: إذا قام أحدكم من الليل) أي لأجل قيامه أو فيه (فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين) لإذهاب ما قد يبقى في الجسد من كسل النوم فتشد الأعصاب وتقوى الأعضاء من فتورها فتتوجه بكمال نشاط لصلاة الليل (رواه مسلم) ورواه أحمد.

221180 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا قام من الليل) للتهجد

(6/646)


(افتتح صلاته بركعتين خفيفتين) لإذهاب أثر النوم وليدخل الصلاة بكمال النشاط/ والفتور أثر النوم طبع البشر فلا نقص فيه كسائر العوارض والأمراض (رواه مسلم) .
231181 - (وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا فاتته الصلاة من الليل) المفعولة تهجداً (من) تعليلية (وجع أو غيره) كاشتغاله بأهم منه (صلى من النهار) أي فيه (ثنتي عشرة ركعة) يحتمل أنه يأتي بها قضاء لما فاته من نافلة الليل، فيؤخذ منه ندب قضاء النفل المؤقت، ويحتمل أنه لحوز ثوابه عوضاً عما فات من صلاة الليل لا قضاء عنه وعليه جرى ابن حجر في «شرح المشكاة» (رواه مسلم) .
241182 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من نام من حزبه) بكسر المهملة وسكون الزاي. قال في «النهاية» : هو ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالورد، والحزب النوبة في ورود الماء اهـ. (أو عن شيء منه) أي ولو يسيراً (فقرأه فيما) أي في وقت (بين صلاة الفجر وصلاة الظهر) الظرف في محل الصفة لما، ويجوز كونها موصولة صفة لمحذوف: أي في الوقت الذي بين الوقت المذكور (كتب) بالبناء للمجهول (له كأنما قرأه من الليل) فيه استحباب تدارك النفل المؤقت، وأن ما ترك لعذر وقضى كتب بمحض الفضل كثواب المؤدي، وأتى بالكاف إيماء إلى نقص ثواب القضاء ولو لعذر عن ثواب الأداء (رواه مسلم) والحديث سبق في باب المحافظة على الأعمال.

(6/647)


251183 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: رحم الله) جملة خبرية لفظاً دعائية معنى عدل عنها إلى الخبرية تفاؤلاً بالإجابة كأنها حصلت وأخبر عنها بما يخبر به عن الحاصل.d وفيه مزيد حث على الإتيان بما يذكر بالدعاء لفاعله (رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته) للصلاة، فيه تعاون على البر والتقوى وإيثار اتباع الأمر الإلهي على الهوى النفساني (فإن أبت) أي امتنعت من القيام (نضح) أي رش (في وجهها الماء) ليذهب عنها النوم الغالب لها (رحم الله امرأة قامت من الليل) تتهجد (فصلت وأيقظت زوجها) للصلاة (فإن أبى) أي امتنع من أن يقوم (نضحت في وجهه الماء. رواه أبو داود بإسناد صححي) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في «المستدرك» كذا في «الجامع الصغير» ، ورواه الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري عن رسول الله قال «ما من رجل يستيقظ من الليل فيوقظ امرأته، فإن غلبها النوم نضح في وجهها الماء، فيقومان في بيتهما فيذكران الله عزّ وجل ساعة من الليل إلا غفر لهما» وهذا الحديث مطلق يشمل ذكر الله تعالى في الصلاة وخارجها كما في الآية، والنضح بالنون والضاد المعجمة وإهمال الحاء وإعجامها، قال في «فتح الباري» : قال الأصمعي: النضح بالمعجمة أكثر منه بالمهملة، وسوّى بينهما أبو زيد، وقال ابن كيسان: بالمعجمة لما ثخن، وبالمهملة لما رق: أي من الطيب ونحوه.
261184 - (وعنه وعن أبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله: إذا أيقظ الرجل أهله) هو أعم من امرأته، وفيه فضيلة أمر الرجل أهله بصلاة النوافل والتطوعات كما في الفرض (من) جوف (الليل فصلياً) أي كلاهما جميعاً، فعند النسائي «فصلياً جميعاً» ففيه اقتداء

(6/648)


المرأة بزوجها في النافلة، وفيه مشروعية الجماعة فيها، وقال ابن رسلان: قد يقال لا دلالة في جميعا على الجماعة لصدقه على فعلهما النافلة جماعة ومنفردين (أو) شك من الراوي (صلى) أي كل منهما (ركعتين جميعاً) هكذا وقع/ ووجه الكلام فصلياً جميعاً أو صلى كل منهما منفرداً ركعتين (كتب) بالإفراد وكذا هو بخط ابن رسلان في شرحه لسنن أبي داود، وفي نسخة من «الرياض» كتباً بألف التثنية (في) جملة (الذاكرين والذاكرات) أي المذكورين في قوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} (الأحزاب: 35) وذكر الجلالة وكثيراً ليس في الراوية، وهذا من تفسير الكتاب بالسنة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) قال ابن رسلان: ورواه ابن حبان في «صحيحه والحاكم» ، وهذا الحديث من جملة الحديث قبله من حيث المعنى، ولعل الإتيان به على احتمال أن الرواية أو صلى بإفراد الفعل أفاد ظاهرها ترتب ثواب الرجل لإيقاظ امرأته على إيقاظها وصلاته سواء أصلت هي أم لا، والله أعلم.
271185 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: إذا نعس أحدكم) قال في «المصباح» : حقيقة النعاس الوسن من غير نوم، يقال نعس ينعس من باب قتل والاسم منه النعاس، وقال الفقهاء: علامة النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهم معناه (في الصلاة) التي تقوم بها بالليل (فليرقد) ندباً (حتى يذهب عنه النوم) وذلك أن لب الصلاة الخشوع والخضوع والحضور مع الله عزّ وجل، وإنما يكون ذلك مع النشاط وصحة اللب وسلامته من الكسل، وعلل الأمر بالرقاد بقوله (فإن أحدكم إذا صلى) أي دخل في الصلاة (وهو ناعس) حال من فاعل صلى (لعله يذهب يستغفر) جملة لعل واسمها وخبرها في محل الخبر لإن، قال القاضي عياض: أي يدعو (فيسبّ نفسه) بسبب غلبة النعاس وتلجلج اللسان عند إرادة النطق (متفق عليه) ورواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

(6/649)


281186 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا قام أحدكم من الليل) يتهجد (فاستعجم القرآن) والتبس (على لسانه فلم يدر) من النعاس القائم به (ما يقول) من القرآن أو الذكر (فليضطجع) لأن غلبة النعاس عليه تمنعه من تدبر القرآن، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وختم الباب بهذين الحديثين إعلاماً بأن محل فضل القيام ما لم يكن في مثل هذا الحال، والله أعلم.

213 - باب استحباب قيام رمضان
(وهو) أي القيام الموعود عليه بالغفران في الحديث الصحيح (التراويح) أي حاصل بها، وهي عندنا لغير أهل المدينة عشرون ركعة بعشر تسليمات، كما أطبقوا عليه كذلك في زمن عمر رضي الله عنه لما اقتضاه نظره السديد من جمع الناس على إمام واحد فوافقوه ينوي بهما من التراويح أو من قيام رمضان وكانوا يوترون عقبها بثلاث، وسر العشرين أن الرواتب المؤكدة في غير رمضان عشر، فضوعفت فيه لأنه وقت جدّ وتشمير، ولهم فقط لشرفهم بجواره ست وثلاثون جبراً لهم بزيادة ست عشرة في مقابلة طواف أهل مكة أربعة أسباع بين كل ترويحتين من العشرين سبع، وابتداء حدوث ذلك كان في أواخر القرن الأول، ثم اشتهر ولم ينكر، فكان بمنزلة الإجماع السكرتي، ولما كان فيه ما فيه قال الشافعي: العشرون لهم أحب إليّ، وقال الحليمي: عشرون مع القراءة فيها بما يقرأ في ست وثلاثين أفضل، لأن طول القيام أفضل من كثرة الركعات، ووقتها كالوتر ما بين صلاة العشاء ولو مجموعة جمع تقديم وطلوع الفجر الصادق، وسميت تراويح لأنهم لطول قيامهم كانوا يستريحون بعد كل تسليمتين.

(6/650)


11187 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: من قام رمضان) أي أحيا لياليه بالعبادة أو بالتراويح فيها (إيماناً) أي تصديقاً بثوابه (واحتساباً) أي إخلاصاً ونصبهما على الحالية أو على أنه مفعول له (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي الصغائر المتعلقة بحق الله بالعفو عنها وعدم المؤاخذة بها (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربع.
21188 - (وعنه رضي الله عنه قال: كان رسول الله يرغب) بتشديد الغين المعجمة: أي يذكر الثواب (في قيام رمضان) أي بإحياء لياليه لعنايته بالأمة ودلالته لهم على محل الفضل (من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة) أي لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم بل أمر ندب وترغيب، ثم فسر صيغة ترغيبه بقوله (فيقول) بالرفع عطفاً على يرغب (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه مسلم) في أبواب النوافل ويؤخذ من الحديث فضل صلاة التراويح حيث رتب عليها ما ذكر فيه، وإنما فضل عليها نوفل أخر من العيدين والكسوفين والرواتب لمواظبته على تلك دون التراويح فإنه صلاها ثلاث ليال، فلما كثر الناس في الثالثة حتى غص المسجد تركها خوفاً من أن تفرض عليهم، ونفي الزيادة ليلة الإسراء نفي لفرض متكرر مثلها فلم يناف خشية فرض هذه.

(6/651)


214 - باب فضل قيام ليلة القدر
بإسكان الدال المهملة، قيل إنه بمعنى مفتوحها لأنها التي فيها يفرق كل أمر حكيم ويقدر على الأصح، وقيل إنه بمعنى الشرف، فقيل لشرف قدرها عند الله تعالى، وقيل لأن من لا شرف له إذا صادفها فقامها صار ذا قدر وشرف، وقيل غير ذلك مما بينته في سطوع البدر في فضل ليلة القدر (وبيان أرجى لياليها) أي ليالي رمضان لها. واختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً، ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن الأصح منها أنها باقية وفي كل رمضان، وأنها تلزم ليلة بعينها من العشر الأخير، واختير القول بانتقالها فتكون تارة في الحادية والعشرين وتارة أخرى في أخرى من العشر الأخير، قال المصنف: وبه يجمع بين الأخبار ويرتفع التعارض عنها.
(قال الله تعالى) : ( {إنا أنزلناه} ) أي القرآن المدلول عليه بقرينة المقام ( {في ليلة القدر} ) بإنزاله فيها جملة نم اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بعد بحسب الوقائع ( {وما أدراك ما ليلة القدر} ) تعظيم لشأنها ( {ليلة القدر خير من ألف شهر} ) أي من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر: أي العمل في تلك الليلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها تلك الليلة. نزلت هذه الآية حين ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب أصحابه من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي. والأصح أنها من خصائص هذه الأمة ( {تنزل} ) أي تتنزل ( {الملائكة والروح} ) أي جبريل أو ضرب من الملائكة ( {فيها بإذن ربهم} ) مع نزول البركة والرحمة، قال «الملائكة في الأرض تلك الليلة أكثر من عدد الحصى» وعن كعب الأحبار: لا تبقى بقعة إلا وعليها ملك يدعو للمؤمنين والمؤمنات سوى كنيسة أو بيت نار أو وثن أو موضع فيه النجاسة أو السكران أو الجرس، وجبريل لا يدع أحداً إلا صافحه، فمن اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه فمن أثر مصافحته ( {من كل أمر} ) أي لأجل كل أمر قدر في تلك السنة ( {سلام هي} ) ليس هي إلا سلامة لا يقدر فيها شر وبلاء، أو لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً. أو ما هي إلا سلام لكثرة تسليم الملائكة فيها على أهل المساجد. وعن مجاهد سلام هي من كل خطر ( {حتى مطلع الفجر} ) غاية

(6/652)


تبين انتهاء تعميم السلامة أو السلام كل ليلة قدر إلى وقت طلوعه، والمطلع بالفتح مصدر على القياس، وبالكسر مصدر أيضاً كالمرجع، أو اسم زمان كالمشرق على خلاف القياس، وقد قرىء في السبع بهما.
(وقال تعالى) : ( {إنا أنزلناه} ) أي الكتباب المبين ( {في ليلة مباركة} ) هي ليلة القدر ( {إنا كنا منذرين} ) محذرين بإنزال الكتاب: جملة مستأنفة لبيان فائدة الإنزال ( {فيها} ) أي في تلك الليلة ( {يفرق} ) يفصل ويثبت ( {كل أمر حكيم} ) محكم لا يبدل من الأرزاق والآجال وجميع أمورهم إلى السنة ( {أمراً من عندنا} ) نصب على الاختصاص: أي أعني به أمراً حاصلاً من عندنا أو حال من كل أو من ضمير حكيم ( {إنا كنا مرسلين} ) إلى الناس رسلاً تتلو عليهم آياتنا بدل من «إنا كنا منذرين» أي أنزلناه لأن عادتنا الإرسال ( {رحمة من ربك} ) مفعول له، وقيل «إنا كنا» علة لِ «يفرق» و «رحمة» مفعول به: أي تفصل فيها الأمور لأن من شأننا أن نرسل رحمتنا وفصل الأمور من باب الرحمة ( {إنه هو السميع العليم} ) للأقوال والأفعال والرب لا بد وأن يكون كذلك.
11189 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: من قام) أي أحيا بالعبادة (ليلة القدر) ويحصل أصل قيامها بصلاة العشاء فيها جماعة والعزم على صلاة الصبح كذلك (إيماناً واحتساباً) أي مؤمناً ومحتسباً (غفر له ما تقدم من ذنبه) . قال المصنف: قد يقال هذا الحديث مع حديث «من قام رمضان» الخ يغني أحدهما عن الآخر. وجوابه أن يقال: قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر ومعرفتها سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافقها وعرفها سبب للغفران وإن لم يقم غيرها اهـ. (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جان كلهم من حديث أبي هريرة، ورواه النسائي أيضاً من حديث عائشة كذا في «الجامع الكبير» .

(6/653)


21190 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي) قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» : لم أقف على تسمية أحد منهم (أروا) بضم أوله (ليلة القدر في المنام) أي قيل لهم فيه إنها (في السبع الأواخر) أي آخر سبع من الشهر، وقيل المراد بها التي أولها ليلة الثاني والعشرين وآخرها ليلة الثامن والعشرين. قال الدماميني في «المصابيح» : الأواخر جمع آخرة بكسر الخاء لا جمع أخرى لأنها لا دلالة لها على المقصود وهو الآخر في الوجود وإنما تقتضي المغايرة كقولك مررت بامرأة حسنة وأخرى: أي مغايرة لها، ويصح هذا التركيب سواء كان المرور بهذه المغايرة سابقاً أو لاحقاً، وهذا عكس العشر الأول لأنه جمع أولى، ولا يصح الأوائل لأنه جمع أول الذي هو للمذكر وواحد العشر ليلة وهي مؤنثة فلا توصف بمذكر اهـ (فقال رسول الله: أرى) بالفتح أي أبصر مجازاً (رؤياكم) قال القاضي عياض: كذا هو بالإفراد، والمراد رؤياكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة. وقال الدماميني: فهو ما عاقب فيه الإفراد الجمع لأمن اللبس وهو مسموع، وقال السفاقسي: كذا يرويه المحدثون بتوحيد الرؤيا وهو جائز لأنها مصدر، وأفصح منه رؤاكم جمعاً لتكون جمعاً في مقابلة جمع، ولم يبدل ذلك وإن كان أشبه بكلام النبي لكراهة تغيير ما أدته الرواية. قلت: مع حصول معنى الجمع بذلك لأن المفرد المضاف للعموم فهو كالجمع المضاف (قد تواطأت) بالهمز: أي توافقت وزناً ومعنى، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان رجل صاحبه، وهو في مسلم تواطت بطاء فتاء. قال المصنف: هكذا هو في النسخ وهو مهموز، فكان ينبغي كتابة ألف بعد الطاء صورة للمهموز ولا بد من قراءته مهمورا، قال الله تعالى: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} (التوبة: 37) اهـ (في السبع الأواخر، فمن كان متحريها) أي متوخياً مصادفتها (فليتحرها في السبع الأواخر) وجاء عند مسلم في حديث ابن عمر مرفوعاً «من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر» وعنده من حديثه أيضاً
كذلك عمر مرفوعاً «من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر» وعنده من حديثه أيضاً كذلك بلفظ «التمسوها في العشر الأواخر/ فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي. قال

(6/654)


الحافظ في الفتح: هذا السياق يرجح الأول من الاحتمالين في تفسير السبع الأواخر (متفق عليه) قال في الفتح: في الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الأمور الوجودية بشرط أن لا تخالف القواعد الشرعية.

31191 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجاور) أي يعتكف (في العشر الأواخر من رمضان) وأوله الحادي والعشرون منه وآخره انقضاء رمضان (ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) أخذ أصحابنا بقضية هذا الحديث فقالوا: إذا علق رجل طلاق زوجته بليلة القدر، فإن كان قبل الحادي والعشرين من رمضان طلقت بانقضائه وإن كان في الحادي والعشرين منه فما بعد فلا يقع الطلاق حتى يحول الحول ويأتي مثل يوم التعليق (متفق عليه) .
41192 - (وعنها أن رسول الله قال: تحروا ليلة القدر) قال في النهاية: التحري القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالقول والفعل (في الوتر) هذا مقيد لإطلاق الحديث قبله الشامل لأوتار العشر وأشفاعه (في العشر الأخير) في محل الصفة أو الحال من الوتر لكونه محلي بأل الجنسية وكذا قوله (من رمضان) والحديث محتمل لكل

(6/655)


من القول بلزومها لليلة معينة من الأوتار والقول بانتقالها في لياليها والله أعلم (رواه البخاري) ورواه أحمد والترمذي، كذا في «الجامع الصغير» .
51193 - (وعنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل) أي قامه بأنواع العبادات من الصلاة والذكر والفكر، أو أحيا نفسه بالسهر فيه لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعاً لأن النائم إذا حيى باليقظة حيى ليله بحياته (وأيقظ أهله) تنبيهاً على وقت الخير ليتعرضوا للنفحات. فعند الترمذي «لم يكن النبيّ إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه» (وجد) أي بذل جهده وطاقته في أداء الطاعة (وشد المئزر) بكسر الميم الإزار، قال في النهاية: كنى بشده عن اعتزال النساء، وقبل إرادة تشميره للعبادة، يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له اهـ. وقال القرطبي: ذهب بعضهم إلى أن اعتزال النساء كان بالاعتكاف، وفيه نظر لقوله فيه «وأيقظ أهله» فإنه يشعر بأنه كان معهن في البيت، فلو كان معتكفاً لكان في المسجد ولم يكن معه أحد. ونظر فيه بأنه قد روى «أنه اعتكف مع النبيّ امرأة من أزواجه» وبتقدير عدم اعتكاف أحد منهن فيحتمل أن يوقظهن من موضعه وأن يوقظهن عند دخوله البيت لحاجة الإنسان. قال الخطابي: يحتمل أن يريد به الجد في العبادة، كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي شمرت له، ويحتمل أن يكون كناية عن التشمير والاعتزال معاً، ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز معاً فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة. واعترض بأنه قد جاء في رواية «شد مئزره واعتزل النساء» فعطف بالواو فقوى الاحتمال الأول (متفق عليه) كذا أورده المصنف بلفظ للعشر الأواخر وعزاه لهما، والذي فيها «إذا دخل

(6/656)


العشر شد مئزره» الخ من غير وصف للعشر، ونبه السيوطي على أن زيادة الوصف لابن أبي شيبة فقال الأخير، ونبه العلقمي أنه كذلك من حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي، وحديث الباب من غير لفظ الأواخر، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه.
61194 - (وعنها قالت: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره) لشرفه على باقي الأشهر. وفي الحديث عن أبي سعيد عن رسول الله «سيد الشهور شهر رمضان» الحديث رواه البيهقي في الشعب يجتهد (وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره) من باقي أيامه لفضله على عشريه الأولين لكون ليلة القدر فيه (رواه مسلم) واقتصر في «الجامع الصغير» على الجملة الأخيرة من هذا الحديث وعزاها لأحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه.
71195 - (وعنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني (إن علمت أي ليلة ليلة القدر) برفع أي مبتدأ خبره ليلة القدر، والجملة منصوبة المحل منع العامل من العمل في اللفظ اسم الاستفهام (ما) أي أي شيء مرفوع على الابتداء، والرابط للجملة الخبرية محذوف: أي أقوله، أو منصوب على أنه مفعول مقدم وجوباً لقولها (أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو) بصيغة فعول الموضوعة للمبالغة لأبلغية عفوه سبحانه كيفا وكما يعفو عن الكبائر غير الشرك، وعنه بعد الإسلام وعما لا يعلم عدده سواه (تحب العفو) خبر بعد خبر أو حال من ضمير الخبر قبله أو جملة مستأنفة أتى بها إطناباً (فاعف عني) وفيه إيماء إلى أن أهم المطالب انفكاك الإنسان من تبعات الذنوب وطهارته من دنس العيوب، فإن بالطهارة من ذلك يتأهل للانتظام في سلك حزب الله وحزب الله هم المفلحون (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
تتمة: من علامات ليلة القدر أنها معتدلة، والشمس تطلع صبيحتها

(6/657)


بيضاء وليس لها كبير شعاع، وفائدة ذلك معرفة يومها، إذ يسن الاجتهاد فيه كليلتها.

215 - باب فضل السواك
بكسر السين المهملة، قال المصنف في «شرح مسلم» : قال أهل اللغة: السواك بكسر السين يطلق على الفعل وعلى العود الذي يتسوك به وهو مذكر، قال الليث: وتؤنثه العرب أيضاً. قال الأزهري: هذا من عدد الليث: أي من أغاليطه القبيحة. وذكر صاحب المحكم أنه يذكر ويؤنث، والسواك فعلك بالمسواك، يقال ساك فمه يسوكه سواكاً. فإن قلت: استاك لم تذكر الفم، وجمع السواك سوك بضمتين ككتاب وكتب، وذكر صاحب المحكم أنه يجوز أيضاً سؤك بالهمزة، ثم قيل إن السواك مأخوذ من ساك إذ دلك، وقيل من جاءت الإبل تساوك: أي تتمايل هزالا. وفي اصطلاح العلماء استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإزالة ما عليها، ويحصل بكل خشن ولو نحو سعد وأشنان لحصول المقصود من النظافة بهما، نعم يكره بمبرد وعود ريحان يؤذي، ويحرم بذي سم ومع ذلك يحصل به أصل سنة السواك لأن الكراهة والحرمة لأمر خارج، والعود أفضل من غيره، وأولاه ذو الريح الطيب، وأولاه الأراك للاتباع مع ما فيه من طيب طعم وريح وشعيرة لطيفة تنقى ما بين الأسنان، ثم بعده النخل لأنه آخر سواك استاك به. وصح أيضاً أنه كان أراكا لكن الأول أصح، وكل راو قال بحسب علمه، ثم الزيتون لخبر الطبراني «نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة تطيب الفم وتذهب بالحفر» أي وهو داء في الأسنان «هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي» واليابس المندى بالماء أولى من الرطب ومن المندي بماء الورد، ويظهر أن اليابس المندي بغير الماء أولى من الرطب لأنه أبلغ في الإزالة وكذا في التحفة لابن حجر وفيه حديث في «مسند البزار» ، ثم إن السواك سنة ليس بواجب في حال من الأحوال بالإجماع اهـ.
(وخصال الفطرة) بكسر الفاء لأنها لبيان الهيئة، يقال فطر يفطر فطراً بالفتح وهو الابتداء والاختراع، وقيل الإيجاد على غير مثال. قال القلقشندي في «شرح العمدة» : المراد بها هنا السنة كما نقله الخطابي عن أكثر العلماء، وصوبه النووي في مجموعه: أي سنن الأنبياء، وقيل هي الدين، وجزم به أبو نعيم في «المستخرج» والماوردي وأبو إسحاق الشيرازي وآخرون وقيل هي الجبلة التي خلق الله الناس عليها وجبلهم على فعلها ورجحه أبو عبد الله القزاز في تفسير غريب البخاري ورد البيضاوي الفطرة إلى مجموع ما قيل في معناها فقال: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع القديمة، فكأنها أمر جبلي اهـ.

(6/658)


11196 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لولا أن أشق على أمتي) أي كراهة أو مخافة أن أشق على أمتي: أي أمة الدعوة بدليل قول الراوي على سبيل الشك (أو على الناس لأمر بهم) أي أمر إيجاب فلا دليل فيه لمن قال: المندوب ليس مأموراً به (بالسواك) إن أريد به الفعل فلا حذف، وإن أريد به الآلة فعلى تقدير مضاف: أي باستعمال السواك (مع كل صلاة) أي عند إرادتها، قال الشيخ شهاب الدين الرملي: ولو نسيه حتى دخل في الصلاة أتى به في أثنائه بعمل خفيف، وخالفه ابن حجر الهيتمي قال: لبناء الصلاة على السكون (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي أيضاً من حديث زيد بن خالد، ورواه أحمد والترمذي أيضاً والضياء من حديث زيد بن خالد هذا بزيادة «ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل» رواه الحاكم في «المستدرك» من حديث العباس بلفظ «لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة كما فرضت عليهم الوضوء» كذا في «الجامع الصغير» . قال المصنف: في الحديث دليل على جواز الاجتهاد للنبيّ فيما لم يرد فيه نص من الله تعالى، وهو مذهب أكثر الفقهاء وأصحاب الأصول وهو الصحيح المختار، وفيه ما كان النبيّ عليه من الرفق بأمته، وفيه فضل السواك عند كل صلاة وقد ورد نم حديث أم الدرداء مرفوعاً «ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بلا سواك» الحديث رواه ابن النجار والديلمي في الفردوس. قال السيوطي نقلا عن الزين العراقي: وحكمة الأمر به للصلاة أنا مأمورون في كل حالة من أحوال التقرب إلى الله تعالى أن نكون في حالة كمال ونظافة إظهاراً لشرف العبادة، وقد قيل إن ذلك أمر يتعلق بالملك، وهو أنه يضع فاه على «في» القاريء فيتأذى بالرائحة الكريهة فسن السواك لأجل ذلك. وفيه حديث في «مسند البزار» . وقال الحافظ زين الدين العراقي: يحتمل أن يقال حكمته عند إرادة الصلاة ما ورد من أنه يقطع البلغم ويزيد في الفصاحة، وتقطيع
البلغم مناسب للقراءة لئلا يطرأ عليه فيمنعه القراءة وكذلك الفصاحة اهـ.
21197 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي إذا قام) أي استيقظ (من النوم)

(6/659)


وفي لفظ «من الليل» (يشوص فاه بالسواك) تشريعاً للأمة لما ينشأ منهم من التغير عند النوم ففعل ذلك ليفعلوه فيذهب ذلك الأثر (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
(الشوط: الدلك) .

31198 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نعد) بضم النون من الإعداد أي نهيء (لرسول الله سواكه) أي ما يستاك به (وطهوره) بفتح الطاء (فيبعثه الله) أي يوقظه من نومه، وفي عبارتها استعارة مكنية يتبعها استعارة تخييلية (ما شاء أن يبعثه) أي وقت مشيئته إيقاظه فما مصدرية ظرفية، وقولها (من الليل) حال من الضمير المفعول به (فيتسوك) أي عقب قيامه كما تومىء إليه الفاء (ويتوضأ) يحتمل أنه كان يكتفي عن السواك المسنون فيه بما قبله لقربه وأنه كان يؤتى له بسواك ثان (ويصلي) أي صلاة الليل (رواه مسلم) .
41199 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أكثرت) قال الحافظ في «الفتح» في رواية الإسماعيلي «لقد أكثرت» (عليكم في السواك) أي بالغت في تكرير طلبه منكم. وفي إيراد الأخبار في الترغيب فيه. وقال ابن التين: معناه أكثرت عليكم وحقيق أن أفعل وحقيق أن تطيعوا. وحكى الكرماني أنه روى بضم أوله: أي بولغت من عند الله بطلبه منكم، ولم أقف على هذه الرواية إلى الآن صريحة اهـ (رواه البخاري) ورواه أحمد والنسائي.

(6/660)


51200 - (وعن شريح) بضم المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية (ابن هانىء) بكسر النون وهمزة آخره ابن زيد الحارثي المذحجي أبي المقدام، قال في التقريب: الكوفي ثقة مخضرم، قتل مع ابن أبي بكر بسجستان كذا في «التقريب» (قال: قلت لعائشة رضي الله عنه: بأي شيء) أي من الخصال التي ندب إليها (كان يبدأ النبي إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك) . فيه ندب السواك عند دخول المنزل وذلك لإزالة ما يحصل عادة بسبب كثرة الكلام الناشئة عن الاجتماع (رواه مسلم) .
61201 - (وعن أبي موسى) هو الأشعري، وليس في الصحابة من يكنى بذلك غيره. واسمه عبد الله بن قيس (رضي الله عنه قال: دخلت على النبي وطرف السواك على لسانه) فيه جواز الدخول على الكبار حال الاستياك (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والخوارزمي والإسماعيلي أبو عوانة والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، كذا في «غاية الأحكام» (وهذا لفظ مسلم) رواه في أبواب الطهارة مختصراً وأورده في أبواب الإمارة من جملة حديث بلفظ «أقبلت إلى النبيّ والنبي يستاك، قال: فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت» الحديث، وكأنهما قضيتان في إحداهما رأى السواك على طرف اللسان وفي أخرى تحت الشفة، أو رآه في تلك القصة فيما ذكر في الحديثين في زمن بعد آخر، وعزا صاحب «عمدة الأحكام» اللفظ المذكور لهما وزاد «وهو يقول أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع» .
71202 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)

(6/661)


قال المصنف في المجموع: المطهرة بفتح الميم وكسرها لغتان ذكرهما ابن السكيت وغيره والكسر أشهر: كل آلة يتطهر بها شبه السواك لأنه ينظف الفم، والطهارة النظافة، وقال زين العرب في «شرح المصابيح» : مطهرة ومرضاة بالفتح مصدران بمعنى الفاعل: أي مطهر ومرض، أو باقيان على معناهما المصدري: أي سبب الطهارة والرضا، ويجوز كون مرضاة بمعنى المفعول: أي مرضية للرب. وقال الكرماني: مطهرة ومرضاة إما مصدران ميميان بمعنى اسم الفاعل أو بمعنى الآلة. فإن قلت: كيف يكون سبب مرضاة الله تعالى؟ فالجواب أنه من حيث الإتيان بالمندوب يوجب الثواب، ومن جهة أنه مقدمة الصلاة وهي مناجاة الرب ولا شك أن طيب الرائحة يقتضي طيب المناجاة. وقال الطيبي: يمكن أن يقال إنها مثل «الولد مبخلة مجبنة» أي السواك مظنة الطهارة والرضا: أي يحمل السواك الرجل على طهارة الفم ورضا الرب، وعطف مرضاة يحتمل الترتيب بأن تكون الطهارة علة للرضا وأن يكونا مستقلين في العلية (رواه النسائي وابن خزيمة في «صحيحه» بأسانيد صحيحة) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : رواه أحمد عن أبي بكر ورواه الشافعي وأحمد وابن حبان والحاكم في «المستدرك» والبيهقي في «السنن» كلهم عن عائشة، ورواه ابن ماجه عن أبي أمامة (وذكر البخاري رحمه الله في «صحيحه» هذا الحديث تعليقاً أي محذوف أول سنده (بصيغة جزم) أي وما رواه كذلك محكوم بصحته (فقال: وقالت عائشة رضي الله عنها) الخ.
81203 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: الفطرة خمس أو) شك من الراوي (خمس من الفطرة) ويتعين حمل الرواية الأولى على هذه، فقد جاء عند أحمد وغيره بلفظ «من الفطرة خمس» وعند مالك «خمس من الفطرة» سيما وقد ثبتت الرواية بزيادة على الخمس بكثير كما سيأتي في الحديث بعده، فعلم أن الحصر غير مراد. والنكتة في الإتيان بهذه الصيغة إما التنبيه على أن مفهوم الدلالة ليس بحجة، وإما أنه أعلم أولاً بالخمس نظير

(6/662)


حديث «الدين النصيحة» أي معظمه، ويدل له ما أخرجه الترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم مرفوعاً «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» وورد مثله في عدم حلق العانة وتقليم الأظفار، وساغ الابتداء بخمس على الرواية الثانية لكونها صفة لموصوف محذوف تقديره خصال خمس أو مضافة لمحذوف، والتقدير خمس خصال، أو الجملة خبر مبتدإ محذوف تقديره: المشروع لكم خمس من الفطرة، وأما الرواية الأولى فالقدير: خصال الفطرة خمس، فحذف المضاف، قاله في غاية الأحكام. وفي قوله والجملة خبر مبتدإ محذوف الخ ما لا يخفي، وليس المراد بالسنة المفسر بها لفطرة هنا ما يقابل الواجب بل المراد الطريقة، كما جزم به جماعة من الأئمة منهم أبو حامد والماوردي، إذ منها الخنان وهو واجب عندنا، والمضمضة والاستنشاق وهما واجبان عند بعض الأئمة (الختان) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف الفوقية مصدر ختن بفتحات: أي قطع، وكان قياس مصدره ختنا بسكون الفوقية وهو قطع جزء مخصوص (والاستحداد) أي استعمال الحديد لحلق شعر العانة وتنظيف محلها، وهو الشعر الذي حول كل من ذكر الذكر وفرج المرأة كما سيأتي (وتقليم الأظفار) تفعيل من القلم وهو القطع، يقال قلمت ظفري بتخفيف اللام وتشديدها للتكثير والمبالغة، والأظفار جمع ظفر بضم الظاء المعجمة والفاء وبسكون الفاء. وحكى كسرها وكسر أوليه، وأنكره انب سيده، وحكي أيضاً أظفور بوزن عصفور، والمراد قطع ما طال عن اللحم من الظفر لأن الوسخ يجتمع فيه
فيستقذر، وربما منع وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة. وفي ترتيب قصها أوجه أشهرها: يبدا بمسبحة اليد اليمنى فالوسطى إلى الخنصر ويختم بإبهامها ثم بخنصر اليسرى إلى إبهامها، ويبدأ في الرجل اليمنى بإبهامها إلى الخنصر وفي اليسرى من خنصرها إلى الإبهام (ونتف الإبط) أي نتف شعره النابت فيه وهو سنة اتفاقاً كما قاله المصنف، ويستحب أن يبدأ باليمين وأن يتولاه بنفسه، ولو حلقه أو أزاله بالنورة جاز لحصول المقصود. وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل، لكن يظهر أن النتف مقصود لما فيه من إضعاف الشعر وبذلك تضعف الرائحة، والإبط تذكر وتؤنث، ويقال تأبط الشيء: إذا وضعه تحت إبطه (وقص الشارب) وهو الشعر النابت على الشفة العليا، وقيل الإطار بكسر الهمزة وبالطاء المهملة وهو الذي يباشر به المشروب. والحكمة في قصه مخالفة المجوس كما ورد في الحديث أو النظافة والأمن من التشويش عند الأكل ومن بقاء زهومة المأكول فيه. وقال ابن العربي: يشرع القص لأن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فهي من اللروجة فتعسر إزالته عند غسله

(6/663)


وهو بإزاء حاسة شريفة وهي الشم فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به، والمستحب أن يبدأ بالجانب الأيمن منه، وهو مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يتولى ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة ولا حرمة بخلاف الإبط والعانة، ويحصل أصل السنة بالأخذ بالمقص وغيره.
فائدة: هذه الخصال هي الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأتمهن فجعله الله إما ما يقتدي به ويستن بسننه كما قاله ابن عباس وهو أول من أمر بها من الأنبياء، قاله الخطابي، وقيل كانت عليه فرضاً وهي لنا سنة (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم وأبو الشيخ ابن حبان والبيهقي وغيرهم، وأخرجه مالك والنسائي أيضاً موقوفاً، ورواه مالك خارج «الموطأ» مرفوعاً (الاستحداد: حلق العانة، وهو حلق الشعر الذي حول الفرج) قال الراعي: كأن مأخوذ نم الحديد لأنهم كانوا لا يعرفون النورة اهـ. والعانة: الشعر الذي قول الفرج وحواليه من الرجل والمرأة، ونقل ابن شريح أنها الشعر النابت حول حلقة الدبر، فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما، قاله المصنف ويحصل المقصود بالنتف لكن السنة الحق لها. وقال المصنف في «التهذيب» : النتف في حق المرأة أولى، وسبقه إليه الذرماري. واستشكله الفاكهي بأن فيه ضرراً على الزوج باسترخاء المحل باتفاق الأطباء، وقال ابن العربي: النتف في حق الشابة أولى لأن به يربو فكان التنف، والأولى في حق الكهلة التنور والضابط في إزالته الحاجة.
9 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: عشر) أي خصال عشر (من الفطرة قص الشارب) واختلف في السبالين وهما طرفاً الشارب (وإعفاء اللحية) أي عدم التعرض لشعرها بأخذ شيء منه، قال في «شرح مسلم» : قال العلماء: يكره في اللحية خصال بعضها أشد قبحاً من بعض: خضابها بالسواد لا لغرض الجهاد، وخضابها بالصفرة تشبيها بالصالحين لا اتباعاً للسنة، وتبييضها بالكبريت أو غيره استعجالاً للشيخوخة لأجل الرياسة

(6/664)


والتعظيم وإيهام لقيّ المشايخ، ونتفها أول طلوعها إيثاراً للمرودة وحسن الصورة، ونتف الشيب وتصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعاً ليستحسنه النساء وغيرهن، والزيادة فهيا والنقص منها بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين، أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك، ونسريحها تصنعاً لأجل الناس، وتركها شعثة متشعثعة إظهاراً للزهادة وقلة المبالاة بنفسه، والنظر إلى سوادها أو بياضها إعجاباً وخيلاء، وغرة بالشباب وفخراً بالمشيب وتطاولاً على الشباب، وعقدها وضفرها وحلقها إلا إذا نبتت للمرأة فيستحب لها حلقها اهـ (والسواك) أي الاستياك (واستنشاق الماء) أي إيصاله إلى الأنف وهو مطلوب في كل من الوضوء والغسل (وقص الأظفار) لإذهاب ما يجتمع تحتها من الوسخ (وغسل البراجم) دفعاً لما يجتمع في غضونها منه، ويلتحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع، وكذا ما يجتمع داخل الأنف وسائر الوسخ المجتمع في أي موضع كان من البدن بالعرق والغبار ونحوهما (ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء. قال الراوي) هومصعب ابن شيبة كما صرح به مسلم (ونسيت العاشرة) أي من الخصال (إلا أن تكو المضمضة) قال المصنف: هذا شك من الراوي، قال القاضي عياض: ولعلها الختان المذكور مع الخمس وهو أولى (قال وكيع) بفتح الواو بوزن بديع (وهو أحد رواته) وراه عند مسلم بواسطة (انتقاص الماء) أي بالقاف والصاد
المهملة (الاستنجاء) أي انتقاص البول بالماء لأنه ينقص البول من مجراه ويوقفه داخل الفرج، وقال أبو عبيد وغيره: معناه انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره، وقيل هو الانتضاح، وقد جاء في رواية الانتضاح بالماء بدل انتقاص الماء، قال الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينتفي عنه الوسواس، وقيل هو الاستنجاء بالماء. وذكر ابن الأثير أنه روى انتفاص بالفاء والصاد المهملة، قال: والمارد نضحه على الذكر من قولهم لنضح الدم القليل نقصه وجمعها نفص، وهذا الذي نقله شاذ والصواب ما سبق قاله المصنف في «شرح مسلم» (رواه مسلم) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والأربعة (البراجم بالياء الموحدة) أي المفتوحة (وبالجيم) وبعد الموحدة راء خفيفة وهي جمع برجمة بضم الموحدة والجيم (وهي عقد) بضم ففتح جمع عقدة (الأصابع) ومفاصلها

(6/665)


(وإعفاء اللحية معناه) توفيرها: أي (لا يقص منها شيئاً) قال المصنف: وهو بمعنى «أوفوا اللحى» في رواية وكان من عادة الفرص قص اللحية فنهى الشارع عنه.
10 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: أحفوا الشوارب) قال المصنف: أي أخفوا ما طال منها على الشفتين (وأعفوا) بقطع الهمزة فيه كالذي قبل: أي وفروا (اللحى) قال ابن السكيت وغيره: يقال في جمع اللحية لحى ولحى بالكسر والضم لغتان والكسر أفصح. قال المصنف: حصل من مجموع روايات هذا اللفظ في «الصحيحين» خمس روايات أعفوا وأوفوا وأرخوا ووفروا، ومعناها كلها تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء (متفق عليه) ورواه الترمذي والنسائي من حديث ابن عمر، ولم يعز السيوطي في الجامع الصغير الحديث للبخاري بل اقتصر فيه على ذكر مسلم، ولعل هذا اللفظ لمسلم، وللبخاري من حديث ابن عمر بلفظ «خالفوا المشركين» وعنده من حديثه أيضاً «أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى» اهـ. قال السيوطي: ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة، ووراه الطحاوي من حديث أنس وزاد في آخره «ولا تشبهوا باليهود» ورواه ابن عدي والبيهقي في الشعب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وزاد بدل وقوله «ولا تشبهوا» قوله «وانتفوا الشعر الذي في الآناف» .

(6/666)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
216- باب: في تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها وما يتعلق بها
قال الله تعالى (1) : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تأكيد وجوب الزكاة
هي لغة النماء والتطهير وشرعاً جزء مخصوص يخرج من مال مخصوص على وجه مخصوص (وبيان فضلها) معطوف على تأكيد (و) بيان (ما يتعلق بها) من بيان بعض ما يجب فيه الزكاة، ومن يجب عليه (قال الله تعالى: وأقيموا الصلاة) أي: بإتمام أركانها وشرائطها من قولهم أقمت العود أزلت عوجه (وآتوا) أي: اعطوا (الزكاة) دل قرن إعطائها بإقامة الصلاة على عظم تاكيد ذلك (وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله) أي: ليتذللوا غاية التذلل له (مخلصين له الدين) بأن لا يشركوا معه فيه شركاً جلياً بأن يعبدوا غيره معه كما يفعل المشركون أو شركاً خفياً بأن يرائي العامل بعمله، أو يسمع به فإن الأول يمنع أصل الإِيمان، والثاني يمنع ثواب الأعمال المفعولة كذلك (حنفاء) مائلين عن كل دين باطل (ويقيموا الصلاة) عطف على يعبدوا (ويؤتوا) أي: يعطوا (الزكاة وذلك) أي: ما ذكر من الإِيمان مخلصاً وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (دين القيمة) أي: دين الملة أو الشريعة المستقيمة، وقيل: هي جمع القيم أي: الأمة القائمين لله تعالى. وتقدم تفسير هذه الأية أول باب الإخلاص (وقال تعالى: خذ من أموالهم) أي: أموال المؤمنين (صدقة تطهرهم) عن الذنوب ورذيلة البخل (وتزكيهم بها) أي: ترفعهم بالصدقة إلى منازل المصدقين
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 43.
(2) سورة البينة، الآية: 5.

(7/5)


وَقَالَ تَعَالَى (1) : (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) .
1204- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "بُنِيَ الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ" متفقٌ عَلَيْهِ. (2) .
1205- وعن طَلْحَةَ بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب التيمي رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأسِ نَسْمَعُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المخلصين. ففي الحديث والصدقة برهان.
1204- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: بُنِيَ الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ) أي: من الخصال (شهادة أن لا إله إلا الله) (وشهادة أن محمداً رسول الله) الشهادتان خصلة واحدة ويجوز في شهادة وجوه الإِعراب الثلاثة الجر على الإِتباع، والآخران على القطع.
(وإقام الصلاة) بحذف التاء للتخفيف. (وإيتاء) أي: إعطاء (الزكاة وحج البيت وصوم رمضان) . المصادر فيه محتملة؛ لكونها مبنية للفاعل، مضافة للمفعول أي: شهادة المكلف وإقامته وإيتاؤه وحجه وصومه؛ ولكونها مبنية للمفعول أي: أن تشهد الشهادتان وتقام الصلاة الخ. (متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات.
1205- (وعن طلحة) بفتح المهملتين وسكون اللام بينهما. (ابن عبيد الله) بالتصغير (ابن عثمان بن عمرو بن كعب) بن سعد بن تيم بن مرة القرشي (التيمي) أبي محمد المكي المدني أحد العشرة المبشرة بالجنة (3) ، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب (4) الشورى الذين توفي رسول الله عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض (رضي الله عنه) سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحة الخير، وطلحة الجود، وهو من المهاجرين الأولين ولم يشهد بدراً؛ لكن ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه، وأجره كمن حضرها وشهد
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 103.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم (1/ 46، 48) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام، (الحديث: 20) .
(3) وإنما نفعت التوبة هنا بخلاف سائر الحدود لأن القتل ليس على الإخراج عن الوقت فقط بل مع الامتناع من القضاء وبصلاته يزول ذلك اهـ حج في شرح المنهاج.
(4) التنقير البحث. ع.

(7/6)


دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَإذا هُوَ يَسألُ عَنِ الإسْلاَم، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ صَلَواتٍ في اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحداً وما بعدها من المشاهد، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك يوم كله كان لطلحة وفضائله أشهر من أن تذكر روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثاً اتفقا على حديثين منها وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة، وقتل يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في قدر عمره، فقيل أربع وستون، وقيل ثمان وخمسون، وقيل اثنان وستون، وقيل: ستون. وقبره بالبصرة مشهور يزار ويتبرك به، ومن فضائله أن عائشة رضي الله عنها قالت: طلحة ممن قضى نحبه، وما بدلوا تبديلاً، وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ووقاه بيده ضربة فصد بها فشلت يده. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوجب طلحة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه انتهى. ملخصاً من التهذيب. (قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد) قال الجلال البلقيني: في مبهمات البخاري قال القاضي عياض: هو ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، كذا قال ابن بطال وغيره وفيه نظر؛ لأن ضماماً إنما هو في حديث أنس. أما حديث طلحة فلا، فالظاهر أنهما قضيتان لتباين الألفاظ نبه عليه القرطبي اهـ وكأنه لهذا التنظير قال السيوطي في التوشيح قيل هو ضمام (ثائر الرأس) أي: منتشره منتفشه وهو بالرفع صفة رجل، وقيل: يجوز نصبه على الحال. (نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول) قال المصنف: بالنون المفتوحة فيهما، وروي بالتحتية المضمومة فيهما، والأول هو الأشهر الأكثر الأعرف، ودوي الصوت بفتح الدال المهملة على المشهور، وحكى صاحب المطالع ضمها وخطأ القاضي عياض ضمها، وكسر الواو وتشديد الياء وهو بعده في الهواء، ومعناه شدة صوت لا يفهم. وقال الخطابي: الدوي صوت مرتفع متكرر لا يفهم وذلك لأنه نادى من بعد (حتى دنا) أي: قرب غاية لمقدر أي: فسار إلى أن قرب (من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا) فجائية (هو) مبتدأ خبره جملة (يسأل عن الإِسلام) أي: عن شرائعه، وعند البخاري في الصوم فقال: أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس، وكذا قال في الزكاة. قال في التوشيح: وبه يتبين مطابقة الجواب هنا للسؤال. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات في اليوم والليلة) أي: مفروضة فيهما على كل مكلف بها لا نحو حائض ونفساء ومجنون. (فقال: هل عليّ غيرها؟) أي: علي فرض من الصلاة غير الخمس؟ (قال لا إلا أن تطوع) بتشديد الطاء والواو وأصله تتطوع فادغمت التاء في الطاء، ويجوز تخفيف

(7/7)


فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَصِيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ" قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ" قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ" فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لاَ أُزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفْلَحَ إنْ صَدَقَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطاء على حذف إحدى التاءين، والاستثناء منقطع، أي: لا شيء واجب عليك غيرها؛ لكن يستحب أن تتطوع، ومنه أخذ أصحابنا عدم وجوب الوتر، وأنه سنة، وجعله بعض العلماء متصلاً، واستدل به على أن من شرع في نفل من صوم، أو صلاة، وجب عليه إتمامه، ومذهبنا أنه يستحب الإِتمام، ولا يجب. قاله المصنف (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وصيام شهر رمضان) عطف على خمس (قال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع) والمراد بيان الواجب منهما بأصل الشرع وإلا فيجب في الصلاة زيادة على الخمس بنذر، وفي الصوم بنذر، أو كفارة (قال) أي: الراوي (وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة) أي: المفروض منها (فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) قال الدماميني في المصابيح: لا يخفى أن هذا الرجل إنما وفد بالمدينة، وأقل ما قيل فيه أنه وفد سنة خمس، وقد تقرر في ذلك الزمن النهي عن أمور كالقتل، والزنى، والعقوق، والظلم، والسرقة. فثبت أن عليه وظائف أخرى غير الصلاة والزكاة والصيام. وأجاب ابن المنير بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب بما يقتضيه الحال، وبالأهم فالأهم، إذ لا يمكن بيان الشريعة دفعة، لا سيما لحديث عهد بالإِسلام، أو أن الرواة اقتصروا على بعض ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي عن المصنف. (قال: فأدبر الرجل وهو يقول) جملة حالية، أو معطوفة (والله لا أزيد على هذا ولا أنقص) أحسن ما يقال فيه: أن المعنى أبلغها قومي على ما سمعتها من غير زيادة ولا نقص؛ لأنه كان وافداً لهم ليتعلم تسلمهم. قاله ابن المنير قال الدماميني: ولا ينافيه ما في كتاب الصوم من البخاري من قوله والذي أكرمك بالحق لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئاً؛ لأن ما في الصوم من حديث أنس، وما فيه قضية غير القضية التي في حديث طلحة، كما تقدم عن القرطبي.
(فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح إن صدق) معناه ظاهر باعتبار ما تقدم، وقال ابن العربي في كتابه القبس: إنما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأنه أول ما أسلم فأراد أن يطمئن فؤاده، وبعد ذلك يفعل ما سواها بما يظهر له من ترغيب الإِسلام، وقال المصنف: أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه كان مفلحاً، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد لا يكون مفلحاً، فإنه إذا أفلح بالواجب فلأن يفلح بالواجب والمندوب أولى، فإن قيل كيف قال لا أزيد على هذا وليس في الحديث جميع الواجبات، ولا المنهيات الشرعية ولا السنن المندوبات؟

(7/8)


متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1206 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعث مُعاذاً - رضي الله عنه - إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَأنِّي رسول اللهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لِذلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أن اللهَ تَعَالَى، افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالجواب أنه جاء في رواية البخاري في آخر هذا الحديث زيادة توضح المقصود قال: فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإِسلام فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، فعلى عموم قوله بشرائع الإسلام، وعموم قوله مما فرض عليّ، يزول الإشكال في الفرائض، وأما النوافل فقيل: يحتمل أنه كان قبل شرعها، ويحتمل أنه أراد، لا أزيد على الفريضة بصلاة النافلة مع عدم الإخلال بشيء من الفرائض، وهذا مفلح بلا شك وإن كانت مواظبته على ترك السنن مذمومة، وترد بها الشهادة، إلا أنه ليس بعاص، بل مفلح ناج. اهـ وتقدم في كلام الدماميني منع الاستدلال بما في رواية البخاري المذكورة لما في هذا الحديث لاختلاف قضيتهما (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان، وفي الصوم وفي الشهادات، وفي ترك الحيل. وأخرجه مسلم في الإِيمان، ورواه أَبو داود في الصلاة من سننه، والنسائي في الصلاة وفي الصوم وفي الإِيمان من سننه، كذا في الأطراف للمزي ملخصاً.
1206- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً) هو ابن جبل الأنصاري (رضي الله عنه إلى اليمن) عاملاً على بعض منها (فقال:) أي: في أثناء الحديث وتقدم بجملته في باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات، وكذا حديث ابن عمر المذكور بعده. (ادعهم) حذف العاطف وهو الفاء المذكورة قبله؛ لعدم تعلق غرض ما أورد له الحديث بها؛ أي: ادع أهل الكتاب الذين تقدم عليهم. (إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) بدأ بالدعاء إليهما لأنهما الأساس للاعتداد بالطاعات. (فإن هم أطاعوا لذلك) بالإذعان له والإِقرار به (فاعلمهم أن الله افترض) أي: فرض، والعدول إلى صيغة الافتعال إيماء إلى الاهتمام بالمفروض، (عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة) ظرف لأداء المقدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: الزكاة من الإِسلام، (1/97، 99) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام، (الحديث: 8) .

(7/9)


فَإنْ هُمْ أطَاعُوك لِذلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ، وتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1207- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً رسول الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِني دِمَاءهُمْ وَأمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّ الإسْلاَمِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قبل خمس (فإن هم أطاعوا لذلك) بالتصديق بوجوبها والتزام فعلها (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة) إن قيل توقف الصلاة على الشهادتين ظاهر؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بعد الإسلام، فما وجه توقف الزكاة على الصلاة مع استوائهما في كونهما ركنين من الإسلام؟ فالجواب أن المعنى فإن أطاعوا باعتقاد الصلاة فرضاً فاذكر لهم الزكاة، والغرض بذلك التدريج حتى لا ينفروا من كثرتها لو جمعت، وتقديم الصلاة؛ لشرفها ولكونها بدنية أسهل من الزكاة؛ لكونها مالية، وبذل المال مشق (تؤخذ من أغنيائهم) يشمل الصغير فتجب الزكاة في ماله والمدين غني باعتبار الحال الحاضر، فلذا لم يمنع الدين وجوب الزكاة عليه على الأصح (وترد على فقرائهم) اقتصر عليهم مع أن مستحقها أصناف مذكورة في آية (إنما الصدقات) (2) لمقابلة الفقراء بالأغنياء ولأن الفقراء هم الأغلب، والإِضافة تقتضي منع صرف الزكاة لكافر، وإنما لم يذكر في الحديث الصوم والحج؛ لأن اهتمام الشرع بالصلاة والزكاة أكثر؛ ولذا كُررا في القرآن كثيراً، وأيضاً فإن الصوم قد يسقط بالفدية، والحج بفعل الغير في المعضوب، قال البرماوي: أو أن الحج لم يكن شرع، وفيه نظر لا يخفى لأن إرساله إلى اليمن كان قبيل موته - صلى الله عليه وسلم -، وقد استقر وجوب الحج حينئذ بلا خلاف (متفق عليه) .
1207- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت) بصيغة المجهول، ولم يذكر الفاعل وهو الله تعالى للعلم به (أن أقاتل الناس) أي: الكفرة غير الكتابيين ومن ألحق بهم (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) فيه أن تارك الصلاة كسلاً ومانع الزكاة لا يمتنع قتالهما وهو مذهب إمامنا الشافعي فيقتل بإخراج الصلاة عن وقت الضرورة إن لم يتب (3) ، ويقاتل الإمام تاركي الزكاة إذا توقف أخذها منهم عليه، (فإذا فعلوا ذلك) أي: ما ذكر من الشهادتين وما بعدهما،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، باب: (3/255) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإِسلام، (الحديث: 29) .
(2) سورة التوبة، الآية: 60.
(3) الضمير عائد إلى القول المفهوم من "قالها".

(7/10)


وَحِسَابُهُم عَلَى الله" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1208- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه تغليب الفعل على القول (عصموا) أي: منعوا (مني دماءهم) فلا يجوز قتلهم إلا بسبب خاص من قصاص أو زنى مع إحصان أو ارتداد (وأموالهم) فلا يجوز أخذها إلا بطريقه من كفارة أو بدل ما أتلفوه. (وحسابهم على الله) يعني أن الشريعة الشريفة إنما تجري على الظواهر ولا تنقر عما في القلب، فمن أتى بالشهادتين والتزم أحكام الإِسلام جرت عليه أحكامهم، سواء كان في الباطن كذلك أم لا. أما الكتابي وما ألحق به من المجوسي فيقاتل حتى يسلم أو يؤدي الجزية. (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربع، قال السيوطي في الجامع الصغير: وهو متواتر.
1208- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي) بصيغة المجهول، ونائب فاعله (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وسكت عن ذكر الفاعل للعلم به. (وكان أبو بكر رضي الله عنه) أي: خليفة أو التقدير وكانت خلافة أبي بكر أي: وجدت فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وذكر العامل؛ لتذكير مرفوعه (وكفر) أي: ارتد (من كفر من العرب) وما بقي على الإِيمان سوى أهل الحرمين، ومن حولهما وأُناس قليل، وقيل: المراد منه وترك الزكاة من ترك، وأطلق الكفر على مانع الزكاة تغليظاً، أو أن الذين أراد الصديق قتالهم كان بعضهم مرتداً كأصحاب مسيلمة، وبعضهم بغاة بمنع الزكاة، وأُطلق على الجميع الكفر؛ لأنه كان أعظم خطباً، وصار مبدأ قتال أهل البغي مؤرخاً بزمان على إذ كانوا منفردين في عصره لم يختلطوا بأهل الشرك، ولا منافاة بين إيمانهم مع إنكارهم الزكاة، الذي يكفر به غير المعذور لأن التكفير بذلك إنما هو في زماننا لتقرر الأركان، وحصول الإجماع عليها، وكونها معلومة من الدين بالضرورة. وأما أولئك فلم يكفروا بذلك لكونهم كانوا قريبي عهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، وبوقوع الفترة بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا جهالاً
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وغيرهم (1/70، 72) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... (الحديث: 36) .

(7/11)


فَقال عُمَرُ - رضي الله عنه -: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوُا لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بين الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ. وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤدُّونَهُ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: فَوَاللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأمور الدين، فدخلتهم الشبهة فغدروا، فسموا بذلك بغاة، وذلك لأن المناظرة بين الصحابة إنما هي في قتال مانعي الزكاة (فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس) بالفوقية إنكار على أبي بكر أمره به أو بالنون أي نتلبس به، والفاء عاطفة على محذوف دل عليه السياق، أي: فأراد أبو بكر قتالهم وأمر به فقال عمر: إلخ (وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) أي: مع قرينتها وهي محمد رسول الله، وظاهر هذه الرواية الاكتفاء في رفع القتال بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإن لم يأت قبله بقوله أشهد، والرواية قبله تقتضي اعتبار ذلك، والصحيح الاكتفاء به من غير لفظ أشهد. (فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه) عمومه متناول الصادق في إيمانه والمنافق فيه فذلك منه عاصم لهما منه، ويدل له قوله (وحسابه على الله) أي: فإن كان صادقاً نفعه في الآخرة، وإلا فلا، وهذا من سند الصديق، فإن من حق المال الزكاة، فلا تعصم الشهادة من أخذها (فقال:) أي: أبو بكر رضي الله عنه (والله لأقاتلن من فرق) بالتشديد والتخفيف (بين الصلاة والزكاة) أي: بأن قال إحداهما واجبة دون الأخرى، أو امتنع من إحداهما (فإن الزكاة حق المال) أي: والشهادتان لا يعصمان من أخذه من المال (1) ، فهي داخلة في قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بحقه (والله لو منعوني عقالاً) بكسر المهملة وبالقاف. قال في النهاية: أراد به الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة؛ لأن على صاحبها التسليم، وإنما يقع القبض بالرباط، وقيل: أراد ما يساوي عقالاً من حقوق الصدقة، وقيل: إذا أخذ المصدق أعيان الإِبل قيل أخذ عقالاً، وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقداً وقيل: أراد بالعقال صدقة العام، يقال أخذ المصدق عقال هذا العام إذا أخذ منهم صدقته، واختاره أبو عبيد. وقال: هو أشبه عندي بالمعنى، وقال الخطابي: إنما يضرب المثل في هذا بالأقل إلا بالأكثر وليس بسائر في لسانهم أن العقال صدقة عام، وفي أكثر الروايات عناقاً، وفي أخرى جدياً. اهـ (كانوا يؤدونه) أي: يدفعونه (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه) أي: لأجل منعهم إياه (قال
__________
(1) أي من أخذ حق المال من المال.

(7/12)


مَا هُوَ إِلاَّ أنْ رَأيْتُ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبي بَكْرٍ لِلقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ الحَقُّ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1209- وعن أَبي أيُّوب - رضي الله عنه -: أنّ رَجُلاً قَالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أخْبِرْنِي بعمل يُدْخِلُنِي الجَنَّة، قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ، وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) أي: اجتهد فطابق اجتهاده. قال البرماوي: إن عمر أخذ بظاهر أول الحديث قبل أن ينظر في آخره، فقال أبو بكر: إن الزكاة حق المال، فدخلت في قوله إلا بحقه، وقاسه على الممتنع من الصلاة، لأنها كانت بالإِجماع، فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه والعموم يخص بالقياس، على أن هذه الرواية مختصرة من الرواية المصرح فيها بالزكاة، وهو حديث ابن عمر السابق قبله، وسبب الاختصار أنه حكى ما جرى بين الشيخين لا جميع القصة اعتماداً على علم المخاطبين بها، أو اكتفى بما هو الغرض حينئذ، وقال الخطابي: الخطاب في الكتاب ثلاثة أضرب: عام نحو: إذا أقمتم إلى الصلاة، وخاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - نحو فتهجد حيث قيد بذلك، وخطاب يواجه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو والأمة فيه سواء كآية (خذ من أموالهم صدقة) (2) ، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم. وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحبها، فإن الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله ورسوله فيها، وكل ثواب موعود على عمل كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - فهو باق، فيستحب للإمام أن يدعو للمتصدق ويرجى أن يستجيب الله منه ولا يخيبه (متفق عليه) .
1209- (وعن أبي أيوب) خالد بن زيد الأنصاري (رضي الله عنه أن رجلاً) نقل عن الصريفيني (3) أنه روى الحديث من طريق أبي أيوب وقال فيه: أنه وافد بني المنتفق، قاله الدماميني في المصابيح، وقال البرماوي: حكى ابن قتيبة في غريب الحديث أنه أبو أيوب نفسه، وتقدم شرح الحديث في باب بر الوالدين وصلة الأرحام (قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرني بعمل يدخلني الجنة) بالرفع جملة في محل الصفة لما قبله، وإسناد الإدخال إليه مجاز من الإِسناد للسبب. (فقال) أي: (النبي - صلى الله عليه وسلم - تعبد الله) هو من حذف أن قبل المضارع، أو تنزيل الفعل منزلة المصدر كما في تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وكذا المعطوفات (ولا تشرك
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (3/217) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا ... (الحديث: 32) .
(2) سورة التوبة، الآية: 103.
(3) نسبة لصريفين مكان بالعراق.

(7/13)


وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1210- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ أعْرَابياً أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ، دَخَلْتُ الجَنَّةَ. قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وتُؤتِي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ" قَالَ: وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا أزيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
به شيئاً) جملة خبرية حالية من فاعل الفعل قبله، رابطها الواو والضمير (وتقيم الصلاة) أي: تأتي بها جامعة الأركان والشرائط (وتؤتي الزكاة) أي: تؤديها للفقراء وباقي مستحقيها، وسكت عن الصوم والحج إن كانا قد وُجبا إما اكتفاء بعلم المخاطب أنهما كاللذين قبلهما في سببية دخولها؛ أو لأن الحاجة إلى ما ذكره في الحديث أهم لتقصير السائل في تلك الأمور، لا في نحو الصوم والحج، فبين له شأنهما تحريضاً عليهما، أو ذكراً وسقطاً من الراوي (وتصل الأرحام متفق عليه) .
1210- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً) هو ساكن البادية، وهذا الأعرابي لعله عبد الله بن الأحزم، قاله البلقيني في الإِفهام (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته) عبر بها لثقته بتوفيق الله تعالى له، فكأنه مقطوع بحصوله (دخلت الجنة قال تبعد الله ولا تشرك به شيئاً) من الشرك، أو من المعبودات، والجملة حال رابطها الضمير (وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة) احترازاً من صدقة التطوع (وتصوم رمضان) سكت عن الحج والجهاد، إما لعدم طلبهما من السائل، أو لعلمه بأنه يعلم ثوابهما وعلو مكانهما (قال: والذي نفسي بيده) أي: بقدرته (لا أزيد على هذا) زاد مسلم: ولا أنقص منه. قال الطبراني: هذا الحديث ونحوه خوطب به أعراب حديثو عهد بالإِسلام فاكتفى منهم بفعل الواجب في ذلك الحال؛ لئلا يثقل ذلك عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه والحرص على تحصيل ثواب المندوبات سهلت عليهم. كذا في التوشيح (فلما ولى) أي: أدبر (قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) قال البرماوي: فيه أن المبشر بها أكثر من العشرة، كما ورد النص في الحسن والحسين وأمهما وجدتهما وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتحمل بشارة العشرة على أنهم بشروا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (3/208، 209) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان الإِيمان الذي يدخل به الجنة ... ، (الحديث: 12) .

(7/14)


أهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1211- وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -، قَالَ: بايَعْتُ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1212- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ، لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دفعة واحدة، أو بلفظ بشره بالجنة، أو أن العدد لا ينفي الزائد (متفق عليه) .
1211- (وعن جرير بن عبد الله) بالجيم والرائين بوزن قتيل وهو البجلي (رضي الله عنه قال بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -) من مبايعة الجند الأمير، وهو التزام ما يلزم (على إقام الصلاة) مصدر أقام بحذف التاء المزيدة عوضاً عن ألف الافتعال تخفيفاً، وذلك خاص بحال إضافته (وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) أي: ذي إسلام من ذكر أو أنثى (متفق عليه) وقد تقدم في باب النصيحة.
1212- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة لتأكيد استغراق قوله (صاحب ذهب ولا فضة) أي مما تجب فيه الزكاة منهما، فالوعيد مخصوص بذلك، وقول ابن حجر في شرح المشكاة: فذلك الوعيد لا يستثنى منه أحد، مراده ممن وجد عنده أحد النقدين الواجبة زكاتهما فلم يؤدها (لا يؤدي منها حقها) أي: الحق الواجب فيها وهو الزكاة، والإِضافة للملابسة وإفراد الضمير، إما لإِرجاعه إلى القصة لأنها أقرب، والذهب يعلم مما ذكر فيها بالأولى أو لأنها الأغلب، أو لأنهما في معنى الدنانير والدراهم، وهذا على منوال قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) (3) (إلا) استثناء من أعم الأحوال أي: لا يحصل له حال من الأحوال إلا حالة واحدة هي أنه (إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح) بالرفع ويصح النصب على أنه المفعول الثاني، والأول ضمير الذهب والفضة وأفرد لما مر ولمطابقة الثاني. قال التوربشتي: تصفيح الشيء جعله عريضاً،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (3/210) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان الإِيمان الذي يدخل به الجنة ... ، (الحديث: 15) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: البيعة على ايتاء الزكاة (3/212) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، (الحديث: 97) .
(3) سورة التوبة، الآية: 34.

(7/15)


مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَجَبِينُهُ، وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ في يَومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ فَيَرَى سَبيلَهُ، إمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والصفائح ما طبع من الحديد وغيره عريضاً (من نار (1) فاحمى عليها في نار جهنم) بيان لمعنى كونها من نار لأن حقيقتها من غيرها، لكن لهذا الإِحماء الذي يصيرها كالنار في رأي العين سميت ناراً، والآية (يوم يحمى عليها في نار جهنم) (2) إلخ ظاهرة في هذا، وذكر أحمى هنا ويحمي في الآية؛ لإِسناده إلى الظرف، والأصل أحميت النار عليها أي: صارت ذات توقد وحر شديد، ثم حول الإِسناد إلى الظرف مبالغة؛ لأن كونها يحمى عليها أبلغ من كونها محماة؛ لإِشعار الأول بمزيد علاج واعتناء أتم، ومن ثم كان المراد أن تلك الصفائح تعاد إلى النار عوداً متكرراً إلى أن تبلغ في مزيد حرها ولهبها واشتداد إحراقها الغاية، وإنما كان الأصل ذلك لأنه لا يقال أحميت على الحديد بل أحميت الحديد وحميته (3) كذا في فتح الإله، وبه يندفع منع التوربشتي من جهة الدراية لا من جهة الرواية لرفع الصفائح، زاعماً تعين نصبها؛ لأن على الرفع يتعين كون من نار لبيان الجنس ولا يستقيم، وذلك لأن الأموال هي التي جعلت صفائح ليعذب بها صاحبها، ولو كانت الصفائح متخذة من نار لم يكن لقوله (يحمى عليها) وجه، ووجه الاندفاع أنه لا منافاة بين كون التعذيب بنفس الأموال، وبين كونها من النار؛ لأن الأول حقيقة والثاني مجاز؛ لأنه لشدة التهابها بالنار صارت كأنها عينها، وقوله ثم يكن لقوله (يحمى عليها) وجه ممنوع، بل له وجه وهو المبالغة في ذلك العذاب والله أعلم بالصواب. (فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره) خصت هذه الثلاثة؛ لأن إمساك المال عن أداء الواجب لأجل الوجاهة وملء البطن من الأطعمة وستر الظهر باللباس، أو لأنه أعرض بوجهه عن الفقير، وأزور عنه بجانبه وولاه ظهره؛ أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة؛ لاشتمالها على الأعضاء الرئيسية الدماغ والقلب والكبد، أو المراد منها جهات البدن الأربع أمامه ووراءه ويمينه ويساره (كلما بردت) عن الحمو ردت إلى النار لزيادة حموها وشدتها (أعيدت له) أحر وأشد مما كانت. قال القرطبي: معناه دوام التعذيب واستمرار شدة الحرارة في تلك الصفائح، كاستمرارها في حديدة محماة ترد إلى الكير وتخرج منها ساعة فساعة (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) على الكافرين ونحوهم من الفسقة المتمردين المانعين حق الله تعالى وحق عباده، أما المؤمنون فهو على بعضهم كركعتي الفجر، وعلى
__________
(1) قوله من نار من لابتداء الغاية وكأنها لشدة كونها محماة في نار جهنم جعلت كأنها مأخوذة من نار.
(2) سورة التوبة، الآية: 35.
(3) في الصحاح أحميت الحديد في النار ولا يقال حميته. ع.

(7/16)


إِلَى الجَنَّةِ، وَإمَّا إِلَى النَّارِ" قيل: يَا رسولَ الله، فالإبلُ؟ قَالَ: "وَلاَ صَاحِبِ إبلٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَومَ وِرْدِهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أوْفَرَ مَا كَانَتْ، لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا فَصيلاً وَاحِداً، تَطَؤُهُ بِأخْفَافِهَا، وَتَعَضُّهُ بِأفْوَاهِهَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باقيهم كنصف يوم من أيام الدنيا كما أشير إليه بقوله تعالى: (وأحسن مقيلاً) (1) ولا يزال تعذيبه مستمراً في هذه المدة الطويلة (حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله) . قال الطيبي: رويناه بضم الياء وفتحها وبرفع سبيله ونصبه. اهـ وعلى ضم التحتية فسبيله أما نائب فاعل أو مفعول به، وعلى فتحها فهو مفعول به فقط. والسبيل كالطريق وزناً ومعنى يذكر ويؤنث (إما إلى الجنة) أي: إن كان مؤمناً والظرف في محل الحال (وإما إلى النار) بأن كان كافراً ومنه مستحل ترك الزكاة (قيل: يا رسول الله فالإِبل) أي: عرفنا حكم النقدين فما حكم الإِبل؟
(قال:) عطفاً على قوله ما من صاحب ذهب إلخ (ولا صاحب إبل) بكسرتين وبكسر فسكون، أي: وما من صاحب إبلٍ (لا يؤدي منها حقها) الواجب (ومن) أي: بعض (حقها) المندوب ذكر استطراداً وبياناً لما ينبغي أن يعتني به من له مروءة، وإن لم يكن فيه عذاب؛ لأن العذاب لا يكون إلا بترك واجب وفعل حرام (حلبها) بفتح المهملة واللام على الأشهر، وإسكانها غريب لكنه القياس (يوم ورودها) أي: ورودها الماء بأن تحلب حينئذ ويسقى من ألبانها للمارة والواردين للماء، ونظير ذلك الأمر بالصرام (2) نهاراً ليحضر المحتاج والنهي عنه ليلاً (إلا إذا كان يوم القيامة بطح) أي: طرح على وجهه. قال المصنف وقال القاضي: قد جاء في رواية البخاري تخبط وجهه بأخفافها، وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح كونه علي الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى المد والبسط، فقد يكون على وجهه، وقد يكون على ظهره، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها (لها) وفي نسخة له: ولا يصح رواية بل معنى خلافاً للطيبي كالتوربشتي؛ لأن الضمير لها وذكر باعتبار الجنس (بقاع) أي في صحراء واسعة مستوية (قرقر) بقافين وراءين أي: مستو فهو صفة كاشفة كذا في فتح الإِله، والظاهر أنها صفة مؤكدة. قال التوربشتي: القرقر في معنى القاع، وعبر عنه بلفظين مختلفين؛ للمبالغة في استواء ذلك المكان. قال: وروي بقاع قرق وهو مثله (أوفر) أي: أسمن (ما كانت) أي: أوقات أكوانها وأحيائها ليزداد ثقلها عليه عند وطئها له؛ ولكون إضافة أفعل غير محضة لم تمنع وقوعه حالاً، كذا في فتح الإِله وهو وهم، فإن الصفة التي تكون إضافتها لفظية هي اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة، كما في التوضيح، ونصبه في
__________
(1) سورة الفرقان، الآية: 24.
(2) ويقال بالصوم كما في الصحاح والمراد به قطف الثمار بعد نضجها وكمالها. ع.

(7/17)


كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاَهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضى بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإمَّا إِلَى النَّارِ" قِيلَ: يَا رَسولَ اللهِ، فَالبَقَرُ وَالغَنَمُ؟ قَالَ: "وَلاَ صَاحِبِ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ، لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئاً، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلاَ جَلْحَاءُ، وَلاَ عَضْبَاءُ، تَنْطَحُهُ بقُرُونها، وَتَطَؤُهُ بِأظْلاَفِهَا، كُلَّمَا مرَّ عَلَيْهِ أُولاَهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، في يَومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَة حَتَّى يُقْضى بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرى سَبيِلَهُ، إمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإمَّا إِلَى النَّارِ" قيل: يَا رسول الله فالخَيْلُ؟ قَالَ: "الخَيلُ ثَلاَثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث على الظرفية أي: وقت أوفرِ أكوانها والله أعلم (لا يفقد منها) جملة حالية من فاعل كان التامة العائد للإِبل (فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها) حال أيضاً متداخلة، أو استئناف بياني جواب لسؤال مقدر تقديره لم بطح لها وقت كونها أوفر (وتعضه بأفواهها كلما) ظرف لقوله ردت (مر عليه أولاها رد عليه أخراها) قيل: الأنسب. رواية مسلم: كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها، بل قال المصنف: إنه الأصوب وإن به يستقيم الكلام، وكذا قال التوربشتي في شرح المصابيح، لكن قال في فتح القدير: وفيه ما فيه، بل المقصود من العبارتين تتابعها عليه واحداً بعد واحد (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالبقر) اسم جنس شامل للذكر والأنثى من الحيوان المعروف سمي به؛ لأنه يبقر الأرض للحرث أي: يشقها (والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم) أي: مما تجب فيه الزكاة بأن يكون نصاباً بدليل قوله (لا يؤدي منها حقها) أي: الزكاة الواجبة فيها (إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد) بكسر القاف أي: لا يعدم (منها شيئاً ليس فيها عقصاء) بالمهملتين بينهما قاف هي ملتوية القرنين (ولا جلحاء) بالجيم والمهملة أي: لا قرن لها (ولا عضباء) بالمهملة والمعجمة هي المكسورة القرن استفيد من هذه أن قرونها في غاية السلامة والقوهّ ليكون أوجع للمنطوح (تنطحه) بكسر الطاء وفتحها لغتان، ذكرهما الجوهري وغيره، وقال المصنف: الكسر أفصح وهو المعروف في الرواية (بقرونها وتطؤه بأظلافها) هي للبقر والغنم والظباء بمنزلة الخف للإِبل، فالظلف المنشق من القوائم، والخف للبعير، والقدم للآدمي، والحافر للفرس والبغل والحمار. (كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد) والفعل فيه وفيما قبله مبني للمجهول، وسكت عن ذكر الفاعل للعلم به لتعيينه (فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالخيل) قال في

(7/18)


وِزْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أجْرٌ. فَأمَّا الَّتي هي لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ ربطها رِيَاءً وَفَخْراً وَنِوَاءً عَلَى أهْلِ الإسْلاَمِ، فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ، وَأمَّا الَّتي هي لَهُ سِتْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا في سَبيلِ الله، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ في ظُهُورِهَا، وَلاَ رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَأمَّا الَّتي هي لَهُ أجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا في سَبيلِ الله لأهْلِ الإسْلاَمِ في مَرْجٍ، أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ المَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصباح: معروفة، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها. سميت خيلاً لاختيالها وهو إعجابها بنفسها مرحاً، ومنه يقال اختال الرجل وبه خيلاء أي: كبر وإعجاب، والمسئول عنه وجوب الزكاة فيها (قال الخيل ثلاثة) أي: لها أحكام غير ما مر، فلا زكاة فيها، هذا ما دل عليه السياق ويؤيده حديث "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه زكاة" وقال الطيبي، خولف بين إيراد جواب هذا وأجوبة الأنعام، فما هنا وارد على أسلوب الحكيم، فالتقدير على مذهب الشافعي دع السؤال عن الوجوب، فليس فيها حق واجب؛ ولكن سل عن اقتنائها، وعما يرجع إلى صاحبها من النفع، أو المضرة (هي لرجل وزر) بكسر الواو أي: إثم أي: سببه (وهي: فالرجل ستر) أي: للحالة التي هو فيها من الفقر أو الضيق (وهي لرجل أجر فأما التي) قال المصنف: كذا في أكثر النسخ أي من مسلم، ووقع في بعضها الذي هو أوضح وأظهر (هي له) وفي المشكاة لرجل بالاسم الظاهر محل المضمر (وزر فرجل ربطها رياء وفخراً) حال أو علة (ونواء) بكسر النون وتخفيف الواو بالمد: المعاداة (لأهل الإِسلام فهي له وزر) جملة مؤكدة مشعرة بتمام عنايته - صلى الله عليه وسلم - بتمام هذا الأمر والتحذير منه، ويأتي هذا في نظيره الآتي (وأما التي هي له ستر) أي: من إظهار الحاجة (فرجل ربطها في سبيل الله) أي: طاعته لا خصوص الجهاد لئلا يتحد مع ما بعده، ومن ثم عبر بدله في رواية بقوله: فرجل ربطها تغنياً وتعففاً أي: استغناء بنتاجها وتعففاً به عن سؤال الناس عند حاجته إلى الركوب، وهذا أشبه بصنيع ذوي الهيئات وأخلاق أهل الكرم والمروءة (ثم لم ينس حق الله في ظهورها) بأن يركبها للطاعات وعند الحاجات ندباً تارة ووجوباً أخرى (ولا رقابها) بأن يتعهدها بما يصلحها ويدفع ضررها (فهي له ستر) أي: حجاب يمنعه عن الحاجة للناس (وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله) أي: بقصد الجهاد عليها والإِعانة بها (لأهل الإِسلام في مرج) بالميم والراء والجيم بوزن فلس أي: أرض ذات نبات ومرعى والظرف متعلق بربط (أو روضة) عطف خاص على عام (فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء) من مزيدة مؤكدة؛ لعموم مجرورها إذ هو نكرة في سياق النفي (إلا كتب له عدد ما) أي: الذي (أكلت)

(7/19)


حَسَنَات وكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أرْوَاثِهَا وَأبْوَالِهَا حَسَنَات، وَلاَ تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا، وَأرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَلاَ مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ، وَلاَ يُرِيدُ أنْ يَسْقِيهَا إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ " قِيلَ: يَا رسولَ اللهِ فالحُمُرُ؟ قَالَ: " مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ في الحُمُرِ شَيْءٌ إِلاَّ هذِهِ الآية الفَاذَّةُ الجَامِعَةُ (1) : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العائد محذوف (حسنات) نائب فاعل كتب (وكتب له عدد) بالنصب مفعول مطلق (أرواثها وأبوالها) باعتبار أن بذلك بقاء حياتها مع كون أصلها قبل الاستحالة مالاً لمالكها، وفي ذكرهما غاية المبالغة؛ لأنهما إذا كتبا مع استقذارهما فغيرهما أولى (حسنات ولا تقطع طولها) بكسر المهملة وفتح الواو الخفيفة، ويقال طيل بوزن ما ذكر وقلب الواو ياء لإِنكسار ما قبلها. قال المصنف: وكذا جاء في الموطأ وهو حبل طويل يشد طرفه في نحو وتد وطرفه الآخر في يد الفرس (2) أو رجلها لتدور فيه وترعى من جوانبها وتذهب لوجهها (فاستنت) أي: عدت في مرجها لتوفر نشاطها (شرفاً أو شرفين) أي: طلقاً (3) أو طلقين قال التوربشتي: لأنها تعدو حتى تبلغ شرفاً من الأرض وهو ما يعلو منها فتقف عند ذلك وقفة ثم تعدو ما بدا لها، فعبر عن الطلق بالشرف، أو المراد تعدو إلى طرف المرج ثم تعود إلى محلها (إلا كتب الله له) أتى بصيغة المعلوم تفنناً في التعبير (عدد آثارها) لخطاها (وأرواثها) أراد بها هنا ما يشمل البول، وأسقط للعلم به منها (حسنات ولا مر بها صاحبها) يحتمل أن يراد به مالكها، وأن يراد من صاحبها وإن كان غيره، وإذا أثيب بالمصاحبة فالمالك أولى بالثواب. (على نهر) بسكون الهاء وفتحها (فشربت منه) ما أفادته الفاء من التعقيب هو باعتبار الغالب، وإلا فما يأتي مرتب على شربها منه ولو مع مهلة (ولا يريد أن يسقيها) بفتح التحتية على الأفصح وضمها لغة والجملة حالية من صاحب (إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات) وكتب له ذلك؛ لأنه نشأ عن فعله الذي هو إطعامها حتى احتاجت للشرب، وإذا أثيب بما ذكر من غير قصد السقي فمع قصده أولى (قيل: يا رسول الله فالحمر) بضمتين أي: أهي كالانعام في وجوب الزكاة أو كالخيل فيما ذكر؟ (قال: ما أنزل) بالفعل المبني للمجهول وفي نسخة مصححة ما أنزل الله (عليّ في الحمر شيء) أي: من الأحكام (إلا هذه الآية) بالرفع ويجوز فيه النصب (الفاذة) بالمعجمة المشددة أي: المنفردة في معناها (الجامعة) لأبواب البر لإِطلاق اسم الخير على سائر الطاعات، يقال: فذ الرجل عن أصحابه
__________
(1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.
(2) الفرس يقع على الذكر والأنثى ولا يقال للأنثى فرسه.
(3) الطلق بفتح اللام الشوط. ع.

(7/20)


ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم. ومَعْنَى "الْقاعُ": المكانُ الْمُسْتَوي مِنَ الْأرْضِ الواسِعُ و"القَرْقَرُ" الأمْلَسُ (1) .
217- باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام وَمَا يتعلق بِهِ
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا شذ عنهم فبقى منفرداً، وعطف عليها عطف بيان. قوله (فمن يعمل مثقال ذرة) أي: زنة نملة صغيرة أو جزء من أجزاء الهباء (خيراً يره) فإن كان مؤمناً رأى جزاءه في الدارين، وإن كان كافراً ففي الدنيا وقد يخفف عنه من عذاب الآخرة (ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره متفق عليه) أي: باعتبار أصل الوعيد في ترك الزكاة؛ لأن حديث البخاري ليس فيه ذكر وعيد النقدين، ولا ما في الخيل والحمر (وهذا) أي: المذكور (لفظ مسلم) في كتاب الزكاة، وسكت فيه عما تجب فيه الزكاة من الأقوات وعروض التجارة.
باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام
عبر به ثانياً بعد التعبير أولاً بالصوم تفنناً في التعبير، وأصله صوام قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (وما يتعلق به) أي: برمضان من الاعتكاف والإكثار من عمل البر، ثم الصوم والصيام مصدران لصام بمعنى أمسك ومنه قول مريم (إني نذرت للرحمن صوماً) (3) أي: إمساكاً وسكوتاً عن الكلام، وشرعاً الإمساك عن المفطرات في زمن مخصوص على وجه مخصوص. ووجوب صوم رمضان بالكتاب والسنة والإجماع، معلوم من الدين بالضرورة، فيكفر جاحده ما لم يكن معذوراً بأن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء (قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا) نداء لهم باشرف أَوصافهم وفيه تشريف بعد تشريفهم بالخطاب (كتب عليكم الصيام) قيل: هو صوم رمضان وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر وعاشوراء ثم نسخ (كما كتب على الذين من قبلكم) فيه حمل لثقله على النفوس لأن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة مختصراً (3/212) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة، (الحديث: 24) .
(2) سورة البقرة، الآية: 183.
(3) سورة مريم، الآية: 26.

(7/21)


إِلَى قَوْله تَعَالَى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر) الآيةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأمر الشاق إذا عم سهل تعاطيه، واختلف على الأول هل التشبيه في أصل الصوم أو في خصوص رمضان؟ الأصح الأول وأن رمضان من خصائص هذه الأمة تشريفاً لنبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - (لعلكم تتقون) المعاصي، فإن الصوم يضيق مسالك الشيطان (أياماً معدودات) تقديره صوموا أياماً، وليس معمول الصيام لتحليته بأل وإعماله إذا كان كذلك شاذ والتعبير بجمع القلة للتنشيط على ملابسته والدخول فيه، ثم بعد التمرن يهون الأمر (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) أي: فعليه، أو فواجبه، أو فيجب عليه صوم عدة أيام المرض أو السفر من أيام أخر إن أفطر، فحذف الشرط والمضاف للقرينة (وعلى الذين يطيقونه) أي: الأصحاء المقيمين (فدية) أي: إن أفطروا (طعام مسكين) كان في بدء الإِسلام الخيار بين الصوم والإِطعام عن كل يوم مسكيناً فنسخ (1) ، أو الآية غير منسوخة، والمراد الشيخ الكبير الهرم، والمرأة الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصوم، ومعنى يطيقونه يصومونه طاقاتهم وجهدهم، ويؤيده قراءة (يطوقونه) بتشديد الواو أي: يكلفونه ولا يطيقونه (فمن تطوع خيراً) بأن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم (فهو خير له وأن تصوموا) أي: صومكم (خير لكم) أيها المطيقون (إن كنتم تعلمون) فضائل الصوم (شهر رمضان) مبتدأ خبره ما بعده أو ذلكم شهر رمضان (الذي أنزل فيه القرآن) جملة ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجماً إلى الأرض، وهو خبر شهر، أو صفته (هدى للناس) أي هادياً (وبينات) أي: آيات واضحات (من الهدى) مما يهدي إلى الحق، من الأحكام (والفرقان) ومما يفرق بين الحق والباطل (فمن شهد) حضر، ولم يكن مسافراً (منكم الشهر) أي: فيه (فليصمه) أي: فيه (ومن كان مريضاً) أي: مرضاً يشق أو يضر معه الصوم (أو على سفر فعدة من أيام أخر) الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم هذه لهما دون المقيم فلا تكرار بل علم من هذه نسخ الأولى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فلذا أباح الفطر للسفر والمرض (ولتكملوا العدة) عطف على اليسر، مثل (يريدون ليطفئوا) (2) ، أو
__________
(1) قوله فنسخ أي بتعيين الصوم بقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) كما في الجلالين.
(2) المماثلة من حيث دخول اللام على معمول يريد لأنه إذا عطف على اليسر صار التقدير ويريد لتكملوا العدة. ع.
(2) سورة الصف، الآية: 8.

(7/22)


وَأما الأحاديث فقد تقدمت في الباب الَّذِي قبله.
1213- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ - عز وجل -: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَام، فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقديره شرع لكم ذلك، أي: جملة أحكام الصوم لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في المرض والسفر (ولتكبروا الله) لتعظموه (على ما هداكم) أرشدكم إليه من وجوب الصوم، ورخصة الفطر بالعذر، والمراد تكبيرات ليلة الفطر (ولعلكم تشكرون) الله على نعمته، أو رخصة الفطر. انتهى من جامع البيان. وهذا المفسر مراد المصنف بقوله (من أيام أُخر) الآية، وهي بالرفع مبتدأ خبره محذوف أي: معروفة وبالنصب أي: أتمها، ويجوز الخفض على حذف الجار لكنه ضعيف؛ لأن حذف الجار وإبقاء عمله سماعي في غير أن وإن وكي المصدريات (وأما الأحاديث) أي: الدالة على وجوبه (فقد تقدمت في الباب الذي قبله) في جملة ما يدل على وجوب الزكاة (و) مما فيها، بيان فضله ما ثبت.
1213- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل:) هو من الأحاديث القدسية (كل عمل ابن آدم له) قال الخطابي: أي: له فيه حظ ومدخل، وذلك لاطلاع الناس عليه، فهو يتعجل به ثواباً من الناس، ويحوز به حظاً من الدنيا جاهاً وتعظيماً ونحوهما (إلا الصيام فإنه لي) أي: خالص لي لا يطلع عليه أحد غيري، ولا حظ فيه للنفس، وفيه كسرها، وتعريض البدن للنقص والصبر على حراقة العطش ومضض الجوع، وقال الخطابي: معناه الصوم عبادة خالصة لا يستولي عليها الرياء والسمعة؛ لأنه عمل بر لا يطلع عليه إلا الله، وهذا كما روي: نية المؤمن خير من عمله، وذلك لأن محلها القلب، فلا يطلع عليها غير الله تعالى أي: أن النية المنفردة عن العمل خير من عمل خال عن النية، كما في (ليلة القدر خير من ألف شهر) (1) أي ألف شهر ليس فيها ليلة قدر، وقيل معناه: أن الاستغناء عن الطعام والشراب من صفات الله تعالى، فإنه يطعم ولا يُطعم، فكأنه قال: الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء، وقيل: هو إضافة تشريف كبيت الله، وقيل: غير ذلك مما يأتي بعضه (وأنا أجزي به) معناه مضاعفة الجزاء من غير عدد ولا حساب لأن تولي الكريم للعطاء يدل على سعته (والصيام جنة) بضم الجيم أي: ترس أي: فيكون مانعاً من النار أو من المعاصي كما يمنع الترس من إصابة السهم، لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة، زاد أحمد: وحصن حصين من النار، والنسائي: كجنة أحدكم من القتال، زاد أحمد من وجه آخر: ما لم يخرقها. قال
__________
(1) سورة القدر، الآية: 2.

(7/23)


فَإذَا كَانَ يَومُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ. وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أفْطَرَ فَرِحَ بفطره، وَإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" متفقٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن العربي: إنما كان جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها (فإذا كان) أي: وجد (يوم صوم أحدكم فلا يرفث) بضمِ الفاء وكسرها على أن ماضيه رفث بالفتح، وأما على أنه بكسرها فالمضارع يرفث بالفتح رفثاً بالسكون في المصدر، وبالفتح في اسمه أي لا يتكلم بالكلام الفاحش (ولا يصخب) بفتح الخاء أي: لا يكثر لغطه (فإن سابه أحد) أي: سبه والمفاعلة للمبالغة لا للمغالبة، أو على بابها لأن من شأن من سب أن يسب (أو قاتله) أي: نازعه أو خاصمه (فليقل) بقلبه (1) لينزجر (إني صائم) (2) وقيل: بلسانه لينزجر خصمه عنه أي: إن أمن نحو رياء، وعليه فقيل: يجمع بينهما ليزجر بلسانه خصمه وبقلبه نفسه، ويكون من حمل اللفظ على حقيقته ومجازه وذلك جائز عند الشافعي، وهذا وإن لم يخص الصائم إلا أنه فيه آكد (والذي نفس محمد بيده) أي: بقدرته أتى به للتأكيد ففيه ندب القسم لتأكيد الأمر عند السامع (لخلوف) بضم الخاء واللام وسكون الواو وبالفاء، قال عياض: هكذا الرواية الصحيحة، وبعض الشيوخ يقوله: بفتح الخاء، قال الخطابي: وهو خطأ.
وحكي عن القابسي الوجهين، وبالغ المصنف فقال في مجموعه: لا يجوز فتح الخاء، واحتج غيره لذلك بأن المصادر التي جاءت على فعول بفتح أوله قليلة، ذكرها سيبويه وغيره، وليس هذا منها (فم الصائم) فيه دليل على إثبات الميم في فم حال إضافته لظاهر؛ خلافاً لمن منع منه، والمراد تغير فيه الناشىء عن الصوم، وهو مطلق مقيد بحديث: أعطيت أمتي في رمضان خمساً إلى أن قال والثانية أنهم يمسون، وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك، وبه أيضاً استدل على أن ذلك في الدنيا، كما قاله ابن الصلاح والجمهور، خلافاً لابن عبد السلام في قوله: إن ذلك في الآخرة، كدم الشهيد (أطيب عند الله من ريح المسك) قال المازري: هو مجاز عن تقريب الصوم منه تعالى؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك للصوم؛ لتقريبه من الله تعالى أي: إنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم أي: يقرب إليه تعالى أكثر من تقرب المسك إليكم، وإليه أشار ابن عبد البر، وقيل: المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم، وهذا
__________
(1) أي يحدث بها نفسه ليمنعها من مشاتمته.
(2) الذي في نسخة صحيحه من صحيح البخاري إني امرؤ صائم. ع.

(7/24)


عَلَيْهِ، وهذا لفظ روايةِ البُخَارِي.
وفي روايةٍ لَهُ: "يَتْرُكُ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَشَهْوَتَهُ مِنْ أجْلِي، الصِّيَامُ لي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا".
وفي رواية لمسلم: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يضاعَفُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قريب من الأول، وقيل: إن المراد أن الله يجزيه في الآخرة، فتكون نكهته فيها أطيب من ريح المسك، كما يأتي الكلوم وريح جرحه يفوح مسكاً، وقيل: المراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك، لا سيما بالإِضافة إلى الخلوف، حكاهما عياض، وقال الداودي وجماعة: المراد أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع ومجالس الذكر، ورجح المصنف هذا، وحاصله حمل معنى الطيب؛ لاستحالة قيام حقيقته بذاته تعالى على القبول والرضى، وقد نقل القاضي حسين في تعليقه أن للطاعات يوم القيامة ريحاً يفوح، فرائحة الصوم بين العبادات المسك، وقال البيضاوي: هو تفضيل لما يستكره من الصائم على أطيب ما يستلذ من جنسه، وهو المسك ليقاس به ما فوقه من آثار الصوم، وقيل: إنه من مجاز الحذف أي: عند ملائكة الله أي: إنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك (للصائم فرحتان يفرحهما) فيه توسع بحذف الجار والأصل يفرح بهما، كما في قوله تعالى: (فليصمه) (1) أي: فليصم فيه، أو هو مفعول مطلق أي: يفرح الفرحتين، فجعل الضمير بدله، نحو عبد الله أظنه منطلقاً (إذا أفطر فرح بفطره) أي: لإتمام الصوم، وخلوه من المفسدات، أو لتناوله الطعام (وإذا لقي ربه فرح بصومه) أي: بلقاء ربه، أو برؤية ثوابه، وعلى الاحتمالين فهو مسرور بقبول صومه (متفق عليه) أخرجاه في الصوم، وكذا رواه فيه النسائي في سننه. (وهذا) أي: اللفظ المذكور (لفظ رواية البخاري) في باب هل يقول: إني صائم إذا شتم؟ (وفي رواية له) أي: للبخاري في باب فضل الصوم، من حديث أبي هريرة مرفوعاً لفظاً قدسياً معنى لقوله (يترك طعامه وشرابه وشهوته) من الجماع، ومقدماته (من أجلي) من فيه تعليلية (الصيام لي) أي: لم يتعبد به لأحد غيري، وإن كانت العبادات كلها لله تعالى، وكان الكفار يعظمون معبوداتهم بسجود وصدقة، أما بالصيام فلا. (وأنا أجزي به) بفتح الهمزة أي: أتولى جزاءه، وذلك دال على شرفه، وعظم جزائه (والحسنة بعشر أمثالها) هو أقل مراتب التضعيف (وفي رواية لمسلم) لهذا الحديث، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو باعتبار أوله حديث مرفوع لا قدسي (كل عمل ابن آدم يضاعف) ظاهره أن نفس العمل يضاعف، ويؤيده قوله (وإن تك حسنة
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 185.

(7/25)


الحسنةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ. قَالَ الله تَعَالَى: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي. للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يضاعفها) (2) وقيل: المراد ثوابه لقوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (3) وقوله هنا يضاعف بالتحتية خبر كل، وفي نسخة بالفوقية مسند إلى قوله (الحسنة عشر أمثالها) وعشر بالنصب ثاني مفعولي يضاعف؛ لتضمنه معنى يجعل، والجملة الخبرية رابطها ضمير محذوف، والأصل تضاعف الحسنة فيه، وعلى أنه بالتحتية فجملة الحسنة عشر أمثالها مركبة من مبتدأ وخبر مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأنه قيل كيف تلك المضاعفة؟ فقال: الحسنة إلخ وقد تضاعف (إلى سبعمائة ضعف) قال تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) (4) (قال الله تعالى: إلا الصوم) بالنصب مستثنى من حصر المضاعفة في عدد مخصوص، وقوله: (فإنه لي وأنا أجزي به) جملة مستأنفة، أتى بها كالتعليل؛ للاستثناء المذكور وذلك أن تولي الله سبحانه لجزائه، يدل على عظمه وأنه لا يحصره عد، فهو كالصبر الذي قال الله لعالى فيه: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (5) (يدع شهوته) أي: ما تشتاق النفس إليه (وطعامه) أراد به ما يطعم، فشمل الشراب (من أجلي) أي: بسببي (للصائم فرحتان فرحة عند فطره) لتمام عبادته، وسوغ الابتداء بالنكرة؛ كونه مسوقاً للتفصيل، فهو كقوله "فيوم لنا ويوم علينا" (وفرحة عند لقاء ربه) بلقائه ورؤية جزيل ثوابه (ولخلوف) بفتح اللام، أي: لام جواب القسم أكد به دفعاً لما يستبعد من الحكم بأطيبيته، مع كونه مستقذراً عند الناس أي: لتغير (فيه) الناشىء عن الصوم الكائن من بعد الزوال؛ لأن التغير قبله قد يحال على ما أكله وقت السحر، بخلافه بعده، فيتمحض كونه أثره (أطيب عند الله من ريح المسك) وهذه الجملة مسوقة لبيان شرف الصوم عند الله تعالى، وزيادة مكانته، كما تقدم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان (4/88، 94) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (الحديث: 163) .
(2) سورة النساء، الآية: 40.
(3) سورة الأنعام، الآية: 160.
(4) سورة البقرة، الآية: 261.
(5) سورة الزمر، الآية: 10.

(7/26)


1214- وعنه رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ، يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1214- (وعنه) أي: أبي هريرة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أنفق زوجين) في بعض طرق الحديث، قيل: وما زوجان؟ قال: فرسان أو عجلان أو بعيران، وقال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج، وقيل: يحتمل أن يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر، من صلاتين، أو صيام يومين، أو شفع صدقة بأخرى، ويدل عليه قوله في بقية الحديث "فمن كان من أهل الصلاة" "ومن كان من أهل الصيام" والزوج الصنف أيضاً، ومنه (وكنتم أزواجاً ثلاثة) (1) ، (في سبيل الله) هو عام في جميع وجوه الخير، وقيل: خاص بالجهاد، والأول أصح وأظهر، قاله المصنف (نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير) قيل: هو اسم أي: ثواب وغبطة، وقيل: أفعل تفضيل أي: هذا فيما نعتقد خير لك من غيره من الأبواب؛ لكثرة ثوابه، ونعيمه فتعال فادخل منه. قال المصنف: ولا بد من تقدير ما ذكرناه، أن كل منا يعتقد أن ذلك الباب أفضل من غيره، وقال الحافظ في فتح الباري: هو بمعنى فاضل لا أفضل، وإن كان اللفظ قد يوهمه، وفائدته زيادة ترغيب السامع في طلب الدخول من ذلك الباب (فمن كان من أهل الصلاة) أي: بأن أكثر من التطوع منها، بحيث كان الغالب عليه في عمله ذلك، وليس المراد الواجبات؛ لاستواء الناس فيها قاله القرطبي، وظاهر جريانه في الصوم والصدقة (دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان) سُمي به على جهة مقابلة العطشان، الذي هو الصائم، وإشارة إلى أنه يجازى على عطشه بالري الدائم في الجنة التي يدخل إليها من ذلك الباب (ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) بقي من أركان الإِسلام الحج، ولا شك أن له باباً، وأما الثلاثة الباقية من الثمانية فمنها: باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.
روى أحمد بن حنبل عن الحسن مرسلاً: إن لله باباً في الجنة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة، ومنها: الباب الأيمن، وهو باب المتوكلين الذي يدخل منه من لا حساب عليه، ولا عذاب، وأما الثالث فلعله باب الذكر، فإن عند الترمذي ما يوميء إليه، ويحتمل أن يكون
__________
(1) سورة الواقعة، الآية: 7.

(7/27)


قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: بِأبي أنْتَ وَأُمِّي يَا رسولَ اللهِ! مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرورةٍ، فهل يُدْعى أحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبوَابِ كُلِّهَا؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، وَأرْجُو أنْ تَكُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب العلم، ويحتمل أن يراد بالأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الجنة الأصلية؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عدداً من ثمانية. اهـ من فتح الباري. وقال السيوطي في الديباج: قال القاضي عياض: وقد جاء ذكر بقية الأبواب في أحاديث أخر: باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وباب الراضين، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه. قال الحافظ في الفتح: الإنفاق في الصدقة والجهاد والعلم والحج ظاهر، وأما في غيرها فمشكل، ويمكن أن يراد بالإِنفاق في الصلاة الإِنفاق في تحصيل آلاتها، من ماء وطهارة وثوب ونحو ذلك، وفي الصيام الإِنفاق فيما يقويه عليه من سحور وفطور، والإنفاق في العفو عن الناس، أن يترك ماله عليهم من حق، والإِنفاق في التوكل، ما ينفقه على نفسه في مرضه المانع له من التصرف في طلب المعاش مع الصبر على المصيبة، أو ينفقه على من أصابه مثل ذلك طلباً للثواب، والإِنفاق في الذكر على نحو من ذلك، ويحتمل أن المراد من الإِنفاق في الصلاة والصيام بذل النفس فيهما، فإن العرب تسمي ما يبذله الإِنسان من نفسه في ذلك نفقة، يقول أحدهم فيما تعلم من الصنعة: أنفقت فيها عمري، فإتعاب الجسم في الصوم والصلاة إنفاق اهـ ملخصاً (قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي) أي: مفدى بهما (يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب) أي: من أحدها (من ضرورة) (1) ، أي نقص ولا خسارة (فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها) فيه إشعار بقلة من يدعي من كلها، ودعاء من تجتمع له تلك الأعمال من كلها تشريف له، وإلا فإنما يدخل من باب واحد، ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه، ولا يشكل على ذلك خبر مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله الحديث، وفيه "فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" لأنه يحمل على أنها تفتح له إكراماً له ولا يدخل إلا من باب العمل الذي يكون أغلب عليه. قال الزركشي: ويحتمل أن الجنة كقلعة لها أسوار يحيط بعضها ببعض، وعلى كل سور باب، فمنهم من يدعى من الباب الأول فقط، ومنهم من يتجاوز عنه إلى الباب الداخل، وهلم جراً (قال: نعم وأرجو أن تكون
__________
(1) قال الكرماني نقلاً عن ابن بطال: معنى ما على من دعى من تلك إلخ أن من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة ودعي لها من بابها لا ضرر عليه لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة. اهـ. ع.

(7/28)


مِنْهُمْ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1215- وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ في الجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَومَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أحدٌ غَيْرُهُمْ، يقال: أيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منهم) قال العلماء: الرجاء من الله تعالى، ومن نبيه - صلى الله عليه وسلم - واقع (متفق عليه) قال المصنف: في الحديث منقبة لأبي بكر رضي الله عنه، وفيه جواز الثناء على الإِنسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة منه بإعجاب أو غيره.
1215- (وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة) في بمعنى اللام، كما عبر بها في رواية أخرى، كذا في التوشيح، وقال ابن المنير: أتى بفي دون اللام إشارة إلى أن في الباب من النعيم والراحة ما في الجنة فيكون أبلغ في التشويق (باباً يقال له الريان) بفتح الراء وتشديد الياء التحتية، فعلان من الري، وهو مناسب لجزاء الصائمين، كما تقدم. واكتفى بذكر الري عن الشبع؛ لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه (يدخل منه الصائمون يوم القيامة) لبيان الواقع إذ دخولها إنما يكون يومئذ، ويحتمل أن يكون احترازاً عن دخول أرواح الشهداء والمؤمنين لها مدة هذا العالم، فلا يتقيد بالصائمين (لا يدخل منه أحد غيرهم) أي: في ذلك اليوم (يقال: أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا) لمسلم: فإذا دخل آخرهم، وفي بعض نسخه فإذا دخل أولهم إلى آخره. قال عياض وغيره: وهو وهم، والصواب آخرهم (أغلق فلم يدخل منه أحد) كرر نفي دخول غيرهم منه تأكيداً، وأما قوله: فلم يدخل، فهو معطوف على أغلق، أي: لم يدخل منه غير من دخل، وجاء الحديث بلفظ مسلم الأول عند ابن أبي شيبة في مسنده، وأبي نعيم في مستخرجه، وابن خزيمة، والنسائي وزاد: من دخله لم يظمأ أبداً، ورواه النسائي من طريق آخر موقوفاً على أبي حازم الراوي عن سهل. قال الحافظ في الفتح: وهو مرفوع قطعاً (3) ؛ لأن مثله لا مجال للرأي فيه (متفق عليه) أخرجاه في الصوم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الريان للصائمين (4/96) وغيره.
وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر، (الحديث: 85) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الريان للصائمين، (4/95، 96) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (الحديث: 166) .
(3) قوله: وهو مرفوع قطعاً إلخ هذا الحكم إنما قرره علماء المصطلح في الموقوف على الصحابي

(7/29)


1216- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً في سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفَاً" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1217- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1216- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة؛ لاستغراق النفي (عبد) أي: مكلف، والجارية كالعبد فيما يأتي، والاقتصار عليه جري على الغالب، أو لشرفه، ويوضحه أنه جاء في رواية لمسلم: "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" (يصوم يوماً في سبيل الله) قيل: المراد به الجهاد للكفار، وقيل: المراد منه طاعة الله (إلا باعد الله تعالى وجهه) أي: أبعده، وصيغة المفاعلة للمبالغة (عن النار سبعين خريفاً) أي: مدة سير سبعين سنة وكنى عنها بالخريف؛ لأنه ألطف (3) فصولها؛ لما فيه من اعتدال البرودة والحرارة؛ ولأنه يجري فيه الماء في الأغصان (متفق عليه) .
1217- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام رمضان إيماناً) أي: حال كونه مصدقاً بما ورد فيه من الثواب، أو منصوب على العلة (احتساباً) أي: محتسباً قاصداً به وجه الله تعالى (غفر له ما تقدم من ذنبه) زاد النسائي وأحمد وغيرهما بسند حسن "وما تأخر". والمغفور من الذنوب بالطاعات، الصغائر المتعلقة بحق الله سبحانه (متفق عليه) هو آخر حديث أورده البخاري في باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ولفظه "من قام ليلة القدر إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان" فذكره فكان على المصنف أن يأتي بالعاطف لينبه على أنه بعض حديث.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الصوم في سبيل الله (6/35) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه ... ، (الحديث: 167) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً (4/221) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (الحديث: 175) .
فيه موقوف على التابعين فالحكم بكونه مرفوعاً يحتاج إلى نظر. ع.
(3) قوله: لأنه الخ فيه أن هذه الخواص للربيع لا للخريف.

(7/30)


1218- وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِحَتْ أبْوَاب الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ، وَصفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1219- وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ، فَإنْ غَبِيَ عَلَيْكُمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1218- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء رمضان فتحت) بتخفيف التاء الفوقية وتشديدها مبنياً للمفعول، وسكت عن ذكر الفاعل؛ للعلم به (أبواب الجنة) الأظهر: أن المراد فتح بالحقيقة لمن مات (2) فيه، أو عمل عملاً لا يفسد عليه، وقيل: مجاز أي: العمل فيه يؤدي إلى ذلك، أو عن كثرة الرحمة والمغفرة، بدليل رواية لمسلم "فتحت أبواب الرحمة" إلا أن يقال الرحمة من أسماء الجنة (وغلقت أبواب النار) فيه ما مر فيما قبله، ويحتمل أنه كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش، والتخلص من البواعث على المعاصي، بقمع الشهوات، قال الطيبي: فائدة ذلك (3) توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله تعالى بمكان عظيم وأن المكلف إذا علم ذلك بإخبار الصادق زاد نشاطه (وصفدت) بضم أوله وتشديد الفاء أي: غلت (الشياطين) يحتمل ما مر قبله من الحقيقة، ومن أنه مجاز عن منعهم فيه من كثرة إيذاء المؤمنين، والتهويش عليهم، فيصيرون كالمسلسلين، أو عن كف المكلفين عما ينكفون عنه فيه من المخالفات (متفق عليه) .
1219- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صوموا لرؤيته) أي: هلال رمضان كما يوميء إليه المقام، ولو كان الرائي واحداً وهو عدل شهادة لا رواية (وأفطروا لرؤيته) أي: هلال شوال، واللام فيهما محتملة؛ لكونها بمعنى عند كقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) (4) ولكونها للتعليل (فإن غبي) بفتح المعجمة، وكسر الموحدة مخففة وفي نسخة مشددة، مبنياً للمفعول، وفي أخرى من البخاري بلفظ " غم عليكم " أي: حال بينكم وبينه غيم، يقال: غم وأغمى وغمى وغمي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما، ويقال: غبي بفتح
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: هل يقال رمضان؟ أو شهر رمضان، (4/97) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان، (الحديث: 1) .
(2) قوله: لمن مات الخ هذا التقييد غير ظاهر الحديث والظاهر بناء على أن الفتح حقيقي ما سيذكره عن الطيبي من أن المقصود توقيف الملائكة إلخ.
(3) أي الفتح والغلق على أنهما حقيقيان. ع.
(4) سورة الإسراء، الآية: 78.

(7/31)


فَأكمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ" متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ البخاري.
وفي رواية مسلم: "فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ يَوْماً". (1) .
218- باب الجود وفعل المعروف والإكثار من الخير في شهر رمضان والزيادة من ذَلِكَ في العشر الأواخر منه
1220- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعجمة، وبالموحدة، وكلها صحيحة قاله المصنف. (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ومنه أخذ أصحابنا: عدم استحباب الخروج من خلاف من أوجب صوم ثلاثين شعبان، إذا منع الغيم من رؤية الهلال؛ لأن الخلاف إنما يخرج منه ما لم يعارض سنة صحيحة، ولم يشتد ضعفه، ولم يوقع الخروج منه في خلاف آخر (متفق عليه وهذا لفظ البخاري وفي رواية مسلم) هي إحدى رواياته (فإن غم عليكم) أي: هلال شوال (فصوموا ثلاثين يوماً) ومنه يؤخذ أنه إذا أكملت عدة الثلاثين، ولم ير الهلال، وجب الفطر سواء كان رؤية رمضان من واحد، أو من أكثر منه، وهو كذلك لإِكمال العدة بحجة شرعية، وما يلزم عليه من ثبوت شوال بواحد، يجاب عنه بأن الشيء يثبت ضمناً بما لا يثبت به مستقلاً.
باب ندب الجود
هو لغة: الكرم، وشرعاً: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة (وفعل المعروف) أي: ما يعرف شرعاً من واجب ومندوب (والإكثار من الخير) لينمو ثوابه بشرف زمانه (في شهر رمضان) خبر عن الجميع أي ندب ذلك أي: تأكده كائن في شهر رمضان؛ لأنه أشرف الشهور، فندب إحياؤه بذلك لينمو ثواب العمل (والزيادة من ذلك) أي: المذكور (في العشر الأواخر منه) ابتداؤه من ليلة الحادي والعشرين، وانتهاؤه بخروج رمضان تاماً كان أو ناقصاً، وعليه فإطلاق العشر عليه بطريق التغليب للتمام، لأصالته.
1225- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس) أكثرهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصيام، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم الهلال فصوموا ... (4/106) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان، (الحديث: 17) .

(7/32)


النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جوداً، وقد نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم ينقل مثله عن غيره (وكان أجود ما يكون في رمضان) برفع أجود إما على أنه اسم كان مضافاً إلى المصدر المنسبك من ما يكون، أي: أجود أكوانه، وفي رمضان الخبر، أو على أنه بدل اشتمال من اسم كان الضمير المستكن فيها، وهو العائد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو بنصبه على أنه خبر كان واسمها الضمير المستكن، وما حينئذ مصدرية ظرفية أي: كان متصفاً بالأجودية مدة كونه في رمضان، مع أنه أجود الناس مطلقاً وإنما التفضيل بين حالتيه في رمضان وغيره. قال الدماميني: ولك مع نصبه أن تجعل (ما) نكرة موصوفة بيكون، وفي رمضان متعلقاً بكان على القول بدلالتها على الحدث. وهو الصحيح واسم كان ضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو إلى جوده المفهوم مما سبق أي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان أجود شيء يكون، أو كان جوده في رمضان أجود شيء يكون، فجعل الجود متصفاً بالأجودية مجازاً، كقولهم شعر شاعر. اهـ وقال الحافظ في الفتح: أجود بالرفع في أكثر الروايات على أنه اسم كان وخبرها محذوف، نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة، أو أنه مرفوع على أنه مبتدأ مضاف للصدر المنسبك، والخبر في رمضان، والتقدير أجود ما يكون (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، وإلى هذا جنح البخاري في كتاب الصوم إذ قال: باب أجود ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون في رمضان، قلت: وعلى الثاني من إعراب الحافظ، فالجملة خبر كان، وقال المصنف: الرفع أشهر وأصح، والنصب جائز، وذكر أنه سأل ابن مالك عنه فخرج الرفع من ثلاثة أوجه والنصب من وجهين. قال في الفتح: ويرجح الرفع وروده بدون كان عند البخارى في الصوم، وعليه اقتصر ابن الحاجب في أماليه، وقال: هو الوجه. قال: لأنك إذا جعلّت في كان ضميراً يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أجود بمجرده خبراً؛ لأنه مضاف إلى ما يكون، فوجب أن يكون هو الكون ولا يستقيم الخبر بالكون عما ليس بكون ألا ترى أنك لا تقول زيد أجود ما يكون، فوجب أن يكون إما مبتدأ، وذكر الثاني من وجهي الحافظ وزاد: فيكون الخبر الجملة بتمامها كقولك: زيد كان أحسن ما يكون في يوم الجمّعة، وإما بدل اشتمال من ضمير كان وذكر ما تقدم. قال: وإن جعلت الضمير للشأن تعين رفع أجود على الابتداء والخبر، وإن لم تجعل في كان ضميراً تعين " الرفع على أنه اسمها، والخبر محذوف قامت الحال مقامه على ما تقرر في: أخطب ما يكون الأمير قائماً، وإن شئت جعلت في رمضان الخبر، كقولهم ضربي زيداً في الدار؛ لأن
__________
(1) الأنسب أن يقول والتقدير كان أجود أكوانه حاصلاً إذا كان في رمضان. ع.

(7/33)


حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبْريلُ، وَكَانَ جِبْريلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِن الرِّيحِ المُرْسَلَةِ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعنى الكون الذي هو أجود الأكوان حاصل في هذا الوقت، فلا يتعين أن يكون من باب أخطب ما يكون الأمير قائماً. اهـ ملخصاً. وقولي: وعليه اقتصر ابن الحاجب أي: على الرفع، فإنه لم يعرج على النصب، لا على الوجه المذكور للرفع، فقد ذكر له خمسة أوجه توارد مع ابن مالك في وجهين، وزاد ثلاثة، كما في الفتح. (حين يلقاه جبريل) أي: وقت لقائه إياه وجملة (وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان) معطوفة على الجملة الفعلية السابقة، أو مستأنفة؛ لبيان تواصل لقائه له فيه (فيدارسه القرآن) قيل: الحكمة فيه (2) أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود وأيضاً فرمضان موسم الخيرات؛ لأن نعم الله فيه على عباده زائدة على غيره، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر متابعة سنة الله تعالى في عباده، فمجموع ما ذكر من الوقت والنازل فيه والمنزول به والمذاكرة حصل من يد الجود، والله أعلم (فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) الفاء للسببية، واللام للابتداء، زيدت تأكيداً وهي جواب قسم مقدر (حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) أي: المطلقة يعني أنه في الإِسراع بالجود أسرع من الريح وعثر بالمرسلة؛ إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده، كما تعم الريح المرسلة كل ما هبت عليه، ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث: لا يسأل شيئاً إلا أعطاه (متفق عليه) قال المصنف: في هذا الحديث فوائد منها: الحث على الجود في كل وقت، والزيادة منه في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح وفيه زيارة الصلحاء وأهل الفضل، وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإِكثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لها لفعلاه (3) ، وكون المقصود تجويد القرآن، يجاب عنه بأن الحفظ كان حاصلاً والزيادة عليه تحصل ببعض هذه المجالس.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الوحي وغيره، (4/99) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير من الريح المرسلة، (الحديث: 50) .
(2) (فيه) أي في زيادة جوده عند لقاء جبريل. ع.
(3) أي دائماً أو في أوقات مع تكرر اجتماعهما.

(7/34)


1221- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ العَشْر أحْيَا اللَّيْلَ، وَأيْقَظَ أهْلَهُ، وَشَدَّ المِئْزَرَ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
219- باب النهي عن تقدم رمضان بصوم بعد نصف شعبان إِلاَّ لمن وصله بما قبله أَوْ وافق عادة لَهُ بأن كَانَ عادته صوم الإثنين والخميس فوافقه
1222- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُم رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَومَهُ، فَليَصُمْ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1221- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر) (أل) فيه للعهد الذهني والمراد الأخير (أحيا الليل) بالقيام فيه (وأيقظ أهله) دلالة لهم على محل الخير، وإعانة لهم على تحصيله (وشد المئزر) مبالغة في الجد، وعمل الخيم-، والحديث سبق مشروحاً قريباً، وأورده المصنف هنا شاهداً لقوله: والزيادة من ذلك في العشر الأواخر (متفق عليه) .
باب النهي
على سبيل التحريم (عن تقدم رمضان بصوم) قل أو كثر (بعد نصف شعبان) وذلك من سادس عشره (إلا لمن وصله بما قبله) أي: بالخامس عشر (أو) لمن (وافق عادة له بأن كان عادته صوم الاثنين أو الخميس) أو صوم يوم وفطر يوم (فوافقه) أي: النصف الأخير من شعبان، فيصوم عادته.
1222- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين) أي: من النصف الثاني بدليل حديث الترمذي بعده، وذكر اليومين، لإفادة تحريم صوم ما زاد على اليوم، كحرمة صوم اليوم من ذلك دفعاً؛ لتوهم أن بالانضمام ترتفع الحرمة، كما ترتفع كراهة صوم كل من الجمعة والسبت والأحد بضم غيره منها إليه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان (4/233 و234) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، (الحديث: 7) .

(7/35)


اليَوْمَ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1223- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَصُومُوا قَبْلَ رَمضَانَ، صُومُوا لِرُؤيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ، فَإنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَايَةٌ فَأكْمِلُوا ثَلاثِينَ يَوْماً" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسنٌ صحيح".
"الغَيايَةُ" بالغين المعجمة وبالياءِ المثناةِ من تَحْت المكررةِ، وهي: السحابة (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(إلا) استثناء من أعم الأحوال أي: لا تصومن فيه في حال من الأحوال إلا حال (أن يكون رجل كان) أي: اليوم المقدم على رمضان (يوم يصومه) أي: اليوم الذي يعتاد صومه، وهو عند البخاري في أول الصوم بلفظ " إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم " ولم أر ما ذكره المصنف فيهما (فليصم ذلك اليوم) وإن كان فيه تقدم على رمضان به؛ لأنه لاعتياده له، لا يقال فيه عرفاً إنه متقدم به رمضان، ومثله في ذلك من عليه قضاء رمضان، ولم يقصد تأخيره؛ ليوقعه فيه قياساً على قضاء الصلوات في الأوقات التي تكره فيها الصلاة (متفق عليه) .
1223- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصوموا قبل رمضان) هو وإن تناول شعبان بجملته المراد به: من نصفه الأخير للحديث بعده (صوموا لرؤيته) أي: عند رؤية هلال رمضان (وأفطروا لرؤيته) أي: هلال شوال، واعتمد في مرجع الضمير على السياق، ويجوز إرجاع الضمير الأول؛ لشهر رمضان أي: لرؤية هلاله، فيكون على تقدير مضاف (فإن حالت دونه غياية) فمنعت رؤيته (فأكملوا ثلاثين يوماً) أي: فلا تصوموا حتى تكمل عدة شعبان، كذلك وأفطروا إذا كملت عدة رمضان كذلك (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح) قال السيوطي في الجامع الكبير: ورواه النسائي والطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه (الغياية بالغين المعجمة وبالياء المثناة من تحت المتكررة وهي السحابة) أي: معنى وكذا وزناً قال العراقي: هذا هو المشهور في ضبط هذا الحديث. وقال ابن العربي يجوز أن يجعل بدل الياء الأخيرة باء موحدة؛ لأنه من: الغيب تقديره ما خفي عليكم واستتر، أو نون من الغين، وهو الحجاب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، (4/109) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، (الحديث: 21) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والافطار له، (الحديث: 688) .

(7/36)


وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ تَصُومُوا" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1225- وعن أَبي اليقظان عمارِ بن يَاسِرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1224- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا) خص منه ما تقدم لما ورد فيه، وبقي ما عداه على المنع؛ لأن أصل النهي للتحريم، والأصل في العبادات إذا لم تطلب عدم الانعقاد (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
1225- (وعن أبي اليقظان) بفتح التحتية، وبالظاء المعجمة كنية (عمار) بتشديد الميم (ابن ياسر) الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) وتقدمت ترجمته في باب الوعظ (قال) أي: موقوفاً عليه، لكنه مرفوع حكماً، إذ لا مجال للرأي فيه (من صام اليوم الذي يشك فيه) أهو من شعبان، أم من رمضان، وهو يوم ثلاثين شعبان، إذا تحدث الناس برؤيته، أو شهد بها من لا تثبت به من عبد، أو فاسق أو صبية رشداء (فقد عصى أبا القاسم (3) - صلى الله عليه وسلم -) فيه تحريم صومه كغيره من باقي النصف الأخير من شعبان، سواء كان في ليلة غيم، أو لا. وخصه الإِمام أحمد بغير ما في ليلة غيم فاختار صوم ما كان كذلك احتياطاً (رواه أبو داود والترمذي وقال) أي الترمذي: حديث عمار (حديث حسن صحيح) قال العراقي: جمع الصاغاني في تصنيف له الأحاديث الموضوعة، فذكر فيه حديث عمار المذكور، وما أدري ما وجه الحكم عليه بالوضع، وليس في إسناده من يتهم بالكذب، وكلهم ثقات. قال: وقد كتبت على الكتاب المذكور كراسة في الرد عليه في أحاديث منها هذا الحديث قال: نعم في اتصاله نظر، فقد ذكر المزي في الأطراف أنه روي عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال: حدثت عن صلة بن زفر، لكن جزم البخاري بصحته إلى صلة
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية الصوم في النصف ... (الحديث: 738) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: كراهية صوم يوم الشك، (الحديث: 2334) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية صوم يوم الشك، (الحديث: 686) .
(3) قوله (أبا القاسم) فائدة ذكر هذه النية الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكام الله زماناً ومكاناً وغيرهما اهـ كرماني.

(7/37)


220- باب مَا يقال عند رؤية الهلال
1226-عن طلحة بن عبيدِ اللهِ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا رَأى الهلاَلَ،
قَالَ: "اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأمْنِ وَالإيمانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، هِلالُ رُشْدٍ وخَيْرٍ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال في صحيحه: وقال صلة، وهذا يقتضي صحته عنده، وقال البيهقي في المعرفة: إنه إسناد صحيح. اهـ.
باب ما يقال عند رؤية الهلال
أي من الأذكار والدعوات. في المصباح: الهلال الأكثر أنه القمر في حالة مخصوصة. قال الأزهري: يسمى القمر هلالاً لليلتين من أول الشهر، وفي ليلة ست وعشرين وما بعدها، وما بين ذلك قمراً، وقال الفارابي وتبعه الجوهري: الهلال لثلاث ليال من أوله، ثم هو قمر بعد ذلك، والجمع أهلة، كسلاح وأسلحة.
1226- (عن طلحة بن عبيد الله) التيمي أحد العشرة المبشرة بالجنة (رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال:) أي: مستقبلاً للقبلة، كما هو شأنه حال الدعاء؛ ولأنها أشرف الجهات (اللهم) أي: يا الله (أهله علينا بالأمن) أي: من المخاوف الدينية والدنيوية (والإِيمان) أي: بدوامه، وثباته، ودفع ما يزيغ عنه (والسلامة) عطف عام على خاص؛ لشموله للأمراض والأعراض البدنية، وفقد الأحباء (والإسلام) وفيه جناس الاشتقاق أولاً وثانياً، ثم خاطب القمر بقوله (ربي وربك الله) أي: كلانا مربوبان له نافذ فينا أمره؛ لدفع توهم أن الهلال بذاته له إحداث نفع أو ضر، بل هو تحت جري الأقدار، كغيره من المكونات (هلال رشد) بالرفع، أي: هذا هلال رشد، والرشد بضم، فسكون وبفتحتين ضد الغي (وخير) مصدر كالمعطوف عليه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) قال ابن حجر الهيثمي في الأمداد: ويزيد بعد قوله: وربك الله، قوله: ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك خير هذا الشهر، وأعوذ بك من شر القدر، ومن شر المحشر، هلال رشد وخير، ثلاثاً، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات، ثم يقول: الحمد لله الذي أذهب شهر كذا، وجاء
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: ما يقول عند رؤية الهلال، (الحديث: 3451) .

(7/38)


221- باب فضل السحور وتأخيره مَا لَمْ يخش طلوع الفجر
1227- عن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَسَحَّرُوا؛ فَإنَّ في السُّحُورِ بَرَكَةً" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بشهر كذا، للإِتباع في كل ذلك. اهـ وقد ذكر مخرجيه ابن همام في السلاح وابن الجزري في الحصن.
باب فضل السحور
بفتح السين ما يتناول في السحر، وبالضم التناول له حينئذ (وتأخيره) إن أريد الأول ففي الكلام مضاف أي: وتأخير تناوله (ما لم يخش طلوع الفجر) ما فيه مصدرية ظرفية، قيد للتأخير.
1227- (عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسحروا) أمر ندب، ويحصل أصل السنة بقليل الطعام، لو جرعة ماء، ففي حديث عبد الله بن سراقة مرفوعاً "تسحروا ولو بجرعة من ماء" رواه ابن عساكر: وبكثيره (فإن في السحور بركة) قال في النهاية: قيل: الصواب هنا الضم؛ لأن البركة والأجر والثواب في الفعل الذي هو تناول السحور لا في نفسه، وإن قيل: إن أكثر الروايات بالفتح. اهـ وفي كون الفتح خلاف الصواب، ما لا يخفى خصوصاً وهو صحيح، إما على تقدير مضاف، أو على سبيل المجاز من وصف الشيء بوصف ملابسه، وقال الحافظ: هو بفتح السين وضمها؛ لأن المراد بالبركة: إما الأجر والثواب فيناسب الضم؛ لأنه مصدر بمعنى التسحر، أو كونه يقوي على الصوم، وينشط له، ويخفف المشقة فيه، فيناسب الفتح، وقيل: البركة ما يتضمنه من الاستيقاظ والدعاء في السحر. والأولى أن يقال إن البركة تحصل بجهات متعددة، إتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي به على العبادة والتسبب للذكر، والدعاء وقت مظنة الإِجابة، وتارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. اهـ (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أنس، ورواه النسائي أيضاً من حديث أبي هريرة وابن مسعود، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود، كذا في الجامع الصغير.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: بركة السحور (4/120) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (الحديث: 45) .

(7/39)


بِلاَلٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ" قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ أنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1230- وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "فَصْلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم" رواه أبو داود وغيره، لكنه لم يكن راتباً ولذا عد مؤذنو النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة. قال الشافعي: وأحب أن أقتصر في المؤذنين على اثنين؛ لأنا إنما حفظنا أنه أذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان ولا نضيق إذ أذن أكثر من اثنين (بلال وابن أم مكتوم) الأعمى ففيه جواز كونه مؤذناً إذا كان له معرفة بالأوقات ولو بالتعريف (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن بلالاً يؤذن بليل) فيه ندب الأذان للصبح قبل دخول وقته؛ ليستعد للصلاة بالغسل من الجنابة، ونحو ذلك، وذلك من النصف الأخير (فكلوا واشربوا) لبقاء الليل المباح فيه الأكل (حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فيه جواز نسبة الإِنسان إلى أمه (قال) أي: ابن عمر (ولم يكن بينهما) أي: بين أذانيهما (إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا) قال العلماء: المعنى أن بلالاً كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل ذ فأخبر ابن مكتوم، فتأهب بالطهارة وغيرها، ثم يرقى، ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر؛ ثم قد جاء عند ابن حبان في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " وعند النسائي من حديث أنيسة بنت حبيب "إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا" قال العراقي: هاتان الروايتان معارضتان للرواية المشهورة. قال ابن عبد البر: المحفوظ والصواب هو الأول. وقال ابن خزيمة: يجوز أن يكون بينهما نوب. وجزم به ابن حبان في الجمع بينهما (متفق عليه) .
1230- (وعن عمرو بن العاص) كذا في النسخ بحذف الياء، وتقدم ما فيه عند ذكر ولده عبد الله، في باب تحريم الظلم، وتقدم في ترجمته في باب بيان كثرة طرق الخير، نسب عمرو هذا. قال المصنف في التهذيب: أسلم عام خيبر أول سنة سبع، وقيل: في صفر سنة،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: أذان الأعمى والشهادات وغيرها، (4/117) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع ... (الحديث: 36) .

(7/41)


فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وصِيَامِ أهْلِ الكِتَابِ، أكْلَةُ السَّحَرِ" رواه مسلم (1) .
222- باب في فضل تعجيل الفطر وَمَا يفطر عَلَيْهِ، وَمَا يقوله بعد إفطاره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثمان، قبل الفتح بستة أشهر، وقيل: غير ذلك، وقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، فأسلموا، ثم أمره - صلى الله عليه وسلم - في سرية ذات السلاسل، وهي السرية السابعة عشر، على جيوش هم ثلاثمائة، ثم أمده بجيش فيهم أبو بكر وعمر، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح وقال له: لا تختلف. فكان عمرو يصلي حتى رجعوا واستعمله - صلى الله عليه وسلم -، على عمان فلم يزل عليها حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أرسله أبو بكر أميراً إلى الشام فشهد فتوحها وولي فلسطين لعمر ثم أرسله عمر في جيش إلى مصر ففتحها، ولم يزل والياً عليها حتى توفي عمر، ثم أقره عثمان عليها أربع سنين، ثم عزله، فاعتزل عمرو بفلسطين، فكان يأتي المدينة أحياناً، ثم استعمله معاوية على مصر، فبقي والياً عليها حتى توفي ودفن بها، وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين على الأصح، وعمره سبعون سنة، وصلى عليه ابنه عبد الله، وكان من أبطال العرب، ودهاتهم، وكان فيصلاً وذا رأي ولما حضرته الوفاة قال: اللهم أمرتني فلم أءتمر، ونهيتني فلم أنزجر، ولست قوياً فانتصر، ولا بريئاً فاعتزر، ولا مستكبراً بل مستغفراً لا إله إلا أنت، فلم يزل يرددها حتى توفي، وفي وفاته حديث مليح، في كتاب الأيمان من صحيح مسلم، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وسبعون حديثاً اتفقا على ثلاثة، ولمسلم اثنان، وللبخاري بعض حديث. اهـ ملخصاً (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فصل) بالمهملة أي: فاصل (ما) موصولة والأصل الفاصل الذي (بين صيامنا وصيام أهل الكتاب) أي: اليهود والنصارى (أكلة السحر) بفتح الهمزة، وهي المرة وإضافة فصل إلى ما من إضافة الموصوف لصفته (رواه مسلم) وفيه التصريح بأن السحور من خصائصنا، وأن الله تعالى تفضل به، وميزه من الرخص على هذه الأمة، ما لم يتفضل به على غيرها من الأمم.
باب فضل تعجيل الفطر
أي عند تيقن الغروب، ويجوز عند ظنه باجتهاد صحيح، والأفضل تأخيره حينئذ لتيقنه (وما يفطر عليه وما يقوله بعد إفطاره) أي: بيان كل منهما، فهو معطوف على فضل لا على مدخوله.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (الحديث: 46) .

(7/42)


1231- عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1232- وعن أَبي عطِيَّة، قَالَ: دَخَلْتُ أنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عائشة رضي الله عنها، فَقَالَ لَهَا مَسْرُوق: رَجُلاَنِ مِنْ أصْحَابِ محَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كِلاَهُمَا لا يَألُو عَنِ الخَيْرِ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1231- (عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يزال الناس بخير) جاء في رواية "لا يزال الدين ظاهراً وظهور الدين مستلزم لدوام الخير" (ما عجلوا الفطر) زاد أحمد في حديثه عن أبي ذر: وأخروا السحور، وما مصدرية ظرفية أي مدة فعلهم ذلك امتثالاً للسنة، واقفين عند حدها غير مستنبطين بعقولهم ما يغيروا به قواعدها، زاد أبو هريرة في حديثه "لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أخرجه أبو داود وابن خزيمة وغيرهما، وتأخير أهل الكتاب له أمد وهو إلى ظهور النجم، وجاء من حديث سهل أيضاً بلفظ "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم" رواه ابن حبان والحاكم، وفيه بيان الغاية في ذلك. قال المهلب: والحكمة فيه أنه لا يزاد في النهار من الليل؛ ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة، واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية، أو بأخبار عدلين، وكذا عدل واحد في الأرجح. قال الشافعي في الأم: تعجيل الفطر مستحب، ولا يكره تأخيره إلا لمن تعمده ورأى الفضل فيه. قال الحافظ في الفتح: ومن البدع المنكرة إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة، في رمضان يفعلونه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا أحاد الناس، وجرهم في ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون المغرب، إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت فيما زعموا فأخروا الفطر وعجلوا السحور، فخالفوا السنة فلذا قل فيهم الخير وكثر الشر، والله المستعان (متفق عليه) .
1232- (وعن أبي عطية) الوادعي الهمداني يروي عن ابن مسعود وأبي موسى وعنه أبو إسحق والأعمش ثقة من كبار التابعين. قال الحافظ في التقريب: اسمه مالك بن عامر أو ابن أبي عامر أو ابن عوفٍ أو ابن حمزة أو ابن أبي حمزة مات في حدود السبعين، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (قال: دخلت أنا ومسروق) ابن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم، روى عنه أصحاب السنن (على عائشة رضي الله عنها فقال لها مسروق: رجلان) مبتدأ، سوغ الابتداء به وصفه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصيام، باب: تعجيل الإِفطار (4/173) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (الحديث: 48) .

(7/43)


أحَدُهُمَا يُعَجِّلُ المَغْرِبَ وَالإفْطَارَ، وَالآخَرُ يُؤَخِّرُ المَغْرِبَ وَالإفْطَارَ؟ فَقَالَتْ: مَنْ يُعَجِّلُ المَغْرِبَ وَالإفْطَارَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللهِ - يعني: ابن مسعود - فَقَالَتْ: هكَذَا كَانَ رسولُ اللهِ يَصْنَعُ. رواه مسلم. قَوْله: "لا يَألُو" أيْ: لاَ يُقَصِّرُ في الخَيْرِ (1) .
1233- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بقوله (من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلاهما) مبتدأ ثان، ولا يجوز على مذهب البصريين كونه تأكيد رجلان لنكارته؛ وهم يمنعون فيها (لا يألو) فرد الخبر، باعتبار لفظ كلاهما، كما هو الأصح ومنه قوله تعالى: (كلتا الجنتينءَاتت أكلها) (2) ويجوز التثنية باعتبار المعنى، وقد اجتمعا في قول الشاعر:
كلاهما حين جد السير بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
(عن الخير أحدهما يعجل المغرب) أي: صلاته (والإِفطار) أي: عند تحقق الغروب (والآخر يؤخر المغرب والإِفطار) أتى بالظاهر محل الضمير؛ زيادة في الاستفسار (فقالت: من يعجل المغرب والإِفطار) سألت عنه دون الثاني؛ لأنه أتى بما يثنى عليه، فأحبت معرفته؛ لتثني عليه بذلك، ويحصل مقصود بيان فعل الثاني، من الثناء على ضده (قال عبد الله) وقوله (يعني ابن مسعود) يحتمل أن يكون من أبي عطية، أو ممن دونه، وذلك لأن المسمين بعبد الله من الصحابة عدد كثير جداً، لكنه إذا أطلق في حديث الكوفيين فالمراد منه ابن مسعود، وإذا أطلق في حديث الحجازيين فالمراد: منه ابن عمر (فقالت هكذا) أي: كفعل ابن مسعود (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع) في التعبير به دون يفعل، إيماء إلى الاهتمام بذلك، لأن الصنع من عمل الإنسان ما صدر منه بعد تدرب فيه وترو، وتحري إجادته (رواه مسلم) وفيه وزاد أبو كريب: والآخر أبو موسى (قوله: لا يألو أي لا يقصر في الخير) في مطاء المطول الألو التقصير، وقد استعمل معدى لاثنين في قولهم: لا آلوك جهداً، أي: لا أمنعك جهداً. اهـ. ومقتضاه: أن أصله التقصير كما استعمل في الحديث، وإن نصب المفعولين به لتضمنه معنى منع.
1233 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل: أحب
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتاكيد استحبابه ... (الحديث: 49) .
(2) سورة الكهف، الآية: 33.

(7/44)


عز وجل: أحَبُّ عِبَادِي إلَيَّ أعْجَلُهُمْ فِطْراً" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1234- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هاهُنَا، وَأدْبَرَ النهارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أفْطَر الصَّائِمُ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1235- وعن أَبي إبراهيم عبدِ الله بنِ أَبي أوفى رضي الله عنهما، قَالَ: سِرْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عبادي إلي) أي: أرضاهم عندي وأدناهم من جنابه، إدناء المحب من حبيبه، ولا يخفى ما في إضافة العباد من الإيماء إلى التشريف (أعجلهم فطراً) وذلك لما فيه من متابعة السنة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وأخرجه الحافظ العلائي في الأحاديث القدسية بأسانيد متعددة، تنتهي إلى أبي عاصم النبيل، وبإسناد ينتهي إلى الضحاك بن مخلد بسندهما إلى أبي هريرة، ثم أورد الحديث وقال: لفظهم واحد رواه الترمذي من طريق أبي عاصم النبيل قال: فوقع لنا بدلاً عالياً.
1234- (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبل الليل ها هنا) أي: من جهة المشرق (وأدبر النهار من ها هنا) أي من جهة المغرب والجمع بينهما للتأكيد وإلا فأحدهما يستلزم الثاني، وكذا يستلزم قوله (وغربت الشمس) بأن غاب جميع قرصها، ولا يضر بعد تحققه بقاء الشعاع، قال المصنف: وإنما جمعها؛ لأنه قد يكون في واد ونحوه، بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء (فقد أفطر الصائم) أي: مفطراً شرعاً، وإن لم يتناول شيئاً؛ لخروج وقت الصوم وهو النهار بذلك، فالإِمساك بعد الغروب تعبداً، كصوم يوم العيد قاله بعض العلماء. وقيل: معناه دخل وقت إفطاره. قال ابن ملك: وهذا أولى لما جاء في الحديث "من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" (متفق عليه) رواه أبو داود والترمذي.
1235- (وعن أبي إبراهيم) كنية (عبد الله بن أبي أوفى) بالفاء، وأسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي الصحابي، تقدمت ترجمته، في باب الصبر، ومنها أنه هو وأبوه صحابيان
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في تعجيل الإِفطار، (الحديث: 700) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم (4/171) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، (الحديث: 51) .

(7/45)


مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ لِبَعْضِ القَوْمِ: "يَا فُلاَنُ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا"، فَقَالَ: يَا رسول الله، لَوْ أمْسَيْتَ؟ قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" قَالَ: إنَّ عَلَيْكَ نَهَاراً، قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" قَالَ: فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ فَشَرِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أقْبَلَ مِنْ هاهُنَا، فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ" وَأشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ المَشْرِقِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
قَوْله: "اجْدَحْ" بِجيم ثُمَّ دال ثُمَّ حاءٍ مهملتين، أيْ: اخْلِطِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(رضي الله عنهما قال: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم) لعله كان في فتح مكة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - خرج لذلك في رمضان من سنة ثمان. (فلما غربت الشمس) أي: تكامل مغيب قرصها (قال لبعض القوم: يا فلان) قيل: هو بلال، أخرجه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري في الحديث وفيه، فقال يا بلال. وأخرجه الإِسماعيلي وأبو نعيم، من طريق عبد الواحد، وهو ابن زياد شيخ مسدد، بلفظ يا فلان. فاتفقت روايتهم على قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان، قال الحافظ في الفتح: ولعلها تصحيف، وجاء عند ابن خزيمة عن عمر رضي الله عنه قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبل الليل. الخ، فيحتمل أن المخاطب بذلك عمر، فإن الحديث واحد، فلما كان المقول له إذا أقبل الليل عمر، احتمل أن يكون هو المقول له أولاً أجدح، لكن يؤيد كونه بلالاً، قوله في رواية شعبة عند أحمد، فدعا صاحب شرابه، فإن بلالاً هو المعروف بخدمته - صلى الله عليه وسلم -.
اهـ ملخصاً (انزل فاجدح لنا) أي حرك السويق ونحوه، بالماء بعود يقال له المجدح مجنح الرأس (فقال: يا رسول الله لو أمسيت) إن كانت للتمني فلا حذف، وإن كانت للشرط فالجواب محذوف، مدلول عليه بقرينة الحال، أي: لكان أحسن (قال: انزل فاجدح لنا، قال: إن عليكم نهاراً) يحتمل أن يكون المذكور كان يرى شدة الضوء، من شدة الصحو فظن أن الشمس لم تغرب، وأنها قد غطاها جبل أو نحوه، أو أن هناك غيماً، فلا يتحقق غروبها، وأما قول الراوي: قد غربت الشمس فإخبار عما في نفس الأمر، وإلا فلو تحقق الصحابي، حكم المسئلة لما توقف (قال: انزل فاجدح لنا قال) أي: الراوي للحديث، وهو ابن أبي أوفى (فنزل فجدح لهم فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: وشربنا وسكت عنه لوضوحه (ثم قال: إذا رأيتم) أي: إذا علمتم (الليل قد أقبل من ها هنا) فالليل مفعول أول، وجملة قد أقبل سد مسد المفعول الثاني، ولك أن تجعل رأى بصرية فتكون الجملة حالية من المفعول (فقد أفطر الصائم) قال ابن أبي أوفى (وأشار) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (بيده قبل المشرق) مبيناً للمكان المشار إليه بقوله ها هنا (متفق عليه قوله: اجدح، بجيم ثم دال ثم حاء مهملتين) بوزن اسأل (أي اخلط السويق) قال في المصباح: هو ما يعمل من الحنطة،

(7/46)


السَّويقَ بِالمَاءِ (1) .
1236- وعن سلمان بن عامر الضَّبِّيِّ الصحابي - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا أفْطَرَ أحَدُكُمْ، فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ؛ فإنَّهُ طَهُورٌ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو الشعير. اهـ زاد في الفتح بعد قوله السويق أو نحوه (بالماء) بعود يقال له المجدح بكسر الميم، مجنح الرأس تساط به الأشربة، وقد تكون له ثلاث شعب، وزعم الداودي أن معنى اجدح احلب، وغلطوه في ذلك. 1236- (وعن سلمان) بسكون اللام (ابن عامر) بالمهملة ابن أوس بن حجر بن عثمان بن عمرو بن الحارث (الضبي) بالمعجمة وتشديد الموحدة، نسبة إلى ضبة بن داود بن طائحة بن إلياس بن مضر، قاله ابن الأثير في الأنساب (الصحابي) سكن البصرة (رضي الله عنه) خرج عنه البخاري، وأصحاب السنن الأربعة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في مختصر التلقيح وغيره ثلاثة عشر حديثاً، أخرج له البخاري حديثاً واحداً، ولم يخرج له مسلم شيئاً، قال في أسد الغابة: قال مسلم بن الحجاج: لم يكن في ضبة صحابي غيره (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أفطر أحدكم) أي: أراد الفطر (فليفطر على تمر) زاد الترمذي في رواية: فإنه بركة، أي: إن لم يجد رطباً وإلا فهو المقدم عليه، لما يأتي في الخبر بعده، وأخذ من الحديث حصول السنة، ولو بواحدة، لكن الحديث بعده يوميء إلى أنها بثلاث، والحكمة فيه أنه إن وجد في المعدة فضلة لها وإلا كان غذاء، وأنه يجمع ما تفرق من ضوء البصر بسبب الصوم. وقول الأطباء: إنه مضعف للبصر، محمول على الإِكثار منه، ورب شيء كثيره مضر، وقليله نافع كالسقمونيا (فإن لم يجد) التمر بأن لم يسهل تحصيله (فليفطر على ماء) دخل فيه ماء زمزم، فلا يعدل إليه إلا عند فقد التمر، خلافاً لمن قال بتقديمه على التمر، وإن جمع بينهما فحسن، فإنه مردود.
أما الأول: فتصادمه السنة.
وأما الثاني: فللاستدراك عليها. وقد صام - صلى الله عليه وسلم - بمكة أياماً عام الفتح، وما نقل عنه أنه خالف عادته من تقديم التمر، ولو فعل لنقل (فإنه طهور) أي: مزيل للخبائث المعنوية
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم (4/172) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، (الحديث: 52) .

(7/47)


رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1237- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ قَبْلَ أنْ يُصَلِّي عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحسية، وما هو كذلك ينبغي إيثاره على غيره (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي، ونحوه خبر الترمذي وغيره، وصححوه: إذا كان أحدكم صائماً فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء، فإنه طهور، وهذا الترتيب لكمال السنة لا لأصلها، كما هو واضح، فمن أفطر على ماء مع وجود التمر حصل له أصل سنة الإفطار على الماء الطهور.
1237- (وعن أنس) رضي الله عنه (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي) أي: صلاة المغرب (على رطبات فإن لم تكن) أي: توجد (رطبات) بأن عزت، أي. لم يسهل تحصيلها (فتميرات) بالتصغير، أي: فثلاث؛ لأنه أقل الجمع (فإن لم تكن تميرات) أي: توجد كما ذكر (حسا) أي: شرب (حسوات) بفتح أوليه المهملين، جمع حسوة بالفتح، وهي المرة من الشرب، وأما الحسوة بالضم فهو لغو الفم مما يحسى، ويجمع على حسوات وحسى كمدية ومدى ومديات، قاله في المصباح. (من ماء) متعلق بحسوات، أو مستقر صفة لحسوات (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) وصححه الدارقطني والحاكم، وقال: على شرط مسلم. قال في فتح الإله: ومنه أخذ أئمتنا أنه يسر أن يكون الفطر على ثلاث رطبات، فإن عز فثلاث تمرات، فإن عز فثلاث غرفات من ماء، سواء كان ذلك في الصيف، أو الشتاء. وقيل: يقدم التمر في الشتاء، والماء في الصيف لرواية به، ولما في ذلك من المناسبة، وما ذكر من التثليث والترتيب هو لكمال السنة، وإلا فأصلها يحصل بواحدة، وبتقديم المؤخر نظير ما مر.
" تنبيه " عقد المصنف الترجمة لفضل التعجيل، وما يفطر عليه، وما يقوله عند الفطر،
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: ما يفطر عليه، (الحديث: 2355) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الصدقة على ذي القرابة، (الحديث: 658) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: ما يُفطر عليه، (الحديث: 2356) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب: ما جاء ما يستحب عليه الإفطار، (الحديث: 696) .

(7/48)


223- باب في أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه عن المخالفات والمشاتمة ونحوها
1238- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1239- وعنه، قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وترك ما يتعلق بالثالث نسياناً، فحاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال: ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى" رواه أبو داود وعن معاذ بن زهرة قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر قال: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت رواه أبو داود مرسلاً.
باب في أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه من المخالفات
وجوباً في المحرم، وندباً في المكروه، فلا يقول الخنا، ولا يفعل المحرمات (والمشاتمة ونحوها) كالغيبة والنميمة وقول الزور، وهذه الأمور وإن كان يؤمر بها كل من المفطر والصائم، إلا أنها في الصائم أولى.
1238- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان) أي: وجد (يوم) فاعلها (صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) لمنافاتهما للمطلوب منه، من قمع النفس بالسكون والسكوت (فإن سابه أحد أو) للتنويع (قاتله) أي: ضاربه، أو طاعنه (فليقل: إني صائم) ويكف عن خصمه ويكن عبد الله المظلوم، ولا يكن الظالم (متفق عليه) وتقدم بأبسطيته أول الصوم.
1239- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يدع) أي: يترك (قول الزور) بضم الزاي أي: الكذب (والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) قال ابن بطال: ليس
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: هل يقول إني صائم إذا شتم (4/88، 89) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم، (الحديث: 160) .

(7/49)


رواه البخاري (1) .
224- باب في مسائل من الصوم
1240- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معناه أنه يؤمر بالأكل والشرب، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما معه، وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - "من باع الخمر فليشقص الخنازير" أي: يذبحها، ولم يأمره بذبحها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، وقوله حاجة أي: إرادة (2) في صيامه، إذ الله تعالى لا حاجة له في شيء، وقيل: هو كناية عن عدم القبول، كما يقول من غضب على من أهدى له شيئاً، لا حاجة لي في هديتك، أي: هي مردودة عليك، وقال ابن العربي: إن مقتضى هذا الحديث، أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صومه. قلت: ونص عليه الشافعي والأصحاب، وأقرهم المصنف في مجموعه، وقال الأذرعي: يبطل صومه، وهو قياس مذهب أحمد في إبطاله الصلاة في المغصوب، وخبر: خمس يفطرن الصائم: الغيبة والنميمة والكذب والقبلة واليمين الفاجرة، باطل كما في المجموع وبفرض صحته، فالمراد: بطلان أجر الصوم، لا الصوم نفسه. قال الدماميني: ولو أبطل الصوم لأوجب الشارع قضاءه، وإنما المراد به التخويف من الإحباط بطريق المواربة، هذا وقد ضمن هذا الحديث أبو بكر غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي فقال:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما ... وإن قلت إني صمت يوماً فما صمت
(رواه البخاري) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي، كذا في الجامع الصغير، وزاد في الكبير رمز ابن ماجه وابن حبان، وفي متن الحديث بعد قوله: به، قوله: والجهل.
باب في مسائل من الصوم
أي: في ذكر أحاديثها.
1240- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نسي أحدكم) عبر بإذا إيماء
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: من لم يدع قول الزور (4/99، 100) .
(2) قوله: أي: إرادة هذا مشكل سواء أريد بالإِرادة معناها أم أريد بها الرضا فإن ترك الطعام والشراب حاصل فهو مراد لله تعالى وهو أيضاً مرضي عنه في ذاته فلعل المراد بالإرادة الرضا عن هذا الترك من حيث ما يصاحبه من الزور ونحوه. ع.

(7/50)


فَأكَلَ، أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإنَّمَا أطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1241- وعن لَقِيط بن صَبِرَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى غلبة النسيان على الإنسان؛ لكونه طبعاً، وفي نسخة: إذا نسي الصائم، وعلى الأول فالمفعول محذوف، أي: الصوم مدلول عليه بالسياق إلى الصوم. قال الحافظ: وجاء عند ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم والدارقطني، من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من أفطر (2) في شهر رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه ولا كفارة، قال: ففيه تعيين رمضان، وتصريح بأن لا قضاء، ثم نقل الكلام في حال الحديث بما فيه طول وحاصله قبوله (فأكل أو شرب فليتم صومه) وعند الترمذي: فلا يفطر، والاقتصار على الأكل والشرب؛ لأنهما الأغلب، وإلا فكل المفطرات حكمها كذلك، ولا فرق بين قليل ما ذكر وكثيره حينئذ، وفارق بطلان الصلاة بالأكل ناسياً كثيراً بأن لها هيئة تذكر بها، ولا كذلك الصوم (فإنما أطعمه الله وسقاه) وفي رواية الترمذي " فإنما هو رزق رزقه الله ". وفي رواية الدارقطني "فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه" قال القاضي زكريا في شرح الإعلام: ومقتضى الحديث أن لا قضاء عليه، وقد زاد الدارقطني في روايته: ولا قضاء عليه "لطيفة" روى عبد الرزاق عن عمرو بن دينار أن إنساناً جاء أبا هريرة فقال: أصبحت صائماً فدخلت على رجل فنسيت فطعمت، فقال: لا بأس. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت وشربت فقال: لا بأس أطعمك الله وسقاك. قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام. (متفق عليه) .
1241- (وعن لقيط) بفتح اللام وكسر القاف آخره طاء مهملة (ابن صبرة) بفتح المهملة وكسر الموحدة. قال الحافظ في التقريب: ويقال: إنه جده واسم أبيه عامر، صحابي مشهور، خرج عنه البخاري في التاريخ وأصحاب السنن الأربعة، وقال المصنف في التهذيب: قال ابن عبد البر: يقال فيه لقيط بن صبرة، ولقيط بن عامر، ولقيط بن المشفق، قال الترمذي: وقال أكثر أهل الحديث: لقيط بن صبرة هو لقيط بن عامر، وجعلهما مسلم في كتاب الطبقات اثنين، كما سلك ذلك الدارمي. روى عنه ابن أخيه وكيع بن عدس، وقال ابن بغدسي وعاصم بن لقيط وعمرو بن أوس وغيرهم قالوا: أو كان يكره السائل فإذا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: إذا أكل أو شرب ناسياً (4/135) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، (الحديث: 171) .
(2) أتى بهذا الحديث للرد على من يحمل الحديث الأول على صوم التطوع.

(7/51)


رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله، أخْبِرْني عَنِ الوُضُوءِ؟ قَالَ: "أسْبغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ، إِلاَّ أنْ تَكُونَ صَائِماً" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1242- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ. متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سأله أبو رزين أعجبه مسألته. اهـ وقوله (رضي الله عنه) جملة خبرية لفظاً دعائية معنى (قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء) أي: عن سننه ومكملاته، بدليل قوله (قال: أسبغ الوضوء) أي: أتممه بغسل ما زاد على الفرائض، من الغرة والتحجيل (وخلل بين الأصابع) وذلك بالتشبيك بين أصابع اليدين، وفي الرجلين بأي كيفية كانت. قال ابن حجر في شرح المنهاج: والأفضل بخنصر اليسرى من يديه، ومن أسفل مبتدياً بخنصر يمنى رجليه، مختتماً بخنصر يسراهما للأمر بتخليل اليدين والرجلين، في حديث ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان يدلك أصابع رجليه بخنصره" ومحل كونه من السنن ما لم يتوقف وصول الماء عليه، وإلا كالأصابع الملتفة، فيجب إذا لم يصل الماء لباطنها إلا به، كتحريك خاتم، كذلك ويحرم فتق ملتحمة (وبالغ في الاستنشاق) أي: بإيصال الماء إلى الخيشوم، وجذبه بالنفس مع إدخال خنصر يسراه، وإزالة ما في أنفه من أذى ولا يستقصي فيه فإنه يصير سعوطاً، لا استنشاقاً أي: كاملاً وإلا فيحصل به أصل السنة، وكذا يبالغ غير الصائم في المضمضة ندباً بأن يبلغ بالماء إلى أقصى الحنك ووجهي الإِنسان واللثات، ويسن إمرار الإصبع اليسرى عليها ومج الماء (إلا أن تكون صائماً) أي: فلا تبالغ، فمن ثم كرهت له خشية السبق إلى حلقه، أو دماغه فيفطر، وإنما حرمت القبلة المحركة للشهوة؛ لأن أصلها غير مندوب مع أن قليلها يدعو لكثيرها والإنزال المتولد منها لا حيلة في دفعه، وهنا يمكنه مج الماء (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) وفي نسخة مصححة لزيادة: حسن (3) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصوم، باب: الصائم يُصب عليه الماء من العطش ... (الحديث: 2366) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، (الحديث: 788) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: اغتسال الصائم (4/123) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، (الحديث: 75) .
(3) هنا حديث في المتن عن عائشة وليس في نسخة الشرح وهو في صحيح البخاري منسوب الى عائشة وأم سلمة معاً وكذا في عمدة الأحكام والجامع الصغير.

(7/52)


1243- وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، قالتا: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصْبحُ جُنُباً مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
225- باب فضل صوم المحرم وشعبان والأشهر الحرم
1244- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفْضَلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1243- (وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً) وقولهما (من جماع غير احتلام) (2) وصف تقييدي (3) إذ جنابته - صلى الله عليه وسلم - لا تكون بالاحتلام إذ هو من تلاعب الشيطان، ولا وصلة له إليه - صلى الله عليه وسلم -، أو تخصيصي بناء على أن الاحتلام نوعان: عن إمتلاء البدن: وهو لكونه من العوارض البشرية، جائز في حقه، وعن تلاعب الشيطان: وهو الممتنع عليه كسائر الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم (ثم يصوم) وقد أومأ إلى صحة صوم من أصبح جنباً قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، إذ يلزم من حله آخر أجزاء الليل طلوع الفجر عليه وهو جنب، فيدل حله على صحة صومه، ذكره الأصوليون في دلالة الإِشارة (متفق عليه) .
باب بيان فضل صوم المحرم
سمي بذلك دون باقي الأشهر الحرم، تشريفاً، وقيل: لغير ذلك، كما بينته في مؤلفي في عاشوراء، المسمى بفتح الكريم القادر، في متعلقات عاشوراء، من الأعمال والمآثر (وشعبان والأشهر الحرم) لعل حكمة فضله بشعبان بين المحرم، وباقي الأشهر الحرام مع فضل صومها على صومه، إكثار صومه - صلى الله عليه وسلم - له كما سيأتي دونها، وإلا فهو بعده في الفضل، خلافاً لبعض منهم ابن رجب في اللطائف كما بينته في المؤلف المذكور مع رده.
1244- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفضل الصيام) أي: من
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: اغتسال الصائم (4/133، 134) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، (الحديث: 80) .
(2) قوله: (من جماع غير احتلام) كذا في نسخ الشرح وكذا أيضاً في صحيحي البخاري ومسلم والذي في بعض نسخ المتن يصبح جنباً من غير حلم.
(3) المراد أنه صفة كاشفة كما في قوله تعالى (ويقتلون النبيين بغير الحق) .

(7/53)


الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ: شَهْرُ الله المُحَرَّمُ، وَأفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعدَ الفَرِيضَةِ: صَلاَةُ اللَّيْلِ" رواه مسلم (1) .
1245- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: لَمْ يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ أكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النانلة المطلقة (بعد) صيام (شهر رمضان شهر الله المحرم) أي: صيامه وإضافة الشهر لله كإضافة البيت والناقة إليه تعالى في قولنا: الكعبة بيت الله، وقوله تعالى: (ناقة الله) (3) للتشريف والتفخيم (وأفضل الصلاة) أي: من النافلة المطلقة (بعد الفريضة صلاة الليل) أي: التهجد وذلك؛ لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإِخلاص، مع حصول الحضور حينئذ؛ لعدم وجود ما يصد عنه؛ ولأنه وقت التجليات الإِلهية والفيوض الربانية (رواه مسلم) وتقدم مشروحاً في باب فضل قيام الليل.
1245- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم) أي: صوم نفل مطلق، (من شهر) أي: فيه، أو بعضه (أكثر من شعبان) وفعله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، مع الحديث قبله الدال على أفضلية صوم المحرم على صومه، لما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "إنه شهر ترفع فيه الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" وفي حديث آخر " إنه شهر تكتب فيه الآجال فأحب أن يكتب أجلي وأنا صائم " وفي حديث آخر " إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان فأحب إحياءه "؛ أو لأنه لم يطلع على فضل صوم المحرم إلا في أواخر عمره الشريف، أو لم يتمكن من صومه؛ لكونه أول السنة، فكان يتجهز فيها للحروب ويخرج لجهاد أعداء الدين، وعلى كل فلا دليل في إكثاره صومه، دون المحرم على فضله على المحرم مع ما ذكر (فإنه كان يصوم شعبان كله) قيل: المراد أنه كان يصوم معظمه بدليل قوله: (وفي رواية) لمسلم (كان يصوم شعبان إلا قليلاً) وعند البخاري: ما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان، فلذا قال المصنف: (متفق عليه) قال المصنف في شرح مسلم: قوله كان يصوم شعبان إلا قليلاً، هذا
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل صوم المحرم، (الحديث: 202) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان (4/186) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان واستحباب ... (الحديث: 176) .
(3) سورة هود، الآية: 64.

(7/54)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير للأول، وبيان أن قوله كله أي: غالبه، وقيل: كان يصومه كله في وقت وبعضه في وقت آخر، وهذا أنسب باللفظ. قال المصنف قال العلماء: وإنما لم يستكمل غير رمضان؛ لئلا يظن وجوبه، وقيل: في قولها كله أي: يصوم في أوله وفي وسطه وفي آخره، ولا يخص شيئاً منه بل يعمه بصيامه، ذكر هذه الأجوبة المصنف في شرح مسلم، وقيل: غير ذلك، وقد تعقب الدماميني في المصابيح كلامه.
"أما الأول": فإن إطلاق الكل على الأكثر مع الإِتيان به توكيداً، غير معهود. وتعقبه الحافظ زين الدين العراقي، بأن في حديث أم سلمة عند الترمذي: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهرين متتابعين إلا رمضان وشعبان، فعطفه على رمضان يبعد أن يراد به أكثره، إذ لا جائز أن يراد من رمضان بعضه، والعطف يقتضي المشاركة فيما عطف عليه، وإن مشى ذلك فإنما يمشي على رأي من يقول إن اللفظ الواحد يحمل على حقيقته ومجازه، وفيه خلاف لأهل الأصول قال في عمدة القاري: ولا يمشي على ذلك الرأي أيضاً؛ لأن من قال ذلك قاله في اللفظ الواحد، وهما لفظان رمضان وشعبان، لكن نقل الترمذي عن ابن المبارك أن العرب يتجوزون بذلك فيقولون: إذا صام أكثر الشهر وقام أكثر ليله صام الشهر كله، وقام ليله أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره.
"وأما الثاني": فقال الدماميني: إن قولها: كان يصوم شعبان يقتضي تكرار ذلك الفعل له عادة على ما هو المعروف في مثل هذه العبارة اهـ أي: بناء على إفادتها له، والذي اختاره المصنف وعزاه للأكثرين والمحققين أنها تقتضيه عرفاً.
"وأما الثالث": فقال الدماميني: إن أسماء الشهور إذا ذكرت غير مضاف إليها لفظ شهر كان العمل عاماً لجميعها، فلا تقول سرت المحرم، وقد سرت بعضه، فإن أضفت الشهر إليه لم يلزم التعميم، هذا مذهب سيبويه، وتبعه عليه غير واحد، ولم يخالفه إلا الزجاج، وأما قولها في رواية: وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان، فلا ينافي صيامه لجميعه، فإن المراد، أنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر الصيام فيه على غيره من الشهور التي لم يفرض فيها الصوم، وذلك صادق بصومه كله؛ لأنه إذا صام جميعه صدق عليه أن الصوم الذي أوقعه فيه أكثر من الصوم الذي أوقعه في غيره، ضرورة أنه لم يصم غيره، مما عدا رمضان كاملاً، وأما قولها: لم يستكمل إلا رمضان فيحمل على الحذف أي: وشعبان بدليل الطريق الآخر، كان يصوم شعبان كله، وحذف المعطوف والعاطف جميعاً ليس بعزيز في كلامهم، ويمكن

(7/55)


1246- وعن مُجِيبَةَ البَاهِليَّةِ، عن أبيها أَوْ عمها: أنه أتى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ انطَلَقَ فَأَتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ - وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ وَهيئَتُهُ - فَقَالَ: يَا رسولَ الله، أمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: "وَمَنْ أنْتَ"؟ قَالَ: أَنَا الباهِليُّ الَّذِي جِئْتُك عام الأَوَّلِ. قَالَ: "فَمَا غَيَّرَكَ، وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الهَيْئَةِ! " قَالَ: مَا أكَلْتُ طَعَاماً مُنْذُ فَارقتُكَ إِلاَّ بِلَيْلٍ. فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "عَذَّبْتَ نَفْسَكَ! " ثُمَّ قَالَ: "صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَيَوماً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجمع بطريق أخرى، وهي أن قولها: كان يصوم شعبان كله، محمول على محذوف أداة الإِستثناء والمستثنى أي: إلا قليلاً منه؛ بدليل رواية عبد الرزاق بلفظ "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر منه صياماً في شعبان فإنه كان يصومه كله إلا قليلاً. اهـ ملخصاً من القسطلاني على البخاري.
1246- (وعن مجيبة) بضم أوله وكسر الجيم بعدهما تحتية، ثم موحدة، امرأة من الصحابة، كذا في تقريب الحافظ (الباهلية) قال ابن الأثير: (1) (عن أبيها) وفي أطراف المزي، اسم أبي مجيبة عبد الله بن الحارث الباهلي صحابي (أو عمها) قال أبو موسى: ذكر فيمن لم يسم، وقال أبو عمر: لا أعرفه، وأخرجه أبو عمر وأبو موسى مختصراً، فيمن روى عن أبيه (أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أتاه وافداً عليه (ثم انطلق) إلى أهله (فأتاه بعد سنة) الفاء فيه مستعارة لموضع ثم وجملة (وقد تغيرت حاله) أي: صفته، والحال يذكر ويؤنث في محل الحال من الفاعل (وهيئته) هي الحال الظاهرة فعطفها على الحال من عطف الخاص على العام (فقال) عطف على مقدر أي: فلم يعرفه فقال: (يا رسول الله أما) بتخفيف الميم، أداة استفتاح (تعرفني؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول) من إضافة الموصوف لصفته، وهو مؤول عند البصريين على تقدير عام الوقت الأول ليمنع ذلك اتحاد المتضايفين، وأجازه الكوفيون من غير تأويل (قال: فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة) جملة حالية من فاعل غير (قال: ما أكلت طعاماً منذ) ظرف لدخولها على الجملة الفعلية وهي (فارقتك إلا بليل) أي: لم أزل صائماً، ومراده ما عدا أيام العيد والتشريق، ويحتمل أنه أراد ما يعمها، وكان لم يعلم تحريم صومها، ويؤيد الأول أنه لم ينهه عن صومها، ولم يبين له تحريمها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عذبت نفسك) أي: بمنعها من مألوفاتها وقطعها عن معتاداتها، بما يضر بالنفس التي مطية العبد للوصول إلى ساحة الفضل (ثم قال: صم) المراد من الأمر فيه مطلق الطلب الشامل للوجوب والندب (شهر الصبر)
__________
(1) كذا بالأصول. ع.

(7/56)


قَالَ: زِدْنِي، فَإنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ: "صُمْ يَوْمَيْن" قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: "صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ" قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: "صُمْ مِنَ الحُرُم وَاتركْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتركْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتركْ" وقال بأصابِعه الثَّلاثِ فَضَمَّها، ثُمَّ أرْسَلَهَا. رواه أَبُو داود.
وَ "شَهْر الصَّبر": رَمَضَان (1) .
226- باب في فضل الصوم وغيره في العشر الأول من ذي الحجة
1247- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ
__________
أي: الصوم وهو رمضان (ويوماً من كل شهر) نفلاً (قال: زدني فإن لي قدرة) على أكثر منه (قال: صم يومين) أي: من كل شهر (قال: زدني قال: صم ثلاثة أيام) وذلك كصيام الدهر كله؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها (قال: زدني قال: صم من الحرم) بضمتين، جمع حرام أي: من الأشهر الحرم، فحذف الموصوف؛ لاختصاص الصفة به، وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم (واترك) أتى به؛ لعلمه أنه يشق عليه صومها كلها تباعاً (صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك) كرره تأكيداً لطلبه وتنبيهاً على شرفه؛ ولأنه يشق عليه صوم كلها (وقال:) أي: أشار (بأصابعه الثلاث فضمها ثم أرسلها) أي: صم ثلاثاً منها ثم اترك، وهكذا وذلك لأن في ضم الثالث من القوة ما يجبر الضعف الحاصل من صوم اليومين؛ لأن المرء إذا اعتاد عمل بر ألفته النفس، وارتفعت مشقته، ولذا أشار إلى الإِفطار بعدها؛ لئلا يصير الصوم معتاداً له فلا يجد كلفة بخلاف ما إذا أفطر ثم عاد له فيكون فيه عليه مشقة، فينمو ثوابه (رواه أبو داود) قال المزي في الأطراف: ورواه النسائي (وشهر الصبر) قال الخطابي: (رمضان) قال: وأصل الصبر الحبس وسمي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام، ومنعها عن وطء النساء في نهار الشهر.
باب فضل الصوم وغيره
من عمل البر (في العشر الأول من ذي الحجة) وآخره يوم النحر، ومعلوم أن صومه لا ينعقد، فالمراد صوم ما عداه من باقي العشر، وعرفة إنما يسن صومه لغير حاج وقف نهاراً، لما سيأتي في الباب بعده فيستثنى أيضاً.
1247- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة؛
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: في صوم أشهر الحرم، (الحديث: 2428) .

(7/57)


أيَّامٍ، العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هذِهِ الأَيَّام" يعني أيام العشر. قالوا: يَا رسولَ اللهِ، وَلاَ الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ" رواه البخاري (1) .
227- باب فضل صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لاستغراق النفي (أيام العمل الصالح) مبتدأ (فيها) ظرف مستقر في محل الوصف أو الحال مما قبله؛ لأنه محلى بأل الجنسية، أو لغو متعلق بالخبر وهو (أحب إلى الله من العمل الصالح في هذه الأيام) ولا يضر تعدد المتعلق لاختلاف اللفظ (يعني) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأيام المشار إليها (أيام العشر) أي: من ذي الحجة (قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله) أي: المفعول في غيرها أفضل من غيره من عمل البر فيها (قال: ولا الجهاد في سبيل الله) أي: فلا يفوق عمل البر فيها (إلا رجل) أي: إلا عمل رجل فالاستثناء متصل، والرفع على البدل، وقيل: منقطع أي لكن رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء أفضل من غيره، وقال الدماميني: إنما يستقيم هذا على اللغة التميمية، وإلا فالمنقطع عند أهل الحجاز واجب النصب (خرج يخاطر بنفسه وماله) أي: خرج يقصد قهر عدوه، ولو أدى ذلك إلى قتل نفسه وذهاب ماله (فلم يرجع من ذلك بشيء) أي: بأن رزقه الله الشهادة، ولأبي عوانة: إلا من لا يرجع بنفسه، ولا ماله، وله من طريق آخر، إلا أن لا يرجع، وله أيضاً: إلا من عقر جواده وأهريق دمه. زاد أبو عوانة في رواية عن ابن عمر "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير، فإن صيام يوم منها يعدل صيام سنة، والعمل فيها بسبعمائة ضعف " وللترمذي عن أبي هريرة "يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر".
"قلت" وبهذه الروايات يتخصص حديث: أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم (رواه البخاري) ورواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب. وابن ماجه.
باب فضل صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء
ممدودان على وزن فاعولاء، والصحيح أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وتاسوعاء اليوم الذي قبله، كما بينته في كتابي في فضل عاشوراء وبيان أعماله.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق (2/381 و383) .

(7/58)


1248- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه -، قَالَ: سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صَومِ يَوْمِ عَرَفَةَ، قَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ" رواه مسلم (1) .
1249- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَامَ يَومَ عاشوراءَ وَأمَرَ بِصِيامِهِ. متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1250- وعن أَبي قتادة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صِيامِ يَوْمِ عَاشُوراءَ، فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1248- (عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة) أي: ما له من الفضل بدليل قوله: (قال: يكفر السنة الماضية) أي: التي آخرها سلخ ذي الحجة (والباقية) أي: الآتية وأولها المحرم حملاً على المعنى المتعارف في السنة، والمكفر صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله، والمراد بغفران ما سيأتي. أما العصمة عن ملابسته، أو وقوعه مغفوراً إن وقع ثم صومه إنما يندب لغير الحاج الواقف بعرفة نهاراً، أما هو فالأفضل له الفطر، اتباعاً لفعله - صلى الله عليه وسلم -، وهل صومه له مكروه أو خلاف الأولى قولان مبنيان على أن حديث النهي عن صومه للحاج هل هو ثابت أو لا؟ (رواه مسلم) .
1249- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام عاشوراء) وفي نسخة بزيادة يوم (وأمر بصيامه) وهل كان الأمر به قبل فرضية رمضان على سبيل الوجوب أو الندب؟ الصحيح عند الجمهور أنه على سبيل الندب المؤكد أكمل التأكد، وأنه بعدها بقي أصل التأكد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ما زال يصومه، وعزم أن يضم إليه التاسع في العام المقبل وقد بينته ثمة (متفق عليه) .
1250- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عاشوراء) أي: عما فيه من الفضل (فقال: يكفر السنة الماضية) ينبغي أن يكون هو آخرها، لا آخر ذي الحجة؛ لئلا يلزم الفصل بين المكفر والمكفر. والله أعلم. وإنما فضل يوم عرفة فكفر سنتين؛ لأنه يوم محمدي وعاشوراء يوم موسوي؛ ولأن يوم عرفة سيد الأيام فاقتضى فضل
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ... (الحديث: 196) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصيام، باب: صيام عاشوراء (4/214 و215) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، (الحديث: 128) .

(7/59)


229- باب في استحباب صوم الإثنين والخميس
1253- عن أَبي قتادة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَومِ يَوْمِ الإثْنَيْنِ، فَقَالَ: "ذَلِكَ يَومٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَومٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ" رواه مسلم (1) .
1254- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَومَ الإثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الجامع الصغير، وفيه من صام رمضان وشوالاً والأربعاء والخميس، دخل الجنة. رواه أحمد عن رجل، وفي الجامع الكبير رواه البغوي والبيهقي في الشعب عن عكرمة بن خالد عن عريف من عرفاء قريش عن أبيه.
باب استحباب صوم الاثنين والخميس
سميا بذلك بناث على أن أول الأسبوع الأحد.
1253- (عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين) أي: عن حكمة إيثاره بالصوم عن باقي الأيام (فقال ذلك) عبر عنه بذلك تنويهاً بشأنه، كما في قوله تعالى (ذلك الكتاب) (2) والتنوين في قوله: (يوم) للتعظيم، كما يشير إليه وصفه بقوله (ولدت فيه ويوم بعثت) أي: فيه، أفاد به أن شرفه بما ظهر فيه من ولادته وبعثته (أو) شك من الراوي هل قال: بعثت فيه أو قال: (أنزل علي فيه) ؟ أي: الوحي فنائب الفاعل مستتر، أو هو الظرف أي: وجد الإِنزال علي فيه (رواه مسلم) في الصوم، وإنما لم يطلب في يوم مولده - صلى الله عليه وسلم - من الأعمال ما طلب في يوم الجمعة؛ لزيادة شرفه - صلى الله عليه وسلم - فخفف عن أمته ببركته.
1254- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تعرض الأعمال) أي: تعرضها الملائكة الحفظة، أو غيرهم (يوم الاثنين والخميس) يحتمل عرض مجموع عمل الأسبوع في الآخر منهما، بعد عرض عمل ما قبل الاثنين مع عمله فيه، ويحتمل أن المعروض في الثاني ما عمل بعد الأول، وما قبل ذلك ففي الأول فقط منهما (فأحب أن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ... (الحديث: 197) .
(2) سورة البقرة الآية: 2.

(7/61)


يُعْرَضَ عَمَلِي وَأنَا صَائِمٌ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن"، ورواه مسلم بغير ذِكر الصوم (1) .
1255- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى صَومَ الإثْنَيْنِ وَالخَمِيس. رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
230- باب في استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر
والأفضل صومُها في الأيام البيض وهي الثالثَ عشر والرابعَ عشر والخامسَ عشر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعرض عملي وأنا صائم) جملة في محل الحال من المضاف إليه، لكون المضاف كبعض المضاف إليه، فهو كقوله تعالى (أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً) (3) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن ورواه مسلم بغير ذكر الصوم) ولفظه "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين، ويوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن، إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا" ورواه الطبراني عن أسامة بن زيد مرفوعاً بلفظ، "تعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين والخميس فيغفر الله إلا ما كان من متشاحنين أو قاطع رحم" ورواه الحاكم عن والد عبد العزيز، " بلفظ تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء وعلى الآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضاً وإشراقاً، فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم ".
1255- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى) أي: يتوخى (صوم الاثنين والخميس) أي: لعظم فضلهما (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه النسائي.
باب استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر
سواء كانت البيض، أو السود أو غيرها (والأفضل صومها في أيام البيض) بكسر الموحدة، وسكون التحتية، من إضافة الموصوف لصفته؛ وسميت بذلك لبياض نهارها بالشمس وليلها بالقمر (وهي الثالث عشر) ببناء الجزأين، كما قاله الدماميني، وكذا
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، (الحديث: 747) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، (الحديث: 745) .
(3) سورة النحل، الآية: 123.

(7/62)


وقِيل: الثاني عشر، والثالِثَ عشر، والرابعَ عشر، والصحيح المشهور هُوَ الأول.
1256- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: أوْصاني خَلِيلي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاثٍ: صِيَامِ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأنْ أُوتِرَ قَبْلَ أنْ أنَامَ. متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1257- وعن أَبي الدرداءِ - رضي الله عنه -، قَالَ: أوصاني حَبِيبي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاثٍ لَنْ أدَعَهُنَّ مَا عِشتُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المركبات بعده (والرابع عشر والخامس عشر) يستثنى من ذلك ذو الحجة، فصوم الثالث عشر منه حرام. قال الناشري في الإِيضاح: وهل يعوض عنه السادس عشر أو يوم من التسعة الأول؟ فيه احتمالان: "قلت" في العباب عن ابن عبد السلام: يصوم السادس عشر عوضاً عن الثالث عشر (وقيل: الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والصحيح المشهور هو الأول) وفي الروضة أن الثاني وجه غريب، حكاه الصيمري الماوردي والبغوي وصاحب البيان فالاحتياط صومهما. اهـ.
1256- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم -) الخلة من أبي هريرة فلا ينافي لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً. الحديث (بثلاث) أي: من الخصال (صيام ثلاثة أيام من كل شهر) أي: سواء كانت البيض، أو السود أو غيرها أو ذلك؛ ليحصل مثل ثواب الشهر كله (وركعتي الضحى) هما أقل صلاة الضحي. وتقدم أن أكملها وهو أكثرها على الصحيح ثمان (وأن أوتر تبل أن أنام) احتياطاً؛ لئلا يغلبه النوم فيفوت عليه الوتر، وهو محمول على من لم يعتد الاستيقاظ آخر الليل، وإلا فالتأخير إليه أفضل لحديث "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" (متفق عليه) وقد سبق مشروحاً في باب فضل صلاة الضحى لكن بلفظ "أرقد" بدل "أنام".
1257- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني حبيبي) في تعبير أبي هريرة بالخلة، إيماء إلى شدة ملازمته ومرابطته، وهذا دونه فيها (- صلى الله عليه وسلم - بثلاث لن أدعهن) أي: أتركهن (ما عشت) أي: مدة عيشي، أي: حياتي وهو كناية عن المداومة على ذلك وعدم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: صلاة الضحى (3/47) ، وفي الصوم، باب: صيام البيض، (الحديث: 1981) بنحوه.
وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى ... (الحديث: 85) .

(7/63)


1260- وعن أَبي ذر - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثاً، فَصُمْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1261- وعن قتادة بن مِلْحَان - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُنَا بِصِيَامِ أيَّامِ البِيضِ: ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ. رواه أَبُو داود (2) .
1262- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يُفْطِرُ أيَّامَ البِيضِ في حَضَرٍ وَلاَ سَفَرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه.
1260- (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صمت من الشهر ثلاثاً) أي: إذا أردت صوم ثلاثة منها، وحذف التاء؛ لحذف المعدود وفي الإتيان بإذا إيماء؛ لشدة حرص المخاطب على ذلك وملازمته إياه (فصم ثالث عشره ورابع عشره وخامس عشره وأورده في الجامع الصغير، بلفظ "ثلاث عشره وأربع عشره وخمس عشره "وكذا هو في بعض نسخ الرياض، والجزءان مبنيان على الفتح على كلا الروايتين (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد والنسائي وابن حبان كما في الجامع الصغير.
1261- (وعن قتادة بن ملحان) بكسر الميم وسكون اللام بعدها مهملة، القيسي بالقاف المفتوحة، فالتحتية الساكنة، فالمهملة ابن قيس بن ثعلبة، مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه ووجهه قاله في أسد الغابة. روي له (رضي الله عنه) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان، كما ذكره ابن الأحزم في سيرته وغيره. (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بصيام أيام البيض) أبدل منها بدل مفصل من مجمل قوله (ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) ببناء الجزأين لفظاً وجرهما محلاً (رواه أبو داود) في الصوم ورواه فيه النسائي وابن ماجه، وبه يعلم شذوذ أقوال تسعة أو عشرة، حكاها الغزالي في تعيين أيام البيض، في غير ما ذكر، فلا يعوّل على شيء منها.
1262- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر) أي: أنه لازم عليها فيهما فصومها سنة مؤكدة، وحكمته أن في هذه الأيام
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، (الحديث: 761) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: في صوم الثلاث من كل شهر، (الحديث: 2449) .

(7/65)


1264- وعن أُمِّ عُمَارَةَ الأنصارِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ طَعَاماً، فَقَالَ: "كُلِي" فَقَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصَائِمَ تُصَلِّي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الترغيب والترهيب: ورواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ولفظ ابن خزيمة والنسائي "من جهز غازياً أو جهز حاجاً أو خلفه في أهله أو فطر صائماً كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء" وقال في حديث سلمان الذي رواه ابن خزيمة في صحيحه "ومن فطر فيه صائماً" يعني في رمضان "كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء" قالوا: ليس كلنا يجد ما يُفطر به الصائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعطي الله تعالى هذا الثواب، من فطر صائماً على تمرة، أو شربة ماء، أو مزقة لبن؛ الحديث.
1264- (وعن أم عمارة) بضم المهملة وتخفيف الميم (الأنصارية رضي الله عنها) المكنى بهذه الكنية، اثنتان من الأنصار.
إحداهما: نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مندول بن عمرو بن مازن بن النجار الأنصارية المازنية.
والثانية: غير مسماة كما ذكر ابن الأثير في أسد الغابة، وقال المزي: وهي جدة حبيب بن زيد ويقال: اسمها نسيبة بنت كعب بن عمرو، وذكر النسب إلى النجار وقد ذكر الترمذي نسبتها فقال: عن أم عمارة بنت كعب الأنصارية؛ ومقتضاه أنها الأولى كما صرح به المزي، وقد وقع في كلام بن عبد البر ما يقتضي أنها واحدة، وحكاه عن ابن الأثير، وقال: إن ابن منده وأبا نعيم جعلاهما اثنتين وذكرا لكل ترجمة، وفي التقريب للحافظ أنهما واحدة، كما في كلام ابن عبد البر ومثله في الأطراف للمزي، وهو ظاهر صنيع المؤلف، إذ لو كان يرى تعددهما لأتى بما يميز الراوية عن الثانية، وقد صرح الدميري بأنها نسيبة، وقال: شهدت العقبة مع السبعين وشهدت أحداً، وأبليت يومئذ بلاءً حسناً، هي وولدها عبد الله بن زيد وزوجها زيد بن عاصم وشهدت بيعة الرضوان وشهدت اليمامة، وجرحت يومئذ أحد عشر جرحاً وقطعت يدها. روى لها أصحاب السنن ثلاثة أحاديث، هذا أحدها. اهـ والله أعلم (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها) أي: زائراً ففيه زيارة أهل الفضل أتباعهم (فقدمت إليه طعاماً) فيه إكرام الضيف بإحضار الطعام (فقال: كلي) فيه إيماء إلى استحباب بدء رب المنزل بالأكل قبل الضيف لينشط لذلك (فقالت: إني صائمة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الصائم) أي: لأي صوم كان، من فرض بأنواعه، أو نفل (تصلي عليه الملائكة) أي

(7/67)


إِذَا أُكِلَ عِنْدَهُ حَتَّى يَفْرغُوا" وَرُبَّمَا قَالَ: "حَتَّى يَشْبَعُوا" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1265- وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ إِلَى سعد بن عبادة - رضي الله عنه - فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَأكَلَ، ثُمَّ قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ؛ وَأكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ" رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تستغفر له (إذا أكل عنده حتى يفرغوا) أي: الآكلون، المدلول على تعددهم بالجملة الشرطية (وربما قال:) حتى (يشبعوا) وضمير قال: الأقرب عوده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده أنه أورده في المشكاة بهذا اللفظ مقتصراً عليه، والمراد منه الإِشارة إلى اختلاف ألفاظه - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل على بعد عوده إلى أحد الرواة، وهذه الجملة مسوقة للشك في اللفظ النبوي على هذا. وعلى الأول لبيان صدور كل منهما منه - صلى الله عليه وسلم -. الأول كثيراً والثاني قليلاً (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي وانتهى حديث ابن ماجه إلى تصلي عليه الملائكة، ورواه النسائي أيضاً، كما في الأطراف للمزي.
1265- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى سعد بن عبادة) سيد الخزرج رضي الله عنه (فجاء بخبز وزيت) فيه إحضار ما سهل وأنه لا ينافي الجود فقد جاء سعد كأبيه من أجواد العرب (فأكل) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: بعد تمام الأكل (أفطر عندكم الصائمون) أي: أثابكم الله إثابة من فطر صائماً، فهي خبرية لفظاً دعائية معنى كجملة (وأكل طعامكم الأبرار) جمع بر، وهو التقي (وصلت عليكم الملائكة) أي: استغفرت لكم (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والبيهقي في السنن وابن السني من حديث أنس، ورواه ابن ماجه وابن حبان والطبراني. من حديث ابن الزبير، ولفظ ابن السني " كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر عند قوم دعا لهم فقال: أفطر عندكم " إلخ وروى ابن ماجه عن الزبير "قال: أفطر - صلى الله عليه وسلم - عند سعد بن معاذ فقال: أفطر عندكم إلى آخره" ورواه ابن ماجه في، صحيحه عنه لكن قال: ابن عبادة بدل ابن معاذ. قال القارىء في الحرز: ويمكن الجمع بتعدد القضة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب: ما جاء في فضل الصائم إذا أكل عنده، (الحديث: 785) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأطعمة باب: [ما جاء] في الدعاء لرب الطعام [إذا أكل عنده] ، (الحديث: 3854) .

(7/68)