دليل الفالحين
لطرق رياض الصالحين 7 - كتاب آداب السفر
بفتح أوليه: هو قطع المسافة اسم مصدر سافر، يقال ذلك إذا
خرج للارتحال أو لقصد مسافة فوق مسافة العدوى، لأن أهل
العرف لا يسمون مسافة المدوى سفراً، قاله في «المصباح»
وسمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وفي «المصباح»
أيضاً: قال بعض المصنفين: أصل السفر يوم كأنه أخذه من قوله
تعالى: {ربنا باعد بين أسفارنا} (سبأ: 19) فإن في التفسير
كان أقل سفرهم يوماً يقيلون في موضع ويبيتون في آخر ولا
يتزوّدون لهذا، وجمع السفر أسفار.
166 - باب استحباب الخروج يوم الخميس
سمي به لأنه خامس الأسبوع على الصحيح واستحبابه أول النهار
منه إن خرج فيه وإلا فمن أي يوم خرج فيه.
1956 - (عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه خرج في غزوة
تبوك) بفتح الفوقية وتخفيف الموحدة بالصرف وعدمه (يوم
الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس) جملة حالية ولذا كان
الأفضل الخروج يومه فالاثنين فالسبت (متفق عليه) .
(وفي رواية في الصحيحين قلما) «ما» فيه كافة لقلّ عن طلب
الفاعل مهيئة لدخولها على الجمل الفعلية (كان رسول الله
يخرج
(6/440)
إلا يوم الخميس) ساقه المصنف بعد ما قبله
لينبه على أن ندب الخروج يوم الخميس مأخوذ من محبته لذلك
وفعله.
2957 - (وعن صخر) بفتح المهملة وسكون المعجمة (ابن وداعة)
بفح الواو وبالدال وبالعين المهملتين (الغامدي) بالغين
المعجمة وكسر الميم، قال الأصبهاني في «لبّ اللباب» : نسبة
إلى غامد بطن من الأزد، واسمه عمر بن كعب بن الحارث بن كعب
بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد، قيل له غامد لأنه
كان بين قوم شرّ فأصلح بينهم وتغمد ما كان من ذلك. قال
الحافظ: وصخر هذا حجازي سكن الطائف الصحابي المتفق على
صحبته. قال أبو الفتح الأزدي وابن السكن: ما روى عنه إلا
عمار بن حديد، خرّج عنه الأربعة اهـ. روي له عن رسول الله
كما في «مختصر التلقيح» لابن الجوزي حديثان، وقال البرقي
له حديث واحد، ولم أقف على من ذكر عام وفاته (رضي الله عنه
أن رسول الله قال اللهم) أي يا الله أي يا الله (بارك)
المفاعلة للمبالغة: أي أنزل البركة العظيمة الكثيرة (لأمتي
في بكورها) بضم الموحدة والكاف. في «المصباح» . قال أبو
زيد في كتاب «المصادر» : بكر بكوراً وغدا غدواً هذان من
أول النهار. وفي «القاموس» : بكر عليه وإليه وفيه بكوراً
وابتكر وأبكر وباكره: أتاه بكرة، وفيه البكرة بالضم
الغدوة، وأدرج الراوي في آخر الحديث قوله (وكان إذا بعث
سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجراً فكان
يبعث) أي يرسل (تجارته أول النهار) طلباً للبركة الموعود
بها فيه (فأثرى) بالمثلثة أي سار ذا ثروة: أي غنى (وكثر)
بضم المثلثة (ماله) أي صار كثيراً (رواه أبو داود) في
الجهاد (والترمذي) في البيوع (وقال: حديث حسن) ولم يعرف
لصخر عن النبي غير هذا الحديث، قاله الحافظ ابن حجر في
«الإصابة» ، وتعقب بأن الطبراني أخرج
(6/441)
له آخر متنه «لا تسبوا الأموات» وروى حديث
الباب أحمد والنسائي في السير وابن ماجه في التجارات، وقد
رواه الترمذي من حديث ابن عباس كما في «الأطراف» .
176 - باب استحباب طلب الرفقة
أي طلب المسافر رفقة وهو مثلث الراء سموا بذلك للارتفاق
بهم (وتأميرهم على أنفسهم واحداً) والأولى أن يكون فقيها
حازماً عارفاً بأبواب السفر، وقوله (يطيعونه) جملة مستأنفة
لبيان حكمة التأمير وثمرته، ويجوز جعلها صفة لواحد: أي
ينبغي أن يكون الآمر مطاعاً لهيبته وجلاله.
1958 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لو
أن الناس يعلمون من الوحدة) بفتح الواو وسكون الحاء
المهملة: أي الانفراد في السفر (ما أعلم) أي الذي أو شيئاً
أعلمه أو علمي، ولا يخفى ما في هذه العبارة من الإيماء إلى
كثرة حذر الانفراد وأن ذلك لكثرته فوق أن يبين بالعبارة،
وأن ومدخولها مؤول بمصدر فاعل فعل الشرط: أي لو ثبت علم
الناس ما أعلم من ضرر الوحدة الدنيوي والديني كحرمانه من
الصلاة بالجماعة وعدم من يعينه في حوائجه، ولأنه ربما مرض
في الطريق فلا يجد من يتولى تمريضه، أو يموت فلا يجد من
يتولى أمره وحمل تركته لأهله، وهذا وإن كان يحصل أمره
بالثاني لكن كماله إنما يكون بالثلاثة فلذا قال في الحديث
بعده «والثلاثة ركب» (ما سار راكب) التعبير به باعتبار أنه
شأن المسافر وإلا فالمشي في السفر مثله (بليل) أي فيه،
والتقييد بزيادة الضرر الناشىء عن الانفراد وظلام الليل
(وحده) أي منفرداً، وجرى بعضهم على أن إضافة وحده للضمير
لم تكسبه التعريف لكونه المحل للحال وهو لا يكون إلا نكرة،
فمنع ذلك كسب الإضافة للتعريف وعليه فهو معرفة صورة فلا
يحتاج للتأويل، وما ذكرته أولاً هو ما عليه الجمهور لأنه
معرفة حقيقة بالإضافة وأنه أول لكون الحال لا يكون إلا
نكرة، ثم أخذ بعضهم بمفهوم قوله بليل فقال الكراهة في
الانفراد ليلاً لا نهاراً (رواه البخاري) قال
(6/442)
ابن مثال في «شرح المشارق» العلم في الحديث
بمعنى المعرفة، وراه أحمد والترمذي وابن ماجه بلفظ «لو
يعلم الناس من الوحدة ما أعلم» الخ.
2959 - (وعن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو
(عن أبيه عن جده) أي جد أبيه وهو عبد الله بن عمرو بن
العاص كما تقدم رضي الله عنه، وقد أخذ شعيب عن جده ابن
عمرو كما قدمناه (قال: قال رسول الله: الراكب شيطان
والركبان شيطانان) والتخصيص بالركوب لا مفهوم له لما ذكر
فيما قبله، وكذا الذكورة، فالمرأة والماشي كذلك. قال
العراقي: إن المعنى مع الراكب شيطان أو إن المعنى تشبيهه
بالشيطان، لأن عادته الانفراد في الأماكن الخالية كالأودية
والحشوش. وقال الخطابي: معناه أن التفرد والذهاب وحده في
الأرض من فعل الشيطان وهو شيء يحمل عليه الشيطان ويدعوه
إليه فقيل لذلك إن فاعله شيطان، وكذا الاثنان ليس معهما
ثالث (والثلاثة ركب) أي إذا وجد ذلك تعاضدوا وتعاونوا على
نوائب السفر ودفع ما فيه من الضرر، وأصل الركب هم أصحاب
الإبل، وأصحاب الخيل والبغال والحمير في معنى ذلك (رواه
أبو داود) في الجهاد من «سننه» (والترمذي) في الجهاد أيضاً
من «جامعه» (والنسائي) في السير، ورواه الحاكم في
«المستدرك» (بأسانيد صحيحة) التعداد باعتبار أول السند،
فرواه أبو داود عن القعنبي، ورواه الترمذي عن إسحاق بن
موسى عن معن، ورواه النسائي عن عتيبة ثلاثتهم عن عمرو
بإسناده المذكور (وقال الترمذي حديث حسن) .
3960 - (وعن أبي سعيد) هو الخدري (وأبي هريرة رضي الله
عنهما) قدم أبو سعيد ذلك ذكراً مع أن أبا هريرة أكثر منه
مروياً لأنه من الأنصار وأقدم إسلاماً (قالا: قال رسول
الله: إذا خرج ثلاثة) خرج الاثنان إن اعتبرنا مفهوم العدد،
وظاهر الحديث اعتباره
(6/443)
هنا، واستوجبه بعض شراح «الجامع الصغير» ،
وقال بعضهم: لا يبعد قياسهما على الثلاثة في ذلك، ولا
ينافيه كونهما شيطانين (في سفر) ولو مكروهاً كما اقتضاه
الإطلاق (فليؤمروا) ندباً فيما يتعلق بالسفر من أسبابه وما
يعرض فيه (أحدهم) ولو فاسقاً لأن هذه إمارة منوطة برضا
المولين ويحتمل خلافه، والفاسق مستثنى من أهلية الولاية
شرعاً، والمستثنى الشرعي غير داخل في الإطلاق ولا ينقض
بصحة توليته في بعض الأوقات للضرورة لأن ما جاز بالضرورة
لا نقض به، والأولى ولاية الأفضل الأجود رأياً، فإن تعارضا
فالثاني أولى لأن رعاية المصالح السفرية هي المقصودة
بالذات لأن التأمير إنما طلب لها، وينعزل هذا الأمير
بالعزل بحنحة أو بانقطاع السفر وهو وصول المقصد أو بإقامة
تمنع الترخص (حديث حسن) هذا من تحسينات المؤلف، بل صححه
الضياء وأورده في «المختارة» له (رواه أبو داود بإسناد
حسن) وقال في «فتح الكبير» : إنه إسناد صحيح، وما قاله
المصنف المقدم.
4961 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: خير
الصحابة) بفتح الصاد المهملة جمع صاحب، قال في «المصباح» :
صحبته أصحبه فأنا صاحب والجمع صحب وأصحاب وصحابة، قال
الأزهري: ومن قال صاحب وصحب مثل فاره وفره، والأصل في هذا
الإطلاق أنه لمن حصل له مجالسته اهـ: أي خير الأصحاب، قال
ابن رسلان: وهو كذلك في غير أبي داود (أربعة) قال الغزالي:
الذي ينقدح أن فائدة تخصيص الأربعة أن المسافر لا يخلو عن
رجل يحتاج إلى حفظه، وعن حاجة يحتاج إلى التردد فيها، فلو
كانوا ثلاثة لكان المتردد في الحاجة واحداً فيتردد في
السفر بلا رفيق فلا يخلو عن ضيق القلب لفقد أنس الرفيق،
ولو تردد في الحاجة اثنان لكان الحافظ للرجل وحده فلا يخلو
عن الخطر ولا عن ضيق القلب، فما دون الأربعة لا يفي
بالمقصود وما زاد عليها زيادة على الحاجة، ومن يستغني عنه
لا تصرف الهمة إليه، فخير الرفاق الخاصة أربعة. قلت: ويصح
أن تكون للعهد أي خير أصحاب رسول الله أربعة ويراد بهم
الخلف الأربع والأول أقرب، ثم رأيت العاقولي قال: هو مطلق،
فإن حملته على الصحابة فما أنت ببعيد عن الصواب وهم
الأربعة الخلفاء الراشدون، وسرت بركتهم إلى كل عدد أربعة
فصار خير الأصحاب مطلقاً أربعة، والله أعلم
(6/444)
(وخير السرايا) جمع سرية، قال النووي: هي
القطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه. وقال إبراهيم
الحربي، هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها فلذا جعلها خير
السرايا فقال خير السرايا (أربعمائة) سميت بذلك لأنها تسري
في الليل ويخفى ذهابها فعليه بمعنى فاعلة، يقال سرى وأسرى
إذا ذهب ليلاً. وضعف ابن الأثير ذلك وقال: سميت بذلك لأنها
خلاصة العسكر من الشيء السري: أي النفيس. قال ابن رسلان:
والظاهر أنه ليس المراد التحديد بالأربعمائة، ألا ترى إلى
خير السرايا وهي عدة أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر، وكذا عدة
أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاوز معه إلا مؤمن، فعليه
خير السرايا ما بين ثلثمائة إلى
أربعمائة ومن أربعمائة إلى خمسمائة اهـ. وفيه بعد لأن
المراد به بيان أحسن مراتب عدد السرية، وأقل من هذا العدد
لا يجري مجراه، وما فوقه زيادة على الحاجة وفضل ما ذكر
لأمر خارجي لا ينافي التحديد في الحديث (وخير الجيوش) بكسر
الجيم وضمها (أربعة آلاف) خصت الأربعة آلاف نظير الأربعة
في الآحاد ولعله لما ذكر آنفاً فيما قبله من الإحزاء به
دون ما دونه (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً) من الجيش (من)
تعليل أي لأجل (قلة) أي قلة عدد بل لسبب آخر من عجب بكثرة
أو تزيين الشيطان لهم أمرا نشأ عنه خذلهم أو نحو ذلك، وقد
زاد العسكري في روايته «وخير الطائع أربعون» (رواه أبو
داود) في الجهاد (والترمذي) فيه أيضاً (وقال: حديث حسن)
ورواه الحاكم في «المستدرك» .
168 - باب آداب السير والنزول في منازل السفر والمبيت
مصدر ميمي أي البيات (والنوم في السفر) الظرف حال من الجمع
بأن يقدر متعلقه
(6/445)
عاماً مجموعاً: أي كاثنات فيه (واستحباب
السري) بضم فكسر فتشديد ياء: أي السير ليلاً (والرفق
بالدواب) بأن لا تحمل فوق الطاقة ولا تجدّ في الإسراع فوق
القدرة (ومراعاة مصلحتها) أي ما يصلحها (وأمر من قصر في
حقها بالقيام بحقها) وجوباً إن قصر في واجب منه وندباً إن
قصر في مندوب (وجواز الإرداف) بل طلبه عند الحاجة إليه
لوجه الله تعالى (على الدارة إذا كانت تطيق ذلك) عبَّر فيه
بإذا إيماء إلى أن شرط جوازه تحقق ذلك، فإن تردد في
إطاقتها حرم إردافها.
1962 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
إذا سفرتم في الخصب) بكسر الخاء المعجمة وسكون الصاد
المهملة هو خلاف الجدب وهو اسم مصدر من أخصب المكان
بالألف، وفي لغة خصب المكان من باب تعب إذا نبت فيه العشب
والكلأ (فأعطوا الإبل) بكسر أوليه ويسكن الثاني تخفيفاً
اسم جنس (حظها) وعند أبي داود حقها بالقاف بدل الظاء، قال
ابن رسلان: ومعناهما متقارب (من الأرض) قال البيضاوي: يعني
دعوها ساعة فساعة ترعى (وإذا سافرتم في الجدب) قال في
«المصباح» : هو المحل وزناً ومعنى: وهو انقطاع المطر ويبس
الأرض، يقال جدب البلد بضم الدار جدوبة (فأسرعوا عليها
السير) وعطف على ذلك الباعث على الإسراع بقوله (وبادروا
بها) بالموحدة (نقيها، وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق) أي
النزول بها بل اعدلوا وأعرضوا عنها، وعلل ذلك بقوله (فإنها
طرق) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً جمع طريق أي محل ممر
(الدواب) لسهولتها فربما تضرّ بالنازل بها (ومأوى الهوامّ
بالليل) أي محل إيوائها وذلك أنها تقصد ذلك بالإلهام لكونه
ممراً فيسقط به شيء من المأكول ونحوه وعادي إليه بالتماس
ذلك (رواه مسلم) ورواه أبو داود أيضاً والترمذي:
(معنى أعطوا الإبل حظها) بفتح المهملة وإعجام الظاء
المشددة وهو النصيب (من الأرض) متعلق بأعطوا. ويجوز تعلقه
بحظ وإعرابه حالاً من المفعول (أي ارفقوا بما في السير)
بترك الإسراع لئلا يكون مانعاً لها من الرعى بل ارفقوا
(لترعى) في حال
(6/446)
سيرها فتجمع بين استيفاء ما عليها منا لسير
وما لها من تناول ذلك (وقوله نقيها هو بكسر النون وإسكان
القاف وبالياء المثناة من تحت وهو المخ) هو بيان للمراد من
الحديث: أي أريد بالنقي المخ مجازاً مرسلاً من إطلاق اسم
المحل على الحال كإطلاق الغائط على الخارج، ففي «القاموس»
و «المصباح» النقو والنقي كل عظم ذي مخ، لكن متقضى قول
«النهاية» : النقي المخ، يقال نقيت العظم ونقوته ونقيته
اهـ أنه لذلك المعنى، وأنه من المعاني التي ذكرها أصحاب
كتب الغرائب دون مدوني كتب اللغة (معناه) أي معنى قوله
«وإذا سافرتم» في الجدب إلى قوله «نقيها» (أسرعوا بها حتى
تصلوا المقصد قبل أن يذهب مخها من ضنك) أي جهد (السير
والتعريس) قال الخليل ابن أحمد: والأكثرون هو (النزول في
الليل) للنوم أو الاستراحة، وقال أبو زيد: هو النزول أيّ
وقت كان من ليل أو نهار.
2963 - (وعن أبي قتادة) تقدم الخلاف في اسمه والراجح أن
اسمه الحارث بن النعمان (رضي الله عنه قال: كان رسول الله
إذا كان في سفر فعرس بليل) ذكره مع أن التعريس لا يكون إلا
ليلاً ليفيد بقاء جانب من الليل له وقع (اضطجع على يمينه)
لأن النفس تستوفي حقها من النوم لبقاء ما بقي من الليل،
والنوم على اليمين أشرف جهة ولئلا يستغرق في النوم لكون
القلب يكون حينئذ معلقاً فلا ينغمر في النوم (وإذا عرس
قبيل الصبح) أي في أواخر الليل والباقي منه لا يقوم حظ
البدن من المنام (نصب ذراعه) أي اليمين لأنها الأشرف (ووضع
رأسه على كفه) المنصوب ذراعها (رواه مسلم) في الصلاة،
ورواه الترمذي في «شمائله» (قال العلماء: إنما نصب ذراعه
لئلا يستغرق في النوم) لو نام مضطجعاً (فتفوت صلاة الصبح)
بأن يستمر نائماً إلى طلوع الشمس كما في قصة نومه بالوادي
(عن
(6/447)
وقتها أو عن أول وقتها) بأن يستيقظ قبل
طلوعها بعد الإسفار مثلاً، والنوم قبل دول وقت الصلاة جائز
وإن علم تفويتها به، وبعد دخوله لا يجوز إلا إن غلبه بحيث
أذهب إحساسه، أو كان يعلم قيامه قبل خروج الوقت بوجود من
يوقظه أو يعلم ذلك من عادته.
3 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: عليكم
بالدلجة) بضم فسكون وبفتحتين وهو سير الليل سحراً كان أو
غيره بدليل قوله (فإن الأرض تطوى) بضم الفوقية مبني
للمفعول (بالليل) أي فيه أو بسببه والطيّ قيل على حقيقته
وأنها ينزوي فيه بعضها إلى بعض ويدخل فيه، وقد ورد «عليكم
الدلجة فإن لله ملائكة يطوون الأرض للمسافر كما تطوى
القراطيس» رواه الطبراني وغيره، وقيل إنه مجاز عن قطع
الدوابّ فيه من المسافة مالا تقطعه منها في النهار لنشاطها
ببرد الليل، خصوصاً آخره الذي ما فعل فيه شيء من العبادات
والمباحات إلا كان فيه البركة الكثيرة لأنه وقت التجلي،
وقال تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} (هود: 81) أي سر
في سواد الليل: أي إذا بقي منه قطعة، وقال ابن رواحة.
عند الصباح يحمد القوم السري
وتنجلي عنهم غيابات الكرى
ثم قد ورد النهي عن السير أول الليل، قال «لا ترسلوا
مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء»
وهو في الصحيح، وقد كره البيهقي السير أول الليل لذلك،
وتعقبه المصنف في المجموع بأنه لا يقتضي إطلاق الكراهة
قال: والمختار أنه لا يكره، قال الشيخ عبد الرءوف المكي
الواعظ: كراهة إرسال المواشي حينئذ محمولة على إرسالها من
غير حافظ لها (رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه الحاكم في
«المستدرك» والبيهقي (الدلجة) بالوجهين السابقين في ضبطه
(السير في الليل) أي جزء منه أولاً كان أو آخراً.
(6/448)
وقال ابن رسلان الدلجة: بالضم فالسكون سير
آخر الليل فيه البركة.
4965 - (وعن أبي ثعلبة) بفتح المثلثة وسكون المهملة بينهما
(الخشنى) بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية بعدها نون، قال
في التقريب: مشهور بكنيته، قيل اسمه جرثوم أو جرثومة أو
جرثم أو جرهم أو لا شر بمعجمة مكسورة بعدها راء أو لاش
بغير راء أو لا سومة أو ناسب أو ياسر أو عروق أو سواء أو
زيد أو الأسود. واختلف في اسم أبيه أيضاً، مات (رضي الله
عنه) سنة خمس وسبعين، وقيل بل قبل ذلك بكثير في أول خلافة
معاوية بعد الأربعين، خرّج له الستة اهـ. وروي له عن النبي
أربعون حديثاً. أخرج له في الصحيحين أربعة، اتفقا على
ثلاثة منها، وانفرد مسلم بواحد (قال: كان الناس إذا نزلوا)
بالبناء للفاعل (منزلاً) أي في مكان من منازل سفرهم
(تفرقوا في الشعاب) بكسر الشين المعجمة جمع شعب بالكسر وهو
الطريق في الجبل كذا في «المصباح» (والأودية) جمع واد،
وتقدم أنه كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذاً لليل
(فقال رسول الله: أي تفرقكم في هذه الشعاب) ظرف لغو متعلق
بالمصدر قبله أو مستقر في محل الحال أو الصفة: أي تفرقكم
حال كونه كائناً أو الكائن لأن الإضافة فيه للتعريف الجنسي
(والأودية، إنما ذلكم) توكيد لما قبله لطول الفصل بالظرف
بعد اسمها فهو نظير قوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم
وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} (المؤمنون: 35) والمشار
إليه التفرق وجمع كاف الخطاب لجمع المخاطبين وهي في اللغة
الفصيحة تختلف باختلاف إفراداً وتذكير وضديهما والخبر قوله
(من الشيطان) أي ناشىء من وسواسه وإغوائه وذلك أن المراد
من الرفقة دفع ما يعرض في السفر من عدم ركوبه والإعانة على
نوائب السفر والتفرق مانع منه (فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً)
أي من منزل (إلا انضم بعضهم إلى بعض) امتثالاً لإشارة
المصطفى، وتحرجاً من العمل الداعي إلى الشيطان كما نطق به
الخبر، وتلبساً بالأمر الداعي إليه الرحمن كما دل عليه
مفهوم الخبر (رواه أبو داود بإسناد حسن) .
(6/449)
g
5966 - (وعن سهل) بفتح فسكون (ابن عمرو، وقيل سهيل بن
الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة (ابن عمرو) بن عدي بن زيد
(الأنصاري) الأوسي من بني حارثة (المعروف بابن الحنظلية)
بفتح المهملة والظاء المشالة وسكون النون بينهما: اسم أمه
أو من أمهاته. وعلى وصفه بهذا اللفظ اقتصر في «أسد الغابة»
في باب ما يعرف بابن فلانة فقال ابن الحنظلية، ولم يسق
الخلاف المذكور في اسم أبيه (وهو من أهل بيعة الرضوان)
التي كانت بالحديبية تحت الشجرة قال في «أسد الغابة» في
الأسماء: وكان معتزلاً عن الناس كثير الصلاة والذكر، كان
لا يزال يصلي مهما هو بالمسجد،. فإذا انصرف لا يزال ذاكراً
من تسبيح وتهليل حتى يأتي أهله وسكن دمشق ومات بها أول
خلافة معاوية ولا عقب له (رضي الله عنه) وفي «الإصابة»
للحافظ بن حجر: اسم أبيه الربيع، وقيل عبيد، وقيل عقب بن
عمرو وقيل عمرو بن عدي وهو الأشهر وعدي هو ابن عمرو بن
مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي. قال ابن أبي خيثمة:
والحنظلية أمه وقبل جدته وقيل أم جده. قال ابن سعد:
الحنظلية أم عمرو بن عدي واسمها أم إياس بن دارم التميمية،
فمن كان من ولد عمرو قيل له ابن الحنظلية. قال البخاري: له
صحبة، وكان عقماً. وقال غيره: شهد المشاهد كلها إلا بدراً
اهـ. وقال المزي في «الأطراف» : قيل له ابن الحنظلية لأن
أم أبيه من بنى حنظلة من تميم، وذكر له في «الأطراف» خمسة
أحاديث، ولا شيء له في الصحيحين، وذكره ابن الجوزي في
«مختصر التلقيح» فيمن روي له في مسند تقي بن مخلد تسعة
أحاديث بتقديم الفوقية والله أعلم (قال: مرّ رسول الله
ببعير) قال في «المصباح» : هو مثل الإنسان يقع على الذكر
والأنثى، والجمل بمنزلة الرجل يختص بالذكر والناقة بمنزلة
المرأة تختص بالأنثى (قد لحق) وفي لفظ السنن بالصاد بدل
الحاء (ظهره ببطنه) أي من الجوع والجهد (فقال اتقوا الله)
وتقواه واجبة مطلقاً، ويتأكد الوجوب بأسباب بالنسبة
لحال المخاطبين ووقائع الأحوال: منها قوله هنا (في هذه
البهائم) الممتن عليكم شرعاً بركوبها ونحوه (المعجمة) صفة
نص عليها للاستعطاف عليها ومزيد الشفقة بها والمعجمة بصيغة
المفعول والعجماء بمعنى، وسميت به البهيمة لأنها لا تتكلم،
ومن لا يفصح بكلامه يقال فيه أعجم ومعجم ومستعجم. قال
الدميري: وسميت البهيمة بهيمة لأنها لا تتكلم (فاركبوها)
أمر إباحي (صالحة) أي للركوب أي حيث كانت تطيقه
(6/450)
وهو حال من المفعول (وكلوها) أمر كالذي
قبله (صالحة) للأكل بأن ذكيت ذكاة شرعية، وقد يقال في
وصفها بالصلاح إيماء إلى الأمر بأسباب صلاحيتها، وخرج
بصالحة ما لا تصلح للأكل كالهدي الواجب بنذر أو غيره، فلا
يصلح للمهدي الأكل منها، والاقتصار على الركوب والأكل
لأنهما أظهر منافعها أو للتنصيص على أن الوصف بالصلاحية
فيهما أهم منه في غيرهما (رواه أبو داود بإسناد صحيح)
ورواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما» .
6967 - (وعن أبي جعفر عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب
القرشي الهاشمي (رضي الله عنهما) أمه أسماء بنت عميس
الخثعمية، وقدم مع أبيه المدينة من الحديبية، وهو أخو محمد
ابن أبي بكر الصديق ويحيى بن علي بن أبي طالب لأمهما، وروي
له عن رسول الله خمسة وعشرون حديثاً اتفقا على حديثين
منها، توفي رسول الله وله عشر سنين. قال الحافظ في
«التقريب» : مات سنة ثمانين وهو ابن ثمانين سنة (قال:
أردفني رسول الله) أي حملني خلفه على ظهر الدابة (ذات يوم)
قال الحافظ في مقدمة «فتح الباري» : تكرر قوله ذات يوم
وذات ليلة وذات بينكم، وكله كناية عن نفس الشيء وحقيقته،
وتطلق على الخلق والصفة، وأصلها اسم إشارة للمؤنث، وقد
تجعل ذات اسماً مستقلاً فيقال ذات الشيء، وقوله (خلفه)
تأكيد لمفهوم قوله أردفني، أو جرد الإرداف عن كونه خلف
الراكب وأريد به مطلق الحمل معه على الدابة وهو بالنصب ظرف
مكان (وأسر) أي أخفى (إليّ حديثاً لا أحدث به أحداً من
الناس) جملة النفي محتملة لكونها صفة حديث: أي حديثاً شأنه
ألا أبديه لأحد، ولكونها مستأنفة وأتى بها لئلا يطلب منه
بيانه (وكان أحب) بالنصب خبر كان مقدم، ويجوز الرفع اسمها،
والأول أولى لكونه وصفاً وهو بالإخبار أليق، ويؤيده اتفاق
الأصول على رفع هدف (ما استتر به رسول الله) أي من الأعين
عند قضاء حاجة الإنسان كما في نسخة لحاجة (هدف) بفتح أوليه
قال في «المصباح» هو كل شيء عظيم مرتفع، قاله ابن فارس مثل
الجبل وكثيب الرمل والبناء والجمع أهداف كسبب وأسباب
(6/451)
(أو حائش) بالمهملة وبعد الألف همزة فشين
معجمة (نخل) وقال عبد الله بن أسماء الضبعي أحد شيخي مسلم
فيه كما صرح به مسلم بقوله قال ابن أسماء (يعني) أي ابن
جعفر بقوله حائش نخل بالشين المعجمة (حائط نخل) بالطاء
المهملة والحائط هو البستان وجمعه حوائط، وسمى حائطاً لأنه
يحوط ما فيه من الأشجار وغيرها (رواه مسلم) في الطهارة
(هكذا مختصراً) ورواه أيضاً في
الفضائل وليس فيه قوله وكان أحب الخ» .
(وزاد فيه) الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن أحمد بن غالب
(البرقاني) بفتح الموحدة والقاف وسكون الراء بينهما
الخوارزمي نسبة إلى قرية من قرى كانت بنواحي خوارزم خربت.
قاله الأصبهاني في «لبّ اللبابّ» قال: الفقيه المحدث
الأديب الصالح (بإسناد مثل هذا بعد قوله حائش تخل فدخل
حائطاً لرجل من الأنصار فإذا) فجائية (فيه جمل) أي عند
الباب كما في رواية (فلما رأى) أي أبصر (الجمل النبي جرجر)
أي صوت، والجرجرة بجيمين وراءين: صوت يردده البعير في
حلقه، وعند أبي داود حن بالمهملة والنون المشددة (وذرفت)
بالمعجمة وفتح الراء (عيناه) أي سال منهما الدمع حين رآه،
وفي رواية حتى ابتل ما حوله من الدموع وهذا من معجزاته
الدالة على صدق نبوته (فأتاه النبي) تواضعاً منه (فمسح
سراته) بفتح أوليه المهملين وبعد الألف فوقية فسره بقوله
(أي سنامه وذافراه) وفي «النهاية» : سراة: كل شيء ظهره
وأعلاه، ومنه الحديث «فمسح سراة البعير وذفراه» ثم هذا
التفسير يحتمل أن يكون من بعض الرواة أدرجه، وأن يكون من
المصنف رحمه الله تعالى، وعند أبي داود، فمسح ذفريه بالياء
بدل الألف، قال ابن رسلان: قلبت الألف فيه ياء وهي ألف
التأنيث. قلت: الظاهر أنها حينئذ ألف المثنى وإلا فألف
التأنيث لا تقلب ياء في مثله والله أعلم، ويأتي ضبطه
ومعناه، وفعله به ذلك من كمال شفقته ومزيد رحمته (فسكن) أي
ما به من ذلك الصوت (فقال: من ربّ هذا الجمل) أي صاحبه.
وفيه دليل لإطلاق الربّ مضافاً على غير الله تعالى، أما
المعرف
(6/452)
باللام فلا يطلق على غير الله تعالى (لمن
هذا الجمل) لعله كرر السؤال عن مالكه لشدة اعتنائه بمعرفته
وكثرة شفقته على الجمل (فجاء فتى من الأنصار) لم أقف على
من سماه، وفي رواية لأحمد «فقال النبي: انظر لمن هذا
الجمل، قال: فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار،
فدعوته له فقال: ما شأن جملك
هذا؟ فقال: ما شأنه؟ لا أدري والله ما شأنه عملنا عليه
ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره
ونقسم لحمه، قال: فلا تفعل» قال ابن رسلان: في هذه الرواية
منع نحر الجمل إذا: أزمن وعجز عن العمل وإن أريد أكل لحمه
وقد صرح به أصحابنا اهـ. ولم أر من نقله عن أصحابنا والله
أعلم. (فقال: وهذا لي يا رسول الله: قال: أفلا تتقي الله
في هذه البهيمة) أي أتهمل أمرها فلا تتقي الله في أمرها.
قال الأزهري: البهيمة في اللغة معناها المبهمة عن العقل
والتمييز، والمعنى: ألا تتقي الله فيما لا لسان لها فتشكو
ما بها من جوع وعطش ومشقة، فهو أبلغ في الأمر بالتقوى فيها
من نحو اتق الله (التي ملكك الله) أظهر في مقام الإضمار
لزيادة الحض والحث على التقوى فيها (إياها) أي أنعم بها
عليك فلا تقابل نعمته بمعصيته بل بالشكر والإحسان ليدوم لك
الامتنان، ثم ذكر الداعي إلى تحريضه على إصلاح شأنها بقوله
(فإنه) التذكير باعتبار أنه جمل: أي فإن الجمل، وفيه تفنن
في التعبير (يشكو إليّ) لا مانع من إجرائه على حقيقه، وعرف
النبي ذلك باطلاع الله تعالى له عليه فهو من جملة معجزاته
أو فهم ذلك من أحواله (أنك تجيعه) بضم أوله (وتدئبه) بضم
التاء الفوقية أيضاً مضارع من الإفعال من الدأب بمهملة ثم
همزة ثم موحدة: أي تكده وتتعبه في العمل، وفي رواية لأحمد
«شاكياً كثرة العمل وقلة العلف» (ورواه أبو داود) في
الجهاد (كرواية البرقاني) بتفاوت بسير منه على بعضه (قوله
ذفراه هو بكسر الذال المعجمة وإسكان الفاء وهو لفظ مفرد
مؤنث) قال أهل اللغة الذفري الموضع الذي يعرق من الإبل خلف
الأذن، وقوله (تدئبه) بالضبط المذكور فيه (أي تتعبه) بضم
الفوقية إفعال من التعب.
(6/453)
7968 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا) أي
معشر الصحابة (إذا نزلنا منزلاً) أي في منزل من منازل
السفر (لا نسبح حتى نحل) بضم المهملة (الرحال) أي نضعها عن
ظهور الجمال، والرحال بكسر الراء وبالمهملة جمع رحل بفتح
فسكون: هو كل شيء يعدّ للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير
وحلس ورسن، ويجمع في القلة على أرحل كبحر وأبحر كذا في
«المصباح» (رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم) فرواه في
الجهاد عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة عن حمزة
الضبي عن أنس (وقوله لا نسبح: أي لا نصلي النافلة) وأطلق
على الصلاة بطريق المجاز المرسل من تسمية الكل باسم الجزء
ففيه مجاز مرسل تبعي.
(ومعناه أنا مع حرصنا) بكسر الحاء المهملة وسكون الراء
(على الصلاة) واهتمامنا بها (لا نقدمها على حط الرحال
إراحة للدواب) وإن كان فيه مبادرة للطاعة ومسارعة بالعبادة
لكن يقدم عليها إراحتها شفقة ورحمة. وفي «حواشي سنن أبي
داود» للمنذري وقد قال الحافظ: إن لفظ «لا» وإن الصواب
«كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحلّ الرحال» رواه غير
واحد من الثقات، فرواه ابن السني بلفظ «كنا إذا نزلنا
سبحنا حتى نحل الرحال» فقيل معناه نشتغل بالصلاة: تحية
المنزل والتنفل ونحوه حتى يطأ أصحاب الرحال رحالهم، ثم
نجتمع ونشتغل ببعض ما يشتغل به المسافر إذا حلّ من تهيئة
الطعام، لكن الذي رأيناه في النسخ المعتمدة «لا نسبح»
بزيادة لا النافية وهو أقرب إلى المعنى. فإن تأخر سبحة
النافلة له فوائد: منها إراحة البهائم التي لم تصل إلى
المنزل إلا وقد حصل لها التعب الكثير، فاشتغالهم بالصلاة
فيه تأخير بالحط عنها، بخلاف ما إذا اشتغل الجميع بالحط،
ولأن حط أصحاب الرحال رحالهم يشغل خاطر المصلي، وفي الخبر
استحباب التنفل بالسفر كالحضر. وقد حكى المصنف اتفاق
الفقهاء على استحباب النفل المطلق في السفر والخلاف في
الراتبة، ثم استدلال المصنف بهذا مبني على القول بأن قول
الصحابي كنا نفعل كذا مرفوع حكماً، سواء أضافه إلى زمن
النبي أو لا، وهو ما عليه الإمام والحاكم والإمام فخر
الدين الرازي. وقد قال ابن الصباع في العدة: إنه الظاهر،
وقد أطلق الحاكم ما ذكر الإمام والسيف
(6/454)
الآمدي ولم يقيداه بالتقييد بالعهد النبوي،
قال في «المجموع» : وبه قال كثير من الفقهاء، وهو قوي من
حيث المعنى، والذي عليه ابن الصلاح أنه حيث لم يقيد بالعهد
النبوي موقوف لفظاً وحكماً.
169 - باب إعانة بالمهملة والنون (الرفيق) يحتمل أن يكون
المصدر مضافاً لفاعله: أي إعانة الرفيق من سعة، ويحتمل أنه
مضاف للمفعول: أي إعانة المسافر الرفيق: أي المرافق في
السفر.
(في الباب) أي مطلق الإعانة (أحاديث كثيرة تقدمت كحديث:
والله في عون العبد) أي الإنسان (ما كان العبد) مدة كون
العبد (في عون) أي إعانة (أخيه) مصدر مضاف للمفعول (وحديث:
كل معروف) أي يطلب ويعرف شرعاً (صدقة) ودخل ما ترجم له
الباب في عموم كل منهما (وأشباههما) أي أحاديث تشبه ما ذكر
من الحديثين في طلب نفع الغير، وقد جمع من ذلك الحافظ
المنذري أربعين حديثاً وأوردناها في «إيقاظ النائم من سنة
نومه» ببعض فوائد قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه}
(البقرة: 60) .
1969 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن
في سفر) أي مع النبي (إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف)
بفتح أوله وكسر ثالثه أي يقلب (بصره يميناً وشمالاً) ينظر
من يتوسم فيه الإعانة (فقال رسول الله من) أي الذي (كان
معه فضل ظهر) مركوب فاضل عن حاجته إليه (فليعد) بفتح
التحتية أي من العائدة بمعنى الصلة (به) الباء للتعدية
(على من لا ظهر له) أي يواسي من عنده ذلك المحتاج بإركابه
(6/455)
على الظهر، وحمله ابن مالك على العود بمعنى
الرجوع فقال وهذا: أي العود بالظهر قد يحصل بلا عود، وإنما
عبر عنه بالعود لأن الغالب في من لا مركب له التأخر عن
الرفقاء ومواساته إنما تحصل بالعود (ومن كان له فضل زاد)
أي زاد فاضل عن حاجته (فليعد به على من لا زاد له) أراد به
كما قبله الإحسان، وقال ابن مالك: عبر عنه بالعود لما
ذكرنا أو للمشاكلة (فذكر) أي النبي أنواعاً (من أصناف
المال) وأن من عنده الفضل منها عاد به على من لا شيء له
منها، وقوله (حتى) غاية لذكر الأصناف: أي ما زال يستقرى.
أصناف المال ويأمر بالتصدق بفضولها إلى أن (رأينا) أي
علمنا أو ظننا (أنه لا حق) أي استحقاق (لأحد منا في فضل)
أي فاضها منها وأنه يجب دفعها للمحتاج إليه (رواه مسلم)
ورواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى وابن حبان كلهم عن أبي
سعيد كما في «الجامع الكبير» .
2970 - (وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله: إنه إذا أراد
أن يغزو قال: يا معشر) وفي «المصباح» المعشر والقوم والرهط
والنفر والجماعة الرجال دون النساء وجمعه معاشر (المهاجرين
والأنصار) قدم الأولين لأفضليتهم بالسبق (إن من إخوانكم
قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة) هي القبيلة ولا واحد لها من
لفظها والجمع عشيرات وعشائر (فليضم أحدكم إليه الرجلين
والثلاثة) أي أحدكم يضم الاثنين وأحدكم يضم ثلاثة على حسب
الحال من اليسار والإعسار (فما لأحدنا) أي الأغنياء
الواجدين (من ظهر يحمله إلا عقبة) بضم فسكون منصوب على
المصدر (أحدهم) يعني كعقبة أحدهم، والمعنى أنهم كانوا
يتساوون في تناوب ركوب الظهر فيركب المالك عقبة وذلك
المسكين كذلك (قال: فضممت إليّ اثنين أو) شك من الراوي
(ثلاثة) بالنصب (وما لي إلا عقبة أحدهم) جملة حالية من
فاعل ضممت (من
(6/456)
جملى) بفتح أوليه أي من ركوبه (رواه أبو
داود) .
3971 - (وعنه قال: كان رسول الله يتخلف في المسير) مصدر
ميمي أي في السير في السفر فيكون في آخر الناس (فيزجى)
بالزاي والجيم من الإزجاء: أي يسوق (الضعيف) في «القاموس»
زجاه ساقه ودفعه كزجاه وأزجاه (ويردف) أي يركب على دابة
(ويدعو له) فيعان ببركة دعوته ويصل لمطلبه (رواه أبو داود
بإسناد حسن) ورواه الحاكم في «المستدرك» .
170 - باب ما يقوله أي الراكب (إذا ركب دابته) أي عند
ركوبها (للسفر) ظاهر عمومه ولو كان غير مباح كالسفر لنحو
قطع طريق، ولا بعد فيه لأن الجهة منفكة، وظاهر عبارته أنه
لا يأتي به وقت ركوبها في غير السفر، وظاهر الآية طلب
الذكر حينئذ وهو الأقرب وذكر السفر جرى على الغالب.
(قال الله تعالى) : ( {وجعل} ) أي خلق ( {لكم من الفلك} )
أي السفن ( {والأنعام} ) جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم،
والمراد منه هنا الإبل (ما تركبون) أي الذي تركبونه بحذف
العائد اختصاراً ( {لتستووا على ظهوره} ) ذكر الضمير وجمع
الظهر نظراً للفظ ما ومعناها ( {ثم تذكروا نعمة ربكم} ) أي
إنعامه عليكم ( {إذا استويتم عليه} ) أي وقت استوائكم عليه
فهو ظرف لتذكروا ( {وتقولوا} ) أي عند الركوب ( {سبحان
الذي سخر لنا هذا} ) أي إنه مقدس عما
(6/457)
لا يليق به منتزه عن سائر سمات الحوادث من
الركوب والاستقرار على شيء ( {وما كنا له} ) أي لتسخيره
المدلول عليه بقوله سخر لنا هذا أوله: أي المشار إليه (
{مقرنين} ) أي مطيقين ( {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ) ذكر
لتنبيه الغافل للموت الذي قد ينشأ عن الركوب من تعثر
الدابة وسقوطه عنها فيحمله ذلك على الاستكانة لله سبحانه
والتوبة عن سائر المخالفات.
1972 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله كان إذا
استوى على بعيره) ليس ذكره لتقييد طلب الذكر به بل يطلب
عند ركوبه كل مركوب (خارجاً إلى السفر) أي سفر كان (كبر)
أي قال الله أكبر (ثلاثاً) ظرف لكبر ( {ثم قال: سبحان الذي
سخر لنا هذا} ) أي ذلله فتسخر قال الله تعالى: {وذللناها
لهم} (يس: 72) ( {وما كنا له مقرنين} ) جملة حالية من
مجرور واللام ( {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ) جملة حالية
أيضاً من «الذي» قبله أو من اسم كان أو ضمير خبره، فعلى
الأول حال مترادفة وعلى الآخر حال متداخلة (اللهم إنا
نسألك في سفرنا هذا) أي بخصوصه (البر) بكسر الموحدة أي
الخير والفضل أو عمل الطاعة وعليه فعطف قوله (والتقوى) من
عطف العام على الخاص إن أريد بها الكف عن المخالفة وفعل
الطاعة، وإن أريد بها الكفّ عن المعصية فهو من عطف المغاير
وسؤال ذلك فيه لأن السفر مظنة ترك البرّ والتقوى إلا
بتأييد من الله سبحانه (ومن العمل ما ترضى) أي ما تحبه
وتقبله والعائد محذوف (اللهم هون علينا سفرنا) أي مشقته أو
المشقة فيه ووصفه بقوله (هذا) لما تقدم (واطو) بوصل
الهمزة: أي أزل أو ادفع (عنا بعده) أي حقيقة أو حكماً
(اللهم أنت الصاحب) قال في «الفائق» : أي الملازم، وأراد
بذلك مصاحبة الله إياه بالعناية والحفظ من الحوادث
والنوازل في السفر.t
قال الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي: إطلاق الصاحب على الله
تعالى بقيد (في
(6/458)
السفر) جائز لا غير مقيد به لأن أسماءه
تعالى توقيفية، وكذا كل ما ورد مقيداً كقوله (والخليفة) أي
المعتمد عليه والمفوض إليه حضوراً وغيبة (في الأهل) ولا
يطلق عليه كل من الصاحب والخليفة من غير قيد اهـ ملخصاً.
قال التوربشتي: الخليفة هو الذي ينوب عن المستخلف عنه،
والمعنى: أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي أن
يلم شعثهم ويداوي سقيمهم ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم
(اللهم إني أعوذ) أي اعتصم (بك من وعثاء السفر وكآبة
المنظر) بفتح الميم
والظاء قيل المراد الاستعاذة من كل منظر يعقب النظر إليه
الكآبة فهو من قبيل إضافة المسبب إلى السبب (وسوء المنقلب)
بصيغة المفعول مصدر ميمي: أي الانقلاب من السفر والعود إلى
الوطن بمعنى استعاذ من أن يعود لوطنه فيرى ما يسوؤه (في
المال والأهل) المراد بالأهل أهل البيت من الزوجة والخدم
والحشم. قال ميرك استعاذ من أن ينقلب إلى وطنه فيلقي ما
يكتئب به من سوء أصابه في سفره كأن يرجع غير مقضي الحوائج،
أو يصيب ماله آفة، أو كأن يقدم أهله فيجدهم مرضى أو يفقد
بعضهم، قال في «الحرز» : أو يرى بعضهم على المعصية (وإذا
رجع) أي لابس الرجوع بالشروع فيه (قالهن) أي الكلمات
المذكورة (وزاد فيهن) أي عليهن وهل في آخرهن أو أولهن؟ كل
محتمل (آئبون) بكسر الهمزة بعد الألف: أي راجعون وهي خبر
لمحذوف: أي نحن معشر الرفقاء آئبون (تائبون) أي من
المعاصي، والأولى أن يقال تائبون عن الغفلة فإن الأوّاب
صفة الأنبياء ومنه قوله تعالى:
{إنه آواب} (ص: 44) وصفة المؤمنين ومنه قوله تعالى: {إنه
كان للأوابين غفوراً} (الإسراء: 25) (عابدون لربنا حامدون)
الظرف متعلق بما قبله من العوامل، ويحتمل أن يكون متعلقاً
أيضاً بما بعده وليس هو حينئذ من باب التنازع وإن وهم فيه
صاحب الحرز، لأن شرط التنازع سبق العوامل المعمول، نعم هو
من باب التنازع بالنظر للعوامل قبله (رواه مسلم) وكذا رواه
أبو داود والترمذي والنسائي (معنى مقرنين مطيقين، والوعثاء
بفتح الواو وإسكان المهملة وبالثاء المثلثة وبالمد وهي
الشدة) المشقة (والكآبة بالمد) مع فتح الكاف قبل الهمزة
الممدودة
(6/459)
(وهي تغير النفس من حزن) بضم فسكون وبفحتين
(ونحوه) أي غم وهم وفي «المصباح» : الكآبة أشد الحزن
(والمنقلب) بضم الميم وفتح اللام مصدر ميمي كما تقدم، وكذا
فسره المصنف بقوله (المرجع) بفتح الميم والجيم.
2973 - (وعن عبد الله بن سرجس) بسين مهملة أوله وآخره وبعد
الأولى راء فجيم بوزن نرجس ويحرز صرفه ومنعه، وهو صحابي
سكن البصرة وخرج حديثه الأئمة الستة (المزني) بضم الميم
وفتح الزاي بعدها نون نسبة لمزينة، قال الحافظ في
«التقريب» : وهو حليف بني مخزوم (رضي الله عنه) روي له عن
رسول الله فيما قاله ابن حزم في سيرته وابن الجوزي في
«مختصر التلقيح» سبعة عشر حديثاً بتقديم المهملة، وانفرد
به مسلم عن البخاري فروى له ثلاثة أحاديث (قال كان رسول
الله إذا سافر) يحتمل أن يكون على حقيقته: أي إذا لابس
السفر بأن شرع في السير أو أنه مجاز عن إرادة ذلك، ويجوز
أن يراد كلاهما (يتعوذ) أي كان يقول أعوذ بالله (من وعثاء
السفر وكآبة المنقلب) أي الانقلاب (والحور) بالمهملتين
المفتوحة أولاهما بينهما واو ساكنة (بعد الكون) بوزن ما
قبله أي من الهبوط بعد الرفعة والاستعاذة منه حينئذ لأن
السفر مظنة التفريط فيما يطلب فعله، وهو أيضاً حكمة قوله
(ودعوة المظلوم) لأن ذلك قد ينشأ عنه من ظلم الدابة
بتحميلها فوق طاقتها أو تكليفها من الجهد في المشي فوق
قدرتها أو منع الجمال ونحوه من الإتباع والعملة عن أجرهم
أو نقصه، أو لأن دعوة المظلوم المسافر الذي لا يلقي إعانة
ولا إغاثة أقرب إلى الإجابة (وسوء المنظر) أي وأن أنظر ما
يسوءني (في الأهل) من مرض أو موت أو اشتغال بمخالفة أمر
الله تعالى (والمال رواه مسلم) والترمذي والنسائي وابن
ماجه كلهم من حديث عبد الله بن سرجس (هكذا هو في صحيح
مسلم) وبين المشار إليه بقوله (الحور بعد الكون) بالنون
وكذا: أي كما ذكر من كون الكون بالنون (رواه الترمذي
(6/460)
والنسائي) وقوله إنه كذلك في «صحيح مسلم»
هو باعتبار أكثر أصوله والمشهور منها كما في «الأذكار»
(قال الترمذي) في «جامعه» (ويروي الكور) بالجر على الحكاية
(بالراء) بدل النون (وكلاهما) أي كلا الراويتين (له وجه)
من جهة المعنى (قال العلماء) بغريب الحديث
ومعانيه (معناه بالنون والراء جمعياً: الرجوع من الاستقامة
أو الزيادة إلى النقص) ، أي أعوذ بك من الحور وهو النقص
بعد الوجود والثبات الذي هو معنى الكون. قال في «الفائق» ،
الحور الرجوع بعد الكون بالنون: أي الحصول على حالة جميلة
يريد الرجوع بعد الإقبال، إذ الكون وهي الرفعة لازمة لمعنى
الكور الذي أشار إليه قوله (قالوا: ورواية الراء مأخوذة من
تكوير العمامة وهو لفها وجمعها) وحينئذ فتكون الاستعاذة من
النقض بعد الإبرام أو من النقص بعد الزيادة، وقيل
الاستعاذة حينئذ من الشذوذ عن الجماعة بعد الكون فيها، أو
من الفساد بعد الصلاح، أو من القلة بعد الكثرة، أو الرجوع
عن الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، أو من
الحضور إلى الغفلة، وذلك لأن من كان عمامته اجتمعت على
رأسه، ومن نقضها تفرقت وتعقب التوربشتي من قال معنى الحور
بعد الكور الرجوع عن الجماعة بعد أن كان منهم بأن استعمال
الكور إنما هو في جماعة الإبل خاصة، وربما استعمل في
البقر، قال صاحب الحرز: والجواب أن باب الاستعارة غير
مسدود، فالعطن مختص بالإبل ويكنى يضيقه عن ضيق الخلق
(ورواية النون من الكون مصدر كان يكون كوناً إذا وجد)
بالبناء للمفعول (واستقر) يعني مصدر كان التامة: أي أعوذ
بك من الحور وهو النقض بعد الوجود، والثبات الذي هو معنى
الكون، وقال في «الفائق» : معنى الحور بعد الكور: الرجوع
عن حالة جميلة بعد أن كان عليها يريد التراجع بعد الإقبال.
3974 - (وعن عليّ بن ربيعة) بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون
التحتية بعدها مهملة وربيعة ابن نضلة بالنون فالضاد
المعجمة، الوالبي بكسر اللام بعدها موحدة أبو المغيرة
الكوفي، ثقة من كبار التابعين (قال شهدت) أي حضرت (عليّ بن
أبي طالب رضي الله
(6/461)
عنه) حال كونه (أتى بدابته) وعند الترمذي
بدابة بالتنوين، والدابة في أصل اللغة ما يدبّ على وجه
الأرض، ثم خصها العرف بذات الأربع، قال في «المصباح» :
وتخصيص الفرس والبغل والحمار بالدابة عند الإطلاق عرف
طارىء (ليركبها فلما وضع رجله في الركاب) بكسر الراء (قال
باسم الله) أي أركب (فلما استوى) أي استقرّ (على ظهرها
قال) شكرا الله (الحمد لله) أي على هذه النعمة العظيمة،
وهي تذليل الوحش النافر وإطاعته لنا على ركوبه محفوظين من
شره كما صرح به بقوله (الذي سخر) أي ذلل (لنا) أي لأجلنا
(هذا) المركوب (وما كنا له) أي لتسخيره (مقرنين) أي مطيقين
(وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال) أي بعد حمده المقيد
بالثناء بما أنعم عليه (الحمد لله) حمداً غير مقيد بشىء
إيماء إلى أن التقييد فيما قبله بقوله الذي سخر لنا هذا
الخ ليس لقصر طلب الحمد على وجود النعمة، بل هو سبحانه
واجب الحمد لذاته ولتأكيد هذا المعنى كرره (ثلاث مرات) وفي
التكرير إشعار بعظم جلال الله سبحانه وأن العبد لا يقدر
الله حق قدره وهو مأمور بالدأب في طاعته حسب استطاعته،
وقيل في حكمة التكرير ثلاثاً: أن الأول لحصول النعمة،
والثاني لدفع النقمة، والثالث لعموم المنحة (قم قال)
تنزيها لله وتقديساً له عن سمات المحدثين من الركوب
والاستقرار في حيز (الله أكبر ثلاث مرات) والتكرير
للمبالغة في ذلك، أو الأول إيماء إلى الكبرياء والعظمة في
الذات، والثاني الكبرياء والعظمة في الصفات، والثالث إشعار
بتنزيهه عن الاستواء المكاني، وقوله الرحمن على العرش
استوى: «ظاهره غير مراد إجماعاً ثم هل نفوض معناه إلى الله
تعالى ولا نتكلم في تعيينه
أو نتكلم فيه؟ قال بالأول السلف، وبالثاني الخلف وهو أحكم
(ثم قال سبحانك) بالنصب على المفعولية المطلقة بعامل لا
يظهر وجوباً: أي أقدسك تقديساً مطلقاً، لأن كل مالا يليق
به تعالى فهو مقدس عنه وذلك سائر سمات الحوادث (إني ظلمت
نفسي) بعدم القيام بحقك لشهود التقصير في شكر هذه النعمة
العظمى ولو بغفلة أو خطره أو نظره (فاغفر لي) أي استر
ذنوبي بعدم المؤاخذة بالعقاب عليها (إنه لا يغفر الذنوب
إلا أنت) استئناف بياني كالتعليل لسؤال الغفران، وفيه
إشارة بالاعتراف بتقصيره مع إنعام الله وتكثيره (ثم ضحك
فقيل) وعند الترمذي في «الشمائل»
(6/462)
«فقال: أي ابن ربيعة، وفي نسخة مصححه من
«الشمائل» «فقلت» بضمير المتكلم (يا أمير المؤمنين من أي
شيء ضحكت) لما لم يظهر ما يتعجب منه مما ينشأ عنه الضحك
استفهمه عن سببه وقدم نداءه على سؤاله كما هو الأدب في
الخطاب، وفي رواية للترمذي في «شمائله» «فقلت من أي شيء
ضحكت يا أمير المؤمنين» وتقديم المسؤول عنه على ندائه لأنه
أهم حينئذ لأن النداء لأجله، وفي قوله يا أمير المؤمنين
إيماء إلى أن القصة جرت منه أيام خلافته (قال: رأيت) أي
أبصرت (النبي صنع كما صنعت) من الركوب والذكر في أماكنه
(ثم ضحك فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت) وعند الترمذي
كسياق الذي قبله (قال: إن ربك سبحانه يعجب) عند الترمذي
«ليعجب» : أي يرضى إذ العجب المضاف في كلام الشارع إليه
تعالى لاستحالة قيام حقيقته به وهي استعظام الشيء مع خفاء
سببه به تعالى، مراد مه غايته من الرضا وهي مستلزمة
للثواب. ولهذا الرضا المقتضى لفرح رسول الله إذ فيه مزيد
المنة عليه ضحك، ولما تذكر عليّ رضي الله عنه ذلك أوجب
مزيد شكره فبشره فضحك، لا أن ضحكه مجرد تقليد فإنه غير
اختياري وإن كان قد يتكلف له (من عبده) إضافة تشريف (إذا
قال رب اغفر لي ذنوبي يعلم) جملة حالية من فاعل قال: أي
قال ذلك عالماً غير غافل (أنه لا يغفر الذنوب غيري) في بعض
نسخ
«شمائل الترمذي» غيره بضمير الغائب، واستظهر بأن الكلام من
الرسول لا كلام الله تعالى. وأجيب بإمكان جعل قوله يعلم
الخ معمولاً لقول محذوف هو حال من فاعل يعجب: أي يعجب
قائلاً يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري (رواه أبو داود) في
الجهاد (والترمذي) في الدعوات من «جامعه» وفي باب الضحك من
«شمائله» ورواه النسائي في السير (وقال: حديث حسن، وفي بعض
النسخ، حسن صحيح) وعزاه إليه كذلك الحافظ المزي في
«الأطرف» (وهذ لفظ أبي داود) وقد أشرنا إلى بعض ما خالف
فيه رواية الترمذي.
(6/463)
171 - باب تكبير المسافر إذا صعد الثنايا
جمع ثنية والمراد منها العقبات (وشبهها) من الربوات
والفدافد وذلك للتذكر بالعلوّ الحسي عظمة الله تارك
وتعالى، وعلوّه المعنوي وتنزيهه عما لا يليق به (وتسبيحه)
أي قول سبحان الله (إذا هبط) بفتح أوليه أي نزل (الأودية)
تنزيهاً لله عما لا يليق به (ونحوها) من الأغوار والمنازل
النازلة (والنهي عن المبالغة برفع صوت) الباء للتعدية أو
ظرفية: أي فيه (بالتكبير ونحوه) من سائر الأذكار المأتي
بها، أما أصل الجهر بالذكر فمطلوب إن أمن الرياء وإيذاء
نحو نائم أو مصل.
1975 - (عن جابر رضي الله عنه قال: كنا إذا صعدنا) بكسر
المهملة الثانية (الثنايا) جمع ثنية (كبرنا) أي قلنا الله
أكبر، أو شهدنا كبرياء الله وعظمته انتقالاً من العلوّ
الحسي إلى شهود العلوّ المعنوي (وإذا نزلنا سبحنا) أي قلنا
سبحان الله، أو شهدنا تقديسه عما لا يليق به وتقدم حكم
مروي هذه الصيغة من الرفع حكماً في حديث أنس في الباب قبله
(رواه البخاري) في الجهاد ورواه النسائي في السير وفي
اليوم والليلة وليس عنده ذكر الثنايا.
2976 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي
وجيوشه) بضم الجيم وكسرها جمع جيش (إذا علوا) بفتح اللام
التي هي عين الكلمة ولامها واو محذوفة بعد انقلابها ألفاً
لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم ملاقاتها للساكن بعدها وهو
الواو، وضمها هنا عارض لالتقائها ساكنة مع الساكن في أول
(الثنايا) وليس من محل جواز التقاء الساكنين، وحذفها غير
ممكن لأنها فاعل ولا دليل عليها فحركت بحركة تجانسها
(كبروا وإذا هبطوا) أي منها أو مطلقاً
(6/464)
(سبحوا. رواه أبو داود بإسناد صحيح) أي
فالحديث صحيح لما تقرر في محله من علم الحديث أن الحافظ
الضابط إذا أطلق الحكم بالصحة أو الحسن للإسناد ولم يعقبه
في الحكم على المتن بما ينافيه حكم بحكم الإسناد للمتن.
3977 - (وعنه قال: كان النبي إذا قفل) بالقاف كرجع وزناً
ومعنى (من الحج أو) يحتمل أنها للشك في أن الرجوع المقول
ما يأتي فيه أهو الرجوع من الحج (أو العمرة) ويحتمل أنها
للتنويع: أي فيقوله في رجوعه من كل منها، ويؤيد الأول قول
البخاري عن الراوي ولا أعلمه إلا قال الغزو، وكذا كان
يقوله في سائر رجوعاته كما يدل عليه حديث مسلم (كلما)
بالنصب على الظرف لقوله كبر وما عطف عليه (أوفى) أي أشرف
فارتقى (على ثنية) قال في «المغرب» : الثنية العقبة لأنها
تقدم الطريق وتعرض، أو لأنها تثني سالكها وتصرفه (أو فدفد
كبر) أي قال الله أكبر (ثلاثاً ثم قال: لا إله إلا الله
وحده) لا إله إلا الله توحيد الذات، وقوله وحده توحيد
الصفات، وقوله (لا شريك له) جملة حالية توحيد الأفعال: أي
ليس له مشارك في إيجاد شيء من مصنوعاته (له الملك وله
الحمد) أي هو المنفرد بهما كما يؤذن به تقديم ما حقه
التأخير (وهو على كل شيء) من الممكنات (قدير) إذ القدرة لا
تتعلق بواجب ولا مستحيل (آئبون تائبون عابدون ساجدون
لربنا) تنازعه العوامل الأربعة قبله، والتنازع يكون بين
عاملين أو أكثر، ومنه حديث «تسبحون وتحمدون وتكبرون الله
ثلاثاً وثلاثين» الحديث ويجوز أن يكون للظرف متعلقاً بقوله
(حامدون) وحذف متعلق تلك الصفات لدلالته عليه، ويجوز تعلق
الظرف بما قبله وهو ساجدون، فحذف متعلق حامدون كما عدا
المتعلق به قبله لدلالة ذلك عليه (صدق الله وعده) حذف
المفعول الأول لتعلق
(6/465)
الغرض بالمفعول الثاني: أي صدق الله من
وعده من نبيه والمؤمنين به. وعده: أي ما وعدهم به فهو مصدر
مضاف لفاعله (ونصر عبده) الإضافة فيه تنصرف للفرد الكامل
وهو النبي: أي نصره من غير وجود ما يرتبط به النصر عادة من
كثرة العدد والعدد كما في غزوة بدر وغزوة الخندق (وهزم
الأحزاب وحده) أي الذين تحزّبوا عليه من كفار قريش
وأحابيشها فرد كيدهم في نحرهم بألطف الأشياء وهي ريح
الصبا، ولم يكن لأحد
من الخلق دخل في ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب
الجهاد بهذا اللفظ، وقد غفل المزي في كتاب «الأطراف» عن
ذكره في ترجمته الإسناد الذي رواه به البخاري وهو صالح بن
كيسان عن سالم عن ابن عمر.
(وفي رواية لمسلم: إذا قفل من الجيوش والسرايا) أي من
الغزوات ذوات الجيش أو ذوات العدد اليسير منه ففي الحديث
مضاف (أو الحج والعمرة) وتقدم أنه يستحب هذا الذكر لكل
قادم من سفر: أيّ سفر كان (قوله أو في: أي ارتفع) هو بمعنى
قول «القاموس» أو في عليه أشرف (وقوله فدفد) بالجر على
الحكاية (هو بفتح الفاءين بينهما دال مهملة ساكنة وآخرة
دال أخرى) وهو وزان جعفر (وهو الغليظ المرتفع من الأرض) هو
تفسير للمراد في الحديث، وإلا ففي «القاموس» : الفدفد
الفلاة والمكان الصلب الغليظ والمرتفع والأرض المستوية
اهـ. ومنه يعلم أن اعتبار الغلظ في تفسير الفدفد المذكور
في الحديث غير لازم، بل المراد أنه كلما ارتفع على نشز
وربوة من الأرض رملاً كانت أو غليظة.
4978 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول
الله إني أريد أن أسافر فأوصني) فيه استحباب مجيء المسافر
عند إرادة السفر لمن يتبرك به وعرض ذلك عليه ليشير بما رآه
لائقاً بالوقت وطلب الوصية منه (قال: عليك بتقوى الله) أي
الزمها والباء زائدة في المفعول، وفيه تنبيه على أن تقوى
الله الحصن النافع حصراً وسفراً (والتكبير على كل شرف)
(6/466)
بفتح المعجمة والراء وبالفاء: أي كل علوّ
ومرتفع، وسكوته في الخبر عن التسبيح عند كل انهباط إما
لكونه كان أعلم بذلك قبل، أو لعله أراد ذكره له فعرض ما
اشتغل به عن ذلك، أو ذكره وتركه الراوي نسياناً (فلما ولى)
بتشديد اللام أي قفل (الرجل قال: اللهم أي يا الله (طوِ له
البعيد) إماطياحسيا بانزواء مسافة الأرض بانضمام بعضها إلى
بعض، ومنه ما تقدم في حديث «إن الأرض تطوى بالليل» أو
معنوياً بأن يتيسر له من النشاط وحسن الدواب ما يصل به
مستريحاً سالماً من وعثاء السفر، ويناسبه قوله (وهوّن عليه
السفر) أي سهل عليه بدفع مؤذيات السفر وحزونه عنه (رواه
الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه النسائي وابن ماجه من حديث
أبي هريرة.
5979 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا نسير
مع رسول الله فكنا إذا أشرفنا) أي ارتفعنا (على واد هللنا
وكبرنا) أي أتينا بالذكر منهما لتشهد لنا البقاع والجملة
الشرطية وجوابها خبر كان وقوله (ارتفعت أصواتنا) جملة
حالية من فاعل. هللنا أو استئنافية أو جواب إذا وهللنا بدل
من جملة الشرط أو حال (فقال النبي: يأيها الناس اربعوا على
أنفسكم) أي في المبالغة برفع الصوت وعلل ذلك بقوله (فإنكم
لا تدعون أصمّ ولا غائباً) المحوج نداء كل منهما إلى
المبالغة في رفع الصوت، بل المذكور سبحانه أقرب إلى أحدكم
من حبل الوريد وهو السميع البصير، كما قال معللاً لذلك
بالجملة المستأنفة (إنه) بكسر الهمزة، ويجوز فتحها بتقدير
لام العلة قبلها فتخرج عن كونها مع مدخولها جملة (معكم
سميع قريب) قرباً معنوياً (متفق عليه. اربعوا) بوصل الهمزة
و (فتح الباء الموحدة) وبالعين المهملة (أي ارفقوا
بأنفسكم) فلا تبالغوا في رفع الصوت لأنه مع إضراره بكم
(6/467)
لا حاجة بكم إليه.
172 - باب استحباب الدعاء في السفر
1980 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن) أي في استجابتهن (دعوة)
بفتح الدال المهملة أي دعاء (المظلوم) والإتيان بالوحدة
تنبيه على أن جميع دعواته بجنس ما ظلم به مستجابة لا لقصر
الحكم بالإجابة عليها دون ما فوقها، على أن المفرد المضاف
يفيد العموم وتستمر إجابة دعائه حتى ينتصر كما جاء عند
البزار (ودعوة المسافر) أي سفراً مباحاً مطلوباً ولو
مندوباً وكان ذلك جبراً لمقاساته وعثاء السفر ويستمر ذلك
حتى يرجع كما عند البزار (ودعوة الوالد على والده) أي إذا
ظلمه ولو بعقوقه، وحينئذ فهو من جنس الأول، وعطفه عليه من
عطف الخاص على العام اهتماماً به (رواه أبو داود والترمذي
وقال: حديث حسن، وليس في واية أبي داود على ولده) أي وهو
المراد كما يومىء إليه قوله الوالد، والمراد من ولده ما
يشمل الفرع وإن سفل وقد جاء حذف دعوة الوالد اكتفاء بدخوله
في دعوة المظلوم عند البزار من حديث أبي هريرة وأبدله
بقوله «والصائم حتى يفطر» وأخرجه ابن ماجه بلفظ «دعوة
الوالد لولده» وعليه فعطفه على ما قبله من عطف المغاير
والدعوات المجابة باعتبار وصف المجيب أو باعتبار زمن
الدعاء جمعها الحافظ السيوطي في جزء سماه «سهام الإصابة في
الدعوات المجابة» .
(6/468)
173 - باب ما يدعو به إذا خاف ناساً أو
غيرهم
من سبع أو نحوه والتنصيص على الناس للنص عليهم في الحديث
وغيرهم مقيس عليهم، وهذا شامل للمسافر وغيره، وذكره المصنف
في السفر لأنه مظنة الخوف غالباً.
1981 - (عن أبي موسى رضي الله عنه: أن رسول الله كان إذا
خاف قوماً) والخوف أمر طبيعي للبشر لأقدح فيه أصلاً، قال
تعالى عن موسى وهارون {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا
أو أن يطغى} (طه: 45) (قال: اللهم إنا نجعلك) أي نجعل
وقايتك (في نحورهم) فتدفع عناكيدهم في نحورهم (ونعوذ) نلجأ
ونعتصم (بك من شرورهم) فيه السجع في الدعاء ولا منع منه
إلا إن كان يؤدي إلى التكلف أو تفويت الخشوع، وفيه إيماء
إلى دواء من وقع في كيد الأعادي وترياق من أصابته سموم
أفاعي الحساد البواغي، وذلك الاعتصام بحبل الله سبحانه
والركون بالقلب إلى الرب (رواه أبو داود والنسائي بإسناد
صحيح) .
باب ما يقول إذا نزل منزلاً
أي في مكان من الأمكنة حضراً أو سفراً وذكره لأن السفر
مظنه التحوّل إلى المنازل.
1982 - (عن خولة) بفتح المعجمة واللام وسكون الواو (بنت
حكيم) بن أمية السلمية زوج
(6/469)
عثمان ابن مظعون، ويقال لها أم شريك، ويقال
خويلة بالتصغير، ويقال هي التي وهبت نفسها للنبي. خرج مسلم
الخولة هذا الحديث، وخرج عنها الأربعة روي لها عن رسول
الله خمسة عشر حديثاً، وانفرد بها مسلم عن البخاري فروى
عنها (رضي الله عنها) حديث الباب (قالت: سمعت رسول الله
يقول: من نزل منزلاً) أيّ منزل كان فالتنوين للتنكير
والشيوع (ثم قال) ظاهره وإن لم يقل عقب النزول (أعوذ
بكلمات الله) أي بصفته الأزلية القائمة به وهي لا تعدد
فيها وجمعت باعتبار تعدد المتعلق (التامات) أي المنزّهات
من تطرق نقص بشيء من الحوادث إليها (من شر ما خلق) أي مما
هو ذو شرّ، وإلا فالملائكة والأنبياء لا شرّ فيهم ألبتة فـ
«ما» عام مخصوص (لم يضره) بضم الراء على الأفصح كما تقدم
في باب حسن الخلق لما اتصل به الضمير (شيء) دخل فيه سائر
المضرات من الداخل وهو النفس والهوى ومن الخارج وهو
الشيطان وغيره من المؤذيات (حتى يرتحل من منزله ذلك رواه
مسلم) وفي «الجامع الكبير» للسيوطي: ورواه أحمد والترمذي
عن خولة.
2983 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله
إذا سافر) وتلبس بالسفر (فأقبل الليل قال: ياأرض) يحتمل
نداؤه لها أن يكون من تنزيلها منزلة العقلاء، وأن يكون بعد
أن جعل الله لها إدراكاً تعقل به النداء تشريفاً له. وفي
الحرز فيه إشعار بأن الله جعل لها إدراكاً كالكلام الداعي،
قلت: وهو محتمل (ربي وربك الله) أي وما كان كذلك لا يضر كل
منا صاحبه، وذكر ذلك قبل الاستعاذة من شرها لأنه كالوسيلة
في حفظه من ذلك، أو هو إذعان لربوبية من يستعيذ به (أعوذ
بالله من شرك) هو صادق بالشرّ المتصل بها، بأن يكون من
نفسها لسقوطه في وهدة وتعثره بمرتفع منها (وشرّ ما فيك) أي
من المؤذيات (وشرّ ما خلق فيك)
(6/470)
بالبناء للمفعول، ويحتمل أن يكون بالبناء
للفاعل: أي ما خلق: هو أي الربّ فيك من فدفد وربوة أو حجر
أو شجر بأن يصطدم به (وشر ما يدب) بكسر الدال المهملة
وتشديد الموحدة: أي يتحرك (عليك) من الحشرات. قال ابن
الجوزي: أي من كل ما يمشي عليك وكل ما يمشي عليها دابة
ودبيب (وأعوذ بك) فيه التفات من لفظ الغائب وهو لفظ
الجلالة إلى ضمير خطابه، وفي نسخة من «الرياض» «وأعوذ
بربك» ففيه تفنن في عبارات الاستعاذة وفي أخرى «أعوذ
بالله» وإنما أعاد الاستعاذة لعظم شر ما بعدها بالنسبة لما
قبلها (من شر أسد) بفتحتين الحيوان المعروف (وأسود) بالصرف
لأنه اسم جنس وليس بصفة، إذ ليس فيه شيء من الوصفية كما هو
معتبر في الصفات الغالب عليها الاسمية في منع الصرف وقد
جمع على أساود، لكن في الحرز عن بعضهم المسموع من أفواه
المشايخ والمضبوط في أكثر النسخ أسود بالفتحة، وعن بعضهم
الوجه منع صرفه لأصالته ووصفيته فلا يضرّ عروض اسميته (ومن
الحية والعقرب) استعاذ منهما مع دخولهما في عموم ما في كل
من قوله ما خلق فيك، وقوله ما يدبّ عليك لعظم خبثهما (ومن
ساكن البلد) كذا هو في أصول «الرياض» ، وفي «الحصن» «من
شرّ ساكن البلد» بزيادة شر، وفي أصل الجلال من
الحصن ساكني بصيغة الجمع وحذفت الباء لفظاً لالتقاء
الساكنين واكتفاء بدلالة الكسرة عليها وأريد به على حذفها
الجنس (ومن والد وما ولد، رواه أبو داود والنسائي) والحاكم
في «مستدركه» كما في الحصن (والأسود الشخص) وقيل هو العظيم
من الحيات وخص بالذكر لخبثه، وقال التوربشتي: الأسود الحية
العظيمة التي فيها سواد وهي أخبث الحيات، وذكر من شأنها
أنها تعارض الركب وتتبع الصوت فلذا خصها بالذكر، وجعلها
كجنس مستقل وعطف عليها الحية (قال) أبو سليمان (الخطابي)
بفتح المعجمة وتشديد الهاء المهملة وبعد الألف موحدة
(وساكن البلد: هو الجن الذين هم سكان الأرض، قال والبلد من
الأرض ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء ومنازل) .
ومثله في «النهاية» (قال) أي الخطابي (ويحتمل أن المراد
بالولد إبليس و) المراد بِـ (ما ولد الشياطين) ويحتمل أن
يراد بذلك جميع ما فيه التوالد من سائر الحيوانات أصلاً
(6/471)
وفرعاً. وقيل المراد به آدم وأولاده، وما
ذكره الخطابي فيه إيماء إلى إبليس له أولادهم الشياطين،
وفي ذلك بسط بينته في باب ما يقول إذا دخل منزله من «شرح
الأذكار» .
175 - باب استحباب تعجيل المسافر الرجوع إلى أهله
التقييد به باعتبار الغالب من وجود الأهل وإلا فالمراد
رجوعه لوطنه سواء كان ذا أهل به أو بغيره أو لا أهل له
(إذا قضى حاجته) التي سافر لها.
1984 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال:
السفر قطعة من العذاب) يحتمل أن يكون من التشبيه البليغ،
وأن يكون حقيقة لما فيه من إيلام الجسد وإتعاب النفس. ومن
لطيف ما يحكى أن إمام الحرمين سئل أول جلوسه بعد موت أبيه
لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فقال: لما فيه من فراق
الأحباب، ثم علل كونه قطعة من العذاب على سبيل الاستئناف
بقوله (يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه) قال المصنف: أي
يمنعه كمالها ولذاتها لما فيه من المشقة والتعب ومقاساة
الحر والبرد ومفارقة الأهل والوطن وخشونة العيش (فإذا قضى
أحدكم نهمته من سفره فليعجل) قال ابن مالك: بفتح الجيم،
وفي نسخ من «الرياض» بتشديد الجيم (إلى أهله) قال المصنف
المقصود من الحديث الحث على استحباب الرجوع للأهل بعد قضاء
الوطر وألا يتأخر مع من ليس منهم (متفق عليه) ورواه مالك
وأحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» (نهمته) بفتح
النون وسكون الهاء (مقصوده) من وجهه الذي توجه إليه.
(6/472)
176 - باب استحباب القدوم على أهله
أي زوجته أو حليلته (نهاراً وكراهته في الليل) أي إن لم
يعلم علم أهله بقدومه، وإلا فلو أرسل إلى أهله نهاراً
بوصوله ليلاً فلا كراهة (لغير حاجة) قيد في الكراهة، فإن
احتاج للدخول ليلاً لخوف من عدوه أو لدفع ضرر فلا بأس.
1985 - (عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا طال
أحدكم الغيبة) مقتضاه عدم كراهة الطروق ليلاً مع قصر
السفر. ومقتضى الحديثين بعده التعميم، ويمكن الجمع بأنه إن
كان بحيث لا يتعب الزوجة وتتوقع امرأته إتيانه مدة غيبته
لقصرها فلا بأس بالطروق ليلاً وإلا فهو كالطويل (فلا
يطرقهن) أي يأتين (أهله ليلاً) التنكير للتعميم فيشمل أول
الليل وأناءه وآخره، بل ينبغي الإتيان نهاراً لتمتشط
الزوجة وتتأهب له (وفي رواية) أي لهما (أن رسول الله نهى
أن يطرق) أي يأتي (الرجل أهله ليلاً، متفق عليه) والحديث
الأول رواه أحمد أيضاً.
2986 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله لا يطرق)
بضم الراء: أي يأتي (أهله) إذا آب من السفر (ليلاً وكان
يأتيهم غدوة) أول النهار (أو عشية) آخره (متفق عليه.
الطروق: المجيء في الليل) وفي «المصباح» كل من يأبى ليلا
فقد طرق وهو صادق اهـ.
(6/473)
وحينئذ فذكر ليلاً بعده في الحديث إما بعد
تحديد مفهوم الطروق عن قيد الليل وأنه بمعنى مطلق الإتيان،
أو التقييد به لتعميم كراهة المجيء فيه في سائر أجزائه
ويدل للثاني تنكيره في الأحاديث.
177 - باب ما يقول إذا رجع أي من مسيره وإن لم ير البلد
وإذا رأى بلدته
(فيه حديث ابن عمر السابق في باب تكبير المسافر إذا صعد
الثنايا) هو الحديث الثاني من أحاديث فيه.
1987 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: أقبلنا مع النبي) أي في
خيبر (حتى إذا كنا بظهر المدينة) أي بمحل تظهر فيه المدينة
وهو علم بالغلبة على طيبة، على مشرفها أفضل الصلاة والسلام
(قال آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون) ففيه مقابلة النعم
الإلهية بالخدم على قدر الطاقة، والبداءة بالإيباب إلى
الله تعالى من المخالفة لأنها كالتخلية بالمعجمة، ثم
التوجه إلى صالح العمل، ثم حمد الله على التوفيق له
وتيسيره ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد
أبداً (فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة) هذا دليل
الشطر الأخير من الترجمة، وحديث ابن عمر دليل شطرها الأول
(رواه مسلم) .
178 - باب استحباب ابتداء القادم بالمسجد الذي في جواره
قبل دخوله منزله، والجوار بكسر الجيم مصدر جاور (وصلاته
فيه) أي ما شاء وأقله ركعتان.
(6/474)
1988 - (عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أن
رسول الله كان إذا قدم) بكسر الدال (من سفر) أي سفر كان
(بدأ بالمسجد) لأنه أشرف البقاع (فركع فيه ركعتين) بنية
التحية (متفق عليه) وتقدم الكلام فيه في باب التوبة في
جملة حديث كعب بطوله.
179 - باب تحريم سفر المرأة وحدها
أي وإن كان السفر قصيراً كالسفر إلى ميل أو فرسخ، ومحل
تحريمه في غير سفر الفرض، أما سفر الحج والعمرة المفروضين
عليها فلا حرمة عليها وكان خشيت على نفسها الفتنة في الدين
إن أقامت بمحلها.
1989 - (عن أبي هريرة عنه قال: قال رسول الله: ولا يحل)
بكسر المهملة: أي لا يجوز ويراد المصنف له بالعاطف تنبيهاً
على أنه طرف حديث (لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر)
التقييد بالإيمان لأن المؤمنة هي المتقيدة بأحكام الشرائع
المنقادة لها، وإلا فالأصح أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة:
أي ما أجمع عليه منها (تسافر مسيرة يوم وليلة) بتقدير أن
المصدرية قبله أو تنزيل الفعل منزلة المصدر نحو: «تسمع
بالمعيدي خير من أن تراه» : أي لا يحل لها مسافرة
مسافتهما، والتقييد بذلك جرى على الغالب إذ غالب السفر
القصير لا يكون أقل منه، وإلا فمسمى السفر حرام عليها إلا
مع ذي محرم عليها، ومثله الزوج وألحق به عبدها الأمين إذا
كانت أمينة، ولا فرق في جوازه مع المحرم بين كونه صالحاً
أو فاسقاً لأن الوازع الطبيعي يحمل على الذبّ عن وصول
السوء للمحارم ولو من الفاسق متفق عليه.
(6/475)
2990 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
سمع النبي يقول: لا يخلون رجل بامرأة) لأن ذلك مظنة الريبة
ووسيلة إليها (إلا ومعها ذو محرم) حملة حالية مستثناة من
أعم الأحوال، وهو في الحقيقة تأكيد لما تضمنه ما قبله من
حرمة الخلوة بالأجنبية مطلقاً، إذ مع حضور المحرم لم تحصل
الخلوة بالأجنبية (ولا تسافر المرأة) أي مسمى سفره، ولا
يخصص باليوم والليلة المذكورين فيما قبله لما تقدم فيه
ولأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه (إلا مع ذي محرم) أي أو
زوج أو عبد أمين وهي أمينة (فقال رجل) لم أقف على من سماه
(يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة) أي خرجت للتلبس به
(وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا) أي عينت في أسماء من عين
لتلك الغزاة. قال في «فتح الباري» : لم أقف على اسم الرجل
ولا امرأته ولا تعيين الغزوة. وقال ابن المنير: الظاهر أن
ذلك كان في حجة الوداع (قال: انطلق فحج مع امرأتك) أي
إعانة لها على تحصيل الحج، والظاهر أن النسك كان مفروضاً
أو كان معها محرم وإلا لكان يلزمها بالتأخير إلى وجود ذلك،
وأنها لم تخرج حينئذ من غير نحو محرم وإلا لبين لها حرمة
ذلك، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز (متفق عليه)
.
وأفادت أحاديث الباب وما في معناها: حرمة سفر المرأة بما
يسمى سفراً من غير محرم ونحوه لأيّ سفر كان من حج أو زيارة
النبي أو سفر بتجارة، نعم لها الخروج كذلك للسفر الواجب إن
أمنت فيه على نفسها ومالها، والله أعلم.
(6/476)
|