دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين

14- كتاب الأذْكَار
244- باب فَضلِ الذِّكْرِ وَالحَثِّ عليه
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (وَلذِكْرُ الله أكْبَرُ) ، وقال تَعَالَى (2) : (فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ) ، وقال تَعَالَى (3) : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الأذكار
باب فضل الذكر والحث عليه
بفتح المهملة وتشديد المثلثة، أي: الحض (عليه) المراد بذكر الله هنا: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب فيها، وطلب الإِكثار منها. وقيل: الذكر شرعاً قول سيق لثناء أو دعاء، وقد يستعمل لكل قول يثاب قائله. قال الحافظ في الفتح: ويطلق ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه الله أو ندب إليه. وقال الرازي: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله تعالى.
والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات. (قال الله تعالى: ولذكر الله أكبر) أي: ذكر العبد ربه أفضل من كل شيء، والصلاة لما كانت مشتملة على ذكره كانت أكبر من غيرها من الطاعات. وقيل: المراد ذكر الله عبيده برحمته أكبر من ذكرهم إياه بطاعته، وهذا هو المنقول عن كثير من السلف. وقال التوربشتى: الذكر من الله هو حسن قبوله منه والمجازاة له بالحسنى اهـ (وقال تعالى: فاذكروني) أي: بالطاعات أو في الرخاء (أذكركم) بالمغفرة أو في الشدة. وقد تقدم ذكر هذا في أول باب الحمد (وقال تعالى: واذكر ربك في
__________
(1) سورة العنكبوت، الآية: 45.
(2) سورة البقرة، الآية: 152.
(3) سورة الأعراف، الآية: 205.

(7/202)


بِالغُدُوِّ والآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ) ، وقال تَعَالَى (1) : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وقال تَعَالَى (2) : (إنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ) … إِلَى قَوْله تَعَالَى: (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأجْرَاً عَظِيماً) ، وقال تَعَالَى (3) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نفسك) أي: سراً (تضرعاً) أي: تذللاً (وخيفة) أي: خوفاً منه، فالنصب على العلة، ويصح كونه على الحال، أي: متضرعاً وخائفاً (ودون الجهر من القول) أي: قصداً بينهما، وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: أن تسمع نفسك دون غيرك (بالغدو والآصال) أوائل النهار وأواخره، وخصا بطلب الذكر فيهما دون غيرهما؛ لفضلهما ولأن بدء اليوم وختمه بالبر والعمل الصالح مقتض لغفران ما يقع بينهما من المخالفات كما في حديث (ولا تكن من الغافلين) عن ذكر الله (وقال تعالى: واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) جملة الترجي في محل الحال من فاعل، اذكروا أي: ائتوا بعمل البر راجين الفلاح من الله تعالى، فإن الأعمال أمارات ظنية وليست بدلالات قطعية، ففيه إيماء إلى نهي العامل عن الركون إلى عمله دون الله تعالى، وتنبيه على أن المطلوب كون الظاهر مستعملاً في أعمال البر مع عدم النظر لذلك بالقلب (وقال تعالى إن المسلمين والمسلمات) أتى بذلك توطئة لقوله (إلى قوله تعالى والذاكرين الله كثيراً والذاكرات) المناسب للترجمة إذ لو بدأ به لتوهم أن الثواب المذكور بعده مرتب عليه بانفراده، وإنما هو جزء للمرتب عليه ذلك (أعد الله لهم) أي: هيأ لهم (مغفرة) لذنوبهم عظيمة كما يومىء إليه إسناد ذلك إليه سبحانه، مع ما في ذلك من الإيماء إلى مزيد العناية وكمال الرعاية (وأجراً عظيماً) على الطاعات (وقال تعالى يأيها الذين أمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً) في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" هذا حديث مشهور رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهما. وفي الحديث "أكثروا ذكر الله حتى يقولوا (4) مجنون"، وفى الأذكار للمصنف: سئل ابن الصلاح عن القدر
__________
(1) سورة الجمعة، الآية: 10.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 35.
(3) سورة الأحزاب، الآيتان: 41، 42.
(4) أي المنافقون ومن ألحق بهم أهـ. مناوي ملخصا.

(7/203)


خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان الى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" متفق عليه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(خفيفتان على اللسان) قال الطيبي: الخفة مستعارة للسهولة شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخف على الحامل من بعض المحمولات ولا يشق عليه، فذكر المشبه به وأراد المشبه (ثقيلتان في الميزان) الثقل فيه على حقيقته؛ لأن الأعمال تتجسم عند الميزان، والميزان هو ما يوزن به أعمال العباد يوم القيامة. وفي كيفيته أقوال الأصح أنه جسم محسوس ذو لسان وكفتين، والله تعالى يجعل الأعمال كالأعيان موزونة أو توزن صحف الأعمال. وسئل بعضهم عن سبب ثقل الحسنة على الإِنسان، وخفة السيئة عنه فقال: إن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فخفت فلا يحملنك خفتها على ارتكابها (حبيبتان إلى الرحمن) أي: محبوب قائلهما وخص الرحمن بالذكر؛ لأن القصد من الحديث بيان سعة رحمة الله بعباده، حيث يجزي على العمل القليل بالثواب الكثير الجزيل. قال العيني: ويجوز أن يكون لأجل السجع، وهو من محسنات الكلام، وإنما نهى عن سجع الكهانة لكونه متضمناً لباطل (سبحان الله وبحمده) الواو للحال، أي: أسبحه متلبساً بحمدي له من أجل توفيقه لي، وقيل: عاطفة أي: وأتلبس بحمده. وقدم التسبيح؛ لأنه من باب التخلية بالمعجمة، والحمد من باب التحلية بالمهملة. قال الكرماني: التسبيح إشارة للصفات السلبية، والحمد إشارة إلى الصفات الوجودية (سبحان الله العظيم) كرر التسبيح تأكيداً للاعتناء بشأن التنزيه من جهة كثرة المخالفين الواصفين له بما لا يليق به بخلاف صفة الكمال فلم ينازع في ثبوتها له أحد، ثم سبحان فيهما منصوب على المصدرية بإضمار فعل واجب الحذف على المرضي، أتى لقصد الدوام واللزوم بحذف ما هو موضوع للتجدد والحدوث، ثم صار علم جنس للتسبيح، وأضيف إلى الله في نحو سبحان الله أولاً وأريد بهما اللفظ، فلذا كان ابتدائين. قال الدماميني في المصابيح: إن قلت المبتدأ مرفوع وسبحان منصوب فكيف وقع مبتدأ مع ذلك؟ قلت: المراد لفظهما محكياً، فإن قلت الخبر مثنى والمخبر عنه غير متعدد ضرورة، أنه ليس ثم حرف عطف يجمعهما، ألا ترى أنه لا يصح زيد عمرو قائمان، قلت هو على حذف العاطف أي: سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم كلمتان الخ (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو آخر حديث في صحيح البخاري.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: (إذا قال والله لا أتكلم اليوم) والدعوات باب فضل التسبيح =

(7/205)


1407- وعنه - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أكْبَرُ، أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ". رواه مسلم (1) .
1408- وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ قَالَ لا إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، في يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1407- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأن أقول) اللام فيه مؤذنة بالقسم المقدر قبلها، لتأكيد ما بعدها عند السامع؛ لأن المقام يدعو للتأكيد لما ركز في الطباع من عظم الدنيا فيستبعد أن تفضلها هذه الكلمات (سبحان الله) أي: تنزيه الله عما لا يليق به (والحمد لله) أي: ثناءً عليه بنعوت الكمال (ولا إله) أي: لا إله مستغن عن كل ما سواه ومفتقر إليه كل ما عداه (إلا الله) بالرفع بدل من محل لا مع اسمها وهو الرفع بالابتداء عند سيبويه (والله أكبر) من أن يوصف بما لا يليق (احب إلي مما طلعت عليه الشمس) كناية عن الدنيا، وذلك لأن هذه الأعمال من أعمال الآخرة وهي الباقيات الصالحات، وثوابها لا يبيد وأجرها لا ينقطع، والدنيا بمعرض الفناء والزوال والتغير والانتقال، ومقتضى ما ذكرناه من التعليل أن كل واحدة منهن أحب إليه من الدنيا لدوامه وانقطاعها ولا يخالفه الحديث، لأن إثبات الأمر المتعدد لا ينافي ثبوته لكل من أفراده (رواه مسلم) ورواه النسائي.
1408- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال لا إله إلا الله وحده) بالنصب على الحالية، وجازت مع تعريفه لفظاً لتأويله بمنفرد (لا شريك له) جملة حالية، حذف معمولها؛ ليعم أي: فلا شريك له في شيء من صفاته ولا في شيء من أفعاله ولا في شيء من ملكه (له الملك) بضم الميم، أي: السلطنة والقهر له دون غيره قال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) (2) (وله الحمد) فالحمد حقيقة مختصة أفراده كلها به تعالى، فلا فرد منه لما عداه إلا باعتبار ظاهر الأمر، إذ الحمد تابع للمثنى عليه، وهو خلق الله تعالى (وهو على كل شيء قدير) قدم معمول الصفة المشبهة عليها، لكونه ظرفاً والممنوع تقديمه عليها في قولهم،
__________
= والتوحيد (11/175) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 31) .
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 32) .
(2) سورة الأنعام، الآية: 61.

(7/206)


كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وكُتِبَتْ لَهُ مِئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي، وَلَمْ يَأتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ".
وقال: "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، في يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والعبارة للخلاصة، وسبق ما تعمل فيه مجتنب. هو إذا كان عملها من حيث كونها صفة مشبهة وعملها في الظرف ليس لذلك، بل لتضمن معنى الفعل، وبه يندفع اعتراض المحقق بدر الدين بن مالك على أبيه فيما ذكرناه بالآية السابقة (في يوم) هو شرعاً ما بين طلوع الفجر الصادق وغروب الشمس (مائة مرة) كتب الألف فيه، دفعاً لاشتباهه بمن الجارة لضمير الغائب، وظاهر إطلاقه أنه لا فرق في ترتب الثواب الآتي عليه بين ما إذا والاها أو أتى بها مفرقة (كانت له عدل عشر رقاب) أي: في ثواب عتقها. قال ابن التين: قرأناه بفتح العين، وقال في المصباح: عدل الشيء بالكسر مثله من جنسه أو مقداره. قال ابن فارس: والعدل بالكسر الذي يعادل في الوزن والقدر اهـ. وعدله بالفتح ما يقوم مقامه من غير جنسه ومنه قوله تعالى: (أو عدل ذلك صياماً) (1) وهو في الأصل مصدر يقال: عدلت هذا بهذا عدلاً، من باب ضرب إذا جعلته مثله قائماً مقامه اهـ (وكتبت له مائة حسنة) بالنصب ثاني مفعولي كتب المبني للمفعول؛ لتضمنه معنى جعل، والمفعول الأول نائب الفاعل المستكن في الفعل، وفي رواية الكشميهني: وكتب بالتذكير. قال العيني: أي: القول المذكور. قلت: ولو روي بالرفع لكان نائب فاعل الفعل فيناسب قوله: (ومحيت عنه مائة سيئة) أي: رفعت من ديوان الحفظة أو محي عنه المؤاخذة بها فلم يعذب بها (وكانت له حرزاً) بكسر المهملة وسكون الراء وبالزاي الموضع الحصين والعوذة (من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي) غاية للجملة الأخيرة أي: إنه يكون في عوذة من الشيطان مدة بقاء النهار (ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به) من الأذكار المأثورة (إلا رجل) بالرجع بدل من أحد (عمل أكثر منه) بأن زاد على المائة من التهليل فكلما زاد منه زاد الثواب. وسمي ذلك عملاً؛ لأنه عمل اللسان (ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة) مفعول مطلق نحو قوله تعالى: (فاجلدوهم ثمانين جلدة) (2) وفي المصباح فعلت الشيء مرة، أي: تارة اهـ. وفيه التارة المرة فإن ريد مرة من الزمان، كان النصب على الظرفية (حطت خطاياه) ببناء الفعل للمجهول؛ لأن من المعلوم أن هذا الفعل لا يقدر عليه غيره تعالى فهو نظير قوله تعالى: (وغيض الماء) (3) إذ لا يتصور
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 95.
(2) سورة النور، الآية: 4.
(3) سورة هود، الآية: 44.

(7/207)


أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ". رواه مسلم (1) .
1412- وعن سعد بن أَبي وقاصٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ أعْرَابيٌّ إِلَى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلاَماً أقُولُهُ. قَالَ: "قُلْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، اللهُ أكْبَرُ كَبِيراً، وَالحَمْدُ للهِ كَثيراً، وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالِمينَ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ" قَالَ: فهؤُلاءِ لِرَبِّي، فَمَا لِي؟ قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما قال: أو (تملأ) أي: كل واحدة بانفرادها (ما بين السموات والأرض) أي: أنهما لعظم مدلولهما لو كانا جسمين لملأ ما ذكر أو لملأه أحدهما، ففيه عظم فضلهما وعلو مقامهما (رواه مسلم) .
1412- (وعن سعد بن أبي وقاص) بفتح الواو والقاف المشددة آخره صاد مهملة هي كنية مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري (رضي الله عنه قال: جاء أعرابي) هو ساكن البادية عربياً كان أو لا (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علمني كلاماً أقوله) بالرفع جملة في موضع الصفة لكلام لنكارته، ولم يقيد القول بحال ولا زمان إيماءً إلى أن المطلوب قول يكون شأنه العموم (قال: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له) قدمها على ما بعدها لأنها أشرف قرائنها، ولذا جعلت كلمة الإِسلام ومفتاح الجنة خصوصاً، وقد ضم إليها ما يزيد في تأكيد مدلولها من التوحيد بالحال المفردة فالجملة (2) (الله أكبر كبيراً) فصل هذه الجملة عما قبلها إيماءً، إلى استقلال كل جملة فيما سأل، وكبيراً بالموحدة منصوب على أنه مفعول مطلق عامله الوصف (والحمد لله كثيراً) بالمثلثة إعرابه كإعراب كبيراً، ووصل هذه الجملة بما قبلها لمشاركتها لها في الدلالة على اتصاف الباري بأوصاف الكمال، ولما لم يشاركها فيه ما بعد فصلها كما يأتي، وبين كبيراً بالموحدة وكثيراً بالمثلثة جناس مصحف ومنه حديث "ارفع إزارك فإنه أنقى وأبقى وأتقى" (وسبحان الله رب) أي: مالك وخالق (العالمين) بفتح اللام اسم جمع لعالم لاختصاصه بالعقلاء من الجن والإِنس والملك، وعموم دلالة عالم على ما سوى الله تعالى من سائر الأجناس، والجمع لا يكون أخص من مفرده (ولا حول) بالفتح أو الرفع أي: عن المعصية (ولا قوة) بالفتح أو النصب أو الرفع عطفاً على حول على الوجه الأول وبما عدا النصب على الثاني، أي: على الإِتيان بالطاعة (إلا بالله العزيز) أي:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب. فضل الوضوء، (الحديث: 1) .
(2) المفردة هي وحده والجملة هي لا شريك له.

(7/210)


وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي". رواه مسلم (1) .
1413- وعن ثَوبانَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاثَاً، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي لا يغالب في مراده (الحكيم) الموقع للأشياء مواقعها بحسب حكمته البالغة، وفي الختم بهذين الاسمين رد لما اشتهر من ختم الحوقلة بالعلي العظيم كما بيناه سابقاً (2) ، ومناسبة هذين للحوقلة أظهر؛ لأن شأن من كان عزيزاً حكيماً أن لا يصدر خير ولا يندفع شر إلاّ بقوته (قال) أي: الأعرابي (فهؤلاء) أي: الجمل (لربي) لما فيها الثناء عليه مع إثبات الوحدانية له دون غيره بالجملة الأولى، وتنزيهه عما لا يليق به بالجملتين الأخيرتين (فمالي) أي: فأي شيء أدعو به مما يعود لي بنفع ديني أو دنيوي؟ (قال: قل اللهم اغفر لي) بدأ به، لأنه من باب التخلية بالمعجمة، وما بعده من قبيل التحلية بالمهملة. والأول مقدم على الثاني كما تقدم نظيره في حكمة تقديم التسبيح على التحميد، وإنما قدمه في هذا الخبر على التسبيح لأنه لما شارك التكبير في إثبات الكمال، لذي الجلال ولذا عطفت جملته على جملة التكبير اقتضى قرنه به فتأخر عنه التسبيح (وارحمني واهدني وارزقني) من عطف بعض أفراد الخاص على العام، لأن المراد بالرحمة غايتها من إرادة التفضل أو نفسه على الخلاف السابق مراراً، وخصا بالذكر لاشتمالهما على مهم الدين وهو الهداية التي هي الإِيصال إلى مرضاة الله تعالى، ومهم الدنيا من الرزق الذي ينتفع به، وبه قوام البدن وفي حصوله ستر الوجه عن الابتذال للغير (رواه مسلم) قال الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار بعد أن أخرجه وذكر أن مسلماً رواه قال: ورواه البزار، لكن وقع عنده العلي العظيم بدل العزيز الحكيم.
1413- (وعن ثوبان) بفتح المثلثة وسكون الواو، وبالموحدة هو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من الصلاة) انصرافاً معنوياً بالتحلل منها بالتسليم (استغفر) الله (ثلاثاً) إيماءً إلى أنه ينبغي عدم النظر لما يأتي به العبد من الطاعة، فذلك أقرب للقبول، والتكرار للمبالغة في رؤية النقص فيما جاء به، وأنه لشدته محتاج
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 33) .
(2) أي في خطبة الكتاب.

(7/211)


لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ". متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1415- وعن عبدِ الله بن الزُّبَيْرِ رضي الله تَعَالَى عنهما أنَّه كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ، حِيْنَ يُسَلِّمُ: "لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في العدول عن تنوينه على قول البغداديين إرادة التنصيص على الاستغراق؛ لأنه مع التنوين يكون الاستغراق ظاهراً لا نصاً لقولهم أن لا العاملة عمل إن لنفي الجنس مطلقاً، فيحصل نفيه ظاهراً مع التنوين، ونصاً مع عدمه. وقيل: إنه مخصوص عند بعضهم بما إذا بني اسمها من جهة تضمن معنى من الاستغراقية. وبتسليم الإِطلاق فبني ليكون نصاً على الاستغراق إذ مع التنوين يحتمل كون النصب بفعل محذوف، أي: لا نجد أو لا نرى مانعاً ولا معطياً فعدل إلى البناء لسلامته من هذا الاحتمال. اهـ قلت: هو مع وجاهته يبعده ما يلزم عليه من حذف متعلق الظرِف مع وجود متعلقه، نعم. الثاني: أقرب من الأول: وأنه غير متعلق بالاسم فصار مفرداً. والله أعلم (ولا ينفع ذا الجد) بفتح الجيم الحظ والغنى (منك) أي: عندك (الجد) أي: غناه إنما ينفعه عنايتك وما قدمه من صالح العمل قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (2) وروي بكسر الجيم بمعنى الجد في الطاعة، أي: لا ينفع ذا الجد فيها جده إنما ينفعه رحمتك كما في الحديث الصحيح "لن ينجي أحداً عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته (متفق عليه) .
1415- (وعن عبد الله بن الزبير) بضم الزاي القرشي الأسدي (رضي الله عنهما أنه) بالفتح بدلاً مما قبله بدل اشتمال (كان يقول دبر) بالنصب على الظرفية المكانية، لكونه شبيهاً بالمكان أي خلف (كل صلاة حين يسلم) بدل من الظرف قبله، أي: عقب السلام (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله) فصل جملة الحوقلة عن الجملة قبلها، لأنها جنس آخر من الثناء وإن كان مدلولها ملزوماً لمدلول ما قبلها (لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه) جملة حالية من مقدر أي أقوالها حال كوننا غير عابدين غيره، وفصل الضمير الممكن اتصاله، للدلالة على الحصر الذي لا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة، (2/275) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 137) .
(2) سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89.

(7/214)


الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ" قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ. رواه مسلم (1) .
1416- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ فُقَراءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوْا رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ذَهَبَ أهْلُ الدُّثورِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَى، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يحصل إلاّ به، لأن المتصل لا يقع بعد إلا (له النعمة) بكسر النون الخفض والدعة والمال وجمعها نعم وأنعم والتنعم الترفه. والاسم النعمة بالفتح قاله في القاموس وشرعاً الأمر المسلتذ المحمود العاقبة. مقتبس من قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) (2) (وله الفضل) ضد النقص أي: له دون غيره الكمال المطلق فلا يعتريه النقص بوجه (وله الثناء الحسن) بالمثلثة والنون والمد والتقييد بالحسن إطناب، فإن الثناء على الصحيح مختص بالجميل والذي في ضده نثاء بتقديم النون. وقيل: بل يستعمل فيهما، وعليه العز بن عبد السلام والحديث يشهد له (لا إله إلا الله مخلصين) تقدم نظيره آنفاً (له الدين) فلا نعبد معه غيره (ولو كره الكافرون) الواو الداخلة على لو، وإن الوصلية قيل: عاطفة على مقدر، وقيل: حالية، وصنيع السعد التفتازاني يدل على الثاني (قال ابن الزبير) هو موصول بسند الحديث الموقوف قبله (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهن) فيه تغليب له على باقي ما ذكر معه، لشرفه عليه أو لما كان ما معه أحوال مما ذكر فيه صار هو المقصود الأصلي وغيره كالقيد له (دبر كلل صلاة) أي: مكتوبة كما في نسخة معتمدة من الرياض (رواه مسلم) .
1416- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين) من إضافة الصفة إلى الموصوف (أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور) بضمتين جمع دثر أي الأموال الكثيرة (بالدرجات العلا) بضم ففتح جمع عليا (والنعيم المقيم) أي: الذي لا ينقطع ولا ينقضي وبينوا وجه ذلك بقولهم على سبيل الاستئناف البياني (يصلون كما نصلي) ما يحتمل كونها مصدرية، وكونها موصولاً اسمياً، والعائد محذوف فالتشبيه على الأول في الفعل وعلى الثاني في المفعول (ويصومون كما نصوم) أي: فساوونا في الأجر المرتب عليهما (ولهم
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 139) .
(2) سورة النحل، الآية: 53.

(7/215)


اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ واللهُ أكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنهُنَّ كُلُّهُنَّ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وزاد مسلمٌ في روايته: فَرَجَعَ فُقَراءُ المُهَاجِرينَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا أهْلُ الأمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ؟ فَقَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ".
"الدُّثُورُ" جمع دَثْر - بفتح الدال وإسكان الثاء المثلثة - وَهُوَ: المال الكثير (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكوان بالمعجمة السمان الزيات الما سئل عن كيفية ذكرهن قال: يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر) قال: في فتح إلاله ما أفهمه. كلامه من أن الإتيان بها مختلطات لا بكل نوع على حدته غير معمول به بالنسبة للأكمل، إذ هو أن يأتي بكل عدد على حدته.
قال القاضي عياض: وهو أولى من تأويل أبي صالح (حتى يكون) اسمها مضمر يرجع لما دل عليه الكلام، أي: حتى يكون المأتي به (منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين) قال البرماوي: هو منصوب في أكثر الروايات، ويروى بالرفع على أنه اسم كان. والأول أظهر وأنه خبرها، وهو محتمل لما تقدم من أن المراد أن يكون من المجموع هذا العدد أو من كل من المركب من هذه الأنواع والثاني أقرب لكلامه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وكذا مسلم ورواه النسائي في اليوم والليلة، وللحديث طرق انفرد ببعضها مسلم عن البخاري في صحيحه، وذلك كرجاء بن حيوة عن أبي صالح، فقد أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة، والبخاري في الأدب المفرد (وزاد مسلم في روايته) للحديث من طريق رجاء بن حيوة عن أبي صالح (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا) أي المؤمنون (أهل الأموال بما فعلنا) فيه إطلاق الفعل على القول؛ لأنه فعل اللسان (ففعلوا مثله) أي: فساوونا في العبادة التي فوقتنا عليهم لو أتينا بها دونهم وزادوا علينا بالعبادة المالية (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) المشار إليه إما الفضل الذي أرشدهم إليه - صلى الله عليه وسلم - وأن به يسبقون أي: ذلك الفضل بيده فله أن يخص به قائلاً دون قائل، فلا عليكم إن شركوكم في القول فإن الثواب المذكور مقصور على الفقراء، وأما تفضيل الجامعين بين عبادة البدن والمال. ويبتني عليه الخلاف هل الفقير الصابر أفضل أو الغني الشاكر؟
الجمهور على الثاني لتعدي نفعه وقصور نفع الأول (الدثور) بضمتين (جمع دثر بفتح الدال) المهملة (وإسكان الثاء المثلثة) وذلك كفلوس جمع فلس (وهو) أي الدثر (المال الكثير) تقدم بسط ذلك في حديث أبي ذر بقريب منه في شكوى فقراء المهاجرين من تقدم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة (2/270، 272) =

(7/217)


1417- وعنه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ سَبَّحَ الله في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وحَمِدَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ الله ثَلاثاً وَثَلاَثِينَ، وقال تَمَامَ المِئَةِ: لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ". رواه مسلم (1) .
1418- وعن كعب بن عُجْرَةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ:
"مُعَقِّباتٌ لاَ يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلاثٌ وَثَلاثونَ تَسْبِيحَةً. وَثَلاثٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأغنياء عليهم في ذلك في باب بيان كثرة طرق الخير.
1417- (وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من سبح الله في دبر) بضم الدال المهملة والموحدة أي عقب (كل صلاة) أي: مكتوبة ولا يضر الفصل بين المكتوبة والذكر عقبها بالراتبة (ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين) العدد منصوب على المفعولية المطلقة (وقال تمام المائة) منصوب على أنه مفعول له أي: لإتمامها (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه) تقدم أنه جمع خطيئة (وإن كانت) أي: الخطايا في الكثرة (مثل زبد البحر) وتقرر مراراً أن المكفر بالطاعات صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله سبحانه (رواه مسلم) وروى النسائي من حديث أبي هريرة "من سبح دبر صلاة الغداة مائة تسبيحة وهلل مائة تهليلة غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر".
1418- (وعن كعب بن عجرة) سبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: معقبات) قال المصنف: قال الهروي: قال شمر: معناه تسبيحات تفعل أعقاب الصلاة: وقال أبو الهيثم: سميت معقبات؛ لأنها تفعل مرة بعد أخرى. اهـ قال العاقولي: وهي صفة أقيمت مقام المبتدأ الموصوف المحذوف، وخبره (لا يخيب) من الخيبة، وهي الحرمان والخسران (قائلهن أو) للشك بينه وبين قوله (فاعلهن) والقول فعل اللسان، فيجوز إطلاق الفعل عليه، ولا يطلق عليه غالباً إلا إذا صار القول مستمراً ثابتاً، راسخاً رسوخ الفعل، ويحتمل أن تكون هذه الجملة صفة معقبات وقوله (ديز
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 142) .
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 146) .

(7/218)


وثَلاَثونَ تَحْمِيدَةً، وَأرْبَعٌ وَثَلاَثونَ تَكْبِيرَةً". رواه مسلم (1) .
1419- وعن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ دُبُرَ الصَّلَواتِ بِهؤُلاءِ الكَلِمَاتِ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ أنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ". رواه البخاري (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كل صلاة مكتوبة) صفة أخرى أو خبر آخر أو متعلق بقائلهن (ثلاثاً وثلاثين تسبيحة) مفعول مطلق للقائلين، نحو ضربته مائة ضربة. ووقع في المصابيح بالرفع فجوز العاقولي إعرابه خبراً آخر لمعقبات، أو لمبتدأ محذوف أي: هن ثلاث وثلاثون (وثلاثاً وثلاثين تحميدة وأربعاً وثلاثين تكبيرة رواه مسلم) وفي الجامع الصغير بعد أن أورده بلفظ "وثلاث وثلاثون تكبيرة" رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وفي الجامع الكبير بعد إيراده بلفظ "وأربع وثلاثون تكبيرة في دبر كل صلاة مكتوبة" ذكر مخرجيه المذكورين، وزادوا: ابن حبان في صحيحه.
1419- (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان) تعليماً وتشريعاً (يتعوذ دبر الصلوات) في نسخة كل صلاة (بهؤلاء الكلمات) وعطف عليها عطف بيان، بناء على مجيئه في الجمل، وهو الصحيح كما بينته في شرح نظم قواعد ابن هشام قوله (اللهم إني أعوذ) أي: أعتصم وألتجىء (بك من الجبن) بضم الجيم وسكون الموحدة، مصدر جبن بضم الموحدة، مثل قرب قرباً وهو ضد الشجاعة، قال في المصباح: هو ضعف القلب (والبخل) بضم فسكون وبفتحتين، جاء من بابي قرب وتعب، وهو شرعاً منع الواجب، وعند العرب منع السائل مما يفضل عنه اهـ (وأعوذ بك) أعاده لأن هذا نوع غير ما قبله (من أن أرد) بالبناء للمفعول (إلى أرذل العمر) أي: أخسه وهو الهرم، وعن علي رضي الله عنه أنه خمس وسبعون سنة، ففيه ضعف القوى، وسوء الحفظ، وقلة العلم (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) بأن أبتلى بالغنى أو الفقر المشغل عن الله تعالى المبعد عن ساحات فضله (وأعوذ بك من فتنة القبر) الناشىء عن سؤال الفتنين فيه فإن المؤمن يثبت والمنافق بضده (رواه البخاري) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، (الحديث: 145) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: التعوذ من البخل وفي الجهاد، باب: ما يتعوذ به من =

(7/219)


1421- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أرْبَعٍ، يقول: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالآخر، إشارة إلى أن الآخرة وشهودها، وما يؤدي إليها هو المقصود بداية ونهاية اهـ ملخصاً. وعطف وحسن عبادتك على الشكر عطف خاص على عام، إذ الشكر أداء العبودية لما تقدم من أنه شرعاً صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خلق لأجله، لكن منه ما هو حسن وهو ما صحب بالحضور والخضوع والخشوع، فيكون أقرب إلى القبول، ومنه ما ليس كذلك (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه النسائي أيضاً وسند أبي داود عبيد الله بن عمر القواريري عن أبي عبد الرحمن المقرىء عن حيوة بن شريح عن عقبة بن مسلم عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن الصنابحي عن معاذ، زاد أبو داود: وأوصى معاذ الصنابحي بذلك وأوصى بذلك الصنابحى الحبلي.
1421- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا تشهد أحدكم) أي: أتم للتشهد أي: التحيات الخ سمي تشهداً لاشتماله عليه (فليستعذ بالله) الأمر للندب عند الجمهور (من أربع) حذف التاء لحذف المعدود والأصل من أربعة أشياء وهي في الحقيقة خمسة، لكنه عد فتنة الحياة والموت واحدة، لتقابلهما ولذا لم يعد لفظ فتنة في الممات (يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) اسم أعجمي فمنع صرفه للعلمية والعجمة، ْأو عربي مشتق من قولهم بئر جهنام لبعيدة القعر، فمنع صرفه للعلمية والتأنيث المعنوي، وهي مشتركة بين طبقة من الطباق التي للنار، وبين ما يعم جميع طباقها والمراد الأخير (ومن عذاب القبر) أي: الكائن فيه لمن لم يثبت عند السؤال من الملكين له (ومن فتنة المحيا والممات) أي: من جميع البلايا والمحن الواقعة في الحياة، مما يضر ببدن أو دين أو دنيا للداعي، ولمن له به تعلق، لا سيما مع عدم الصبر. وفي الموت قبيله عند الاحتضار من تسويل الشيطان الكفر حينئذ بطرائق جاءت في الأخبار وبعده من سؤال الملكين له مع الخوف والانزعاج وأهوال القبر وشدائده (ومن شر فتنة المسيح) بالحاء المهملة على المعروف، بل الصواب أي: الممسوح إحدى عينيه أو الماسح للأرض فإنه يقطعها كلها إلا الحرمين في أقصر مدة، وحمى الله منه الحرمين لفضلهما (الدجال) أي: المبالغ في الكذب ْبإدعائه الإِحياء والإِماتة وغيرهما، مما يقطع كل عاقل فضلاً عن المؤمن بكذبه فيه، لكنه لما سخر له طاعة بعض الجوامد عظمت فتنته، واشتدت بليته، حتى أنذر منه كل نبي أمته، وحتى أمرنا - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة منها فإنه لا يسلم منها إلا الفذ النادر أعاذنا الله منها بمنه، وحكمة

(7/221)


رواه مسلم (1) .
1422- وعن عليٍّ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، وَمَا أسْرَفْتُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ" رواه مسلم (2) .
1423- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقديم عذاب القبر على هذه مع أنها أفظع وأخوف، لطول زمنه وأبلغية نكايته، وفظاعة موقعه، واستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأربع للتشريع، وتحريض الأمة عليها وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - آمن من ذلك كله (رواه مسلم) .
1422- وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكون من) أي: بعض (آخر ما يقول فيها بين التشهد) أي: وما هو كالجزء منه، وهو الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت) أي: أخفيت (وما أعلنت) وعطف عليه عطف عام على خاص قوله: (وما أسرفت) وزاد في التعميم بقوله: (وما أنت أعلم به مني) وتقدم أن هذا خضوع منه - صلى الله عليه وسلم - لربه، وأداء لحق مقام العبودية، وحث للأمة على الاستغفار، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى بهذا الكلام وما فيه من الإطناب، مع استحالة صدور ذنب منه فمن هو محل صدور الآثام أجدر بالدوام عليه والدأب فيه والملازمة عليه (أنت المقدم وأنت المؤخر) قال البيهقي: قدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم وثبطهم بمحنها، وأخر الشيء عن حين توقعه لعلمه بما في عواقبه من الحكمة. وقيل: قدم من أحب من أوليائه، وأخر من أبغض من أعدائه، فلا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم، ويكون المؤخر والمقدم بمعنى المضل والهادي، قدم من شاء لطاعته بفضله لسعادته، وأخر من شاء بقضائه لشقاوته اهـ (لا إله إلا أنت. رواه مسلم) .
1423- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول) على تقدير الجار
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، (الحديث: 130) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (الحديث: 201) .

(7/222)


رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1424- وعنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: من قوله: (في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك) الصحيح أن رب منادى بحذف حرف النداء لا صفة لقوله اللهم عند سيبويه. قال مكي: لأنه قد تغير بما في آخره، وقال أبو البقاء: لأن الميم تمنع من ذلك. قال السفاقسي: يحتمل أن يريد لأنها فاصلة بين النعت والمنعوت، أو لأنها غيرته كما قال مكي، وقال بعضهم: لأنه لما اتصلت به الميم صار بمنزلة صوت نحو يا هناه، ويحتمل أن يكون هذا مراد مكي بقوله قد تغير بما في آخره، وأجاز المبرد والزجاج وصفه اهـ. فيحتمل أن يكون قوله ربنا صفة اللهم (اغفر لي) حذف المعمول طلباً للتعميم (متفق عليه) زاد مسلم قوله: "يتأول القرآن" أي: "يكثر" ذلك مبيناً ما هو المراد من قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره) (2) أي: أتى بمقتضاه وهو وإن لم يقيد بحال من الأحوال، لكنه - صلى الله عليه وسلم - جعله في أفضل الأحوال، وهو الصلاة ليكون أبلغ في الامتثال، وأظهر في التعظيم والإِجلال، قال المصنف: ومعنى وبحمدك أي: وبتوفيقك لي وهدايتك وفضلك على سبحتك، لا بحولي وقوتي ففيه شكر الله تعالى على هذه النعمة والاعتراف بها، والتفويض إليه تعالى وأن كل الإِفضال له. اهـ، وفي الحديث ندب هذا الذكر حال الركوع والسجود.
1424- (وعنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس) بضم أولهما، وهو الأكثر، وبفتحه وهو الأقيس، وهما اسمان وضعا للمبالغة في النزاهة، والطهارة عن كل ما لا يليق بجلاله تعالى وكبريائه وعظمته وإفضاله، أي: ركوعي وسجودي لمن هو البالغ في النزاهة والطهارة المبلغ الأعلى (رب الملائكة) الذين هم أعظم العوالم وأطوعهم لله تعالى وأدومهم على عبادته، ومن ثم أضيفت التربية إليهم بخصوصهم، ولا يستفاد منها فضل الملائكة على بني آدم لما تقرر، من أن سببها كونهم أعظم خلق الله فيما
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: صفة الصلاة، باب: التسبيح والدعاء في السجود وباب: الدعاء في الركوع (2/247) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 217) .
(2) سورة النصر، الآية: 3.

(7/223)


وَالرُّوحِ". رواه مسلم (1)
1425- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ:
"فَأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ - عز وجل -، وَأمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". رواه مسلم (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر. (والروح) جبريل لقوله تعالى: (نزل به الروح الأمين) (3) أو أعظم الملائكة خلقاً، أو حاجب لله تعالى يقوم بين يديه يوم القيامة، وهو أعظم الملائكة لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة، فالخلق ينظرون إليه فمن مخافته لا يرفعون طرفهم إلى من فوقه، أو ملك له عشرة آلاف جناح، جناحان منهما ما بين المشرق والمغرب، له ألف وجه في كل وجه ألف لسان وعينان وشفتان، يسبحان الله إلى يوم القيامة. أقوال هذه بعضها، وثمة أقوال أخر في تعيينه واتفقت على عظمه (رواه مسلم) .
1425- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأما الركوع) بالرفع مبتدأ خبره (فعظموا فيه الرب) أي: بذكر الثناء عليه والمبالغة في التنزيه والتقديس وأفضله: سبحان ربي العظيم وبحمده، وأقل السنة مرة، وأقل الكمال ثلاث، والأكمل إحدى عشرة، ويسن أن يأتي معه بقوله: "اللهم لك ركعت " الخ ويقدم عليه التسبيح، فإن اقتصر على أحدهما اقتصر على التسبيح، وثلاث تسبيحات معه أفضل من الاقتصار على التسبيح (وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فيه فقمن) بفتح القاف والميم مصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وبكسر الميم وصف يثنى ويجمع ويؤنث. وكذا قمين أي: حقيق (أن يستجاب لكم فيه) لما فيه من القرب المعنوي، المشار إليه بحديث "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" الحديث الآتي عقبه، ومن ثم كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر فيه من الدعاء (رواه مسلم) وهو قطعة من حديث وأوله "إلاّ أني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً". فأما الركوع الخ، وقال المصنف في الأذكار وهذا الحديث هو مقصود الفصل (4) ، وهو تعظيم الرب سبحانه وتعالى
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 223 و 224) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، (الحديث: 207) .
(3) سورة الشعراء، الآية: 193.
(4) أي: الفصل الذي عقده النووي في أذكاره لبيان أذكار الركوع.

(7/224)


1426- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ". رواه مسلم (1) .
1427- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الركوع يأتي لفظ كان، ولكن الأفضل أن يجمع بين الأذكار الواردة فيه إن تمكن من ذلك، بحيث لا يشق على غيره، فإن أراد الاقتصار فيستحب التسبيح ويستحب إذا اقتصر على البعض أن يفعل في بعض الأوقات بعضاً آخر، وهكذا حتى يكون فاعلاً لجميعها.
وكذا ينبغي في أذكار جميع الأبواب اهـ ملخصاً.
1426- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرب ما يكون العبد من ربه) أقرب مبتدأ مضاف للمصدر المنسبك من ما وصلتها، والخبر محذوف وجوباً، أي: أقرب ما يكون العبد من ربه قرباً معنوياً حاصل إذا كان (وهو ساجد) الجملة الحالية سادة مسد الخبر المحذوف، فلذا وجب حذفه. والدليل على أنها ليست خبراً أن الجملة الواقعة خبراً لا يدخلها الواو، وأخذ منه رد القول بالجهة لله تعالى عن ذلك (فأكثروا الدعاء) أي: فيه لأنه من مواطن الإِجابة، وظاهر أنه أولاً يقدم الذكر الوارد فيه وأفضله سبحان ربي الأعلى وبحمده، وأقل السنة مرة والكمال ثلاث، وأكمل ما يكون إحدى عشرة، ويزيد عليه قوله: اللهم لك سجدت الخ (رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي.
1427- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده) تشريعاً للأمة أو لغيره مما تقدم قريباً (اللهم اغفر لي ذنبي كله) توكيد للإِحاطة والشمول أتى به، لدفع توهم أن المراد به ذنب مخصوص، ولبيان أن العوم المفاد من إضافته مراد (دقه) بكسر الدال المهملة، أي: صغيره وقدم سلوكاً للترقي في السؤال الدال على التدريج في ترجي الإِجابة، أو إشارة إلى أن الكبائر إنما تنشأ غالباً عن الصغائر، أو الإِصرار عليها وعدم المبالاة بها فهي وسيلة، والوسيلة من حقها التقدم (وجله) بكسر الجيم أي: كبيره (وأوله) وفي نسخة بحذف الواو (وآخره وعلانيته) بتخفيف التحتية اسم مصدر علن (وسره. رواه مسلم) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 215) .
(2) أخرجه مسلم: في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 216) .

(7/225)


1428- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: افْتَقَدْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَتَحَسَّسْتُ، فإذا هُوَ راكِعٌ - أَوْ سَاجِدٌ - يقولُ: "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لاَ إلهَ إِلاَّ أنت" وفي روايةٍ: فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ في المَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وأعُوذُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1428- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: افتقدت) أي: فقدت كما في رواية فزيادة الألف والتاء. للمبالغة في المدلول (النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة) لعلها كانت ليلة النصف من شعبان، ففي جزء ابن الأخضر في فضائل شعبان "عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لها: أي ليلة هذه؟ قالت: الله ورسوله أعلم! قال: هي ليلة النصف من شعبان، قالت: فقام وصلى، فخفف القيام فقرأ الحمد لله وسورة خفيفة، وسجد إلى شطر الليل، وقام في الركعة الثانية فقرأ فيها نحو قراءته الأولى، وكان في سجوده إلى الفجر.
قالت عائشة: فكنت أنتظره قائمة أراوح بين قدمي (1) فلما طال علي ظننت أن الله عز وجل قد قبض رسوله فدنوت منه حتى مسست أخمص قدميه فتحرك فسمعته يقول في سجوده: أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك الخ، فقلت: يا رسول الله لقد سمعتك تقول في سجودك الليلة شيئاً ما سمعتك تذكره قط؟ قال: وعلمت ذلك؟ قلت: نعم. قال: تعلميهن وعلميهن، فإن جبريل أمرني أن أكررهن في السجود" وأخرجه محمد بن عيسى بن حبان من حديث أبي سعيد الخدري عن عائشة فذكره كذلك (فتحسست) بالمهملة أي: تطلبته (فإذا) فجائية (هو راكع أو) شك من الراوي (ساجد يقول) أي: في الركن الذي كان فيه منهما (سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت وفي رواية) أي: لمسلم أيضاً (فوقعت يدي على بطن قدميه) يحتمل أنه كان من وراء حائل فلا دليل فيه لعدم النقض بلمس الأجنبية؛ لأن وقائع الأحوال متى طرقها الاحتمال سقط بها الاستدلال (وهو في المسجد وهما منصوبتان) فيه سن نصب القدمين، ويجب أن يكون رءوس أصابعهما للقبلة (وهو يقول) أي: في سجوده (اللهم إني أعوذ) أي: أعتصم وأتحفظ (برضاك) عني ففيه تضمن لسؤال الرضا عنه (من) وقوع (سخطك) بفتحتين وبضم فسكون الانتقام (و) أعوذ (بمعافاتك) أي: بعفوك وأتى بالمفاعلة مبالغة، وصرحّ بهذا مع تضمن الأول له؛ لأن الإِطناب في مقام الدعاء محمود، ولأن المطابقة أقوى من التضمن، على أن الراضي قد يعاقب لمصلحة أو لحق الغير، فكان التصريح بذلك لا بد منه (من عقوبتك) لي وهذا باب التدلي من صفات الذات
__________
(1) أي: أقوم على إحداهما مرة وعلى الآخرى مرة.

(7/226)


"أيعجزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ في كلِّ يومٍ ألْفَ حَسَنَةٍ! " فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ ألفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: "يُسَبِّحُ مِئَةَ تَسْبِيحَةٍ فَيُكْتَبُ لَهُ ألْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ ألفُ خَطِيئَةٍ". رواه مسلم.
قَالَ الحُمَيْدِيُّ: كذا هُوَ في كتاب مسلم: "أَوْ يُحَطُّ" قَالَ البَرْقاني: ورواه شُعْبَةُ وأبو عَوَانَة، وَيَحْيَى القَطَّانُ، عن موسى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أيعجز) بكسر الجيم على الأفصح (أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل) لم أقف على من سماه (من جلسائه كيف يكسب ألف حسنة قال: يسبح مائة تسبيحة) أي: كأن يقول سبحان الله مائة مرة (فيكتب) بالتحتية وفي أخرى بالفوقية وبكل منهما جاء القرآن ففي آية (من بعد ما جاءتهم البينات) (1) وفي أخرى: (وجاءهم البينات) (2) والفعل مبني للمفعول، وترك ذكر الفاعل للعلم به وهو الله تعالى واللام في (له) للنفع كهي في قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه) (3) والظرف في محل الحال قدم من تأخير ونائب الفاعل (ألف حسنة أو) يحتمل أن تكون بمعنى الواو كما في قول الشاعر:
جاء الخلافة أو كانت له قدراً
ويؤيده مجيئه بها في اللفظ الثاني ويحتمل أنها للتنويع فنوع يكتب له بالتسبيح مائة ألف حسنة، لأنه حسنة، وقد قال تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (4) وآخر يحط عنه بذلك ألف خطيئة من الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، ويحتمل أنها للشك من الراوي (يحط عنه ألف خطيئة رواه مسلم) في الدعوات وكذا رواه فيها الترمذي. وقال: حسن صحيح، والنسائي في اليوم والليلة (قال) الحافظ أبو عبد الله محمد بن نصر (الحميدي) بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية، نسبة لجده الأعلى الأندلسي صاحب كتاب الجمع بين الصحيحين (كذا هو في كتاب مسلم) ثم بين المشار إليه بقوله: (أو يحط) أي: بالهمزة قبل الواو (قال) الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب المحدث الصالح (البرقاني) بفتح الموحدة وبكسرها، نسبة لقرية كانت بنواحي خوارزم خربت كذا في لب اللباب. قال الحافظ في فتاويه التي جمعها تلميذه السخاوي: كل ما ينقله البرقاني إنما هو من كتابه المستخرج على الصحيحين، فإنه جمع كتاباً جمع فيه بين الصحيحين، ورتبه على أسماء الصحابة، وعليه عول الحميدي في الجمع بين الصحيحين اهـ (ورواه شعبة) أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة، الآية: 213.
(2) سورة آل عمران، الآية: 86.
(3) سورة فصلت، الآية: 46.
(4) سورة الأنعام، الآية: 160.

(7/228)


الَّذِي رواه مسلم من جهتِهِ فقالوا: "ويحط" بغير ألِفٍ (1) .
1430- وعن أَبي ذر - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يُصْبحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقةٌ: فَكُلُّ تَسْبيحَةٍ صَدَقةٌ، وَكُلُّ تَحْميدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبيرَةٍ صَدَقَةٌ، وأمْرٌ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ؛ وَيجْزئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن الورد العتكي وهو أول من قيل له أمير المؤمنين في الحديث. قال الحافظ في فتاويه: وهو كما قال البرقاني والحميدي، لكن وجدته في مسند أحمد من طريق شعبة وغيره، بالواو تارة وبأو تارة، وكان الإِمام أحمد شديد الحرص على ألفاظ الرواية اهـ (أبو عوانة) بفتح المهملة وبالنون، الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة متقن (ويحيى) بن سعيد (القطان) البصري قال أحمد: ما رأيت مثله وقال بندار وهو إمام أهل زمانه واختلفت إليه عشرين سنة، فما أظن أنه عصى الله قط، وكان رأساً في العلم والعمل (عن موسى الذي رواه مسلم) في صحيحه (من جهته) أي: من طريقه، وهو موسى الجهني وعليه مدار الحديث، وهو يرويه عن مصعب بن سعد عن أبيه (فقالوا ويحط بغير ألف) وحديث يحيى بن سعيد رواه الترمذي في الدعوات من جامعه. وقال: هذا حديث حسن صحيح، أي: والروايات يفسر بعضها بعضاً وهذا من المصنف، للتنبيه على أن أو ليست للشك، وإن كان محتملاً، بل عاطفة وظاهر كلامه أنها بمعنى الواو. وتقدم أيضاً احتمال أنها على بابها للتنويع، وقد بسطت الكلام في ذلك في شرح الأذكار.
1430- (وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يصبح على كل سلامى) بضم المهملة وباللام والميم أي: عضو (من أحدكم صدقة) أي: عظيمة شكراً لله تعالى على عظيم منته بسلامة ذلك (فكل تسبيحة) أي: كقول سبحان الله (صدقة وكل تحميدة) أي: ثناء على الله بأوصافه العلية نحو الحمد لله (صدقة وكل تهليلة) أي: قول لا إله إلا الله (صدقة وكل تكبيرة) أي: قول الله أكبر (صدقة وأمر) بالرفع وغير النظم لاختلاف النوع (بالمعروف) أي: ما عرف شرعاً من واجب أو مندوب (صدقة ونهي عن المنكر) أي: من محرم أو مكروه (صدقة ويجزي) بفتح التحتية بلا همز وبالضم معه (من ذلك) أي: بدل المذكور من القول والعمل، في أداء شكر النعم التي على كل سلامى (ركعتان يركعهما)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (الحديث: 37) .

(7/229)


روايةٍ لَهُ: "سُبْحانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ". وفي رواية الترمذي: "ألا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهَا؟ سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ؛ سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واقتصر عليه العاقولي أي: تسبيحاً عدد خلقه ويجري هذان في قوله: (ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، رواه مسلم، وفي رواية له، سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه) أي: ذاته العلية (سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته) بكسر الميم مصدر كالمد، بمعنى المدد، وهو ما كثرت به الشيء يقال مددت الشيء أمده، ويحتمل أنه جمع مد بالضم للمكيال المعروف فإنه يجمع كذلك، وكلمات الله قيل: كلامه القديم المنزه عن أوصاف الكلام الحادث، وقيل: علمه، وقيل: القرآن، ثم قيل: معناه مثلها في العدد أو في عدم التقدير، أو في الكثرة أي: كل من التسبيح وما معه بمقدار هذه أو عددها لو فرض حصره، فذكر القدر والعدد مجاز عن المبالغة في الكثرة، وإلا فكلماته لا تعد ولا تحصى، ولذا ختم بها إيماءً إلى أن تسبيحه وحمده لا يحدان بعد ولا مقدار، وقيل: فيه ترق، لكن لا يتم ذلك في الكل؛ لأن رضا النفس أبلغ من زنة العرش، ولعله مراد المصنف بقوله والمراد المبالغة في الكثرة؛ لأنه ذكر أولاً ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك، وهو رضا النفس، ثم زنة العرش، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك، وعبر عنه بقوله ومداد كلماته، أي: لا يحصيه عدد، كما لا تحصي كلمات الله تعالى، وصرّح في الأولى بالعدد، وفي الثالثة بالزنة، ولم يصرح في الآخرين بشيء منهما إيذاناً بأنهما لا يدخلان في جنس المعدود والموزون، ولا يحصرهما المقدار لا حقيقة ولا مجازاً، فحصل الترقي من عدد الخلق إلى رضا النفس، ومن زنة العرش إلى مداد الكلمات (وفي رواية الترمذي: ألا أعلمك) بكسر الكاف (كلمات تقولينها: سبحان الله عدد خلقه سبحان الله عدد خلقه سبحان الله عدد خلقه) التكرير لزيادة التفخيم والتعظيم "وقد سأل" المحقق جلال الدين المحلي الحافظ ابن حجر عما ورد من نحو هذا الخبر فقال: ما المراد منه حتى ارتفع فضل التسبيح الأقل زمناً على الأكثر زمناً "فأجاب" قد قيل: في الجواب إن في ألفاظ الخبر سراً تفضل به على لفظ غيره، فمن ثم أطلق على اللفظ القليل أنه أفضل من اللفظ الكثير، ويحتمل أن يكون سببه أن اللفظ القليل مشتمل على عددٍ لا يمكن حصره، فما كان منها من الذكر بالنسبة إلى عدد ما ذكر في الخبر قليل جداً فكان أفضل من هذه الحيثية اهـ. وقد بسطت الكلام في هذا المقام في شرح الأذكار في باب فضل الذكر بنقل

(7/231)


سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرشِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرشِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ" (1) .
1432- وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ". رواه البخاري.
ورواه مسلم فَقَالَ: "مَثَلُ البَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالبَيْتِ الَّذِي لا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، مَثَلُ الحَيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أجوبة الأئمة وكلامهم في ذلك بما تغني مراجعته (سبحان الله رضا نفسه) فيه إطلاق النفس على الله تعالى من غير مشاكلة، واختلف في ذلك فمن منع قال: لتوهم أنه مأخوذ من النفس المستحيل في حقه تعالى ومن أجاز ذلك، لما ورد كذلك قال: إنه مأخوذ من الشيء النفيس، ثم كرر لما تقدم فقال: (سبحان الله رضا نفسه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته سبحان الله مداد كلماته سبحان الله مداد كلماته) فيه شرف هذا الذكر بأي صيغة من صيغه المذكورة. في هذه الأحاديث، وكذا ما يؤدي مؤداها وأن الأجر ليس على قدر النصب، بل لله أن يأجر على العمل القليل بالأجر الجزيل.
1432- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مثل) بفتحتين (الذي يذكر ربه والذي لا يذكر) أي: صفة من ذكر العجيبة الشأن التي لغرابتها كادت أن تكون في ذلك كالمثل، ولا يخفى ما في التعبير بربه هنا، من البعث على الذكر والرمز إلى الذم لمن تركه كما قال: (مثل الحي والميت) .
فالأول: ظاهره مزين بالحياة والعمل، وباطنه معمور بالسر فيه.
والثاني: ظاهره عاطل وباطنه باطل. وقال العيني: وجه الشبه بين الذكر والحي الاعتداد والنفع والنضرة ونحوها وبين تارك الذكر والميت التعطيل في الظاهر والبطلان في الباطن. (رواه البخاري) (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، (الحديث: 79) .
(2) في نسخ المتن هنا زيادة ورواه مسلم الخ.

(7/232)


والمَيِّتِ" (1) .
1433- وعَنْ أبي هُرْيْرَةَ رَضِيَ الفَهُ عَنْة أَنً رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَقولُ اللهُ تعالَى: أَنَا عِنْدَ ظَن عَبْدي بي، وأَنَا مَعَه إِذَا ذَكَرني؛ فَإِنْ ذَكَرَني في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَمسي، وإنْ ذَكَرَني في مَلٍأ ذَكَرْتُهُ في مَلٍأ خَيْرٍ مِنْهُمْ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1433- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى) تقدم أن هذه إحدى الصيغ لرواية الحديث القدسي، والمشهور أن يقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي) قال التوربشتي: الظن فيه بمعنى اليقين أي أنا عند يقينه بي في الاعتماد على الاستيثاق بوعدي والرهبة من وعيدي والرغبة فيما عندي.
وقال ابن حجر في فتح الإِله: جاء في رواية: فلا يظن بي إلا خيراً فإني أحققه له، ولا يظن بي شراً فإني أحققه له لتقصيره بذلك، لأن رحمتي سبقت غضبي ومن ثم كان اليأس من رحمة الله كفراً كما أن أمن مكره كذلك (وأنا معه) أي: بالحفظ من الشيطان وجنده، أو بالتوفيق والإِعانة (إذا ذكرني) بلسانه أو قلبه، ثم فرع عليه ما يفيد أنه مع الذاكر سواء ذكره في نفسه أو مع غيره فقال: (فإن ذكرني في نفسه) أي: سراً وإخلاصاً وبعداً عن مظان الرياء (ذكرته في نفسي) ذكر هذا مع استحالة الظرفية، والنفس على الله للمشاكلة على حد (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) (2) قال التوربشتي: الذكر من الله حسن قبوله منه والمجازاة له بالحسنى. والمراد من هذا أن الله يؤتي المسر بذكره ثوابه سراً على منوال عمله، أي: فيخفي ذلك عن ملائكته، ويعطيه من غير أن يكل إثابته إلى مخلوق، وفائدة ذكر الله له في الغيب الاصطفاء والاستئثار، وأنه تعالى إنما يدع علم الشيء بمكان من الغيب استئثاراً به، واصطفاءً له، وفيه صيانة سر العبد من اطلاع الملأ الأعلى وتوقي عمله عن إحاطة الخلق بكنه ثوابه، ونظيره في هذا حديث "الصوم لي وأنا أجزي به" (وإن ذكرني في ملأ) من الذاكرين (ذكرته في ملأ خير منهم) أي: وهم الملائكة، ولا دليل فيه لتفضيل مطلق الملك على البشر، لإِمكان أن يحمل على أن المراد من الملائكة خواصهم، وهو الأفضل من عوام البشر، كما يعلم من تفصيل التفضيل، بين النوعين المقرر في كتب علم الكلام، أي: أن خواص البشر من الأنبياء والمرسلين أفضل من خواص الملك، وخواصهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل ذكر الله عز وجل (11/175 و117) .
(2) سورة المائدة، الآية: 116.

(7/233)


متفق عَلَيْهِ (1)
1434- وعنه قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبَقَ المُفَرِّدُونَ" قالوا: وَمَا المُفَرِّدُونَ؟ يَا رسولَ الله قَالَ: "الذَّاكِرُونََ اللهَ كثيراً والذَّاكِرَاتِ". رواه مسلم.
وَرُوي: "المُفَرِّدُونَ" بتشديد الراءِ وتخفيفها والمشهُورُ الَّذِي قَالَهُ الجمهُورُ: التَّشْديدُ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كجبريل وميكائيل والكروبيين أفضل من عوام البشر، وعوامهم وهم المطيعون أفضل من عوام الملك، وعوامهم أفضل من العصاة من البشر. قال التوربشتي: فإن ذكر العبد ربه في ملأ في غمارهم أحد المفضلين على الملائكة كالذكر بمسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المفضل على الكل قدر الأمر على أنه بمسمعه - صلى الله عليه وسلم - في أفاضل الملائكة فصار هو، أيضاً من جملة أولئك الملأ فبانضمامهم إليه صار ذلك الملأ خيراً من الملأ الأول، ثم الخيرية محتملة لأن تكون راجعة إلى ما يكون الذكر مصدره أي: ملأ خير من الملأ الذي ذكره فيهم؛ لمواظبة أولئك الملأ أبد الدهر في محال القرب، وأبدية القدس على الدعاء للمؤمنين كما يشهد به قوله تعالى عنهم: (ويستغفرون للذين آمنوا) (3) الآية (متفق عليه) .
1434- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبق المفردون) أي: إلى مرضات المولى، والدرجات العلا، والشهود الأكمل، والحال الأفضل (قالوا وما المفردون) أتى بما لان المسؤول عنه الوصف، فهو كقول (فرعون وما رب العالمين) (4) لأنه سؤال عن صفة الربوبية لا عن ذات الرب (5) وقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم) (6) (يا رسول اللهّ) أي: ما صفتهم حتى نتأسى بهم فنسبق إلى ما سبقوا إليه (قال) صفتهم أنهم (الذاكرون الله كثيراً) تقدم ما يندرج به العبد في الموصوفين بذلك (والذاكرات) أي: الله كثيراً، كما دل عليه السياق فلذا حذف (رواه مسلم، روى المفردون بتشديد الراء وتخفيفها، والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد) قال التوربشتي: روي المفردون بتشديد الراء وكسرها وبفتحها (7) والتخفيف، واللفظان وإن اختلفا في الصيغة، فإن كل واحد منهما في المعنى قريب من
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه (3/125 و326) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى، (الحديث: 2) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى، (الحديث: 4) .
(3) سورة غافر، الآية: 7.
(4) سورة الشعراء، الآية: 23.
(5) الذي في البيضاوي وغيره أن فرعون إنما سأل عن الحقيقة فليتأمل.
(6) سورة النساء، الآية: 3.
(7) قوله وبفتحها لعل صوابه وبكسرها. ع.

(7/234)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المائة، لكن تقدم في التهليل ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به. فيحتمل الجمع بكون التهليل أفضل، وأنه مما زيد فيه من رفع الدرجات، وكتب الحسنات، ثم ما جعل مع ذلك من عتق الرقاب قد يزيد على فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا، لأنه جاء "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار" فيحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عموماً بعدما عدد منها خصوصاً مع زيادة رفع الدرجات، ويؤيده حديث "أفضل الذكر لا إله إلا الله" وأنها أفضل ما قاله والنبيون من قبله، وأنها كلمة التوحيد والإِخلاص. وقيل: إنها اسم الله الأعظم. ولا يعارض حديث فضل التهليل حديث أبي ذر "قلت يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله؟ قال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده" أخرجه مسلم، وفي لفظ سئل "أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفاه الله لملائكته، سبحان الله وبحمده" قال الطيبي: ويمكن أن يكون قوله سبحان الله وبحمده مختصراً من الكلمات الأربع وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لأن سبحان الله تنزيه عما لا يليق بجلاله، وتقديس لصفاته عن النقائص فيندرج فيه معنى لا إله إلا الله، وقوله: وبحمده، صريح في معنى الحمد لله لأن الإِضافة في وبحمده بمعنى اللام ويستلزم ذلك معنى الله أكبر لأنه إذا كان كل الفضل والإِفضال له تعالى ومنه لا من شيء غيره فلا أكبر منه، ومع ذلك كله فلا يلزم فضل التسبيح على التهليل، لصراحة التهليل في التوحيد وتضمن التسبيح له، ولأن نفي الألوهية في قول لا إله نفي لما في ضمنها من الخلق والرزق والإِثابة والعقوبة، وقول إلا الله إثبات لذلك، ويلزم منه نفي ما يضاده ويخالفه من النقائض فمنطوق سبحان الله تنزيه ومفهومه توحيد، ومنطوق لا إله إلا الله توحيد ومفهومه تنزيه، يعني فيكون لا إله إلا الله أفضل، لأن التوحيد أفضل والتنزيه ينشأ عنه. وقد جمع القرطبي بأن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل، أو أحب إلى الله تعالى فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها بدليل حديث سمرة عند مسلم "أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت" الحديث، ويحتمل أن يكتفي في ذلك بالمعنى فيكون من اقتصر على بعضها كفي، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه، ومن عظمه فقد نزهه، وبالعكس. قال الحافظ في الفتح: ويمكن الجمع بأن من مضمرة في قوله "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وفي قوله: "إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله"، بناء على أن لفظ أفضل وأحب متساويان، لكن يظهر مع ذلك تفضيل لا إله إلا الله، لأنها ذكرت بالتنصيص عليها بالأفضلية الصريحة، وذكرت مع أخواتها بالأحبية فحصل لها الفضل تنصيصاً وانضماماً اهـ ملخصاً، وقال الطيبي: قال بعض المحققين: إنما جعل التهليل أفضل الذكر، لأن لها تأثيراً في تطهير الباطن عن الأوصاف الذميمة التي هي معبودة في

(7/236)


رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1437- وعن عبد الله بن بسر - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً قَالَ: يَا رسولَ الله، إنَّ شَرَائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَليَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيءٍ أَتَشَبثُ بِهِ قَالَ: "لا يَزالُ لِسَانُكَ رَطباً مِنْ ذِكْرِ الله". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الظاهر. قال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) (3) فيفيد نفي عموم الإِلهية بقوله " لا إله وإثبات الوحدانية بقوله إلا الله، ويعود الذكر من ظاهر اللسان إلى باطن الجنان، فيتمكن فيه ويستولي على جوارحه، ويجد حلاوة هذا من ذاق. اهـ (رواه الترمذي) بزيادة: وأفضل الدعاء الحمد لله (وقال: حديث حسن) قال الحافظ في الفتح: ورواه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم.
1437- (وعن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة المازني (رضي الله عنه) (4) نزل حمص (5) وروى عنه جرير بن عثمان، وحسان بن نوح، وعاش أربعاً وتسعين سنة، خرّج حديثه الستة (أن رجلاً) لم يتعرض السيوطي في قوت المغتذي لتسميته، وجاء في حديث آخر له: أن أعرابياً سأل أي الأعمال أفضل؟ فقال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله اهـ وبه يعلم أنه من البادية (قال: يا رسول الله إن شرائع الإِسلام) جمع شريعة بمعنى مشروعة أي: مشروعاته من واجب، أو مندوب التي شرعها الله لعباده من الأحكام (قد كثرت علي) أي غلبتني حتى عجزت عنها لضعفي وقلة جهدي (فأخبرني بشيء أتشبث) بفتح الفوقية والمعجمة والموحدة وبالثاء المثلثة، أي: أتعلق وأعتصم (به) ليكون مغنياً لي عن النوافل التي كثرت علي فعجزت عن استقصائها، ثم الفعل يجوز فيه الرفع على أن الجملة صفة شيء، والجزم على أنها جواب شرط مقدر؛ لكونها في جواب الطلب (قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) قال الطيبي: رطوبة اللسان عبارة عن سهولة جريانه، كما أن يبسه عبارة عن ضده، ثم إن جريان اللسان حينئذ عبارة عن مداومة الذكر فكأنه قال: دوام الذكر فهو من أسلوب قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (6) وقال العاقولي: بعد
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة (الحديث: 3383) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: في فضل الذكر (الحديث: 3375) .
(3) سورة الجاثية، الآية: 23.
(4) الأولى (عنهما) لأن أباه صحابي كما في الاستيعاب.
(5) أي ومات بها سنة ثمان وثمانين وهو آخر من مات بالشام اهـ استيعاب.
(6) سورة آل عمران، الآية: 102.

(7/237)


إسناده صحيحٌ (1) .
1440- وعَنْ سَعْدِ بنِ أَبي وقاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلى امْرَأَةٍ وبَيْنَ يَديْها نَوى أوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ فَقالَ: "أُخْبِرُكَ بِما هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجهاد يخلص منه في زمان يسير، لأن الصبر على مضاضة القتل ساعة واحدة، والصبر على مداومة الحضور مع الذكر طويل، وفي فتح الباري: الجمع بحمل حديث الباب ونحوه مما يدل على أن الذكر أفضل من سائر الأعمال على الذكر الكامل، وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب والتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، فالذي يحصل له ذلك أفضل من المجاهد للكفار من غير استحضار لذلك، وإن أفضلية الجهاد بالنسبة لذكر اللسان المجرد فمن اجتمع له كل ذلك بأن ذكر الله بقلبه ولسانه واستحضر عظمته تعالى في كل حال، وقاتل الكفار مثلاً فهو الذي بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله اهـ. وفي فتح الاله: يمكن الجمع بحمل الخيرية هنا على أنها من وجه، هو امتلاء القلب بالذكر المستلزم لدفع الشيطان، وطرده عن ساحة القلب الذي بطهارته وصلاحه يطهر ويصلح البدن كله، فالذكر لتأثيره فيه ما لا يؤثره الإِنفاق وبذل النفس يكون خيراً منهما من هذه الحيثية، وإن كانا أفضل منه من سائر الحيثيات غير ذلك، فاعتبار قيد الحيثية يدفع التنافي فتأمله. وقول ابن عبد السلام في قواعده يعني السابق عنه جارٍ على الأخذ بظاهر الحديث، مع قطع النظر عن مقتضى كلام أئمة المذهب اهـ. ملخصاً (رواه الترمذي) ومالك وأحمد وابن ماجه، إلا أن مالكاً وقفه على أبي الدرداء أي: وذلك غير ضار، لأن مثله لا يقال رأياً فهو مرفوع حكماً، ولأن الأصح تقديم الرفع على الوقف (قال الحاكم أبو عبد الله) صاحب المستدرك (إسناده صحيح) .
1440- (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة) يحتمل كونها صفية بنت حيي فقد جاء عنها عند الترمذي وغيره حديث فيه نحو ما في هذا الحديث، ويحتمل كونها جويرية السابق ذكر حديثها، وقد أثار الاحتمالين صاحب السلاح، ويحتمل أنها غيرهما ولعلها كانت من محارم سعد، أو كان ذلك قبل نزول الحجاب، إن نظر لوجهها، وإلا فلا إشكال وأما هو (2) - صلى الله عليه وسلم - فمن خصائصه أن الأجانب منهن بمنزلة المحارم منه
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، [باب: 6] ، (الحديث: 3377) .
(2) هذا إنما يأتي على الاحتمال الثالث.

(7/240)


مِنْ هَذَا - أَوْ أفْضَلُ -" فَقَالَ: "سُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا خَلَقَ في السَّمَاءِ، وسُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا خَلَقَ في الأرْضِ، وسُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وسُبحَانَ الله عَدَدَ مَا هو خَالِقٌ، واللهُ أكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، والحَمْدُ للهِ مِثْلَ ذَلِكَ؛ وَلاَ إلَهَ إِلاَّ اللهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ مِثْلَ ذَلِكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". (1) .
1341- وعن أَبي موسى - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في جواز الخلوة بهن، والدخول عليهن للأمن من الفتنة لعصمته - صلى الله عليه وسلم - (وبين يديها نوى) بالقصر، وهو العجم (2) واحدة نواة، والجمع نوايات وأنواء كما في المصباح (أو حصى) بالقصر واحده حصاة (تسبح به فقال: ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا) أي: التسبيح بما عندها من النوى أو الحصى (أو أفضل) شك من سعد، ويحتمل أن أو بمعنى الواو، وإنما كان أفضل؛ لأن قوله عدد ما خلق وما ذكر بعده يكتب له به ثواب بعدد المذكورات كما علم مما تقدم في حديث جويرية. وما تعده بالنوى أو الحصى قليل تافه بالنسبة لذلك الكثير الذي لا يعلم كنهه إلا بارئه (فقال سبحان الله عدد ما خلق) ما عام في الأجناس كلها ما يعقل منها وما لا يعقل (في السماء وسبحان الله) أتى بالعاطف لاختلاف المقدر به (عدد ما خلق في الأرض وسبحان الله عدد ما) خلق (بين ذلك) أي: المذكور من السماء والأرض أو المذكور مما خلق فيهما (وسبحان الله عدد ما هو خالق) أي: خالقه من بدء الخلق إلى منتهاه. قال العاقولي: أجمل بعد التفصيل لأن اسم الفاعل إذا أسند إلى الله تعالى أفاد الاستمرار فلا يقصد منه زمان دون زمان بل استغراق سائر الأزمنة. قال في فتح الإِله: إلا أن يقال أن مقابلته بخلق يدل على أن المراد عدد ما خلق قبل تكلمي بهذا الذكر وعد ما هو خالق بعده إلى ما لا نهاية له وهذا أولى (والله أكبر مثل ذلك) بالنصب على المصدر كالنظاير قبله (والحمد لله مثل ذلك. ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك. رواه الترمذي وقال: حديث حسن) غريب. قال في السلاح: ورواه أبو داود، والنسائي، والحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه.
1441- (وعن أبي موسى) الأشعري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا) بفتح
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 114] ، (الحديث: 3568) .
(2) في الصحاح: العجم بالتحريك النوى وكل ما كان في جوف مأكول كالزبيب وما أشبهه اهـ.

(7/241)


أدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ " فقلت: بلى يَا رسولَ الله قَالَ: "لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
245- باب ذكر الله تَعَالَى قائماً أَوْ قاعداً ومضطجعاً ومحدثاً وجنباً وحائضاً إِلاَّ القرآن فَلاَ يحل لجنب وَلاَ حائض
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (إنَّ في خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالهمزة وتخفيف اللام للتنبيه (أدلك على كنز من كنوز الجنة) أي: ذخيرِة من ذخائرها أو من محصلات نفائسها. قال المصنف: المعنى أن قائلها يحصل ثواباً نفيساً يدخر له في الجنة (فقلت: بلى يا رسول الله قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) أي: لا تحويل للعبد عن معصية الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله. وقيل: معنى لا حول لا حيلة. وقال النووي: هي كلمة استسلام وتفويض، وأن العبد لا يملك من أمره شيئاً، ولا له حيلة في دفع شر، ولا في جلب خير إلا بإرادة الله تعالى (متفق عليه) ورواه ابن ماجه، والحاكم في مستدركه، من حديث أبي هريرة بلفظ "ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله: أسلم عبدي واستسلم".
باب فضل ذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً
حال من فاعل المصدر المحذوف، أي: ذكر العبد الله حال قيامه الخ، والمراد من المضطجع ما يعم المستلقي ونحوه (ومحدثاً) حدثاً أصغر، من نحو نوم بدليل قوله (وجنباً وحائضاً) والنفساء إما داخلة في الحائض؛ لأن النفاس دم حيض مجتمع وإن لم يعط حكمه من كل وجه، أو مقايسة عليها (إلا القرآن) وبين وجه الاستثناء بقوله: (فلا يحل لجنب ولا حائض) شيء منه ولو حرفاً واحداً بقصد القرآن ولو مع غيره، أما عند قصد نحو الذكر أو الإِطلاق فلا يحرم، بل يستحب لهما التسمية عند نحو الأكل قاصدين التبرك، وكذا الأذكار المطلوبة في أماكنها من نحو إنا الله وإنا إليه راجعون عند المصيبة. (قال الله تعالى إن في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: قول لا حول ولا قوة إلا بالله وفي المغازي والقدر (11/159) ، وأخرجه مسلم في كتاب: الدعاء والذكر، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (الحديث: 2704) .
(2) سورة آل عمران، الآيتان: 190، 191.

(7/242)


لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) .
1442- وعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ الفهُ عَنْهَا قَالَتْ: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللهَ عَلى كل أَحْيانِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) .
1443- وعَنِ ابنِ عَباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ أَنَ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتى أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنبْنا الشَّيْطانَ وجَنبِ الشَّيْطانَ مَا رَزَقْتَنا. فَقُضِيَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خلق السموات والأرض) إذ جعل. الأولى: مرفوعة لا على عمد. والثانية: مدحوة مسطحة على ماء جمد (واختلاف الليل والنهار) أي: وفي اختلافهما بالظلمة والإِضاءة، أو تعاقبهما أو تكوير أحدهما على الثاني وإيلاجه فيه، أو تعارضهما بالطول والقصر، فتارة يطول هذا أو يقصر ذاك ثم يعتدلان، ثم يقصر الذي كان طويلاً ويطول الذي كان قصيراً، كل ذلك بتقدير العزيز العليم، ويجوز عطف الاختلاف على مدخول الخلق، ويراد به التقدير (لآيات لأولي الألباب) دلالات على الوجود والوحدة، والعلم، والقدرة لذوي العقول الخالصة، وقد ورد ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (الذين يذكرون الله) وصف لأولي (قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) أي: يصلون قائمين، فإن لم يستطيعوا فقاعدين، فعلى (2) جنب، أو المراد مداومة الذكر، فإن الإِنسان قلما يخلو عن إحدى هذه الحالات.
والثاني: أنسب بالترجمة.
1442- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على) أي في (كل) أي: جميع (أحيانه) سواء كان متطهراً من الحدثين أو به أحدهما، وظاهر أنه ليس المراد حال الإِحداث، فقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله يمقت الكلام حينئذ، وجاء أن الكلام وقت الجماع منهي عنه (رواه مسلم) في الجامع الصغير، ورواه أحمد وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
1443- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن) بفتح الهمزة بتقدير فعل عامل بعد لولا اختصاصها بالفعل أي: لو ثبت أن (أحدكم) أي: الواحد منكم (إذا أتى أهله) أي: عند الجماع أي: إرادته (قال باسم الله) أي: أتحصن ويكتب بالألف، كما قال
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الحيض، باب: ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، (الحديث: 117) .
(2) لعله (فإن لم يستطيعوا فعلى الخ) . ع.

(7/243)


بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ". متفق عَلَيْهِ (1) .
246- باب مَا يقوله عِنْدَ نومه واستيقاظه
1344- عن حُذَيفَةَ، وأبي ذرٍ رضي الله عنهما، قالا: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَحْيَا وَأموتُ" وَإذَا اسْتَيقَظَ قَالَ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصنف: وحذفها تخفيفاً خاص بالبسملة (اللهم جنبنا الشيطان) أي: بعده عنا يتعدى للثاني مخففاً، ومثقلاً كما في المصباح. قال فيه: جنبت الرجل الشر جنوباً من باب قعد أبعدته عنه، وجنبته بالتثقيل مبالغة اهـ (وجنب الشيطان ما رزقتنا) دخل فيه الجماع، لأن الرزق ما ينتفع به البدن، والجماع منه لما فيه من إذهاب المواد المفسد بقاؤها للبدن (فقضي) عطف على قال (بينهما ولد لم يضره) أي: الشيطان وحذف المعمول ليعم كما جاء في لفظ: لم يضره الشيطان أبداً والمراد أن الضرر الناشيء من تسلط الشياطين كالصرع، وإلقاء الوسوسة في الصدر يندفع بقوله هذا عند إرادة الجماع (متفق عليه) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
باب ما يقوله عند نومه
أي: إرادته، وهو زوال الشعور بسبب انحلال أعصاب الدماغ بالرطوبات الصاعدة إليه من المعدة. والصحيح أنه غير السنة كما يدل عليه عطفه عليها في آية الكرسي، وغير النعاس، وعلامة النوم الرؤيا، وعلامة النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه (واستيقاظه) .
1444- (عن حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما قالا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى) بالقصر كما هو الأفصح (إلى فراشه) أي: دخل فيه أو انزوى إليه (قال: باسمك) أي: بذكر اسمك (اللهم أحيا) ما حييت (و) عليه (أموت) أي: الموت الحقيقي أو الموت المجازي، وهو النوم، فعليه في الحديث استعارة تبعية مصرحة، ووجه شبهه به زوال الشعور، والحركة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس والنكاح باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله، والدعوات، باب: ما يقول إذا أتى أهله، والتوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى (11/161) .
وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع، (الحديث: 1160) .

(7/244)


أَحْيَانَا بعْدَ مَا أماتَنَا وإِلَيْهِ النُّشُورُ". رواه البخاري (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الاختيارية مع كل منهما، وفيه إيماء إلى أن مقصود الحياة، وهو التقرب إلى الله تعالى بأداء عبادته لما فات من النائم ألحق بالميت فأطلق عليه ذلك. وقال العيني: قيل: فيه دليل على أن الاسم غير المسمى، ومنع لا سيما أن لفظ الاسم يحتمل أن يكون مقحماً كهو في قوله ثم اسم السلام عليكما (وإذا استيقظ) أي: تيقظ (قال: الحمد لله الذي أحيانا) بالاستيقاظ المعد لتحصيل مراضي الله تعالى (بعدما أماتنا) أي: بالنوم الذي هو أخو الموت فيما تقدم.
فهو كما تقدم استعارة مصرحة تبعية. وقال الكرماني: الموت تعلق انقطاع الروح بالبدن، وذلك قد يكون ظاهراً فقط وهو النوم. ولذا يقال إنه أخو الموت وظاهراً وباطناً، وهو الموت المتعارف. اهـ. وظاهره أن الموت مشترك بينهما فيكون ما في الحديث إطلاق حقيقي، وقال أبو إسحاق الزجاج: النفس التي تفارق الإِنسان عند النوم هي التي للتمييز، والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة، وهي التي يزول بزوالها النفس (وإليه النشور) هو الحياة بعد الموت. يقال نشر الميت ينشر نشوراً، والمراد بالنشور إليه تعالى الذهاب إليه ليجازي العامل بمقتضى عمله خيراً أو شراً، وأتى بهذه ليحمل استحضارها المرء على التيقظ للإِقبال على مولاه يقظة ونوماً، فلا يقضي به نومه لتكاسل أو تباطؤ عما طلب منه، ولا تيقظه لغفلة عما طلب منه من دوام مراقبة وحضور (رواه البخاري) في الدعوات، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في الكبرى، وابن ماجه كلهم من حديث حذيفة. وقد رواه البخاري من حديث أبي ذر أيضاً، وكذا رواه النسائي في الكبرى أيضاً، ورواه مسلم والنسائي من حديث البراء، إلا أنه قال: إذا دخل مضجعه من الليل بدل قوله: إذا أوى إلى فراشه. قال الحافظ في أمالي الأذكار: بعد أن أخرجه من حديث حذيفة وأبي ذر والبراء، وذكر مخرج حديث كل من ذكرناه ما لفظه، وحاصل ما سقته أن المتن متفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه البخاري من حديث حذيفة وأبي ذر ولم يخرج حديث البراء إلاّ مسلم فقط، ففات الشيخ التنبيه على تخريج مسلم له. اهـ والحديث سبق مشروحاً في باب آداب النوم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا نام وفي التوحيد والسؤال بأسماء الله تعالى (11/96، 97، 111) .

(7/245)


247- باب فضل حِلَقِ الذكر والندب إِلَى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُريدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) .
1445- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وَجَدُوا قَوْمَاً يَذْكُرُونَ اللهَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب فضل حِلَقِ
بكسر المهملة وفتح اللام، جمع حلقة بفتح المهملة وسكون اللام، نحو قصعة وقصع، وبدرة وبدر قاله الأزهري: وقيل: حلق بفتحتين على غير قياس. وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن حلقة بفتح الحاء واللام لغة في السكون، قال: وعليه فالجمع بفتح الحاء كقصبة وقصب، وجمع ابن السراج بينهما فقال: قالوا حلق بفتح الحاء ثم خففوا الواحد حين ألحقوه الزيادة اهـ من المصباح (الذكر) بكسر الذال تقدم معناه (والندب) أي الدعاء (إلى ملازمتها) بذكر فضلها (والنهي) تنزيهاً (عن مفارقتها لغير عذر، قال تعالى: واصبر نفسك) أي: احبسها (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) طرفي النهار (يريدون وجهه) أي: يريدون الله لا عرضاً من الدنيا (ولا تعد) تنصرف (عيناك) بصرك (عنهم) أي: إلى غيرهم بالنظر إلى ذوي الغنى، أو الرتب من كفار قريش الطالبين منه - صلى الله عليه وسلم - أن يفرد لهم مجلساً لا يكون فقراء الصحابة فيه، وهو سبب النزول وعدي تعد بعن، مع أنه متعد بنفسه لتضمنه معنى النبوة، يقال: ثبت عنه عينه إذا ازدرته فلم تعلق به.
1445- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق) بضمتين والجملة الفعلية في محل الصفة لاسم إن والطرق خبرها قدم للاختصاص (يلتمسون أهل الذكر) جملة حالية من ضمير يطوفون، أو صفة بعد صفة، والذكر يتناول الصلاة، وقراءة القرآن، والدعاء بخير الدارين، وتلاوة الحديث، ودراسة العلم، ومناظرة العلماء ونحوها. قال الحافظ في الفتح: الأشبه اختصاص ذلك بمجالس
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 28.

(7/246)


عز وجل -، تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِم إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أعْلَم -: مَا يقولُ عِبَادي؟ قَالَ: يقولون: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، فيقول: هَلْ رَأَوْنِي؟ فيقولونَ: لا واللهِ مَا رَأَوْكَ. فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْني؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التسبيح والتكبير ونحوهما. والتلاوة فحسب، وإن كان قراءة الحديث، ودراسة العلم، والمناظرة فيه من جملة ما دخل تحت مسمى ذكر الله تعالى (فإذا وجدوا) من الوجدان مفعوله (قوماً يذكرون الله عز وجل) عند مسلم: فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر (تنادوا) وفي رواية الإِسماعيلي: يتنادون، أي: ينادي بعضهم بعضاً دلالة على المطلوب (هلموا) أي: تعالوا وهذا ورد على لغة تميم، وأهل نجد حيث يلحقون بهم ضمائر المخاطب، تأنيثاً وتثنية وجمعاً، ولغة أهل الحجاز استعمالها في الجميع بلفظ واحد، واختلف في أصل هذه الكلمة فقيل: أصلها هل لك في كذا أمه؟ أي: أقصده، فركبت الكلمتان فقيل: هلم أي: اقصد.
وقيل: أصلها هالم بضم اللام وتشديد الميم والهاء، للتنبيه حذفت ألفها تخفيفاً (إلى حاجتكم) وفي رواية إلى بغيتكم (فيحفونهم) بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي: يطوفون ويدورون حولهم (بأجنحتهم) وقيل: معناه يدفون أجنحتهم حول الذاكرين، فالباء للتعدية.
وقيل: للاستعانة. قاله الحافظ في الفتح (إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربهم) أي سؤالاً صورياً. بدليل قوله لدفع توهم حمله على حقيقته من استكشاف ما يجهله السائل (وهو أعلم بهم) والجملة حالية أو معترضة، ومن حكم السؤال إقرار الملائكة أن في بني آدم المسبحين والمقدسين، فيكون كالاستدراك لما سبق من قولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها) (1) (ما يقول عبادي) الجملة بيان لقوله فيسألهم ربهم، أو مفعول لقول مقدّر أي: قائلاً أولاً تقدير، بل هو ناصب بنفسه؛ لأنه نوع من القول (قال يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك) وفي رواية الإِسماعيلي "مررنا بهم وهم يذكرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك " وفي حديث أنس عن البزار "يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم والمجد العز والشرف " (قال: فيقول: هل رأوني) أي: أبصروني (فيقولون: لا والله ما رأوك) قال الحافظ في الفتح: كذا ثبت بلفظ الجلالة في جميع نسخ البخاري، وكذا في بقية المواضع وسقط لغيره (قال: فيقول: كيف لو رأوني؟
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 30.

(7/247)


قَالَ: يقُولُونَ: لَوْ رَأوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيداً، وأكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحاً. فَيقُولُ: فماذا يَسْألونَ؟ قَالَ: يقُولُونَ: يَسْألُونَكَ الجَنَّةَ. قَالَ: يقولُ: وَهل رَأَوْها؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يقول: فَكيفَ لَوْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لَوْ أنَّهُمْ رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصاً، وأشدَّ لَهَا طَلَباً، وأعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يقولون: يَتَعَوَّذُونَ مِنَ النَّارِ؛ قَالَ: فيقولُ: وَهَلْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ مَا رَأوْهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة) أتى به كذلك ليزدوج مع ما بعده الممتنع بناء صيغة التفضيل منه؛ لكونه ثلاثياً مزيداً فيه. وإلاّ فأفعل التفضيل يبنى من العبادة ويقال كانوا أعبد لك (وأشد تمجيداً) أعاد أفعل التفضيل ومتعلقه إطناباً (وأكثر لك تسبيحاً) عربه دون ما عربه في قرينه تفنناً (قال: فيقول) هكذا رواية أبي ذر أحد رواة البخاري بالفاء، وفي رواية غيره بحذفها (فما يسألون) وفي الرواية الآتية وماذا يسألوني؟ وعند أبي معاوية فأي شيء يطلبون؟ (قال: يقولون: يسألونك الجنة، وفي رواية جنتك) ثم علمهم بأنهم يسألونها يحتمل أن يكون لسماعهم له منهم، ويحتمل أن ذلك لظهوره وبدوه إذ المكلف يطلب من فضل ربه النعيم وكفاية الجحيم (قال: يقول: وهل رأوها) أي: أبصروها، وعند مسلم كما يأتي: فهل رأوا جنتي (قال: يقولون: لا والله يا رب) أتى به تلذذاً بالخطاب وطلباً لإِطالة الكلام مع الأحباب (ما رأوها قال: فيقول) أي: الله تعالى، ولأبي ذر فيقول (فكيف لو رأوها) الفاء عاطفة على مقدر أي: هذا طلبهم لها وما رأوها فكيف طلبهم لها لو رأوها؟ (قال: يقولون لو أنهم) أي: لو ثبت أنهم (رأوها كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة) هو هكذا في صحيح البخاري، وفي الفتح للحافظ ما يوهم أنه ليس عنده عليها، وعبارته قوله: كانوا أشد حرصاً: زاد أبو معاوية في روايته عليها، وفي رواية ابن أبي الدنيا "كانوا أشد حرصاً، وأشد طلبة، وأعظم فيها رغبة" اهـ. والظرف في كل من القرائن متعلق بأفعل قبله لا بالمصدر بعده، لمنع تقديم معمول المصدر عليه، ولو ظرفاً على خلاف في الظرف (قال) أي: الله (فمم) بتشديد الميم الثانية وإدغام نون من الجارة في ميمها وأصلها ما استفهامية فحذفت ألفها تخفيفاً أي: فمن أي شيء (يتعوذون) أي: يلوذون بالذكر ويعتصمون منه (قال) كذا هو بالإِفراد، وفي الكلام حذف، وهو قال: يقولون يتعوذون من النار، فسقط من قلم الشيخ يقولون، ففاعل قال: هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفاعل يقولون الملائكة (يتعوذون من النار) أي: بك فحذف لدلالة المقام عليه (قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال:

(7/248)


فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْهَا؟! قَالَ: يقولون: لَوْ رَأوْهَا كانوا أشَدَّ مِنْهَا فِرَاراً، وأشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ: فيقولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم، قَالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهم فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ". متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلمٍ عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إن للهِ مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضُلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقولون لا والله ما رأوها) صرحوا به مع دلالة عليها؛ إطناباً ولما تقدم (قال: فيقول فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فراراً) بكسر الفاء (وأشد لها مخافة) أي: خوفاً، وعدل عنه لما قاله تفخيماً لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى (قال: فيقول فأشهدكم) عطف على مقدّر أي: فأعذتهم فأشهدكم (أني قد غفرت لهم) حذف المفعول؛ للتعميم (قال: يقول ملك من الملائكة فيهم) أي: في جملتهم (فلان) تقدم أنه كناية عما يجهل من الإِعلام (ليس منهم) صفة أو حال مما قبله؛ لتخصيصه بتقديم الخبر (إنما جاء لحاجة) أي: غير ما ذكر من الذكر وما بعده (قال: هم الجلساء) أي: الكاملون المكملون (لا يشقى جليسهم) صفة أو حال أو خبر بعد خبر، أو مستأنفة لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال. قال الحافظ في الفتح: أخرج جعفر في الذكر عن الحسن البصري قال: "بينما قوم يذكرون الله إذ أتاهم رجل فقعد إليهم قال: فنزلت الرحمة ثم ارتفعت فقالوا: ربنا فيهم عبدك فلان! قال: غشوهم رحمتي، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قال: يسعد بهم جليسهم لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود (متفق عليه) فيه أن هذا اللفظ للبخاري فقط أخرجه في الدعوات، من طريق جرير، عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة انفرد به عن مسلم وقوله: (وفي رواية لمسلم) هي المتفق عليها فإنها عند مسلم في الدعوات من طريق وهيب بن خالد، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري في الدعوات عقيب حديث جرير، إلا أنه لم يسق لفظه (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لله ملائكة سيارة) بفتح المهملة وتشديد التحتية أي: سياحين في الأرض (فضلاً) قال المصنف: أرجح وجوه ضبطه وأشهرها في بلادنا ضم أوليه. وضبط ْأيضاً بضم فسكون ورجحها بعضهم، وادعى أنها أكثر وأصوب، وضبط بفتح فسكون. قال القاضي: هي الرواية عند جمهور مشايخنا في الصحيحين، وبضم أوليه ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبضم ففتح آخره ألف ممدودة جمع فاضل، قال العلماء: معناه على

(7/249)


يَتَتَبُّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإذَا وَجَدُوا مَجْلِساً فِيهِ ذِكْرٌ، قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِأجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَؤُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّماءِ الدُّنْيَا، فإذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْأَلُهُمْ اللهُ - عز وجل - وَهُوَ أعْلَمُ -: مِنْ أيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبادٍ لَكَ في الأرْضِ: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْألُونَكَ. قَالَ: وَمَاذا يَسْألُونِي؟ قالوا: يَسْألُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قالوا: لا، أَيْ رَبِّ. قَالَ: فكيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتي؟! قالوا: ويستجيرونكَ. قَالَ: ومِمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جميع الروايات أنهم زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم إلا قصد حلق الذكر (يتتبعون) ضبط بالمهملة من التتبع، وهو البحث والتفتيش عن الشيء وبالغين المعجمة من الابتغاء والطلب. قال المصنف: وكلاهما صحيح (مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم) قال المصنف: كذا في كثير من نسخ بلادنا بالمهملة وبالفاء، وفي بعضها بالضاد المعجمة، أي: حث على الحضور والاستماع، وحكى القاضي عن بعض رواتهم، وحط بالمهملتين واختاره القاضي. قال: ومعناه أي: أشار بعضهم إلى بعض بالنزول، ويؤيدها قوله بعده في رواية البخاري "هلموا إلى حاجتكم" ويؤيد الرواية بالفاء قوله في البخاري "يحفونهم بأجنحتهم" أي: يحدقون ويستديرون حولهم، ويحف بعضهم بعضاً (حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا) أي: أنهم يكثرون في مجلسه حتى يعلو بعضهم على بعض، ويملأوا ما ذكر (فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا) بكسر المهملة الثانية من باب علم (إلى السماء قال فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم، من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد) التنوين فيه للتعظيم (لك) صفة (في الأرض) صفة بعد صفة لا حال؛ لأن شرط مجيء الحال من المضاف إليه مفقود، نعم يجوز جعل الظرف حالاً من المستقر في الظرف قبله وكذا قوله (يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك) فتكون أحوالاً مترادفة، ويجوز أن تكون أحوالاً من المستقر في الظرف قبلها، فتكون على إعراب الظرف، كذلك أحوالاً متداخلة وحذفوا المفعول، طلباً لحصول السؤال عنه فيطول الكلام المستعذب، فالحذف هنا نظير قول موسى (ولي فيها مآرب أخرى) (1) (قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب) بحذف ضمير المتكلم، ومعه غيره والأصل ربنا فيكون مفتوحاً، ويحتمل أن يكون الأصل أي: ربي بياء المتكلم، فحذفت
__________
(1) سورة طه، الآية: 18.

(7/250)


يَسْتَجِيرُونِي؟ قالوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ. قَالَ: وَهَلْ رَأوْا نَاري؟ قالوا: لا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟! قالوا: وَيَسْتَغفِرُونكَ؟ فيقولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَألُوا، وَأجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. قَالَ: فيقولون: ربِّ فيهمْ فُلانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إنَّمَا مَرَّ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ. فيقُولُ: ولهُ غَفَرْتُ، هُمُ القَومُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اجتزاءً بدلالة الكسرة عليها، وهو مضبوط في الأصول من مسلم، والرياض بكسر الباء (قال: فكيف لو رأوا جنتي) سكت الراوي عن جوابهم عن هذا نسياناً وقد بينه في الرواية السابقة عند البخاري (قالوا: ويستجيرونك) أي: يسألونك الجوار أي الأمان (قال: ومما) بإثبات الألف. هكذا في الأصول، وجاء على خلاف الغالب من حذف ألفها عند جرها تخفيفاً، أي: ومن أي شيء (يستجيروني) بنون مخففة، والأصل يستجيرونني بنونين نون الرفع ونون الوقاية، فحذفت أحداهما تخفيفاً وفي تعيينها خلاف، الأرجح أنها نون الوقاية كما قاله ابن هشام (قالوا: من نارك) حذف المتعلق لدلالة وجوده في السؤال عليه (يا رب) غاير بين حرفي النداء تفنناً في التعبير، وأتى بحرف النداء الموضوع للبعيد دون العكس تفخيماً، قاله الشيخ خالد في شرح التوضيح. (قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري) أظهر في محل الإِضمار في الجملتين؛ للتعظيم والتهويل (قالوا: يستغفرونك) كذا هو بحذف الواو في صحيح مسلم مصححاً عليه وهي مقدرة؛ لأنها معطوفة كالجمل قبلها، وليست جواب قوله: (فكيف لو رأوا ناري؟ فيقول: قد غفرت لهم) بدأ به في الجواب؛ لأنه أقرب مطلوب؛ وأسنى مرغوب؛ ولأن ما بعده مبني عليه فلذا فرع عليه قوله: (فأعطيتهم ما سألوا) يعني الجنة (وأجرتهم) بالقصر أي: آمنتهم (مما استجاروا) بحذف العائد المنصوب بما قبله محلاً والمجرور بمن أي: منه (قال: يقولون رب فيهم فلان عبد خطاء) بفتح المعجمة وتشديد المهملة وبالهمزة آخره، أي: كثير الخطايا (إنما مر) هو بمعنى قوله فيما قبله، إنما جاء لحاجة (فجلس معهم قال: فيقول: وله غفرت) بتقديم الظرف، للاهتمام (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) قال الحافظ في الفتح: في الحديث فضل الذكر والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل عليهم إكراماً لهم، وإن لم يشاركهم في أصل الذكر. وفيه محبة الملائكة لبني آدم واعتناؤهم بهم، وفيه أن السؤال قد يصدر ممن هو أعلم بالمسؤول عنه من
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل ذكر الله عز وجل (11/177 و179) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل مجالس الذكر، (الحديث: 25) .

(7/251)


1446- وعنه وعن أَبي سعيدٍ رضي الله عنهما، قالا: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْعُدُ قَومٌ يَذكُرُونَ اللهَ - عز وجل - إِلاَّ حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ؛ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ". رواه مسلم (1) .
1447- وعن أَبي واقدٍ الحارث بن عوف - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسؤول؛ لإِظهار الغاية بالمسؤول عنه، والتنويه بقدره والإِعلان بشرف منزلته، وفيه بيان كذب من ادعى من الزنادقة أنه يرى الله تعالى جهراً في الدنيا، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رفعه "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وغير ذلك.
1446- (وعنه) أي: أبي هريرة (وعن أبي سعيد) الخدري (رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقعد قوم) التقييد بالقعود وبالقوم جري على الغالب، فالاجتماع للذكر بأي ومن أي ترتب عليه ما يأتي، ويؤيده أنه تقدم من حديث أبي هريرة "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله " والحديث تقدم بجملته في باب قضاء حوائج المسلمين (يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة) أي: أحدقت بهم، وطافت بحفافيهم تشريفاً لهم وتنويهاً لما هم فيه من الذكر (وغشيتهم الرحمة) أي: آثارها من الفيض والفضل (ونزلت عليهم السكينة) بوزن فعيلة ما تسكن به نفسهم قال التوربشتي: هي الحالة التي يطمئن بها القلب فيسكن عن الميل إلى الشهوات، وعن الرعب والأصل فيها الوقار، وقيل: هي ملكة تسكن قلب المؤمن وتؤمن اهـ (وذكرهم الله فيمن عنده) عندية مكانة، لاستحالة المكان في حقه تعالى (رواه مسلم) .
1447- (وعن أبي واقد) بالقاف والمهملة (الحارث بن عوف) بالفاء هو الليثي من بني ليث بن بكر بن عبد مناة من كنانة بن خزيمة، مشهور بكنيته، وما ذكره المصنف في اسمه واسم أبيه، هو أحد الأقوال، وقيل: عوف بن الحارث، وقيل: الحارث بن مالك، قيل: إنه شهد بدراً، وقيل: لم يشهدها، وكان معه لواء بني ضمرة، وبني ليث، وبني سعد بكر بن عبد مناة، يوم الفتح، وقيل، أنه من مسلمة الفتح. قال ابن الأثير: والصحيح أنه شهد الفتح مسلماً، يعد في أهل المدينة، وشهد اليرموك بالشام، وجاور بمكة سنة، ومات بها، ودفن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (الحديث: 39) .

(7/252)


بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ في المَسْجِدِ، والنَّاسُ مَعَهُ، إذْ أقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فأقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَذَهَبَ واحِدٌ؛ فَوَقَفَا عَلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فأمَّا أحَدُهُما فَرَأَى فُرْجةً في الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأمَّا الآخرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وأمَّا الثَّالثُ فأدْبَرَ ذاهِباً. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "ألاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأوَى إِلَى اللهِ فآوَاهُ اللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في مقبرة المهاجرين بفخ سنة ثمان وستين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: خمس وثمانين (رضي الله عنه) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرون حديثاً، وقال البرقي: جاء عنه سبعة أحاديث، وفي مختصر التلقيح له في الصحيحين أحد وعشرون حديثاً اتفقا على أحد عشر منها، وانفرد البخاري باثنتين، ومسلم بثمانية (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه) جملة حالية (إذ أقبل ثلاثة نفر) بفتح أوله تمييز لما قبله أي: ثلاثة، هم نفر لا أنه نوع الثلاثة على عدد نفر فيكونون تسعة، وهذا كما يقال ثلاثة رجال ليس المراد ثلاثة جموع رجل، وهو يطلق على الثلاثة والتسعة وما بينهما كما تقدم، والجملة أضيف إليها الظرف (فأقبل اثنان) ذكره بعد فأقبل ثلاثة إما لأن التقدير فأقبل اثنان منهم وإما لأن إقبال الثلاثة، إقبال إلى المجلس أو إلى جهته، وإقبال الاثنين (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما أحدهما فرأى) أي: أبصر (فرجة في الحلقة) بسكون اللام أي: المستديرين بين يديه - صلى الله عليه وسلم - (فجلس فيها وأما الآخر) بفتح الخاء (فجلس خلفهم) أي: خلف أهل الحلقة (وأما الثالث فأدبر ذاهباً) أي: لم يرجع، بل استمر في إدباره وإلا فأدبر مفرغر (1) ذاهباً، قلت أو يكون من قبيل (فتبسم ضاحكاً) (2) أي: حال مؤكدة (فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مما كان فيه من الخطبة أو تعليم العلم أو الذكر (قال: ألا) حرف تنبيه، ويحتمل أن تكون الهمزة للاستفهام ولا نفي، وفي الكلام طي فكأنهم قالوا: أخبرنا فقال: ألا (أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى) بالقصر أي: رجع (إلى الله فآواه الله) بالمد قال أئمة اللغة: في كل منهما القصر والمد ومصدر المقصور أويا على فعول ومصدر الممدود إيواء، ونسبة الإِيواء إلى الله تعالى، وكذا الاستحياء والإِعراض مجاز لاستحالتها في حقه تعالى، فالمراد بها لوازمها من إرادة إيصال الخير، وترك العقاب والإِذلال، أو نحو ذلك، وقرينة الصرف عن الحقيقة فيه وفي مثله مما يستحيل قيامه به تعالى
__________
(1) هكذا في النسخ. ع.
(2) سورة النمل، الآية: 19.

(7/253)


وَأمَّا الآخَرُ فاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللهُ مِنْهُ، وأمّا الآخَرُ، فَأعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ". متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1448- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: خرج معاوية - رضي الله عنه - عَلَى حَلْقَةٍ في المَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أجْلَسَكُمْ؟ قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ. قَالَ: آللهِ مَا أجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذاك؟ قالوا: مَا أجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ، قَالَ: أما إنِّي لَمْ اسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العقل. وفائدته: بيان الشيء بطريق عقلي وزيادة توضيح وتحسين اللفظ، ويسمى مثل هذا المجاز مجاز المشاكلة والمقابلة. انتهى ملخصاً من اللامع الصبيح (وأما الآخر) بفتح الخاء وفيه لكونه استعمله في غير الأخير رد على من زعم أنه لا يستعمل إلا في الأخير (فاستحيا) من المزاحمة لما فيها من التضييق، والحياء كذلك محمود والمذموم فيه الحياء الباعث على ترك التعلم، ولما كان ما فعله من الحياء الممدوح غفر الله له كما قال (فاستحيا الله منه) كما تقدم (وأما الآخر) بفتح المعجمة (فأعرض) عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو مجلس العلم (فأعرض الله عنه) فيه ذم الإعراض عن مجلس العلم بغير عذر، وأن من أعرض كذلك فقد تعرض لسخط الله، فإنه أخبر بأن الله أعرض عنه (متفق عليه) رواه البخاري في العلم، وليس لأبي واقد في صحيحه إلا هذا الحديث. وقد وهم صاحب الكمال فقال في ترجمة أبي واقد: خرج عن الخمسة إلا البخاري، ورواه مسلم في الاستئذان، ورواه أيضاً أبو داود في الاستئذان والنسائي في العلم.
1448- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة) بإسكان اللام على المشهور، قال العسكري: هي كل مستدير خالي الوسط، وحكي فتح اللام، وهو قليل (في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا) أعادوه وزيادة في الإيضاح (نذكر الله قال: آلله) بمد الهمزة والأصل أألله بهمزتين أولاهما للاستفهام والأخرى همزة أل فأبدلت الثانية مدة، وجر الاسم الكريم. قيل: بالهمزة وهي من حروف القسم، وقيل: إن حرف القسم مقدر بعدها، وهو الذي صححه ابن هشام (ما أجلسكم إلا ذلك) أي: الذكر، وأتى فيه باسم الإِشارة الموضوع للبعيد مع قربه تشريفاً له كما في قوله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من قعد حيث ينتهي به المجلس (1/143 و144) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: من أتى مجلساً فوجد فرجة فجلس فيها وإلا وراءهم، (الحديث: 26) .

(7/254)


لَكُمْ، وَمَا كَانَ أحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَقَلَّ عَنْهُ حَديثاً مِنِّي: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أصْحَابِهِ فَقَالَ: "مَا أجْلَسَكُمْ؟ " قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ الله وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا للإسْلاَمِ؛ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: "آللهِ مَا أجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟ " قالوا: واللهِ مَا أجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ. قَالَ: "أمَا إنِّي لَمْ أسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، ولكِنَّهُ أتَانِي جِبرِيلُ فَأخْبَرَنِي أنَّ الله يُبَاهِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) (1) والجملة جواب القسم (قالوا: ما أجلسنا إلا ذلك) الأقرب أن الجملة جواب قسم حذف المقسم به اكتفاء بدلالة وجوده في السؤال عليه، ويدل عليه قوله: (قال: أما) بتخفيف الميم، أداة استفتاح (إني لم أستحلفكم تهمة لكم) بضم الفوقية، وفتح الهاء وسكونها كما في المصباح هي الشك والريبة، والتاء بدل من الواو لأنها من الوهم (وما كان أحد بمنزلتي) أي: بمكانتي وقربي (من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وذلك، لكون أخته أم حبيبة أم المؤمنين، ولتآلف النبي - صلى الله عليه وسلم - له لما علم فيه من السر الإِلهي المصون والظرف. الأول: في محل الصفة. والثاني: لغو متعلق بمنزلة (أقل) بالنصب خبر كان (منه) أي: من ذلك الأحد (حديثاً) تمييز (مني) أي: لم يكن أحد مماثلاً لي في القرب، أقل مني حديثاً، وذلك احتياطاً وتحرزاً من أن يسهو بزيادة أو نقص، عند ذكر حديث، وهذه الجملة أتى بها إظهاراً لعنايته بالمخاطبين إذ حدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع إقلاله منه فقال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم) لكونهم كانوا في زمن لا يؤلف منهم الجلوس فيه في المسجد (قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده) من عطف الخاص على العام، إن أريد بالذكر ما يعم أنواعه، وإن أريد به فرد خاص منه، وبالحمد الثناء عليه بالأوصاف الثبوتية كان من عطف المغاير (على ما هدانا للإِسلام) على فيه للتعليل، وما فيه مصدرية أي: نحمده لذلك، والحمد في مقابلة النعمة يثاب عليه ثواب الواجب الفائق ثواب المندوب بسبعين ضعفاً (ومن به علينا) حذف الممتن به إيماء؛ لكثرته وقصور العبارة عن الإِحاطة به قال سبحانه وتعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (2) (قال: آلله) بالمد (ما أجلسكم إلا ذلك) أي: دون غيره من الأعراض والأغراض، وحذف المصنف جوابهم، وهو في مسلم ولفظه "قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذلك" وكذا وقع له في الأذكار، بأنه غير مذكور في صحيح مسلم، كما يأتي عنه مرات أخرج أصل الحديث، لا بخصوص هذه الزيادة، وهو من قلم الناسخ (أما أني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي)
__________
(1) سورة البقرة، الآيتان: 1، 2.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 34.

(7/255)


بِكُمُ المَلاَئِكَةَ". رواه مسلم (1) .
248- باب الذكر عِنْدَ الصباح والمساء
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعَاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ) .
قَالَ أهلُ اللُّغَةِ: "الآصَالُ": جَمْعُ أصِيلٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ العَصْرِ وَالمَغْرِبِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: يفاخر ويعاظم (بكم الملائكة) والاستدراك المفاد بلكن لمفهوم قوله لم أستحلفكم تهمة، الخ فإنه ربما يؤخذ منه انتفاء مقتضى الاستخلاف فاستدركه لذلك (رواه مسلم) قال الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار: وأخرجه أبو عوانة والترمذي، وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. اهـ.
باب الذكر عند الصباح
هو لغة: كما قال ابن دريد في الجمهرة: من نصف الليل إلى الزوال (والمساء) بالمد، وهو: منه إلى نصف الليل، قال السيوطي: إنه لم يظفر بما ذكر فيهما إلا فيها، وأما الصباح شرعاً فمن طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، ثم الضحا، فالاستواء فالزوال ومنه المساء (قال الله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعاً) تذللاً وخضوعاً (وخيفة) أصلها خوفة فأبدلت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها (ودون الجهر من القول بالغدو والآصال) قال ابن عطية: معناه دأباً في كل وقت وفي أطراف النهار (ولا تكن من الغافلين) عن ذكر الله، وتقدم بعض فوائد الآية أول كتاب الأذكار (قال أهل اللغة) أي: علماء متن اللغة وحدها: أصوات وأعراض يعبّر بها كل قوم عن مرادهم (الآصال) بالمد (جمع أصيل) على وزن فعيل كأيمان جمع يمين، ويجمع على أصل بضمتين وأصلان، أي: بضم فسكون وأصائل كما في القاموس (وهو ما بين العصر والمغرب) ثم ما ذكره من كونه جمع أصيل بلا واسطة هو قول الجمهور، وحكى ابن عطية في التفسير قولاً: أنه جمع لأصل بضمتين وهو
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (الحديث: 40) .
(2) سررة الأعراف، الآية: 205.

(7/256)


1449- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبِحُ وَحينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، مِئَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأتِ أَحَدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ". رواه مسلم (1) .
1450- وعنه، قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رسولَ الله مَا لَقِيْتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي البَارِحَةَ! قَالَ: "أمَا لَوْ قُلْتَ حِيْنَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقت إشراق الشمس، وهو وقت الضحا. وحكمة تخصيص أول النهار وآخره بما ذكر؛ ليكون البدء والختم بعمل ديني وطاعة. فيكون كفارة لما يكون في باقي النهار.
1449- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عنه من قال حين يصبح) أي: يدخل في الصباح الشرعي؛ لأن الألفاظ الشرعية إنما تحمل على عرف الشرع ما لم يصرف عنه صارف (وحين يمسي) أي: يدخل في المساء فالفعلان تامان كما في قوله: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) (2) (سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت) أي: لم يجىء (أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به) أي: من ألفاظ الأذكار المأثورة (إلا واحد) بالرفع بدل من أحد على لغة تميم المجوزين الإِبدال في الاستثناء المنقطع (قال مثل ما قال) مثل قوله أو مثل ما قاله (أو زاد) أي:
فالأول: جاء بمثل ما جاء به.
والثاني: زاد عليه، هذا إن جعلنا أو ليست للشك من الراوي، بل للتنويع وإن جعلناها للشك فالاستثناء متصل على الوجه الثاني: منقطع على الأول: وعلى كل ففيه إيماء إلى أن الاستكثار من هذا محبوب إلى الله تعالى، وأنه ليس له حد لا يتجاوز عنه، كعدد المعقبات عقب المكتوبات (رواه مسلم) قال في السلاح: ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وعند أبي داود: سبحان الله العظيم وبحمده، ورواه الحاكم وابن حبان بنحوه وروي في الجامع الكبير من حديث ابن عمر مرفوعاً "من قال: سبحان الله وبحمده كتب له عشر حسنات، ومن قالها: عشراً كتب الله له مائة حسنة، ومن قالها: مائة مرة كتب الله له ألف حسنة، ومن زاد زاده الله" الحديث رواه ابن ماجه.
1450- (وعنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لقيت) أي: شيء
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل وتسبيح والدعاء، (الحديث: 29) .
(2) سورة الروم، الآية: 17.

(7/258)


بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ: لَمْ تَضُرَّك". رواه مسلم (1) .
1451- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه كَانَ يقولُ إِذَا أصْبَحَ: "اللَّهُمَّ بِكَ أصْبَحْنَا، وَبِكَ أمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإلَيْكَ النُّشُورُ". وإذا أمسَى قَالَ: "اللَّهُمَّ بِكَ أمْسَيْنَا، وبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ. وَإلْيَكَ النُّشُورُ". رواه أَبُو داود والترمذي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عظيم لقيته (من عقرب) ظرف لغو (لدغتني) بالمهملة فالمعجمة، قال في المصباح من باب نفع (البارحة) الليلة الماضية وفي كلامه الإِيماء إلى عظيم ما أصابه من الألم والوصب من ذلك (قال: أما) أداة إستقباح أنك (لو قلت حين أمسيت) أي: دخلت في المساء (أعوذ) أي: أعتصم وألتجىء (بكلمات الله) أي: بأقضيته وشؤونه (التامات) لتنزهها عن كل نقص (من شر ما خلق) متعلق بأعوذ وما عام يدخل فيه سائر المؤذيات من الخلق، ومنه الهوى والشهوات (لم يضرك) يجوز في مثله من المضاعف المضموم العين المجزوم أربع لغات: الإِدغام مع الحركات الثلاث، والضم اتباعاً، والفتح، لأنه أخف الحركات، والكسر تخلصاً من التقاء الساكنين، والرابعة فك الإِدغام والجزم بالسكون (رواه مسلم) قال في السلاح: ورواه ما عدا البخاري من أصحاب الكتب الستة.
1451- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) بدل اشتمال (أنه كان يقول: إذا أصبح اللهم بك) أي: بقدرتك الباهرة (أصبحنا) أي: دخلنا في الصباح (وبك أمسينا) ذكر لحضوره في الذهن عند ذكر ضده (وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور) بضمتين أي: الرجوع (وإذا أمسى قال) عبر بالماضي تفنناً في التعبير، والمراد منه المستقبل (اللهم بك أمسينا) أي: دخلنا في المساء، وجعلهما الطيبي ناقصين فقال: الباء متعلقة بمحذوف هو الخبر ولا بد من تقدير مضاف، أي: أصبحنا أو أمسينا متلبسين بنعمتك أي: بحياطتك وكلاءتك أو بذكر اسمك (وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير) قال في النهاية: أي إليك المرجع، يقال: صرت إلى فلان أصير مصيراً، وهو شاذ والقياس مصار مثل معاش اهـ. وتقدم الكلام على هذا الذكر في آداب النوم، لكن بلفظ: باسمك أموت وأحيا، وحينئذ فحديث الباب محتمل، لأن يكون على تقدير المضاف المصرح به في تلك أو على تقدير نحو قدرتك، أو إرادتك وعبّر بالمضارع حكاية عن الحال المستمر أي: مستمر حالنا على ذلك وعبر بالنون هنا،
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، (الحديث: 55) .

(7/259)


فإنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبي، وَبِكَ أرْفَعُهُ، إنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإنْ أَرْسَلْتَهَا، فاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ" متفق عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي يلي الجسد. قال البيضاوي: إنما أمر بالنفض بالداخلة؛ لأن الذي يريد النوم يحل بيمينه خارج الإِزار وتبقى الداخلة معلقة فينفض بها، وقال في التوشيح: قيل: حكمته أنه يستر بالثياب فيتوارى ما يناله من الوسخ (فإنه لا يدري ما خلفه) بفتح الخاء المعجمة، واللام بصيغة الماضي (عليه) أي: أنه يستحب نفض الفراش قبل الدخول فيه، لئلا يكون قد دخل فيه حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات وهو لا يشعر، ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره لئلا يحصل في يده مكروه إن كان شيء هناك، وقال الطيبي: معنى لا يدري ما خلفه لا يدري ما وقع في فراشه بعدما خرج منه من تراب، أو قذاره أو هوام (ثم يقول: باسمك ربي) الظرف متعلق بقوله وضعت، وفي نسخة من البخاري رب بحذف الياء اجتزاء، بدلالة الكثرة عليها، وفي رواية القطان: اللهم باسمك، وفي رواية أبي حمزة: ثم يقول: سبحانك ربي بك (وضعت جنبي وبك أرفعه) حكمة ترك الإِتيان بالمشيئة في مثله مما قدم فيه الظرف على متعلقه، أن مقصود الكلام إنما هو الظرف لا متعلقه فعمدة الكلام هو الظرف، والمعنى أن الرفع كائن باسمك. قال الشيخ تقي الدين السبكي: فافهم هذا السر اللطيف ولا تنظر إلى قولهم الجار والمجرور فضلة في الكلام لا عمدة وتأخذه على إطلاقه بلا تأمل موارد تقدمه، وتأخره في الكتاب والسنة، وكلام الفصحاء، يتبين لك أنه إذا قدم المتعلق كان الظرف فضلة، وإذا قدم الظرف كان عمدة الكلام. قال: وقواعد العربية تقتضي أن الظرف فضلة في الكلام لا عمدة، وإن الفعل هو المخبر به والاسم هو المخبر عنه، هذا هو الأصل والوضع ثم قد يكون ذلك مقصود المتكلم، وقد لا يكون فإنه قد يكون جزءا الإِسناد معلومين، أو كالمعلومين، ويكون محط الفائدة في كونه على الصفة المستفادة من الظرف، كما فيما نحن فيه، فإن وضع المضطجع جنبه معلوم ورفعه كالمعلوم، ولم نقل معلوم لأنه قد يموت وإنما المراد الإِخبار بكونه باسم الله. اهـ ملخصاً، وقد سقته بلفظه في شرح الأذكار (إن أمسكت نفسي) إمساكها كناية عن الموت بدليل (فارحمها) لأن الرحمة تناسبه وفي رواية الترمذي فاغفر لها (وإن أرسلتها) من الإِرسال كناية عن الإِبقاء في الدنيا (فاحفظها) أي من سائر المكاره ديناً ودنيا (بما تحفظ به عبادك الصالحين) قال الطيبي: الباء فيه مثل الباء في قولك كتبت بالقلم، وكلمة ما مبهمة وبيانها ما دلت عليه صلتها (متفق عليه)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: التعوذ والقراءة عند المنام وفي التوحيد (11/107، =

(7/266)


1462- وعن حذيفة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ، وَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ قِني عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". ورواه أَبُو داود من رواية حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وفيهِ أنه كَانَ يقوله ثلاث مراتٍ (1) .
***
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربع.
1462- (وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده) أي: الأيمن، ومن لازمه الاضطجاع على الجانب الأيمن (ثم يقول) أي: بعد الاضطجاع (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك) هذا منه - صلى الله عليه وسلم - خضوع كذلك لمولاه وأداء لحق مقام الربوبية المطلوب من العبد أداؤه، وتنبيه للأمة أن لا يأمنوا مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (رواه الترمذي) في كل من الجامع والشمائل (وقال) في الجامع (حديث حسن) زاد في السلاح: صحيح (ورواه أبو داود) في سننه (من رواية حفصة) أم المؤمنين (رضي الله عنها وفيه) أي: حديثها المروي من طريقها (أنه كان يقوله ثلاث مرات) قال في السلاح: ورواه الترمذي من حديث البراء بن عازب بمعناه وليس فيه ذكر التثليث، وقال: حديث حسن غريب. من هذا الوجه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات [باب: 18] ، (الحديث: 3398) .
وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: ما يقول عند النوم، (الحديث: 5045) .

(7/270)