دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين

15- كتَاب الدَعَوات
250- باب في فضل الدعوات
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الدعوات
بفتح المهملتين جمع دعوة، بفتح أوله، وهي المسألة الواحدة يقال: دعوت فلاناً فسألته، والدعاء إلى الشيء الحث على فعله، وفي شرح الأسماء الحسنى للقشيري ما ملخصه: الدعاء جاء في القرآن على وجوه منها العبادة نحو (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) (2) ومنها الإِستعانة نحو (وادعوا شهداءكم) (3) منها: السؤال نحو (ادعوني أستجب لكم) ومنها: القول نحو (ودعواهم فيها سبحانك اللهم) (4) ومنها النداء نحو (يوم يدعوكم) (5) ومنها الثناء نحو (قل ادعوا الله (6) أو ادعوا الرحمن) (7) اهـ قال الله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) قال في فتح الباري: هذه الآية ظاهر في ترجيح الدعاء على التفويض، وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء وأجابوا الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة، وفي حديث النعمان بن بشير الآتي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "الدعاء هو العبادة ثم قرأ (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي) (1) أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي والحاكم قال الحافظ: وعمدة من أول الدعاء في الآية بالعبادة أن كثيراً يدعو فلا يجاب فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف،
__________
(1) سورة غافر، الآية: 60.
(2) سورة يونس، الآية: 106.
(3) سورة البقرة، الآية: 23.
(4) سورة يونس، الآية: 10.
(5) سورة الإسراء، الآية: 52.
(6) الذي في البيضاوي أن الدعاء هنا بمعنى التسمية.
(7) سورة الإسراء، الآية: 110.

(7/271)


رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1464- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَحِبُّ الجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ. رواه أَبُو داود بإسناد جيدٍ (2) .
1465- وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ أكثرُ دعاءِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" متفقٌ عَلَيْهِ. زاد مسلم في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سواه. اهـ (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وتقدم أنه رواه أيضاً النسائي وابن ماجه، وأن الحاكم صححه أيضاً، وفي الحصن ورواه ابن أبي شيبة في المصنف وابن حبان والإمام أحمد في مسنده زاد شارحه وأخرجه البخاري في تاريخه، والطبراني في كتاب الدعاء له.
1464- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب) أي: يحب وصيغة الافتعال للمبالغة (الجوامع من الدعاء) أي: الدعاء الجامع للمهمات والمطالب، فيكون قليل المبنى جليل المعنى (ويدع) أي: يترك (ما سوى ذلك) وذلك لأن القوى البشرية تعجز عن الدوام على القيام بأداء الآداب المستحقة للربوبية المطلوبة من الداعي، فندب له الإتيان باللفظ اليسير لسهولة القيام بالآداب زمنه، وندب أن يكون جامعاً ليصل لمطلوبه بأسهل طريق (رواه أبو داود بإسناد جيد) ورواه الحاكم في مستدركه وصححه، وقال الحافظ السخاوي في تتمة تخريج أحاديث الأذكار: وقد أخرجه من طريق الطبراني ما لفظه: هذا حديث حسن أخرجه أحمد وغيره.
1465- (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: أكثر ما يداوم عليه من الدعاء (اللهم) أي: يا الله (آتنا) (3) أي: أعطنا (في الدنيا حسنة) يدخل فيها كل خير دنيوي وصرف كل شر (وفي الآخرة حسنة) مثل ذلك (وقنا عذاب النار) تخصيص بعد
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: ما جاء في فضل الدعاء، (الحديث: 3371) .
وهو عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء مخ العبادة".
وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، (الحديث: 1479) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، (الحديث: 1482) .
(3) قوله (اللهم آتنا) للكشميهني اللهم ربنا آتنا اهـ قسطلاني.

(7/274)


روايتهِ قَالَ: وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا أرادَ أنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، وَإِذَا أرادَ أنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ (1) .
1466- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ الهُدَى، والتُّقَى، والعَفَافَ، والغِنَى". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعميم، لأنه هو الفوز، وبعض السلف خصص الحسنة في الموضعين بشيء خاص والتعميم أولى (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود (زاد مسلم في روايته) للحديث على البخاري (قال:) أي: الراوي (وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة) بفتح الدال مرة من الدعاء (دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها) أي: بهذه الدعوة (فيه) أي: في جملته وذلك اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - لإِكثاره منها لقلة ألفاظها وإحاطتها بخير الدارين.
1466- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أسالك الهدى) بضم الهاء وفتح الدال، ضد الضلالة (والتقى) بضم الفوقية بمعنى التقوى (3) ، وهي اسم مصدر من قولهم اتقيت الله اتقاءً، وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي (والعفاف) بفتح المهملة وبالفاءين، مصدر عف من باب ضرب أي: الكف عن المعاصي والقبائح (والغنى) بكسر المعجمة والقصر، أي: الاستغناء عن الحاجة إلى الخلائق، وقدم الهدى لأنه الأصل، والتقى مبني عليه، وعطف عليه العفاف عطف خاص على عام اهتماماً به، لأن النفس تدعو إلى ضده فسأل من الله الإعانة على تركه، وبعد أن أتم مطالب الدين توجه لبعض مطالب الدنيا، وهو الغنى أي: عدم الحاجة إلى الناس (رواه مسلم) قال الحافظ السخاوي في تتمة تخريج أحاديث الأذكار: ورواه أبو داود والطيالسي، وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. اهـ.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ربنا آتنا في الدنيا حسنة (8/140) و (161/11) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة ... ، (الحديث: 26) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (الحديث: 72) .
(3) في النسخة جمع التقوى والذي في الصحاح التقوى والتقى واحد والواو مبدلة من الياء اهـ.

(7/275)


سفيان: أَشُكُّ أنِّي زِدْتُ واحدةً مِنْهَا (1) .
1470- وعنه، قَالَ: كَانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ أصْلِحْ لِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشقاء الحقيقي، أو من جهة المعاش وذلك أما من جهة غيره وهو شماتة الأعداء، أو من جهة نفسه وهو جهد البلاء، وإنما تعوذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور تعليماً لأمته وإلا فإن الله تعالى أمنه من ذلك أجمع، أو أنه أتى به دفعاً لوقوع ذلك بأمته (متفق عليه) ورواه النسائي (وفي رواية) أي: للبخاري في الدعوات، وكذا هو عند مسلم باللفظ الذي ساقه المصنف (قال سفيان) هو ابن عيينة راوي الحديث المذكور (أشك أني زدت واحدة منها) أي: الأربع ولا أدري أيتهن المزيدة. قال الحافظ في فتح الباري: أخرجه ابن الجوزي من طريق علي بن عبد الله بن هاشم عن سفيان فاقتصر على ثلاثة، ثم قال: قال سفيان: وشماتة الأعداء.
وأخرجه الإِسماعيلي من طريق أبي عمير عن سفيان، وبين فيه أن المزيدة هي شماتة الأعداء، وعرف منه تعين الخصلة المزيدة، اهـ، قال الكرماني: كيف جاز له خلط كلامه بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يفرق بينهما، ثم أجاب بأنه ما خلط، ولكن اشتبهت عليه تلك الثلاثة بعينها، وعرف أنها من هذه الأربعة فذكرها تحقيقاً لرواية الثلاثة قطعاً إذ لا مخرج عنها، ولفظ البخاري قال سفيان: الحديث ثلاث وزدت واحدة فصارت أربعاً، وقد أخرجه البخاري في القدر عن سفيان بالخصال الأربع بغير تمييز وأجاب الحافظ عما أورده الكرماني بأن سفيان كان إذا حدث عينها، ثم طال الأمر فطرقه السهو عن تعيينها فحفظ بعض من سمع تعيينها منه، قبل أن يطرقه السهو، ثم بعد أن طرقه السهو وخفي عليه تعيينها تذكر كونها مزيدة، مع إبهامها، ثم بعد ذلك إما أن يحمل الحال حيث لم يقع تمييزها لا تعييناً ولا إبهاماً على أن يكون ذهل عن ذلك، أو عين وميز فذهل بعض من سمع منه، ويترجح كون الخصلة المزيدة هي الشماتة بأنها تدخل في عموم كل واحدة من الثلاث اهـ. ومن الخبط العجيب قول القارىء في الحرز جلالة سفيان تمنعه أن يزيد من قبل نفسه ما يدرج في لفظ النبوة، بل إنما هي زيادة في روايته على سائر الروايات وزيادة الثقة مقبولة، وستاتي هذه الزيادة في حديث آخر. اهـ. وذلك لأنه قد ثبت عنه التصريح بأنه أدرج ذلك فما بقي لغيره مجال.
1470- (وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم أصلح لي ديني) بأن توفقني للقيام
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: القدر، باب: من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء، (11/449) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، (الحديث: 53) .

(7/278)


دِيني الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أمْرِي، وأصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا مَعَاشِي، وأصْلِحْ لِي آخِرتِي الَّتي فِيهَا مَعَادي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ". رواه مسلم (1) .
1471- وعن علي - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ: اللَّهُمَّ اهْدِني، وسَدِّدْنِي" وفي رواية: "اللَّهمَّ إنِّي أسْألُكَ الهُدَى والسَّدَادَ". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بآدابه على الوجه الأكمل الأتم (الذي هو عصمة أمري) أي: ما أعتصم به في جميع أموري، وفي الصحاح: العصمة المنع والحفظ، وقيل: هو مصدر بمعنى الفاعل، وقد قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً) (3) (وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي) أي: مكان عيشي وزمان حياتي، أي: بإعطاء الكفاف فيما يحتاج إليه، وبأن يكون حلالاً ومعيناً على طاعة الله (وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي) أي: مكان عودي، أو زمان إعادتي باللطف والتوفيق، على العبادة والإخلاص في الطاعة وحسن الخاتمة (واجعل الحياة) أي: طول عمري (زيادة لي في كل خير) أي: من إيقان العلم، وإتقان العمل (واجعل الموت) أي: تعجيله (راحة لي من كل شر) أي: من الفتن والمحن والابتلاء بالمعصية والغفلة، ومحصل آخر هذا الدعاء: اجعل عمري مصروفاً فيما تحب، وجنبني ما تكره، وهو من الأدعية الجوامع (رواه مسلم) .
1471- (وعن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل: اللهم اهدني وسددني) من التسديد في الأمر الإتيان به سديداً (وفي رواية: اللهم إني أسالك الهدى والسداد رواه مسلم) وفي مسلم زيادة: واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم. قال المصنف: السداد بفتح السين وسداد السهم تقويمه، ومعنى سددني وفقني، واجعلني مصيباً في جميع أموري، وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمر، وأما الهدى هنا فهو الرشاد، يذكر ويؤنث، ومعنى اذكر بالهدى الخ أي: تذكر ذلك في حال دعائك
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (الحديث: 71) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (الحديث: 78) .
(3) سورة آل عمران، الآية: 103.

(7/279)


وأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ". زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: "وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
1479- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يدعو بِهؤُلاءِ الكَلِمَاتِ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ الغِنَى وَالفَقْرِ". رواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تغاير العطف بتغاير الصيغة (أنت المقدم وأنت المؤخر) فلا يذل من واليت ولا يعز من عاديت.
إذا لم يعنك الله فيما تريده ... فليس لمخلوق إليه سبيل
وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ... ضللت ولو أن السماك دليل
(لا إله إلا أنت) وفي رواية للبخاري أو قال "لا إله غيرك". وفي رواية: لا إله غيرك بالجزم بها فقط، وهذه كالدليل لما أفاده الحصر في الجملتين قبله (زاد بعض الرواة) هو عبد الكريم أبو أمية ذكره البخاري في باب التهجد (ولا حول ولا قوة إلا بالله) هو في المعنى كالجملة قبله وأتى به زيادة في الدلالة لما تقدمه. وفيه كمال الرجوع إلى الله تعالى والركون إليه في الأحوال كلها، والاعتصام بحبله، والتوكل عليه، واللوذ به دون غيره (متفق عليه) رواه البخاري في التهجد والدعاء، والتوحيد، ومسلم في الصلاة وفي الدعاء، ورواه النسائي في القنوت، ورواه ابن ماجه في الصلاة.
1479- (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهؤلاء الكلمات) وبينتها بقولها (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار) أي: الفتنة المسبب عنها النار أو الإِضافة بيانية أي: من ابتلاء هو النار ويكون عطف قوله (وعذاب النار) من عطف الرديف سوغه اختلاف لفظ المضاف، ويحتمل أن يراد بفتنة النار توبيخ خزنتها كما أشار إليه قوله تعالى: كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) (2) (ومن شر الغنى والفقر) أي: أكثر المرتب عليهما كالكبر والعجب والشره والحرص، والجمع للمال من الحرام والبخل بأداء حق الله
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التهجد والدعاء، باب: الدعاء إذا انتبه من الليل، (الحديث: 3/2 و4) .
وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (الحديث: 199) .
(2) سورة الملك، الآية: 8.

(7/287)


رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1481- وعن شَكَلِ بن حُمَيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قلتُ: يَا رسولَ الله، علِّمْنِي دعاءً، قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي". رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المنكرة كالزنى، وشرب الخمر، وسائر المحرمات. والأهواء المنكرة كالاعتقادات الفاسدة، والمقاصد الباطلة (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والطبراني، وزاد الترمذي في رواية له: والأوداء جمع داء أي: وأعوذ بك من الأدواء المنكرة، كالبرص والجذام فيكون بمعنى ما جاء في حديث أنس: وأعوذ بك من سيىء الأسقام.
1481- (وعن شكل) بفتح المعجمة والكاف باللام (ابن حميد) بضم المهملة العبسي بالمهملتين بينهما موحدة الصحابي (رضي الله عنه) قال في التقريب: له حديث واحد، كما ذكره ابن الجوزي وغيره، وقال في السلاح وليس لشكل في الكتب الستة إلا في هذا الحديث (قال: قلت: يا رسول الله علمني دعاء) أي: ذا شأن كما يدل عليه طلبه لذلك من عين الرحمة من أوتي جوامع الكلم (قال: قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي) أي: بأن أسمع كلام الزور والبهتان، وغيره من العصيان، أو بأن لا أسمع به حقاً (ومن شر بصري) أعاد الجار والمجرور، مع أن العاطف يقوم مقامهما اهتماماً بالمعطوف، وإيماء إلى أنه جنس غير ما قبله، وذلك بأن أنظر إلى محرم، ومنه النظر على وجه الاحتقار لأحد من العباد، أو أهمل النظر والاعتبار في مصنوعات مولانا سبحانه (ومن شر لساني) بأن أتكلم فيما لا يعنيني، أو أسكت عما يعنيني (ومن شر قلبي) بأن أشغله بغير الله، وبغير أمره (ومن شر مني) بأن أوقعه في غير محله، أو يوقعني في مقدمات الزنى من النظر، واللمس، والمشي، والعزم، وأمثال ذلك، وقال في السلاح: أراد به فرجه، ووقع في رواية أبي: داود يعني فرجه، وقيل: هي جمع منية وهي طول الأمل (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) ورواه النسائي، والحاكم في المستدرك.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: دعاء أم سلمة، (الحديث: 3591) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، (الحديث: 1551) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 75] ، (الحديث: 3492) .

(7/289)


1482- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ، والجُنُونِ، والجُذَامِ، وَسَيِّيءِ الأسْقَامِ". رواه أَبُو داود بإسناد صحيحٍ (1) .
1483- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الجُوعِ، فَإنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وأعوذُ بِكَ منَ الخِيَانَةِ، فَإنَّهَا بِئْسَتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1482- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص) هو إنسداد المسام، وانحباس الدم فيتولد عنه ذلك (والجنون) أي: زوال العقل أي: التمييز به أو بغيره (والجذام) قال في القاموس: هو كغراب علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء، وهيئتها وربما انتهى إلى أكل الأعضاء، وسقوطها عن تقرح. اهـ واستعاذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمراض مع أن في الصبر عليها مزيد الأجر خشية من ضعف الطاقة عن الصبر، والوقوع في الضجر، فيفوت به الأجر، وعم بعد تخصيص المذكورات الاستعاذة فقال: (وسيىء الأسقام) أي: قبيحها كالفالج والعمى، وإنما قيد بسيئها لأن الأمراض مطهرة للآثام مرقاة للأنام مع الصبر، فأراد ألا يسد باب الأجر خصوصاً، وقد جاء: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء، فالنفوذ من جميع الأسقام، ليس من دأب الكرام، وقال ميرك: لأن منها ما إذا تحامل الإِنسان فيه على نفسه بالصبر خفت مؤنته، مع عدم إزمانه كالحمى والصداع والرمد ولا كذلك المرض المزمن، فإنه ينتهي بصاحبه إلى حالة يعرض عنه منها الحميم، ويقل دونها المداوي مع ما يورثه من الشين (رواه أبو داود بإسناد صحيح) وروي بزيادة عند ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الصغير.
1483- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الجوع) أي: المفرط المانع من الحضور (فإنه بئس الضجيع) أي: المضاجع وهو الذي ينام معك في فراش واحد، أي: بئس المصاحب لأنه يمنع استراحة النفس والقلب، فإن الجوع يضعف القوى ويثير أفكاراً رديئة، وخيالات فاسدة فيخل بوظائف العبادة، ومن ثم حرم الوصال (وأعوذ بك من الخيانة) أي: في أمانة الخلق، أو الخالق (فإنها بئست البطانة) بكسر الموحدة خاصة الرجل، أي: الخصلة الباطنة من خاصته، واستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من هذه لتعليم الأمة وإرشادهم للاقتداء ليفوزوا بخير الدارين، أو المراد بالاستعاذة منها طلب
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، (الحديث: 1554) .

(7/290)


حُصَيْناً كَلِمَتَيْنِ يَدْعُو بهما: "اللَّهُمَّ ألْهِمْني رُشْدِي، وأعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسي". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1486- وعن أَبي الفضل العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله عَلِّمْني شَيْئاً أسْألُهُ الله تَعَالَى، قَالَ: "سَلوا الله العَافِيَةَ" فَمَكَثْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حصيناً) عطف بيان أو بدل (كلمتين) بالمعنى اللغوي أي: جملتين (يدعو بهما: اللهم ألهمني رشدي) بضم فسكون، ويقال بفتحتين، وهو والرشاد ضد الضلال، أي: ألهمني الهدى بالتوفيق للأعمال المرضية لك والمقربة من فضلك (وأعذني) أي: اعصمني (من شر نفسي) فإنها الداعية لحتفي وطردي، إلا إن تداركتني بالإِحسان، قال تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) .
1486- (وعن أبي الفضل العباس) بفتح المهملة، وتشديد الموحدة، آخره سين مهملة، وكني بأكبر أولاده (ابن عبد المطلب) عم سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان (رضي الله عنه) أسن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بسنتين أو ثلاث، ولم يزل معظماً في الجاهلية والإِسلام، وكان إليه أمر السقاية في الجاهلية، وأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وحضر ليلة العقبة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكد له العقد مع الأنصار، وخرج إلى بدر مع المشركين مرائياً لهم، وأسر ففادى نفسه، وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وأسلم عقب ذلك، وعذره - صلى الله عليه وسلم - في الإِقامة بمكة من أجل سقايته، ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر الفتح مهاجراً ببنيه، فرجع معه وكان سبب تسكين الشر وحقن الدماء، ثم خرج إلى حنين وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين انهزم الناس، عنه، وكان يعظمه ويبجله، ومناقبة كثيرة أفردت بالتأليف، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وثلاثون حديثاً، اتفق الشيخان على واحد منها والبخاري انفرد بواحد، وانفرد مسلم بثلاثة، وخرج عنه الأربعة وغيرهم، وتوفي بالمدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة اثنتين، أو أربع وثلاثين، وهو ثابت اللحم معتدل القامة، وقبره مشهور بالبقيع (قال: قلت يا رسول الله علمني شيئاً) أي: مما ينبغي طلبه (أسأله الله تعالى) لشرفه وعظم نتائجه (قال: سلوا الله العافية) كذا في الأصول بواو الجماعة وفيه إرشاد إلى أنها ينبغي لكل أحد سؤالها وطلبها ولا يختص بذلك العباس دون الناس، وهي اسم مصدر من عافاه الله محا عنه الذنوب والأسقام، وقال في المصباح: وهي مصدر جاءت على فاعله، ومثله
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 70] ، (الحديث: 3483) .

(7/292)


دُعاءِ دَاوُدَ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أحَبَّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وأهْلِي، وَمِنَ الماءِ البارِدِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضعيف، وذكر الحديث الذي سبق عن الطبراني، وقال: ورويناه في فوائد النسوي، وسنده ضعيف أيضاً. وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه ابن أبي شيبة عنه، قال: "ما أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -) وسنده صحيح. وحكي القول به عن مالك، وقال: ما تعبدنا به، وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره. وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز، وقال سفيان: يكره إلا أن يصلى على نبي (2) ، ووجدت بخط بعض الشيوخ، مذهب مالك لا يجوز أن يصلى إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك إنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء فلا ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به. وقال يحيى بن يحيى: لا بأس بذلك اهـ (اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك) المصدر فيهما محتمل، لأن يكون مضافاً إلى الفاعل ولأن يكون مضافاً للمفعول، والثاني أبلغ وأنسب بما بعده. والمراد من محبة الله تعالى للعبد غايتها من التوفيق والإِثابة والثناء الحسن عليه. وتقدم حديث "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً" الحديث (والعمل الذي يبلغني حبك) أي: وحب العمل فالمضاف مقدر، وجاء مصرحاً به في حديث والمصدر المقدر مضاف لمفعوله البتة (اللهم اجعل حبك) أي: محبتي إياك أو محبوبيتي لك (أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد) أي: ارزقني من الأنوار ما يجلي عن عين بصيرتي الأقذاء والأقذار لأحبك حباً طبيعياً، فوق ما أحب ما ذكر. فالحب التكليفي فوق ما ذكر لمن ذكر ثبت به الحديث، وعلى كل عبد مجاهدة نفسه في تقديم طاعة الله وطاعة رسوله على نفسه وأهله، وخص الماء البارد بالذكر لشدة ميل النفس ونزعها إليه زمن الصيف، فهو أحب المستلذات إليها. قال بعضهم: أعاد الجار، ليدل على الاستقلال للماء البارد في كونه محبوباً، وذلك في بعض الأحيان فإنه يعدل بالروح للإِنسان، وعن بعض الفضلاء: الماء ليس له قيمة لأنه لا يشترى إذا وجد، ولا يباع إذا فقد، كذا في الحرز (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ولفظه بعده قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود عليه السلام يحدث عنه وقال: كان أعبد البشر. اهـ. وهو محتمل، لأن يراد به أعبد أهل زمانه، ولأن
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 73] ، (الحديث: 3490) .
(2) لعله على النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمل. ع.

(7/295)


1489- وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألِظُّوا بـ (يَاذا الجَلاَلِ والإكْرامِ") . رواه الترمذي، ورواه النسائي من رواية ربيعة بن عامِرٍ الصحابي، قَالَ الحاكم: "حديث صحيح الإسناد".
"ألِظُّوا": بكسر اللام وتشديد الظاء المعجمة، معناه: الزَمُوا هذِهِ الدَّعْوَةَ وأكْثِرُوا مِنْهَا (1) .
1490- وعن أَبي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: دعا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بدُعاءٍ كَثيرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يراد به أشكر الناس، قال تعالى: (اعملوا آل داود شكراً) (2) أي: بالغ فيه، وبذل وسعه في ذلك، وفي ذكره - صلى الله عليه وسلم - لهذا الذكر إيماء إلى التحريض عليه، والحث على الإتيان به.
1489- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألظوا بياذا الجلال) هي النعوت القهرية، كالانتقام والقهر والجبر، نحو المنتقم القهار الجبار العزيز (والإكرام) هو النعوت الجمالية كالكريم الستار الرؤوف الرحيم الغفار (الجلال والإكرام اسم الله الأعظم) وهو أحد ما قيل في تعيين الاسم الأعظم، ذكره الحافظ في الفتح وقال: أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال: "سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول يا ذا الجلال والإِكرام، فقال: قد استجيب لك فسل" واحتج له الفخر الرازي بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الألوهية، لأن في الجلال إشارة إلى جميع الصفات السلبية، وفي الإِكرام إشارة إلى جميع الصفات الثبوتية.
(رواه الترمذي ورواه النسائي) وكذا أحمد والحاكم في المستدرك (من رواية) أي: من حديث (ربيعة) بفتح الراء وكسر الموحدة، وبالعين المهملة (ابن عامر) بن بجاد بموحدة وجيم ودال مهملة، بينهما ألف، وقيل: ابن الهادي الأزدي أو الديلي (الصحابي) وسقط من النسخ ذكر الترضية، ولعله من النساخ. قال الحافظ في التقريب: له حديث واحد خرج عنه النسائي، وقال الزهري في الكاشف: روى عنه يحيى بن حبان (قال الحاكم) في المستدرك في حديث ربيعة (حديث صحيح الإِسناد: ألظوا) بفتح الهمزة و (بكسر اللام وتشديد الظاء المعجمة معناه: الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها) هو تقدير معنى، وأما تقدير الإعراب لازموا الدعاء، أو ابدءوه بياذا الجلال والإِكرام، وإطلاق الدعاء عليه على الوجه الأول، لأنه يفتتح به الدعاء كإطلاقه في حديث "أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله" الحديث.
1490- (وعن أبي إمامة رضي الله عنه قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعاء كثير) بالمثلثة (لم
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 92] ، (الحديث: 3524) .
(2) سورة سبأ، الآية: 13.

(7/296)


لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئاً؛ قُلْنَا: يَا رسول الله، دَعَوْتَ بِدُعاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئاً، فَقَالَ: "ألا أدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ؟ تقول: اللَّهُمَّ إنِّي أسَألُكَ مِنْ خَيْر مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -؛ وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا استَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وأنتَ المُسْتَعانُ، وَعَليْكَ البَلاَغُ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1491- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ من دعاءِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نحفظ منه شيئاً قلنا: يا رسول الله دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئاً فقال: ألا) بتخفيف اللام (أدلكم على ما يجمع ذلك) أي: مقصوده ومطلوبه (كله) وسكت عن جوابهم أي: قالوا بلى إما نسياناً، أو لكونهم لم يأتوا به اكتفاء بظهور حاجتهم إليه عن بيانه (تقول: اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك) من للتبعيض فيهما وعطف على نبيك عطف بيان أو أبدل منه قول: (محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعوذ) وفي نسخة "ونعوذ" بالنون (بك من شر ما استعاذ منه (2) نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -) أي: من الشرور الدنيوية بدناً أو أهلاً أو مالاً، والدينية حالاً أو مآلاً (وأنت المستعان) أي: المطلوب منه الإِعانة (وعليك البلاغ) أي: الكفاية أو ما يبلغ إلى المطلوب من خير الدارين (ولا حول ولا قوة إلا بالله رواه الترمذي وقال: حديث حسن) غريب.
1491- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان من) أي: بعض (دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: الجامع للخير كما جاء أنه كان يحب الجوامع من الأدعية (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) أي: ما يوجبها مما رتبتها عليه من الأعمال بالوعد الصادق كقوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) (3) الآية (وعزائم مغفرتك) أي: موجبات غفرانك. قال المصنف: جمع عزيمة وهي ما عزم الله على العباد أن يعطوه، ليغفر لهم، قاله ابن الجزري. قيل: وصوابه أن يطيعوه. قلت، ويمكن رد الأول إليه أي: يعطوه من الطاعة (والسلامة من كل إثم) أي: معصية (والغنيمة) أي: الإِكثار (من كل بر) بكسر
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 89] ، (الحديث: 3521) .
(2) قوله (ما استعاذ منه) الذي في الأذكار (ما استعاذك منه) .
(3) سورة الأعراف، الآية: 156.

(7/297)


والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ". رواه الحاكم أَبُو عبد الله، وقال: "حديث صحيح عَلَى شرط مسلمٍ" (1) .
251- باب فضل الدعاء بظهر الغيب
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (والَّذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ) .
وقال تَعَالَى (3) : (واسْتَغْفِرْ لِذنْبِكَ وَلِلْمُؤمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ) .
وقال تَعَالَى إخْبَاراً عَن إبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم -: (4) (رَبَّنا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَومَ يَقُومُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموحدة أي: طاعة (والفوز) أي: الظفر (بالجنة والنجاة) أي: الخلاص (من النار. رواه الحاكم أبو عبد الله) ابن البيع في المستدرك (وقال: حديث صحيح على شرط مسلم) وفي ختم المصنف الباب بهذا الدعاء، إيماء إلى أن المطلوب من الأدعية كغيرها من الأعمال، وهو بعد أداء العبودية لحق الربوبية، طلب النجاة من النار، ودخول الجنة. قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز (5) وقال الشاعر:
إن ختم الله برضوانه ... فكل ما لاقيته سهل
باب فضل الدعاء بظهر الغيب
أي: في غيبة المدعو له إذا لحق إخوته من حيث الإِيمان. (قال الله تعالى) في الثناء على ذلك (والذين جاءوا من بعدهم) أي: التابعين بإحسان (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) أثنى عليهم البارىء بدعائهم للمؤمنين السابقين الغائبين عنهم حال الدعاء لهم (وقال تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) أي: ادع لهم ولهن بغفر الخطايا أجمع، كما نوه به حذف المعمول أمره بالاستغفار للجميع، ومن المعلوم أنهم حينئذ غير حاضرين لأنهم يظهرون جيلاً فجيلاً (وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -) وقد قال
__________
(1) الحاكم: (1/525) .
(2) سورة الحشر، الآية: 10.
(3) سورة محمد، الآية: 19.
(4) سورة إبراهيم، الآية: 41.
(5) سورة آل عمران، الآية: 185.

(7/298)


الحِسَابُ) .
1492- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلمٍ يدعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ إِلاَّ قَالَ المَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ". رواه مسلم (1) .
1493- وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: "دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (2) وقال تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي) (3) الآية (ربنا اغفر لي ولوالدي) إن ثبت أن أباه آزر، وهو ما جرى عليه البيضاوي في آخرين يحمل على أن استغفاره له كان أولاً كما قال تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) (4) الآية وإن كان آزر عمه وسلسلة النسب كانوا مسلمين فالأمر ظاهر (وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) ظرف للغفران المسؤول. وفيه الدعاء للمؤمنين فهو كالذي قبله.
1492- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من عبد مسلم يدعو لأخيه) أي: في الإِسلام (بظهر الغيب إلا قال الملك) بفتح أوليه (ولك بمثل) قال المصنف: الباء مزيدة، ومثل بكسر الميم وسكون المثلثة هذه الرواية المشهورة. قال القاضي: ورويناه بفتحهما أيضاً يقال هو مثله ومثله بزيادة الباء، أي: عديله سواء. قال المصنف: فيه فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب، ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت له هذه الفضيلة، ولو دعا لجملة المسلمين، فالظاهر حصولها أيضاً (رواه مسلم) .
1493- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوة المرء) أي: الشخص (المسلم لأخيه بظهر الغيب) أي: في غيبة المدعو له وفي سر، والتقييد به لأنه أبلغ في الإِخلاص، ثم الظرف
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، (الحديث: 86) .
(2) سورة الممتحنة، الآية: 4.
(3) سورة آل عمران، الآية: 68.
(4) سورة التوبة، الآية: 114.

(7/299)


مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ". رواه مسلم (1) .
252- باب: في مسائل من الدعاء
1494- وعن أسَامة بن زيد رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفاعِلهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً، فَقَدْ أبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حال من المضاف إليه، لأن الدعوة مصدر أضيف لفاعله، أو ظرف للمصدر، أي الدعوة الكائنة في غيبة المدعو له (مستجابة) أي: مجابة والسين والتاء، للمبالغة (عند رأسه ملك موكل) أي: بالإتيان بما يأتي عنه (كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين) بالمد وتخفيف الميم أي: استجب وهذا سؤال منه تعالى وخاطب الداعي فقال: (ولك بمثل) أي: مثل ما دعوت به له. قال المصنف: كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه دعا لأخيه المسلم بتلك الدعوة، لأنها تستجاب، ويحصل له مثلها (رواه مسلم) ورواه أحمد والنسائي وأخرجه أبو بكر في الغيلانيات عن أم كرز، ورواه البزار عن عمران بن حصين مرفوعاً بلفظ "دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لا يرد".
باب في مسائل من الدعاء
أي: في ذكر أحاديث تتعلق بمسائل منه.
1494- (عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صنع) بالبناء للمجهول (إليه معروف) من نحو إطعام، أو كسوة أو جلب مصلحة، أو دفع مضرة، وكذا إذا كان المعروف معنوياً كإفادة علم أو إفاضة معرفة (فقال لفاعله) عبر به دون صانعه تفنناً في التعبير (جزاك الله خيراً) التنكير فيه للتعظيم كما يوميء إليه سؤاله من الله تعالى (فقد أبلغ في الثناء) أي: بالغ في ثنائه على فاعله وجازى المحسن إليه بأحسن مما أسداه إليه حيث أظهر عجزه، وأحاله على ربه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وفي الحرز، وقال
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، (الحديث: 88)
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في المتشبع بما لم يعطه، (الحديث: 2035) .

(7/300)


1495- وعن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ وَلاَ تَدعُوا عَلَى أوْلادِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أموَالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسألُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ". رواه مسلم (1) .
1496- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أقْرَبُ مَا يكونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ" رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الترمذي: حسن غريب، وقال في السلاح: رواه الترمذي والنسائي، وابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ، وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه من حديث أسامة إلا من هذا الوجه.
1495- (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم) أعاد الفعل المنهي عنه في كلا الجملتين المعطوفتين، إيماءً إلى استقلال كل بالنهي عنه. وحذف المعمول يؤذن بالعموم أي: لا تدعوا على من ذكر، وما ذكر بشيء من الضرر (لا توافقوا) علة للنهي أي: لئلا توافقوا والفعل منصوب بأن المقدرة مع لام الجر، لدلالة المقام عليهما، ويجوز أن يقال إنه مجزوم وهو جواب شرط مقدر؛ لكونه في جواب النهي أي: إن لا تدعوا لا توافقوا الخ حال الدعاء بذلك (من الله ساعه يسأل) بصيغة المجهول ونائب فاعله يعود إلى الجلالة، وهو مفعوله الأول (فيها عطاء) أي: شيئاً معطى (فيستجيب) بالرفع عطف على المرفوع قبله، أو على إضمار هو وبالنصب جواب النهي، من قبيل لا تدن من الأسد فيأكلك على مذهب الكسائي (3) (لكم) لكون الوقت وقت إجابة (رواه مسلم) ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث أم سلمة بلفظ "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون".
1496- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرب ما يكون العبد من ربه) أي: قرباً معنوياً قرب مكانة لا قرب مكان (وهو ساجد) وقد تقدم الحديث مشروحاً في باب فضل الذكر والحث عليه وقوله: (فأكثروا الدعاء) أي فيه، الفاء فيه تفريعية أو فصيحة (رواه مسلم) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطويل وقصه أبي اليسر، (الحديث: 74) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، (الحديث: 215) .
(3) هذا غير ظاهر إذ الخلاف في الجزم عند حذف الفاء أما النصب عند ذكرها فمتفق عليه.

(7/301)


1497- وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ: يقُولُ: قَدْ دَعْوتُ رَبِّي، فَلَمْ يسْتَجب لِي" متفق عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: "لا يَزالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطيعَةِ رحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ" قيل: يَا رسولَ اللهِ مَا الاستعجال؟ قَالَ: "يقول: قَدْ دَعوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أرَ يسْتَجِبُ لي، فَيَسْتحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1497- (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يستجاب لأحدكم ما) مصدرية ظرفية (لم يعجل) أي: مدة عدم عجلته (يقول (2)) استئناف لبيان العجلة المانعة من الإِجابة (قد) للتحقيق (دعوت ربي فلم يستجب لي) بالبناء للفاعل وذلك لأن الله تعالى (وقد جعل الله لكل شيء قدراً) (3) (وقد من بإجابة دعوة من دعاه، لكن في الوقت الذي قدره سبحانه وقضاه قد جعل الله لكل شيء قدراً) أفلا يتقدم شيء عن إبانه، ولا يتأخر عن أوانه (متفق عليه) قال في الجامع الكبير: رواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه (وفي رواية لمسلم) والترمذي (لا يزال) اسمها ضمير الشأن والخبر (يستجاب للعبد) دعاؤه (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) هو داخل فيما قبله فعطفه عليه كعطف جبريل وميكال في قوله (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) (4) وذلك للاهتمام (ما لم يستعجل) بدل مما قبله بدل بداء، وقال العاقولي: كان حق الظاهر أن يؤتى بالعاطف هنا فترك على تقدير عامل آخر، إشارة إلى استقلال كل من القيدين، أي: يستجاب له ما لم يدع بإثم، وكأن سائلاً قال: هل الاستجابة مقصورة على ذلك؟ فقيل: لا بل يستجاب له ما لم يستعجل. اهـ وقال: ابن حجر في فتح الإله: ترك العاطف فيه استئنافاً تنبيهاً على أن كل واحد منهما مستقل بمنع الاستجابة، أي: يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم، يستجاب لأحدكم ما لم يستعجل أهـ. وما ذكرته وجه آخر قريب. والله أعلم (قيل: يا رسول الله ما الاستعجال) المرتب عليه المنع من الإجابة (قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت) أي: تكرر مني الدعاء، وذكر الاثنين المراد به الإِشارة إلى كثرة الدعاء وتكراره لا خصوص الاثنينية (فلم أر يستجب لي فيستحسر) بالرفع عطف على يقول أي: فيعيى (عند ذلك) الاستعجال (ويدع) بفتح الدال أي: يترك (الدعاء) والحاصل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: يستجاب للعبد ما لم يعجل، (11/119) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي، (الحديث: 90) .
(2) قوله: لأحدكم أي لكل واحد منكم، وقوله: يعجل بفتح المثناة والجيم وسكون العين، وقوله: يقول أي بلسانه أو في نفسه. ع.
(3) سورة الطلاق، الآية: 3.
(4) سورة البقرة، الآية: 98.

(7/302)


1498- وعن أَبي أمامة - رضي الله عنه - قَالَ: قيل لِرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: "جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن الإجابة حاصلة؛ لكن تكون تارة معجلة، وتارة مؤخرة. ذكر مكي رحمه الله أن المدة بين دعاء زكريا - صلى الله عليه وسلم - بطلب الولد والبشارة أربعون سنة. وحكى ابن عطية عن ابن جريج ومحمد بن علي والضحاك أن دعوة موسى وهرون على فرعون لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وحكى الإمام أبو حامد الغزالي عن بعضهم أنه قال: إني أسال الله عز وجل منذ عشر سنين حاجة وما أجابني وأنا أرجو الإجابة، سألت الله أن يوفقني لترك ما لا يعنيني. انتهى منقولاً من السلاح.
1498- (وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع) أي: أقرب للإِجابة (قال: جوف الليل (2)) أي: وسطه. وتقدم في شرح حديث داود: أن أفضل القيام قيام الثلث بعد نوم النصف، وينام السدس الأخير وإنما كان ذلك حينئذٍ، لكمال التوجه وفقد العلائق والعوائق؛ لأنه وقت التجليات الإِلهية وتنزل الفيوض الربانية (ودبر) بضمتين أي: عقب (الصلوات المكتوبات) أي: الفرائض، وذلك لأن الصلاة مناجاة العبد لربه ومحل مسألته من فضله، وبعد تمام العمل يظهر الأمل (رواه الترمذي) ورواه النسائي (وقال: حديث حسن) قال الترمذي: وقد روي عن أبي ذر، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "جوف الليل الآخر الدعاء فيه أفضل وأرجى أو نحو هذا" وروى أبو داود، والترمذي والنسائي، والحاكم عن عمر بن عبسة رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" قال الترمذي: بعد أن أخرجه بهذا اللفظ هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 79] ، (الحديث: 3499) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، [باب: 119] ، (الحديث: 3579) .
(2) قوله (جوف) هو بالرفع وفي الكلام مضاف محذوف أي دعاء جوف الليل.

(7/303)


1499- وعن عُبَادَةَ بنِ الصامت - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا عَلَى الأرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو الله تَعَالَى بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللهُ إيَّاها، أَوْ صَرفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: إِذاً نُكْثِرُ قَالَ: "اللهُ أكْثَرُ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح".
ورواه الحاكم من روايةِ أَبي سعيدٍ وزاد فِيهِ: "أَوْ يَدخِرَ لَهُ مِن الأَجْرِ مثْلَها" (1) .
1500- وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقولُ عِنْدَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1499- (وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة) بفتح الدال المرة من الدعاء، والتنوين فيه للشيوع يشمل الدعاء بالجليل والحقير، وبالقليل والكثير (إلا آتاه الله) أي: أعطاه (إياها) حالاً أو بعد (أو) للتنويع (صرف) بالبناء للفاعل (عنه من السوء مثلها) أي: الدعوة المسؤولة أي: ما يكون نفع دفعه كنفع حصولها (ما لم يدع) سكون الدال (بإثم أو قطيعة رحم) أي: فلا تجاب تلك الدعوة المقترنة بشيء من ذلك؛ لأن الإجابة تنتفي عن سائر الدعوات غيرها إذا دعا بهما كما قد يتوهم، ونظيره حديث: "الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر" أي: فإن الكبائر غير مكفرة لا أن الصغائر غير مكفرة حينئذٍ، والله أعلم (فقال رجل من القوم) لم أقف على من سماه (إذاً نكثر) بالنصب أي: إذا كانت الدعوة بما عدا ما ذكر مجابة نكثر من سؤال خيري الدارين لتحصيلهما بالوعد الذي لا يخلف (فقال: الله أكثر) بالمثلثة أي: أكثر إحساناً ونوالاً مما تطلبون وتسألون (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد) هو الخدري (وزاد فيه) قوله: (أو يدخر) أصله يذتخر بالمعجمة والفوقية، قلبت الفوقية دالاً مهملة دفعاً للثقل فأدغمت فيها الذال لتقارب مخرجها منها أي: يجعل (له) أي: الداعي (من الأجر مثلها) أي: من حيث النفع.
1500- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول (2) عند الكرب) بفتح
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في انتظار الفرج وغير ذلك، (الحديث: 3573) .
وصححه الحاكم: (1/493) .
أخرجه الترمذي في كتاب: الدعاء، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابه، (الحديث: 3381) .
"وهو من حديث جابر ... ".
(2) في الجامع الصغير "كان يدعو عند الكرب" الخ.

(7/304)


الكَرْبِ: "لا إلهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَاواتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فسكون وهو الأمر الذي يشق على الإِنسان ويملأ صدره غيظاً (لا إله إلا الله العظيم) قدراً (الحليم) فلا يعاجل بالعقوبة (لا إله إلا الله رب العرش العظيم) بالجر عند الجمهور وصف به العرش بعد أن وصف به الذات ليكون من باب الترقي، لأنه إذا اتصف بها بعض مكوناته فلأن يتصف بها هو بالأولى، وقال ابن التين عن الداودي: هو بالرفع صفة رب (لا إله إلا الله رب السموات) زاد في رواية السبع (ورب الأرض رب العرش) أي: مالك كل شيء وخالقه ومصلحه، وأعاد لفظ الرب مع كل القرائن إيماء إلى أن لكل بالاستقلال من غير نظر لتبعيته لغيره المتوهمة لولا ذلك، وروي ورب العرش بإثبات واو (الكريم) بالجر صفة العرش ووصف به لأن الرحمة تنزل منه أو لأنه منسوب إلى أكرم الأكرمين لا إله إلا هو. وفي الإتيان بهذه إيماء إلى أن الدواء من الكرب توحيد الله عز وجل، وعدم النظر إلى سواه أصلاً فمن صفا له هذا المشرب فرج عنه الكرب، ونال من الفضل الأسنى ما أحب، وفي شرح البخاري للعيني، قال ابن بطال: حدث أبو بكر الرازي قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم أكتب الحديث عنه، وهناك شيخ يقال له أبو بكر بن علي عليه مدار الفتيا، فسعى به عند السلطان فحبسه فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وجبريل عليه السلام عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - قل: لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه. قال: فأصبحت فأخبرته فدعا به فلم يكرر إلا قليلاً حتى أخرج من السجن، وقال الحسن البصري: أرسل إلي الحجاج فقلتهن فقال: والله ما أرسلت إليك إلا وأنا أريد قتلك، فلأنت اليوم أحب إليّ من كذا وكذا. وزاد في لفظ: فسل حاجتك اهـ (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه والطبراني في الكبير، وزاد: اصرف عني شر فلان، كما في الجامع الصغير. قال العيني: اشتملت الجملة الأولى: على التوحيد الذي هو أصل التنزيهات المسماة بالأوصاف الجلالية، وعلى العظمة التي تدل على القدرة العظيمة، إذ العاجز لا يكون عظيماً، وعلى الحلم الذي لا يتصور من الجاهل بالشيء إذ الجاهل بالشيء لا يتصور منه الحلم، وهما أصل الصفات الوجودية الحقيقة المسماة بالأوصاف الإِكرامية. وحكمة تخصيص الحليم بالذكر أن كرب المؤمن غالباً إنما هو من نوع
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، (11/123) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: دعاء الكرب، (الحديث: 83) .

(7/305)


253- باب: في كرامات الأولياء وفضلهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقصير في الطاعات، أو غفلة في الحالات، وهذا يشعر برجاء العفو المقلل للحزن، وكون الحلم حقيقة الطمأنينة عند الغضب؛ وذلك لا يطلق عليه تعالى يجاب عنه بأن المراد به لازمها، أي: تأخير العقوبة وإطلاق الدعاء على هذا؛ لأنه يفتتح به الدعاء لكشف الكرب كما تقدم نظيره، واشتملت الجملة الثانية على التوحيد والربوبية وعظم العرش، ووجه ذكر الرب من بين سائر الأسماء الحسنى، هو كونه مناسباً لكشف الكرب الذي هو مقتضى التربية، ووجه تخصيص العرش بالذكر كونه أعظم أجسام العالم فيدخل الجميع تحته دخول الأدنى تحت الأعلى، وخص السموات والأرض بالذكر لأنهما من أعظم المشاهدات انتهى ملخصاً.
باب كرامات الأولياء وفضلهم
الكرامات: جمع كرامة، وهي: إحدى الخوارق للعادات. وهي خمس: إرهاص، ومعجزة، وكرامة، ومعونة، ومهونة. فالإِرهاص الخارق للعادة المتقدم على تحدي النبي ودعواه النبوة كإظلال الغمام فإنه لم يقع له - صلى الله عليه وسلم - إلا قبل النبوة خلافاً لمن وهم فيه. وسمي إرهاصاً لما فيه من تأسيس النبوة، والمعجزة الخارق للعادة المقرون بالتحدي الواقع على طبق ما ادعاه مع الأمن من المعارضة فيه، والتحدي طلب المعارضة والمقابلة. وقال المحققون: دعوى الرسالة. وسميت معجزة لعجز البشر عن الإِتيان بمثله. أما ما لا يؤمن معارضته فيسمى سحراً. وجوز قوم قلب الأعيان وإحالة الطبائع كصيرورة الإِنسان حماراً، ومنعه آخرون قالوا: وإلاّ لم يكن فرق بين النبي والساحر. ويرد بوضوح الفرق بينهما فإن قالها عند التحدي لا يمكن معارضته لإِطراد العادة الإِلهية، إن المدعي النبوة كاذباً لا يظهر على يديه خارق كذلك مطلقاً، وعند عدمه يمكن المعارضة بتعلم ذلك السحر، فظهر أن قيد التحدي لا بد منه، لكنه لا يشترط عند كل معجزاته؛ لأن أكثر معجزاته - صلى الله عليه وسلم - صدر من غير تحد، بل قيل: لم يتحد بغير القرآن وتمني الموت وإنما الشرط وقوعها ممن تسبق منه دعوى التحدي، والكرامة الخارق للعادة لا على سبيل التحدي. ويدخل ما وجد من خوارق العادات بعد التحدي كما روي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - من نطق بعض الموتى بالشهادتين وشبهه مما تواترت به الأخبار فيسمى كرامة. وجرى القاضي عياض في الشفاء على أن منها ما يبدو من الخوارق على يد النبي لا على سبيل التحدي. وتقدم آنفاً خلافه. والمعونة خارق للعادة يبدو على يد بعض المؤمنين كإنقاذ من مهلكة وتخليص من ورطة بوجه خارق للعادة.

(7/306)


قَالَ الله تَعَالَى (1) : (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وقال تَعَالَى (2) : (وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فكُلِي وَاشْرَبِي) الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمهونة: خارق للعادة على خلاف دعوى المتحدي، كما وقع لمسيلمة أنه تفل في بئر ليكثر ماؤها فغار. والأولياء جمع ولي. وهو المؤمن المطيع لمولاه فعيل بمعنى فاعل لأنه والى الله باتباع مرضاته، أو بمعنى مفعول لأن الله تعالى والاه. وكرامات الأولياء متنوعة ذكر منها الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات نيفاً وعشرين نوعاً. ويجمع ذلك كل ما جاز وقوعه معجزة للنبي جاز كونه كرامة للولي. وهي على إطلاقها من غير استثناء خلافاً لبعضهم. (قال الله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم) حين يخاف الناس عقاب الله (ولا هم يحزنون) على فوات مأمول (الذين آمنوا وكانوا يتقون) بيان لأولياء الله (لهم البشرى في الحياة الدنيا) الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم أو ترى له، وقال بعضهم: بشرى الملائكة عند احتضاره بالجنة. وعن الحسن هي ما يبشر الله المؤمنين في كتابه من جنة ونعيمها (وفي الآخرة) الجنة ورضوان الله وقال بعضهم: المراد بتبشير الملائكة في القبر (لا تبديل لكلمات الله) لا خلاف لمواعيده (ذلك) أي: كونهم مبشرين في الدارين (هو الفوز العظيم. وقال تعالى) خطاباً لمريم (وهزي إليك بجذع النخلة) الباء مزيدة للتأكيد، أو بمعنى افعلي الهز (تساقط) أي: تساقط النخلة (عليك رطباً جنياً) تمييز إن كان التساقط من التفاعل، ومفعول إن كان من المفاعلة، أي: غضاً، وكانت تلك النخلة يابسة، فأورقت كرامة لمريم لتكون كرامة أخرى ليطمئن قلبها، أو مثمرة لكن لم يكن حين ثمرها (فكلي) من الرطب (واشربي) من النهر أو من عصير الرطب (وقري عيناً) وهو من القر أي: البرد فإن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، أو من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر سكنت إليه من النظر إلى غيره (الآية) وأشار بها إلى تكلم عيسى ومخاطبته لقومها ومحاورته عنها ومن
__________
(1) سورة يونس، الآيات: 62، 63، 64.
(2) سورة مريم، الآيتان: 25، 26.

(7/307)


وقال تَعَالَى (1) : (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
وقال تَعَالَى (2) : (وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولادته إرهاصاً لنبوته وكرامة لها (وقال تعالى: كلما دخل عليها زكريا المحراب) أي: الغرفة التي بناها لها في المسجد (وجد) هو الناصب لكلما على الظرفية (عندها رزقاً) قيل: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس، وقيل: صحف فيها علم، والأول أصح (قال يا مريم أنى لك هذا) من أين لك في غير أوانه والأبواب مغلقة (قالت: هو من عند الله) فلا يستبعد. قيل: هي كعيسى تكلمت صغيرة ولم ترضع ثدياً، ويأتي رزقها من الجنة (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) لكرمه وسعته. قال الشيخ تاج الدين السبكي في إثبات الكرامة: ومنها قصة مريم من جهة حبلها من غير ذكر، وحصول الرطب الطري من الجذع اليابس، ودخول الرزق عندها في غير أوان حضور أسبابه، وهي لم تكن نبية لا عندنا لقوله ْتعالى: (وأمه صديقة) (3) ولا عند الخصم (4) لاشتراطه الذكورة في النبي وهو متفق عليه بيننا وبينه، ولا جائز أن يكون ذلك معجزة لزكريا لأن المعجزة يجب كونها بمشهد من الرسول والقوم حتى تقوم الدلالة عليهم وما حكيناه من كرامتها نحو قول جبريل لها (وهزي إليك بجذع النخلة) (5) الآية لم يكن بحضور أحد بدليل (فإما ترين من البشر أحداً) (6) وأيضاً فالمعجزة تكون بالتماس الرسول، وزكريا ما كان يعلم بحصولها بدليل قوله: (أنى لك هذا) وأيضاً فهذه الخوارق إنما ذكرت لتعظيم شأن مريم فيمتنع كونه كرامة لغيرها، ولا جائز أن يكون إرهاصاً لعيسى، لأن الإِرهاص أن يخص الرسول قبل رسالته بالكرامات، وأما ما يحصل به كرامة الغير لأجل أنه يستحيي بعد ذلك فذلك هو الكرامة التي يدعيها، ولأنه لو جاز ذلك لجاز في كل معجزة ظهرت على يد رسول أنها إرهاص لنبي آخر يجيء بعد وتجويز هذا يؤدي إلى سد الاستدلال بالمعجزة على النبوة. اهـ (وقال تعالى) حكاية عن تخاطب أهل الكهف فيما بينهم (وإذ اعتزلتموهم) أي: الكفرة الذين في البلد المرجفين بهم (وما يعبدون) أي: معبوداتهم أو الذين تعبدونهم (إلا الله) فإنهم كانوا يعبدونه صريحاً، أو في ضمن عبادتهم (فأووا) انضموا (إلى الكهف ينشر) يبسط (لكم ربكم من رحمته)
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 37.
(2) سورة الكهف، الآيتان: 16، 17.
(3) سورة المائدة، الآية: 75.
(4) قوله (الخصم) مراده من ينكر كرامة الأولياء.
(5) سورة مريم، الآية: 25.
(6) سورة مريم، الآية: 26.

(7/308)


رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) الآية.
1501- وعن أَبي محمد عبد الرحمن بن أَبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يستركم بها من قومكم (ويهيىء) ييسر (لكم من أمركم) الذي أردتم (مرفقاً) بفتح أوله وكسر ثالثه وبالعكس ما ترتفقون وتنتفعون به (وترى الشمس) لو رأيتهم (إذا طلعت تزاور) أي تميل (عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم) أي: تقطعهم وتميل عنهم (ذات الشمال. الآية) أي: قوله (وهم في فجوة) (1) أي: متسع (منه) أي: من الكهف، فلا يؤذيهم حر الشمس، وينالهم روح الهواء. قال بعضهم: صرف الله عنهم الشمس بقدرته، وحال بينهم وبينها لأن باب الكهف على جانب لا تقع الشمس إلا على جبليه، فيكون كرامة لهم كما قال: (ذلك من آيات الله) (1) إذ أرشدهم إلى ذلك الغار، وصرف عنهم الأضرار.
1501- (وعن أبي محمد عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق) عبد الله، لقب به لمبادرته بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء (رضي الله عنهما) الأولى عنهم، لأن محمداً ولد عبد الرحمن كان صحابياً أيضاً كما صرح به المصنف نفسه في التهذيب، فقال: قال العلماء: لا يعرف أربعة ذكور مسلمين متوالدين بعضهم من بعض أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبوه إلا أبو قحافة، وأبو بكر وابنه عبد الرحمن وابنه محمد بن عبد الرحمن أبو عتيق، وعبد الرحمن شقيق عائشة أمه أم رومان بضم الراء على المشهور. وحكى ابن عبد البر ضمها وفتحها، وشهد عبد الرحمن بدراً وأحداً مع الكفار وأسلم في هدنة الحديبية وحسن إسلامه وكان اسمه عبد الكعبة، وقيل: عبد العزى فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن، وكان شجاعاً حسن الرأي، وشهد اليمامة مع خالد فقتل سبعة من الكفار، وهو قاتل محكم اليمامة ابن طفيل رماه بسهم في نحره فقتله، وكان محكم في ثلمة الحصن، فلما قتله دخل المسلمون. قال الزبير بن بكار: كان عبد الرحمن أسن ولد أبي بكر. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث اتفقا على ثلاثة منها. توفي بالحشى جبل بينه وبين مكة ستة أميال، وقيل: عشرة أميال، ثم حمل على الرقاب إلى مكة سنة ثلاث، وقيل: خمس، وقيل: ست وخمسين. والصحيح الأول، وكانت وفاته فجأة، ولما أتي بالبيعة ليزيد بن معاوية بعثوا إليه بمائة ألف درهم ليستعطفوه
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 17.

(7/309)


أنَّ أَصْحَابَ الصُّفّةِ كَانُوا أُنَاساً فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَرَّةً: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بثَالِثٍ، وَمنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أرْبَعَةٍ، فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ" أَوْ كما قَالَ، وأنَّ أَبَا بكرٍ - رضي الله عنه -، جَاءَ بِثَلاَثَةٍ، وانْطَلَقَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعَشَرَةٍ، وأنَّ أَبَا بَكرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى العِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ، فجاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ. قالت امْرَأتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أضْيَافِكَ؟ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فردها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي رضي الله عنه. اهـ ملخصاً من التهذيب (أن أصحاب الصفة) الظلة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مؤخر مسجده لما بناه يأوي إليها من لا أهل له، ولا صاحب من المحتاجين، إذا نزل المدينة، وتقدمت عدتهم في باب فضل الزهد في الدنيا (كانوا أناساً فقراء وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مرة) أي: فيها (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) أي: فإن طعامه كافيهم وقع عند مسلم بثلاث. قال عياض: وهو غلط، والصواب ما عند البخاري، ووجه المصنف رواية مسلم بأنها على تقدير مضاف، أي: بتمام ثلاث، وهو الثالث فتتفق الروايتان (ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس) بحذف الواو أي: وبسادس أو بحذف أو التي للشك في أنه قال: فليذهب بخامس، أو قال: فليذهب بسادس، ويؤيد الثاني قوله: (أو كما قال) فإنه ظاهر في الشك وجاء كما تقدم في باب الإِيثار من حديث جابر مرفوعاً: وطعام الأربعة يكفي الثمانية. وقال الحافظ في الفتح أي: ليذهب بخامس إن لم يكن عنده ما يقتضي أكثر من ذلك، وإلا فيذهب مع الخامس بسادس إن كان عنده أكثر من ذلك، قال: والحكمة في كونه يزيد واحداً فقط أن عيشهم يومئذ لم يكن متسعاً فمن عنده مثلاً ثلاثة أنفس لا يضيق عليه أن يطعم الرابع من قوتهم، وكذا الأربعة وما فوقها بخلاف ما لو زيد بالإِضعاف بعدد العيال، فإن ذلك يحصل الاكتفاء به عند إتساع الحال (وإن أبا بكر) وفي نسخة: الصديق، وليست عند البخاري وكذا قوله (رضي الله عنه) وأتى به المصنف تنبيهاً على أن الإِتيان بمثله مطلوب لا يعد زيادة في المروي (جاء بثلاثة) أي: منهم (وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة) منهم (وإن أبا بكر رضي الله عنه تعشى عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لبث) أي: قام عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده لأمر اقتضى المكث (حتى صلى العشاء) أي: معه - صلى الله عليه وسلم - (ثم رجع) إلى منزله بعد أن كان جاء أولاً إليه بالأضياف كما يدل عليه صريح قوله السابق، وإن أبا بكر جاء بثلاثة ثم عاد لمنزله - صلى الله عليه وسلم -، وتعشى عنده، وصلى معه، ويدل له الرواية الآتية بعد (فجاء بعد ما مضى من الليل) بيان لما في قوله (ما شاء الله) . وفيه إيماء إلى مزيد تأخره عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وإبطائه (قالت له امرأته ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم) بكسر

(7/310)


أوَما عَشَّيْتِهمْ؟ قالت: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَذَهَبتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ، فَقالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وقالَ: كُلُوا لاَ هَنِيئاً وَاللهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَداً، قَالَ: وايْمُ اللهِ مَا كُنَّا نَأخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلا ربا من أسفلِها أكثرَ منها حتى شبعوا، وصارتْ أكثرَ مما كانتْ قبلَ ذلكَ، فنظرَ إليها أبو بكر فقالَ لامرأتِهِ: يا أختَ بني فراسٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفوقية، وفي بعض النسخ بزيادة تحتية بعدها لإشباع كسر الفوقية، قال: والواو عاطفة على مقدر بعد الهمزة (قالت: أبوا) أي: امتنعوا (حتى تجيء وقد عرضوا) بصيغة الفاعل، والضمير يرجع إلى الخدم أو الأهل، ووقع في رواية للبخاري قد عرضنا عليهم فامتنعوا (عليهم) أي: الأضياف (قال) أي: عبد الرحمن (فذهبت أنا فاختبأت) أي: خوفاً من خصام أبيه له، وتغيظه عليه (فقال: يا غنثر) سيؤتى ضبطه ومعناه (فجدع) بتشديد الدال المهملة أي: دعا بالجدع، وهو القطع من الأذن والأنف، أو الشفة، وقيل: المراد به السب والأول أصح (وسب) أي: شتم وحذف المعمول للعلم به، ظن أن عبد الرحمن قصر في حق الأضياف فلما علم الحال أدبهم بقوله: (وقال: كلوا لا هنيئاً) أي: لا أكلتم هنيئاً وهو دعاء عليهم. وقيل: أي: خير لم تهنئوا به أو لا بصحة. وقيل: إنما خاطب بهذا أهله لا الأضياف (والله لا أطعمه) بفتح العين أي: لا أذوقه (أبداً قال) أي: عبد الرحمن (وأيم الله) همزته همزة وصل عند الجمهور. وقيل: يجوز القطع وهو مبتدأ وخبره محذوف، أي: قسمي وأصله أيمن وأصل الهمزة فيه القطع، ولكنها لكثرة الاستعمال خففت فوصلت، وفيها لغات أيمن مثلث الميم، ومن مختصرة منه مثلثة الميم، وأيم كذلك ويم كذلك، قال ابن مالك: وليس الميم بدلاً من الواو ولا أصلها من خلافاً لمن زعمه ولا أيمن جمع يمين خلافاً للكوفيين (ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا) بالموحدة أي: زاد (من أسفلها) أي: الموضع الذي أخذت منه (أكثر منها) بالرفع فاعل ربا (حتى شبعوا وصارت أكثر) بالمثلثة (مما كانت قبل ذلك) أي: قبل أكلهم (فنظر إليها) أي: القصعة (أبو بكر فقال لامرأته) أم رومان (يا أخت بني فراس) بكسر الفاء وتخفيف الراء آخره مهملة من كنانة. قيل: التقدير يا من هي من بني فراس، والعرب تطلق على من كان متبعاً لقبيلة أنه أخوهم. وفيه نظر لأن أم رومان من ذرية الحارث بن غنم، وهو ابن مالك بن أوس بن غنم. قال في الفتح: فلعله نسبها إلى بني فراس بكونهم أشهر من بني الحارث ويقع في النسب كثيراً الانتساب إلى أخي جدهم.
والمعنى يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس، ولا شك أن الحارث أخو فراس، فأولاد كل منهما إخوة للآخرين بكونهم في درجتهم. وحكى عياض أنه قيل في أم رومان أنها من

(7/311)


ما هذا؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني لهي الآنَ أكثرُ منها قبلَ ذلكَ بثلاثِ مراتٍ! فأكل منها أبو بكرٍ وقال: إنَّما كانَ ذلكَ من الشيطانِ، يعني: يمينَهُ. ثم أكلَ منها لقمةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ. وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَمَضَى الأجَلُ، فَتَفَرَّقْنَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللهُ أعْلَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بني فراس بن غنم لا من بني الحارث، وعليه فلا حاجة إلى هذا التأويل، ولم أر في كتاب ابن سعد لها نسبا إلى بني حارث، ساق لها نسبين مختلفين (ما هذا) الاستفهام للتعجب (قالت لا) زائدة أو نافية على تقدير لا شيء غير ما أقول (وقرة) بجرها على القسم (عيني) يعبر بها على المسرة ورؤية ما يحبه الإِنسان ويوافقه، يقال ذلك لأن عينه قرت عن التلفت إلى الغير بحصول غرضها فلا تستبشر لشيء آخر، فكأنه مأخوذ من القرآن، وأقسمت بذلك لما وقع عندها من السرور وبالكرامة التي حصلت لهم ببركة الصديق رضي الله عنه. وزعم الداودي أنها أرادت بقرة عينها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقسمت به. قال الحافظ: وفيه بعد قال الشيخ زكريا: ولعله كان قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى (لهي) أي: القصعة أو البقية (الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات) أكثر بالمثلثة للأكثر ولبعضهم بالموحدة (فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني) بالمشار إليه بذلك (يمينه ثم أكل منها لقمة) لحديث الصحيح: "إني لا أحلف يميناً، فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني، وفعلت الذي هو خير" ولقصد إرغام الشيطان فيما زينه له من اليمين أن لا يأكل منه، وفائدة قوله: ثم أكل مع قوله فيما سبق فأكل، وليس إلا أكل واحد لدفع الإِيهام وأنه إنما أكل لقمة واحدة لما ذكر من تكفير يمينه، أو أن مراده لا أطعمه منكم، أو في هذه الساعة أو عند الغضب، ولكن هذه الثلاثة الأخيرة مبنية على جواز تخصيص العموم في اليمين، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الوارد عليه (ثم حملها) أي: الجفنة (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصبحت) أي: الجفنة على حالها (عنده) وإنما لم يأكلوا منها في الليل لكون ذلك وقع بعد مدة طويلة (وكان بيننا وبين قوم عهد فمضى الأجل) الذي هو عدواً إليه (فتفرقنا اثني عشر رجلاً) فيه الفاء فصيحة أي: جاءوا إلى المدينة ففرقنا من التفريق أي: ميزنا وجعل كل رجل من اثنتي عشر فرقة. وفي بعض الروايات: فعرفنا بالمهملة وشد الراء أي: جعلناهم عرفاء. قال الكرماني والبرماوي: وفي بعضها فقرينا من الفري وهي الضيافة قال الحافظ في الفتح: على ذلك، وأفاد أن روايات مسلم اختلفت فيه هل قال: فرقنا أو قال عرفنا؟ وأن رواية الإِسماعيلي وعرفنا بالعين وجهاً واحداً، وسمي المعرف عريفاً لأنه يعرف الإِمام أحوال العسكر. وبما ذكرت من اختلاف ألفاظ الروايات يعلم أن زيادة التاء في قوله فتعرفنا من قلم

(7/312)


كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ.
وَفِي رِوَايةٍ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ لا يَطْعَمُهُ، فَحَلَفَت المَرْأَةُ لا تَطْعَمُهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ. - أَو الأَضْيَافُ - أنْ لاَ يَطْعَمُهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ! فَدَعَا بالطَّعَامِ فَأكَلَ وأكَلُوا، فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلاَّ رَبَتْ مِنْ أسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَني فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرْةِ عَيْنِي إنَّهَا الآنَ لأَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ أنْ نَأكُلَ، فَأكَلُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناسخ خصوصاً. وهذا اللفظ كله لمسلم واثني عشر بالنصب عند مسلم حال، وعند البخاري بالألف. قال ابن مالك: هو على لغة من من يلزم المثنى الألف في الأحوال كلها، ومنه (إن هذان لساحران) (1) (رجلاًَ مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل) جملة معترضة أي: أناس الله يعلم عددهم ومميزكم محذوف أي: كم رجل (فأكلوا منها أجمعون) أي: كل ذلك الجيش من تلك الجفنة، والذي وقع فيها في بيت أبي بكر ظهور أول البركة فيها، وأما انتهاؤها إليه أن كفت الجيش، فما كان الأبعد أن صارت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظاهر الخبر (وفي رواية) هي للبخاري في باب الأدب في صحيحه (فخلف أبو بكر) لما أخبر بإباء أضيافه عن الأكل حتى يحضر وأكل معهم (لا يطعمه) بفتح المثناة التحتية والمهملة الثانية (فحلفت المرأة) أي: زوجته (لا تطعمه فحلف الضيف) المراد به الجيش لأنهم كانوا ثلاثة واسم الضيف يقع على الواحد وما فوقه، وقال الكرماني: أو هو مصدر يتناول المثنى والمجموع. قال في الفتح: وليس بواضح (أو) شك من الراوي (الضيفان ألا يطعمه) أفرد باعتبار لفظ الضيف (أو يطعموه) ظاهر السياق أنه مع الأضياف، ولو جاء مع لفظ الضيف، لكان مستقيماً ويكون الجمع بالنظر للمعنى (حتى يطعمه فقال أبو بكر: هذه) أي: اليمين أو الحالة من الغضب الناشىء عنها اليمين (من الشيطان) أي: من وسواسه (فدعا بالطعام فأكل وأكلوا) أتي بالواو إيماء إلى أنهم لم يؤخروا أكلهم عن أكله (فجعلوا لا يرفعون) أي: من القصة (لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر) بالمثلثة بالنصب مفعول ربا (منها فقال: يا أخت بني فراس ما هذا؟ فقالت: وقرة عيني إنها الآن) أي: بعد الأكل منها (أكثر منها قبل أن نأكل) يعني أهل هذا البيت والضيف (فأكلوا) . قال الحافظ في الفتح: الصواب ما في هذا الرواية وذلك لأن تلك تقتضي أن سبب أكل أبي بكر من الطعام ما رآه من البركة، وهذه تقتضي أن سببه لجاج الأضياف، وحلفهم أن لا يطعموا حتى يأكل، ويمكن رد تلك إلى هذه بأن يجعل قوله في الرواية السابقة "فأكل منها أبو بكر" معطوفاً على أطعمه لا على
__________
(1) سورة طه، الآية: 63.

(7/313)


وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أنَّهُ أكَلَ مِنْهَا. وَفِي رِوايَةٍ: إنَّ أَبَا بكْرٍ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ: دُونَكَ أضْيَافَكَ، فَإنِّي مُنْطلقٌ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَافْرُغْ مِنْ قِراهُم قَبْلَ أنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمانِ، فَأَتَاهُمْ بما عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا؛ فقالوا: أين رَبُّ مَنْزِلِنا؟ قَالَ: اطْعَمُوا، قالوا: مَا نحنُ بِاكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا، قَالَ: اقْبَلُوا عَنْا قِرَاكُمْ، فَإنَّهُ إنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا، لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ فأبَوْا، فَعَرَفْتُ أنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القصعة، التي دلت على بركة الطعام، وغايته أن حلف الأضياف أن لا يطعموه لم يذكر فيها. ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون أبو بكر أكل لأجل تحليل يمينهم، ثم لما رأى البركة الظاهرة عاد فأكل منها؛ لتحصل له. وقال كالمعتذر عن يمينة التي حلف: إنما ذلك من الشيطان. والحاصل أن الله أكرم أبا بكر فأزال ما حصل له من الحزن فأعاده سروراً وانقلب الشيطان مدحوراً، واستعمل الصديق مكارم الأخلاق فحنث نفسه زيادة في إكرام ضيفانه، ليحصل مقصوده من أكله ولكونه أكثر قدرة منهم على الكفارة. ووقع في رواية عند مسلم فقال: "أبو بكر: يا رسول الله بروا وحنثت فقال: بل أنت أبرهم وخيرهم" قال الحافظ: ولم يبلغني كفارته، ولعل سبب عدم تكفيره ما تقدم من احتمال أنه أضمر وقتاً معيناً، أو صفة مخصوصة أي: الآن أو معكم، أو عند الغضب، أو بناء على أن اليمين هل يقبل التقليد بما في النفس أولا؟ اهـ ملخصاً. (وبعث بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر) أي: عبد الرحمن (أنه) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (أكل منها وفي رواية) هي للبخاري في أبواب الأدب من صحيحه قبيل الباب المذكور فيه اللفظ قبله (أن أبا بكر قال لعبد الرحمن) أي: ابنه وقد جاء الصديق بضيفه (دونك) أي: خذ (أضيافك) وتوجه للقيام بهم (فإني منطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فافرغ من قراهم) أن ضيافتهم بالطعام والإِكرام (قبل أن أجيء) أي: أرجع من عنده - صلى الله عليه وسلم - (فانطلق عبد الرحمن فأتاهم) بالقصر أي جاءهم (بما عنده) من قراهم (فقال اطعموا) بوصل الهمزة وفتح العين (فقالوا: أين رب) أي: صاحب (منزلنا) أي: الذي أنزلنا ضيوفاً، سكت عن الجواب اختصاراً وكأنه، والله أعلم قال: إنه غائب فأبوا الأكل (قال: اطعموا) أعاده توكيداً في الطلب (قالوا: ما نحن بآكلين) أكدوا باسمية الجملة وزيادة الباء في الخبر (حتى يجيء رب منزلنا) (قال اقبلوا عنا) وفي نسخة عني (قرأكم) أي: ما هيىء لضيافتكم فتناولوه، وإنما كرر عبد الرحمن ذلك؛ خشية أن يجيء أبوه قبل قضائهم أمرهم فيوهم أنه من تقصيره فيغتاظ عليه كما قال. (فإنه) أي: أبا بكر والشأن (إن جاء ولم تطعموا لنلقين) أي شيئاً

(7/314)


فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحمانِ، فَسَكَتُّ: ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمانِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ أقْسَمْتُ عَلَيْكَ إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوتِي لَمَا جِئْتَ! فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أضْيَافَكَ، فقالُوا: صَدَقَ، أتَانَا بِهِ، فَقَالَ: إنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي والله لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ الآخَرُونَ: واللهِ لا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ مَا لَكُمْ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ؟ هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَ بِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، الأولَى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. متفق عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عظيماً وذلك لما جبل عليه من مكارم الأخلاق، ومنه إكرام الضيف، فيتوهم إذا لم يتم أمرهم أن ذلك من القصور في الإِكرام. وجملة لنلقين جواب للقسم المقدر واستغني بجوابه عن جواب الشرط بعده (فأبوا فعرفت أنه يجد) يأتي ضبطه ومعناه (على) لما ذكر (فلما جاء تنحيت عنه) هو بمعنى قوله في الرواية قبل: فاختبأت، وذلك خوف خصامه وتغيظه عليه (فقال) مخاطباً لزوجه وأهله (ما صنعتم) أي: بالضيف (فأخبروه) (فقال: يا عبد الرحمن فسكت) بضمير المتكلم خشية مما يقع في أول سورة الغضب وحدته (ثم قال: يا عبد الرحمن فسكت فقال: يا غنثر أقسمت عليك) أي: بالله تعالى الذي لا يقسم بغيره فاكتفى بدلالة عليك عن الذكر (إن كنت تسمع صوتي لما جئت) جواب قسم المكتفي لتقدمه عن جواب الشرط (فخرجت فقلت: سل أضيافك) أي: هل وقع مني تقصير فالأمر عليه أم هم أبوا فلا لوم علي وقوله (فقالوا صدق) أي: فيما أومأ إليه كلامه من إتيانه بالقري وإبائنا منه (أتانا به) جملة مفسرة للمصدق المقدر (فقال: إنما انتظرتموني والله لا أطعمه الليلة فقال الآخرون) بفتح الخاء أي: الأضياف (والله لا نطعمه حتى تطعمه) الأول بالنون والثاني ْبالفوقية المفتوحتين (فقال) لم أر في الشر كالليلة كذا في البخاري وسقط من الشيخ (ويلكم) كلمة تقال على سبيل الدعاء على المدعو عليه (ما لكم لا تقبلون عنا قراكم) وفي البخاري ما أنتم لا تقبلون بضمير جماعة الذكور بدل ضمير لجمع المجرور باللام، وزيادة همزة قبل لا خطاباً لولده أو غيره (هات طعامك) بفتح الكاف أي: قدم ضبط في نسخة البخاري بكسر الكاف ويدفعه أن الأنسب حينئذ هاتي بياء المخاطبة وقوله (فجاء به فوضع) أي أبو بكر (يده فقال بسم الله) أي: آكل (الأولى) أي: الحالة التي نشأ عنها اليمين من سورة الغضب (من الشيطان) عليه أي: وسواسه (فأكل وأكلوا. متفق عليه) أي: أصل القصة وإلا فقد علمت أن الروايتين الأخيرتين للبخاري. قال الحافظ: وفي الحديث ما يقع من لطف الله بأوليائه، وذلك أن خاطر أبي بكر تشوش، وكذا ولده وأهله وضيفه، بسبب

(7/315)


قَوْله: "غُنْثَرُ" بغينٍ معجمةٍ مَضمُومَةٍ ثُمَّ نُونٍ ساكِنَةٍ ثُمَّ ثاءٍ مثلثةٍ وَهُوَ: الغَبِيُّ الجَاهِلُ. وقولُهُ: "فَجَدَّعَ" أَيْ شَتَمَهُ، والجَدْعُ القَطْعُ. قولُه "يَجِدُ عَليّ" هُوَ بكسرِ الجِيمِ: أيْ يَغْضَبُ (1) .
1502- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ كَانَ فيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإنْ يَكُ في أُمَّتِي أحدٌ فإنَّهُ عُمَرُ". رواه البخاريُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
امتناعهم من الأكل وتكدر خاطر أبي بكر من ذلك حتى احتاج إلى ما تقدم من الحرج، بالحلف والحنث ولغير ذلك، فتدارك الله ذلك ورفعه بالكرامة، التي أبداها فانقلب ذلك الكدر صفاء، والتكدر سروراً (قوله: غنثر بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة) سكت عن ضبطها، والمشهور فيها الفتح، وحكي ضمها. وحكي القاضي عياض عن بعض شيوخه فتح أوله وثالثه. وحكى الخطابي مثل اسم الشاعر (2) بفتح العين المهملة والتاء الفوقية وسكون النون بينهما (وهو الغبي) بفتح العين المعجمة وكسر الموحدة (الجاهل) وقيل: السفيه، وقيل: اللئيم، وقيل: هي الذباب وسمي به لصوته فشبهه به تحقيراً وتصعيراً له، وقيل: مأخوذ من الغين (3) ، والنون زائدة أي: الذباب الأزرق وشبهه به لما ذكر (وقوله فجدع) تقدم ضبطه وأنه بالدال المهملة (أي شتمه) ودعا عليه بالجدع. قال الحافظ: وقيل: المراد السب، والأول أصح (والجدع القطع) أي: من الأذن أو الأنف أو الشفة (وقوله: يجد عليّ هو بكسر الجيم أي يغضب) ومصدره موجدة.
1502- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد كان فيما) أي: الخلق الذين (قبلكم من الأمم محدثون) صفة محذوف اسم كان، واحد الظرفين حال، والثاني خبر، ومحدثون بفتح الدال جمع محدث، واختلف في تأويله فقال الأكثرون: هو الملهم. وقالوا: المحدث الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره، وبهذا جزم أبو أحمد العسكري. وقيل: من يجري
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: السمر مع الأهل وفي المناقب (6/436 و 442) و (10/434) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: إكرام الضيف وفضل إيثاره، (الحديث: 177) .
(2) أي "عنتر" ولكن اسم الشاعر "عنترة" بهاء التأنيث. ع
(3) كذا والصواب (الغنثرة) كما في القاموس. ع.

(7/316)


ورواه مسلم من رواية عائشة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصواب على لسانه من غير قصد. وقيل: مكلم بكلمة الملائكة بغير نبوة، وهذا ورد في حديث أبي سعيد مرفوعاً ولفظه "قيل: يا رسول الله كيف يحدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه". ورويناه في فوائد الجوهري وحكاه المقابسي وآخرون، ويمكن رده إلى المعنى الأول أي تكلمه في نفسه، وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام، وفسره ابن التين بالمتفرس، ووقع في مسند الحميدي عقب حديث عائشة: المحدث الملهم بالصواب الذي يقع على فيه. وعند مسلم من رواية ابن وهب: وهم ملهمون وهي الإِصابة بغير نبوة وفي رواية الترمذي عن بعض أصحاب ابن عيينة: محدثون يعني مفهمون. وفي رواية الإِسماعيلي قال إبراهيم يعني ابن سعد رواية قوله محدث أي: يلقى في روعه. اهـ ويؤيده حديث "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر. اهـ من فتح الباري ملخصاً (فان يك في أمتي أحد) وعند بعض رواة البخاري من أحد بزيادة من قبل لم يورد القول مورد التردد فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أنه وجد في غيرهم، فإن وجوده فيهم أولى، وإنما أورده مورد التأكيد، كقول القائل: إن كان لي صديق ففلان يريد اختصاص كمال الصداقة لا نفيها عن غيره. وقيل: بل على الترديد، وذلك لثبوت هذا المعنى في بني إسرائيل، وسبب احتياجهم حيث لا يكون حينئذ منهم نبي، فاحتمل عنده - صلى الله عليه وسلم - ألا تحتاج هذه الأمة لذلك لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد وقع الأمر كذلك حتى إن المحدث منهم إذا تحقق وجوده لا يحكم بما يقع له، بل لا بد من عرض ذلك على القرآن، فإن وافقه أو السنة عمل به وإلا فلا. واقتضت الحكمة وجودهم وكونهم بعد العصر الأول زيادة في شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيها، وقد تكون الحكمة في تكريمهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيهم، لكون نبيها خاتم الأنبياء، عوضوا بكثرة الملهمين (فإنه عمر) قال الطيبي: معنى الحديث لقد كان فيما قبلكم من الأمم أنبياء ملهمون، وإن يك في أمتي أحد شأنه أي الإِلهام فهو عمر، وكان جعله في انقطاع قرينه في ذلك هل نبىء أم لا؟ فلذلك أتى بلفظ إن، ويؤيده حديث "لو كان نبي بعدي لكان عمر" فلو فيه بمنزلة إن في الآخر على سبيل الفرض والتقدير. اهـ (رواه البخاري) أي: من حديث أبي هريرة (ورواه مسلم من رواية عائشة) قال الحافظ في الفتح نقلاً عن أبي مسعود صاحب الأطراف في الحديث: من طريق أبي سلمة فرواه أصحاب إبراهيم بن سعد عنه، عن أبيه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وخالفهم ابن وهب فرواه بهذا الإِسناد فقال: عن أبي سلمة عن أبي هريرة لا عن عائشة.

(7/317)


وفي روايتهما قَالَ ابن وهب: "محَدَّثُونَ" أيْ مُلْهَمُونَ (1) .
1503- وعن جابر بنِ سُمْرَةَ رضي الله عنهما، قَالَ: شَكَا أهْلُ الكُوفَةِ سَعْداً يعني: ابنَ أَبي وقاص - رضي الله عنه -، إِلَى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال محمد بن عجلان: فكأن أبا سلمة سمعه من عائشة، ومن أبي هريرة جميعاً. قلت: وله أصل من حديث عائشة أخرجه ابن سعد من طريق ابن أبي عتيق عنها (وفي روايتهما) أي: البخاري ومسلم، يكن قضية كلام الحافظ السابق أنه عند مسلم فقط (قال ابن وهب: محدثون أي ملهمون) تقدم بسطه. قال المصنف في بستان العارفين، وفي رواية "قد كان فيمن قبلكم من بنى إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء" الحديث رواه البخاري، وكان على المصنف أن يذكر ما فيه للختنين، فمن كرامة عثمان رضي الله عنه ما ذكره الحافظ ابن سيد الناس في كتاب المقامات العلية في الكرامات الجلية، فأخرج من طريق ابن سعد عن ابن عمر قال: "بينا عثمان يخطب إذ قام إليه جهجاه الغفاري فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبتيه، فدخلت منها شظية في ركبتيه فوقعت فيها الأكلة" قال ابن سعد: حديث عبد الله بن إدريس هذا لم أسمعه منه وهو عرض عليه. وأخرج أيضاً عن أنس بن مالك قال: " تناول النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأرض سبع حصيات فسبحن في يده، ثم ناولهن أبا بكر فسبحن في يده كما سبحن في يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ناولهن عمر فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر، ثم ناولهن عثمان فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر وعمر. ومن كرامات علي رضي الله عنه، أخرج الحافظ ابن سيد الناس في كتابه المذكور بسنده عن الحسن بن علي قال: قال لي علي: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح ظهري الليلة في منامي، فقلت: يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ قال: ادع عليهم، قلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني، فخرج فضربه الرجل ".
1503- (وعن جابر بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم السوائي (رضي الله عنهما قال: شكا أهل الكوفة سعداً) وقوله: (يعني ابن أبي وقاص رضي الله عنه) من الراوي عنه تعيين له لتعدد المسمين بذلك (إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعزله) إجابة لما طلبوه بالإِيماء
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة، باب مناقب عمر ومن كتاب الأنساء (7/40 و41) .
وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله تعالى عليه (الحديث: 23) .

(7/318)


واسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّاراً، فَشَكَوا حَتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إسْحَاقَ، إنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعَمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فَقَالَ: أَمَّا أنا واللهِ فَإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لا أُخْرِمُ عَنْها، أُصَلِّي صَلاَتَي العِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إسْحَاقَ، وأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً - أَوْ رِجَالاً - إِلَى الكُوفَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ أهْلَ الكُوفَةِ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِداً إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفاً، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِداً لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكَنَّى أَبَا سَعْدَةَ، فَقَالَ: أمَا إذْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والإشارة (واستعمل) أي: ولى عاملاً (عليهم عماراً) هو ابن ياسر وقوله (فشكوا) عطف على شكا أهل الكوفة كرره للإِطناب وليعطف عليه قوله: (حتى ذكروا) في شكواهم منه (أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه) أي: أبلغه قولهم كما عطف عليه عطف تفسير قوله: (فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون) عبّر به إيماءً إلى تكذيبه لهم فيما قالوا فيه باطناً ففيه إيماء إلى أن عزله ليس لتصديق ما قالوه فيه، وإنما هو ليفهم إجابة مطلوبهم (أنك لا تحسن تصلي) على تقدير أن، كما يدل عليه ذكرها فيما قبل، أوعلى تنزيل الفعل منزلة المصدر أي: لا تحسن الصلاة (فقال أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم، حرف فيه معنى الشرط والتفصيل والتأكيد (أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مثلها (لا أخرم) بفتح الهمزة وبالخاء المعجمة وكسر الراء، أنقص (عنها) وحذف المفعول؛ للتعميم (أصلي صلاتي العشاء) هكذا للجرجاني من رواة البخاري، وعند غيرهم من العشاء (فأركد) أي: أقوم طويلاً (في الأوليين) بضم الهمزة، وفتح اللام والتحتية الأولى (وأخفف) وفي نسخة من البخاري: وأخف، بالإِدغام من باب أخف، وعلى كل فالهمزة مضمومة والخاء مفتوحة في رواية الأصل مكسورة في الأخرى (في الأخريين) بضم الهمزة وفتح الراء، والتحتية الأولى (قال) أي: عمر (ذلك الظن بك يا أبا إسحاق) وذلك لأنه من قدماء الصحابة وكبارهم، وأحد العشرة المبشرة بالجنة (وأرسل معه رجلاً) هو محمد بن مسلم (أو رجالاً) شك من الرواة في المرسل معه أو أحد أم فوقه (إلى الكوفة يسأل عنه أهل الكوفة) أتي بالظاهر والمقام للضمير زيادة في الإِيضاح (فلم يدع مسجداً إلا سأل عنه) أي: أهله (ويثنون معروفاً) أي: خيراً (حتى دخل مسجداً لنبي عبسى) بفتح المهملة، وسكون الموحدة، وبالسين المهملة (فقام رجل منهم يقال له أسامة) بضم الهمزة (ابن قتادة يكنى أبا سعدة) بفتح المهملة الأولى وسكون الثانية (فقال أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (إذ) ظرف لمقدر، أي: ما جوابنا وقت

(7/319)


نَشَدْتَنَا فَإنَّ سَعْداً كَانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ وَلاَ يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ. قَالَ سَعْدٌ: أمَا وَاللهِ لأَدْعُونَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً، وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(نشدتنا) بفتح النون والشين المعجمة، أي: طلبت منا القول وجواب أما قوله (فإن سعداً كان لا يسير بالسرية) أي: معها وهو كناية عن وقت الحسن (1) ، أي: لا يخرج معها لذلك، وهي القطعة من الجيش (ولا يقسم بالسوية) أي: يؤثر بالعطاء من يشاء لغرض (ولا يعدل في القضية) أي: الحكومة (قال سعد أما) بتخفيف الميم (والله لأدعون بثلاث) أي: من الدعوات إنما دعا بها لأنه رماه بثلاث معايب فدعا عليه بعددها، وحذف المعدود لدلالة قوله أدعون عليه وبينها بقوله: (اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة) أي: ليراه الناس ويسمعوه فيشهروا ذلك عنه فيكون له بذلك ذكر (فأطل عمره) بضم أوليه، وتسكين الثاني تخفيفاً وذلك ليدوم تحسره وتعبه لقوله: (وأطلق فقره) فإن أصعب الفقر ما كان حال الكبر؟ لأنه وقت الضعف والعجز عن العمل فالفقر معه أشد، وجاء في رواية زيادة: وأكثر عياله (وعرضه) بتشديد الراء (للفتن) أي: اجعله عرضة لها أوأدخله في معرضها أي: أظهره بها. ففيه جواز الدعاء على الظالم بالفتنة في دينه. قال ابن المنير: وكان في النفس من ذلك شيء، وذلك أن الدعاء بمثله مستلزم وقوع المعاصي، حتى تأملت هذا الحديث فوجدته سائغاً. والسبب فيه أن وقوع المعاصي لم يطلب من حيث كونها معاصي، لكن من حيث ما فيها من نكاية الظالم وعقوبته، كما أبيح تمني الشهادة، وندب مع أن فيه تمني قتل الكافر المسلم وذلك معصية ووهن في الدين، وذلك لأن الغرض من تمني الشهادة؛ ثوابها لأنفسها ووجدت في دعوات الأنبياء كقول موسى (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) (2) . وقول نوح (ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً) (3) . قال ابن المنير في الدعوات الثلاث: مناسبة للحال، أما طول عمره فليراه من سمع بأمره، فيعلم كرامة سعد. وأما طول فقره فلنقيض مطلوبه، لأن حاله يشعر بأنه طلب أمراً دنيوياً. وأما تعرضه للفتن فلكونه قام فيها ورضيها دون أهل بلده. وقال غيره: لما نفى عن سعد الفضائل الثلاث الشجاعة التي هي كمال القوة العصبية حيث قال: لا يسير والعفة التي هي كمال القوة الشهوية، حيث قال: لا يقسم. والحكمة التي هي كمال القوة العقلية حيث قال: لا يعدل، وهذه الثلاثة متعلقة
__________
(1) كذا ولعله "شدة الجبن". ع.
(2) سورة يونس، الآية: 88.
(3) سورة نوح، الآية: 24.

(7/320)


لا أسْألُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ سعيد: اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كاذِبَةً، فَأعْمِ بَصَرَها، وَاقْتُلْهَا في أرْضِها، قَالَ: فَما ماتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَما هِيَ تَمْشِي في أرْضِهَا إذ وَقَعَتْ في حُفْرَةٍ فَماتَتْ. متفق عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ لِمُسْلِمٍ عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عُمَرَ بِمَعْنَاهُ، وأنه رآها عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الجُدُرَ تقولُ: أصابَتْنِي دَعْوَةُ سَعيدٍ، وأنَّها مَرَّتْ عَلَى بِئرٍ في الدَّارِ الَّتي خَاصَمَتْهُ فِيهَا، فَوَقَعَتْ فِيهَا، وكانتْ قَبْرَها (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الظلم، وفي الحديث أقوال أخر ذكرها في الفتح وغيره (فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا) أي فعلمك بذلك مع خوفك من الله ومعرفتك بالله، ومعرفتك بعذابه أقوى مانع من أخذ شيء من ذلك (فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة) أتى بإن مع تحققه كذبها لاحتمال صدقها في نفس الأمر بأن دخل بعض أرضها في أرضه غفلة، أو فعله بعض الخدم من غير علم به (فأعم) بقطع الهمزة (بصرها واقتلها في أرضها) أي: اجعل موتها بسببها أو ناشئاً عنها (قال) أي عروة (فما ماتت حتى ذهب بصرها) أي: القوة المودعة في العينين. جاء في رواية ذكرها الحافظ في الفتح عند ابن حبان: أن سعيداً ترك لها ما ادعت فيه. وفي رواية لغيره فجاء سيل فأبدا عن حفيرتها فإذا حقها خارج عن حق سعيد، فجاء سعيد إلى مروان فركب معه والناس حتى نظروا إليها (وبينما هي تمشي في أرضها) لسقي النخل والقيام بأمره (إذ وقعت في حفرة فماتت) فحقق الله كذبها بوجود ما سئل معلقاً عليه (متفق عليه وفي رواية لمسلم) في الصحيح أيضاً (عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر) قال في التقريب: هو ثقة من الثالثة أي: أواسط التابعين الحديث (بمعناه) أي: وإن اختلف بعض مبناه (وأنه رآها عمياء تلتمس الجدر) لتهتدي بها إلى مقصدها (تقول) جملة حالية من مفعول رأى أو مستأنفة (أصابتني دعوة سعيد) ففيه إجابة دعاء سعيد (وأنها مرت على بئر في الدار التي خاصمته فيها فوقعت فيها) فماتت (فكانت) أي: صارت (قبرها) أي: محله بأن دفنت فيه، وكان غور الماء منها بسببها، أو صارت سبب ولوجها قبرها، وفي الفتح في المثل يقولون إذا دعوا "كعمى الأروي". قال ابن الزبير: في روايته "كان أهل المدينة يقولون عماه الله تعالى
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين وأخرجه في كتاب: المظالم (6/211) .
وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة باب: تحريم الظلم وغضب الأرض وغيرها (الحديث: 137) .

(7/323)


عَيْناً، وأمَّرَ عَلَيْهَا عاصِمَ بنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِيَّ - رضي الله عنه -، فانْطلقوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بالهَدْأةِ؛ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ؛ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْل يُقالُ لَهُمْ: بَنُو لحيانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَريبٍ مِنْ مِئَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وأصْحَابُهُ، لَجَأُوا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَحاطَ بِهِمُ القَوْمُ، فَقَالُوا: انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأيْدِيكُمْ وَلَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ أنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أحَداً. فَقَالَ عَاصِمُ بنُ ثَابِتٍ: أَيُّهَا القَوْمُ، أَمَّا أنا، فَلاَ أنْزِلُ عَلَى ذِمَّةِ كَافِرٍ: اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَمُوهُمْ بِالنّبْلِ فَقَتلُوا عَاصِماً، وَنَزَلَ إلَيْهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الآخرين كانوا أتباعاً فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم. اهـ (وأمر) بتشديد الميم (عليهم عاصم بن ثابت) بمثلثة قبل الألف وموحدة ففوقية (الأنصاري رضي الله عنه) الأنسب عنهم (فانطلقوا حتى إذا كانوا) أي: صاروا (بالهداة) بوزن القضاة والدال مهملة، وقيل: إنه بسكون الدال وهمزة بعدها مفتوحة. وعند ابن إسحاق: الهدة بتشديد الدال بغير ألف محل (بين عسفان) بضم المهملة الأولى وسكون الثانية. سميت به لعسف السيول لها (ومكة) وهي على سبعة أميال من عسفان (وذكروا) بالبناء للمفعول (لحي) بفتح المهملة وتشديد الياء القبيلة من العرب وجمعه أحياء (من هذيل يقال لهم بنو لحيان) بكسر اللام. وقيل: بفتحها وسكون المهملة، هو ابن هذيل نفسه، وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وقيل: إن لحيان من بقايا جرهم، فدخلوا في هذيل فنسبوا إليهم (فنفروا) أي: اللحيانيون (لهم) أي: للرهط (بقريب من مائة رجل رام) بالنبل والأحجار وغيرهما مما يعتادون الرمي به في حروبهم (فاقتصوا) بتشديد الصاد المهملة أي: قصوا وتتبعوا (آثارهم) حتى وصلوا إليهم (فلما أحس) أي: شعر (بهم عاصم وأصحابه) باقي الرهط (لجئوا) قصدوا (إلى موضع) يكون ملجأ لهم من العدو لامتناعه (فأحاط بهم القوم) أي: من جميع جهات ذلك الموضع (فقالوا: انزلوا فأعطوا بأيديكم) الباء مزيدة؛ للتأكيد. وهو كناية عن الدخول في الطاعة (ولكم العهد والميثاق) عطف تفسير (ألا نقتل منكم أحداً) أي: على ترك قتل أحد منكم، والجملة حال من فاعل. أعطوا (فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم) بحذف حرف النداء، لأن المقام مقام الإيجاز والاقتصار (أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (أنا فلا أنزل على ذمة كافر) أي: مهما أكن عليه من الأحوال من السلامة، أو ضدها فلا أنزل على ذمة كافر أي: عقد كافر وعهده، وفي رواية عنه: لا أقبل اليوم عهداً من مشرك، لما فيه من تعظيم الكافر في الجملة والتذلل له (اللهم أخبر عنا نبيك محمداً - صلى الله عليه وسلم -) أي: بالوحي إليه وذلك ليدعوا لهم فتعلو رتبتهم عند الله على رتبة الشهادة الحاصلة إذا قتلوا حينئذٍ (فرموهم بالنبل) بفتح النون

(7/326)


ثَلاَثَةُ نَفَرٍ عَلَى العَهْدِ والمِيثاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ، وَزَيدُ بنُ الدَّثِنَةِ وَرَجُلٌ آخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أطْلَقُوا أوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبطُوهُمْ بِهَا. قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أوَّلُ الغَدْرِ واللهِ لا أصْحَبُكُمْ إنَّ لِي بِهؤُلاءِ أُسْوَةً، يُريدُ القَتْلَى، فَجَرُّوهُ وعَالَجُوهُ، فأبى أنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وانْطَلَقُوا بِخُبَيبٍ، وزَيْدِ بنِ الدَّثِنَةِ، حَتَّى بَاعُوهُما بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ؛ فابْتَاعَ بَنُو الحارِثِ بن عامِرِ بنِ نَوْفَلِ بنِ عبدِ مَنَافٍ خُبيباً، وكان خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَلِبثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أسيراً حَتَّى أجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، فاسْتَعَارَ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وسكون الموحدة، وهي السهام العربية اسم جمع لا واحد لها من لفظها، بل من معناها وهو سهم (فقتلوا عاصماً) حينئذٍ شهيداً (ونزل إليهم ثلاثة نفر) باقون من الرهط (على العهد والميثاق) الذي عاهدوهم عليه (منهم) خبر مقدم اهتماماً به (خبيب) بضم المعجمة، وفتح الموحدة الأولى وسكون التحتية، هو ابن عدي (وزيد بن الدثنة) تقدم ضبطه (ورجل آخر) بفتح الخاء. قال الحافظ في الفتح في رواية ابن إسحاق: فأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق فاستأسروا وعرف منه تسمية الرجل الثالث (فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار) جمع وتر بفتح الواو، والفوقية كسبب وأسباب (قسيّهم) بكسر القاف والسين المهملة وتشديد التحتية والأصل على فعول، ويجمع أيضاً على أقواس وقياس، وهو القياس ْكثوب وأثواب وثياب (فربطوهم فقال الرجل الثالث) أيهم في رواية الصحيح (هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة) بضم الهمزة وكسرها أي: قدوة (يريد) بالمشار إليهم بقوله هؤلاء (القتلى) بفتح فسكون جمع قتيل كجريح وجرحى (فجروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم) قال الحافظ: هذا يقتضي أن ذلك وقع منه أول ما أسروهم، لكن في رواية ابن إسحاق فخرجوا بالنفر الثلاثة حتى إذا كان بمر الظهران، وإلا فما في الصحيح أولى (فقتلوه وانطلق) بصيغة المجهول (بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة) جاء عند ابن إسحاق وابن سعد أن زيداً ابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه، وعند ابن سعد الذي تولى قتله بسطاس مولى صفوان (بعد وقعة بدر) لأن وقعتهم كانت أواخر سنة ثلاث، كما عند ابن إسحاق: وبدر في رمضان من السنة الثانية (فابتاع) أي: اشترى (بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيباً) بين ابن إسحاق أن الذي تولى شراءه هو جحش بن أبي إهاب التميمي. حليف بني نوفل، وكان (1) الحارث بن عامر. وفي رواية: أنهم شروه بأمة
__________
(1) قوله (وكان الحارث) لعل بينهما سقطاً فليتأمل. ع.

(7/327)


بَعْضِ بَنَاتِ الحَارثِ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأعَارَتْهُ، فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَجَدتهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخْذِهِ وَالموسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعَتْ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ. فَقَالَ: أَتَخَشَيْنَ أن أقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ! قالت: واللهِ مَا رَأيْتُ أسيراً خَيراً مِنْ خُبَيْبٍ، فواللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوماً يَأكُلُ قِطْفاً مِنْ عِنَبٍ في يَدِهِ وإنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سوداء، وفي رواية: باعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة. قال الحافظ: ويمكن الجمع (وكان خبيب هو قتل الحارث) يعني ابن عامر المذكور (يوم بدر) قال في الفتح: كذا وقع في هذا الحديث، واعتمد البخاري فعد خبيب بن عدي فيمن شهد بدراً. وهو اعتماد متجه وتعقبه الدمياطي بعدم ذكر المغازي خبيب بن عدي فيمن شهد بدراً، وأنه قتل عامراً بأنهم ذكروا أن قاتله ببدر خبيب ابن أساف، وهو خزرجي وخبيب بن عدي أوسي. اهـ ونظر فيه الحافظ بأنه يلزم منه رد الحديث الصحيح، ولو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث، ما كان لاعتنائه بنية شرائه معنى ولقتله المصرح به في الصحيح، لكن يحتمل أنهم قتلوه لكونه من الأنصار جرياً على عادة الجاهلية بقتل بعض القبيلة عن بعض. ويحتمل أن ابن عدي شارك ابن إساف في قتل الحارث (فلبث خبيب عندهم أسيراً) مدة الأشهر الحرم (حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها) واسمها زينب بنت الحارث، وهي أخت عتبة بن الحارث، الذي قتل خبيباً وقتل امرأته كما في الأطراف بحلف، وهذه الجملة مندرجة في القصة من غير طريق الأولى، نبه عليه الحافظ قال: وموسى يجوز فيه الصرف وعدمه، ويستحد أي يحلق عانته (فأعارته) أي: الموسى، وحذف اكتفاء بدلالة ما قبله عليه (فدرج بني) بالتصغير (لها وهي غافلة) بالغين المعجمة والفاء. ذكر الزبير بن بكار أن هذا الصبي هو أبو حسين المكي المحدث، وهو من أقران الزهري (حتى أتاه فوجدته مجلسه) بصيغة الفاعل (على فخذه) بفتح فكسر، ويجوز كسرهما وكسر الثالث، وفتح الأول مع سكون الثاني (والموسى بيده) جملة حالية من مفعول وجدت (ففزعت فزعة عرفها خبيب) لظهور أثرها وبدوه (فقال: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك) بكسر الكاف ذلك من مكارم أخلاقه، ومقابلة السيئة بالحسنة. والصفح عن المذنب وعدم مجازاته، والاكتفاء بقصاص الله له (قالت: والله ما رأيت) أي: أبصرت (أسيراً خيراً من خبيب) وبينت وجه ذلك بقولها على سبيل الاستئناف (فوالله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً) بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبالفاء أي عنقوداً (من عنب) جاء في رواية عن سارية مولاة جحش بن أبي إهاب "قالت: لقد اطلعت عليه يوماً وإن في يده لقطفاً من عنب مثل رأس الرجلين يأكل منها" (في يده وإنه لموثق بالحديد) أي: مشدود فيه (وما بمكة من ثمرة) بالمثلثة أتى بذلك

(7/328)


مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ خُبَيْباً. فَلَمَّا خَرَجُوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ في الحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ: واللهِ لَوْلاَ أنْ تَحْسَبُوا أنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ: اللَّهُمَّ أحْصِهِمْ عَدَداً، وَاقْتُلهُمْ بِدَدَاً، وَلاَ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَداً. وقال:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِيْنَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلَى أيِّ جَنْبٍ كَانَ للهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيداً لقوله عنها (وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً) فيه إثبات كرامة لخبيب وفي طي ذلك آية لإِثبات رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإقامة الحجة على الكفار، لأنه لم يصل لذلك إلا بالإيمان به - صلى الله عليه وسلم - واتباع هديه. والذي عليه الجمهور كما تقدم أول الباب أن كل ما جاز كونه معجزة لنبي جاز كونه كرامة لولي من غير استثناء، ومن يقع على يده الخوارق متمسكاً بالكتاب والسنة متنسكاً كان ذلك كرامة له. وإلا فتارة يكون معونة، وتارة يكون استدراجاً، وتارة يكون سحراً وكهانة (فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل) بين ابن إسحاق أنهم أخرجوه إلى التنعيم (قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين) هذه رواية جماهير البخاري بإثبات الياء، وللكشميهني بحذفها ووجهها ظاهر (فتركوه فركع ركعتين) عند موسى بن عقبة أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم (فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع) أي: من الموت كما في البخاري (لزدت) في رواية عنه: لزدت سجدتين أخريين (اللهم أحصهم) بقطع الهمزة (عدداً) تمييز محول عن المفعول به أي: احص عددهم (واقتلهم بدداً ولا تبق) بضم الفوقية (منهم أحداً) جاء في رواية فلم يحل الحول ومنهم أحد حي غير رجل كان استلبد بالأرض حال دعاء خبيب لئلا يصيبه معهم. وفي رواية أخرى فجاء يخبر عنه، فقال خبيب: "اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه". جاء في رواية أخرى: "فجاء جبريل فأخبره فأخبر أصحابه بذلك" وعند موسى بن عقبة فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك اليوم، وهو جالس: وعليك السلام، خبيب قتلته قريش (وقال: فلست أبالي) هذه رواية الكشميهني وللأكثر: ما إن أبالي. قال الحافظ: والأول أوزن، وهذا جائز، لكنه مخروم ويكمل بزيادة الفاء، وما نافية، وإن بكسر الهمزة وسكون النون نافية أيضاً للتوكيد (حين أقتل مسلماً، على أي جنب كان لله مصرعي) أي: موتي ومراده استواء كيفيات الموت عنده حال موته مسلماً شهيداً (وذلك في ذات الإِله) استدل به على جواز إطلاق الذات

(7/329)


وكان خُبَيبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْراً الصَّلاَةَ. وأخْبَرَ (يعني: النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) أصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بنِ ثَابتٍ حِيْنَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ أن يُؤْتَوا بِشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وكَانَ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمائِهِمْ، فَبَعَثَ الله لِعَاصِمٍ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِروا أنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الله تعالى (وإن يشأ يبارك على أوصال) جمع وصل وهو العضو (شلو) بكسر المعجمة وسكون اللام الجسد وقد يطلق على العضو والمراد هنا الأول (ممزع) بالزاي ثم المهملة أي: مقطع والمعنى أعضاء جسد يقطع. وعند أبي الأسود عن عروة زيادة في هذا الشعر:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وفيه
إلى الله أشكو غربتي بعد قربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
وساقها ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتاً. قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها لخبيب.
وفي البخاري: فقام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وحذفه المصنف لعدم تعلقه بغرض الترجمة (وكان خبيب هو سن) في البخاري في رواية أول من سن (لكل مسلم قتل صبراً) قال في الصحاح: كل ذي روح يوثق حتى يقتل فقد قتل صبراً (الصلاة) ويؤخذ استحباب ذلك من إقرار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (وأخبر يعني - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم أصيبوا خبرهم) ففيه معجزة له بإطلاعه على ما هو مغيب عنه بعيد منه، بالوحي إليه وإعلامه به (وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا) بصيغة المجهول (أنه قتل) بفتح الهمزة وبناء الفعل للمجهول، وهو ساد مسد المفعولين الثاني والثالث (أن يؤتوا بشيء منه) على تقدير اللام أو مضاف مفعول له أي: ليؤتوا أو إرادة أن يؤتوا، وهو بصيغة المجهول وكذا قوله: (يعرف وكان عاصم قتل رجلاً من عظمائهم) قال الحافظ: لعله عقبة بن أبي معيط فإن عاصماً قتله صبراً بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن انصرفوا من بدر، ووقع عند ابن إسحاق: أن عاصماً لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه، ليبيعوه من سلاقة بنت سعيد بن نهشل، وهي أم شافع وجداس أبي طلحة العبدري، وكان عاصم قتلها يوم أحد، فمنعته الدبر فإنه كان محفوظاً، احتمل أن تكون قريش لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الدبر له فيتمكنون من أخذه (فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر) بضم المعجمة السحابة، والدبر بفتح الدال المهملة وسكون الموحدة الزنابير. وقيل: ذكور النحل لا واحد له من لفظه، وسيأتي اقتصار المصنف على هذا غير مقيد بالذكر (فحمته) بتخفيف الميم أي: منعته (من رسلهم) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً

(7/330)


شَيْئاً. رواه البخاري (1) .
قولُهُ: "الهَدْأَةُ": مَوْضِعٌ، "والظُّلَّةُ": السَّحَابُ. "والدَّبْرُ": النَّحْلُ. وَقَوْلُهُ: "اقْتُلْهُمْ بِدَداً" بِكَسْرِ الباءِ وفتحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ قَالَ هُوَ جمع بِدَّةٍ بكسر الباء وهي النصيب ومعناه: اقْتُلْهُمْ حِصَصاً مُنْقَسِمَةً لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمْ نَصيبٌ، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ معناهُ: مُتَفَرِّقِينَ في القَتْلِ واحداً بَعْدَ واحِدٍ مِنَ التَّبْدِيد.
وفي الباب أحاديث كثيرةٌ صَحيحةٌ سَبَقَتْ في مَوَاضِعِها مِنْ هَذَا الكِتَابِ، مِنْهَا حديثُ الغُلامِ الَّذِي كَانَ يأتِي الرَّاهِبَ والسَّاحِرَ، ومنْها حَدِيثُ جُرَيْج، وحديثُ أصْحابِ الغَارِ الذين أطْبِقَتْ عَلَيْهِم الصَّخْرَةُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فلم يقدروا) بكسر الدال (أن يقطعوا منه شيئاً) وفي رواية أبي الأسود "فبعث الله عليهم الدبر تطير في وجوههم وتلدغهم فحالت بينهم وبين أن يقطعوا". وفي رواية ابن إسحاق: وكان عاصم أعطى الله عهداً ألا يمس مشرك أبداً، ولا يمسه مشركاً، وكان عمر يقول لما بلغه خبره: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته. وإنما استجاب الله في حماية لحمه منهم دون منعهم من قتله، لما في القتل من الشهادة والكرامة، وفي قطع اللحم من هتك الحرمة والمثلة (رواه البخاري) في أماكن المغازي (قوله: الهداة) تقدم ضبطها (موضع) بين مكة وعسفان (والظلة السحاب والدبر النحل) تقدم (وقوله: اقتلهم بدداً بكسر الباء وفتحها) والدال مفتوحة فيها (فمن كسر قال: هو جمع بدة بكسر الباء) الموحدة وتشديد الدال (وهي النصيب) فيكون نظير قربة وقرب (ومعناه اقتلهم حصصاً منقسمة لكل منهم نصيب) منه (ومن فتح قال: معناه متفرقين في القتل واحداً بعد واحد) فيكون مصدر بددت الشيء أبده، من باب قتل إذا فرقه. قال في المصباح: والتثقيل مبالغة وتكثير. اهـ وعليه فيكون بدداً اسم مصدر (من التبديد. وفي الباب) أي: الكرامات (أحاديث كثيرة) تأكيد للكثرة المدلول عليها بصيغة جمع الكثرة، ودفعاً لتوهم أنه تجوز به عن جمع القلة، كما في قوله تعالى: (ثلاثة قروء) (2) (صحيحه سبقت في مواضعها من هذا الكتاب منها حديث الغلام الذي كان يأتي الراهب والساحر) تقدم في باب الصبر (ومنها حديث جريج) تقدم في باب الإِخلاص (ومنها حديث أصحاب الغار الذين أطبقت عليهم الصخرة) تقدم في باب
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع كتاب الجهاد، باب هل يستأثر الرجل (7/240، 291، 295)
(2) سورة البقرة، الآية: 228.

(7/331)


دليل الفالحين
لطرق رياض الصالحين
تأليف العالم العلَّامة المفسِّر محمد بن علّان الصِدّيقي الشافعي
الاشعري المكي المتوفي سنة 1057 هـ
طبعة جديدة مصحّحة
مرقمة مخرّجة الآيات والأحاديث
اعتنى بها
الشيخ خليل مأمون شيحا
الجزء الثامن

(7/337)