دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين

16- كتَاب الأمُور المَنهي عَنْهَا
254- باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (وَلاَ يَغْتَبْ بَعضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) .
وقال تَعَالَى (2) : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الأمور
بضم أوليه جمع أمر بمعنى الحال أما الأمر بمعنى الطلب فجمعه أوامر (المنهي عنها) تحريماً أو تنزيهاً بالمعنى الشامل لخلاف الأولى. (باب تحريم الغيبة) بكسر المعجمة وسكون التحتية (والأمر بحفظ اللسان) أي: عن كل منهي عنه من الكلام ومنه المباح الذي لا يعني. (قال الله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضاً) والغيبة ذكرك أخاك بما يكره، مع أنه فيه فإن لم يكن فيه فبهتان (أيحب أحدكم أن جمل لحم أخيه) تمثيل لما ينال من عرض أخيه على أفحش وجه (ميتاً) حال من اللحم والأخ (فكرهتموه) الفاء فصيحة أي إن عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، فهو تقرير وتحقيق للأول (واتقوا الله إن الله تواب) بليغ في قبول التوبة (رحيم) بالغ الرحمة. وقال تعالى: (ولا تقف) أي: تتبع (ما ليس لك به علم) ما لم يتعلق به علمك من قول وفعل، فيدخل فيه شهادة الزور والكذب والبهتان (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك) أي: السمع والبصر والفؤاد، وأولئك تجيء لغير العقلاء (كان عنه مسؤولاً) من جوز تقديم مفعول ما لم يسم فاعله: لأنه في المعنى مفعول سيما
__________
(1) سورة الحجرات، الآية: 12.
(2) سورة الإسراء، الآية: 36.

(8/339)


وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ" متفق عَلَيْهِ (1) .
1512- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا إِلَى النَّارِ أبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ" متفق عَلَيْهِ.
ومعنى: "يَتَبَيَّنُ" يُفَكِّرُ أنَّها خَيْرٌ أم لا (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأبرزه في سورة التمثيل: ليكون التأكيد فيه بليغاً. وما بين لحييه هو اللسان فلا يتكلم إلا فيما أمر به، ويسكت في غيره (وما بين رجليه) أي: فرجه فلا يأتي به حراماً (أضمن) بالرفع على الاستئناف، وبالجزم جواب الشرط المقدر: لكونه في جواب الطلب، وقصد به الجزاء (له الجنة متفق عليه) في الجامع الصغير رمز البخاري فقط، وكذا صنع في الجامع الكبير وزاد فيه رمزاً للبيهقي في الشعب، فلعل الحديث عند مسلم كما قاله المصنف لا من حديث سهل أو لا بخصوص هذا اللفظ.
ّ1512- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إن العبد) أي: الإِنسان المكلف حراً كان أو غيره (ليتكلم بالكلمة) ينبغي أن يراد بها كل من معنييها اللغويين أي: القول المفرد والجملة المفيدة، من استعمال المشترك في معنييه جملة، وهو جائز عند إمامنا الشافعي في آخرين، ثم رأيت العلقمي، أشار لذلك، بقوله أي: الكلام المشتمل على ما يفهم الخير والشر، سواء طال أو قصر، كما يقال كلمة الشهادة، ويقال للقصيدة كلمة (ما يتبين فيها) جملة مستأنفة أو حالية من ضمير يتكلم، وفي محل الصفة فالكلمة: لكون أل فيها جنسية (يزل) بكسر الزاي وتشديد اللام (بها) أي: بسببها (إلى النار) أي: إلى جهتها ويقرب منها (أبعد مما بين المشرق والمغرب) والجملة مضارعية مستأنفة، بيان لموجب تلك الكلمة، ومقتضاها كان قائلاً، قال ماذا يناله بها، فقيل يزل بها وأبعد، صفة مصدر محذوف أي: زللاً بعيد المبدأ أو المنتهى جزاء (متفق عليه) ورواه أحمد (ومعنى يتبين) مضارع من التبين (يفكر أنها) أي: الكلمة (خير أم لا) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (1/264، 265) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (11/265، 266) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: التكلم بالكلمة يهوى بها في النار (وفي نسخة، باب: حفظ اللسان، (الحديث: 49 و50) .

(8/342)


1513- وعنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله تَعَالَى مَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلَمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا في جَهَنَّمَ". رواه البخاري (1) .
1514- وعن أَبي عبد الرحمان بِلالِ بن الحارِثِ المُزَنِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1513- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى) بكسر الراء وضمها، ومن فيه: بيانية حال من الكلمة، وكذا قوله (ما يلقي لها بالاً) بالموحدة أي: لا يسمع إليها ولا يجعل قلبه نحوها (يرفعه الله بها درجات) جملة مستأنفة، بيان للموجب، كما تقدم نظيره، وفي نصبه أوجه أحدها أنه منصوب على الظرف، ومفعول الفعل محذوف، أي: يرفعه الله فيها، والثاني أنها تمييز محول عن المفعول المحذوف، والأصل يرفع الله درجاته، فحذف المضاف، ووقع الفعل على المضاف إليه المدلول عليه بالسياق، فحصل إجمال في النسبة فرفع بالإتيان به تمييزاً. والثالث أنها على نزع الخافض، أي: إلى درجات. كذا لخص من شرح الشاطبية، للشهاب الحلبي المعروف الشهير، ومن خطه نقلت، وهو ذكر ذلك في قوله تعالى: (نرفع درجات من نشاء) (2) (وإن العبد لا يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بألا يهوي) بكسر الواو أي: ينزل (بها في) دركات (جهنم) وفي الجملة الأولى الوعد على التكلم بالخير، من أمر بمعروف أو نهي عن منكر وفي الثانية الوعيد على ضده (رواه البخاري) ورواه أحمد.
1514- (وعن أبي عبد الرحمن بلال) بكسر الموحدة (ابن الحارث) بن عاصم بن سعد بن قرة بن خلاوة، بفتح المعجمة ابن ثعلبة بن ثور بن هدية، بضم الهاء وإسكان الذال المعجمة ابن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار (المزني رضي الله عنه) قال المصنف: ووفد عثمان، قيل لهم مزنيون نسبوا إلى أمه وبلال مزني وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد مزينة سنة خمس من الهجرة، وأقطعه - صلى الله عليه وسلم - المعادن القبلية، بفتح القاف والموحدة، وكان يحمل لواء مزينة يوم فتح مكة، ثم سكن البصرة، وتوفي بها سنة ستين، وهو ابن ثمانين سنة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث اهـ. من التهذيب للمصنف
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (11/266، 267) .
(2) سورة الأنعام، الآية: 83.

(8/343)


وإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ القَلْبُ القَاسِي". رواه الترمذيُّ (1) .
1517- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
1518- وعن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللهِ مَا النَّجَاةُ؟
قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ". رواه الترمذيُّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي تنوين الخير إيماء إلى غلظها وعظمها (وإن أبعد الناس من الله تعالى) أي: من فيضه ورحمته (القلب القاسي) فإنه لقساوته لا يأتمر بخير ولا ينزجر عن شر، فيبعد عن وصف المفلحين، وينتظم في زمرة الأشقياء المبعدين (رواه الترمذي) قال في الجامع الكبير وقال الترمذي غريب. ورواه ابن شاهين في الترغيب في الذكر، ورواه البيهقي في الشعب من حديث ابن عامر.
1517- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وقاه الله شر ما بين لحييه) أي: لسانه بأن حبسه عن الشر وأجراه في الخير (وشر ما بين رجليه) أي: فرجه حفظه عن الحرام (دخل الجنة) أي: مع الفائزين أي: إن لم يأت بكبائر ولم يتب عنها، وإلا فأمره إلى الله. وظاهر أن الكلام في المؤمنين، فالعام مراد به خاص، أو يقال هو على عمومه، ولا وقاية من شرهما لغيره (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح) قال في الجامع الصغير ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه.
1518- (وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما النجاة) أي: ما سببها المحصل لها (قال أمسك عليك لسانك) أي: لا تجره إلا بما يكون لك لا عليك، وكان الظاهر أن يقال حفظ اللسان، فأخرجه على سبيل الأمر المقتضي للتحقيق مزيداً للتقرير.
وقيل الحديث من أسلوب الحكيم، فإن السؤال عن حقيقة النجاة، والجواب بسببها: لأنه أهم (وليسعك بيتك) الأمر للبيت، وفي الحقيقة لصاحبه: أي اشتغل بما هو سبب لزومه، وهو طاعة الله تعالى والاعتزال عن الأغيار (وابك على خطيئتك) ضمن إبك معنى الندامة،
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، [باب: 61] ، (الحديث: 2411) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (الحديث: 2409) .

(8/346)


وقال: "حديث حسن" (1) .
1519- وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّهَا تَكْفُرُ اللِّسانَ، تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإنَّما نَحنُ بِكَ؛ فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا". رواه الترمذي.
معنى: "تَكْفُرُ اللِّسَانَ": أيْ تَذِلُّ وَتَخْضَعُ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فعداه بعلى أي: اندم على خطيئتك باكياً (رواه الترمذي وقال حديث حسن) .
1519- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أصبح ابن آدم) أي: دخل في الصباح (فإن الأعضاء كلها) جمع عضو بضم أوله وكسره، كل لحم وافر بعظمه، قاله في القاموس. ويطلق على القطعة من الشيء والجزء منه أي: كما في المصباح، والظاهر أن هذا مراد هنا (تكفر اللسان) بينه بمَوله (تقول اتق الله فينا) فالجملة بدل مما قبلها أو بيان له (فإنما نحن بك) أي: مجازون بما يصدر عنك، والحصر إضافي.
(فإن استقمت استقمنا) القوام بالفتح العدل والاعتدال، أي: إن اعتدلت اعتدلنا (وإن اعوججت اعوججنا) العوج بفتحتين، في الأجساد، خلاف الاعتدال وهو مصدر من باب تعب يقال عوج العود فهو أعوج والعوج بكسر ففتح في المعاني، يقال في الدين عوج وفي الأمر عوج. قال أبو زيد في الفرق وكل ما رأيته بعينك فهو مفتوح، وما لم تره بعينك فمكسور اهـ. من المصباح واستشكل الطيبي الجمع بين هذا الحديث، وحديث: "إن في الجسد مضغة" ثم أجاب بما حاصله أن اللسان خليفة القلب وترجمانه، وأن الإِنسان عبارة عن القلب واللسان، والمرء بأصغريه. لسان الفتى نصف ونصف فؤاده. (رواه الترمذي) وابن خزيمة والبيهقي في الشعب (معنى تكفر) بضم الفوقية وتشديد الفاء (أي تذل وتخشع) والتكفير هو انحناء قريب من الركوع، كذا في النهاية، ونقله الطيبي وسكت عليه. قال بعض، شراح الجامع الصغير: ولا مانع أن يكون التكفير هنا، كناية عن تنزيل الأعضاء اللسان، إذا أخطأ منزلة الكافر النعم، أو الخارج من الإِسلام إلى الكفر مبالغة، فهي تكفره بهذا الاعتبار وبلسان الحال، ولا ينافي هذا قوله تقول الخ وكأنه الحامل لصاحب النهاية لما جنح له، فإنه لولا توهمه المنافاة، ما اقتصر على ما ذكره. وقد علم مما قررته (3) بل هو أبعد عن التأويل،
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (الحديث: 2406) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (الحديث: 2407، 2409) .
(3) كذا، ولعل الأصل "وقد علم صحة ما قررته". ع.

(8/347)


1521- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ " قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أخَاكَ بِما يَكْرَهُ" قِيلَ: أفَرَأيْتَ إنْ كَانَ في أخِي مَا أقُولُ؟ قَالَ: "إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فقد اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ" رواه مسلم (1) .
1522- وعن أَبي بَكْرة - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى في حَجَّةِ الوَدَاعِ: "إنَّ دِماءكُمْ، وَأمْوَالَكُمْ، وأعْرَاضَكُمْ، حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كذا في نسخة، وفي أخرى بزيادة (قبل هذا) وهو باب (2) .
1521- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتدرون ما الغيبة) أي: ما حقيقتها الشرعية (قالوا الله ورسوله أعلم) ردوا العلم إليهما، عملاً بالأدب، ووقوفاً عند حد العلم (قال ذكرك) خبر محذوف دل عليه ذكره في السؤال أي: هي ذكرك (أخاك بما يكره) أي: بمكروه، أو بالذي يكرهه، وبين المعنيين تفاوت لا يخفى (قيل أفرأيت) أي: أخبرني (إن كان في أخي ما أقول) حذف الجواب أي: فهو غيبة، كما يومىء إليه تعريفها السابق، فإنه يشمل ما كان فيه وما لا (قال إن كان فيه ما تقول) الظرف خبر مقدم لكان، وما اسمها، وعائدها محذوف إن قدرت موصولاً أو موصوفاً، فإن قدرت مصدرية فالاسم، المصدر المنسبك منها مع صلتها (فقد اغتبته) لصدق الحد السابق لها على ذلك (وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) بفتح أوليه أي: افتريت عليه الكذب. وأفادت هذه الجملة، اعتبار قيد، كون المكروه الذي ذكرته قائماً به (رواه مسلم) .
1522- (وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر بمنى) هي من خطب الحج المسنونة عند إمامنا الشافعي وأصحابه، قال ابن حجر الهيتمي وقد تركت، من منذ ثلثمائة عام اهـ. قلت وقد يسر الله إحياءها، في هذه الأزمنة، يباشرها الفقراء احتساباً لله تعالى بفضل الله تعالى عليه والإِنابة (في حجة الوداع) بفتح الواو وكسرها، كما تقدم وجههما (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم) أي: يحرم التعرض لدم مسلم أو ماله أو عرضه، بما لم يأذن به الشارع، حرمة شديدة (كحرمة يومكم هذا) أي: يوم
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الغيبة، (الحديث: 70) .
(2) لم يذكر الباب الذي قدم فيه الشرح ولم نقف عليه. ع.

(8/350)


وَقُبْحِهَا. وهذا الحَديثُ مِنْ أبلَغِ الزَّواجِرِ عَنِ الغِيبَةِ (1) قَالَ الله تَعَالَى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (2) .
1524- وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرْتُ بِقَومٍ لَهُمْ أظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ: مَنْ هؤُلاءِ يَا جِبرِيلُ؟ قَالَ: هؤُلاءِ الَّذِينَ يَأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ في أعْرَاضِهِمْ! "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النون، والفوقية مصدر نتن من باب تعب (وقبحها) وهذا على الرواية المذكورة في الحديث. قال العاقولي: وفي المصابيح لو مزج بها البحر لمزجته. وكذا هو في نسخ أبي داود، وكان حق اللفظ لو مزجت بالبحر لكن المزج يستدعي الامتزاج، فكل من الممتزجين يمتزج بالآخر، ومثله فاختلط به نبات الأرض، كان من حق اللفظ فاختلط بنبات الأرض.
ووجه مجيئه فيما قال صاحب الكشاف: أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما، بصفة صاحبه على أن هذا التركيب، أبلغ: لأنه حينئذ من باب عرض الناقة على الحوض اهـ.
وفي كون القلب مطلقاً أبلغ نظر: الذي رجحه الخطيب، أنه إن تضمن سلاسة كان مقبولاً، وإلا فيرد فضلاً عن كونه أبلغ (وهذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة) والمنع منها لشدة قبحها، فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات، فما بالك بغيبة أقوى منها. (قال الله تعالى) في حق نبيه - صلى الله عليه وسلم - (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (3) .
1524- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما عرج) بالبناء للمفعول، نائب فاعله قوله (بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس) بضم النون (يخمشون) بسكون المعجمة وكسر الميم (بها وجوههم وصدورهم) أي: يجرحونها، والجملة الفعلية محتملة للحالية، والوصفية، والاستناف. (فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الغيبة، (الحديث: 4875) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة، [باب: 51] ، (الحديث: 2502 و 2503) .
(2) سورة النجم، الآيتان: 3، 4.
(3) سورة النجم، الآيتان: 3، 4.

(8/352)


رواه أَبُو داود (1) .
1525- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ" رواه مسلم (2) .
255- باب: في تحريم سماع الغيبة وأمر من سمع غيبةً محرمةً بردها والإِنكار علي قائلها، فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باغتيابهم فيه استعارة تصريحية تبعية، شبهت الغيبة بأكل اللحم بجامع التلذذ بكل، فاستعير أكل اللحم للغيبة، ثم سرت منه للفعل، وعطف عليه على وجه التفسير قوله: (ويقعون في أعراضهم) وفي هذه استعارة مكنية، شبهت أعراض الناس المعبر عنها، على وجه الاستعارة باللحوم بشفا جرف هار. فالتشبيه المضمر في النفس، استعارة مكنية، وإثبات الوقوع استعارة تحييلية "فائدة" روى الإمام أحمد أنه قيل يا رسول الله إن فلانة وفلانة صائمتان وقد بلغتا الجهد، فقال أدعهما فقال لإِحداهما قيئي، فقاءت لحماً ودماً غبيطاً وقيحاً، والأخرى مثل ذلك، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - صامتاً عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، أتت إحداهما الأخرى، فلم يزالا يأكلان لحوم الناس، حتى امتلأت أجوافهما قيحاً. وهذا الحديث شاهد لإجراء صدر الحديث على ظاهره وحقيقته (رواه أبو داود) .
1525- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل المسلم على المسلم حرام) أي: محرم (دمه وعرضه وماله) بالجر بدل من المسلم المضاف، بدل اشتمال. والعرض بالكسر قال في المصباح: النفس والحسب اهـ وظاهر، أن المراد هنا الثاني، فتقدم الأول في قوله دمه. (رواه مسلم) .
باب تحريم سماع الغيبة
ومثلها سائر المحرمات القولية، من نميمة وقذف وكلام كذب (وأمر من سمع غيبة محرمة بردها) أي: بالإِبطال (والإِنكار على قائلها) ليرتدع عنه، وهذا لمن قدر عليه (فإن عجز عنه) لضعف مثلاً (أو) أنكر ولكن (لم يقبل منه) لقوة العناد وداعية الفساد (فارق ذلك المجلس) أي: المشتمل على ما ذكر (إن أمكنه) بأن أمن نفساً ومالاً محترمين، وسائر ما
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الغيبة، (الحديث: 4878) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، (الحديث: 32) .

(8/353)


قال الله تعالى (1) : (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (والَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (3) : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) .
وَقَالَ تَعَالَى (4) : (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَومِ الظَّالِمِينَ) .
1526- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أخيهِ، رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَومَ القيَامَةِ". رواه الترمذي، وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعتبر الخوف عليه شرعاً. (قال الله تعالى: وإذا سمعوا اللغو) أي: القبيح من القول (أعرضوا عنه) تكرماً وتنزهاً. (وقال تعالى: والذين هم عن اللغو) أي: كل ما لا يعنيهم من قول وفعل (معرضون) . (وقال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) تقدم ما يتعلق بها في الباب قبله (وقال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) أي: بالطعن والاستهزاء (فأعرض عنهم) بترك مجالستهم (حتى يخوضوا في حديث غيره) الضمير للآيات باعتبار القرآن (وإما ينسينك الشيطان) النهي عن مجالستهم لوسواسه (فلا تقعد بعد الذكرى) أي: بعد أن تذكر (مع القوم الظالمين) أي: منهم فإنهم ظلمة، بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم.
1526- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من رد عن عرض أخيه) أي: في الإيمان وهو المسلم، أي: بأن يمنع من يريد اغتياب المؤمن عنها، إما قبل الوقوع بالزجر والردع عنها، وإما بعده لرد ما قاله عليه. وإن كان ذلك الإِنسان بخلافه كما يأتي فيما بعد (رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) وذلك: لأنه رد مريد الغيبة عن عذابها لو فعلها، فجوزي بردها عنه في الآخرة ورد عن المغتاب ما يلقاه مما رمى به ممن اغتابه، فردها الله
__________
(1) سورة القصص، الآية: 55.
(2) سورة المؤمنون، الآية: 3.
(3) سورة الإِسراء، الآية: 36.
(4) سورة الأنعام، الآية: 68.

(8/354)


حَدِيث حَسَنٌ (1) .
1527- وعن عِتبَانَ بنِ مَالكٍ - رضي الله عنه -، في حديثه الطويل المشهور الَّذِي تقدَّمَ في بابِ الرَّجاء قَالَ: قام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَقَالَ: "أيْنَ مالِكُ بنُ الدُّخْشُمِ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللهَ ولا رَسُولهُ، فَقَالَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَقُلْ ذَلِكَ ألاَ تَراهُ قَدْ قَالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللهُ يُريدُ بِذَلكَ وَجْهَ اللهِ! وإنَّ الله قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنه (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه البيهقي في السنن من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أيضاً بلفظ من رد عن عرض أخيه، كان له حجاباً من النار. وفي الجامع الكبير للسيوطي بعد إيراده باللفظ الذي أورده المصنف رواه أحمد وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة.
وباللفظ الثاني رواه عبد بن حميد بن زنجويه والروياني والخرائطي في مكارم الأخلاق والطبراني وابن النجار في عمل يوم وليلة، ورواه الطبراني والخرائطي من حديث أبي الدرداء بلفظ: "من رد عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار" وفي رواية: "كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة" ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة من حديث أم الدرداء بلفظ: "من رد عن عرض أخيه كان حقاً على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة". ورواه ابن أبي الدنيا، من حديث أسماء بنت يزيد بلفظ: "من رد عن عرض أخيه بالغيبة، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار" اهـ.
1527- (وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل المشهور) أي: بين الناس، وليس مراده المشهور اصطلاحاً ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه (الذي تقدم في باب الرجاء) بجملته (قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فقال) أي: للحاضرين حينئذ (أين مالك بن الدخشم فقال رجل ذلك) أتي به إيماء إلى تحقيره وإبعاده عن ذلك المجلس السامي، كما أخبر عنه بقوله (رجل) توطئة لقوله (منافق) وقوله: (لا يحب الله ولا رسوله) صفة بعد صفة، أو حال، أو استئناف (فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تقل ذلك) نهي تحريم. وجاء باسم الاشارة المذكور إيماء إلى فخامة ما أتي به وعظمه في الإِثم (ألا تراه) بفتح الفوقية أي: تبصره حال كونه (قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه) أي: ذات (الله) جملة حالية من فاعل، قال ولعل القائل ما تقدم في مالك المخاطب بذلك كان من أكمل الصحابة أرباب القلوب، وصدر منه ما صدر من فلتات اللسان، فإن إرادة وجه الله بالشهادة، لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله على بعض المغيبات، وكشف له عما في القلوب، (وإن الله) بكسر الهمزة والواو للاستئناف (قد حرم على النار)
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الذب عن عرض المسلم، (الحديث: 1931) .

(8/355)


مَنْ قَالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللهُ يَبْتَغي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ". متفق عَلَيْهِ.
"وَعِتْبان" بكسر العين عَلَى المشهور وحُكِيَ ضَمُّها وبعدها تاءٌ مثناة مِن فوق ثُمَّ باءٌ موحدة. و "الدُّخْشُم" بضم الدال وإسكان الخاء وضم الشين المعجمتين (1) .
1528- وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - في حديثه الطويل في قصةِ تَوْبَتِهِ وَقَدْ سبق في باب التَّوبةِ. قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جالِسٌ في القَومِ بِتَبُوكَ: "مَا فَعَلَ كَعبُ بن مالكٍ؟ " فَقَالَ رَجلٌ مِنْ بَنِي سَلمَةَ: يَا رسولَ الله، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعاذُ بنُ جبلٍ - رضي الله عنه -: بِئْسَ مَا قُلْتَ، والله يَا رسولَ الله مَا علمنا عَلَيْهِ إِلاَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: المعدة لعذاب الكفار أو على سبيل الخلود المؤبد، فلا ينافي ما ثبت من تعذيب بعض عصاة المؤمنين بها (من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) فيه تنبيه على أن العمل الصالح، لا ينفع منه إلا ما أريد به وجه الله تعالى، وأداء عبوديته، والتقرب به إليه (متفق عليه. وعتبان بكسر العين) أي: المهملة (على المشهور) ومقابله ما حكاه بقوله (وحكي ضمها وبعدها تاء مثناة من فوق) بالضم لقطعه عن الإِضافة لفظاً، والتاء ساكنة (ثم باء موحدة والدخشم بضم الدال) أي: المهملة واستغنى عنه المصنف، بوصف ما بعده بالإِعجام في قوله: (وإسكان الخاء وضم الشين المعجمتين) .
1528- (وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة توبته) عن تخلفه في غزوة تبوك (وقد سبق) أي: بجملتّه (في باب التوبة قال) أي: كعب (قال - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في القوم بتبوك) يجوز صرفه ومنعه لما تقدم فيهما (ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة) بفتح فكسر (يا رسول الله حبسه برداه) بضم الموحدة (والنظر في عطفيه) بكسر المهملة الأولى (فقال له) أي: لذلك المغتاب (معاذ بن جبل) رداً عن كعب (بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً) جواب القسم، وجملة النداء، معترضة للاهتمام والاعتناء (فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مقراً لإِنكار معاذ على من فعل غيبة، أو تلبس بها،
__________
(1) انظر الحديث رقم (417) .
أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: المساجد في البيوت (3/49، 50) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، (الحديث: 263) .

(8/356)


عَلَى تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، وَرَدِّ العَاصِي إِلَى الصَّوابِ، فيقولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتهُ عَلَى إزالَةِ المُنْكَرِ: فُلانٌ يَعْمَلُ كَذا، فازْجُرْهُ عَنْهُ ونحو ذَلِكَ ويكونُ مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى إزالَةِ المُنْكَرِ، فَإنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَاماً.
الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ، فيقُولُ لِلمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبي أَوْ أخي، أَوْ زوجي، أَوْ فُلانٌ بكَذَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَمَا طَريقي في الخلاصِ مِنْهُ، وتَحْصيلِ حَقِّي، وَدَفْعِ الظُّلْمِ؟ وَنَحْو ذَلِكَ، فهذا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، ولكِنَّ الأحْوطَ والأفضَلَ أنْ يقول: مَا تقولُ في رَجُلٍ أَوْ شَخْصٍ، أَوْ زَوْجٍ، كَانَ مِنْ أمْرِهِ كذا؟ فَإنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الغَرَضُ مِنْ غَيرِ تَعْيينٍ، وَمَعَ ذَلِكَ، فالتَّعْيينُ جَائِزٌ كَمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالمهملة والنون (على تغيير المنكر ورد العاصي) بالمهملتين (إلى الصواب) شرعاً وهو إزالة المنكر في الأول، والطاعات في الثاني (فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر) من حاكم، أو قادر على ذلك الفاعل للمنكر، ومن نحو الأب، ولا يقول ذلك لمن لا يرجو قدرته على إزالتها، إذ لا فائدة فيه إلا إن كان متجاهراً، وقصد بإشاعة ذلك عنه زجره: ليرتدع وينزجر (فلان يعمل كذا) أي: المنكر الذي يراد إزالته (فازجره عنه ونحو ذلك) من العبارات المؤدية إلى زجره (ويكون مقصوده) أي: من ذلك الكلام الممنوع، لولا السبب المذكور (التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك) سواء قصد شفاء نفسه منه: لإِشاعة َقبيح فعله: لكونه عدوه، أو لم يقصد شيئا (كان حراماً) : لما تقدم من تقرير ما أبيح لحاجة يقدر بقدرها. (الثالث الاستفتاء) أي: طلب الفتيا، أي: ذكر حكم الحادثة التي يكره فاعلها ذكرها عنه (فيقول للمفتي ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا) فهذه غيبة جوزت للاستفتاء المذكور بقوله (فهل له ذلك وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي ودفع الظلم ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة) أي: إلى الاستفتاء (ولكن الأحوط) قال في المصباح: احتاط للشيء افتعال، وهو طلب الاحظ والأخذ بأوثق الوجوه. وبعضهم يجعل الاحتياط من الياء، وحاط الحمار عانته، والأمم الحيط حوطاً، في باب قال إذا ضمها وجمعها، ومنه قولهم إفعل الأحوط، والمعنى إفعل ما هو أجمع لأصول الأحكام، وأبعد عن شوائب التأويل، وليس مأخوذاً من الاحتياط: لأن أفعل التفضيل لا ينى من خماسي (والأفضل) أي: الأكثر ثواباً (أن يقول) أي: المستفتى (ما تقول) بالفوقية (في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا فإنه يحصل به الغرض) أي: بيان حكم الحادثة (من غير تعيين) : لأن الأحكام لا تتوقف عليه (ومع ذلك) أي: الحصول (فالتعيين جائز كما سنذكره في حديث

(8/358)


سَنَذْكُرُهُ في حَدِيثِ هِنْدٍ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
الرَّابعُ: تَحْذِيرُ المُسْلِمينَ مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ، وذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
مِنْهَا جَرْحُ المَجْرُوحينَ مِنَ الرُّواةِ والشُّهُودِ وذلكَ جَائِزٌ بإجْمَاعِ المُسْلِمينَ، بَلْ وَاجِبٌ للْحَاجَةِ.
ومنها: المُشَاوَرَةُ في مُصاهَرَةِ إنْسانٍ أو مُشاركتِهِ، أَوْ إيداعِهِ، أَوْ مُعامَلَتِهِ، أَوْ غيرِ ذَلِكَ، أَوْ مُجَاوَرَتِهِ، ويجبُ عَلَى المُشَاوَرِ أنْ لا يُخْفِيَ حَالَهُ، بَلْ يَذْكُرُ المَسَاوِئَ الَّتي فِيهِ بِنِيَّةِ النَّصيحَةِ. ومنها: إِذَا رأى مُتَفَقِّهاً يَتَرَدَّدُ إِلَى مُبْتَدِعٍ، أَوْ فَاسِقٍ يَأَخُذُ عَنْهُ العِلْمَ، وخَافَ أنْ يَتَضَرَّرَ المُتَفَقِّهُ بِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ نَصِيحَتُهُ بِبَيانِ حَالِهِ، بِشَرْطِ أنْ يَقْصِدَ النَّصِيحَةَ، وَهَذا مِمَّا يُغلَطُ فِيهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هند إن شاء الله تعالى) وتعييبها لأبي سفيان وإقراره - صلى الله عليه وسلم - لها وعدم إنكاره (الرابع تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك) أي: المذكور (من وجوه منها جرح المجروحين من الرواة) للحديث (والشهود) على القضايا (وذلك جائز بإجماع المسلمين) : لما فيه من المصلحة والمنفعة (بل واجب) : لما في الأول من صون الشريعة، والذب عنها، وفي الثاني من حفظ الحقوق، ولذا قال المصنف: (للحاجة ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان) أي: تزويجه موليته (أو مشاركته) في المعاملة (أو إيداعه أو معاملته) بمبايعة أو غيرها (أو غير ذلك) من أمور الأموال كالارتهان أو المساقاة (أو مجاورته) أي: السكنى بجواره (ويجب على المشاور) بصيغة المفعول (ألا يخفى حاله) أي: حال المسئول عنه، بل ذكر أصحابنا وجوب ذكر ذلك، لأحد هذه الأسباب، وإن لم يسأل عنه بذلاً للنصيحة (بل) إن لم يحصل المقصود، بنحو تركه أو لا يصلح لذلك (يذكر المساوي) التي يندفع بها، فإن لم يندفع إلا بالجميع ذكر المساوي (التي فيه بنية النصيحة) لا بقصد إيذائه وتنقيصه. قال في المصباح المساءة نقيض المسرة، وأصلها مسواة على مفعلة بفتح الميم والعين. لذا ترد الواو في الجمع فيقال المساوي، لكن استعمل الجمع مخففاً، وبدت مساويه، أي: نقائصه ومعايبه (ومنها إذا رأى متفقهاً) بتشديد القاف أي: أخذ الفقه بالتدريج (يتردد إلى مبتدع أو فاسق) يخفي ذلك (يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك) أي: بأن يزيغ عن اعتقاد الحق بتزيين الأول: أو يقع في الفسوق بتسويل الثاني، وكل قرين بالمقارن يقتدي (فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة) لإِشفاء نفسه من المقول فيه: لكونه عدواً مثلاً، كما قال المصنف (وهذا مما) أي: من الأمر الذي (يغلط) بالبناء للمفعول (فيه

(8/359)


وَقَدْ يَحمِلُ المُتَكَلِّمَ بِذلِكَ الحَسَدُ، وَيُلَبِّسُ الشَّيطانُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ويُخَيْلُ إِلَيْهِ أنَّهُ نَصِيحَةٌ فَليُتَفَطَّنْ لِذلِكَ.
وَمِنها: أنْ يكونَ لَهُ وِلايَةٌ لا يقومُ بِهَا عَلَى وَجْهِها: إمَّا بِأنْ لا يكونَ صَالِحاً لَهَا، وإما بِأنْ يكونَ فَاسِقاً، أَوْ مُغَفَّلاً، وَنَحوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ ولايةٌ عامَّةٌ لِيُزيلَهُ، وَيُوَلِّيَ مَنْ يُصْلحُ، أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ لِيُعَامِلَهُ بِمُقْتَضَى حالِهِ، وَلاَ يَغْتَرَّ بِهِ، وأنْ يَسْعَى في أنْ يَحُثَّهُ عَلَى الاسْتِقَامَةِ أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ.
الخامِسُ: أنْ يَكُونَ مُجَاهِراً بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كالمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الخَمْرِ، ومُصَادَرَةِ النَّاسِ، وأَخْذِ المَكْسِ، وجِبَايَةِ الأمْوَالِ ظُلْماً، وَتَوَلِّي الأمُورِ الباطِلَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويحمل) أي: يبعث المتكلم (بذلك) أي القدح فيه اعتقاداً أو عملاً (الحسد) أي: تمني زوال نعمة ذلك المتكلم فيه (يُلبس) بتشديد الموحدة أي: يخلط (الشيطان عليه ذلك) فيوهمه (ويخيل إليه أنه نصيحة) : ليتأتى بها وفي نفس الأمر، إنما الباعث الحسد، والداعي البغض (فليتفطن لذلك) : لئلا يقع في الغيبة المحرمة بإيهامه أنها من الجائزة، ومن حذر سلم، ومن اغتر ندم (ومنها أن يكون له ولاية) بكسر الواو (لا يقوم بها على وجهها) وفصل القيام المنفي بقوله (إما بأن لا يكون صالحاً لها) أي: غير متأهل لها، فتكون ولايته باطلة (وأما بأن) يكون صالحاً لها لكن (يكون فاسقاً) لا يقف عند حد ولايته، ويجاوز ذلك (أو مغفلاً) بتشديد الفاء بصيغة المفعول من الغفلة، أي: ليست له فطنة، فقد تفوته مقاصد تلك الولاية، التي لا يقوم بها على وجهها، ونفس المخلّ بالقيام بولايته (فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح) حال كونه غير صالح لها (أو) لا ليعزله في الثانية، ولكن (يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله) وينزله منزلته، فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بإنزال الناس منازلهم (ولا يغتر به) ولئلا يغتر المولى. له بظاهر حاله، فيظن صلاحه وفطنته لأعمال ولايته (وأن يسعى) أي: يجتهد وهو عطف على مدخول لام الجر في قوله ليزيله (في أن يحثه) بضم المهملة وتشديد المثلثة أي: يحرضه (على الاستقامة) المطلوبة في تلك الولاية (أو يستبدل به) من يصلح لها، وللقيام بها (الخامس أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته) أي: مظهراً لذلك (كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس) قال في القاموس صادره على كذا: أخذه به (وأخذ المكس) في القاموس مكس في البيع يمكس، إذا جبى مالاً والمكس النقص أو الظلم، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو درهم

(8/360)


وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ العُيُوبِ، إِلاَّ أنْ يكونَ لِجَوازِهِ سَبَبٌ آخَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. السَّادِسُ: التعرِيفُ، فإذا كَانَ الإنْسانُ مَعْرُوفاً بِلَقَبٍ، كالأعْمَشِ، والأعرَجِ، والأَصَمِّ، والأعْمى، والأحْوَلِ، وغَيْرِهِمْ جاز تَعْرِيفُهُمْ بذلِكَ، وَيَحْرُمُ إطْلاقُهُ عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ، ولو أمكَنَ تَعْريفُهُ بِغَيرِ ذَلِكَ كَانَ أوْلَى، فهذه ستَّةُ أسبابٍ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ وأكثَرُها مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلائِلُهَا مِنَ الأحادِيثِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان يأخذه المصدق بعد فراغه من الصدقة. وفي المصباح مكس في البيع مكساً من باب ضرب، نقص الثمن والمكس الجباية، وهو مصدر من باب ضرب أيضاً، وفاعله مكاس ثم سمي المأخوذ مكساً، تسمية بالمصدر وقد غلب استعمال المكس، فيما يأخذه أعوان السلطان ظلماً، عند البيع والشراء قال الشاعر:
وفي كل أسواق العراق أتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
(وجباية) بكسر الجيم وبالموحدة والتحتية أي: جمع (الأموال ظلماً) هو كالتفسير للمكس، على أحد الأقوال فيه، أو عطف عام على خاص، وظلماً حال أو مفعول له، وتولي الأمور الباطلة من الوظائف المبتدعة الحادثة (فيجوز ذكره بما يجاهر به) ولا غيبة بذلك (ويحرم ذكره بغيره من العيوب) التي يجاهر بها: لأن ما جاز لسبب يقدر بقدره (إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه. السادس التعريف إذا كان الإِنسان معروفاً بسبب كالأعمش) وممن لقب به: سليمان بن مهران المحدث (والأعرج) بالمهملة وبالجيم قال الحافظ في الألقاب: لقب به جماعة أشهرهم: عبد الرحمن بن هرمز، وشيخ أبي الزناد تابعي (والأصم) قال الحافظ لقب به جماعة: منهم مالك بن حبان الكلبي، ومطرف صاحب مالك بن أنس الفقيه (والأعمى) لقب ولم يذكر الحافظ أحداً ممن لقب به (والأحول بالمهملة لقب به جماعة) عاصم بن سليمان التابعي (وغيرهم) من أولي الألقاب التي يكره ظاهرها (جاز تعريفهم بذلك) اللقب المعروفين به، وإن كانوا يكرهونه لحاجة التعريف (ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص وإذا أمكن تعريفه) أي: صاحب اللقب (بغير ذلك) اللقب المكروه (كان أولى) : لحصول المقصود، مع السلامة من الغيبة، وإنما جاز مع ْحصوله بذلك: لأن داعيهَ التعريف في الجملة، مصلحة يفتقر لها بذلك، بشرط أن يقصده بإطلاقها (فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه) وقد جمعها الشيخ كمال

(8/361)


الصَّحيحَةِ مشهورَةٌ. فمن ذَلِكَ:
1529- عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رجلاً اسْتَأذَنَ عَلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "ائْذَنُوا لَهُ، بِئسَ أخُو العَشِيرَةِ؟ ". متفق عَلَيْهِ.
احتَجَّ بِهِ البخاري في جوازِ غيبَة أهلِ الفسادِ وأهلِ الرِّيبِ (1) .
1530- وعنها، قالت: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أظُنُّ فُلاناً وفُلاناً يَعْرِفانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئاً". رواه البخاري. قَالَ: قَالَ اللَّيْثُ بن سعدٍ أحَدُ رُواة هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدين بن أبي شرف في قوله:
القدح ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر
ومجاهر بالفسق ثمت سائل ... ومن استعان على إزالة منكر
ونظمتها في قولي
يباح اغتياب للفتى إن تجاهرا ... بفسقٍ وللتعريف أو للتظلم
كذاك لتحذير ومن جاء سائلا ... كذا من أتى يبغي زوال المحرم
(ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة) عند الفقهاء (فمن ذلك) .
1529- (عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً) هو عيينة بن حصن وقيل مخرمة بن نوفل (استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إئذنوا له بئس أخو العشيرة) أي: القبيلة أي: بئس هو منهم (متفق عليه احتج به) الإِمام المجتهد (البخاري في) أي: على (جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب) تحذيراً منهم، ومن الاغترار بظواهرهم، والريب بكسر الراء وفتح التحتية ثم موحدة جمع ريبة.
1530- (وعنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً) نفي عنهم المعرفة اللازم نفيها، لنقي العمل فكأنه قال ليسوا على شيء من الإِسلام حقيقة (رواه البخاري قال) أي: البخاري (قال الليث بن سعد) عالم مصر عصري الإِمام مالك المجتهد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يجوز من اغتياب أهل الفساد (10/393) .
وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: مداراة من يتقي فحشه، (الحديث: 73) .

(8/362)


الحديثِ: هذانِ الرجلانِ كانا من المنافِقِينَ (1) .
1531- وعن فاطمة بنتِ قيسٍ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: إنَّ أَبَا الجَهْم وَمُعَاوِيَةَ خَطَبَانِي؟ فَقَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ، وأمَّا أَبُو الجَهْمِ، فَلاَ يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ" متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلم: "وَأمَّا أَبُو الجَهْمِ فَضَرَّابٌ لِلنِّساءِ" وَهُوَ تفسير لرواية: "لا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ" وقيل: معناه: كثيرُ الأسفارِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(أحد رواة هذا الحديث هذان الرجلان) المكنى عنهما بفلان وفلان (كانا من المنافقين) فقال - صلى الله عليه وسلم - مبيناً لما أخفياه من النفاق، حذر أن يلتبس ظاهر حالهما، على من يجهل أمرهما.
1531- (وعن فاطمة بنت قيس) بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة الفهرية القرشية، أخت الضحاك في تهذيب المصنف، قيل كانت أكبر من أخيها بعشر سنين، وكانت من المهاجرات الأول ذات عقل وافر وكمال، في بيتها اجتمع أصحاب الشورى، روى لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة وثلاثون حديثاً. روى عنها جماعة من كبار التابعين رضي الله عنها، وعنهم أجمعين، (قالت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت إن أبا الجهم) بفتح الجيم وسكون الهاء (ومعاوية خطباني) أي: فما ترى (فيهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (معاوية فصعلوك) رأيت بخط الشيخ محمد الخطابي المالكي، في حاشية النهاية الصعلوك بضم الصاد: الفقير والجمع صعاليك اهـ. وهذه المادة لم أرها في القاموس (3) ، ولا في النهاية ولا في المصباح وقوله (لا مال له) في معنى الصفة مبين لما قبله (وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه متفق عليه وفي رواية لمسلم وأما أبو الجهم فضراب للنساء وهو: تفسير لرواية لا يضع العصا عن عاتقه) أي: بيان للمراد فيها بطريق الكناية (وقيل معناه) أي: المراد بهذا الكلام، كناية عنه (كثير الأسفار) والأول أولى: لأن الروايات يفسر بعضها ببعض، وإن كان لا مانع من الجمع.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يكون من الظن (10/405) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاث لا نفقة لها، (الحديث: 36) .
(3) فيه نظر إذ هي في القاموس في حرف اللام. ع.

(8/363)


1532- وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قَالَ: خرجنا مَعَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ أصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ عبدُ اللهِ بن أُبَيّ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَنْفَضُّوا، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَأَتَيْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَرْتُهُ بذلِكَ، فَأرْسَلَ إِلَى عبدِ الله بن أُبَيِّ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ: مَا فَعلَ، فقالوا: كَذَبَ زيدٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَوَقَعَ في نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أنْزلَ اللهُ تَعَالَى تَصْدِيقِي: (إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ) (1) ثُمَّ دعاهُمُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ. متفق عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1532- (وعن زيد بن أرقم) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب إكرام آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) هي غزوة بني المصطلق (أصاب الناس) مفعول مقدم (فيه شدة) فاعل (فقال عبد الله بن أبيّ) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء، المنافق (لا تنفقوا على من) أي: الذين (عند رسول الله) أي: من الصحابة (حتى) أي: كي (ينفضوا) أي: يتفرقوا عنه (وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فأراد من الأعز نفسه ومن الأذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك) أي: الذي صدر من ابن أبيّ (فأرسل إلى عبد الله بن أبي فاجتهد يمينه) أي: حلف وأكد الأيمان بتكراره، ويمينه منصوب بنزع الخافض (ما فعله فقالوا) أي: الصحابة (كذب) بتخفيف الذال المعجمة المفتوحة (زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أخبره عن أمر بخلاف ما هو عليه (فوقع في نفسي مما قالوا شدة) أي: كرب شديد واستمر ذلك فيها (حتى أنزل الله تعالى على نبيه تصديقي) أي: إخباري المطابق للواقع، وبيّنه بقوله (إذا جاءك المنافقون) أي: سورة المنافقين (ثم دعاهم) أي: المنافقين الذين رأسهم ابن أبيّ (النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم) مما قالوه (فلووا رءوسهم) أي: أمالوها إعراضاً ورغبة عن الاستغفار (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، ومسلم في التوبة، ورواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي حسن صحيح.
__________
(1) سورة المنافقون، الآية: 1.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: سورة المنافقون (8/494، 495) .
وأخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: ... (الحديث: 1) .

(8/364)


1533- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قالت هِنْدُ امْرَأةُ أَبي سفْيَانَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفيني وولَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ، وَهُوَ لا يَعْلَمُ؟ قَالَ: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلدَكِ بِالمَعْرُوفِ". متفق عَلَيْهِ (1) .
257- باب في تحريم النميمة وهي نقل الكلام بَيْنَ الناس عَلَى جهة الإفساد
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (هَمَّازٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1533- (وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قالت هند) هي بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية (امرأة أبي سفيان) وهي أم معاوية، أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها بليلة وبايعت (للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن أبا سفيان رجل شحيح) من الشح بتثليث أوله، وهو البخل والحرص، كما في القاموس (وليس) اسمها يعود إليه وجملة (يعطيني) في محل الخبر، وثاني مفعول يعطي. قوله (ما يكفيني) بفتح التحتية من الكفاية (وولدي) عطف على المفعول به الضمير (إلا ما أخذت منه) استثناء منقطع أي: لكن الذي أخذت منه (وهو لا يعلم) جملة حالية، وخبر ما محذوف أي: فهو يكفيني (فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: من غير سرف ولا تقتير (متفق عليه) والقصد من الحديث الترجمة: للاستدلال بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في قولها إن أبا سفيان رجل شحيح: لما أنه على وجه الاستفتاء.
باب تحريم النميمة
(وهو نقل الكلام بين الناس على جهة الإِفساد)
في القاموس: النم التوريش والإِغراء، ورفع الحديث إشاعة له وإفساداً، وتزيين الكلام بالكذب اهـ. وبه يعلم، أن ما عرفه الصنف، به، هو أحد معانيه المراد بما عقد له الترجمة. (قال الله تعالى) في وصف المنهي عن إطاعته، قيل وهو الوليد بن المغيرة (هماز)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: النفقات، باب: نفقة المرأة إذا غاب زوجها والبيوع، باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون وغيرهما (9/444 و445) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: قضية هند، (الحديث: 7) .
(2) سورة القلم، الآية: 11.

(8/365)


مَشَّاءٍ بِنَميمٍ) .
وقال تَعَالَى (1) : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .
وعن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ". متفق عَلَيْهِ (2) .
1535- وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بِقَبْرَيْنِ
فَقَالَ: "إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ! بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ: أمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وأمَّا الآخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ". متفق عَلَيْهِ. وهذا لفظ إحدى روايات البخاري،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مغتاب غياب (مشاء بنميم) نقال للكلام سعاية وإفساداً. وقال تعالى (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) تقدم ما يتعلق بها قريباً.
1534- (وعن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل الجنة) أي: مع الفائزين، أو مطلقاً، إن استحل ذلك، وعلم أنه مجمع على تحريمه معلوم من الدين بالضرورة، أو نزل منزلة العالم به: لكونه قديم الإِسلام بين أظهر العلماء (نمام) أتي فيه بصيغة المبالغة: لعظيم الوعيد، وإلا فأصل النمّ منهى عنه، من الكبائر، كما يدل عليه الحديث بعده (متفق عليه) أورده في الجامع الكبير بلفظ "قتات" بدل "نمام"، وقال في لفظ "نمام" ثم قال رواه الطيالسي وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني في الكبير.
1533- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين) جاء في رواية أنهما من المشركين (فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر) بفتح المعجمة (فكان لا يستبرىء من بوله) أي: لا يطلب البراءة منه، فأخذ بعضهم منه وجوب الاستبراء، وأن تركه من الكبائر، وهو قويّ من حيث الدليل، لكن الذي عليه أصحابنا ندبه، وحمل الحديث ونحوه على من تيقن عدم انقطاع البول إلا بالتنحنح فيجب، والاستحباب على من لم يكن كذلك (متفق عليه وهذا لفظ إحدى روايات
__________
(1) سورة ق، الآية: 18.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يكره من النميمة (10/394) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة، (الحديث: 168) .

(8/366)


قَالَ العلماءُ معنى: "وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ" أيْ: كَبيرٍ في زَعْمِهِمَا. وقِيلَ: كَبيرٌ تَرْكُهُ عَلَيْهِمَا (1) .
1536- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ مَا العَضْهُ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البخاري) رواه هكذا في أبواب الطهارة إلا أن في نسخة، يستتر من البول بتاءين من الاستتار. قال القلقشندي: وهو أكثر الروايات وفي رواية يستنزه، بنون ساكنة بعدها زاي من النزاهة. وهاتان في الصحيح، وفي رواية لا يستبرىء، بموحدة بعد الفوقية وهي عند البخاري، وقال الإِسماعيلي: إنه أشبه بالروايات. وقوله لا يستتر بالفوقيتين محتمل لا يستتر عن الأعين، فيكون العذاب على كشف العورة، أو لا يتنزه عن البول، فيكون في الكلام مجاز. والعلاقة أن التستر عن الشيء فيه، بعد عنه واحتجاب، وذلك شبيه بالبعد عن البول (قال العلماء وما يعذبان في كبير أي كبير في زعمهما) أي: أنهما لاستخفافهما بأمور الديانة، يريان ذلك غير كبير. (وقيل كبير تركه عليهما) وقد جاء أن المنافق يرى ذنبه كذباب، وقع على أنفه فدفع فاندفع، وأن المؤمن يراه كالجبل يخشى أن يقع عليه.
والحاصل أنهما لاستخفافهما يريان ذلك غير كبير، فلا يريان بتعاطيه حرجاً، أو لا يريان بتركه مشقةً: لخفة ذلك عندهما؛ وهو عند الله كبير، وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - بلى في كبير أي: باعتبار ما عند الله وباعتبار إثمه وتبعته. وقال القلقشندي في شرح العمدة، واختلفوا في معنى قوله "وإنه لكبير" فاستدرك، ويحتمل أن ضمير وأنه عائد إلى العذاب فقد ورد عند أبي حيان "عذاباً شديداً في ذنب هين ". وقيل الضمير عائد إلى أحد الذنبين. وهو النميمة، فإنها كبيرة، بخلاف ستر العورة وضعف، وقيل معنى كبير المنفي أكبر أي: ليس في أكبر الكبائر، ومعنى المثبت واحد الكبائر. فعليه يكون الحديث، بيان أن التعذيب لا يخص أكبر الكبائر بل يكون في الكبائر، وقيل معناه ليس كبيراً صورة، إذ تعاطيه يدل على الزبانة والحقارة، وهو كثير في الإثم وقيل غير ذلك.
1536- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ألا أنبئكم ما العضه) سكت عن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: الذي بعد باب ما جاء في غسل البول والجنائز باب: عذاب القبر من الغيبة والبول، وباب: الجريد على القبر وغيرهما (10/273) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، (الحديث: 111) .

(8/367)


هي النَّمَيمَةُ: القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ". رواه مسلم. "العَضْهُ": بفتح العين المهملة وإسكان الضاد المعجمة، وبالهاء عَلَى وزن الوجهِ، ورُوِي "العِضةُ" بكسر العين وفتح الضاد المعجمة عَلَى وزن العِدَة، وهي: الكذب والبُهتان، وعلى الرِّواية الأولى: العَضْهُ مصدرٌ يقال: عَضَهَهُ عَضهاً، أيْ: رماهُ بالعَضْهِ (1) .
258- باب في النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إِلَى ولاة الأمور إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حاجة كخوف مفسدة ونحوها
قال الله تعالى (2) : (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالعُدْوانِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جوابهم لظهور استدعائهم أي قالوا بلى قال (هي النميمة) وأنث المبتدأ نظراً لتأنيث الخبر، وهو الأحسن في مثله، أي: مراعاة الخبر لأنه محط الفائدة؛ (القالة) بتخفيف اللام (بين الناس) أي: كثرة القول، وإيقاع الخصومة بين الناس، بما يحكى للبعض عن البعض، قاله في النهاية (رواه مسلم والعضه بفتح العين المهملة وإسكان الضاد المعجمة وبالهاء على وزن الوجه) قال في النهاية يروى هكذا في كتب الحديث (وروي العضة بكسر العين وفتح الضاد على وزن العدة) قال في النهاية هذا الذي جاء في كتب الغريب. قال الزمخشري أصلها العضهة، فعلة من العضه وهو البهت، فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة، ويجمع على عضين (وهي) بالراويتن (الكذب والبهتان وهي الرواية الأولى العضه مصدر يقال عضهه) يعضهه من باب سأل يسأل (عضها رماه بالعضه) .
باب النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إلى ولاة الأمور إذا لم تدع إليه الحاجة عبر بإذا إيماء إلى تركه عند الشك، في وجود الحاجة. وفسر بعض الحاجة بقوله (كخوف مفسدة ونحوها) من وقوع ضرر. (قال الله تعالى: ولا تعاونوا على الإِثم) أي: المعاصي (والعدوان) أي: الظلم (وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله) لأنه دفع الحديث الضار لقائله، أو لغيره إلى ولاة الأمور، من أفراد النميمة، لصدق تعريفها السابق عليه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم النميمة، (الحديث: 102) .
(2) سورة المائدة، الآية: 2.

(8/368)


وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله.
1537- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئاً، فإنِّي أُحِبُّ أنْ أخْرُجَ إِلَيْكُمْ وأنَا سَليمُ الصَّدْرِ". رواه أَبُو داود والترمذي (1) .
259- باب في ذمِّ ذِي الوَجْهَيْن
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ القَولِ وكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحيطاً) الآيَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1537- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغني) بسكون الغين (أحد من أصحابي عن أحد شيئاً) أي: مما أكرهه له أويعود إليه بضرر. ففيه الحث على الستر، وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم (فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) أي: وذلك إنما يتحقق عند عدم سماع ما يؤثر في النفس، حرارة أو أثراً ما، بحسب الطبع البشري (رواه أبو داود والترمذي) وقال: غريب، ورواه أحمد والدارقطني كما في الجامع الكبير.
باب ذم ذي الوجهين
(قال الله تعالى: يستخفون من الناس) أي: يستترون منهم حال سرقتهم، ومثلها في ذم من يكون كذلك سائر المخالفات (ولا يستخفون من الله) وهو أحق أن يستحيا منه (وهو معهم) لا يخفي عليه شيء، وطريق إخفاء شيء عنه عدم فعله. كذا في جامع البيان (إذ يبيتون) يدبرون، وأصله أن يكون بالليل (ما لا يرضى) الله (من القول) كرمي البريء، وشهادة الزور، والقذف (وكان الله بما يعملون محيطاً) فيجازيهم عليه (الآيتين) يعني قوله (هأنتم هؤلاء) مبتدأ وخبر (جادلتم) خاصمتم (عنهم) وهي جملة مبينة لوقوع هؤلاء خبراً، وصلة عند من يقول أنه موصول (في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم) إذا
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: رفع الحديث [من المجلس] ، (الحديث: 4860) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، (الحديث: 3896 و3897) .
(2) سورة النساء، الآية: 108.

(8/369)


1538- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ: خِيَارُهُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ في هَذَا الشَّأنِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَينِ، الَّذِي يَأتِي هؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ". متفق عَلَيْهِ (1) .
1539- وعن محمد بن زيدٍ: أنَّ ناساً قالوا لِجَدِّهِ عبدِ اللهِ بن عمر رضي الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخذهم بعذابه (يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً) فيروج دعواهم (ومن يعمل سوءاً) يسوء به غيره أو صغيرة أو باعثاً دون الشرك (أو يظلم نفسه) مما لا يتعداه (ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) فيه فرض التوبة.
1538- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجدون الناس معادن) أي: ذوي أصول ينسبون إليها ويتفاخرون بها (خيارهم) أي: أشرفهم (في الجاهلية) ما قبل الإِسلام (خيارهم) أي: أشرفهم في (الإِسلام إذا فقهوا) قال المصنف كما تقدم في باب التقوى، بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها أي: علموا الأحكام الشرعية.
(وتجدون خيار الناس في هذا الشأن) أي: الخلافة والإِمارة (أشدهم) متعلق بقوله كراهية (وقدم عليه مع أنه مصدر، ومعموله لا يكون إلا مؤخراً: لكونه ظرفاً، وهو يتوسع فيه ما يتوسع في غيره، وكراهية بتخفيف التحتية مصدر، أي: خير الناس في تعاطي الأحكام، من لم يكن حريصاً على الإِمارة، فإذا ولي شدد ووقف، بخلاف الحريص عليها، كما تقدم في باب كراهة الحرص على الإِمارة (وتجدون شر الناس) مفعول ثان، قدم اهتماماً به (ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء) أي: قوماً (بوجه) فيوهمهم أنه منهم لا من أضدادهم (و) يأتي (هؤلاء) أي: الأضداد (بوجه) أي: غير ما لقي به الأولين، كما يؤذن به التنكير. قال المصنف: المراد من يأتي كل طائفة ويظهر لهم أنه منهم، ومخالف للآخرين: متبغض، فإن أتى كل طائفة بالإِصلاح فمحمود (متفق عليه) .
1539- (وعن محمد بن زيد) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، المدني الحافظ ثقة من أوساط التابعين (أن ناساً قالوا لجده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: خيار الناس، (الحديث: 199) .
وأخرجه البخاري في كتاب: أول باب المناقب (6/384، 385 و10/395) .

(8/370)


عنهما: إنَّا نَدْخُلُ عَلَى سَلاَطِيننَا فَنَقُولُ لَهُمْ بِخِلاَفِ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ. قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ هَذَا نِفَاقاً عَلَى عَهْدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه البخاريُّ (1) .
260- باب: في تحريم الكذب
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) .
وقال تَعَالَى (3) : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَولٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنهما إنا ندخل على سلاطيننا) أي: ذوي السلطنة والولاية علينا، أعم من أن يكون خليفة ومن دونه، والمراد الجنس بدليل قوله (فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم) أي: بأن نثني عليهم بحضورهم، ونذمهم إذا خرجنا (قال كنا نعد هذا نفاقاً) أي: من نفاق العمل، أو من أعمال المنافقين، إذ الصدق في الحضرة والغيبة، شأن المؤمنين الصادقين (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: زمنه (رواه البخاري) "فائدة" ذكرها الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات الكبرى، قال: مصطلح الدول أن السلطان من ملك إقليمين فأكثر، فإن لم يملك إلا إقليماً واحداً سمي بالملك، وإذا اقتصر على مدينة واحدة لم يسم بالملك ولا بالسلطان. بل بأمير البلد، وصاحبها، ومن شرط السلطان، ألا يكون فوق يده يد، وكذا الملك اهـ. وهذا اصطلاح حادث فلا ينافي ما تقدم قبله.
باب تحريم الكذب
بفتح فكسر هو الإِخبار عن الشيء، بخلاف ما هو عليه، ويأثم المخبر إذا علم بذلك، ثم إن علم الضرر فيه، كأن من الكبائر، وإلا فمن الصغائر، وإن كانت فيه مصلحة تقاوم ذلك الضرر، صار مندوباً تارة، وواجباً أخرى. كما سيأتي في باب بيان ما يجوز منه قال الله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) . وقال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) تقدم ما يتعلق بهما قريباً.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الاحكام، باب: ما يكره من ثناء السلطان (13/149، 150) .
(2) سورة الإِسراء، الآية: 36.
(3) سورة ق، الآية: 18.

(8/371)


1540- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّاباً" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1540- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الصدق) أي: تحري الصدق في القول (يهدي) بفتح التحتية من الهداية، قال الحافظ في الفتح: وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب اهـ. ولعله تفسير للمراد هنا (إلى البر) بكسر الموحدة وتشديد الراء أي: الطاعة قال الحافظ: أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلها، ويطلق على العمل الخالص الدائم (وإن البر يهدي إلى الجنة) قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم) (2) (وإن الرجل ليصدق) أي: يتكرر منه الصدق، وعند مسلم "ليتحرى الصدق" وكذا قال في الكذب (حتى يكتب عند الله صديقاً) أي: يستحق اسم المبالغة في الصدق عنده سبحانه وتعالى، قال العاقولي: وصديق من أبنية المبالغة، من تكرر منه الصدق حتى يصير سجية له وخلقاً (وإن الكذب يهدي إلى الفجور) قال الراغب: أصل الفجر: الشق، والفجور: شق الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد، وعلى الانبعاث في معاصي، وهو اسم جامع للشر (وإن الفجور يهدي إلى النار) أي يوصل إليها، والإِسناد في الجمل الأربع، من الإِسناد إلى السبب (وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) والمراد بالكتابة: الحكم عليه بذلك، وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى، وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض. وقد ذكره مالك بلاغاً عن ابن مسعود، وأورد فيه زيادة مفيدة، ولفظه "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسوَد قلبه فيكتب عند الله من الكذابين". قال المصنف: قال العلماء: في الحديث الحث على تحري الصدق، وهو قصده والاعتناء به. وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه. فإنه إذا تساهل فيه أكثر منه فعرف به فكتب. (متفق عليه) وقد تقدم مشروحاً في باب الصدق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ... ) د 10 (423) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: قبح الكذب، وحسن الصدق، وفضله، (الحديث: 103) .
(2) سورة المطففين، الآية: 22.

(8/372)


1541- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ نِفاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا أؤْتُمِنَ خانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". متفق عَلَيْهِ. وَقَدْ سبق بيانه مَعَ حديث أَبي هريرة بنحوه في "باب الوفاءِ بالعهدِ" (1) (2) .
1542- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ، كُلِّفَ أنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْن وَلَنْ يَفْعَلَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1541- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أربع) أي: من الخصال (من كن فيه كان منافقاً خالصاً) في نفاق العمل (ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها) أي: يتركها (إذا أؤتمن) بالهمز (خان) جواب إذا، وهو العامل فيها، وهي والمعطوف عليها خبر لمحذوف أي: هي تعود للأربع (وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر) من الغدر ضد الوفاء (وإذا خاصم فجر) بالأيمان الكاذبة، والدعاوى الباطلة (متفق عليه وقد سبق بيانه) مع شرحه مبسوطاً (مع حديث أي هريرة بنحوه) في بعض خصال النفاق في باب الوفاء بالعهد.
1542- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من تحلم) بفتح التاء والمهملة وتشديد اللام أي: تكلف الحلم أي: كذب بما لم يره في منامه كما علق به قوله: (بحلم لم يره) والحلم بضم المهملة، والمراد به هنا مطلق ما يرى مناماً، خيراً كان أو شراً، وإن كان قد يخص الأخير، كما تقدم في حديث: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" (كلّف) بصيغة المجهول (أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) عند أحمد: "من تحلم كاذباً دفع إليه شعيرة حتى يعقد بين طرفيها وليس بعاقد وعنده عذب حتى يعقد بين شعيرتين وليس عاقداً". قال الحافظ: وذلك ليطول عذابه في النار؛ لأن عقده بين طرفي الشعيرة غير ممكن؛ قال الحافظ في الفتح: الحق أن التكليف ليس هو المصطلح عليه في الدنيا، وإنما
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامات المنافق (1/84) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، (الحديث: 106، 107) .
(2) انظر الحديث رقم (689) ورقم (690) .

(8/373)


وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَديثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، صُبَّ في أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بنافِخٍ".
رواه البخاري. "تَحَلم": أيْ قَالَ إنَّه حلم في نومه ورأى كذا وكذا، وَهُوَ كاذب. و"الآنك" بالمدّ وضمِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو كناية عن التعذيب اهـ. قال الطبري: إنما أسند الوعيد فيه، مع أن الكذب في اليقظة، قد يكون أشد مفسدة منه، كشهادة الزور في قتل مسلم، أو أخذ ماله: لأن الكذب في المنام كذب على الله؛ وذلك لحديث "الرؤيا جزء من النبوة" وما كان من أجزاء النبوة فمن الله (ومن استمع إلى حديث قوم وهم له) أي: لاستماعه المدلول عليه بالفعل؛ (كارهون) قال الشيخ أكمل الدين: جملة وهم له كارهون حالية، وذو الحال فاعل استمع، والذي سوغ ذلك تضمنها ضميره، ويجوز أن تكون صفة للقوم، والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، فإن الكراهة حاصلة لا محالة (صب) بالبناء للمجهول (في أذنيه الآنك) فيه وعيد شديد، والجزاء من جنس العمل (يوم القيامة ومن صور صورة) أي: من ذوات الأرواح (عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) عبر به وعبر فيما تقدم بقوله وأن ينفخ تفنناً في التعبير. قال العارف بن أبي جمرة: مناسبة الوعيد للكاذب في منامه وللمصور: أن الرؤيا خلق من خلق الله تعالى، وهو صورة معنوية، فأدخل لكذبه صورة معنوية لم تقع، كما أدخل المصور في الوجود، صورة ليست بحقيقية، لأن الصورة الحقيقية هي التي فيها الروح؛ فكلف صاحب الصورة بتكليفه أمراً شديداً، وهو أن يتم ما خلقه بزعمه، فينفخ الروح فيه. ووقع عند كل منهما بأن يعذب حتى يفعل ما كلف، وليس بفاعل، وهو كناية عن دوام تعذيب كل منهما. قال: والحكمة في هذا الوعيد، أن الأول كذب على جنس النبوة، والثاني نازع الخالق في قدرته اهـ (رواه البخاري) وفي الجامع الكبير: "من تحلم كاذباً كلف يوم القيامة، أن يقعد بين شعيرتين، ولن يقعد بينهما". رواه الترمذي بعد إيراد الجمل الثلاث، لكن قدم التصوير، وقال عذبه الله يوم القيامة حتى ينفخ، ثم الحلم ثم الاستماع، وقال: رواه أحمد وأبو داود وهو حسن صحيح من حديث ابن عباس قال: ورواه أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، لكن قال: ودفع إليه شعيرة، وكلف أن يعقد بين طرفيها، وليس بعاقد. وصححه ابن ماجه وابن جرير من حديث ابن عباس، وحديث: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك ومن أري عينيه في المنام ما لم ير كلف أن يعقد شعيرة". رواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس، ولم يذكره البخاري وهو عجيب (تحلم أي: قال إنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا وهو كاذب والآنك بالمد وضم

(8/374)


النون وتخفيف الكاف: وَهُوَ الرَّصَاصُ المذاب (1) .
1543- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْرَى الفِرَى أنْ يُرِيَ الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا". رواه البخاري.
ومعناه: يقول: رأيتُ، فيما لَمْ يَرَهُ. (2) .
1544- وعن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ لأَصْحَابِهِ: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النون وتخفيف الكاف وهو الرصاص المذاب) وقيل هو الرصاص الأبيض، وقيل هو الأسود، وقيل هو الخالص منه، ولم يجىء واحد على أفعل، غير هذا، وقيل يحتمل أنه فاعل لا أفعل، وهو شاذ أيضاً، وفي المصباح الآنك وزان أفلس، ومنهم من يقول الآنك فاعل، قال وليس في العربي فاعل بضم العين، وأما الآنك والأجر فيمن خفف وآمل وكابل فأعجميات اهـ.
1543- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرى الفري) بكسر الفاء وتخفيف الراء مقصوراً جمع فرية (أن يري الرجل عينيه ما لم تريا) أي: بأن يسند إليهما رؤيا ما لم ترياه. وتقدم شرح الحديث في باب الرؤيا في أثناء حديث واثلة (رواه البخاري) في التعبير (ومعناه يقول رأيت فيما لم يره) ظاهره شمول اليقظة والنوم، وظاهر لفظ أبي داود والبخاري في باب التعبير: اختصاصه بالأخير. ومقتضى إيراد المصنف، ثم تفسيره شموله لها.
1544- (وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر) خبر مقدم مبتدؤه (أن يقول) أي: قوله، والجملة خبر كان، والرابط محذوف أي: منه. وقال الطيبي: مما يكثر خبر كان، وما موصول: صلته يكثر، والعائد على ما: فاعل يقول، وأن يقول فاعل يكثر. وهل رأى أحد منكم الخ هو المقول أي: رسول الله من النفر الذين كثر منهم هذا القول، فوضع ما وضع من تفخيماً وتعظيماً لجانبه، هذا من جهة البيان، ومن حيث النحو يجوز أن تكون هل رأى أحد منكم الخ مبتدأ. والخبر مقدم عليه على تأويل هذا القول مما يكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول. ثم أشار إلى ترجيح الوجه السابق قال الحافظ في الفتح: فالمتبادر الثاني، وعليه أكثر الشارحين (لأصحابه هل رأى أحد منكم من رؤيا) من: مزيدة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: من كذب في حلمه (12/374، 375) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: من كذب في حلمه (12/376، 377) .

(8/375)


فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللهُ أنْ يَقُصَّ، وإنَّهُ قَالَ لنا ذَات غَدَاةٍ: "إنَّهُ أَتَانِيَ اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وإنَّهُمَا قَالا لِي: انْطَلِقْ، وإنِّي انْطَلَقتُ مَعَهُمَا، وإنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَأخُذُهُ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأسُهُ كَما كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأوْلَى! " قَالَ: "قُلْتُ لهما: سُبْحانَ اللهِ! مَا هَذَان؟ قَالا لي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَديدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأتِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للاستغراق، وشمول كل منام بأيّ وصف وشأن (فيقص) بضم القاف وتشديد المهملة (من شاء الله أن يقص) أي: يعلمه برؤياه التي أراد الله أن يعلمه بها (وأنه قال لنا ذات غداة) أي: صبح يوم، وذات: زائدة وهو من إضافة الشيء إلى نفسه، قاله الحافظ (إنه) أي: الشأن (أتاني الليلة آتيان) بمد الهمزة وبعدها فوقية مكسورة فتحتية مخففة (وإنهما قالا لي انطلق) أي: معنا بدليل قوله (وإني انطلقت معهما) أي: ذهبت معهما (وإنا) عطف على إن ومعموليها (أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر) بفتح الخاء وبالرفع مبتدأ خبره (قائم عليه بصخرة وإذا هو) أي: الرجل، والضمير مبتدأ خبره (يهوي) بكسر الواو أي: يسقط (بالصخرة) الباء فيه للتعدية (لرأسه) متعلق بيهوى أيضاً (فيثلغ) بالرفع أي: يشدخ الحجر أو الرجل القائم بعذاب ذلك المضطجع (رأسه فيتدهده الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع) أي: الحجر (إليه) أي: الرجل أولاً يرجع الرجل أي: يصل إلى الحجر (حتى يصح رأسه كما كان) أي: قبل شدخه. والكاف في محل المفعول المطلق، أي: صحة مثل ما كان، والتذكير باعتبار لفظها (ثم يعود) أي: القائم (عليه) أي: المضطجع (فيفعل به مثل ما فعل) أي: فعله، أو الذي فعله؟ وفي نسخة فعل به وهو يؤيد الثاني (من الأولى) كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما. وفي نسخة "المرة الأولى" وهو كذلك عند أبي عوانة. قال ابن العربي: جعلت العقوبة في رأس هذا: لنومه عن الصلاة؛ والنوم موضع الرأس (قال قلت لهما سبحان الله) كلمة تنزيه، تستعمل حال التعجب من الشيء (ما هذا) أي: ما حاله (قالا: لي انطلق انطلق) أي: دع السؤال عن بيان حاله، وانطلق لرؤية التعجب (فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه) أي: عليها نحو قوله تعالى: (يخرُّون للأذقان) (1) (وإذا آخر) بفتح
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 107.

(8/376)


أحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، ومِنْخَرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجانبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بالجَانِبِ الأوَّلِ، فَمَا يَفْرَغُ مِنْ ذَلِكَ الجانبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجانبُ كما كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي المرَّةِ الأُوْلَى " قَالَ: " قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا هذانِ؟ قالا لي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ " فَأَحْسِبُ أنَّهُ قَالَ: " فإذا فِيهِ لَغَطٌ، وأصْواتٌ، فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فإذا فِيهِ رِجَالٌ وَنِساءٌ عُرَاةٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخاء، وآخر: غير مصروف مبتدأ خبره (قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو) أي: القائم (يأتي أحد شقي) بكسر المعجمة أي: جانبي (وجهه) أي: الملتقى (فيشرشر) بضم التحتية (شدقه) قال في المصباح: هو جانب الفم، يقال بالفتح والكسر. وجمع الأول شدوق، والثاني أشداق (إلى قفاه) القفا مقصوراً: مؤخر العنق (ومنخره) بالنصب عطفاً على شدقه، بفتح الميم وكسر المعجمة، ويقال بكسرهما باتباع حركة الميم بحركة المعجمة لسكون النون الحاجز بينهما؛ (إلى قفاه وعينيه إلى قفاه ثم يتحول) بتشديد الواو، والفاعل ضمير القائم، والمفعول محذوف لدلالة المقام؛ أي: نحو الكلوب. (إلى الجانب الآخر) أي: جانب الشق الآخر من الوجه (فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول) من الشق من الجانب الثاني، أي: من الشدق أو من العين، وشق المنخر في الأول، كاف عن شقه الثاني، أو من الشدق ومن العين ثانياً، ظاهر اللفظ يومىء للأول. (فما يفرغ من ذلك الجانب) عبر بذلك عن هذا: إيماء إلى طول فعل ذلك به، لعظم بدنه؛ فكأنه بعيد فلذا عبر فيه بما يشار به إليه (حتى يصبح ذلك الجانب) أي: المبدوء به أولاً (كما كان) قبل الشرشرة (ثم يعود) أي: القائم (عليه) أي: الجانب الذي صح (فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى) قال ابن العربي: شرشرة شدقي الكاذب: إنزال العقوبة بمحل المعصية، وعلى هذا تجري العقوبة في الآخرة، بخلاف الدنيا. (قال قلت سبحان الله ما هذان) أي: المضطجع والموكل بعذابه (قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور) تنور الخبز، قال الكواشي في تفسيره: هو في جميع اللغات مستعمل بهذا المعنى، قالوا: ولا لفظ له سواه. قال البرماوي: وهو من الغرائب. وقال السيوطي في التوشيح: قيل هو معرب. وقيل: عربي.
وهو في الأكثر يكون حفيرة في الأرض، وربما كان على وجه الأرض. ووهم من خصه بالأول اهـ. (فأحسب) أي: أظن بكسر المهملة (أنه قال فإذا فيه لغط) بفتح اللام والغين المعجمة وبالطاء المهملة قال في المصباح: هو كلام فيه جلبة واختلاط، ولا يتبين (وأصوات فاطلعنا فيه) بتشديدء الطاء المهملة (فإذا فيه رجال ونساء عراة) بضم المهملة

(8/377)


وَإِذَا هُمْ يَأتِيِهمْ لَهَبٌ مِنْ أسْفَلَ مِنْهُمْ، فإذا أتاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا. قُلْتُ: مَا هَؤلاءِ؟ قَالا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ " حَسِبْتُ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " أَحْمَرُ مِثْلُ الدَّمِ، وَإِذَا في النَّهْرِ رَجُلٌ سابحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كثيرةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابحُ يَسْبَحُ، مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فاهُ، فَيُلْقِمُهُ حَجَراً، فَينْطَلِقُ فَيَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ، فَغَرَ لَهُ فَاهُ، فَألْقَمَهُ حَجَراً، قُلْتُ لهُما: مَا هذانِ؟ قالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَريهِ المرْآةِ، أَوْ كَأكْرَهِ مَا أنتَ رَاءٍ رجُلاً مَرْأىً، فإذا هُوَ عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا. قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟ قالاَ لي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتخفيف الراء: جمع عار كغاز وغزاة (وإذا هم يأتيهم لهب) بفتح أوله (من أسفل منهم) جر بالفتحة نيابة عن الكسرة لمنع صرفه؛ ويتعلق به قوله (فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا) أي: رفعوا أصواتهم مختلفة (قلت ما هؤلاء قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر) بإسكان الهاء، ويجوز فتحها (حسبت أنه كان يقول) إن كان هذا الكلام من الصحابي، شك في المأتي به بعدها. فالضمائر تعود للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان مما بعده فيرجع للراوي المحدث عنه (أحمر مثل الدم) وكل من أحمر ومثل: مجروران صفةً لنهر، وفي نسخة من الرياض: ضبطهما بالرفع، ولعله على قطعهما عن المنعوت وجعلهما مبتدأ (وإذا في النهر رجل سابح) بالموحدة (يسبح وإذا على شط) بفتح المعجمة وتشديد المهملة أي: جانب (النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة) أتي بالوصف لدفع توهم أن التنوين للتقليل؛ (وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح) قال الحافظ: بفتح أوليه والموحدة خفيفة، لكن رأيته في نسخ من الرياض بالمضارع (ثم يأتي ذلك) أي: إلى الجالس على الشط (الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه) بضم التحتية (حجراً فينطلق ليسبح ثم يرجع إليه كلما رجع ّإليه فغر له فاه فألقمه حجراً فقلت لهما ما هذان) أي: السابح والملقم له الحجر (قال لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة) كريه بالكاف والراء والتحتية، بوزن فعيل من الكراهية، والمرآة يأتي الكلام عليها (أو) شك من الراوي في أنه قال كريه المرآة، أو قال (كأكره ما أنت راء رجلاً مرأى) وفي نسخة "مرآة"، وراء اسم فاعل، من رأي البصرية.
ورجلا مفعوله، ومرأى تمييز (وإذا هو عند نار يحشها ويسعى حولها) بالنصب على الظرفية

(8/378)


الرَّبيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَي الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَويلٌ لا أَكادُ أَرَى رَأسَهُ طُولاً في السَّماءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلدانٍ رَأيْتُهُمْ قَطُّ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ وَمَا هؤلاءِ؟ قالا لي: انْطَلقِ انْطَلقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا إِلَى دَوْحَةٍ عَظيمةٍ لَمْ أَرَ دَوْحَةً قَطُّ أعْظمَ مِنْهَا، وَلاَ أحْسَنَ! قالا لي: ارْقَ فِيهَا، فارْتَقَيْنَا فِيهَا إِلَى مَدينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبنٍ ذَهَبٍ وَلَبنٍ فِضَّةٍ، فَأَتَيْنَا بَابَ المَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا، فَفُتِحَ لَنَا فَدَخَلْنَاها، فَتَلَقَّانَا رِجالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كأَحْسَنِ مَا أنت راءٍ! وَشَطْرٌ مِنْهُمْ كأقْبَحِ مَا أنتَ راءٍ! قالا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(قلت لهما ما هذان قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة) أي: مخصبة (فيها من كل نور) كذا في الرياض، بفتح النون وآخره راء زهر وهي رواية الكشميهني، والأكثر وفي رواية للبخاري لون بلام أوله، ونون آخره أي: لون (الربيع وإذا بين ظهري) بفتح الراء وكسر التحتية لالتقاء الساكنين؛ تثنية ظهر أي: وسط (الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً) تمييز (في السماء) متعلق به (وإذا حول الرجل من أكثر ولدان) بكسر الواو (ما رأيتهم) أي: أبصرتهم (قط) قال الطيبي: أصل الكلام وإذا حول الرجل ولدان، ما رأيت ولدانا قط أكثر منهم، ونظيره قوله بعد ذلك، لم أر روضة قط أعظم منها، ولما أن كان هذا التركيب يتضمن معنى النفي، جازت زيادة من وقط، التي تختص بالماضي المنفي. وقال ابن مالك: جاز استعمال قط في المثبت في هذه الرواية وهو جائز، وغفل عنه أكثرهم، فخصوه بالمنفى، قال في الفتح: والذي وجه به الطيبي حسن جداً، ووجهه الكرماني: بأنه يجوز أن يكون المنفي، المعنى الذي يلزم من التركيب. إذ المعنى ما رأيتهم أكثر من ذلك، أو أداة النفي مقدرة (قلت ما هذا وما هؤلاء قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها ولا أحسن) قال الحافظ في الفتح: قوله يعني البخاري فأتينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط، أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي أرق، فإنه بعد أن ذكر المتن. كذلك في رواية أحمد والنسائي وأبي عوانة والإِسماعيلي. ودرجة بدل روضة اهـ. فهذا صريح في أن لفظ البخاري: روضته، وحينئذ فما في الرياض، لعله من قلم النساخ (قالا لي أرق فيها فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن) بفتح فكسر اسم جنس جمعي واحده لبنة (ذهب ولبن فضة) قال في الفتح: أصل اللبن ما يبنى به من طين (فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح) بصيغة المجهول نائب فاعله لنا فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خلقهم) بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام، وبالقاف أي: هيئتهم المدركة بحاسة البصر. وفي نسخة "شطر منهم" (كأحسن ما) أي: الذي (أنت راء) أي: إليه (حسن) بفتح

(8/379)


ذَلِكَ النَّهْرِ، وَإِذَا هُوَ نَهْرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كأنَّ ماءهُ المَحْضُ في البَيَاضِ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ. ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا في أحْسَنِ صُورَةٍ" قَالَ: "قالا لِي: هذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وهذاك مَنْزِلُكَ، فسَمَا بَصَري صُعُداً، فإذا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ البَيضاءِ، قالا لي: هذاكَ مَنْزلكَ؟ قلتُ لهما: باركَ اللهُ فيكُما، فذَراني فأدخُلَه. قالا لي: أمَّا الآنَ فَلاَ، وأنتَ دَاخِلُهُ، قُلْتُ لَهُمَا: فَإنِّي رَأيتُ مُنْذُ اللَّيْلَة عَجَباً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أوليه المهملين (وشطر) أي: نصف (منهم كأقبح ما أنت راء) شطر مبتدأ، وكأحسن خبر، والكاف زائدة، والجملة صفة رجال. قال الحافظ: وهذا الإِطلاق، يحتمل أن يكون المراد منه أن نصفهم حسن كلّه، ونصفهم قبيح كله. ويحتمل أن يكون المراد كله: واحد نصفه حسن، ونصفه قبيح، والثاني هو المراد. ويؤيده في قوله في صفتهم هؤلاء، قوم خلطوا عملاً صالحاً أي: عمل كل منهم عملاً صالحاً خلطه بسيء (قالا) أي: الملكان (لهم) للرجال المذكورين (اذهبوا فقعوا في ذلك النهر) أي: انغمسوا فيه لتغسل تلك الصفة القبيحة، بهذا الماء الصافي الخالص (وإذا هو) أي: النهر المشار إليه (نهر معترض) أي: يجري عرضاً (كان ماءه) المحض أي: اللبن الخالص عن الماء، حلواً كان أولاً، وبين جهة التشبيه بقوله (في البياض) قال الطيبي: ويحتمل أن يراد بالماء المذكور عفو الله تعالى عنهم، وتوبته عليهم، كما في الحديث: "اغتسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" (فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم) أي: صار الشطر القبيح، كالشطر الحسن. ولذا قال: (فصاروا في أحسن صورة) والجملة مدخول قد حالية، ومدخول الفاء معطوفة على جملة رجعوا (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقالا لي هذه جنة عدن) يعني المدينة، وهي بفتح المهملة الأولى، وسكون الثانية، من عدن بالمكان إذا أقام به (وهذا منزلك) بالرفع، خبر لاسم الاشارة (فسما) بفتح المهملة، والميم الخفيفة، أي: نظر (بصري) إلى فوق (صعدا) قال الحافظ: ضبط بضم المهملتين، أي: ارتفع كثيراً، وضبطه ابن التين: بفتح العين واستبعد ضمها (فإذا قصر مثل الربابة) يأتي معناها، وفي رواية: "فرفعت رأسي فإذا هو في السحاب" وقصر مبتدأ، ومثل صفته، والخبر محذوف. وقيل: هو إذا الفجائية، ووصف الربابة زيادة في الإِظهار بقوله: (البيضاء قالا لي هذا منزلك قلت لهما بارك الله فيكما فذراني فأدخله قالا أما الآن فلا) ويأتي بيان ذلك في الرواية الثانية. وقولهما بقي لك عمر (وأنت داخله) دون غيرك، كما يؤذن به تعريف الجزأين (قلت لهما فإني رأيت منذ الليلة) أي: فيها (عجباً) بفتح أوله المهمل، فالجيم وبالموحدة، أي: أموراً يتعجب منها

(8/380)


فما هَذَا الَّذِي رأيتُ؟ قالا لي: أمَا إنَّا سَنُخْبِرُكَ: أَمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأسُهُ بالحَجَرِ، فإنَّهُ الرَّجُلُ يَأخُذُ القُرآنَ فَيَرفُضُهُ، ويَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ المَكتُوبَةِ. وأمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، ومِنْخَرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فإنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الكِذْبَةَ تَبْلُغُ الآفاقَ. وأمَّا الرِّجَالُ والنِّسَاءُ العُراةُ الَّذِينَ هُمْ في مثْلِ بناءِ التَّنُّورِ، فَإنَّهُمُ الزُّنَاةُ والزَّواني، وأما الرجلُ الذي أتيتَ عَليهِ يَسْبَحُ في النهرِ، ويلقم الحجارةَ، فإنَّهُ آكلُ الربا، وأمَّا الرَّجُلُ الكَريهُ المرآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فما هذا الذي رأيت) يحتمل السؤال عن الحقيقة والوصف القائم بها، وكذا يحتملهما الجواب (قالا لي أما) بتخفيف الميم (إنا سنخبرك) السين فيه لتأكيد الوعد (أما الرجل الأول الذي أتيت) بقصر الهمزة أي: مررت (عليه) حال كونه (يثلغ رأسه) بضم التحتية، وبالمثلثة، وبالمعجمة (بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن) أي: يحفظه (فيرفضه) بكسر الفاء وبضمها (وينام عن الصلاة المكتوبة) قال ابن هبيرة: رفض القرآن بعد حفظه كبيرة عظيمة، لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه؛ فلما رفض أشرف الأشياء، وهو القرآن، عوقب في أشرف الأعضاء، وهو الرأس. (وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل) ذكره لكونه هو الغالب لا مفهوم له مخرجاً للمرأة؛ (يغدو) أي: يخرج (من بيته فيكذب الكذبة) بفتح فسكون المرة من الكذب (تبلغ الآفاق) بمد الهمزة، وبالفاء والقاف: جمع أفق بضم أوليه وبضم فسكون. قال في القاموس: هو الناحية، أو ما ظهر من نواحي الفلك، أو مهب الجنوب والشمال والدبور والصبا اهـ. (وأما الرجال والنساء العراة) بضم العين المهملة جمع عار، هو المجرد عن الثوب (الذين هم في مثل بناء التنور فهم الزناة) أي: من الرجال (والزواني) من النساء، مناسبة العرى لهم لاستحقاقهم. أن يفضحوا، لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة؛ فعوقبوا في الهتك.
والحكمة في كون العذاب لهم من تحتهم كون، جنايتهم من أعضائهم السفلى. (وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم) بالبناء للمفعول (الحجارة فإنه آكل الربا) قال ابن هبيرة: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجر: لأن أصل الربا يجري في الذهب وهو أحمر؛ وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئاً؛ وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد، والله تعالى من ورائه يمحقه (وأما الرجِل الكريه المرآة) بفتح الميم والهمزة الممدودة أي: المنظر (الذي عنده النار يحشها

(8/381)


وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فإنَّهُ مالكٌ خازِنُ جَهَنَّمَ، وأمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الَّذِي في الرَّوْضَةِ، فإنَّهُ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا الولدان الَّذِينَ حَوْلَهُ، فكلُّ مَوْلُودٍ ماتَ عَلَى الفِطْرَةِ" وفي رواية البَرْقانِيِّ: "وُلِدَ عَلَى الفِطْرَةِ" فَقَالَ بعض المُسلمينَ: يَا رسولَ الله، وأولادُ المُشركينَ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وأولادُ المشركينَ، وأما القومُ الذينَ كانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ، وشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبيحٌ، فإنَّهُمْ قَومٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً، تَجاوَزَ الله عنهم". رواه البخاري. وفي روايةٍ لَهُ: "رَأيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أتيَانِي فأخْرَجَانِي إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويسعى حولها فإنه مالك خازن النار) وإنما كان كريه الرؤية، زيادة في تعذيب أهل النار (وأما الرجل الطويل الذي في الروضة) قال في المصباح: هو الموضع المعجب بالزهور (فإنه إبراهيم) وإنما اختص إبراهيم بذلك: لأنه أبو المسلمين؛ قال تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) (1) وقال تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) (2) الآية (وأما الوالدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة) أي: الإِسلام (وفي رواية) أخرى (للبرقاني ولد على الفطرة) قال الحافظ في الفتح: وهو أشبه بقوله (فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين) قال الحافظ: لم أقف على اسم القائل، وهذا يسمى بالعطف التلقيني، نظير الاستثناء التلقيني في قول العباس، إلا الأذخر (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأولاد المشركين) ظاهره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألحقهم بأولاد المسلمين في حكم الآخرة، ولا يعارض قوله في الحديث الآخر: "هم من آبائهم" لأن ذلك في حكم الدنيا؛ (وأما القوم الذين كانوا) وجملة (شطر) أي: نصف (منهم حسن) خبر، والرابط الضمير المجرور. وأعرب الحافظ كان: تامة، وجعل الجملة حالية (وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) قال السيد معين الدين الصفوي في جامع البيان: قيل الواو بمعنى الباء، كما في بعت الشاة شاة ودرهماً أي: بدرهم. والأولى: أن الواو على أصله، دال على أن كل واحد مخلوط بالآخر، كما تقول: خلطت الماء واللبن أي: خلطت كل واحد منهما بصاحبه، كما إذا قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء (تجاوز الله عنهم) أي: غفر لهم (رواه البخاري) قال الحافظ المزي: حديث "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح أقبل علينا بوجهه" الحديث بطوله، رواه مقطعاً في الصلاة، وفي الجنائز، والبيوع، والجهاد وبدء الخلق وصلاة الليل، وأحاديث
__________
(1) سورة الحج، الآية: 78.
(2) سورة آل عمران، الآية: 68.

(8/382)


أرْضٍ مُقَدَّسَةٍ" ثُمَّ ذَكَرَهُ وقال: " فَانْطَلَقْنَا إِلَى نَقْبٍ مثلِ التَّنُّورِ، أعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأسْفَلُهُ واسِعٌ؛ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ ناراً، فإذا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادُوا أنْ يَخْرُجُوا، وَإِذَا خَمَدَتْ! رَجَعُوا فِيهَا، وفيها رِجالٌ ونِساءٌ عراةٌ ". وفيها: " حَتَّى أتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ " ولم يشكَّ " فِيهِ رَجُلٌ قائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهْرِ وعلى شطِّ النَّهرِ رجلٌ، وبينَ يديهِ حِجارةٌ، فأقبلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأنبياء والتفسير والتعبير. ورواه مسلم في الرؤيا، ورواه الترمذي مختصراً وقال: حسن صحيح. ورواه النسائي اهـ. وتعقب المزي، بأن البخاري، ساق الحديث بتمامه في كل من الجنائز والتعبير، وفيما عداه في كل موضع قطعة. ورواه في صلاة الليل بقصر مجحف للغاية، وكذا اختصره في التفسير، وهو في تفسير براءة (وفي رواية له) أي: للبخاري، أو ردها في الجنائز (رأيت الليلة رجلين) أي: على صورتهما (أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة) بصيغة المفعول من التقديس أي: التطهير (ثم ذكره) أي: الإِخراج إليها أي: من بيته (قال فانطلقنا إلى نقب) بفتح النون وسكون القاف أي: خرق. مصدر نقبت الحائط أنقبه من باب قتل (مثل التنور) وبين وجه شبهه بقوله: (أعلاه ضيق وأسفله) بالرفع (واسع يتوقد) بالتحتية (تحته) أي: النقب (ناراً) قال الدماميني في المصابيح: كلام ابن مالك صريح في أن تحته ظرف منصوب، لا مرفوع فإنه قال: نصب ناراً على التمييز، وفاعل يتوقد: ضمير يعود على النقب، والأصل يتوقد ناره تحته. قال: ويجوز أن يكون فاعل يتوقد موصولاً بتحته، فحذف. وبقيت صلته دالة عليه لوضوح المعنى؛ أي: يتوقد الذي، أو ما تحته ناراً، وهو مذهب الكوفيين والأخفش. واستصوبه ابن مالك، واستدل عليه بأمور قررها في توضيحه فلتراجع فيه اهـ. (فإذا ارتفعت ارتفعوا) بحمل لهيبها لهم (حتى كادوا) أي: قاربوا (أن يخرجوا) فيه إدخال أن في خبر كاد ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما كدت أن أصلي العصر، حتى كادت الشمس أن تغرب. والأكثر تجرده منها، قال تعالى: (وما كادوا يفعلون يكاد زيتها يضيء) (1) (وإذا خمدت) بالمعجمة أي: سكن لهبها مع بقاء حمرة الجمر بحالها (2) (رجعوا فيها) إلى الأسفل (وفيها رجال ونساء عراة وفيها) أي: هذه الرواية (حتى أتينا على نهر من دم) بالجزم (ولم يشك) الراوي، كما شك في الأولى، حيث قال: حسبت أنه قال أحمر مثل الدم (فيه) أي: النهر (رجل قائم على وسط النهر) بفتح السين المهملة على الأفصح، ويجوز إسكانها، وبإسكان الهاء، ويجوز فتحها (وعلى شطر النهر
__________
(1) سورة النور، الآية: 35.
(2) عبارة المصباح: خمدت النار خموداً من باب تعب ماتت فلم يبق منها شيء وقيل سكن لهبها وبقي جمرها اهـ. ع.

(8/383)


الرجلُ الذي في النَّهرِ، فَإذَا أرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ في فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ جَعَلَ يَرْمِي في فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيْرَجِعْ كما كَانَ ". وفيها: " فَصَعِدَا بي الشَّجَرَةَ، فَأدْخَلاَنِي دَاراً لَمْ أرَ قَطُّ أحْسَنَ مِنْهَا، فيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ ". وفيها: " الَّذِي رَأيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ، يُحَدِّثُ بِالكِذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ "، وَفِيهَا: " الَّذِي رَأيْتَهُ يُشْدَخُ رَأسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بالنَّهارِ، فَيُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رجل وبين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج) أي: منه (رمى) الذي في الشط (حجراً في فيه) أي: الرجل المريد للخروج، إيماء إلى خيبته، كما في الحديث "وللعاهر الحجر" (فرده حيث كان فجعل) أي: الذي في الشط (كلما جاء ليخرج) أي: الذي في النهر (جعل يرمي) أي: الذي في الشط (في فيه) أي: الذي في النهر (بحجر فيرجع كما كان) أي: على كونه فيه. قال الدماميني في قوله رمى الخ: وقوع خبر جعل، التي هي من أفعال الشروع، جملة فعلية مصدرة بكلما، والأصل أن يكون مضارعاً. تقول جعلت أفعل كذا، وما جاء بخلافه: فمبني على أصلٍ متروك، وهو أن أفعال المقاربة مثل كان، في الدخول على مبتدأ وخبر، فالأصل كون خبرها كخبر كان في وقوعه مفرداً وجملة اسمية وفعلية وظرفية، فترك ذلك والتزم كون الخبر مضارعاً. وقد يجيء على الأصل المتروك شذوذاً (وفيها) أي: الرواية المذكورة (فصعدا) بكسر المهملة الثانية (بي الشجرة) قبله فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء، فيها شجرة عظيمة، إلى أن قال: فصعدا بي الشجرة (فأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها فيها رجال شيوخ) بضمتين، أو بكسر فضم: أحد جموع لفظ شيخ (وشباب) بمعجمة وموحدتين (وفيها) أي: الرواية المذكورة في قوله: (الذي رأيته يشق شدقه) بالبناء للمفعول (فكذاب) قال ابن مالك: أدخل الفاء لتضمن الموصول العموم؛ إذ ليس المراد به معيناً، بل هو وأمثاله. وكذا الباقي اهـ. وهذا أحسن مما يأتي عن الدماميني لما فيه من إجرائه، على العام الغالب، والمبالغة باعتبار الكيف كما قال (يحدث بالكذبة) بالكسر قال البرماوي أي: ينشئها كما تقدم في الرواية قبلها (فتحمل) بصيغة المجهول، فالميم مخففة. وقال الزركشي مشددة (عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع) بصيغة المجهول (به) ونائب الفاعل مستتر، يعود إلى ما ذكر من العذاب (إلى يوم القيامة وفيها) أي: الرواية المذكورة (الذي رأيته يشدخ في رأسه فرجل علمه الله القرآن) قال الدماميني في المصابيح: الأصل في الموصول، الذي تدخل الفاء في حيزه، أن يكون

(8/384)


" ضَوْضَوا " وَهُوَ بضادين معجمتين: أيْ صاحوا. قَوْله: " فَيَفْغَرُ " هُوَ بالفاء والغين المعجمة، أيْ: يفتح. قَوْله " المَرآة " هُوَ بفتح الميم، أيْ: المنظر. قَوْله: " يَحُشُّها " هُوَ بفتح الياءِ وضم الحاء المهملة والشين المعجمة، أيْ: يوقِدُها. قَوْله: " رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ " هُوَ بضم الميم وإسكان العين وفتح التاء وتشديد الميم، أيْ: وافية النَّباتِ طَويلَته. قَولُهُ: " دَوْحَةٌ " وهي بفتحِ الدال وإسكان الواو وبالحاءِ المهملة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المشددة وهو معروف) قال الجوهري: هو المنشار، وكذا الكلاب، والجمع كلاكليب وقال ابن بطال: الكلوب: خشبة في رأسها غفافة. قال الدماميني: لا يتأتى تفسير الحديث بهذا لتصريحه بأنه من حديد؛ قلت: لعل مراد ابن بطال أنه من الحديد، بصورة الذي في الخشب، ثم رأيت البرماوي فسرها بذلك، فقال: حديدة لها شعب يعلق فيها اللحم (قوله فيشرشر أي: يقطع) بتشديد الطاء والتفعيل لتكرير الفعل؛ (ضوضوا هو بضادين معجمتين) مفتوحتين، قال في الفتح: بغير همز للأكثر، وحكي الهمز، ومنهم من يسهله (أي: صاحوا) بأصوات مختلفة وفي النهاية: الضوضأة أصوات الناس ولغطهم، وكذا الضوضي: بلا هاء مقصور قال الحميدي: المصدر بغير همز (قوله فيفغر هو بالفاء والغين المعجمة أي: يفتح) هو بمعناه وبوزنه (قوله المرآة هو بفتح الميم) وسكون الراء، وهمزة ممدودة بعدها هاء تأنيث (أي: المنظر) قال ابن التين: أصله المرأية، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً، ووزنها مفعلة (قوله يحشها هو بفتح الياء) التحتية (وضم الحاء المهملة وبالشين المعجمة) أي: المشددة من الثلاثي، وحكي في المطالع ضم أوله من الرباعي. وفي الرواية الثانية التي أشار إليها المصنف، يخشها بضم المعجمتين (أي: يوقدها وقوله روضة) وهي كما تقدم الموضع المعجب بالزهور (معتمة هو بضم الميم وإسكان العين) المهملة (وفتح التاء) الفوقية (وتشديد الميم) هذا الضبط، نسبه في الفتح لبعضهم، وبدأ قبله بأنه بكسر المثناة وتخفيف الميم (أي: وافية النبات طويلته) قال في الفتح يقال: اعتم النبت إذا اكتمل، ونخلة عتمة طويلة. وقال الداودي: اعتمت الروضة غطاها الخصب، هذا على روايته بتشديد الميم. قال ابن التين: ولا يظهر للتخفيف وجه. قلت الذي يظهر: أنه من العتمة، وهي شدة الظلام، فوصفها بشدة الخضرة كقوله تعالى: (مدهامتان) (1) وضبطه ابن بطال روضة مغنة، بكسر الغين وتشديد النون. ثم نقل عن أبي زيد، روض غن ومغن، إذا كثر
__________
(1) سورة الرحمن، الآية: 64.

(8/386)


وهي الشَّجَرَةُ الكَبيرةُ. قَوْلهُ: " المَحْضُ " هُوَ بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة وبالضَّادِ المعجمة، وَهُوَ: اللَّبَنُ. قَوْلهُ " فَسَمَا بَصَري " أيْ: ارْتَفَعَ. و" صُعُداً " بضم الصاد والعين، أيْ: مُرْتَفعاً. وَ" الربَابَةُ " بفتح الراءِ وبالباء الموحدة مكررةً، وهي: السَّحابَة (1) (2) .
261- باب في بيان مَا يجوز من الكذب
اعلَمْ أنَّ الكَذِبَ، وإنْ كَانَ أصْلُهُ مُحَرَّماً، فَيَجُوزُ في بَعْضِ الأحْوَالِ بِشُروطٍ قَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شجره، وقال الخليل روضة غناء، كثيرة العشب (قوله دوحة هي بفتح الدال المهملة وإسكان الواو وبالحاء المهملة وهي الشجرة الكبيرة) أي: شجرة كانت قال في المصباح والجمع دوح و (قوله المحض هو بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة وبالضاد المعجمة وهو اللبن) يفيد أن لا يخالطه ماء، والمحض: الخالص الذي لم يخالطه غيره. وأنت الضمير أولاً باعتبار أنها كلمة، وذكره ثانياً نظراً لأنه لفظ، أو لأن الخبر مذكر؛ و (قوله فسما بصرى) بالفاء العاطفة، وسها فعل ماض (أي: ارتفع وصعداً بضم الصاد والعين) بمهملات (أي: مرتفعاً) أي: إن صعداً بمعنى صاعد، وهو بمعنى مرتفع، فهو منصوب على الحال (والربابة بفتح الراء وبالباء الموحدة مكررة وهي السحابة) البيضاء، ويقال لكل سحابة منفردة عن السحاب، ولو لم تكن بيضاء، وقال الخطابي: الربابة السحابة التي ركب بعضها على بعض.
باب بيان ما يجوز من الكذب
للمصلحة المترتبة عليه: (اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرماً) أي: إذا كان على وجه التعمد (فيجوز) أي: لا يمتنع (في بعض الأحوال) وتارة يكون واجباً، وتارة يكون مندوباً، وأخرى مباحاً، (بشروط) جمع شرط، وهو لغة العلامة. وشرعاً ما يلزم من عدمه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح (3/200، 201) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (5/220) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب. باب: تحريم الكذب، وبيان المباح منه (الحديث: 101) .

(8/387)


أوْضَحْتُهَا في كتاب: " الأَذْكَارِ "، ومُخْتَصَرُ ذَلِكَ: أنَّ الكلامَ وَسيلَةٌ إِلَى المَقَاصِدِ، فَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الكَذِبِ يَحْرُمُ الكَذِبُ فِيهِ، وإنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ إِلاَّ بالكَذِبِ، جازَ الكَذِبُ. ثُمَّ إنْ كَانَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ المَقْصُودِ مُبَاحاً كَانَ الكَذِبُ مُبَاحاً، وإنْ كَانَ وَاجِباً، كَانَ الكَذِبُ وَاجِباً. فإذا اخْتَفَى مُسْلِمٌ مِنْ ظَالِمٍ يُريدُ قَتْلَهُ، أَوْ أَخذَ مَالِهِ وأخفى مالَه وَسُئِلَ إنْسَانٌ عَنْهُ، وَجَبَ الكَذِبُ بإخْفَائِه. وكذا لو كانَ عِندَهُ وديعَةٌ، وأراد ظالمٌ أخذها، وجبَ الكذبُ بإخفائها. وَالأحْوَطُ في هَذَا كُلِّهِ أن يُوَرِّيَ. ومعْنَى التَّوْرِيَةِ: أنْ يَقْصِدَ بِعِبَارَتِهِ مَقْصُوداً صَحيحاً لَيْسَ هُوَ كَاذِباً بالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وإنْ كَانَ كَاذِباً في ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وبالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَفْهَمُهُ المُخَاطَبُ، وَلَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ وَأطْلَقَ عِبَارَةَ الكَذِبِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ في هَذَا الحَالِ.
وَاسْتَدَل العُلَمَاءُ بِجَوازِ الكَذِبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته (قد أوضحتها في كتاب الأذكار ومختصر ذلك) أي: ملخص ما فيه (إن الكلام وسيلة) أي: متوسلاً به (إلى المقاصد) فلذا كان من ألطاف وضع اللغة، ليعبر الإِنسان عن مقصوده؛ (فكل مقصود محمود) شرعاً (يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه) لأنه لا داعي إلى الإتيان والمقصود حاصل بدونه، فارتكابه حينئذ، ارتكاب محرم بلا داع (وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب) أي: لا يمتنع، وليس المراد به الجواز بمعنى الإباحة، حتى يشكل بأنه يكون حينئذ واجباً تارة، ومندوباً أخرى، كما قال (ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً كان الكذب مباحاً) لأنه وسيلة لمباح؛ وللوسائل حكم المقاصد (وإن كان واجباً كان الكذب واجباً فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله) أي: ظلماً، كما يومىء إليه لفظة ظالم (أو أخذ ماله) كذلك، (وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه) وأنه ما رآه (وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها وجب الكذب باخفائها) ومحل وجوب الكذب فيهما، ما لم يخش التبين، ويعلم أنه يترتب عليه ضرر شديد، لا يحتمل (والأحوط في هذا كله أن يوري) من التورية، وهي إيراد لفظ له معنيان، قريب وبعيد، ويراد البعيد منهما كما قال (ومعنى التورية) المأخوذة من قوله يوري (أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً فيه بالنسبة إليه) أي: لذلك المقصود (وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ بالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب) لكونه المعنى القريب؛ كأن يريد بقوله: ما رأيته ما ضربت رئته، وبقوله ما له عندي مال دانقاً، أو نحوه بما ليس من جنس المسئول عنه (ولو ترك التورية وأطلق عبارة (الكذب) إضافة بيانية (فليس

(8/388)


فهل عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِيني؟ فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "المُتَشَبِّعُ بِما لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ". متفق عَلَيْهِ. "وَالمُتَشَبِّعُ": هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الشَّبَعَ وَلَيْسَ بِشَبْعَان. ومعناهُ هُنَا: أنْ يُظْهِرَ أنَّهُ حَصَلَ لَهُ فَضيلَةٌ وَلَيْسَتْ حَاصِلَةً. "وَلابِسُ ثَوْبَي زُورٍ" أيْ: ذِي زُورٍ، وَهُوَ الَّذِي يُزَوِّرُ عَلَى النَّاسِ، بِأنْ يَتَزَيَّى بِزِيِّ أهْلِ الزُّهْدِ أَو العِلْمِ أَو الثَّرْوَةِ، لِيَغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ وَلَيْسَ هُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَقَيلَ غَيرُ ذَلِكَ واللهُ أعْلَمُ. (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضرة) بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الراء. قال في المصباح: وهي امرأة الزوج، والجمع ضرات على القياس، وسمع ضرائر، كأنها جمع ضريرة مثل كريمة وكرائم. ولا يكاد يوجد لها نظير (فهل عليّ جناح) بضم الجيم أي: (أن) بفتح الهمزة أي: في أن (تشبعت) بتشديد الموحدة (من زوجي غير الذي يعطيني) وذلك تفعله المرأة إظهاراً لرفعتها على ضرتها عند الزوج: لتغيظها به؛ (فقال - صلى الله عليه وسلم - المتشبع بما لم يعط) بصيغة المجهول (كلابس ثوبي زور متفق عليه) . ورواه أحمد وأبو داود من حديثها. ورواه مسلم من حديث عائشة (المتشبع هو الذي يظهر الشبع وليس بشبعان) هذا معنى اللفظ لغة (ومعناه) أي: المراد منه (هنا أنه) أي: المتشبع (يظهر أنه يحصل له فضيلة) من علم، أو جاه، أو رفعة. (وليست حاصلة ولابس ثوبي زور) المشبه به، المتشبع، فيه مضاف مقدر (أي: ذي زور، وهو الذي يزور على الناس، بأن يتزيا بزي) بكسر الزاي، أي: الهيئة. وأصله زوي (أهل الزهد) من خشونة الملبوس، والترفع على أهل الدنيا (أو) أهل (العلم) بأن يلبس لباسهم المعروف بهم (أو) أهل (الثروة) بفتح المثلثة وسكون الراء كثرة المال (ليغتر به الناس) فيتبركوا به في الأول، ويعطوه وظائف أهل العلم في الثاني، ويأمنوه على أموالهم في الثالث. (وليس هو بتلك الصفة) جملة حالية من ضمير يتزيا (وقيل غير ذلك) وفي فتح الباري: وقيل المراد بالثوب النفس، لقولهم: فلان نقي الثوب، إذا كان بريئاً من الدنس، ودنس الثوب، إذا كان مغموصاً عليه في دينه. قال الخطابي: الثوب مثل، ومعناه أنه صاحب زور وكذب. كما يقال لمن يوصف بالبراءة من الأدناس، طاهر الثوب. والمراد به نفس الرجل. وقيل المراد أن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: التشبع بما لم ينل (9/278، 279) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يُعط، (الحديث: 127) .

(8/391)


264- باب في تحريم لعن إنسان بعينه أَو دابة
1549- عن أَبي زيدٍ ثابت بن الضَّحَّاك الأنصاريِّ - رضي الله عنه -، وَهُوَ من أهلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلاَمِ كاذِباً مُتَعَمِّداً، فَهُوَ كَما قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ، عُذِّبَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فيما لا يَمْلِكُهُ، وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ". متفق عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تحريم لعن إنسان بعينه
أي: إن لم يتيقن موته على الكفر، أما من تيقن موته عليه فلا، سواء مات، كأبي جهل وأمثاله، أولا كإبليس وأجناده. وإنما حرمت اللعنة فيما عداه، لأنها طرد عن رحمة الله؛ ولا يعلم ذلك إلا بتوقيف. والحي الكافر إيمانه مرجو، فيدخل في أهلها (أو دابة) أي مثلاً وكذا كل مخلوق من النبات والجماد.
1549- (وعن أبي زيد ثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة (ابن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه وهو من أهل بيعة الرضوان) أي: البيعة التي نزل فيها قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (2) وكانت بالحديبية، سنة ست من الهجرة، سببها، أنه أشيع، أن قريشاً قتلوا عثمان بن عفان، فبايع - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على قتالهم إن صح ذلك الخبر. (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين بملة غير الإِسلام كاذباً متعمداً) كأن قال والله إن فعلت كذا، فهو يهودي أو نصراني (فهو كما قال) أي: إذا أراد التدين بذلك، والعزم عليه إن فعل ذلك، فيصير كافراً حالاً، لأن العزم على الكفر كفر. أما إذا أراد المبالغة في منع نفسه من ذلك، وألا يفعله ألبتة من غير عزم على ذلك المحلوف به ألبتة، فمعصية يستغفر الله منها. وأتى بعلى التي للاستعلاء إيماء إلى عقد قلبه على تلك اليمين، وأنه لو جرى ذلك على لفظه، من غير قصدٍ لم يكن كما ذكر في الحديث (ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة) ليكون الجزاء من جنس العمل؛ (وليس على رجل نذر فيما
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز واللعن، والإِيمان باب: من حلف بملة سوى الإِسلام مع اختلاف في بعض الألفاظ، باب: ما جاء في قاتل النفس وفي الأدب، باب ما ينهى عنه من السباب، (الحديث: 10/389) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: غلظ تحريم قتل النفس ... (الحديث 176) .
(2) سورة الفتح، الآية: 18.

(8/394)


وَلاَ بِغَضَبِهِ، وَلاَ بِالنَّارِ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1553- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الفَاحِشِ، وَلاَ البَذِيِّ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
1554- وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ العَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئاً، صَعدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّماءِ، فَتُغْلَقُ أبْوابُ السَّماءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا بغضبه ولا بالنار) يحتمل أن تكون المفاعلة على بابها، ويحتمل أنها للمبالغة، لا للمغالبة. وقوله ولا بغضبه ولا بالنار، أي: ولا يدعو أحدكم على أحد بكل منهما، وذلك لعظم شأنهما؛ (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح) ورواه الطيالسي والطبراني والحاكم في المستدرك، وأبو يعلى، وسعيد بن منصور، كما في الجامع الكبير.
1553- (وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس المؤمن) أي: الكامل الإِيمان (بالطعان) أي: الوقاع في أعراض الناس، بالذم والغيبة ونحوهما، وهو فعال من طعن فيه وعليه بالقول، يطعن بالفتح والضم إذا عابه: ومنه الطعن في النسب. قاله في النهاية (ولا اللعان) قال السيوطي في الدرر: اللعن من الله: الطرد والإِبعاد. ومن الخلق السب والدعاء (ولا الفحاش) هو: ذو الفحش في كلامه وفعاله (ولا البذاء) قال في النهاية: البذاء المباذاة، وهي المفاحشة، وقد بذأ يبذو بذاءة. وقال في المصباح: بذا على القوم يبذو بالفتح والمد سفه وأفحش في منطقه، وإن كان كلامه صدقاً فهو بذي على فعيل، وامرأة بذية كذلك، وأبذى بالألف وبذى وبذو، من بابي تعب وقرب، لغات فيه وبذأ يبذأ مهموز بفتحهما، بذاء وبذاءة بفتح الأول وبالمد (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد، والبخاري في الأدب، وابن حبان، والحاكم في المستدرك.
1554- (وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن العبد إذا لعن شيئاً) أدمياً كان، أو غيره، كما يؤذن به التعميم، المستفاد من ذكرها في سياق النكرة (صعدت) بكسر المهملة الثانية (اللعنة إلى السماء فتغلق) بالفوقية مبني للمجهول، للعلم بالفاعل ونائبه
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في اللعن، (الحديث: 4906) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، (الحديث: 1976) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، (الحديث: 1977) .

(8/396)


1556- وعن أَبي بَرْزَةَ نَضْلَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ القَوْمِ. إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَتَضَايَقَ بِهِمُ الجَبَلُ فَقَالَتْ: حَلْ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ". رواه مسلم.
قَوْله: "حَلْ" بفتح الحاء المهملة وَإسكانِ اللاَّم: وَهِيَ كَلِمَةٌ لِزَجْرِ الإبِلِ.
وَاعْلَمْ أنَّ هَذَا الحَدِيثَ قَدْ يُسْتَشكَلُ مَعْنَاهُ، وَلاَ إشْكَالَ فِيهِ، بَلِ المُرَادُ النَّهْيُ أنْ تُصَاحِبَهُمْ تِلْكَ النَّاقَةُ، وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ بَيْعِهَا وَذَبْحِهَا وَرُكُوبِهَا فِي غَيْرِ صُحْبَةِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ وَمَا سِوَاهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ جائِزٌ لا مَنْعَ مِنْهُ، إِلاَّ مِنْ مُصَاحَبَةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَا؛ لأنَّ هذِهِ التَّصَرُّفَاتِ كُلَّهَا كَانَتْ جَائِزَةً فَمُنِعَ بَعْض مِنْهَا، فَبَقِيَ البَاقِي عَلَى مَا كَانَ، واللهُ أَعلم (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1556- (وعن أبي برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء والزاي (نضلة) بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة (ابن عبيد) بصيغة التصغير (الأسلمي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الخوف (قال بينما جارية) امرأة شابة (على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت) بضم المهملة (بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتضايق بهم) أي: بالقوم الذين فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (الجبل فقالت حل) لتسرع في السير؛ (اللهم العنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تصاحبنا) لم يضبطه المصنف، أهو بسكون الباء، أو بفتحها وتشديد النون للتوكيد. وحذفت نون الضمير، فيكون نهياً أو بالفعل المرفوع فيكون خبراً لفظا نهياً معنى (ناقة عليها لعنة، رواه مسلم قوله حل بفتح الحاء المهملة وإسكان اللام وهي كلمة لزجر الإِبل) كما أن عدس بالمهملتين المفتوحتين، فالساكنة لزجر البغل (واعلم أن هذا الحديث قد يستشكل) بالبناء للمجهول (معناه) وذلك لما فيه من تسيب تلك الناقة؛ ولا سائبة في الإِسلام (ولا إشكال فيه) أي: عند التأمل والإمعان، وذلك أنه لم يأمر بتسييبها، ومنع التصرف فيها رأساً (بل المراد النهي أن تصاحبهم تلك الناقة) في سفر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (وليس فيه نهي عن بيعها وذبحها وركوبها، في غير صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -. بل كل ذلك وما سواه من التصرفات، جائز لا منع منه، إلا من مصاحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بها) أي: استثناء منقطع. (لأن هذه التصرفات كلها كانت جائزة فمنع بعضها) وهو صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بها (فبقي الباقي على ما كان) عليه وقوفاً مع الوارد (والله) تعالى (أعلم) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن لعب الدواب وغيرها (الحديث: 82) .

(8/398)


265- باب في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (ألاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَعنَ اللهُ الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوْصِلَةَ" (3) وَأنَّهُ قَالَ: "لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا" (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب جواز
أي إباحة (لعن أصحاب المعاصي غير المعينين. قال الله تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين وقال تعالى: فأذن مؤذن بينهم) أي نادى مناد (أن) مخففة من الثقيلة أي أن الشأن (لعنة الله على الظالمين وثبت في الصحيح) أي الحديث الصحيح (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعن الله الواصلة) وهي التي تصل شعرها بشعر آدمي، ولا فرق في حرمته، بين الزوجة غيرها، فإن وصلته بشعر غير آدمي، وهو نجس: حرم لأنه حمل نجاسة في صلاة وغيرها عمداً، أو وهو طاهر جاز إن كانت ذات حليل وأذن لها هذا تفصيل مذهبنا ومذهب مالك والطبري والأكثرون إلى تحريم الوصل مطلقاً سواء كان بشعر أو صوف أو خرق. وقال الليث بن سعد النهي عن الوصل بالشعر ولا بأس بوصله بغيره. والصحيح عن عائشة كقول الجمهور أما ربط خيوط الحرير الملونة مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه لأنه ليس بوصل ولا في معنى مقصود الوصل وإنما هو للتجمل والتزين قال المصنف وفي الحديث أن وصل الشعر من الكبائر للعن فاعلته (والمستوصلة) هي التي تطلب من يفعل بها ذلك ويقال لها موصولة. والحديث رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (لعن آكل الربا) هو شامل
__________
(1) سورة هود، الآية: 18.
(2) سورة الأعراف، الآية: 44.
(3) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ... (الحديث: 115) و (الحديث: 119) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: لعن آكل الربا ومؤكله، (الحديث: 105) .

(8/399)


مُحْدِثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَة والنَّاسِ أجْمَعينَ" (1) وأنَّه قَالَ: "اللَّهُمَّ الْعَنْ رِعْلاً، وَذَكْوَانَ، وعُصَيَّةَ: عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ" (2) وهذِهِ ثَلاَثُ قَبَائِلَ مِنَ العَرَبِ. وأنَّه قَالَ: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (3) وأنهُ "لَعَنَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّساءِ والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجالِ" (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخان. قال المصنف قال القاضي: معناه من أتى فيها إثماً، أو آوى من أتاه وضمه إليه وحماه. ومحدثاً قال المازري: بفتح الدال، فيكون مصدراً ميمياً أي: الإِحداث نفسه. ومن كسر أراد فاعل الحدث، واستدلوا به على أن ذلك من الكبائر، لأن اللعن لا يكون إلا في كبيرة، ومعناه أن الله تعالى يلعنه، وكذا الملائكة والناس أجمعون، وهذا مبالغة في إبعاده عن رحمة الله تعالى، فإن اللعن لغة الطرد والإِبعاد. قالوا والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه، والطرد عن الجنة أول الأمر، وليست هي كلعنة الكفار المبعدين عن رحمة الله كل الإِبعاد (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (قال اللهم العن رعلاً) بكسر الراء وسكون العين المهملة (وذكوان) بفتح المعجمة وسكون الكاف (وعصية) بصيغة التصغير وأولاه مهملان (عصوا الله ورسوله) استئناف بياني لسبب لعنهم (وهذه) القبائل المذكورة (ثلاث قبائل من العرب) تقدم الفرق بين القبيلة والشعب والبطن والفخذ، في باب (1) والحديث رواه البخاري في صحيحه، لكن بلفظ "يدعو عليهم" (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (قال لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يتعبدون بعبادتها، رواه البخاري في الجنائز (وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (لعن المتشبهين من الرجال) من بيانية (بالنساء) صلة متشبهين المحاكي منهم لهن في أفعالهن وأقوالهن وأحوالهن (والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه وابن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الحج باب: فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة ... (الحديث 463) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، (الحديث: 294) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور ... (الحديث: 19) .
(4) بياض بالأصل.

(8/401)


وَجَميعُ هذِهِ الألفاظِ في الصحيح؛ بعضُها في صَحيحَيّ البُخاري ومسلمٍ، وبعضها في أحَدِهِمَا، وإنما قصدت الاختِصَارَ بالإشارةِ إِلَيهمَا، وسأذكر معظمها في أبوابها من هَذَا الكتاب، إن شاء الله تَعَالَى.
266- باب في تحريم سب المسلم بغير حق
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وإثْماً مُبِيناً) .
1557- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتالُهُ كُفْرٌ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ماجة من حديث ابن عباس (وجميع هذه الألفاظ المذكورة) عنه - صلى الله عليه وسلم - (في الصحيح) أي: في جملة الحديث الصحيح (وبعضها في صحيحي البخاري ومسلم) الأقصر في الصحيحين (وبعضها في أحدهما) وبعضها خارج عنهما كما علم مما ذكرنا (وإنما قصدت الاختصار بالإِشارة إليها) أي: الأحاديث المذكورة، الدالة لما عقد له الترجمة (وسأذكر معظمها في أبوابها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى) .
باب تحريم سب المؤمن بغير حق
أي: من اقتصاص منه بمثلها، قالوا مما لا يؤدي، لكذب أو سب أصلي الساب أو لا أو من تعزيز، أو تأديب. أما لذلك فلا يحرم، بل يجب تارة ويندب أخرى. قال الله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) من جناية أو استحقاق لأذى (فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) فذكر فيها سائر أنواع الأذى، القولية من غيبة ونميمة وسخرية به، والفعلية من ضرب وإهانة له، وغير ذلك. قيل: ونزلت في الذين يسبون علياً رضي الله عنه.
1557- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سباب) بكسر السين المهملة للمبالغة؛ أي: سب (المسلم كقتاله) أي: في الإِثم والتحريم. قال المصنف في شرح مسلم: السب في اللغة: الشتم والتكلم في عرض الإِنسان بما يعيبه، والظاهر أن المراد من قتاله المقاتلة المعروفة. قال القاضي: ويجوز أن يراد بها المشادة والمدافعة. قال
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 58.

(8/402)


متفق عَلَيْهِ (1)
1558- وعن أَبي ذرٍ - رضي الله عنه -: أنهُ سَمِعَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفِسْقِ أَوِ الكُفْرِ، إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كذَلِكَ". رواه البخاري (2) .
1559- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "المُتَسَابَّانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الداودي يحتمل مساواة ذنب الساب للمقاتل. قال الطبري: وجه التشبيه بين اللعن والقتل: أن اللعن هو الإِبعاد من رحمة الله، والقتل إبعاد من الحياة (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، كلهم من حديث ابن مسعود. ورواه ابن ماجة أيضاً من حديث أبي هريرة وسعد. ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن مغفل، ومن حديث عمرو بن النعمان بن مقرن. ورواه الدارقطني في الإِفراد من حديث جابر. وفي نسخة بدل هذا الحديث "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" وهو للشيخين أيضاً. والفعال فيهما يحتمل أنه على بابه، ويحتمل أنه للمبالغة أي: سبه وقتله أي: كل منهما كفر، أي: إن استحله أو المراد به كفران النعمة، وعدم أداء حق أخوة الإِيمان.
1558- (وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لا يرمي رجل رجلاً بالفسق) كأن يقول فيه فاسق (أو الكفر) كأن قال فيه كافر مثلاً وأو للتنويع (إلا ارتدت) وفي نسخة إلا ردت، أي: رجعت المرمية (عليه) أي: القائل (إن لم يكن صاحبه) أي: المقول فيه (كذلك رواه البخاري) ففيه تفسيق من رمى غير الفاسق بالفسق، أي: خروجه عن الطاعة. ويحتمل صيرورته فاسقاً بذلك، إن أصر عليه. وفيه تكفير من رمى المؤمن بالكفر، أي: إن قصد به ظاهره واستحل ذلك.
1559- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المتسابان) أي: اللذان
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن، وفي الإِيمان والفتن (10/387) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، (الحديث: 116، 117) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن (10/388) .

(8/403)


مَا قَالاَ فَعَلَى البَادِي منهُما حَتَّى يَعْتَدِي المَظْلُومُ". رواه مسلم (1) .
1560- وعنه، قَالَ: أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بِرَجُلٍ قَدْ شرِبَ قَالَ: "اضربوهُ" قَالَ أَبُو هريرةَ: فَمِنَّا الضارِبُ بيَدِهِ، والضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، والضَّارِبُ بِثَوْبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أخْزَاكَ اللهُ! قَالَ: "لا تَقُولُوا هَذَا؛ لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَان"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يسبب كل منهما الآخر (ما قالا) أي: إثم ما قالا من السب، وهو مبتدأ خبره (فعلى البادي منهما حتى) أي: إلى أن (يعتدي) أي: يتجاوز (المظلوم) بأن يتجاوز حد الانتصار. قال المصنف معناه أن إثم السباب الواقع بينهما يختص بالبادي منهما كله، إلا أن يجاوز الثاني قدر الانتصار فيؤذي الظالم بأكثر مما قاله. وفيه جواز الانتصار ولا خلاف فيه، وتظاهر عليه الكتاب والسنة. ومع ذلك فالصبر وللعفو أفضل، كما قال تعالى (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) (2) وكحديث "وما ازداد عبد بعفو إلا عزا" "فإن قلت" إذا لم يكن المسبوب آثماً، وبرىء البارىء عن ظلمه بوقوع القصاص منهما، فكيف صح تقدير إثم ما قالا؟ "قلت": إضافته بمعنى في، يعني إثم كائن فيما قالا، وهو إثم الابتداء، فعلى البادىء (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. ثم هو في نسخ مسلم "المتسابان" بصيغة الافتعال.
وكذا عزاه إليه صاحب المشارق وغيره. والذي رأيته في نسخ الرياض، ما ذكرنا من التفاعل.
1560- (وعنه قال أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب) أي: الخمر. قال الدماميني: يصح تفسير هذا الرجل بالنعيمان وبعبد الله الملقب بحمار (فقال اضربوه) أي: حدا (قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله، والضارب بثوبه) فيه جواز إقامة حد الخمر بالضرب بغير السوط، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال، أصحها الجلد بالسوط، ويجوز الاقتصار على الضرب، بالأيدي والثياب (فلما انصرف قال بعض القوم) قال الحافظ: وفي الرواية التي بعده في البخاري، فقال رجل، وذلك الرجل هو عمر بن الخطاب، إن كانت القضية متحدة مع حديث عمر في قصة حمار (أخزاك الله فقال لا تقولوا هكذا) وفي نسخة "هذا" (لا تعينوا عليه الشيطان) لا الثانية: ناهية أيضاً، والجملة كالتعليل لما قبلها. ووجه عونهم الشيطان بذلك، أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية حصول الخزي
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن السباب، (الحديث: 68) .
(2) سورة الشورى، الآية: 43.

(8/404)


رواه البخاري (1)
1561- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَى يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ يَومَ القِيَامَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كما قَالَ". متفق عَلَيْهِ (2) .
267- باب في تحريم سب الأموات بغير حق ومصلحةٍ شرعية
وَهِيَ التَّحْذِيرُ مِنَ الاقْتِدَاء بِهِ في بِدْعَتِهِ، وَفِسْقِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِيهِ الآيةُ والأحاديثُ السَّابِقَةُ في البَابِ قَبْلَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا دعوا عليه به، فكأنهم قد حصلوا، مقصود الشيطان (رواه البخاري) وأشار في فتح الباري إلى أن أبا داود أيضاً رواه وزاد في آخره: "ولكن قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه" فيستفاد منه منع الدعاء، بنحو ذلك على العاصي.
1561- (وعنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من قذف) أي: رمى (مملوكه) ذكراً كان أو أنثى (بالزنى يقام عليه الحد يوم القيامة) إظهاراً لكمال العدل؛ (إلا أن يكون) أي: المملوك (كما قال) بحذف العائد لما وصرح به في رواية أي: كما قاله السيد فيه من كونه زانياً، فلا حد عليه. وظاهر عموم الحديث انتفاء الحد، عند كون المملوك كذلك، وإن لم يعلم به السيد (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. واللفظ الذي ساقه المصنف لمسلم، ولفظ الباقين "من قذف مملوكه وهو برىء مما قاله جلد يوم القيامة حداً إلا أن يكون كما قال" أشار إليه السيوطي في الجامع الكبير.
باب تحريم سب الأموات بغير حق ومصلحة شرعية
(وهي) أي: المصلحة الشرعية المرادة بالحق أيضاً، فعطفها عليه لتغاير الصفة (التحذير من الاقتداء به في بدعته وفسقه) متعلق بالاقتداء (ونحو ذلك) مما كان الميت متلبساً به، مما لا يحسن التلبس به، لإِخلاله بالمروءة؛ وكجرح رواة الحديث لأن أحكام الشرع مبنية عليه؛ (فيه الآية والأحاديث السابقة في الباب قبله) وكذا السابقة في باب حفظ اللسان.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر (12/57) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الحدود، باب: قذف العبيد (12/163، 164) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: التغليظ على من قذف مملوكه بالزنى، (الحديث: 37) .

(8/405)


1562- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا". رواه البخاري (1) .
268- باب في النهي عن الإيذاء
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإثْماً مُبِيناً) .
1563- وعن عبدِ الله بن عمرو بن العاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1562- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا الأموات) النهي فيه للتحريم، وأل لإبطال معنى الجمعية، أي: أيّ ميت. وعلل النهي بقوله (فإنهم قد أفضوا) أي: وصلوا (إلى ما قدموا) من عملهم خيراً كان أو شراً، إذ لا فائدة في سبهم. والحديث في سب أموات المسلمين. أما أموات الكفار فيجوز سبهم عموماً وأما المعين منهم، فلا يجوز سبه، لاحتمال أنه مات مسلماً، إلا أن يكون ممن نص الشارع على موته كافراً، كأبي لهب وأبي جهل (رواه البخاري) ورواه أحمد والنسائي من حديثها. ورواه أحمد والترمذي والطبراني من حديث المغيرة، بلفظ "لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء". ورواه الطبراني عن صخر الغامدي بلفظ: "ولا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما اكتسبوا" ورواه بهذا اللفظ أي: لفظ البخاري، عن عائشة، كذا في الجامع الكبير.
باب النهي عن الإِيذاء
(قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) فيه دليل تسمية فعل المكلف كسباً، وأتي به من صيغة الافتعال، إيماءً إلى المزاولة والإِقبال على المعصية، لكونها حظ النفس؛ (فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) .
1563- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلم) أي: الكامل (من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: منه بالمرة. وذكراً لصدور
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من سب الموتى وفي الرقاق، باب: سكرات الموت (3/206) .
(2) سورة الأحزاب، الآية: 58.

(8/406)


مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ". متفق عَلَيْهِ (1) .
1564- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، ويُدْخَلَ الجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ". رواه مسلم. وَهُوَ بعض حديثٍ طويلٍ سبق في بابِ طاعَةِ وُلاَةِ الأمُورِ (2) (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأذى بهما في العادة الغالبة. (والمهاجر) أي: الكامل (من هجر) أي: ترك امتثالاً لأمر الله وإجلاله، وخوفاً منه (ما نهى الله عنه) شمل صغائر الذنوب وكبائرها. وكامل الهجرة من هجر المعاصي رأساً وتحلي بالطاعة (متفق عليه) لكن في الجامع الصغير: الاقتصار على عزوه للبخاري فقط، وأنه رواه أيضاً أبو داود والنسائي. وعند مسلم من حديث جابر "المسلم من سلم المسلمون من لسانه، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" اهـ. ولعل المصنف أراد اتفاقهما على أصل الحديث.
1564- (وعنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب أن يزحزح) بصيغة المجهول، وبالزاي والحاء المهملة أي: يبعد (عن النار ويدخل الجنة) بصيغة المجهول أيضاً (فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر) جملة حالية من الضمير المفعول به، والمراد: ليدم على الإيمان، وما معه حتى يأتيه الموت، وهو على ذلك. وهذا كقوله تعالى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (4) (وليأت) يجوز في مثله كسر لام الأمر، وهو الأصل، وإسكانها: لتقدم الواو العاطفة؛ وكذا يجوزان مع ثم والفاء العاطفتين (إلى الناس الذي يحب) أي: يود (أن يؤتى إليه) أي: منهم والمراد أن يحسن معاملتهم بالبشر وكف الأذى وبذل الندي كما يحب ذلك منهم له (رواه مسلم وهو بعض حديث طويل سبق) بطوله مشروحاً (في باب طاعة ولاة الأمور) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون (1/50، 51) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان تفاضل الإِسلام وأي الأمور أفضل، (الحديث: 64) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، (الحديث: 46) .
(3) انظر الحديث رقم (668) .
(4) سورة آل عمران، الآية: 102.

(8/407)


269- باب في النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر
قال الله تعالى (1) : (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (أذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنينَ أعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرينَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (3) : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) .
1565- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب النهي عن التباغض
بالقلوب (والتقاطع) ترك التواصل، المؤدي إلى البغضاء والنفرة (والتدابر) بالأجساد، أي: يولي الرجل أخاه إذا لقيه ظهره إعراضاً عنه. (قال الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة) أي: وشأن الأخوة التواصل. قال تعالى في مدح المؤمنين (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) (4) . (وقال تعالى: أذلة على المؤمنين) أي: متذللين لهم، عاطفين عليهم، خافضين لهم أجنحتهم (أعزة على الكافرين) متغلبين عليهم (وقال تعالى: محمد رسول الله والذين معه) أي: من الصحابة (أشداء على الكفار) أي غلاظ عليهم قال تعالى مخاطباً لنبيه (واغلظ عليهم) (5) (رحماء بينهم) أي: يتراحمون ويتعاطفون لرحمة الإيمان وصلته بينهم.
1565- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تباغضوا) أي: لا تفعلوا ما يؤدي إلى التباغض، وحذفت إحدى تاءيه تخفيفاً، وكذا فيما بعده (ولا تحاسدوا) أي: لا يتمن بعضكم زوال نعمة أخيه، (ولا تدابروا ولا تقاطعوا) هي كالمتلازمة في الأداء إلى التقاطع والتهاجر (وكونوا عباد الله) منادى بحذف حرفه، أو منصوب على الاختصاص، بناء على وقوعه بعد ضمير المخاطب، وقد خرج عليه بعضهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سلام عليكم دار قوم مؤمنين" (إخواناً) خبر كان، أو عباد خبر كان وإخواناً: خبر بعد خبر، أي: خاضعين لأمره
__________
(1) سورة الحجرات، الآية: 10.
(2) سورة المائدة، الآية: 54.
(3) سورة الفتح، الآية: 29.
(4) سورة الرعد، الآية: 21.
(5) سورة التوبة، الآية: 73.

(8/408)


وذَكَرَ نَحْوَهُ (1) .
270- باب في تحريم الحسد وَهُوَ تمني زوالُ النعمة عن صاحبها، سواءٌ كَانَتْ نعمة دينٍ أَوْ دنيا
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
وفِيهِ حديثُ أنسٍ السابق في الباب قبلَهُ.
1567- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إيَّاكُمْ وَالحَسَدَ؛ فَإنَّ الحَسَدَ يَأكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأكُلُ النَّارُ الحَطَبَ" أَوْ قَالَ: "العُشْبَ". رواه أَبُو داود (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: على رأسه وذلك لشرفه الصالح بالثناء عليه في الملكوت الأعلى وضده بضده (وذكر) أي: مسلم (نحوه) أي: نحو ما في الحديث قبله.
باب تحريم الحسد
وهو من الكبائر لما سيأتي فيه (وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها سواء كانت نعمة دين أو دنيا) أما تمني مثلها. فغبطة، فإن كان في الدين: فمحمود، وإلا فلا. (قال الله تعالى) في ذم اليهود (أم يحسدون الناس) أي: العرب أو محمداً - صلى الله عليه وسلم - (على ما آتاهم الله من فضله) باعتبار اللفظ. (وفيه حديث أنس السابق في الباب قبله) أي: قوله ولا تحاسدوا.
1567- (وعن أي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم) منصوب على التحذير (والحسد) وعلل النهي بقوله (فإن الحسد يأكل الحسنات) أي: يذهبها، ففيه استعارة مكنية، تتبعها استعارة تخييلية (كلما تأكل النار الحطب أو) شك من الراوي (قال العشب) بضم المهملة وسكون المعجمة، والمراد هنا الكلأ أي: الحشيش، وهذا إيماء إلى سرعة إبطاله الحسنات كما في المشبه به (رواه أبو داود) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن الشحناء والتهاجر، (الحديث: 35) .
(2) سورة النساء، الآية: 54.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الحسد، (الحديث: 4903) .

(8/410)


فَإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، ولا تحسَّسوا وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَافَسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً كَمَا أَمَرَكُمْ. المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ: لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هاهُنَا التَّقْوَى هاهُنَا" وَيُشِيرُ إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مجرد عن الدليل، ليس مثبتاً ولا تحقيق نظر، كما قاله عياض. وكذا قال القرطبي الظن الشرعي: وهو تغليب أحد الجانبين، ليس مراداً من الآية ولا من الحديث، فلا يُنظر لمن استدل بهما على إنكار الظن (فإن الظن أكذب الحديث) قيل أريد من الكذب، عدم الطابقة للواقع، سواء كان قولاً أم لا، ويحتمل أن يراد بالظن، ما ينشأ من القول، فيوصف به الظن مجازاً؛ (ولا تحسسوا ولا تجسسوا) إحداهما بالجيم والأخرى بالحاء المهملة، وفي كل منهما وفي المنهيات بعدهما حذف إحدى التاءين تخفيفاً. قال الخطابي أي: لا تجسسوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها، وأصله بالمهملة من الحاسة إحدى الحواس الخمس، وبالجيم من الجس، بمعنى اختبار الشيء باليد، وهي إحدى الحواس الخمس، فتكون التي بالحاء أعم، وقيل هما بمعنى: وذكر الثاني تأكيداً كقولهم بعداً وسحقاً. وقيل بالجيم البحث عن العورات، وبالمهملة استماع حديث القوم. وقيل بالجيم: البحث عن بواطن الأمور، وأكثر ما يكون في الشر، وبالمهملة عما يدرك بحاسة العين أو الأذن، ورجحه القرطبي، وقيل بالجيم تتبعه لأجل غيره، وبالحاء تتبعه لأجل نفسه، ثم يستثنى من النهي عن التجسس، ما إذا تعين لإِنقاذ نفس من هلاك، كان يخبر باختلاء إنسان بآخر ليقتله ظلماً؛ أو بامرأة ليزني بها؛ فهذا التجسس مشروع حذراً عن فوات استدراكه. نقله المصنف عن الأحكام السلطانية للماوردي واستجاده (ولا تنافسوا) بالفاء والسين المهملة، من المنافسة، الرغبة في الشيء والإِنفراد به (ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا) والتدابر، قيل: المعاداة، وقيل: الإِعراض، وقيل: استئثار الإِنسان عن أخيه (وكونوا عباد الله إخواناً) أي: اكتسبوا ما تصيرون به إخوة، من التآلف والتحابب، وترك هذه المنهيات. قال الحافظ: الجملة كالتعليل لما قبلها، أي: إذا تركتم هذه صرتم كالإِخوان، ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء. وقيل معناه كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة. (كما أمركم) قال القرطبي: لعله أشار بذلك، إلى الأوامر المتقدم ذكرها، فإنها جامعة لمعاني الآخرة. والفاعل مضمر، يعود إلى "الله" وهو مصرح به في مسلم، وهذه الجملة عند البخاري في أبواب الأدب، إلا أنه ليس فيه "كما أمركم" وفي الجامع الصغير للسيوطي، رواه مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي (المسلم أخو المسلم) لاجتماعهما في الإِسلام (لا يظلمه) في نفسٍ ولا مالٍ ولا عرضٍ بوجه. والجملة

(8/412)


وَفِي رواية: "لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً".
وفي رواية: "لاَ تَقَاطَعُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً" وَفِي رِواية: "وَلاَ تَهَاجَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ". رواه مسلم بكلّ هذِهِ الروايات، وروى البخاريُّ أكْثَرَهَا (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جوده على أصحابها، وإن كانت معرضة عنه مشغولة بما سواه، أعرض عن أصحابها. وهذا كما قال في الحديث الآخر "ألا وإن في الجسد مضغة إذا أصلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". والحديث عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". ورواه ابن ماجة أيضاً كما في الجامع الصغير (وفي رواية لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا) أي: من النجش، وهو الزيادة في السلعة لا لرغبة، بل ليغر غيره ويخدعه، وهو من أسباب البغضاء كما قيل، وقيل المراد به هنا ذم بعض بعضاً. قال المصنف: والصحيح الأول (وكونوا) أي: صيروا (عباد الله إخواناً) أي: متحابين يحب كل لصاحبه ما يحب لنفسه (وفي رواية لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً وفي رواية ولا تهاجروا) أي: يهجر الرجل أخاه فلا يبدؤه بالسلام، ولا يجيبه بالكلام (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) ومثله الشراء على شرائه، والسوم على سومه، بعد استقرار الثمن، والرضا به (رواه مسلم بكل هذه الروايات) أي: من حديث أبي هريرة كما يومىء إليه صنيعه (وروى البخاري أكثرها) فحديث "إياكم والظن" إلى قوله: "وكونوا عباد الله إخواناً" رواه البخاري أيضاً، وزاد فيه "ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" ورواه كذلك مالك وأحمد وأبو داود والترمذي، وعند البخاري، في باب ما ينهى عنه من التحاسد. من حديث أنس مرفوعاً "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". وعنده في أبواب البيوع من حديث أبي هريرة مرفوعاً "لا يبع المرء على بيع أخيه، ولا تناجشوا ولا بيع حاضر لباد".
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، (الحديث: 28، 29، 30، 31) .
وأخرجه أيضاً في كتاب: البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم ... (الحديث: 32) .
وأخرجه البخاري في كتاب: أبواب متفرقة كالنكاح والوصايا والاكراه والمظالم (10/404) .

(8/414)


1569- وعن معاوية - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّكَ إنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ المُسْلِمينَ أفْسَدْتَهُمْ، أَوْ كِدْتَ أنْ تُفْسِدَهُمْ". حديث صحيح، رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (1) .
1570- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا فُلاَنٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْراً، فَقَالَ: إنَّا قَدْ نُهِيْنَا عَنِ التَّجَسُّسِ، ولكِنْ إنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ، نَأخُذ بِهِ.
حديث حسن صحيح، رواه أَبُو داود بإسنادٍ عَلَى شَرْطِ البخاري ومسلم (2) .
272- باب في النهي عن سوء الظنّ بالمسلمين من غير ضرورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1569- (وعن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إنك إن اتبعت عورات المسلمين) بالتجسس عنها واكتشاف ما يخفونه منها (أفسدتهم أو كدت) أي: قاربت (أن تفسدهم) بإدخال "أن" في خبر كاد، وهو قليل. وفيه إيماء إلى توكيد الأمر للمسلمين، ففيه إعجاز له - صلى الله عليه وسلم - بالإِخبار عن المغيب، في وقت إخباره (حديث صحيح رواه أبو داود) في الأدب من سننه (بإسناد صحيح) رواه عن عيسى بن محمد الرملي ومحمد بن عوف، كلاهما عن الفرياني عن ثور بن يزيد عن راشد بن سعد المقري الحمصي عن معاوية.
1570- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتي) بالبناء للمجهول (برجل فقيل له هذا فلان تقطر لحيته خمراً) تمييز محول عن الحال، وكونه خمر لحيته لملابسته لها (قال إنا قد نهينا عن التجسس) يحتمل أن يكون مراده النهي عن ذلك في القرآن، أو السنة أي: سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً (ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) ونعامله بمقتضاه من حد أو تعزير (حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم) موقوف لفظاً، مرفوع حكماً لقوله نهينا. ومن المعلوم أن ذلك، إنما يسند إليه - صلى الله عليه وسلم -: وقول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، من الألفاظ المكنى بها عن الرفع عن المحدثين، كما تقرر في علم الأثر.
باب النهي عن ظن السوء بالمسلمين من غير ضرورة
كأن يظن بهم نقصاً في دين، أو مروءة من غير أن يدل لذلك دليل. وقوله من غير
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في النهي عن التجسس (الحديث: 4888) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في النهي عن التجسس (الحديث: 4890) .

(8/415)


قَالَ الله تَعَالَى (1) (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ) .
1571- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ". متفق عَلَيْهِ (2) .
273- باب في تحريم احتقار المسلمين
قَالَ الله تَعَالَى (3) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَومٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضرورة، مخرج لما إن دعت إليه، كأن وقف مواقف التهم، أو بدا عليه علامة الريب.
قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن) هو ظن السوء بأخيك المسلم (إن بعض الظن إثم) فكونوا على حذر، حتى لا توقعوا فيه.
1571- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) محذراً من ظن السوء (إياكم والظن فإن الظن اكذب الحديث. متفق عليه) وهو طرف من حديث، تقدم مشروحاً بجملته في الباب قبله.
باب تحريم احتقار المسلم
أي: إهانته وإسقاطه من النظر والاعتبار (قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) السخرية: الازدراء والاحتقار. وقوم أي: رجال (عسى أن يكونوا) أي: المسخور بهم (خيراً منهم) أي: الساخرين. استئناف علة للنهي، واكتفى عسى "بأن" ومنصوبها عن الخبر. والذي اختاره ابن مالك، أنها حينئذ تامة (ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) أي: عند الله (ولا تلمزوا أنفسكم) أي: لا يعتب بعضكم بعضاً فإن عيب أخيه، عيب نفسه. أو لأن المؤمنين كنفس واحدة. واللمز: الطعن باللسان (ولا
__________
(1) سورة الحجرات، الآية: 12.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب متفرقة كالنكاح والوصايا والاكراه، والمظالم (10/404) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس ... (الحديث: 28) .
(3) سورة الحجرات، الآية: 11.

(8/416)


وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيْمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
وقال تَعَالَى (1) : (وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لمزَةٍ) .
وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ". رواه مسلم، وَقَدْ سبق قريباً بطوله (2) (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تنابزِوا بالألقاب) أي: يدعو بعضكم بعضاً، باللقب السوء، والنبز مختص باللقب السوء عرفاً، ومنه يا فاسق يا كافر (بئس الاسم الفسوق) يعني السخرية واللمز والتنابز، وبئس الذكر، الذي هو الفسق (بعد الإِيمان) يعني لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإِيمان يأبى الفسوق، أو كان في شتائمهم، يا يهودي يا فاسق، لمن أسلم فنهوا عنه (ومن لم يتب) من ذلك (فأولئك هم الظالمون) . (وقال تعالى: ويل) كلمة عذاب، أو واد في جهنم (لكل همزة لمزة) أي: كثير الهمز واللمز، أو الغيبة. وقيل الهمزة: من اعتاد كسر أعراض الناس، واللمزة من اعتاد الطعن فيهم، وعن بعض السلف الأول الطعن بالغيب، والثاني في الوجه. وقيل باللسان وبالحاجب. نزلت فيمن كان يغتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، كأمية بن خلف، والأخنس بن شريف. وعن مجاهد وهي عامة.
1572- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بحسب) أي: كافي (امرىء) أي: إنسان (من الشر أن يحقر أخاه المسلم) أي: وذلك لعظمه في الشر، كاف له عن اكتساب آخر، ولا يخفى ما فيه من فظاعة هذا الذنب، والنداء عليه بأنه غريق في الشر حتى إنه لشدته فيه، يكفي من تلبس به عن غيره (رواه مسلم) في أثناء حديث (وقد سبق قريباً) في باب النهي عن التجسس (بطوله) مشروحاً، وسبق معظمه في باب تعظيم حرمات المسلمين.
__________
(1) سورة الهمزة، الآية: 1.
(2) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم ... (الحديث: 32) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم ... (الحديث: 32) ، وقد سيق بطوله.

(8/417)


رَجُلٌ: وَاللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلانٍ، فَقَالَ اللهُ - عز وجل -: مَنْ ذا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ! فَإنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَاحْبَطْتُ عَمَلَكَ". رواه مسلم (1) .
274- باب في النهي عن إظهار الشماتة بِالمُسْلِم
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) .
قَالَ تَعَالَى (3) : (إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رجل والله لا يغفر الله لفلان) وذلك من القائل، احتقاراً للمقول عنه، وازدراء له أن تناله المغفرة لعظمها وجلالتها؛ (فقال الله عز وجل: من ذا الذي) قال السفاقسي في إعراب نظيره، من آية الكرسي: الأولى أن "من" ركبت مع ذا للاستفهام، والمجموع في موضع رفع بالابتدا والموصول بعد هو (يتألى) أي يحلف قال في المصباح: يقال آلى إيلاء، مثل آتى إيتاء إذا حلف، فهو مولٍ وتألي وائتلي كذلك (علي ألا أغفر لفلان) أي: بأن لا أغفر له (إني قد غفرت له) جملة مستأنفةً لبيان أن المحتقر عند ذلك القائل، هو عند الله بمكان، وأن القائل بضده كما قال (وأحبطت عملك) أي: أبطلت ثوابه.
وفي الحديث تحذير من احتقار أحد من المسلمين، وإن كان من الرعاع. فإن الله تعالى أخفى سره في عباده (رواه مسلم) .
باب النهي عن إظهار الشماتة بالمسلم
قال في المصباح: شمت به يشمت أي: من باب فرح، إذا فرح بمصيبة نزلت به، والاسم: الشماتة. واحترز بقوله "إظهار" عن الفرح الباطني، فإن طبع الإِنسان، الفرح بلحاق المصيبة لمن يعاديه وينافيه، إلا من طهره الله من ذلك. (قال الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة) أي: وشأن الأخوة، أن يتحرك الأخ لما يلحق أخاه من الضرر. (وقال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع) أي: تفشو (الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) وجه استشهاده بالآية أنه إذا توعد على محبة شيوع الأمر القبيح الذي
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن تقنيط الإِنسان من رحمه الله تعالى، (الحديث: 137) .
(2) الحجرات، الآية: 10.
(3) سورة النور، الآية: 19.

(8/419)


275- باب في تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وإثْماً مُبِيناً) .
1576- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اثْنَتَان في النَّاسِ هُمَا بهم كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع
ولا نظر لطعن طاعن، فيما كان كذلك. (قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) ولا شبهة في أن الطعن في النسب، من أعظم أنواع الأذى فالآية تشمله شمولاً بيناً.
1576- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتان) مبتدأ، وساغ الابتداء به لوصفه بقوله (في الناس هما) أي: الثنتان، وهو مبتدأ ثان (بهم) أي: فيهم (كفر) أي: إن استحلا مع العلم بالتحريم. والإِجماع عليه (الطعن في النسب والنياحة) بكسر النون وتخفيف التحتية، رفع الصوت بالبكاء (على الميت رواه مسلم) في كتاب الإِيمان. قال المصنف في شرحه، فيه أقوال أصحها: أن معناها أنهما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية، والثاني: أنه يؤدي إلى الكفر، والثالث: أنه كفر النعمة والإِحسان، والرابع: أنه في المستحل. وفي الحديث تغليظ تحريم النياحة والطعن في النسب، وقد جاء في كل واحد منهما نصوص معروفة.
باب النهي عن الغش
بكسر الغين أي: ترك النصيحة والتزيين لغير المصلحة (والخداع) بكسر الخاء
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 58.
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة (الحديث: 121) .

(8/421)


276- باب في النهي عن الغش والخداع
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وإثْماً مُبِيناً) .
1577- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا". رواه مسلم. وفي رواية لَهُ: أنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعجمة مصدر خادعه. وفي القاموس: خدعه كمنعه خدعاً، ويكسر ختله، وأراد به المكروه، من حيث لا يعلم والاسم الخديعة. (قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين، والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) ومن أشد الإِيذاء الغش، لما فيه من تزيين غير المصلحة، والخديعة لما فيها من إيصال الشر إليه من غير علمه.
1577- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من حمل علينا السلاح) كناية عن البغي، الخروج عن جماعة المسلمين وبيعتهم (فليس منا) أي: على هدينا ومن أهل طريقتنا، وإلا فذلك لا يخرج عن الإسلام، عن أهل الحق (ومن غشنا فليس منا) ومن الغش خلط الجيد بالرديء، ومزج اللبن بالماء، وترويج النقد الزغل (رواه مسلم) وكذا رواه ابن ماجه بجملته، وروى الجملة الأولى من الحديث مالك والشيخان والنسائي والحاكم في المستدرك، من حديث ابن عمر، والأخيرة الترمذي من حديث أبي هريرة، ولكن قال: "غش" بلا ضمير. ورواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود بلفظ "غشنا" وزاد في آخره "والمكر والخداع في النار" كذا في الجامع الصغير. وفي الجامع الكبير روى البخاري من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "من حمل علينا السلاح فليس منا ولا راصد بطريق". وقال في حديث: "من حمل علينا السلاح فليس منا" زيادة في مخرجيه على من ذكر في الجامع الصغير. ورواه أبو داود والطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر رواه الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى، ورواه ابن نافع والطبراني عن سلمة بن الأكوع والطبراني عن ابن الزبير (وفي رواية له) أي: مسلم (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام) بضم الصاد المهملة وسكون الموحدة، جمع صبر، كغرفة وغرف. وعن أبي زيد اشتريت الشيء صبرة أي: بلا كيل ولا وزن. قال في المصباح نقلاً عن التهذيب للأزهري: إذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطعام، عنوا به البر خاصة. وفي العرف اسم لما يؤكل،
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 58.

(8/422)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أصابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: "مَا هذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ " قَالَ: أصَابَتهُ السَّمَاءُ يَا رسول الله. قَالَ: "أفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوقَ الطَّعَامِ حَتَّى يرَاهُ النَّاسُ! مَنْ غشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (1) .
1578- وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَنَاجَشُوا" متفق عَلَيْهِ (2) .
1579- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، نَهى عن النَّجْشِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كالشراب لما يشرب (فأدخل يده فيها فنالت) أي: أصابت (أصابعه بللاً) مستوراً بالطعام اليابس (فقال ما هذا) أي: البلل المنبىء غالباً عن الغش. (يا صاحب الطعام) يحتمل أن ترك نداءه باسمه، لعدم العلم به؛ أو أنه للتسجيل عليه، بإضافته إلى ما غش به زيادة في زجره وتنكيله (قال أصابته السماء) أي: المطر لأنه ينزل منها، فهو من مجاز التعبير، بالمحل عن الحال فيه وقوله: (يا رسول الله) أتى به تيمناً وتلذذاً به (قال) أسترت ما ابتل غشاً (أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس) فتسلم من الغش الذي هو أقبح الأوصاف، القاطعة لرحم الإِسلام، الموجبة لكون المسلم للمسلم، كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ومن قطع رحم الإِسلام خشي عليه الخروج من عدادهم، كما ينشأ عن ذلك ما هو مقرر في شرعنا (من غشنا فليس منا) المراد بالغش هنا، كتم عيب المبيع أو الثمن، والمراد بعيبه هنا: كل وصف يعلم من حال آخذه، أنه لو اطلع عليه لم يأخذه بذلك الثمن، الذي يريد بدله فيه.
1578- (وعنه) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تناجشوا) الأولى ولا تناجشوا، ليعلم أنه بعض من حديث (متفق عليه) تقدم قريباً.
1579- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النجش) بفتح فسكون أو بفتحتين، في المصباح نجش الرجل نجشاً، من باب قتل، إذا زاد في سلعته أكثر من ثمنها، وليس قصده أن يشتريها، بل يغر غيره فيوقعه فيها، وكذا في النكاح. وغيره النجش
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من غشنا فليس منا"، (الحديث: 164) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب متفرقة كالنكاح والوصايا والإِكراه والمظالم (10/404) .
وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه ... (الحديث: 11) .

(8/423)


متفق عَلَيْهِ (1) .
1580- وعنه، قَالَ: ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ يُخْدَعُ في البُيُوعِ؟ فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ". متفق عَلَيْهِ.
"الخِلاَبَةُ" بخاءٍ معجمةٍ مكسورةٍ وباءٍ موحدة، وهي: الخديعة (2) .
1581- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ، أَوْ مَمْلُوكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا". رواهُ أَبُو داود.
"خَبب" بخاءٍ معجمة، ثُمَّ باءٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بفتحتين، وأصل النجش الاستتار، لأنه يستر قصده؛ (متفق عليه) ورواه النسائي وابن ماجه.
1580- (وعنه قال ذكر رجل) وهو حبان بفتح الحاء ابن منقذ (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع) بصيغة المجهول أي: يغبن (في البيوع) أي: يغلب فيها لعدم فطانته للدسائس فيها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بايعت فقل لا خلابة. متفق عليه) قال في الوشيح: زاد الدارقطني والبيهقي "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال فإن رضيتها فأمسك". فبقي حتى أدرك زمن عثمان، فكان إذا اشترى شيئاً فقيل له إنك غبنت فيه، رجع فيشهد له الرجل من الصحابة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعله بالخيار ثلاثاً، فيرد له دراهمه اهـ. (والخلابة بخاء وبالموحدة) حقيقة اسم مصدر، من خلب من باب قتل وضرب إذا خدعه، ولذا قال المصنف إنها (الخديعة) .
1581- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خبب زوجة امرىء) أفسدها عليه، أو أوقع بينهما الشقاق والتنافر، فحملها على الخروج عن طاعته (أو مملوكه) ذكراً كان أو أنثى (فليس منا) أي: على هدينا، لأن شأن المؤمن التعاون والتناصر؛ وهذا بخلافه (رواه أبو داود) ورواه أحمد والدارقطني من حديث أبي هريرة "من خبب خادماً على أهلها فليس منا، ومن أقسر امرأة على زوجها فليس منا". ورواه الشيرازي في الألقاب من حديث ابن عمر بلفظ "من خبب عبداً على مولاه فليس منا". كذا في الجامع الكبير (خبب
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع باب النجش (4/298) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه ... (الحديث: 13) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: ما يكره من الخداع (4/283) .
وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: من يخدع في البيع، (الحديث: 48) .

(8/424)


وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". متفق عَلَيْهِ (1) .
1583- وعن ابن مسعودٍ، وابن عمر، وأنس - رضي الله عنهم - قالوا: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقَالُ: هذِهِ غَدْرَةُ فلانٍ". متفق عَلَيْهِ (2) .
1584- وعن أَبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يومَ القِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدَرِ غَدْرِهِ، ألاَ وَلاَ غَادِرَ أعْظَمُ غَدْراً مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حقها أن تكون قائمة بالمنافق، كما هو شأنهم، فينبغي للمؤمن التباعد منها والتنزه عنها (إذا ائتمن) بصيغة المجهول (خان) أي: في الأمانة (وإذا حدث كذب) أي: أخبر بما لا يطابق الواقع (وإذا عاهد غدر) أي: نقض عهده (وإذا خاصم فجر) أي: دفع الحق ولم ينقد إليه، وخرج عنه بالإِيمان الكاذبة، والقول الباطل (متفق عليه) .
1583- (وعن ابن مسعود وابن عمر وأنس رضي الله عنهم قالوا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لكل غادر لواء يوم القيامة) ينشر زيادة في فضيحته، وشناعة أمره، وشهرته بذلك، في ذلك الملأ العام (يقال هذه غدرة) بفتح المعجمة، المرة من الغدر (فلان، متفق عليه) ظاهر كلام المصنف متفق عليه، عند كل من الثلاثة، لكن في الجامع الصغير أنه كذلك من حديث أنس، ولفظه رواه أحمد والشيخان عن أنس وأحمد، ومسلم عن ابن مسعود، ومسلم عن ابن عمر.
1584- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لكل غادر لواء عند استه) بوصل الهمزة وسكون المهملة بعدها فوقية أي: دبره (يوم القيامة يرفع له) في ذلك الموقف ْ (بقدر غدره) ليكون التشهير بقدر الجرم (ألا) بتخفيف اللام (ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة) قال المصنف، قال: أهل اللغة: اللواء الراية العظيمة، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعاً له، قالوا فمعنى لكل غادر لواء أي: علامة يشهر بها في الناس، لأن موضع اللواء الشهرة، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق، الحفلة لغدر الغادر، ليشتهر بذلك. وأما الغادر فهو الذي يعاهد، ولا يفي. يقال غدر يغدر من باب ضرب. وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر، ولا سيما من
__________
(1) سبق تخريجه أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامات المنافق (1/84) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان خصال المنافق، (الحديث: 106) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: إثم الغادر (10/464) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، (الحديث: 9 و13، و14 و15) .

(8/426)


أمِيرِ عَامَّةٍ". رواه مسلم (1) .
1585- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قَالَ الله تَعَالَى: "ثَلاَثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرَّاً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجيراً، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أجْرَهُ". رواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صاحب الولاية العامة، لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير؛ وقيل لأنه غير مضطر إلى الغدر، لقدرته على الوفاء. والمشهور أن هذا وارد في ذم الإِمام الغادر. وذكر القاضي فيه احتمالين، وهذا أحدهما. والثاني: أن يكون لذم غدر الرعية بالإِمام، ولا يشقون عليه العصا، ولا يتعرضون لما يخاف حصول فتنه بسببه. والأول هو الصحيح اهـ. وفي حمله اللواء على الكناية عن الشهرة، صرف اللفظ عن ظاهره، بلا صارف والله أعلم (رواه مسلم) .
1585- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى ثلاثة) أي: من الأوصاف، أو أوصاف ثلاثة (أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه، ولم يعطه أجره) قال الشيخ تقي الدين السبكي: الحكمة في كون الله تعالى خصمهم، أنهم جنوا على حقه سبحانه وتعالى، فإن الذي أعطي به ثم غدر، جنى على عهد الله بالخيانة والنقض وعدم الوفاء، ومن حق الله أن يوفي بعهده. والذي باع حراً وأكل ثمنه جنى على حق الله، فإن حقه في الحر إقامته على عبادته، التي خلق الجن والإِنس لها. قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون) (2) فمن استرق حراً فقد عطل عليه العبادات المختصة بالأحرار، كالجمعة والحج والجهاد والصدقة وغيرها، وكثير من النوافل المعارضة لخدمة السيد، فقد ناقض حكم الله ْفي الوجود، ومقصوده عن عباده، فلذا عظمت الجريمة، والرجل الذي استأجر أجيراً، بمنزلة من استعبد الحر، وعطله عن كثير من نوافل العبادات، فشابه الذي باع حراً وأكل ثمنه، فلذا عظم ذنبه اهـ. ملخصاً. وقال ابن بطال قوله: "أعطى بي ثم غدر" يريد نقض العهد الذي عاهد الله عليه، وقوله: "وأكل ثمنه". انتفع به على أي وجه كان، وذكر الأكل لأنه أخص المنافع؛ كما في قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً) (3) (رواه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، (الحديث: 16)
(2) سورة الذاريات، الآية: 56.
(3) سورة النساء، الآية: 10.

(8/427)


والمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكَاذِبِ". رواه مسلم.
وفي روايةٍ لَهُ: "المُسْبِلُ إزَارَهُ" يَعْنِي: المُسْبِلَ إزَارَهُ وَثَوْبَهُ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ لِلخُيَلاَءِ (1) .
279- باب في النهي عن الافتخار والبغي
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (فَلاَ تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)
وقال تَعَالَى (3) : (إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بتشديد النون الأولى والعدول إليه عن المانّ، إيماء إلى عدم دخول، من صدر منه المن مرة مثلاً في ذلك الوعيد، وإن كان مطلقه منهياً عنه محرماً. (والمنفق) بصيغة الفاعل من الإِنفاق (سلعته) بكسر المهملة الأولى أي: متاعه (بالحلف الكاذب) وجاء في الحديث عند البخاري الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة (رواه مسلم) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة (وفي رواية له المسبل إزاره) وذكر الإِزار لا للتخصيص به، بل لكون إسباله هو الغالب، فإسبال غيره مثله، كما قال المصنف (يعني المسبل إزاره وثوبه أسفل من الكعبين للخيلاء) أما إسبال ذلك، لا على وجه الخيلاء، فمكروه تنزيهاً.
باب النهي عن الافتخار والبغي
(قال الله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم) أي: لا تمدحوها، ولا تنسبوها إلى الطهارة (هو أعلم بمن اتقى) فربما تنسبون أحداً إلى التقوى، والله يعلم إنه ليس كذلك. ولذا ورد في الحديث الصحيح: "إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة، فليقل حسب فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً أحسبه كذا وكذا" إن كان يعلم ذلك. (وقال تعالى: إنما السبيل) أي: بالمعاقبة (على الذين يظلمون الناس) لا على من انتصر بعد ظلامته (ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك) أي: الظالمون الباغون (لهم عذاب أليم) لظلمهم وبغيهم.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الأزار ... (الحديث: 171) .
(2) سورة النجم، الآية: 32.
(3) سورة الشورى، الآية: 42.

(8/429)


1587- وعن عياضِ بن حمارٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ تَعَالَى أوْحَى إلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أحَدٍ، وَلاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أحَدٍ". رواه مسلم. قَالَ أهلُ اللغةِ: البغيُ: التَّعَدِّي والاستطالَةُ (1) .
1588- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا قَالَ الرجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أهْلَكُهُمْ". رواه مسلم. والرواية المشهورة: "أهْلَكُهُمْ" بِرَفعِ الكاف وروي بنصبها.
وذلكَ النْهيُ لِمنْ قَالَ ذَلِكَ عُجْباً بِنَفْسِهِ، وتَصَاغُراً للنَّاسِ، وارْتِفاعاً عَلَيْهِمْ، فَهَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1587- (وعن عياض) بكسر العين المهملة وتخفيف التحتية آخره ضاد معجمة (ابن حمار) بكسر المهملة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب التواضع (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا) "أن" مفسرة أو مصدرية، بتقدير الجار، قبلها، أي: أمرني وإياكم بالتواضع، والمبالغة فيه (حتى) غائية أو تعليلية (لا يبغي) بالنصب أي يستطيل (أحد) لفضل فيه من علم أو جاه أو مال (على أحد) خلا عن ذلك (ولا يفخر) بضم الخاء المعجمة، وبالنصب على ما قبله (أحد على أحد رواه مسلم) وأبو داود وابن ماجه كلهم من حديث عياض (قال أهل اللغة البغي التعدي والاستطالة) قال في المصباح: بغى على الناس بغياً، ظلم واعتدى، فهو باغ اهـ. وفي القاموس: بغى عليه يبغي بغياً علا وظلم وعدل عن الحق، واستطال وكذب.
1588- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قال الرجل) أي: إعجاباً بنفسه، وازدراء بغيره (هلك الناس) وفي معناه فسدوا وفسقوا ونجو ذلك (فهو أهلكهم) أي: أشدهم هلاكاً، لرضاه عن نفسه وبغيه على سائر الناس، (رواه مسلم، والرواية المشهورة أهلكهم برفع الكاف) أفعل تفضيل كما شرحت عليه، ثم الأولى بضم الكاف أو برفع أهلك (وروي بنصبها) أي: بفتحها لأن هذه فتحة بناء لقب الرفع، والنصب من ألقاب الإِعراب (وهذا النهي) المتصيد عن الكلام المدلول عليه، بنسبة قائل ذلك إلى الهلاك (لمن قال ذلك عجباً) بفتحتين أو بضم فسكون (بنفسه وتصاغراً للناس) أي: ازدراء بهم، مصدران
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (الحديث: 64) .

(8/430)


هُوَ الحَرامُ، وَأمَّا مَنْ قَالَهُ لِما يَرَى في النَّاسِ مِنْ نَقْصٍ في أمرِ دِينِهم، وقَالَهُ تَحَزُّناً عَلَيْهِمْ، وعَلَى الدِّينِ، فَلاَ بَأسَ بِهِ. هكَذَا فَسَّرَهُ العُلَماءُ وفَصَّلُوهُ، وَمِمَّنْ قَالَهُ مِنَ الأئِمَّةِ الأعْلامِ: مالِكُ بن أنس، وَالخَطَّابِيُّ، والحُميدِي وآخرونَ، وَقَدْ أوْضَحْتُهُ في كتاب الأذْكار (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منصوبان حالاً، وهما بمعنى الفاعل أو على بابهما، والنصب على أنه مفعول له (فهذا هو الحرام) أي: فالقول بما ذكر، الصادر على ذلك هو الحرام المنهي عنه، بالجملة الخبرية، لأنه أبلغ (وأما من قاله لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقاله تحزناً عليهم وعلى الدين فلا بأس به) بل إذا رجى أنه يحصل بقوله ذلك، إقبال على أمر الدين، وإعراض عن الاخلال به (هكذا فسره العلماء وفصلوه وممن قاله من الأئمة الأعلام) جمع علم بفتحتين، وهو في الأصل الجبل، وأريد به من هو في غاية الظهور، ففيه استعارة تصريحية، وعطف على الأئمة عطف بيان. قوله بعد العطف (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة (والخطابي) واسمه حمد بصيغة المصدر نسبة إلى جده خطاب (والحميدي) بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية ثم دال مهملة، وهو ابن عبد الله الحميدي الأندلسي (وآخرون وقد أوضحته في كتاب الأذكار) المسمى بحلية البررة. قال فيه: ويؤيد الرفع أنه جاء في رواية رويناها في حلية الأولياء، في ترجمة سفيان الثوري، هو من أهلكهم. قال الإِمام الحافظ أبو عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الرواية الأولى: قال بعض رواته: لا أدري أهو بالرفع أم بالنصب؟ قال الحميدي: الأظهر الرفع أي: هو الأشد هلاكاً للازدراء عليهم والاحتقار لهم؛ وتفضيل نفسه عليهم، لأنه لا يدري سر الله تعالى في خلقه، هكذا كان بعض علمائنا يقول، هذا كلام الحميدي والخطابي، معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساويهم، ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا قاله كذلك، فهو أهلكهم أي: أسوأ حالاً، فيما يلحقه من الإِثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أن له فضلاً عليهم، وأنه خير منهم فيهلك. هذا كلام الخطابي، فيما روينا عنه في معالم السنن ورويناه في سنن أبي داود ومن طريق مالك، ثم قال: قال مالك إذا قال ذلك تحزناً عليهم، لما يرى في الناس، يعني في أمر دينهم، فلا أرى به بأساً. وإذا قال ذلك عجباً بنفسه، وتصاغراً للناس، فهو المكروه الذي نهي عنه. قلت فهذا تفسير بإسنادٍ، في
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب النهي عن قول: هلك الناس (الحديث: 139) .

(8/431)


رواه مسلم. "التَّحْرِيشُ": الإفْسَادُ وتَغييرُ قُلُوبِهِمْ وتَقَاطُعُهُم (1) .
1593- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ، دَخَلَ النَّارَ". رواه أَبُو داود بإسناد عَلَى شرط البخاري ومسلم (2) .
1594- وعن أَبي خِراشٍ حَدْرَدِ بنِ أَبي حَدْرَدٍ الأسلميِّ. ويقالُ: السُّلمِيّ الصحابي - رضي الله عنه -: أنَّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنْ هَجَرَ أخَاهُ سَنَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والترمذي (التحريش) بالحاء المهملة وبالشين المعجمة (الإِفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم) وذلك مما يوسوس به، مما يؤدي لذلك ويفضي إليه.
1593- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) بأن يتلاقيا يسلم أحدهما على صاحبه ولا يكلم، تقدم تفسيره بذلك في الحديث المتفق عليه (فمن هجر فوق ثلاث فمات) مصراً على الهجر والقطيعة (دخل النار) إن شاء الله تعذيبه مع عصاة الموحدين، أو دخل النار خالداً مؤبداً، إن استحل ذلك، مع علمه بحرمته والإِجماع عليها (رواه أبو داود بإسناد، على شرط البخاري ومسلم) فرواه عن رجال، رويا عنهم في الصحيح، على وجه مخصوص، أي: في الأوصول عن محمد بن الصباح البزار، عن يزيد بن هارون، عن سفيان عن منصور، عن أبي مزاحم.
1594- (وعن أبي خراش) بكسر الخاء المعجمة، بعدها راء وإعجام الشين (حدرد) بفتح المهملة الأولى وسكون الثانية وفتح الراء، آخره دال مهملة (ابن أبي حدرد) بالوزن المذكور، واسمه سلامة بن عمير بن أبي سلامة بن سعد بن سارب بن الحارث بن عيسى بن هوازن بن أسلم بن أقصى بن حارثة (الأسلمي ويقال السلميمي) منسوب إلى سليم، مصغر أسلم، تصغير ترخيم. وفي نسخة "السلمي" بضم ففتح نسبة إلى ما ذكر، بحذف الياء كالجهني نسبة إلى جهينة. وقال الحافظ في الإِصابة: كذا وقع في هذه الرواية السلمي وإنما هو الأسلمي (الصحابي رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من هجر أخاه سنة) بفتح
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس ... (الحديث: 65) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: فيمن يهجر أخاه المسلم، (الحديث: 4914) .

(8/435)


قَالَ: لا يَضُرُّكَ. ورواه مالك في "الموطأ": عن عبد الله بن دينارٍ، قَالَ: كُنْتُ أنَا وابْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بنُ عُقْبَةَ الَّتي في السُّوقِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يُنَاجِيَهُ، وَلَيْسَ مَعَ ابْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي، فَدَعَا ابْنُ عُمَرَ رَجُلاً آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً، فَقَالَ لِي وَللرَّجُلِ الثَّالِثِ الَّذِي دَعَا: اسْتَأْخِرَا شَيْئاً، فَإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "لا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ" (1) .
1597- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أجْلِ أنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالنصب أي: فإن كانوا أربعة ما حكم تناجي اثنين منهم (قال لا يضرك) أي: لا إثم فيه، ولا حرمة، ولا ضرر فيه (ورواه) الإِمام المجتهد (مالك في الموطأ) بصيغة المفعول، من التوطئة التمهيد والتدليل. (وعن عبد الله بن دينار) التابعي الجليل مولى ابن عمر، ثقة من طبقة تلي أوساط التابعين. مات سنة سبع وعشرين ومائة، قاله الحافظ في التقريب (قال كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة التي بالسوق فجاء رجل يريد أن يناجيه) أي: ْيساره (وليس مع ابن عمر أحد غيري) جملة حالية من مفعول يناجيه (فدعا ابن عمر رجلاً آخر حتى كنا) أي: صرنا (أربعة فقال لي وللرجل الثالث) أي: بالنسبة إليه وإلى ابن عمر (الذي دعا) بحدف العائد المنصوب (استأخرا شيئاً) أي: من التأخر، وذلك ليبلغ المناجي مراده، وعلل نداءه الآخر، ثم ناجاه بعد مجيئه بقوله: (فأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يتناجى اثنان دون واحد) فيه التناجي دون ما زاد على الواحد.
1597- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث حتى يختلطوا) أي: الثلاثة بالناس، والنهي على سبيل التحريم، بدليل تعليله بقوله (من أجل أن ذلك يحزنه) بفتح أوله وثالثه، وبضم أوله، وكسر ثالثه. ومن المعلوم أن ذلك إيذاء له، والله تعالى يقول: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: لا يتناجى اثنان دون الثالث (11/68، 69) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث، بغير رضاه (الحديث: 36) .
وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في التناجي، (الحديث: 4852) .

(8/438)


1601- وعن أَبي عليٍّ سويدِ بن مُقَرِّنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ بَنِي مُقَرِّنٍ مَا لَنَا خَادِمٌ إِلاَّ وَاحِدَةٌ لَطَمَهَا أصْغَرُنَا فَأَمَرَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُعْتِقَهَا. رواه مسلم. وفي روايةٍ: "سَابعَ إخْوَةٍ لِي" (1) .
1602- وعن أَبي مسعودٍ البدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أضْرِبُ غُلامَاً لِي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنْ خَلْفِي: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ" فَلَمْ أفْهَمِ الصَّوْتِ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1601- (وعن أبي علي سويد) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية بعدها مهملة (ابن مقرن) بصيغة الفاعل من القرين بالقاف والراء والنون ابن عائذ بن منجا بن هجير بن نضر بن حشية بن كعب بن نور بن هدمة بن الأطم بن عثمان بن عمر بن اد المزني، يقال لولد عثمان بن عمرو وأخيه، أوس مزينة نسبوا إلى أمهم مزينة، بنت كلب بن وبرة يكنى أبا عدي، وقيل أبو عمرو سكن الكوفة. روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث، أخرج عنه مسلم حديثاً واحداً، ولم يذكر ابن الأثير عام وفاته ولا محلها (رضي الله عنه قال لقد رأيتني) ْبضم التاء، ومن خصائص أفعال القلوب، جواز اتحاد فاعلها ومفعولها، أي: علمتني (سابع سبعة) ويصح كون رأى: بصرية، وسابع منصوب على أنه حال (من بني مقرن) وهم سبع إخوة كلهم صحابة مهاجرون، لم يشاركهم أحد في مجموع ذلك، كما قاله ابن عبد البر، وغيره النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وعبد الرحمن. قال ابن الصلاح: وسابع لم يسم لنا، قال الحافظ زين الدين العراقي، في شرح ألفية الحديث: قد سماه ابن فتحون في ذيل الاستيعاب، عبد الله بن مقرن. وذكر أنه كان على سيرة أبي بكر، في قتال أهل الردة، وأن الطبري ذكر ذلك، وحكى ابن فتحون، أن بني مقرن عشرة فالله أعلم. وذكر الطبري في الصحابة أيضاً: ضرار بن مقرن، خلف أخاه لما قتل بنهاوند اهـ. (ما لنا خادم إلا واحدة) جملة في محل المفعول الثاني لرأى، إن كانت علمية. وسابع حال من المفعول الأول. وإن كانت بصرية فهي محل الحال من الياء، فتكون مع ما قبلها حالاً مترادفة. (لطمها أصغرنا) لم يعينه المحدثون فيما رأيته، أي: ضربها ببطن كفه (فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نعتقها) ليكون اعتاقها كفارة لضربها؛ ففيه غلظ تعذيب المملوك، والاعتداء عليه (رواه مسلم. وفي رواية) له (سابع إخوة لي) بدل قوله سابع: سبعة.
1602- (وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، (الحديث: 32) .

(8/442)


الغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هُوَ يَقُولُ: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أنَّ اللهَ أقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلامِ". فَقُلتُ: لا أضْرِبُ مَمْلُوكاً بَعْدَهُ أَبَداً. وَفِي روايةٍ: فَسَقَطَ السَّوْطُ مِنْ يَدِي مِنْ هَيْبَتِهِ. وفي روايةٍ: فَقُلتُ: يَا رسولَ الله، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ: "أمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ". رواه مسلم بهذه الروايات (1) .
1603- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ ضَرَبَ غُلاَمَاً لَهُ حَدّاً لَمْ يَأتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فإنَّ كَفَارَتَهُ أنْ يُعْتِقَهُ" رواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فسمعت صوتاً من خلفي اعلم أبا مسعود) أتى به للتنبيه على ما بعده (فلم أفهم الصوت) أي: ما اشتمل عليه من الكلام ومن في قوله (من الغضب) تعليلية، كهي في قوله تعالى (مما خطيئاتهم أغرقوا) (فلما دنا) أي: قرب (مني إذا) فجائية (هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يقول: إعلم) بصيغة الأمر (أبا مسعود) بحذف حرف النداء، اختصاراً (أن الله تعالى أقدر عليك منك على هذا الغلام) أي: فاحذر انتقامه، ولا يحملك قدرتك على ذلك المملوك، أن تتعدى فيما منع الله منه، من ضربه عدواناً. (فقلت لا أضرب مملوكاً بعده) أي: بعد هذا القول الذي سمعته (أبدأ وفي رواية) هي لمسلم كما ستأتي (فسقط السوط من يدي من هيبته) من تعليلية (وفي رواية فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى) أي: لذاته طلباً لمرضاته (فقال أما) بتخفيف الميم (إنه لو لم تفعل) فيه إطلاق الفعل على الفاعل (للفحتك النار) بتخفيف الفاء، وبالحاء المهملة، أي: أحرقتك (أو) شك من الراوي (لمستك النار) ويلزم من مسها الإِحراق (رواه مسلم بهذه الروايات) .
1603- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ضرب غلاماً له حداً) مفعول له (لم يأته) أو لم يفعل ما يقتضي ذلك الحد الذي حد به (أو لطمه) أي: ضربه ببطن كفه، من غير سبب (فإن كفارته) أي: مكفر إثم ذلك عنه (أن يعتقه) أي: محو ذلك الإِثم عنه، بإعتاقه. قال القاضي عياض: أجمعوا على أن الإعتاق غير واجب، وإنما هو مندوب. لكن أجر هذا الإِعتاق، لا يبلغ أجر الإِعتاق شرعاً. وفي الحديث الرفق بالمماليك، إذا لم يذنبوا أما إذا أذنبوا فقد رخص - صلى الله عليه وسلم - بتأديبهم بقدر إثمهم، ومتى زادوا يأخذ بقدر الزيادة (رواه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، (الحديث: 35) .

(8/443)


مسلم (1) .
1604- وعن هِشام بن حكيمِ بن حِزَامٍ رضي الله عنهما: أنَّه مَرَّ بالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ، وَقَدْ أُقيِمُوا في الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُؤُوسِهِمُ الزَّيْتُ! فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قيل: يُعَذَّبُونَ في الخَرَاجِ - وفي رواية: حُبِسُوا في الجِزْيَةِ - فَقَالَ هِشَامٌ: أشهدُ لَسَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "إنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاس في الدُّنْيَا"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مسلم)
1604- (وعن هشام بن حكيم بن حزام) بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي، صحابي ابن صحابي، فلذا قال المصنف (رضي الله عنهما) قال في التقريب: له ذكر في الصحيحين، في حديث عمر، حيث سمعه يقرأ سورة الفرقان. مات قبل أبيه، ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين، خرّج عنه مسلم وأبو داود والنسائي. وفي التهذيب أسلم يوم الفتح، توفي قبل حكيم أبيه، قاله ابن عبد البدر وغيره. وقيل: استشهد باجنادين، قاله إبراهيم الأصبهاني وغيره، وغلطهم فيه ابن الأثير وقال: إنه وهم. والذي قتل باجنادين، هو هشام بن العاص، سنة ثلاث عشر وقصة هشام بن حكيم، مع عياض بن غنم. وهو حديث الباب، يدل على أنه عاش بعد اجنادين، فإنه مر على عياض وهو وال على حمص وإنما فتحت بعد اجنادين بزمان طويل، روى عنه جماعة من التابعين. قال محمد بن سعد: وكان هشام بن حكيم رجلاً صليباً (2) مهيباً. وقال الزهري: كان يأمر بالمعروف في رجال معه، وكان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغه أنه ينكر أمراً ما، بقيت أنا وهشام فلا يكون هذا.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث شتى، روى مسلم واحداً منها (أنه مر بالشام على أناس من الأنباط) ويقال فيهم النبط بفتح أوليه، هم قوم من العرب، دخلوا في العجم والروم، واختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، سموا بذلك لمعرفتهم بأنباط الماء واستخراجه، لكثرة معالجتهم الفلاحة. قاله في التوشيح. وقال قوم: هم فلاحو العجم وجملة (وقد أقيموا في الشمس) حالية، وعطف عليها قوله (وصب على رؤوسهم الزيت) والفعل فيهما مبني للمجهول (فقال ما هذا قيل يعذبون في الخراج) أي: من أجله وبسببه (وفي رواية حبسوا في الجزية فقال هشام أشهد لسمعت) جواب قسم مقدر، أو جواب أشهد، لتنزيله، لتحققه منزلة القسم؛ (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) أي: بغير
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، (الحديث:29) .
(2) الصليب الشديد وكذا الصلب بضم الصاد. ع.

(8/444)


1606- وعنه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ في وَجْهِهِ، فَقَالَ: "لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ". رواه مسلم.
وفي رواية لمسلم أَيضاً: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الضَّرْبِ في الوَجْهِ، وَعَنِ الوَسْمِ في الوَجْهِ (1) .
283- باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حَتَّى النملة ونحوها
1607- عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بعثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَعْثٍ، فَقَالَ: "إنْ وَجَدْتُمْ فُلاَناً وَفُلاناً" لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا "فَأَحْرِقُوهُمَا بالنَّارِ" ثُمَّ قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ أرَدْنَا الخرُوجَ: "إنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أنْ تُحْرِقُوا فُلاناً وفُلاناً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1606- (وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه حمار قد وسم) بصيغة المجهول (في وجهه فقال) محرماً لذلك، ومنبهاً أنه من الكبائر (لعن الله الذي وسمه. رواه مسلم وفي رواية لمسلم أيضاً نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه) قال العلماء: لأن الوجه لطيف، يجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطيفة، وأكثر الإِدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها وقد يشوه الوجه، والشين فيه فاحش، لأنه بارز ظاهر، لا يمكن ستره، ومتى ضربه لا يسلم من الشين غالباً. وشمل النهي، ضرب الخادم والزوجة والولد للتأديب، فليجتنب الوجه وتأثير الوسم أشد.
باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حتى القملة ونحوها
بالجر عطفاً على المجرور قبله.
1657- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث) بفتح الموحدة وسكون المهملة، وبعدها مثلثة، أي: جيش مبعوث به (فقال إن وجدتم فلاناً وفلاناً لرجلين من قريش سماهما) أي: عينهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسيهما الراوي (فأحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج) إلى ذلك المحل المرسل إليه (إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً) أي: وقد رجعت عنه (وإن النار لا يعذب بها إلا الله) جملة مستأنفة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه (الحديث:107) وهو عن جابر ...

(8/446)


وإنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ الله، فإنْ وَجَدْتُمُوهُما فاقْتُلُوهُما". رواه البخاري (1) .
1608- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كنَّا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فانْطَلَقَ لحَاجَتِهِ، فَرَأيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءتِ الحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَعْرِشُ فَجَاءَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَنْ فَجَعَ هذِهِ بِوَلَدِهَا؟ ، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْها". ورأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: "مَنْ حَرَّقَ هذِهِ؟ " قُلْنَا: نَحْنُ قَالَ: "إنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُعَذِّبَ بالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ". رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
قَوْله: "قَرْيَةُ نَمْلٍ" مَعْنَاهُ: مَوضْعُ النَّمْلِ مَعَ النَّمْلِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو حالية (فإن وجدتموهما فاقتلوهما) في الحرب أو صبراً (رواه البخاري) .
1608- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فانطلق لحاجته) أي: حاجة الإِنسان (فرأينا حمّرة) بضم الحاء وتشديد الميم، أي: مع ضمها، وقد تخفف وتشدد الراء: طائر صغير كالعصفور (معها فرخان) بفتح الفاء وبالراء والخاء المعجمة، تثنية فرخ أي: ولدان. والجملة حالية، رابطها الضمير (فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش) قال في النهاية: التعريش أن ترتفع وتظلل بجناحيها على من تحتها (فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال من فجع) من باب نفع أي: رزأ (هذه بولدها ردوا ولدها) المراد منه الجنس، فيشمل ما فوق الواحد (إليها) فردوه وسكت عنه، لظهور أنهم لا يتخلفون عن امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم - (ورأى قرية نمل قد حرقناها) بالتضعيف اعتباراً بتعداد النمل (فقال من حرق هذه) أي: القرية (قلنا نحن قال إنه لا ينبغي) أي: لا يجوز ولا يحل (أن يعذب بالنار إلا رب النار) نعم من قتل بالنار، قتل بها قصاصاً، إن شاء الولي ذلك، وإن شاء اقتص بالسيف (رواه أبو داود بإسناد صحيح، قوله قرية نمل) بفتح القاف والتحتية (معناه موضع النمل مع النمل) قال في النهاية: قرية النمل: هي مسكنها وبيتها، والجمع قرى اهـ. وحينئذ فقول المصنف مع النمل ليس تفسيراً لقرية النمل لغة، إنما هو بيان للمراد في الحديث، وأن المنهى عنه إحراق النمل، لا بيته الخالي منه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: لا يعذب بعذاب الله (6/104، 105) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في كراهية حرق العدو بالنار، (الحديث: 2675) .

(8/447)


284- باب في تحريم مطل الغني بحقٍّ طلبه صاحبه
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (إنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أهْلِهَا) .
وقال تَعَالَى (2) : (فَإن أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمَانَتَهُ) .
1609- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَع". متفق عَلَيْهِ.
معنى "أُتبع":
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تحريم مطل الغني
أي: تأخيره (بحق طلبه صاحبه) أي: وكان له الطلب، أما لو كان الحق مؤجلاً، فطلبه قبل الأجل، فلا عبرة بطلبه، ولا تحريم في مطله. (قال الله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها) وإن أنزلت في خصوص رد المفتاح، لعثمان بن طلحة الحجبي، لكن الأمانات فيها عام. لذلك ولغيره. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (وقال تعالى: فإن أمن بعضكم بعضاً) من غير رهن ولا إشهاد (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) وجوباً ومقابلة لائتمانه بأمانه.
1609- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مطل الغني) من إضافة المصدر للفاعل، والمطل المد (3) والمراد به هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر (ظلم) قال السبكي: تسمية المطل ظلماً، يشعر بكونه كبيرة كالغصب. وقال المصنف: هو صغيرة (وإذا أتبع) بسكون المثناة مبنياً للمفعول أي: أحيل (أحدكم علي مليء) بالهمز وقد يسهل الغني (فليتبع) بالتخفيف والتشديد: فليحتل، وهو أمر ندب، وقيل إباحة وإرشاد، وقيل وجوب. "تنبيه" قال الرافعي: الأشهر في الروايات "وإذا أتبع" وأنهما جملتان، لا تعلق لإِحداهما بالأخرى. ووجه الفاء: أن الجملة الأولى: كالتوطئة، والعلة لقبول الحوالة، أي: إذا كان مطل الغني ظلماً، فليقبل من يحال بدينه عليه، فإن المؤمن من شأنه، أن يحترز عن الظلم فلا يمطل (متفق عليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة (معنى أتبع) بضم الهمزة وسكون
__________
(1) سورة النساء، الآية: 58.
(2) سورة البقرة، الآية: 283.
(3) في الأصل (والمدافعة) بدل (والمراد به) وهو تحريف. ع.

(8/448)


يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ في قَيْئِهِ فَيَأكُلُهُ" وفي روايةٍ: "العائِدُ في هِبَتِهِ كالعائِدِ في قَيْئِهِ" (1) .
1611- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ في سَبيلِ اللهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِندَهُ، فَأَرَدْتُ أن أشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "لاَ تَشْتَرِهِ وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وإنْ أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإنَّ العَائِدَ في صَدَقَتِهِ كَالعَائِدِ في قَيْئِهِ". متفق عَلَيْهِ.
قَوْله: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبيلِ الله" مَعنَاهُ: تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَى بَعْضِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لها شأن في القبح يتحدث به، كصفة الكلب، حال كونه أو الذي (يقيء ثم يعود في قيئه) أي: ما تقايأه (2) من إطلاق المصدر على اسم المفعول (فيأكله وفي رواية) لهما، وهي عند أحمد وأبي داود والنسائي من حديثه أيضاً (العائد في هبته كالعائد في قيئه) قال المصنف: والحديث ظاهر في التحريم، وهو محمول على هبته لأجنبي. أما إذا وهب لولده وإن سفل، فله الرجوع أي بشرطه. قال ابن دقيق العيد: وقع التشديد في التشبيه من وجهين: أحدهما تشبيه الراجع بالكلب، والثاني تشبيه المرجوع فيه بالقيء.
1611- (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حملت على فرس) اسمه الورد، كان لتميم الداري فإهداه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه لعمر (في سبيل الله) أي أعطى رجلاً فرساً، ليجاهد الكفار عليه، وهو يطلق على المذكر والمؤنث، بلفظ واحد كما تقدم (فأضاعه الذي كان عنده) أي: لم يكرمه بالإِطعام والعناية به (فأردت أن أشتريه) وظن أن استعادته بالشراء، لا يكون رجوعاً في الهبة، فلا يتناول ما ورد فيه (وظننت أنه يبيعه برخص) أي: في السعر لضعفه وهزاله (فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: عن ذلك (فقال لا تشتره ولا تعد) أي: ترجع (في صدقتك وإن أعطاكه) أي: بالبيع منك (بدرهم فإن العائد في صدقته) أي: ولو بشرائها من المتصدق بها عليه (كالعائد في قيئه متفق عليه) رواه البخاري في الزكاة وفي الهبة وفي الجهاد. ومسلم في الفرائض، ورواه أيضاً في صحيحه. قال المزي وتعقب بأنه رواه في الهبة، وهي بين الفرائض والوصايا، قال الحافظ: ورواه أيضاً النسائي في الأحكام ورواه ابن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الهبة في أبواب متعددة (5/160) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ... (الحديث: 5، 6، 7) .
(2) لعل الصواب (ما تقيأه) بتشديد الياء كما في القاموس وغيره. ع.

(8/450)


قَالَ اللهُ تَعَالَى (1) : (الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأولئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) - إِلَى قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أفتى الشهاب الرملي بخلافه، وتحريمه تعبدي، وما أبدى له إنما يصح حكمة لا علة. (قال تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون) من قبورهم (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان) أي إلا قيام المصروع (من المس) أي الجنون وهو متعلق بيقوم. وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء، مر على قوم بطونهم كالبيوت، وأخبر أنهم أكلة الربا (ذلك) أي: العذاب (بأنهم) أي: بسبب أنهم (قالوا إنما البيع مثل الربا) اعترضوا على أحكام الله تعالى، وقالوا البيع مثل الربا، فإذا كان الربا حراماً، فلا بد أن يكون البيع كذلك (وأحل الله البيع وحرم الربا) يحتمل أن يكون تتمة المعترض (2) المشرك، ويحتمل أن يكون من كلام الله رداً عليهم، أي: اعترضوا، والحال أن الله فرق بين هذا وهذا، وهو الحكيم العليم (فمن جاءه موعظة من ربه) أي: بلغه وعظ من الله (فانتهى) أي: فاتعظ وامتثل، حال وصول الشرع إليه. (فله ما سلف) من المعاملة أي: له ما كان أكل من الربا زمن الجاهلية (وأمره إلى الله) يحكم بينهم يوم القيامة (ومن عاد) إلى تحليله وأكله (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لكفرهم (يمحق الله الربا) أي: يذهب بركته فلا ينتفع في الدنيا والآخرة به (ويربي الصدقات) أي: يكثرها وينميها، وقد ورد كما تقدم أن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يكون مثل أحد (والله لا يحب) أي: لا يرضى (كل كفار) أي: مصر على تحليل الحرام (أثيم) فاجر بارتكابه (إن الذين آمنوا) (3) بما جاء من الله (وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) ذكرهما بعد الأعم لشرفهما (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم) من آت (ولا هم يحزنون) على فائت (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) اتركوا ما لكم
__________
(1) سورة البقرة، الآيات: 275-278.
(2) لعله (كلام المعترض) .
(3) هذه والأخيرة ليستا في نسخ المتن.

(8/454)


قَالَ الله تَعَالَى (1) : (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) الآيةَ.
وقال تعالى (2) : (لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) الآيةَ.
وقال تَعَالَى (3) : (يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً) .
1614- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قَالَ الله تَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) أي: فلا يشرك مع ربه في عبادته أحداً، شركاً خفياً، وهو الرياء (حنفاء) مائلين عن كل ما سوى الدين الحنيفي إليه (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيِّمة) تقدم ما يتعلق بها في باب وجوب الزكاة (وقال تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم) أي: ثوابها (بالمن) تعداد النعمة على المحسن إليه (والأذى) إبطالاً (كـ) ابطال (الذي ينفق ماله رئاء الناس) الضعفين اجتمعا في إحباط الثواب، وجعل العمل معرى منه، سوى ما صحبه في كل منهما (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) وإحسان الكافر لا يكسبه ثواباً، وإنما يتوقع بها تخفيف العقاب (فمثله) أي: صفته العجيبة الشأن، (كمثل صفوان) حجر أملس (عليه تراب) جملة في محل الصفة (فأصابه وابل) مطر غزير (تركه صلداً) أملس نقياً من التراب، كذلك عمل المرائين، يضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال، فيما يرى الناس كالتراب (لا يقدرون) الضمير للذين ينفقون، باعتبار المعنى، فأنهم كثيرون (على شيء مما كسبوا) لا ينتفعون بما فعلوا (والله لا يهدي القوم الكافرين) إلى خير، وفيه إيماء إلى أن الرياء من صفة الكفار، فعلى المؤمن أن يحذر منها وقال تعالى: في وصف المنافقين (يراءون الناس) بأعمالهم وطاعاتهم (ولا يذكرون الله إلا قليلا) أي: في قليل من الزمان، وهو حال اجتماعهم على المسلمين، أو إلا ذكراً قليلاً.
1614- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري) بأن قصد مراءاته، أو
__________
(1) سورة البينة، الآية: 5.
(2) سورة البقرة، الآية: 264.
(3) سورة النساء، الآية: 142.

(8/456)


1618- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ - عز وجل - لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" يَعْنِي: رِيحَهَا. رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيحٍ (1) . والأحاديث في الباب كثيرةٌ مشهورةٌ.
289- باب فيمَا يتوهم أنَّه رياء وليس هُوَ رياء
1619- وعن أَبي ذرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ لِرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أرَأيْتَ الرَّجُلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1618- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تعلم علماً مما) أي: من العلم الذي (يبتغي) أي يقصد (به وجه الله عز وجل) أي: التقرب إليه وذلك العلم الشرعي والآلة (لا يتعلمه) لفرض من الأغراض (إلا ليصيب به عرضاً) بفتح العين المهملة والراء وبالضاد المعجمة قال في النهاية العرض: هو متاع الدنيا وحطامها، ولذا قيده في الحديث بقوله: (من الدنيا لم يجد عرف الجنة) وأدرج في الحديث تفسير بعض الرواية بقوله (يعني) أي: بقوله عرف الجنة (ريحها) جاء عند الطبراني: "وإن عرفها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام". ولا يلزم من منعه، من وجد إن عرفها منعه من دخولها، إما بعد التعذيب أو قبله. بل يجوز ذلك معه كما تقدم في منع شارب الخمر، من شرب خمر الجنة، ولابس الحرير منه فيها والله أعلم (يوم القيامة) ظرف الفعل المذكور قبله، والحكمة في منع الطالب لما ذكر من عرف الجنة، أنه قصر طلبه على الحقير الفاني واستبدل الأدنى بالذي هو خير فناسب أن يمنع ما أعد لمن علت همته زيادة في تشريفه، وتعجيل المسرة لكون هذا على الضد من ذلك والله أعلم (رواه أبو داود بإسناد صحيح) قال في الجامع الكبير ورواه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب ثم الحديث مقصوداً في المعقود له الباب، بل هو من جملة الغرض المقصود له، فلذا أورده المصنف هنا (والأحاديث في الباب) أي: تحريم الرياء (كثيرة مشهورة) وفيما ذكر كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. (باب ما يتوهم) بالبناء للمجهول (أنه رياء وليس هو) مؤكد لضمير الفاعل المستتر (رياء) أي: لعدم صدق تعريفه عليه.
1619- (عن أبي ذر رضي الله عنه قال قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: في طلب العلم لغير الله تعالى، (الحديث 3664) .

(8/461)


فَيَخُونُهُ فِيهِمْ إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ حَتَّى يَرْضى" ثُمَّ التَفَتَ إلَيْنَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَا ظَنُّكُمْ؟ ". رواه مسلم (1) .
292- باب في تحريم تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال في لباس وحركة وغير ذَلِكَ
1629- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: لَعَنَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ.
وفي رواية: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُتَشَبِّهِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ًعنه بحوائجهم (فيخونه) بالنصب في جواب النفي (فيهم إلا وقف) بالبناء للمفعول (له يوم القيامة فيأخذ) بالرفع أي: المجاهد (من حسناته) أي: الخائن والظرف بيان لقوله (ما شاء) قدم عليه اهتماماً به وقوله (حتى يرضى) غاية الأخذ أي: لا يمنع منه ولا يوقف عند حد دون ما يرضيه (ثم التفت إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال) مخاطباً بقوله (ما ظنكم) أي: تظنون وقد أذن الله له في أخذ ما يرضيه منها، وطبع الإِنسان الحرص أن يترك منها شيئاً (رواه مسلم) فيه غلظ إثم الخالف للمجاهد في أهله بالخيانة تحذيراً عنها وتثبيطاً.
باب تحريم تشبه الرجال بالنساء
(وتشبه النساء بالرجال في لباس وحركة وغير ذلك) من جلوس أو نوم، الظرف الثاني في محل الحال، أو الصفة من المضاف إليه فيهما، أي: الكائنين، أو كائنين في ذلك، ولا حاجة إلى جعله من التنازع.
1629- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنثين) بالمعجمة والنون المشددة والثاء المثلثة، بصيغة اسم الفاعل وبصيغة اسم المفعول: من يشبه خلقه النساء في حركاته وكلماته، وإن كان ذلك خلقياً فلا لوم عليه، وعليه تكلف إزالته، فإن تمادى عليه ولم يتكلف إزالته: ذم، وإن كان بقصد منه وتكلف له فهو المذموم. قال ابن حبيب: المخنث هو المؤنث من الرجال وإن لم تعرض منه الفاحشة، مأخوذ من التكسر في المشي ونحوه، وبينه بقوله (من الرجال والمترجلات) أي: اللاتي كالرجال تشبيهاً (من
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: حرمة نساء المجاهدين، وإثم من خانهم فيهن (الحديث: 139) .

(8/470)


لأَكْتَافِهِنَّ، وقيلَ: مائلاتٌ يَمْتَشطنَ المِشْطَةَ المَيلاءَ: وهي مِشطةُ البَغَايا، و "مُميلاتٌ" يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ تِلْكَ المِشْطَةَ.
"رُؤوسُهُنَّ كَأسْنِمَةِ البُخْتِ" أيْ: يُكَبِّرْنَهَا وَيُعَظِّمْنَهَا بِلَفِّ عِمَامَةٍ أَوْ عِصَابَةٍ أَوْ نَحْوِهَا (1) .
293- باب في النهي عن التشبه بالشيطان والكفار
1632- عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَأكُلُوا بِالشِّمَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زوجها، فتميل عن ذلك لضده، وقيل معناه كاسيات من الثبات، عاريات من فعل الخير والاعتناء بالطاعات، والاهتمام لآخرتهن (مميلات أي: يعلمن غيرهن فعلهن المذموم) من الميل عن طاعة الله تعالى وإهمال ما يلزم حفظه (وقيل مائلات يمشين متبخرات مميلات لأكتافهن) بالفوقية جمع كتف بفتح فكسر، أو فتح أو كسر فسكون فيهما (وقيل مائلات يمتشطن المشطة) بكسر الميم (الميلاء) بفتح الميم أي: المائلة (وهي مشيطة البغايا) جمع بغى أي: الزواني لتدل تلك المشطة منها، على ما هي بصدده من البغاء؛ (مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة) أي: يفعلن ذلك بأنفسهن ولغيرهن. وقيل مائلات إلى الرجال، مميلات بما يبدينه من زينتهن وغيرها، واختاره القاضي عياض ومعنى قوله (رءُوسهن كأسنمة البخت أي: يكبرنها) أي: الرءوس (ويعظمنها) فتصير كبيرة الجرم عظيمة (بلف عمامة أو عصابة أو نحوها) وفي ذلك تشبه بالرجال. قال السيوطي في الدر: وهو من شعار المغنيات، قال المصنف نقلاً عن المازري: ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال، ولا يغضضن عنهم، ولا ينكسن رءُوسهن. واختار القاضي عياض: أن المائلات يتمشطن المشطة الميلاء، وهي ضفر الغدائر وشدها إلى فوق، وجمعها وسط الرأس، فتصير كأسنمة البخت، إنما هو ارتفاع الغدائر فوق رؤوسهن، وجمع عقائصها هناك، وتكبيرها بما تضفر به، حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس، كما يميل السنام، قال ابن دريد يقال ناقة ميلاء، إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها.
باب النهي عن التشبه بالشيطان والكفار
آل فيهما للجنس، فيصدق بكل فرد من ذلك.
1632- (عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تأكلوا بالشمال) النهي للتنزيه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، (الحديث: 125) .

(8/473)


فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَأكُلُ ويَشربُ بِالشِّمَالِ". رواه مسلم (1) .
1633- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لاَ يَأكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلاَ يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا". رواه مسلم (2) .
1634- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارى لاَ يَصْبغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ". متفق عَلَيْهِ. المُرَادُ: خِضَابُ شَعْرِ اللَّحْيَةِ والرَّأسِ الأبْيَضِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ؛ وأمَّا السَّوَادُ، فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ في البَابِ بَعْدَهُ، إنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ودعاؤه على من يأكل بها ليس لذلك، بل لكبره عن امتثال الأمر النبوي ونعلله بما لا أصل له (3) وعلل النهي بقوله (فإن الشيطان يأكل بالشمال) فيه تصريح بأن الشيطان يأكل، والأصل الحقيقة، ويؤيده ما جاء من أن له ضراط، فهذا يدل على أن له جوفاً يحيل الطعام والشراب. وتقدم حديث "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه" (رواه مسلم) ورواه ابن ماجة، وعليه اقتصر السيوطي في جامعه الكبير والصغير.
1633- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها) أكد الفعل بالنون، مبالغة في النهي فهو بها مكروه كراهة شديدة (فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها) لأنه لاستقذاره وخساسته، يستعمل الخسيس في النفيس (رواه مسلم) ورواه الترمذي، ورواه الخليلي في مشيخته، وحديث ابن عمر باللفظ المذكور ولكن بغير نون تأكيد فيهما، ورواه أبو يعلى وابن جرير من حديث ابن عمر.
1634- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون) أي: لا يخضبون شعورهم أصلاً (فخالفوهم) وأخضبوا بما عدا السواد (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة (المراد) من قوله (لا يصبغون خضاب شعر اللحية والرأس الأبيض) صفة الشعر (بصفرة أو حمرة) أي: مثلاً فيجوز بما عدا السواد كما قال (أما السواد) أي: الخضاب (فمنهي عنه) على سبيل التحريم، إلا في الجهاد لإرهاب العدو (كما سنذكره في الباب بعده، إن شاء الله تعالى) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهم، (الحديث: 104) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهم، (الحديث: 105) .
(3) أي اختلاقه علة هو كاذب فها. ع.

(8/474)


شَاءَ اللهُ تَعَالَى (1) .
294- باب في نهي الرجل والمرأة عن خضاب شعرهما بسواد
1635- عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ والِدِ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما، يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضاً. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "غَيِّرُوا هَذَا وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ". رواه مسلم (2) .
295- باب في النهي عن القَزَع وَهُوَ حلق بعض الرأس دون بعض، وإباحة حَلْقِهِ كُلّهِ للرجل دون المرأة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب نهي الرجل والمرأة
ومثلها الخنثى وسكت عنه لندرته ولأنه في الحقيقة يرجع إلى أحدهما (عن خضاب شعرهما بسواد) والنهي للتحريم، ولا يباح كما سبق إلا للجهاد وإرهاب العدو.
1635- (عن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنهما قال: أتي) بالبناء للمجهول (بأي قحافة) عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة (والد أبي بكر الصديق) أسلم يوم الفتح، ومات في خلافة عمر، ولكونه صحابياً قال المصنف: (رضي الله عنهما) وقوله (يوم فتح مكة) ظرف لقوله أتي (ورأسه ولحيته) أي: شعرهما (كالثغامة) بفتح المثلثة وبالغين المعجمة والميم. قال في النهاية هو نبت أبيض الزهر والثمر، يشبه به الشيب، تبيض كأنها الثلج (بياضاً) تمييز لبيان وجه المشبه، والجملة في محل الحال من أبي قحافة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واهذا) أي: الشيب بالخضاب (واجتنبوا السواد) وجوباً ولا تخضبوا به (رواه مسلم) .
باب النهي عن القزع
تنزيهاً (وهو) بفتح القاف والزاي وبالعين المهملة (حلق بعض الرأس دون بعض) قال
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: الخضاب (10/299) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: في مخالفة اليهود في الصبغ، (الحديث: 80) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة، وتحريمه بالسواد، (الحديث: 78 و79) .

(8/475)


1638- وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، أمْهَلَ آلَ جَعْفَر ثَلاَثاً ثُمَّ أتَاهُمْ فَقَالَ: "لاَ تَبْكُوا عَلَى أخِي بَعْدَ اليَوْمِ" ثُمَّ قَالَ: "ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي" فَجِيءَ بِنَا كَأنَّنَا أفْرُخٌ فَقَالَ: "ادْعُوا لِي الحَلاَّقَ" فَأمرَهُ، فَحَلَقَ رُؤُوسَنَا. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح عَلَى شرط البخاري ومسلم (1) .
1639- وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَحْلِقَ المَرْأةُ رَأسَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1638- (وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهل آل جعفر) أي: أولاد جعفر بن أبي طالب وأهله (ثلاثاً) أي: من الليالي أو من الأيام، وحذف التاء لحذف المعدود، أو لتغليب الليالي عليها، لأن المراد أنه أمهلهم ثلاثة أيام وليالي؛ (ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم) النهي في للتنزيه، لإِباحة البكاء الخالي عن المحرم على الميت بعد الثلاث، وإن كان الأولى تركه ثم قال (ادعوا لي بني أخي) وهم محمد وعبد الله وعوف (فجيء بنا كأننا أفرخ) بضم الراء، جمع فرخ ولد الطائر، وذلك لما اعتراهم من الحزن على فقده؛ (فقال ادعوا لي الحلاق) الصفة فيه للنسبة كالتمار والبزاز (فأمره فحلق رءوسنا) ليكون كالتفاؤل بإزالة الحزن، وانجلاء الكرب. ومناسبة الحديث للترجمة بقوله رءوسنا، فإنه ظاهر في تعميم كل شعرها (رواه أبو داود (2) بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم) فرواه في الترجل من سننه، عن عقبة بن مكرم، هو العمي وابن المثنى، كلاهما عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن عبد الله بن جعفر. ورواه النسائي في المناقب، ْعن محمد بن المثنى. وفي الزينة عن إسحاق بن منصور عن وهب بن جرير بنحوه، وأعاده في السيرة عن إسحاق بن منصور بتمامه وأوله عنده، بعث جيشاً واستعمل عليهم زيداً رضي الله عنه كذا في الأطراف للمزي.
1639- (وعن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عن (أن تحلق المرأة رأسها) أي: شعره لما فيه من المثلة؛ والنهي للتنزيه. ومحله ما لم ينهها عنه. نحو حليل وإلا
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الترجل، باب: في حلق الرأس، (الحديث: 4192) .
(2) نسخة رواه أحمد وأبو داود الخ. ع.

(8/477)


1640- وعن أسماءَ رضي الله عنها: أنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يا رسولَ اللهِ إنَّ ابْنَتِي أصَابَتْهَا الحَصْبَةُ، فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا، وإنّي زَوَّجْتُهَا، أفَأَصِلُ فِيهِ؟ فقالَ: "لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ وَالمَوْصُولَةَ". متفق عليه.
وفي روايةٍ: "الوَاصِلَةَ، والمُسْتوْصِلَةَ".
قَوْلُهَا: "فَتَمَرَّقَ" هو بالراءِ ومعناهُ: انْتَثَرَ وَسَقَطَ. "وَالوَاصِلَةُ": التي تَصِلُ شَعْرَهَا، أو شَعْرَ غَيْرِهَا بِشَعْرٍ آخَرَ. "وَالمَوْصُولَةُ": التي يُوصَلُ شَعْرُهَا.
"والمُسْتَوْصِلَةُ": التي تَسْألُ مَنْ يَفْعَلُ لها ذلك.
وعن عائشة رضي الله عنها نَحوهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخضاب والوشم أو دين الله (ومن يتخذ الشيطان ولياً) يطيعه ولا يطيع الله (من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً) أي: ضيع بالكلية رأس ماله، وباع الجنة بالدنيا (يعدهم) ولا ينجز (ويمنيهم) ما لا يدركون (وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) هو إيهام النفع، فيما فيه الضر (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً) معدلاً ومهرباً.
1640- (وعن أسماء) هي بنت الصديق (رضي الله عنها) وعنه (ان امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت:) عطف تفسير على سألت (يا رسول الله إن ابنتي أصابتها الحصبة) بفتح المهملة الأولى، وسكون الثانية وفتحها وكسرها، كما في النهاية. قال: هي شيء يظهر في الجلد (فتمرق شعرها) أي: من الحصبة (وإني زوجتها) هو السبب الداعي إلى الوصل من تحسينها للزوج بالشعر، فلذا قالت: (أفأصل فيه) أي: تأذن لي في الوصل فأصل فيه، عوض ما سقط عنه بالحصبة (فقال: لعن الله الواصلة) أي: فاعلة ذلك (والموصولة) المفعول بها ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في اللباس، وابن ماجه ونسبه لمسلم، لأن عنده الرواية المشار إليها، بقوله (وفي رواية) هي لهما كما في الأطراف، فأخرجها البخاري في اللباس، وكذا مسلم فيه، ورواه النسائي وابن ماجة (الواصلة والمستوصلة) أي: طالبة وصل الشعر المحرم بها، أو بغيرها. وهذه أعم من تلك، باعتبار عمومها وغيرها، كما أن تلك أعم من أن يكون الموصول فيها، وصل عن طلب أو عن غيره، وتقدم في باب جواز اللعن على العموم، ما يحرم الوصل به وغيره (قولها فتمرق هو بالراء) وبالقاف (ومعناه انتثر) افتعال من النثر أي: سقط فعطف قوله (وسقط) من عطف التفسير (والواصلة هي التي تصل شعرها، أو شعر غيرها، بشعر آخر. والموصولة هي التي يوصل شعرها) بالفعل المبني للمجهول (والمستوصلة التي تطلب) وفي نسخة تسأل (من يفعل ذلك لها) الظاهر

(8/479)


قالَ اللهُ تعالى (1) : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) متفق عليه.
"المُتَفَلِّجَةُ" هيَ: الَّتي تَبْرُدُ مِنْ أسْنَانِهَا لِيَتَبَاعَدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ قَلِيلاً، وتُحَسِّنُهَا وَهُوَ الوَشْرُ. "وَالنَّامِصَةُ": الَّتي تَأخُذُ مِنْ شَعْرِ حَاجِبِ غَيْرِهَا، وتُرَقِّقُهُ لِيَصِيرَ حَسَناً. "وَالمُتَنَمِّصَةُ": الَّتي تَأمُرُ مَنْ يَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ (2) .
297- باب في النهي عن نتف الشيب من اللحية والرأس وغيرهما، وعن نتف الأمرد شعر لحيته عند أول طلوعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، متفق عليه المتفلجة) بصيغة الفاعل من التفلج (هي التي تبرد من أسنانها) أي بعضها، والمراد أن تبرد ما بين الثنايا والرباعيات. قال: وتفعل ذلك العجوز ومن قاربتها (ليتباعد بعضها عن بعض قليلاً وتحسنها) أي: لتصير لطيفة حسنة المنظر، وتوهم أنها صغيرة (وهو) أي البرد كما ذكر (الوشر) بفتح الواو وسكون المعجمة، قال المصنف: وهذا الفعل حرام على الفاعلة، وعلى المفعول بها، لهذه الأحاديث، ولأنه: تغيير لخلق الله؛ ومحله إن فعلته للحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب فلا بأس (والنامصة) بالنون وآخره صاد مهملة (هي التي تأخذ من شعر حاجب غيرها وترققه ليصير حسناً) كذا قصره هنا على شعر الحاجب. وفي شرح مسلم هي التي تزيل الشعر من الوجه، وهذا الفعل حرام، إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب، فلا يحرم إزالتها بل يستحب عندنا. والنهي إنما هو في الحواجب، وما في أطراف الوجه (والمتنمصة) بتقديم النون على الميم، قال المصنف: رواه بعضهم بتقديم الميم، والمشهور تأخيرها (هي التي تأمر من يفعل بها) أو بغيرها (ذلك) .
باب النهي عن نتف الشيب من اللحية والرأس وغيرهما، وعن نتف الأمرد شعر لحيته عدوانا
وفي نسخة أول طلوعه إيثاراً للمرودة، كذا قال المصنف في شرح مسلم: ذكر العلماء
__________
(1) سورة الحشر، الآية: 7.
(2) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: المتفلجات للحسن (10/313، 314) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ... (الحديث: 120) .

(8/482)


وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة.
299- باب في كراهة المشي في نعل واحدة أو خف واحد لغير عذر وكراهة لبس النعل والخف قائماً لغير عذر
1647- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَيَمشِ أحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيَنْعَلْهُمَا جَمِيعاً، أو لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعاً".
وفي رواية:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: حال الشرب، لأنه يخرج مع النفس، نحو نخامة فيقذر الماء ولأنه يكسب الإِناء رائحة كريهة، بل يفصل الإناء عن فيه ويتنفس. (متفق عليه وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة) قال المصنف في الخلاصة: وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت يد النبي - صلى الله عليه وسلم -: اليمين لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى؛ حديث صحيح رواه أبو داود، ورواه من رواية حفصة قالت: كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، وفي النهي عن الاستنجاء باليمين، أحاديث.
باب كراهة المشي في نعل واحدة وخف واحد
على وجه التنزيه إذا كان أفراد ما ذكر (لغير عذر) أي بخلاف ما كان له، كأن كان بإحدى قدميه مانع من لبس النعل والخف، بلا كراهة حينئذ (وكراهة لبس النعل والخف قائماً لغير عذر) أعاد لفظ كراهة، وقوله لغير عذر؛ لاختلاف جنس المحكوم عليه؛ ومع ذلك فكان الأصوب حذف كراهة الثاني، والعاطف يقوم مقامه. وقوله لغير عذر الأول؛ اكتفاء بالثاني، لأنه قيد لما قبله.
1647- (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يمشي أحدكم) أي: الواحد منكم (في نعل واحدة) وذلك لما فيه من التشويه والمثلة ومخالفة الوقار، ولأن المنتعلة تصير أرفع من الأخرى فيعسر مشيه وربما كان سبباً لعثاره (لينعلهما جميعاً) حال أي: في آن واحد (أو ليخلعهما) أي: القدمين من النعلين (جميعاً) قال السيوطي في الجامع الكبير: رواه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة، كلهم من حديث أبي هريرة (وفي رواية) هي للبخاري (أو ليحفهما) بدل قوله أو ليخلعهما (جميعاً) قال المصنف في شرح مسلم:

(8/485)


"أو لِيُحْفِهِمَا جَمِيعاً". متفق عليه (1) .
1648- وعنه، قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "إذا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكمْ، فَلاَ يَمْشِ في الأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا". رواهُ مسلم (2) .
1649- وعن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ قَائِماً. رواه أبو داود بإسناد حسن (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يخلعهما بالخاء المعجمة، واللام والعين المهملة. وفي صحيح البخاري ليحفهما، فالحاء المهملة والفاء، من الحفاء وكلاهما صحيح ورواية البخاري أحسن اهـ. (متفق عليه) أي: على أصل الحديث لما علمت من تخالفهما في اللفظ المذكور.
1648- (وعنه قال سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا انقطع شسع) بكسر الشين المعجمة وسكون السين المهملة ثم عين مهملة (نعل أحدكم) أي: أحد سيورها الذي في صدر النعل المشدود في الزمام. والزمام هو السير الذي يعقد فيه الشسع، جمعه شسوع (فلا يمشي في) النعل (الأخرى حتى يصلحها) أي: فينعل القدمين جميعاً. وقيل إصلاحها بنزع الصحيحة فيحفيها لئلا يمشي في نعل واحدة (رواه مسلم) .
1649- (وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ينتعل الرجل قائماً) حمل على ما إذا احتاج في الانتعال إلى الاستعانة باليد، في إدخال سيورها في الرجل، لئلا يصير حينئذ على هيئة قبيحة؛ أما إذا لم يحتج فيه إلى الاستعانة بها فلا، (رواه أبو داود بإسناد حسن) رواه عن محمد بن عبد الرحيم وهو العدويّ المعروف، بصاعقة شيخ البخاري عن أبي أحمد الدينوري عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: لا يمشي في نعل واحد (10/261، 262) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل في اليمنى أولاً، والخلع ... (الحديث: 67) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل في اليمنى أولاً، والخلع ... (الحديث: 69) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: في الانتعال، (الحديث: 4135) .

(8/486)


300- باب في النهي عن ترك النار في البيت عند النوم ونحوه سواء كانت في سراج أو غيره
1650- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَتْرُكُوا
النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ". متفق عليه (1) .
1651- وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: احْتَرَقَ بَيْتٌ بالمَدِينَةِ عَلَى أهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَأنِهِم، قالَ: "إنَّ هذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإذا نِمْتُمْ، فَأطْفِئُوهَا" متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب النهي
على سبيل التنزيه (عن ترك النار في البيت عند النوم ونحوه) مما يخشى معه التهابها من غيبة عن المنزل والتهاء بأمر (سواء كانت) أي: النار (في سراج أو غيره) نعم لا كراهة فيما يؤمن معه ذلك، كالقنديل المعلق.
1650- (عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) وذلك لئلا يشعل البيت على صاحبه؛ وصرف النهي عن التحريم عدم تحقق الضرر (متفق عليه) .
1651- (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: احترق بيت بالمدينة) النبوية (على أهله من الليل) أي: في بعضه (فلما حدث) بالفعل المبني للمجهول (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشأنهم) أي: بأمرهم (قال: إن هذه النار عدو لكم) قال ابن العربي: معنى كونها عدواً لنا، أنها تنافى أموالنا وأبداننا، منافاة العدو، وإن كانت لنا بها منفعة، لكن لا يحصل لنا منها إلا بواسطة، فاطلق أنها عدو لنا، لوجود معنى العداوة فيها (فإذا نمتم) أي: أردتم النوم (فأطفئوها) بقطع الهمزة قال القرطبي: هو أمر إرشاديّ. قال: وقد يكون للندب. وجزم المصنف بأنه للإرشاد، لكونه لمصلحة دنيوية؛ وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية، وهي حفظ النفس المحرم قتلها، والمال المحرم تبذيره، (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: لا تترك النار في البيت عند النوم (11/71) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء ... (الحديث: 100) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: لا تترك النار في البيت عند النوم (11/71) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الاناء وإيكاء السقاء ... (الحديث: 101) .

(8/487)


1652- وعن جابر - رضي الله عنه -، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "غَطُّوا الإنَاءَ، وَأَوْكِئُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ. وَأطْفِئُوا السِّرَاجَ، فإنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَحُلُّ سِقَاءً، وَلاَ يَفْتَحُ بَاباً، وَلاَ يَكْشِفُ إنَاءً. فإنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلاَّ أنْ يَعْرُضَ عَلَى إنَائِهِ عُوداً، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللهِ، فَلْيَفْعَل، فإنَّ الفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أهْلِ البَيْتِ بَيْتَهُمْ". رواه مسلم.
"الفُويْسِقَةُ": الفَأرَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1652- (وعن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال) على سبيل الإِرشاد، كما قال المصنف والقرطبي (غطوا الإِناء) وذلك صوناً له من الحشرات، وسائر المؤذيات (وأوكئوا) بكسر الكاف بعدها همز أي: اربطوا (السقاء) الوكاء ما يربط به من خيط أو نحوه، والسقاء بالمد ظرف من الجلد يكون للماء، والمعنى سدوا فم السقاء بخيط أو نحوه (أغلقوا الأبواب واطفئوا السراج) وعلل هذه الأوامر بقوله: (فإن الشيطان لا يحل سقاء) أي: وكاء (ولا يفتح باباً ولا يكشف إناء) أي: إذا ذكر اسم الله تعالى حال غلقه، وعند تغطية الإناء. قال ابن دقيق العيد: ويحتمل أنه لا يفتح باباً مغلقاً يسمي الله عليه حال غلقه أولا. ويحتمل أن يكون المانع من ذلك أمر خارج عن جسمه. قال: والحديث يدل على منع الشيطان الخارج من الدخول، أما الشيطان الذي كان داخلاً، فلا دلالة للخبر على خروجه. قال: فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا رفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإِغلاق، تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعليه فينبغي التسمية من ابتداء الغلق إلى آخره اهـ. (فإن لم يجد أحدكم) ما يغطي به الإِناء (إلا أن يعرض) بضم الراء كما في الأصول المصححة، وهو قد جاء من باب قتل ومن باب ضرب (على إنائه عوداً) أي: يضعه عليه بالعرض (ويذكر اسم الله عليه) وفي نسخة أو بدل الواو، فإن تثبتت فهي بمعنى الواو كما في قوله تعالى (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) (1) ويحتمل كونها للتنويع (فليفعل) أي: بالمقدور عليه ندباً، وعلل الأمر باطفاء السراج بقوله (فإن الفويسقة تضرم) بضم الفوقية وبالضاد المعجمة أي: تشعل (على أهل البيت بيتهم) أي: تكون سبباً لذلك، بأن تجر الفثيلة إلى المتاع، فتضرمه ناراً (رواه مسلم) ورواه أحمد من حديث أبي أمامة بلفظ: "أجيفوا أبوابكم، وأكفئوا آنيتكم، وأوكئوا أسقيتكم، وأطفئوا سرجكم، فإنهم لم يؤذن لهم بالتسور عليكم" كذا في الجامع الصغير (الفويسقة) بالتصغير (الفأرة) بالهمز وتسهل، وأطلق عليها كالمؤذيات
__________
(1) سورة الصافات، الآية: 147.

(8/488)


و"َتُضْرِمُ": تُحْرِقُ (1) .
301- باب في النهي عن التكلف وهو فعل وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة
قال الله تعالى (2) : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) .
1653- وعن عمر - رضي الله عنه - قال: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ. رواه البخاري (3) .
1654- وعن مسروقٍ، قال: دَخَلْنَا على عبدِ اللهِ بْنِ مَسعُودٍ - رضي الله عنه - فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلْيَقُلْ: اللهُ أعْلَمُ، فَإنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ: اللهُ أعْلَمُ. قالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) . رواه البخاري (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخمس، استعارة من الفسق وامتهاناً لهن، لكثرة خبثهن؛ حتى يقتلن في الحل والحرم وفي الصلاة، ولا تبطل بذلك (وتضرم تحرق) وإسناد الإِضرام إليها مجاز عقلي من الإِسناد للسبب كما علم مما تقدم.
باب النهي عن التكلف وهو فعل وقول
الواو فيه بمعنى أو (ما لا مصلحة فيه) أفرد الضمير نظراً للفظ ما (بمشقة) ظرف مستقر، حال أو صفة لفعل وما بعده أما فعل الأمر ذي المصلحة الشرعية بمشقة على النفس، لا ضرر لها في البدن أو العقل فمحمود (قال الله تعالى) لنبيه (قل ما أسالكم عليه) أي: التبليغ (من أجر) بل اسأل أجري عليه من الله تعالى (وما أنا من المتكلفين) نفى عن نفسه التكلف، إيماء إلى أن تركه محمود وفعله مذموم.
1653- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهينا عن التكلف رواه البخاري) وهو موقوف لفظاً مرفوع حكماً (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإِناء وإيكاء السقاء ... (الحديث: 96) .
(2) سورة ص، الآية: 86.
(3) أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه (13/229) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/ص باب: قوله تعالى (وما أنا من المتكلفين) (8/420) .
(5) هنا حديث في المتن سقط من نسخ الشرح.

(8/489)


302- باب في تحريم النياحة على الميت ولطم الخد وشق الجيب ونتف الشعر وحلقه والدعاء بالويل والثبور
1655- عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ". وَفِي روايةٍ: "مَا نِيحَ عَلَيْهِ". متفق عليه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب تحريم النياحة
بكسر النون وتخفيف التحتية وبالحاء المهملة، وقلبت الواو ياء فيها، وفي صيام وقيام لانكسار ما قبله (على الميت) ظرف لغو متعلق بالنياحة (ولطم الخد) قال في المصباح: هو ْمن اللحى إلى اللحى من الجانبين، وجمعه خدود. واللطم بفتح فسكون: الضرب ببطن الكف (وشق الجيب) بفتح الجيم وسكون التحتية والموحدة: مدخل الرأس من القميص (ونتف الشعر وحلقه) أو قصه أو حرقه (والدعاء بالويل والثبور) بالمثلثة والموحدة.
1655- (عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الميت) أل فيه للجنس (يعذب) بالبناء للمجهول وصلته قوله (في قبره بما نيح عليه) أي: بسبب النوح (وفي رواية ما نيح عليه) أي مدة النوح (متفق عليه) قال المصنف: رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في هذه الأحاديث، فتأولها الجمهور على من أوصى بأن يبكي عليه ويناح بعد موته، فنفذت وصيته فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم لأنه بسببه؛ ومنسوب إليه أما من بكى عليه أهله أو ناحوا بغير وصية منه، فلا يعذب. لقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (2) وقال طائفة: محمول على من أوصي بالبكاء والنوح، أو لم يعرض بتركهما أو أهمل الوصية بتركهما، فيعذب لتفريطه بإهمال الوصية بتركهما، فأما من أوصى بتركهما فلا يعذب بهما، إذ لا صنع له فيهما ولا تفريط منه. وحاصل هذا القول: إيجاب الوصية بتركهما، ومن ْأهملها عذب بهما. وقيل إنهم كانوا ينوحون عليه بما هو محرم شرعاً، نحو يا ميتم الولدان، ومرمل النسوان، مما يرونه شجاعة وفخراً، وهو محرم شرعاً. وقيل: معناه إن الميت يعذب أو بسماعه بكاء أهله رقة عليهم وشفقة لهم، وإليه ذهب ابن جرير وغيره. وقال القاضي
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت (3/130) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (الحديث: 17) .
(2) سورة الأنعام، الآية: 164.

(8/490)


وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ". متفق عليه (1) .
1657- وَعَنْ أبي بُرْدَةَ، قال: وَجعَ أبو مُوسَى، فَغُشِيَ عَلَيْهِ، وَرَأسُهُ فِي حِجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أهْلِهِ، فَأَقْبَلَتْ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئاً، فَلَمَّا أفَاقَ قَالَ: أنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِىءَ مِنْهُ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيءٌ مِنَ الصَّالِقَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عياض: هو أولى الأقوال. واحتج له بحديث فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر امرأة عن البكاء، وقال: إن أحدكم إذا بكى، استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم". وقالت عائشة معناه: أن الكافر وغيره من أصحاب الذنوب، يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه، لا ببكائهم. والصحيح من هذه الأقوال ما قدمناه عن الجمهور. وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم: أن المراد من البكاء فيه، البكاء بصوت ونياحة، لا مجرد دمع العين اهـ. ملخصاً.
1656- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا") أي: من أهل هدينا وطريقنا (من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) نحو واجملاه واكفهاه (متفق عليه) والحديث فيمن جمع الأمور الثلاثة، واجتماعها غير شرط فيما ذكر، بل أحدها مقتض للخروج عن الهدى والطريق، ويمكن جعل الواو فيه بمعنى أو.
1657- (وعن أبي بردة) بن أبي موسى الأشعري، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث. قال الحافظ في التقريب: ثقة من أوساط التابعين. مات سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك، جاوز الثمانين، خرّج عنه الجميع (قال وجع أبو موسى الأشعري) عبر به دون أبي لأنه أشهر (رضي الله عنه فغشي) بالبناء للمجهول نائب فاعله (عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله) جملة حالية من الضمير المجرور، والمرأة هي زوجته أم عبد الله صفية بنت أبي دوم، ذكره السيوطي في التوشيح (فأقبلت تصيح برنة) بفتح الراء وتشديد النون، أي: صيحة (فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً) لغلبة الإِغماء عليه (فلما أفاق) من إغمائه (قال أنا بريء) بالمد فعيل بمعنى فاعل أي: (ممن برىء) بصيغة الماضي المعلوم (منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ثم استأنف بيان من برىء منهم، استئنافاً بيانياً فقال (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريء من الصالقة)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ليس منا من شق الجيوب (3/133) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، (الحديث: 165) .

(8/491)


والحَالِقَةِ، والشَّاقَّةِ. متفق عليه. "الصَّالِقَةُ": الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالنِّيَاحَةِ والنَّدْبِ. "وَالحَالِقَةُ": الَّتِي تَحْلِقُ رَأسَهَا عِنْدَ المُصِيبَةِ. "وَالشَّاقَّةُ": الَّتي تَشُقُّ ثَوْبَهَا (1)
1658- وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيهِ يَومَ القِيَامَةِ". متفق عليه (2) .
1659- وعن أُمِّ عَطِيَّةَ نُسَيْبَةَ - بِضَمِّ النون وفتحها - رضي الله عنها، قالت: أخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِندَ البَيْعَةِ أنْ لاَ نَنُوحَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالصاد ويقال بالسين المهملتين (والحالقة والشاقة، متفق عليه، الصالقة) بالصاد المهملة وبالقاف (التي ترفع صوتها بالنياحة والندب) أي: تعداد أوصاف الميت، من الصلق وهو الصوت الشديد. كما في المصباح (والحالقة التي تحلق رأسها) والمراد بالحلق الإِزالة بأي وجه كان (عند المصيبة والشاقة) بالمعجمة والقاف (التي تشق ثوبها) أي: عند المصيبة، وذلك لما في فعل هذه الأمور من التبرم من القضاء الإِلهي، والتضجر منه، وذلك سبب لاحباط الثواب وحلول العقاب.
1658- (وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من نيح) بكسر النون مبني للمجهول، نائب فاعله (عليه) ويجوز في مثله ضم النون، فتبقى الواو كما تبقى مع الاشمام أيضاً (فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة) لا يخالف الرواية السابقة فإنه يعذب بما نيح عليه، لأن السكوت عن الشيء لا ينفيه، فذكر في كل من الحديثين، عذاب أحد المنزلين. وتقدم المراد من الوعيد فيه (متفق عليه) .
1659- (وعن أم عطية) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية (نسيبة بضم النون) وفتح المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة فهاء (وفتحها) أي: النون أي: إنها تقال بالتصغير والتكبير (رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند البيعة) منه للنساء المؤمنات (أن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من الحلق عند المصيبة (3/132) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، (الحديث: 167) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: يكره من النياحة (3/130) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (الحديث: 38) .

(8/492)


1666- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سأل رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَاسٌ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ: "لَيْسُوا بِشَيءٍ" فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أحْيَاناً بِشَيءٍ، فَيَكُونُ حَقّاً؟ فقالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مئَةَ كَذْبَةٍ". متفق عليه.
وفي رواية للبخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنَّها سمعتْ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ المَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنَانِ (وَهُوَ السَّحَابُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والعين المهملة جعله القاضي عياض نوعاً من التنجيم، فإنه قال بعدما تقدم عنه في المنجم، ومنه العرافة، وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدّعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة اهـ. (وأصحاب الرمل) بفتح الراء وسكون الميم، وهي من طرق استكشاف المغيبات، وهو حرام كما في الروضة وغيرها (والطرق) بفتح الطاء المهملة وسكون الراء وبالقاف (بالحصى) بالمهملتين، وفي نسخة والطوارق بالحصى (وبالشعير ونحو ذلك) قال عياض: وقد كذبهم كلهم الشرع، ونهى عن تصديقهم وإتيانهم.
1666- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناس) فاعل سأل (عن الكهان فقال ليس) أي: عملهم المدلول عليه بالسياق (بشيء) أي: من الحق والصدق بدليل (قالوا يا رسول الله إنهم يحدثونا أحياناً بشيء فيكون حقاً) أي: يطابقه الواقع، ويكون على وفق أخبارهم، (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الكلمة) المشار إليه، هو ما يطابقه من الواقع حديثهم، والكلمة المراد بها هنا، المعنى اللغوي، أي: الجمل المفيدة لوصفها بقوله (من الحق) أي: الذي أوحى به الملك (يخطفها الجني) بفتح الطاء المهملة أي: يسلبها بسرعة. وقد جاء خطف، من باب ضرب، في لغة أشار إليها في المصباح (فيقرها) بفتح فضم، من قرير الدجاجة أي: فيصيرها (في أذن وليه) من الكهان (فيخلطون) بضم اللام (1) (معها مائة كذبة) بفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما، كما تقدم في باب التوبة بما فيه (متفق عليه. وفي رواية للبخاري) أردها في باب الملائكة من صحيحه (عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب) هو تفسير
__________
(1) كذا ولعله بكسر اللام. ع.

(8/497)


الخَطُّ. قالَ الجَوْهَريُّ في الصِّحَاحِ: الجِبْتُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ وَالكاهِنِ والسَّاحِرِ وَنَحْوِ ذلِكَ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمهملة المسددة، يأتي بيانه في حديث معاوية في الباب (قال) إسماعيل بن حماد أبو نصر (الجوهري) الإمام اللغوي المشهور في النحو واللغة والصرف. قال الفيروزأبادي: وبخطه يضرب المثل في الجودة، أصابه اختلاط ووسواس في آخر عمره، ومات بسبب غريب.
ذكرته في شرح الأندلسية في العروض. توفي سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، كما سبق مع بيان سببه في باب بيان كثرة طرق الخير (في الصحاح) قال البدر الدماميني في تحفة الغريب: وهو بفتح الصاد اسم مفرد بمعنى الصحيح والجاري على ألسنة كثير، كسرها على أنه جمع صحيح، وبعضهم ينكره بالنسبة لتسمية الكتاب، ولا أعرف له مستنداً. فالمعنيان مستقيمان فيه، إلا إن ثبتت رواية من مصنفه أنه بالفتح فيصار إليها البتة. ومما وقع لي قديماً، أني احتجت إلى استعارته من بعض الرؤساء فكتبت إليه:
مولاي إن وافيت بابك طالبا ... منك الصحاح فليس ذاك بمنكر
البحر أنت وهل يلام فتى أتى ... للبحر كي يلقى صحاح الجوهر
اهـ. ملخصاً. الفيروزأبادي: صنف الصحاح للأستاذ أبي منصور السبكي، ورسمه من أوله إلى باب الضاد المعجمة، ثم اعتراه اختلاط ووسوسة فمات، وبقي الصحاح غير منقح، فنقحه وبيضه أبو إسحاق صالح الوراق، وكان الغلط في النصف الأخير أكثر اهـ. وقد كمل عليه الصغاني في أربع مجلدات وقال فيه:
ما أهمل الجوهري من لغة ... إلا وفي ذيله وحاشيته
توجه الله يوم يبعثه ... بتاج رضوانه ومغفرته
(الجبت) بكسر الجيم وسكون الموحدة بعدها فوقية (كلمة تقع) أي: تطلق (على الصنم) ومنه قوله تعالى في حق أهل الكتاب (يؤمنون بالجبت والطاغوت) (2) (والكاهن والساحر ونحو ذلك) من العراف والمنجم، قال: وليس من محض العربية، لاجتماع الجيم والباء في كلمة واحدة من غير حرف ذلقي.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: في الخط وزجر الطير، (الحديث: 3907) .
(2) سورة النساء، الآية: 51.

(8/500)


1669- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
"مَنِ اقْتَبَسَ عِلْماً مِنَ النُّجُوم، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ ما زَادَ". رواه أبو داود بإسناد صحيح (1) .
1670- وعن مُعاوِيَةَ بنِ الحَكَمِ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسُولَ اللهِ إنِّي حديثُ عَهْدٍ بالجاهِليَّةِ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ تَعَالَى بالإسْلاَمِ، وإنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأتُونَ الكُهَّانَ؟ قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1669- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اقتبس علماً) قال في القاموس أي: استفاده (من النجوم) أي: ما ينشأ من الحوادث عن مسيرها، أما علم الوقت والقبلة فليسا مرادين هنا البتة، لأنهما فرضا كفاية تارة وعين أخرى؛ (اقتبس شعبة) بضم المعجمة وسكون المهملة أي: قطعة (من السحر) أي: وهو من باب الكبائر، وقد يكون كفراً (زاد) أي: من السحر (ما زاد) أي: من علم النجوم. قال الخطابي علم النجوم المنهي عنه: هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث، التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وتغير السعر، وما في معناها، مما يزعمون إدراكه من الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدعون أن لها تأثيراً في السفليات، وأنها تجري على ذلك وهذا منهم، تحكم على الغيب وتعاط لعلم، قد استأثر الله تعالى، به لا يعلم الغيب سواه. وأما علم النجوم الذي يدرك بالمشاهدة والخبر، كالذي يعرف به الزوال، ويعلم به جهة القبلة، فغير داخل فيما نهى عنه، لأن مدار ذلك على ما يشاهد من الظل في الأول، والكواكب في الثاني اهـ. ملخصاً. (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه. وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي: إنه حديث صحيح.
1670- (وعن معاوية بن الحكم) بفتح المهملة والكاف، السلمي: بضم المهملة وفتح اللام، الصحابي: تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الوعظ (قال قلت يا رسول الله إني حديث عهد) من إضافة الصفة لموصوفها، أي: ذو عهد قريب (بجاهلية) هي ما قبل الإِسلام، سميت بذلك لكثرة ما فيها من الجهالات (وقد جاء الله تعالى بالإِسلام) معطوفة على ما قبلها، أو حالية (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) أي: يعرفون منهم أموراً مغيبات (قال
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: في النجوم، (الحديث: 3905) .

(8/501)


وَيُعْجِبُني الفَألُ" قالُوا: وَمَا الفَألُ؟ قَالَ: "كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ". متفق عَلَيْهِ (1) .
1673- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ. وإنْ كَانَ الشُّؤمُ في شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ، وَالمَرْأَةِ، والفَرَسِ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفتح التحتية: اسم من التطير، وهي: بمعنى النهي أي: يتطيروا من شيء من السوانح والبوارح وغيرهما، مما يعتاد التطير منه (ويعجبني الفأل) قال في المصباح: بهمزة ساكنة ويجوز التخفيف (قالوا وما الفأل) أي: الذي يعجبك لنفرح به اتباعاً (قال كلمة طيبة) وفي رواية لمسلم وأحمد من حديث أبي هريرة "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" قال في المصباح: هو أن تسمع كلاماً حسناً، فتتيمن به. وإن كان قبيحاً فهو الطيرة. وجعل أبو زيد الفأل: في سماع الكلامين اهـ. قلت ويشهد له قوله في رواية "الفأل الحسن". (متفق عليه) وفي الجامع الكبير: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الحسن". والفأل الصالح: الكلمة الطيبة. رواه الطيالسي وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة: عن أنس. وفيه حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر". الحديث. رواه أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة. وفيه حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، قيل يا رسول الله البعير يكون به الجرب". الحديث. ورواه أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر وفيه حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ألم ترو إلى الإِبل، تكون في الصحراء" الحديث.
ورواه الشيرازي في الألقاب والطبراني وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر من حديث عمير بن سعد الأنصاري وماله غيره، ونفي العدوى والطيرة أورده في الجامع الكبير في عدة أحاديث، وفي استيعابها طول.
1673- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا عدوى ولا طيرة) يجوز في مجموعها الوجوه الخمسة المعروفة في نحو لا حول ولا قوة إلا بالله (وإن كان الشؤم) بضم المعجمة وسكون الهمزة وقد تسهل ضد اليمن (في شيء ففي الدار والمرأة والفرس) خصها بالذكر لطول ملازمتها، ولأنها أكثر ما يستطير به الناس، فمن وقع في نفسه منها شيء، تركه واستبدل به غيره. وقال بعضهم شؤم المرأة إذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس إذا لم يغز عليها، وشؤم الدار جار السوء. ويؤيده حديث الطبراني: "شؤم الدار ضيق
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: الفأل (10/181) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: الطيرة والفأل، وما يكون فيه من الشؤم، (الحديث: 111) .

(8/504)


متفق عَلَيْهِ (1) .
1674- وعن بُريْدَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَتَطَيَّرُ. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (2) .
1675- وعن عُروة بن عامر - رضي الله عنه -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ساحتها، وخبث جيرانها، وشؤم الدابة منعها ظهرها، وشؤم المرأة عقر رحمها وسوء خلقها". وللحاكم "ثلاث من الشقاء: المرأة تراها تسوءك أو تحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفاً فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحق أصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق" وقال ابن العربي: لم يرد إضافة الشؤم إليها فعلاً، وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها، فأشار إلى أثر ينبغي للمرء المفارقة لها صيانة، لاعتقاده عن التعليق بالباطل، زاد غيره وإراحة للقلب من تعذيبه لها. "فائدة" قال السيوطي في التوشيح: زاد ابن ماجه والدارقطني في الغريب من حديث أم سلمة والسيف (متفق عليه) .
1674- (وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطير) أي: من شيء، كما يؤذن به حذف المعمول (رواه أبو داود) في التطير من سننه (بإسناد صحيح) رواه عن مسلم بن إبراهيم عن هشام عن كهمس بن الحسن القيسي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. ورواه النسائي أيضاً في السير من سننه، عن أبي مثنى عن معاذ بن هشام عن أبيه بسنده المذكور.
1675- (وعن عروة) بن عامر المكي قال الحافظ في التقريب: اختلف في صحبته، له أحاديث في الطيرة. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. خرّج حديثه أصحاب السنن وكتب بهامش نسخته من الغابة أنه تابعي. وفي أسد الغابة بعد ذكره في الصحابة، قال أبو أحمد العسكري: عروة بن عامر الجهني، روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ذكرناه بعروة اهـ. وفي مختصر كتابي المراسل، لابن أبي حاتم الرازي، وجامع التحصيل، في أحكام المراسيل للحافظ العلائي، الذي اختصره المرشدي، عروة بن عامر، عن ابن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول روى الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن عامر قال: سئل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: الطيرة (10/180، 181) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، (الحديث: 115 و116 و118) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: في الطيرة، (الحديث: 3920) .

(8/505)


قال: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "أحْسَنُهَا الفَألُ. وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِماً فإذا رَأى أحَدُكُمْ ما يَكْرَهُ، فَليْقلْ: اللَّهُمَّ لاَ يَأتِي بِالحَسَناتِ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ" حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح (1) .
305- باب في تحريم تصوير الحيوان في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو مخدة أو دينار أو وسادة وغير ذلك وتحريم اتخاذ الصور في حائط وسقف وستر وعمامة وثوب ونحوها والأمر بإتلاف الصورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة فقال: "اصدقها الفأل". قال البغوي: لا أدري أله صحبة أم لا.
وقال أبي هو: تابعي، روى عن ابن عباس وعبيد بن رفاعة. قلت ذكره غير واحد في الصحابة اهـ. قلت وكان مستند المصنف إذا قال رضي الله عنه الظاهر في أنه صحابي (قال ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنها الفأل) لما فيه من حسن الظن بالله عز وجل، عن الأصمعي قال: سألت ابن عوف عن الفأل قال: هو أن يكون مريضاً، فيسمع يا سالم، أو يكون طالباً فيسمع يا واجد، قال في النهاية: فيقع في ظنه أنه يبرأ من علته ويجد ضالته.
وإنما أحب - صلى الله عليه وسلم - الفأل الحسن، لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي، فهم على خير، ولو غلطوا في جهة الرجاء، فإن الرجاء لهم خير، وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر. وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء. والطيرة في هذا الخبر بمعنى الجنس، والفأل بمعنى النوع اهـ. ملخصاً (ولا ترد مسلماً) نفي بمعنى النهي، أي: شأن المسلم ألا يرجع عما عزم عليه من أجلها، لعلمه أن لا أثر لغير الله تعالى أصلاً (فإذا رأى) أي: علم (أحدكم ما يكره) مما يتطير به (فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات) المكروهات للأنفس (إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك حديث حسن صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح) رواه في الطب عن أحمد بن حنبل، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة.
باب تحريم تصوير الحيوان
أل فيه للجنس (في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو دينار أو مخدة) بكسر الميم
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الطب، باب: الطيرة (الحديث: 3919) .

(8/506)


1676- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الَّذينَ يَصْنَعُونَ هذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ". متفق عليه (1) .
1677- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قَدِمَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرامٍ فِيهِ تَمَاثيلُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلَوَّنَ وَجْهُهُ، وقالَ: "يَا عائِشَةُ، أشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً عِندَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللهِ! " قَالَتْ: فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنهُ وِسَادَةً أوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفتح المعجمة: ما توضع تحت الخد (أو وسادة) بكسر الواو قال في المصباح: هي المخدة. والجمع جمع وسادات ووسائد، فعطفها على ما قبلها من عطف الرديف (وغير ذلك وتحريم اتخاذ الصورة في حائط) بالمهملة بناء (وسقف) معروف، وجمعه سقوف، كفلس وفلوس، وسقف بضمتين أيضاً. وهذا فعل جمع على فعل بضمتين، وهو نادر وقال الفراء: إنه جمع سقيف مثل بريد وبرد (وستر وعمامة) بكسر المهملة جمعها عمائم (وثوب ونحوها) من كان ما فيه تعظيم للمرفوع (والأمر بإتلاف الصورة) مطلقاً، بكسرها إن كانت من نحو حجر أو خشب، وشقها إن كانت بنحو ثوب.
1676- (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الذين يصنعون هذه الصور) أي: صور ذات الروح، كما يدل عليه قوله (يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم) والجملة الثاني يحتمل كونها تفسيراً للتعذيب، أي: يبكتون ويلزمون بإحياء ما صوروه، ولا قدرة لهم على ذلك البتة، ويحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، أو حالاً من مرفوع الفعل قبله (متفق عليه) .
1677- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت سهوة لي) جملة حالية (بقرام فيه تماثيل) أي: أمثال ذي روح (فلما رآه) أي: أبصره (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلون وجهه وقال: يا عائشة أشد الناس) أي: من أشد الموحدين عذاباً، أو أشد الكفار، لجمعه بين الكفر والتصوير، (عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله) أي: بما يكون بتصويرهم خلق الله (قالت: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: عذاب المصورين (10/323) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 97) .

(8/507)


وِسَادَتَيْنِ. متفق عليه.
"القِرامُ" بكسرِ القاف هو: السِّتْرُ. "وَالسَّهْوَةُ" بفتح السينِ المهملة
وهي: الصُّفَّةُ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ البَيْتِ، وقيلَ: هِيَ الطَّاقُ النَّافِذُ في الحائِطِ (1) .
1678- وعن ابن عباس رضي اللهُ عنهما، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "كُلُّ مُصَوِّرٍ في النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ فَيُعَذِّبُهُ في جَهَنَّمَ". قال ابن عبَّاسٍ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وسادتين) أي: وزال به الصورة المحرمة، إن كان بقاؤها مطلقاً، يمنع من دخول ملائكة الرحمة، لأن ذلك لا يرضى به - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان لا تحريم باستعمال الصورة في ممتهن، وإن كان المانع من دخولهم، اتخاذ الصورة على الوجه المحرم، بأن ترفع ما هي فيه على جدار.
أو سقف، فلا يحتاج إلى أن يقيد حديثها بإزالة الصورة المحرمة، لأنها حينئذ اتخذت للامتهان. واتخاذ الصور كذلك جائز. والحديث سبق بطوله في باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع (متفق عليه. القرام بكسر القاف) وتخفيف الراء (وهو الستر والسهوة بفتح السين المهملة) وسكون الهاء (وهي الصفة) بضم المهملة وتشديد الفاء: البيت أمام البيت.
كما قال المصنف (تكون بين يدي البيت وقيل: هي الطاق النافذ في الحائط) فإن لم يكن نافذاً فهي المشكاة.
1678- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل مصور في النار) أي: إن استحل ذلك، مع علمه بتحريمه والإجماع عليه، وإنه من المعلوم من الدين بالضرورة. أو هذا جزاؤه إن لم يكن كذلك، وهو كغيره من سائر الكبائر، تحت خطر المشيئة (يجعل له بكل صورة) أي: بسببها أو بدلها (صورها نفس فيعذبه) أي: الله (في جهنم) الظاهر أن المراد بإيراد النار، الشامل لسائر طباقها، لا خصوص الطبقة الأخرى (2) المعدة للمنافقين، هذا على أن يعذب بالتحتية، ويحتمل أن يكون بالفوقية، وإسناد التعذيب إلى النفس مجاز عقلي (قال ابن عباس) لمن قال له إنه لا يعرف من الحرف غير التصوير
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب ما وطىء من التصاوير (10/325) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 92) مطولاً.
(2) قوله (بإيراد) لعله (التعذيب بإيراد) ، وقوله (الأخرى) لعله (الأخيرة) . ع.

(8/508)


فإنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً، فَاصْنعِ الشَّجَرَ وَمَا لاَ رُوحَ فِيهِ. متفق عليه (1) .
1679- وعنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا، كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ". متفق عليه (2) .
1680- وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ". متفق عليه (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فإن كنت لا بد) أي: لا محالة (فاعلاً) أي: التصوير (فاصنع الشجر وما لا روح فيه) كالجبال والأرض والأمكنة (متفق عليه) .
1679- (وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صور صورة في الدنيا) أي: من ذوات الروح (كلف) تعجيزاً له (أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة) ولما كان تكليفه بذلك، ربما يوهم إمكان ذلك منه، نفاه مؤكداً للنفي بالباء المزيدة، فقال: (وليس بنافخ متفق عليه) .
1680- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أشد الناس عذاباً) أتى بالمؤكد هنا تأكيداً لمضمونه عند السامع، وتركه من حديث عائشة، كأنه كان ذلك أول ما أعلمهم به، فكان ابتداء، ولما اقتضى المقام التأكيد، لوجود من وقع منه سبب الوعيد السابق، وكان حاله كالمنكر، أتى به والله أعلم. (يوم القيامة) ظرف لعذابا (عند الله) كذلك، والعندية للمكانة لا للمكان، ففيه إيماء إلى عظم ذلك العذاب (المصورون) أي: لذي روح (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: بيع التصاوير وكذلك أخرجه في باب: التصاوير من كتاب اللباس (4/345) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صور الحيوان ... (الحديث: 99) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: من صور صورة كلف ... الخ (10/330) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 100) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: عذاب المصورين يوم القيامة (10/321، 322) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم ... (الحديث: 98) .

(8/509)


1681- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قال اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي! فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً". متفق عليه (1) .
1682- وعن أبي طلحة - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَدْخُلُ المَلاَئِكَةُ بَيْتاً فيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ". متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1681- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى ومن أظلم) أي: لا أظلم (ممن ذهب يخلق كخلقي) أي: باعتبار التصوير والتقدير وإلا فالخلق الذي هو الإِيجاد، لا يكون من غيره تعالى أصلاً (فليخلقوا ذرة) بفتح المعجمة وتشديد الراء: أي نملة، وصحفه بعض الرواة فضم المعجمة وخف الراء وغير قوله بعد (أو ليخلقوا حبة) أي: من القمح (أو ليخلقوا شعيرة) لأنها من أنواع الحبوب وأو: فيه للتنويع واللام بعد الفاء يجوز إسكانها تخفيفاً، وكسرها وهو الأصل، وفي هذه المواضع، اللام على سبيل التعجيز والتبكيت، تارة بتكليفهم خلق حيوان وهذا أشد، وأخرى في تكليفهم بخلق جماد، وهو أهون ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك (متفق عليه) ورواه أحمد.
1682- (وعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تدخل الملائكة) أي: ملائكة الرحمة، إذ الحفظة لا يفارقون بسبب ذلك (بيتاً) ومثله باقي الأمكنة غير البيت (فيه كلب) قال الشيخ ولي الدين العراقي، قيل: حكمته أنه لما نهى عن اتخاذها ثم اتخذها، عوقب بتجنب الملائكة صحبته، غضباً عليه لمخالفة الشرع، فحرم بركتها واستغفارها وإعانتها له على طاعة الله تعالى، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول بيت فيه كلب، أذن في اتخاذه بناء على أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه. وقيل: ذلك لنجاستها، وهم المطهرون المقدسون على مقاربتها. وقيل: لأنها من الشياطين على ما ورد، والملائكة أعداؤهم في كل حال. وقيل: لقبح رائحتها وهم يكرهون الرائحة الخبيثة، ويحبون الرائحة الطيبة (ولا صورة) ظاهر عمومه متناول للصورة المحرمة وغيرها، ولاتخاذ المحرم وغيره، ويحتمل التخصيص بالمحرم منها، على أن العلة في عدم دخولها عصيان المخالف بالاتخاذ لها بعد النهي عنه (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: نقض الصور (10/324) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان ... (الحديث: 101) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: التصاوير (10/328) . =

(8/510)


1683- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: وَعَدَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جِبْرِيلُ أنْ يَأتِيَهُ، فَرَاثَ عَلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ فَلَقِيَهُ جِبريلُ فَشَكَا إلَيهِ، فَقَالَ: إنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. رواهُ البُخاري.
"راث": أبْطَأَ، وهو بالثاء المثلثة (1) .
1684- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: واعدَ رسولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -، جبريلُ عليهِ السَّلامُ، في سَاعَةٍ أنْ يَأتِيَهُ، فَجَاءتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأتِهِ! قَالَتْ: وَكَانَ بِيَدِهِ عَصاً، فَطَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "ما يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلاَ رُسُلُهُ" ثُمَّ التَفَتَ، فإذَا جَرْوُ كَلْبٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1683- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قدم المفعول به على فاعله، اهتماماً (جبريل عليه السلام أن يأتيه) أي: في وقت معين (فراث عليه) وأطال التأخر (حتى اشتد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: نفس تأخره أو ما لحقه لذلك من الهم (فخرج فلقيه جبريل) أي: عقب خروجه كما يومىء إليه (فشكا) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لقي من تأخره، عن الوقت الذي وعد المجيء فيه (إليه فقال إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) يؤخذ من، حديث القرام السابق، ما يزيد تخصيص امتناعها بالاتخاذ المحرم للصورة المحرمة عقوبة له، إذا فعل ذلك، بمنعهم من بركتهم (رواه البخاري) في أبواب الملائكة (راث أبطأ) وألفه منقلبة عن ياء وهو من باب باع (وهو بالمثلثة) أي: ومصدره: ريث بفتح فسكون للتحتية.
1684- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: واعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام) فاعل، مؤخر عن المفعول المقدم للاهتمام (أن يأتيه في ساعة فجاءت تلك الساعة ولم يأته قالت: وكان بيده عصا) جملة معطوفة على واعد أو حال من فاعله (فطرحها) أي: ألقاها (من يده وهو يقول) جملة حالية من الضمير المضاف إليه بعضه (ما يخلف الله وعده) أي: لأحد من خلقه. ثم هو مخصوص بالخير، ويقال في الشر وعيد (ولا رسله) ويسكن الثاني تخفيفاً، جمع رسول ودخل فيهم الملائكة. قال تعالى: (جاعل الملائكة رسلاً) (2) (ثم التفت فإذا جرو) بالجيم والراء بوزن قنو (كلب) قال في المصباح: الجرو بالكسر ولد الكلب والسباع.
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه ... (الحديث: 83 و84) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة (10/329) .
(2) سورة فاطر، الآية: 1.

(8/511)


تَحْتَ سَرِيرِهِ. فقالَ: "مَتَى دَخَلَ هَذَا الكَلْبُ هَهُنا؟ " فَقُلْتُ: واللهِ مَا دَرَيْتُ بِهِ، فَأمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءهُ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، فقال رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وَعَدْتَنِي، فَجَلَسْتُ لَكَ وَلَمْ تَأتِني" فقالَ: مَنَعَنِي الكَلْبُ الَّذِي
كانَ في بَيْتِكَ، إنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. رواه مسلم (1) .
1685- وعن أبي الهَيَّاجِ حَيَّانَ بِن حُصَيْنٍ، قال: قال لي عَليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ألاَ أبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والفتح والضم لغة فيه. قال ابن السكيت: والفتح أفصح. قال في البارع: الجرو الصغير من كل شيء (تحت سريره فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله ما دريت به) هو ظاهر في أن ذلك كان في بيتها (فأمر به) بالبناء للفاعل (فأخرج) بالبناء للمفعول وحذف المفعول به في الأولى، والفاعل في الثانية، لعدم تعلق العناية بقصته؛ (فجاءه جبريل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدتني) أي: الساعة المعينة (فجلست لك) أي: منتظراً لك أو لأجلك؛ فالظرف على الأول مستقر حال، وعلى الثاني صلة جلس (ولم تأتني فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك) هذا يؤيد الاحتمال الثاني السابق، في كلام الولي العراقي" من أنهم لا يدخلون البيت الذي فيه كلب، وإن لم يعص أهله باتخاذه، لأنه إذا منع وجوده من دخولهم البيت، مع ولوجه عن غير علم، فلأن يمنع منه مع العلم بالأولى. وإن كان نقص الثواب الآتي في حديث الباب بعده مقيداً باتخاذه، في غير ما أذن فيه، لأن ذلك أقوى من هذا؛ فاعتبر فيه قوة المخالفة عن قصد. والله أعلم (إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) أي يحرم تصويرها، أو اتخذت على وجه يحرم اتخاذها لما تقدم (رواه مسلم) .
1685- (وعن أبي التياح) بفتح الفوقية وتشديد التحتية آخره مهملة (حيان) بفتح المهملة وتشديد التحتية (ابن حصين) بضم المهملة الأولى، وفتح الثانية، وسكون التحتية، آخره نون. أبو الهياج بالتحتية والجيم: الأسدي الكوفي. قال الحافظ: ثقة من أوساط التابعين (قال قال لي علي) بن أبي طالب (رضي الله عنه ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح (أبعثك على ما) أي: الذي (بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ثم أبدل من الموصول قوله
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر، (الحديث: 93) .

(8/512)


أن لاَ تَدَعَ صُورَةً إلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْراً مُشْرفاً إلاَّ سَوَّيْتَهُ. رواه مسلم (1) .
306- باب في تحريم اتخاذ الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع
1686- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْباً إلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أوْ مَاشِيَةٍ فَإنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قِيرَاطَانِ". متفق عليه.
وفي رواية: "قِيرَاطٌ" (2) .
1687- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أمْسَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ألا تدع صورة) أي: على عدم ترك صوره محرمة (إلا طمستها) أي: أزلتها إزالة للنكر باليد (ولا قبراً مشرفاً) بصيغة المفعول (إلا سويته) أي: بالأرض (رواه مسلم) ففيه أن التصوير للصورة المحرمة من المنكرات، الذي على ولاة الأمور إزالتها. والله أعلم.
باب تحريم اتخاذ الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع
أي: لحراسة، ومثله حراسة الدار لمن احتاج إليه لها، ويشملها قوله في رواية مسلم الآتية ولا أرض.
1686- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من اقتنى) افتعال من القنية، وهي اتخاذ الشيء لا للتجارة فيه (كلباً إلا كلب صيد أو ماشية) أي: يحرم اقتناؤه إلا لصيد الخ. بدليل رواية مسلم الآتية، عن أبي هريرة وفيها "ليس بكلب صيد" الخ قال في المصباح، قال ابن السكيت جماعة: الماشية المال من الإبل والغنم. وبعضهم يجعل البقر من الماشية (فإنه ينقص من أجره) أي: أجر عمله (كل يوم قيراطان متفق عليه) ورواه بنحوه مالك وأحمد والترمذي وصححه النسائي (وفي رواية) لمسلم (قيراط) .
1687- (وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أمسك) أي: على
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر، (الحديث: 93) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح، باب: من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد (9/525) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه وبيان تحريم ... (الحديث: 50) .

(8/513)


307- باب في كراهية تعليق الجرس في البعير وغيره من الدواب وكراهية استصحاب الكلب والجرس في السفر
1688- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَصْحَبُ المَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ أوْ جَرَسٌ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القيراط باعتبار قلتها، وقيل القيراطان لمن اتخذها بالمدينة النبوية خاصة، والقيراط بما عداها. وقيل: القيراطان للمدن، والقيراط للبوادي، وهو ملتفت لمعنى كثرة البادي وقلته. واختلف في القيراطين المذكورين في صلاة الجنازة واتباعها. فقيل: نعم، وقيل: ما: في الجنازة من باب الفضل. وما: هنا من باب العقوبة، وباب الفضل أوسع من غيره اهـ. ملخصاً.
باب كراهية تعليق الجرس
بفتح الجيم والراء والسين المهملة: جلاجل معروفة. هذا المشهور في ضبطه. وقاله الجوهري: وقيل: إنها كذلك رواية الأكثرين. قال وضبطناه عن أبي بحر بسكون الراء وهو اسم للصوت، وأصل الجرس الصوت الخفي، جمعه أجراس كسبب وأسباب (في البعير) هو كالإِنسان في وقوعه على الذكر منه والأنثى (وغيره من الدواب) جمع دابة والمراد منها هنا ذات الحافر. قال السيوطي: قيل إنما كره لأنه يدل على أصحابه بصوته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب أن لا يعلم العدو به، حتى يأتيهم فجأة. ذكره في النهاية اهـ. (وكراهة استصحاب الكلب والجرس في السفر) الظرف في محل الحال من كراهة المعطوف والمعطوف عليه، أي: كائنين فيه، والكراهة تنزيهية. كما يدل عليه إطلاقها عن التقييد بالتحريم والسفر معروف، سمي به لأنه يسفر عن أخلاق الرجال كما تقدم.
1688- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصخب الملائكة) أي: ملائكة الرحمة، قال الولي العراقي: يحتمل لا تصحبهم مطلقاً، ويحتمل لا تصحبهم بالكلاءة، أي: والحفظ والاستغفار من قولهم اللهم أنت الصاحب في السفر (رفقة) بتثليث الراء، وفي المصباح الرفقة: الجماعة ترافقهم في سفرك، فإذا تفرقتم زال اسم الرفقة، وهي بضم الراء في لغة تميم. والجمع رفاقة كبرمة وبرامة وكسرها في لغة قيس وجمعها رفق كسدرة وسدر (فيها كلب) أي: ليس مأذوناً في اتخاذه (ولا جرس) قال المصنف في المناسك: وينبغي لمن رأى ذلك وعجز عنه، أن يقول اللهم إني أبرأ إليك مما فعله هؤلاء،

(8/515)


رواه مسلم (1) .
1689- وعنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الجَرَسُ مِنْ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ". رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم (2) .
308- باب في كراهة ركوب الجَلاَّلة وهي البعير أو الناقة التي تأكل العَذِرَة فإنْ أكلت علفاً طاهراً فطاب لَحمُهَا، زالت الكراهة
1690- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نهَى رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الجَلاَّلَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلا تحرمني ثمرة صحبة ملائكتك وبركتهم (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: رواه أحمد وابن أبي شيبة أبو داود الترمذي وابن حبان.
1689- (وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الجرس من مزامير الشيطان رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم) قال السيوطي: الجرس الجلجل الذي يعلق على الدواب. قال ابن رسلان: هذا الحديث يدل على أن سبب الكراهة، كونه مزمار الشيطان. وعلى هذا فمن سمعه عليه وضع أصبعيه في أذنيه، لئلا يسمعه؛ وقد صرح أصحابنا بأن من كان بجواره آلات محرمة، عجم عن إزالتها، إنما يحرم عليه استماعها لإسماعها من غير قصد فكذا هنا.
باب كراهة ركوب الجلالة
بفتح الجيم وتشديد اللام الأولى وتخفيف الثانية (وهي البعير) الاسم العام كما تقدم، ويحتمل أن يراد به الجمل لمقابلته بقوله (أو الناقة) وهي الأنثى من الإِبل (التي تأكل العذرة) بفتح المهملة وكسر المعجمة. قال في المصباح: ولا يعرف تخفيفها وهي الخرء وهي مثال، فأكل غيرها من النجاسات كذلك؛ ومحل الكراهة إن اعتادت ذلك وظهر عليها ريحه، (فإن أكلت) بعد النجاسة (علفاً) بفتح المهملة واللام (طاهراً فطاب لحمها) وزال ريح النجاسة (زالت الكراهة) لزوال سببها.
1690- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة في الإِبل)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة الكلب والجرس في السفر، (الحديث: 103) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة الكلب والجرس في السفر، (الحديث: 104) .

(8/516)


في الإبِلِ أنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا. رواه أبو داود بإسناد صحيح (1) .
309- باب في النهي عن البصاق في المسجد والأمر بإزالته منه إذا وجد فيه والأمر بتنزيه المسجد عن الأقذار
1691- عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البُصاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا". متفق عليه. والمرادُ بِدَفْنِهَا إذَا كَانَ المَسْجِدُ تُرَاباً أوْ رَمْلاً ونَحْوَهُ، فَيُوَارِيهَا تَحْتَ تُرَابِهِ. قالَ أبُو المحاسِنِ الرُّويَانِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بكسر أوليه وتسكين ثانيهما تخفيفاً (أن يركب عليها) بدل اشتمال من الجلالة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) وكذا رواه الحاكم في المستدرك، وآخر الحديث: "وإنه شرب من ألبانها". والحديث صححه المصنف في المناسك، وقال فيه للحديث الصحيح فذكره.
باب النهي عن البصاق
بضم الموحدة وبالصاد المهملة وبالزاي. قال ابن النحوي في لغات المنهاج ثلاث لغات بمعنى واحد، والسين غريبة. قال المصنف في شرح المهذب: وقد أنكرها بعض أهل اللغة، وإنكاره باطل، فقد نقلها الثقات، وثبتت في الحديث الصحيح (في المسجد والأمر) معطوف على النهي، والأمر للندب (بإزالته منه إذا وجد فيه) أى: منه أو من غيره. (والأمر بتنزيه المسجد عن الأقذار) وجوباً عن القذر النجس أو المقذر للمكان كنحو ماء غسل، وأكل طعام يتلوث منه المكان، وندبا فيما ليس كذلك.
1691- (عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: البصاق في المسجد خطيئة) أي: معصية (وكفارتها) أي: تكفير دوام إثمها (دفنها) أما أصل الفعل فلا يكفره إلا التوبة، أو فضل الله سبحانه، أو عمل صالح. إذ هو من الصغائر (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (والمراد بدفنها) أي: المكفر لما ذكر (إذا كان المسجد تراباً أو رملاً أو نحوه) أفرد الضمير لكون مرجعه معطوفاً بأو، التي هي لأحد الشيئين (فيواريها) من المواراة وهي التغيب (تحت ترابه قال أبو المحاسن الروياني) بضم الراء وسكون الواو بلا همزة قال في
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في ركوب الجلَّالة، (الحديث: 2558) .

(8/517)


310- باب في كراهة الخصومة في المسجد ورفع الصوت فيه ونشد الضالة والبيع والشراء والإجارة ونحوها من المعاملات
1694- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً في المَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لاَ رَدَّها اللهُ عَلَيْكَ، فإنَّ المَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهذَا". رواه مسلم (1) .
1695- وعنه: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا رَأيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب كراهة الخصومة
بضم المعجمة والمهملة (في المسجد ورفع الصوت فيه) أي: ولو بالذكر. ومحله إن حصل منه تشويش على نائم أو مصل أو نحوه ولم يشتد به ضرره، وإلا فيحرم (ونشد الضالة) أي: السؤال عنها، والنشد مصدر نشد من باب قتل والاسم منه النشدة والنشدان بكسر نونيهما (والبيع والشراء والإِجارة ونحوها من المعاملات) لأن هذه أمور دنيوية، والمساجد إنما هي للدينيات والتعبدات، وليست منها، وخرج بالمعاملات، النكاح، فيستحب جعله في المسجد، لحديث الترمذي: "اعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد".
1694- (عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سمع رجلاً ينشد) بضم المعجمة أي: يطلب (ضالة) في المصباح: الضالة بالهاء تقال للحيوان الضائع، ذكراً كان أو أنثى، والجمع الضوال كدابة ودواب. ويقال لغير الحيوان ضائع اهـ. وظاهر أن المراد بها في الحديث: ما يعم الحيوان وغيره (في المسجد) صلة ينشد (فليقل) ندباً (لا ردها الله عليك) وقوله (فإن المساجد لم تبن) بصيغة المجهول (لهذا) أي: النشد جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً محتملة، لكونها علة الأمر بالقول المذكور، فيقتصر منه على قوله عليك. ويحتمل أنه مما يقال للناشد كالبيان لسبب الدعاء عليه، إذ أوقع الشيء في غير محله. وحديث الترمذي بعده مؤيد للاحتمال الأول (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
1695- (وعنه رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتم) أي: أبصرتم، ويلحق به
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد، (الحديث: 79) .

(8/520)


أَوْ يَبْتَاعُ في المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لا أرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَقُولُوا: لا رَدَّهَا الله عَلَيْكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1696- وعن بُريَدَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً نَشَدَ في المَسْجِدِ فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الجَمَلِ الأَحْمَرِ؟ فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا وَجَدْتَ؛ إنَّمَا بُنِيَتِ المََسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ". رواه مسلم (2) .
1697- وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّهِ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَن الشِّراءِ والبَيْعِ في المَسْجِدِ، وَأنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
علم الأعمى ومن في ظلمة بذلك. (من يبيع أو) للتنويع (يبتاع) أي: يشتري (في المسجد) تنازعه ما قبله فيعمل فيه الثاني، وحذف معمول الأول لدلالة هذا عليه فأل في المسجد للجنس (فقولوا) ندباً (لا أربح الله تجارتك) أي: لا أوقع الله فيها الربح لكونك أتيت بها في محل المتاجر الأخروية، دون محلها من الأسواق وخارج المساجد (وإذا رأيتم من ينشد ضالة) أي: في المسجد. وفي الجامع بلفظ "وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة" لدلالة السياق والسباق عليه (فقولوا) ندباً (لا ردها الله عليك رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال السيوطي: ورواه الحاكم في المستدرك.
1696- (وعن بريدة رضي الله عنه أن رجلاً) لم أقف على من سماه (نشد في المسجد) بفتح النون المعجمة أي: طلب (ضالة فقال: من دعا إليّ) بتشديد الياء، قال الحافظ معناه من تعرف إلى (الجمل الأحمر) مفعول دعا (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا وجدت) دل مع حديث أبي هريرة قبله، أن المطلوب لمن سمع الناشد عن الضالة في المسجد أن يدعو عليه بأن لا يلقاها. ويحتمل الاقتصار على أحد اللفظين الواردين (إنما بنيت المساجد لما) أي: الذي (بنيت له) أي: من الصلاة والذكر ونشر العلم (رواه مسلم) .
1697- (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه) شعيب (عن جده) أبي شعيب وهو عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشراء و) عن (البيع) الكائنين (في المسجد) لأنها لم تبن لذلك (و) نهى (أن تنشد فيه ضالة) أي: عنها وأمر أن يقال
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: النهي عن البيع في المسجد، (الحديث: 1321) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد (الحديث: 80) .

(8/521)


1700- وعن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّا، وَلاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا". متفق عَلَيْهِ (1) .
1701- وعن جابر - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزلنا، أو فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا". متفق عَلَيْهِ. وفي روايةٍ لمسلم: "مَنْ أكَلَ البَصَلَ، والثُّومَ، والكُرَّاثَ، فَلاَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
افترقا في أن أفراد الأول مفردات، والثاني جموع. وقيل أفراد وفي أن في رواية مسجدنا، إيهام الاختصاص بالمسجد النبوي ورواية مسلم المذكورة سالمة منه.
1700- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل من هذه الشجرة) سكت عن تعيين المشار إليه، لوجود ما يعينه من قرينة حالية أو مقالية؛ والمراد الثوم (فلا يقربنا) أي: في المساجد وغيرها، وذلك لئلا يؤذي الغير بالرائحة الكريهة الخبيثة، وقد صرح أصحابنا بأن على الإِمام أن يمنع الأبخر ونحوه، من مخالطة الناس دفعا لأذى ريحه عنهم، والفعل مؤكد بالنون الخفيفة، والثانية نون ضمير المتكلم ومعه غيره (ولا يصلين معنا) خص بالذكر مع تناول ما قبله له اهتماماً بأمر بالصلاة، ودفعا لسلب الخشوع عن المصلى، ليأتي بها على الكمال المطلوب منا، ومع بفتح العين ظرف مكان (متفق عليه) .
1701- (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أكل ثوماً أو بصلاً) أو فيه للتنويع ومثله كل ذي ريح كريه من الكراث وكذا الفجل باعتبار ما يتولد عنه من الجشاء القبيح (فليعتزلنا أو) شك من الراوي (فليعتزل مسجدنا) أي: ولو في غير أوقات الصلاة، لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. وهو في الجامع الصغير بلفظ "فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته" بالواو في الجميع فأفاد الأمر باعتزاله الناس مطلقاً والمساجد بالتخصيص وأكد مفهوم الجملة الأولى بقوله وليقعد الخ (متفق عليه، وفي رواية لمسلم من أكل البصل والثوم والكراث) الجمع بينها ليس قيداً في النهي عنه للاكتفاء فيه بأحدها في الرواية قبله، في المصباح: الكراث بقلة معروفة والكراثة أخص منه، وهي خبيثة الريح (فلا
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها، (الحديث: 68) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء (9/489) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً (الحديث: 70) .

(8/524)


يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ" (1) .
1702- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنَّه خَطَبَ يومَ الجمْعَةِ فَقَالَ في
خطبته: ثُمَّ إنَّكُمْ أيُّهَا النَّاسُ تَأكُلُونَ شَجَرتَيْنِ مَا أرَاهُمَا إِلاَّ خَبِيثَتَيْن: البَصَلَ، وَالثُّومَ. لَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا وَجدَ ريحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ في المَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ إِلَى البَقِيعِ، فَمَنْ أكَلَهُمَا، فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخاً. رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقربن مسجدنا) نهى عن القرب، مبالغة في الإِبعاد لمن كان كذلك، عن المسجد وعلل ذلك بقوله: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) أي: غالباً فلا ينافي استطابتها، للخلوف الناشىء عن الصيام، مع تأذي الناس منه. أو ذلك لأن الله تعالى يجعلهم يجدونه ذا عرف أطيب من المسك، لا كما يجده النوع الإِنساني والله على كل شيء قدير.
1702- (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب يوم جمعة فقال في خطبته ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين) بفتح المعجمة والجيم والشجرة ما له ساق صلب يقوم عليه (لا أراهما) بفتح الهمزة أي أعلمهما، وبضمها أي: أظنهما (إلا خبيثتين) في المصباح. يطلق الخبيث على الحرام كالزنى، وعلى الرديء المستكره طعمه أو ريحه كالثوم والبصل. ومنه الخبائث التي كانت العرب تستخبثها كالحية والعقرب (البصل والثوم) بالنصب بدل من شجرتين، وبالرفع على القطع خبر محذوف (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أبصرته (إذا وجد ريحهما في الرجل في المسجد أمر) بالبناء للفاعل أي: أوقع أمره (به) أي: بإخراجه من المسجد دفعاً لضرر الناس به؛ (فأخرج إلى البقيع) مدفن موتى أهل المدينة، مبالغة في الإِبعاد عن المسجد وتنظيفه وتنزيهه عن الروائح الرديئة (فمن أكلهما) أي: أراد أكلهما (فليمتهما) باذهاب ريحهما (طبخاً) تمييز عن نسبة الأمانة إليهما (رواه مسلم) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: ما جاء في الثوم النيء، (9/498) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها، (الحديث: 74) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها، (الحديث: 78) مطولاً.

(8/525)


313- باب في نهي من دخل عَلَيْهِ عشر ذي الحجة وأراد أنْ يضحي عن أخذ شيء من شعره أَوْ أظفاره حَتَّى يضحّي
1704- عن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإذَا أَهَلَّ هِلاَلُ ذِي الحِجَّةِ، فَلاَ يَأخُذَنَّ من شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ أظْفَارِهِ شَيْئاً حَتَّى يُضَحِّيَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة
هي الأيام المعلومات (وأراد أن يضحي) أو يذبح هدياً تطوعاً، أو لنحو تمتع أو لغير جناية وصرح بالهدي ابن سراقة وقال: إنه أولى بذلك من الأضحية (عن أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحى) ليكون ذلك مبعداً عن النار، بما يذبحه تقرباً إلى الله تعالى.
1704- (عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان له ذبح) بكسر الذال المعجمة، وسكون الموحدة: أي مذبوح. والإِطلاق من مجاز الأول (يذبحه) أي: يريد ذبحه (فإذا أهل) بصيغة المجهول كما بيناه في مؤلفات (1) اتحاف الفاضل بمعرفة الفعل المبني لغير الفاعل (هلال) وحذف الفاعل للعلم بأنه الله تعالى، والهلال اسم للقمر، ثلاثة أيام في أول الشهر، ثم هو بعهد قمر. وسمي بذلك لما يعتاد من الإِهلال أي: رفع الصوت عند رؤياه (ذي الحجة) بكسر الحاء المهملة على الأفصح (فلا يأخذن) ندباً (من شعره ولا من أظفاره شيئاً) قل أو كثر كما يومىء إليه عموم النكرة المذكورة في سياق النهي (حتى يضحى) قال ابن حجر في شرح العباب: وصرفه عن الوجوب قول عائشة: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقلدها هو بيده ثم يبعث بها فلا يحرم عليه شيئاً أحله الله تعالى له ْحتى ينحر الهدي والمعنى في النهي، شمول المغفرة لجميع أجزائه، ومقتضى قوله "حتى يضحي" أنه لو أخرها إلى آخر أيام التشريف امتدت الكراهة، وهو كذلك. وأنه لو أراد التضحية بأعداد زالت الكراهة بذبح الأول لحصول المقصود من شمول المغفرة لجميع أجزائه. ويحتمل بقاء النهي إلى آخرها. وخرج الأسنوي في التمهيد هذا على قاعدة أصولية: هي أن الحكم المعلق على معنى كلي، هل يكتفي فيه بأدنى المراتب، لتحقق المسمى، أم يجب الأعلى احتياطاً؟ قال: والصحيح القول الأول اهـ. ومحل الكراهة عند عدم الحاجة، أما معها كقلع سن أوجعه فلا كراهة، بل قد يسن كختان الصغير وقد يجب كختان البالغ وقطع يد الجاني أو السارق، وظاهر كلامهم أن حضور الجمعة ليس من

(8/527)


رواه مسلم (1) .
314- باب في النهي عن الحلف بمخلوق كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والآباء والحياة والروح والرأس وحياة السلطان ونعمة السلطان وتربة فلان والأمانة، وهي من أشدها نهياً
1705- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّ الله تَعَالَى يَنْهَاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ". متفق عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحاجة، فيزيل الشعر له في الأيام المذكورة. نعم إذا توقف إزالة الأوساخ على ذلك فهو حاجة فلا يكره (رواه مسلم) .
باب النهي عن الحلف بمخلوق
(كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والآباء والحياة والروح والرأس) أي: السلطان (2) أو غيره (وحياة السلطان ونعمة السلطان وتربة فلان والأمانة وهي من أشدها نهياً) النهي على سبيل التحريم، إن قصد الحالف بها تعظيماً لها في الجملة. فإن قصد تعظيمها كتعظيم الله تعالى كفر. وإن جرى على لسانه القسم بها بقصد ادغام الكلام كره، وإن جرى عليه من غير قصد فلا كراهة بل هو من لغو اليمين وسيأتي زيادة في الأحاديث.
1705- (عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا) أي: عن أن تحلفوا (بآبائكم) اختلف في النهي، هل هو للتحريم أو للكرهة قولان: المشهور عند المالكية والراجح عند الشافعية الكراهة، ما لم يعتقد في المحلوف به من التعظيم، ما يعتقده في الله تعالى، وإلا فيكفر. والمشهور عند الحنابلة وبه جزم الظاهرية: التحريم (فمن كان حالفاً) أي: مريد الحلف (فليحلف بالله) قال الفقهاء ومثل لفظ الجلالة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأضاحي، باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية ... ، (الحديث:42) .
(2) كذا، ولعله (مؤلفنا) . ع.

(8/528)


وفي رواية في الصحيح: "فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللهِ، أَوْ لِيَسْكُتْ" (1) .
1706- وعن عبد الرحمان بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي، وَلاَ بِآبَائِكُمْ". رواه مسلم. "الطَّواغِي": جَمْعُ طَاغِيَةٍ، وهِيَ الأصنَامُ. وَمِنْهُ الحَدِيثُ: "هذِهِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ" أيْ: صَنَمُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذات الله وصفاته العلية. قال الحافظ ويمكن أن يراد منه الذات لا خصوص لفظ الجلالة فيتناول ما ذكر (أو ليصمت) بضم الميم أي: يسكت بالقصد عن الحلف بغير الله تعالى، أي: مريد اليمين مخير بين الحلف بالله تعالى وترك الحلف بغيره والام فيهما للأمر ويجوز كسرها على الأصل وإسكانها تخفيفاً (متفق عليه) ورواه الترمذي والنسائي (وفي رواية في الصحيح) هي عند مسلم في الإِيمان والنذر، لكن ليس فيه قوله أو ليسكت (فمن كان حالفاً فلا يحلف) بالجزم على النهي وبالرفع خبر يعني النهي (إلا بالله أو ليسكت) الروايتان متلازمتان لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وكذا عكسه أي: يستلزم كل الآخر.
1706- (وعن عبد الرحمن بن سمرة) بضم الميم تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب النهي عن سؤال الإِمارة (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم) النهي عن الحلف بالأول على سبيل التحريم، وعن الثاني على سبيل التنزيل. ففيه استعمال اللفظ الموضوع للنهي في حقيقته ومجازه، ومن منع إطلاقه عليهما يقول: إنه مستعمل في معنى مجازي عام لهما هو طلب الترك لذينك (رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: بعد أن أورده بلفظ "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن سمرة وفيه حديث "لا تحلفوا بالطواغيت ولا تحلفوا بآبائكم واحلفوا بالله وإنه أحب إليه أن تحلفوا به ولا تحلفوا بشيء من دونه" رواه الطبراني عن حبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه عن جده، سكت فيه عن عز وحديث مسلم إليه في شرح مسلم للمصنف. قال أهل اللغة والغريب (الطواغي) بالطاء المهملة والغين المعجمة (جمع طاغية وهي الأصنام ومنه الحديث هذه طاغية دوس أي: صنمهم ومعبودهم) هذا لفظ النهاية بعينه ودوس بالدال والسين المهملتين بوزن قوس قبيلة معروفة، منها أبو هريرة قال في النهاية ويجوز أن يكون المراد بالطواغي من طغى في الكفر وجاوز القدر في الشر، وهم عظماؤهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأيمان، باب: لا تحلفوا بآبائكم وفي الشهادات وغيرها (11/461، 462) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، (الحديث: 4) .

(8/529)


وَرُوِيَ في غير مسلم: "بِالطَّوَاغِيتِ" جَمعُ طَاغُوت، وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَالصَّنَمُ (1) .
1707- وعن بُريدَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِالأمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا" حديث صحيح، رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (2) .
1708- وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنِّي بَرِيءٌ مِنَ الإسْلاَمِ، فَإنْ كَانَ كَاذِباً، فَهُوَ كمَا قَالَ، وإنْ كَانَ صَادِقاً، فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الإسْلاَمِ سَالِماً"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورؤساؤهم (وروى في غير مسلم بالطواغيت) كما تقدم عن الجامع الكبير والطواغيت (جمع طاغوت وهو الشيطان) أو ما يزين لهم أن يعبدوه من دون الله (والصنم) قال في النهاية الطاغوت يكون واحداً وجمعاً.
1707- (وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لمن حلف بالأمانة) بفتح الهمزة وتخفيف الميم (فليس منا) أي: من ذوي طريقتنا. قال السيوطي نقلاً عن الخطابي: سببه أن اليمين لا تنعقد إلا بالله تعالى أو بصفاته، وليست منها الأمانة وإنما هي أمر من أمره وفرض من فروضه، فنهوا عنه لما يوهمه الحلف بها من مساواتها لأسماء الله وصفاته. وقال ابن رسلان أراد بالأمانة الفرائض أي: لا تحلفوا بالحج والصوم ونحوهما (حديث صحيح رواه أبو داود) في الإِيمان والنذور (بإسناد صحيح) رواه عن أحمد بن يونس عن زهير عن الوليد بن ثعلبة الطائي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وهو عند أحمد بلفظ "ليس منا من حلف بالأمانة" الحديث - قال السيوطي في الجامع الكبير: ورواه ابن حبان والحاكم في المستدرك.
1708- (وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف فقال إني بريء من الإِسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلي الإِسلام سالماً) المراد به التهديد والتشديد، وهذا يمين عند بعض الأئمة، فيه الكفارة. وعند الشافعي ومالك ليس بيمين، فلا تجب به كفارة. لكن قائله آثم. قال أصحابنا: إن قصد العزم على الكفر فهو كافر في
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله (الحديث: 6) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالأمانة، (الحديث: 3253) . وأحمد (5/352) .

(8/530)


رواه أَبُو داود (1) .
1709- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يقُولُ: لاَ وَالكَعْبَةِ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: لاَ تَحْلِفْ بَغَيْرِ اللهِ، فَإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ، فقد كَفَرَ أَوْ أشْرَكَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن".
وفَسَّرَ بَعْضُ العُلَمَاءِ قولَهُ: "كفَرَ أَوْ أشْرَكَ" عَلَى التَّغْلِيظِ، كما روي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الرِّياءُ شِرْكٌ" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحال، وإن قصد الامتناع من ذلك المحلوف عليه أبداً ولم يقصد شيئاً فلا كفر، لكنه لفظ شنيع قبيح يستغفر الله تعالى من إثمه ويأتي بالشهادتين ندباً (رواه أبو داود) قال في الجامع الكبير رواه أحمد وأبو يعلى الموصلي والحاكم في المستدرك والدارقطني وسعيد بن منصور من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه.
1709- (عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حلف بغير الله فقد كفر أو) شك من الراوي (أشرك. رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال في الجامع الكبير بعد إيراده بلفظ: "فقد أشرك من غير شك" رواه أبو داود الطيالسي وأحمد والشاشي أبو يعلى والطبراني والحاكم في المستدرك والدارقطني وابن منصور عن ابن عمر (قال) أي: الترمذي (وفسر بعض العلماء قوله كفر أو أشرك) أي: ليس المراد منه في الحديث ظاهره، وأنه ليس على حقيقته، لأن المعصية ولو كبيرة غير الكفر لا تخرج عن الإِيمان بل هو محمول (على التغليظ) من ترك ذلك والتنفير عنه (كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الرياء) بالتحتية (شرك) فإنه معصية لا تخرج عن الإِيمان، بل هو محمول على التنفير عنه وتقدم أول الباب حمل آخر لهذا الحديث أي: من اعتقد في المحلوف به من العظمة مثل العظمة التي لله عز وجل ذكره الحافظ في فتح الباري.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: ما جاء في الحلف بالبراءة وبمله غير الإسلام، (الحديث: 3258) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، (الحديث: 1535) .

(8/531)


وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رسولَ اللهِ؟ قَالَ: "وإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ" رواه مسلم (1) .
1712- وعن عبد اللهِ بن عمرو بن العاصِ رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بحق ليعم المال والاختصاص؛ ومثل المسلم فيما ذكر الذمي. (بيمينه) أي: من أخذ حق من ذكر، بيمين هو فيه "فاجر مستحلاً لذلك. وقد علم الحرمة والإِجماع عليها (فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال له: رجل وإن كان) أي: المقتطع باليمين (شيئاً يسيراً) أي: يشمله هذا الوعيد الشديد (يا رسول الله قال وإن) بكسر الهمزة وسكون النون شرطية وصلية، والواو الداخلة عليها حالية. وقيل عاطفة، وجوابها محذوف لدلالة ما تقدم عليه؛ (قضيباً) فاعل فعل الشرط المقدر (2) أي: وإن اقتطع قضيباً (من أراك) والقضيب بالضاد المعجمة والتحتية والموحدة: الغصن المقطوع، فعيل بمعنى مفعول، جمعه قضبان: والأراك بفتح الهمزة وبالراء: شجر من الحمض يستاك بقضبانه، الواحدة أراكة.
ويقال: هي شجرة طويلة ناعمة كثيرة الورق والأغصان، خوارة العود، ولها ثمر في عناقيد يسمى البرير، يملأ العنقود الكف. كذا في المصباح (رواه مسلم) في الإِيمان. ورواه النسائي في القضاء، وابن ماجة فيه أيضاً قاله المزي في الأطراف.
1712- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الكبائر) الحصر إضافي، والسكوت على ما ذكره لدعاء الحال إليها وشدة أمرها وغلظه، وهي على الصحيح ما توعد عليه بالعذاب أو الغضب في الكتاب أو السنة (الإِشراك بالله) أي: الكفر بإشراك أو بغيره، وذكر الإشراك لأنه كان الغالب في عصره - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كانوا يعبدون الأصنام، ويشركونها مع الله في الألوهية. (وعقوق الوالدين) أي: أن يفعل معهما أو مع أحدهما، ما يتأذى به عرفاً، تأذياً ليس بالهين (وقتل النفس) (3) أي: عدواناً (واليمين الغموس) بفتح الغين المعجمة: اسم فاعل لأنها تغمس صاحبها في الإِثم؛ لأنه حلف كاذباً على علم منه؛
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فأجره بالنار (الحديث: 218 و219) .
(2) في نسخ المتن (كان قضيباً) وعليه لا حذف. ع.
(3) في بعض نسخ المتن (وقتل النفس التي حرم الله) . ع.

(8/533)


وَلاَ يُكَفِّرُ، وَقَولُهُ: "آثَمُ" هُوَ بالثاء المثلثة، أيْ: أَكْثَرُ إثْماً (1) .
317- باب في العفو عن لغو اليمين وأنَّه لا كفارة فِيهِ، وَهُوَ مَا يجري عَلَى اللسان بغير قصد اليمين كقوله عَلَى العادة: لا والله، وبلى والله، ونحو ذَلِكَ
قَالَ الله تَعَالَى (2) : (لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يتمادى فيها ولا يكفر) بتركه الخير المحلوف على تركه (وقوله آثم) بالمد و (بالثاء المثلثة) أفعل تفضيل (أي: أكثر إثماً) قال العاقولي: أصله أن يطلق للأج الإِثم، فأطلقه للجاج الموجب للإثم على سبيل الاتساع.
باب العفوعن لغو اليمين وأنه لا كفارة فيه وهو
أي: لغو اليمين عند إمامنا الشافعي وأصحابه: (ما يجري على اللسان بغير قصد اليمين) وكذا ما تكلم به جاهلاً لمعناه، كما قال البيضاوي، وذهبت الحنفية إلى أنه الحلف على ما يظن أنه كذلك، ولم يكن (كقوله على العادة لا والله وبلى والله ونحو ذلك) من الألفاظ التي يعتاد الحلف بها، إذا صدرت من غير قصد اليمين. (قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) أي: إذا حنثتم أو بنكث اللغو (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما قدمتم، إذا حنثتم، أو ينكت ما عقد (فكفارته) أي: كفارة نكثه أي: الفعلة التي تذهب إثمه وتستره (إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) من اقصده في النوع والقدر، وهو مد لكل مسكين عندنا. ومحله النصب صفة لمفعول محذوف، تقديره أن تطعموا عشرة مساكين، طعاماً من أوسط ما تطعمون، أو الرفع على البدل من إطعام. وقرىء "أهاليكم" بسكون الياء، على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث، كالألف. وهو جمع أهل، كالليالي في جمع ليل. (أو كسوتهم) عطف على إطعام، أو من أوسط أن جعل بدلاً وقرىء بضم
__________
(1) أخرجه البخاري في فاتحة كتاب الأيمان (11/452، 453) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مماليس بحرام، (الحديث: 26) .
(2) سورة المائدة، الآية: 89.

(8/537)


أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ) .
1717- وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: أُنْزِلَتْ هذِهِ الآية: (لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ) في قَوْلِ الرَّجُلِ: لا واللهِ، وَبَلَى واللهِ. رواه البخاري (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكاف وهو كعروة. وقرىء كأسوتهم، بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً أو تقتيراً تساوون بينهم وبينكم، إن لم تطعموهم الأوسط. والكاف في محل الرفع، وتقديره أو إطعامهم كأسوتهم (أو تحرير رقبة) أي: إعتاق إنسان، ومعنى "أو" إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقاً، وتخيير المكلف في التعيين (فمن لم يجد) أي: واحداً منها (فصيام ثلاثة أيام) أي: فكفارته صيامها (ذلك) أي: المذكور (كفارة أيمانكم إذا حلفتم) أي: وحنثم (واحفظوا أيمانكم) بأن تصونوها ولا تبذلوها لكل امر، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير، وبأن تكفروها إذا حنثتم.
1717- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزلت هذه الآية) وعطفت عليها عطف بيان قولها (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (في قول الرجل) أي: الإِنسان، وخص لأنه الأشرف؛ (لا والله وبلى والله) مما جرت عادة الإِنسان بالإِتيان به في كلامه، من غير قصد لتحقق اليمين (أخرجه البخاري) (2) قال السيوطي في الدر المنثور: أخرجه مالك في الموطأ ووكيع والشافعي في الأم وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق، وفي الدر أخرج أبو داود وابن جرير وابن حبان وابن مردويه والبيهقي، من طريق عطاء بن أبي رباح: أنه سئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هو كلام الرجل في يمينه كلا والله وبلى والله" ثم أخرج في الدر آثاراً أخر عن عائشة كذلك، موقوفة عليها. قال: وأخرج أبو الشيخ من طريق عطاء عن عائشة وابن عباس وابن عمرو، أنهم كانوا يقولون: اللغو لا والله وبلى والله.
وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (3) وتقول: هذا الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/المائدة، باب: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك، (11/476) .
(2) كذا في نسخ الشرح، وفي نسخ المتن (رواه) . ع.
(3) سورة البقرة، الآية: 225.

(8/538)


319- باب في كراهة أن يسأل الإنسان بوجه الله - عز وجل - غير الجنة، وكراهة منع من سأل بالله تعالى وتشفع به
1720- عن جابر - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ الا الجَنَّةُ". رواه أبو داود (1) .
1721- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ، فَأعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ، فأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ، فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب كراهة أن يسأل الإِنسان بوجه الله غير الجنة
أي: فإنه عظيم فلا ينبغي أن يسأل إلا ما كان كذلك من الجنة، التي هي دار الأحباب، والنظر إلى وجه الله الكريم ورضوانه، والرضوان الذي هو أشرف ما أعطوه (وكراهة منع من سأل بالله تعالى شيئاً) من الأمور الدنيوية، وإن ارتكب مكروهاً بسؤاله ذلك بوجه الله تعالى (و) من (تشفع به) أي: بالله تعالى وجعله وسيلة إلى المسئول منه متشفعاً به إليه.
1720- (عن جابر) بن عبد الله (رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل) بالجزم على النهي التنزيهي. وبالرفع خبر بمعنى النهي (بوجه الله إلا الجنة) قال ابن رسلان قال الحليمي: هذا يدل على أن السؤال بالله يختلف، فإن كان السائل يعلم (2) أن المسئول إذا سأله بالله تعالى، اهتز لإِعطائه واغتنمه، جاز له سؤاله بالله تعالى. "قلت" وإن كان الأولى له تركه، لما فيه من استعمال اسم الله في غرض دنيوي، قال: وإن كان ممن يتلوى ويتضجر، ولا يأمن أن يرد، فحرام عليه أن يسأله. وقرر ذلك ثم قال: وأما المسئول فينبغي إذا سئل بوجه الله أن لا يمنع، ولا يرد السائل، وأن يعطيه بطيب نفس وانشراح صدر، لوجه الله تعالى (رواه أبو داود) والضياء من حديث جابر ورواه الطبراني من حديث بريدة.
1721- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من استعاذ بالله) أي: سأل العوذ والعصمة من شيء متوسلاً إليكم بالله مقسماً به عليكم قسماً استعطافياً، أي: من سألكم بالله أن تجيروه من شيء (فأعيذوه) أي: أجروه منه إجلالاً لمن استعاذ به (ومن سأل
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: كراهية المسألة بوجه الله تعالى، (الحديث: 1671) .
(2) في نسخة (ظن) بدل (يعلم) . ع.

(8/540)


مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَد كَافَأْتُمُوهُ". حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي بأسانيد الصحيحين (1) .
320- باب في تحريم قوله: شاهنشاه للسلطان وغيره لأن معناه ملك الملوك، ولا يوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالله) أي: شيء من جليل أو حقير ديني أو دنيوى أو علمي، كما يومىء إليه عموم حذف المعمول (فاعطوه) ي: إذا قدرتم عليه (ومن دعاكم فأجيبوه) أي: وجوباً إن كانت وليمة نكاح ولم يوجد شيء من الأمور المسقطة للوجوب، وإلا فسنة. وأوجب الظاهرية إجابة كل دعوى، وبه قال بعض السلف (ومن صنع إليكم معروفاً) هو اسم جامع لكل إحسان (فكافئوه) على إحسانه بمثله أو أحسن منه، قال الله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (2) حمله بعض المفسرين على المكافأة (فإن لم تجدوا ما تكافئونه) وفي نسخة بحذف النون، وهي لغة حكاها ابن مالك في التسهيل أي: حذفها لغير ناصب ولا جازم، والعائد محذوف أي: به. أو ما موصول حرفي أي: فإن لم تجدوا مكافأته.
والمصدر بمعنى المفعول (فادعوا له) وأكثروا (حتى تروا أنكم قد كافأتموه) في المصباح كل شيء ساوى شيئاً حتى صار مثله فهو مكافىء له (حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي بأسانيد الصحيحين) قال في الجامع الكبير: رواه الطيالسي وأحمد وأبو داود والنسائي والحكيم الترمذي والطبراني وابن حبان وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك، والدارقطني، كلهم من حديث ابن عمر، وإسنادهما الذي أشار إليه المصنف. فقد رواه أبو داود في أواخر الزكاة، عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر. ورواه في الأدب عن مسدد وسهل بن بكار، كلاهما عن أبي عوانة وقتيبة. ورواه النسائي في الزكاة عن قتيبة عن أبي عوانة كلاهما عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر.
باب تحريم قول شاهانشاه (3)
بالشين المعجمة فيهما (للسلطان وغيره) من الملوك والأمراء (لأن معناه) أي: اللفظ المركب المذكور (ملك الملوك ولا يوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى) فإطلاقه على
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: عطيه من سأل بالله، (الحديث: 1672) .
وأخرجه النسائي في كتاب: الزكاة، باب: من سأل بالله عز وجل، (الحديث: 2566) .
(2) سورة النساء، الآية: 86.
(3) في نسخة من المتن (شاهنشاه) في الموضعين بحذف الألف قبل النون فلعلها حذفت لحذفها لفظاً لالتقاء الساكنين. ع.

(8/541)


1722- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللهِ - عز وجل - رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ". متفق عليه.
قال سُفيانُ بن عُيَيْنَةَ: "مَلِكُ الأَمْلاَكِ" مِثْلُ: شَاهِنْشَاهِ (1) .
321- باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بِسَيِّد ونحوه
1723- عن بُريَدَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غير الله تعالى: وصف لذلك الغير، بوصف الخالق الذي لا يصح قيامه بغيره سبحانه، إنما وصف العبد الذلة والخضوع في العبودية.
1722- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أخنع) بالمعجمة والنون والمهملة: من الخنوع وهو الذل أي: أدل (اسم عند الله عز وجل رجل) أي: اسم رجل (تسمى) بالفوقية (ملك الأملاك) أي: سمى نفسه ملك الأملاك (متفق عليه، قال سفيان بن عيينة) تقدم أن الأشهر، ضم كل من السين والعين المهملتين (ملك الأملاك) في التحريم المدلول عليه بالحديث (مثل شاهان شاه) من عكس التشبيه وذلك لأن ملك الأملاك هو المنصوص عليه، وشاهانشاه؛ هو المشبه والمقيس. قال السيوطي وشاه: هو الملك، وشاهان جمعه. وقدم على قاعدة العجم من تقديم المضاف إليه على المضاف.
باب النهي عن مخاطبة الفاسق
من أصر على معصية صغيرة أو أتى كبيرة (والمبتاع) أي: ذي البدعة، بالخروج عن اعتقاد الحق، الذي جاء به الكتاب والسنة إلى ما يزينه الشيطان (ونحوهما) من الظلمة وأعوانهم (بسيد ونحوه) مما يدل على تعظيمه، وذلك قياساً على ما في الحديث الآتي، لأن المعنى فيه تعظيم من أهانه الله، وذلك قدر مشترك بين المذكور فيه والمقيس عليه.
1723- (عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقولوا للمنافق سيد) ومثله سائر ألفاظ التعظيم، ومحل النهي ما لم يحس من تركه، ضرراً، على نفسه أو أهله أو ماله،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: أبغض الأسماء إلى الله، (10/486) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الآداب، باب: تحريم التسمي بملك الأملاك، وبملك الملوك (الحديث: 30) .

(8/542)


"لاَ تَسُبِّي الحُمَّى فَإنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيدِ". رواه مسلم.
"تُزَفْزِفِينَ" أيْ تَتَحَرَّكِينَ حَرَكَةً سَريعَةً، وَمَعْنَاهُ: تَرْتَعِدُ. وَهُوَ بِضَمِّ التاء وبالزاي المكررة والفاء المكررة، وَرُوِيَ أيضاً بالراء المكررة والقافينِ (1) .
323- باب في النهي عن سب الريح، وبيان ما يقال عند هبوبها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا تسبي الحمى) أي: فإن الدعاء عليها ملازم لتنقيصها وتحقيرها، الذي به يكون السب، ففي الحديث استعارة مصرحة تبعية، وعلل النهي بقوله (فإنها تذهب خطايا بني آدم) أي: الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، فالخطايا في الحديث عام مخصوص (كما يذهب الكير) بكسر الكاف وسكون التحتية وبالراء: زق الحداد الذي ينفخ به. قال أبو عبيدة: الكور المبني من الطين، والكير بالياء الزق (خبث الحديد) بفتح المعجمة والموحدة وبالمثلثة.
أي: وسخه الذي في ضمنه (رواه مسلم) وابن سعد وأحمد والبخاري في الأدب المفرد، وأبو يعلى وابن أبي الدنيا، في الكفارات، والبيهقي في الشعب (تزفزفين أي: تتحركين حركة سريعة ومعناه) أي: هذا اللفظ (ترتعد وهو) أي: تزفزفين (بضم التاء) الفوقية قال في شرح مسلم: وتفتح (وبالزاي المكررة والفاء المكررة) الأخصر وبالزاي والفاء المكررتين، ْفي قال في شرح مسلم: وهذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة. وادعى عياض أنها رواية جمع رواة مسلم (وروي أيضاً بالراء المكررة) أي: مع الفاء حكاها المصنف عن بعض نسخ بلاده في شرح مسلم (وروي بالراء المكررة والقافين) قال المصنف: هي رواية في غير مسلم وحينئذ فكان على المصنف بيان ذلك هنا، لأنه إنما ذكر من المخرجين مسلماً، فيوهم أن هذه الثلاثة من جملة رواياته، وقد نبه على ذلك في شرح مسلم، ومعناه على الجميع تتحركين حركة شديدة، أي: ترعدين قاله المصنف. وقد فات المنذري في ترغيبه، حكاية لغة القاف، وقال: إن رواية الراء والفاء مقاربة لرواية الزاي والفاء، أي: ترعدين وحكاه كذلك عن النهاية أي: ترتعد من البرد.
باب النهي عن سب الريح وبيان ما يقال عند هبوبها
بيان معطوف على النهي وهو نهي تنزيه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ... ، (الحديث: 53) .

(8/544)


1725- عن أبي المنذِرِ أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ. وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
1726- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الرِّيحُ مِنْ رَوحِ اللهِ، تَأتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأتِي بِالعَذَابِ، فَإذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ شَرِّهَا". رواه أبو داود بإسناد حسن.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ رَوْحِ اللهِ" هو بفتح الراء:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1725- (عن أبي المنذر) بصيغة الفاعل من الإنذار، كنية (أبي) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية (ابن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا الريح) لأنها مسخرة مذللة فيما خلقت له (فإذا رأيتم ما تكرهون) أي: من عصفها وشدتها (فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها) أي: المرتب عليها من جمع السحاب الناشىء عنه الغيث وحسن الكلأ، أو الخير الذي فيها من تسيير، نحو السفن بها (وخير ما أمرت) بصيغة المجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل مستتر وقوله (به) متعلق به (ونعوذ بك من شر هذه الريح) لكونها عاصفة أو ريحاً مهلكة؛ (وشر ما فيها وشر ما أمرت به) أي: من إهلاك ما مرت عليه، كريح عاد التي لم تمر على شيء، إلا جعلته كالرميم (رواه الترمذي) في الفتن من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، وأشار إلى الاختلاف على أبي: في رفعه ووقفه.
1726- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الريح من روح الله) أي: يرسلها من رحمته لعباده ولطفه بهم (تأتي بالرحمة) أي: لمن أراد الله رحمته (وتأتي بالعذاب) أي: لمن أراد الله عذابه (فإذا رأيتموها فلا تسبوها) أي: لأنها مأمورة بما تجيء به من رحمة وعذاب (وسلوا الله خيرها) أي: من خير ما أرسلت به (واستعيذوا بالله من شرها) أي: من شر ما أرسلت به (فإنها مأمورة رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك (قوله - صلى الله عليه وسلم - من روح الله هو بفتح الراء)
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في النهي عن سب الرياح (الحديث 2252) .

(8/545)


الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَّةِ في إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فقالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ " قالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قال: "قالَ: أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وأَما مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا، فَذلكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصبح) فيه مشروعية الجماعة في السفر في المكتوبات، وإن كان طلبها فيه دونه في الحضر للمشقة فيه (بالحديبية) بضم المهملة الأولى، وفتح الثانية وسكون التحتية وكسر الموحدة.
قال في المصباح: أهل الحجاز يخففون التحتية أي: التي بعد الباء. قال الطرطوشي بالتخفيف. وقال أحمد بن يحيى: لا يجوز فيها غيره. وهذا هو المنقول عن الشافعي. وقال السهيلي: التخفيف أعرف عند أهل العربية. قال: وقال أبو جعفر النحاس: سألت كل من لقينا ممن أثق بعلمه، من أهل العربية، عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة. ونقل البكري التخفيف عن الأصمعي أيضاً. وأشار بعضهم إلى أن التثقيل، سمع من فصيح، ووجه في المصباح بما يؤول لضعفه، وهي بين مغرب مكة على عريق جدة دون مرحلة من مكة بينها، وبين مكة عشرة أميال (على إثر) بكسر فسكون للمثلثة وبفتحتين (سماء) أي: مطر كانت من الليل، والتأنيث باعتبار لفظ سماء المؤنثة تأنيثاً لفظياً. قال في المصباح: السماء المطر مؤنثة لأنها بمعنى السحاب (فلما انصرف) أي: من الصلاة بإتمامها (أقبل على الناس فقال: هل تدرون) أي تعلمون (ماذا قال ربكم) أي: قولاً نفسياً فاعله بذاته (قالوا الله ورسوله أعلم) ردوا ذلك لهما لزوماً للأدب، ووقوفاً عند حد العلم، وخروجاً عن مجاوزته (قال) أي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال) أي: الله تعالى (أصبح من عبادي) الإضافة للاستغراق (مؤمن بي وكافر) أي: بي وحذف اكتفاء بدلالة ما قبله عليه، وإيماء إلى أن القبيح لا ينبغي أن يؤتى معه بنسبته إليه، مبالغة في أدب الخطاب معه، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته إن كان المراد منها الفضيلة فالعطف تفسيري وإن أريد بها إرادته فعطف مغايرة (فذلك مؤمن بي) إذا أضاف الأمور إلى خالقها الموجد لها (كافر بالكوكب) أي: بنسبة إحداثها لشيء فإنه لا أثر لغير الله في شيء أصلاً، وأفرد الكوكب مراداً به الجنس، المدلول عليها بأل الداخلة عليه (وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا) كناية عما يضاف إليه النوء من النجوم غالباً (فذلك كافر بي) كفراً حقيقياً إن اعتقد أن النوء موجد للمطر حقيقة، وإلا فكافر للنعمة إن لم يعتقد ذلك، وأسند ما لله لغيره (مؤمن بالكوكب) قال ابن النحوي في لغات ابن المنهاج في النوء: كلام طويل لخصه ابن الصلاح، حيث قال: النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب فإنه مصدر ناء النجم ينوء أي: سقط وغاب وقيل أتي: طلع ونهض، بيان ذلك: أنها أربعة

(8/548)


بِالكَوْكَبِ". متفق عليه. وَالسَّماءُ هُنَا: المَطَرُ (1) .
326- باب في تحريم قوله لمسلم: يا كافر
1730- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، فَإنْ كانَ كَمَا قَالَ وَإلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ" متفق عليه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعشرون نجماً معروفة الطالع في السنة كلها، وهي معروفة بمنازل القمر الثماني والعشرين، يسقط في ثلاث عشرة ليلة منها نجم في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر مقابله من المشرق من ساعته، فكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر، ينسبونه إلى الساقط الغارب منها. وقال الأصمعي: إلى الطالع منها قال أبو عبيدة: لم يسمع أن النوء السقوط، إلا في هذا الموضع. ثم إن النجم نفسه قد يسمى نوءاً، تسمية للفاعل بالمصدر. وقال أبو إسحاق الزجاج في بعض أماليه الساقطة في المغرب: هي الأنوار الطالعة، هي البواح في المحكم، بعضهم يجعل النوء السقوط، كأنه من الأضداد اهـ. (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي (والسماء هنا المطر) ظاهر كلام المصباح أنه إطلاق حقيقي.
باب تحريم قوله
أي: المكلف (لمسلم يا كافر) .
1730- (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قال الرجل) أي: المكلف كما تقدم مراراً، والمراد المسلم الأخيه) أي: في الإِسلام (يا كافر) بالبناء على الضم (فقد باء) بالمد وبعد الألف همزة أي: رجع (بها) أي: الكلمة المذكورة، أي: بمعناها (أحدهما) وفصله بقوله (فإن كان) أي: المقول له (كما قال) أي: كافراً بأن ارتكب مكفراً وجواب الشرط محذوف أي: فهو من أهلها (وإلا) أي: وإن لم يكن المقول له كذلك بأن كان على الإِسلام ولم يأت بمضاده (رجعت عليه) أي: القائل، أي: إن كان أطلق على الإِيمان أنه كفر، وأراد أن ذلك لاتصافه به، كافر (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الآذان، باب: يستقبل الإِمام الناس إذا سلَّم وأخرجه في الاستسقاء والمغازي، (2/433، 434) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، (الحديث: 125) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من كفر اخاه من غير تأويل، (10/428) .

(8/549)


بالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الفَاحِشِ، وَلاَ البَذِيِّ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1733- وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلاَّ شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
328- باب في كراهة التقعير في الكلام والتشدُّق فيه وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللُّغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا بالتوقيف (ولا الفاحش ولا البذيء) بفتح أوله وكسر المعجمة والياء ساكنة بعدها همزة من عطف العام على الخاص (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان، والحاكم في المستدرك. كذا في الجامع الصغير.
1733- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما كان) أي: وجد لفحش بضم الفاء والشين المعجمة، أي مجاوزة الحد المعروف شرعاً وعرفاً في شيء متعلق بكان (إلا شأنه وما كان الحياء) بالمهملة المفتوحة والتحتية بعدها مد (في شيء إلا زانه) وذلك لأن ذا الحياء يدع ما يلام على فعله، فلا يلابس المعايب، وذا الفحش لا ينظر لذلك، فلا يزال ملابساً لها واقعاً فيها (رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد والبخاري في الأدب، وابن ماجه.
باب كراهة التقعير
بالفوقية والقاف والعين المهملة (في الكلام) قال في القاموس: قعر في كلامه تقعر وتعرق، تشدق وتكلم بأقصى فمه، وهو نحو قول المصنف (والتشدق) في القاموس، تشدق لوى شدقه للتفصح، وتكلف الفصاحة أي: محاولتها من غير ملكة فيه لها (واستعمال
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، (الحديث: 1977) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الفحش والتفحش، (الحديث: 1974) .

(8/551)


1734- عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ" قَالَهَا ثَلاَثاً. رواه مسلم.
"المُتَنَطِّعُونَ": المُبَالِغُونَ فِي الأمُورِ (1) .
1735- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ يُبْغِضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ". رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن" (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وحشي اللغة) أي: اللفظ الذي لا يعرف معناه الموضوع له لغة، إلا علماؤها ونخفي ذلك على العامة) ، (دقائق الأعراب) أي يأتي بتركيب يتوقف تخريجه على دقائق العربية، واستعمال الفكر فيها (في مخاطبة العوام ونحوهم) ظرف لغو متعلق باستعمال أي: إن استعمال وحشي اللغة ودقائق العربية، إنما يكره إذا صدر مع العوام. أما مع غيرهم فلا كما فعل صاحب المشارق في خطبة كتابه، وصاحب القاموس في خطبته، والعيني في خطبة شرح شواهده، ونحو العوام من لم يشتغل باللغة والإعراب من أهل بعض العلوم، التي اشتغلوا بها فخرجوا بذلك عن جملة العوام.
1734- (عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هلك المتنطعون قالها) أي: هذه الجملة (ثلاثاً) للتأكيد في التنفير منه (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود (المتنطعون) بصيغة الفاعل من التنطع بالفوقية فالنون فالطاء فالعين المهملتين (المبالغون في الأمور) وقال الخطابي: هم المتعمقون في الشيء المتكلف البحث عنه، على مذاهب أهل الكلام، الداخلون فيما لا يعنيهم، الخائضون فيما لا تبلغه عقولهم. وقال في النهاية: المتعمقون هم المتغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولاً أو فعلاً.
1735- (وعن عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يبغض) بالتحتية: البغض مراد به هنا، غايته من الخذلان أو ذكره بأرذل الأوصاف في عالم الملكوت، أو إرادة ذلك مجازاً مرسلاً (البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة) الموصول صفة مقيدة لما قبله. قال في النهاية أي: الذي يتشدق بلسانه في الكلام، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن) ورواه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: العلم، باب: هلك المتنطعون، (الحديث: 7) .
(2) أخرجه أبو داود وكتاب: الأدب، باب: ما جاء في المتشدق في الكلام، (الحديث 5005) . =

(8/552)


1736- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَومَ القِيَامَةِ، أحَاسِنكُمْ أَخْلاَقَاً، وإنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ، وأبْعَدَكُمْ مِنِّي يَومَ القِيَامَةِ، الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". وقد سبق شرحه في بَابِ حُسْنِ الخُلُقِ (1) .
329- باب في كراهة قوله: خَبُثَتْ نَفْسي
1737- عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد.
1736- (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من) للتبعيض (أحبكم) أي: أكثركم محبوبية (إلي واقربكم مني مجلساً يوم القيامة) ظرف لا قرب، ويحتمل أن يكون لما قبله أيضاً، وتعلم أحبيتهم له في الدنيا من غير هذا، إذ السكوت على الشيء لا ينفيه (أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم) أي: أكثركم بغضاً (إلي) ولعل الخطاب للمؤمنين الحاضرين، فلا ينافي أن الكافرين أبغض إليه مطلقاً (وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون) بالمثلثتين المفتوحتين بينهما راء ساكنة وبعد الألف راء أخرى (والمتشدقون) بضم الميم وفتح الفوقية والشين المعجمة والدال المهملة وبالقاف (والمتفيهقون) لصيغة الفاعل مصغر من التفهق (رواه الترمذي وقال: حديث حسن وقد سبق شرحه في باب حسن الخلق) فقال: ثمة الثرثار كثير الكلام تكلفاً، والمتشدق المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه ويعرب به تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره.
باب كراهة قوله
أي: القائل المكلف (خبثت) بفتح المعجمة وضم الموحدة وبالمثلثة (نفسي) الكراهة تنزيهية.
1737- (عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي)
__________
= وأخرجه الترمذي في كتاب: الأدب، باب: ما جاء في الفصاحة والبيان، (الحديث: 2853) .
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في معالى الأخلاق، (الحديث: 2081) .

(8/553)


خَبُثَتْ نَفْسي، وَلكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسي" متفق عليه.
قالَ العُلَمَاءُ: مَعْنَى "خَبُثَتْ": غَثَتْ، وَهُوَ مَعْنَى: "لَقِسَتْ" وَلَكِنْ كَرِهَ لَفْظَ الخُبْثِ (1) .
330- باب في كراهة تسمية العنب كرماً
1738- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، فَإنَّ الكَرْمَ المُسْلِمُ" متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. وفي رواية:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صرف النهي المؤكذ بالنون عن التحريم قوله (ولكن ليقل لقست نفسي) فإن اللفظين بمعنى، كما يأتي في النهي عن المنهي عنه للتنزيه لقبح اللفظ (متفق عليه) والحديث رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديثها، ورواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن السني، في عمل اليوم والليلة: من طرق من حديث سهل بن حنيف، واقتصر النسائي على قوله: عن أبي أسامة بن سهل بن حنيف ولم يقل عن أبيه. ورواه الطبراني من حديث جبير بن مطعم، ورواه الدارقطني في الأفراد من حديث أبي هريرة اهـ. ملخصاً من الجامع الكبير (قال العلماء) نقله السيوطي عن الخطابي (معنى خبثت غثيت) بالمعجمة والمثلثة (وهو بمعنى لقست ولكن كره) بالبناء للفاعل أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالبناء للمفعول (لفظ الخبث) لبشاعته قال الخطابي: فعلمهم الأدب في النطق، وأرشدهم إلى استعمال اللفظ الحسن وهجران القبيح منه.
باب كراهة تسمية العنب كرما
بفتح الكاف وسكون الراء.
1738- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسموا العنب الكرم) أي: لا تطلقوا عليه هذا اللفظ (فإن الكرم المسلم متفق عليه) ورواه أبو داود بلفظ: "لا يقولن أحدكم الكرم فإن الكرم الرجل المسلم" (وهذا لفظ مسلم) في رواية له وبمعناها لفظ البخاري (وفي رواية) أخرى لمسلم (فإنما الكرم قلب المؤمن وفي رواية للبخاري
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب. لا يقل، خبث نفسي، (10/465) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة قول الإِنسان: خبثت نفسي، (الحديث: 16) .

(8/554)


"فَإنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤمِنِ". وفي رواية للبخاري ومسلم:
"يَقُولُونَ الكَرْمُ، إنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ" (1) .
1739- وعن وائلِ بنِ حُجرٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَقُولُوا: الكَرْمُ، وَلكِنْ قُولُوا: العِنَبُ، والحَبَلَةُ". رواه مسلم.
"الحَبَلَةُ" بفتح الحاء والباء، ويقال أيضاً بإسكان الباء (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومسلم: "يقولون الكرم وإنما الكرم قلب المؤمن" قال ابن الجوزي في جامع المسانيد: إنما نهى عن هذا، لأن العرب كانوا يسمونها كرماً لما يدعون من إحداثها في قلوب شاربيها من الكرم، فنهى عن تسميتها بما تمدح به لتأكيد ذمها وتحريمها، وعلم أن قلب المؤمن لما من نور الإيمان أولى بذلك الاسم.
1739- (وعن وائل) بكسر الهمزة (بن حجر) بضم المهملة وسكون الجيم (رضي الله عنه) كان من ملوك حمير، ويقال للملك منهم قيل وكان أبوه من ملوكهم وفد وائل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقدومه قبل وصوله بأيام. وقال يأتيكم وائل بن حجر، من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً راغباً في الله عز وجل وفي رسوله، وهو بقية الأقيال، فلما دخل عليه رحب به، وأدناه من نفسه، وبسط له رداءه، وأجلسه إليه مع نفسه، وقال: اللهم بارك في وائل وولده، وأصعده معه على المنبر وأثنى عليه واستعمله على بلاده وأقطعه أرضاً، وأرسل معه معاوية بن أبي سفيان، وقال: أعطه إياها. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى وسبعون حديثاً، روي مسلم منها ستة، ولم يرو البخاري له شيئاً. نزل الكوفة وعاش إلى أيام معاوية، ووفد عليه فأجلسه معه على السرير، وشهد مع على صفين، وكانت معه راية حضرموت اهـ. ملخصاً من التهذيب للمصنف (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقولوا الكرم) واستدرك مما يوهمه النهي عن إطلاق الكرم عليها من نفي تسميتها باسم قوله (ولكن قولوا العنب والحبلة) مما لا مدح فيها ولا زائد على تعين المسمى (رواه مسلم الحبلة بفتح الحاء) المهملة (والباء) الموحدة (ويقال أيضاً بإسكان الباء الموحدة) في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما الكرم قلب المؤمن (10/465، 467) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة تسمية العنب كرماً، (الحديث: 8) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة تسمية العنب كرماً، (الحديث: 11 و12) .

(8/555)


331- باب في النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل إلاَّ أن يحتاج إلى ذلك لغرض شرعي كنكاحها ونحوه
1740- عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُبَاشِرِ المَرْأَةُ المَرْأَةَ، فَتَصِفَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا". متفق عليه [لَا بَلْ فِي الْبُخَارِيِّ] (1) .
332- باب في كراهة قول الإنسان: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ بل يجزم بالطلب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القاموس الحبلة محركة شجر العنب وربما سكن، فأفاد أن الإِسكان قليل، وأومأ إلى أن الحبلة واحد، والحبل بحذف الهاء اسم جنس جمعي فهو كلبن ولبنة.
باب النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل، إلا أن يحتاج إلى ذلك، لغرض شرعي
فقوله لغرض شرعي متعلق بالاحتياج المنفي ومثله بقوله (كنكاحها) فلا بأس بوصفها لمن يريد التزوج بها خصوصاً عند عدم تمكنه من رؤيتها (ونحو ذلك كالشراء) .
1740- (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تباشر المرأة المرأة) أي: تمس بشرتها ببشرتها، فتعرف خصوبة بدنها ونعومته وما فيه من المحاسن الخفية (فتصفها) بالنصب في جواب النهي أو النفي (لزوجها كأنه ينظر إليها) جملة حالية من المجرور، وقال القاضي عياض: هو دليل لمالك في سد الذرائع فإن الحكمة في النهي خشية أن يعجب الزوج بالوصف المذكور، فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو إلى الافتتان بالموصوفة (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي.
باب كراهة قول الإِنسان
في الدعاء (اللهم اغفر لي إن شئت) بكسر الهمزة وتخفيف النون شرطية جوابها محذوف اكتفاء بدلالة سابقة عليه (بل يجزم بالطلب) وذلك لما في الإِتيان بذلك، من إيهام الاغتناء عن حصول المطلوب، وأنه يستوي عنده حصوله وعدمه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: لا تباشر المرأة المرأة، (9/296) .

(8/556)


1741- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ، لِيَعْزِم المَسْأَلَةَ، فَإنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ". متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: "وَلكِنْ لِيَعْزِمْ وَلْيُعَظمِ الرَّغْبَةَ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ" (1) .
1742- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دَعَا أحَدُكُمْ فَلْيَعْزِم المَسْأَلَةَ، وَلاَ يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ، فَأَعْطِنِي، فَإنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1741- (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) أشار الداودي إلى حمل الكراهة على ما إذا أتى بذلك على سبيل الاستثناء، أما إذا أتى به على سبيل التبرك فلا كراهة. قال الحافظ: وهو جيد (بل ليعزم المسألة) قال العلماء: عزم المسألة الشدة في طلبها، والجزم به من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على مشيئه ونحوها. وقيل: هو حسن الظن بالله في الإجابة ومعنى الحديث استحباب الجزم في الطلب، وكراهة التعليق على المشيئة. قال العلماء: سبب كراهته أنه لا يتحقق استعمال المشيئة، إلا في حق من يتوجه عليه الإِكراه فيخفف عنه، ويعلم أنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، والله منزه عن ذلك، وهو معنى قوله (فإنه لا مكره له) فليس للتعليق فائدة. وقيل: سبب الكراهة أن في هذا اللفظ سورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه. قال الحافظ: والأول أولى (متفق عليه) وعند مسلم "فإن الله صانع ما شاء لا مكره له". ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه (وفي رواية لمسلم ولكن ليعزم وليعظم الرغبة) شدة الطلب (فإن الله لا يتعاظمه) أي: لا يتعاظم عليه والصيغة للمبالغة (شيء أعطاه) أي: مطلوب كان من دنيوي وأخروي.
1742- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة) ويثبت الدعاء (ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني) أي: لا يأتي بأداة التعليق في دعائه، وعلل ذلك بقوله (فإنه لا مستكره له) أي: لا مكره، والاستفعال يحتمل بقاؤه على بابه وأنه بمعنى الإفعال. قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: ليعزم المسألة، (11/118) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء..، باب: العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت، (الحديث: 8 و9) .

(8/557)


متفق عليه (1) .
333- باب في كراهة قول: ما شاء اللهُ وشاء فلان
1743- عن حُذَيْفَةَ بنِ اليمانِ - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لاَ تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ؛ وَلكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ". رواه أبو داود بإسناد صحيح (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من أمور الدين والدنيا، ولأنه كلام مستحيل لا وجه له، لأنه لا يفعل إلا ما يشاء، وظاهره حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمل المصنف النهي على الكراهة، كما تقدم في الترجمة، قال الحافظ: وهو أولى (متفق عليه) قال ابن بطال: في الحديث: أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة، فإنه يدعو كريماً، وقال ابن عيينة لا يمنع أحداً الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير، فإن الله تعالى قد أجاب شر خلقه إبليس، إذ قال (انظرني إلى يوم يبعثون) (3) .
باب كراهة قول ما شاء الله وشاء فلان
أي: لما توهمه الواو من المشاركة في المشيئة وقتاً. ومشيئة الله تعالى قديمة أزلية، ومشيئة العبد حادثة ممكنة. 1743- (عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان) دفعاً للوهم المذكور. وحمل على الكراهة لأن الإِيهام المذكور مدفوع بالاعتقاد الراسخ من حدوث العبد وجميع شؤونه، وما كان كذلك لا يقارن القديم (ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان) لأن ثم: موضوعة للترتيب أي إن معطوفها بعد المعطوف عليه.
والتراخي أي: بعده بمهلة (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه الطيالسي عن شعبة عن منصور عن عبد الله بن بشار الجهني الكوفي عن حذيفة. ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: ليعزم المسألة (11/118) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء ... ، باب: العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت، (الحديث: 7) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: لا يقال خبثت نفسي، (الحديث: 4980) .
(3) سورة الأعراف، الآية: 14.

(8/558)


334- باب في كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة
والمُرادُ بِهِ الحَديثُ الذي يَكُونُ مُبَاحاً في غَيرِ هذا الوَقْتِ، وَفِعْلُهُ وَتَرْكُهُ سواءٌ. فَأَمَّا الحَديثُ المُحَرَّمُ أو المَكرُوهُ في غير هذا الوقتِ، فَهُوَ في هذا الوقت أشَدُّ تَحريماً وَكَرَاهَةً. وأَمَّا الحَديثُ في الخَيرِ كَمُذَاكَرَةِ العِلْمِ وَحِكايَاتِ الصَّالِحِينَ، وَمَكَارِمِ الأخْلاَقِ، والحَديث مع الضَّيفِ، ومع طالبِ حَاجَةٍ، ونحو ذلك، فلا كَرَاهَة فيه، بل هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وكَذَا الحَديثُ لِعُذْرٍ وعَارِضٍ لا كَراهَةَ فِيه. وقد تظاهَرَتِ الأحَاديثُ الصَّحيحةُ على كُلِّ ما ذَكَرْتُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة
قيد به، دفعاً لتوهم أن المراد منها المغرب، فإنها تسمى بذلك لغة، وجاء النهي شرعاً (والمراد هنا الحديث الذي يكون مباحاً في غير هذا الوقت وفعله) من حد ذاته (وتركه سواء) والكراهة للوقت لما سيأتي (فأما الحديث المحرم أو المكر وه في غير هذا الوقت فهو في هذا أشد تحريماً وكراهة) لما انضم لوصفه الأصلي من كراهة الوقت لكن في كونه أشد حرمة في الأول، ما لا يخفى. لأنه فيه ليس بحرام حتى يقال انضمام الحرمة لمثلها أو رثت شدتها، أما شدة الكراهة فظاهرة (وأما الحديث في الخير كمذاكرة العلم وحكايات الصالحين ومكارم الأخلاق) عطف على الصالحين وحكاياتها، لما في الأول من إحياء العلم ومثله، بل أولى تدريسه حينئذ، وأما حكايات الصالحين فإنها من جنود الله لتقوية قلوب العباد، قال تعالى: (وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) (1) وأما حكايات مكارم الأخلاق، فإنها تبعثه على التحلي بذلك الخلق والتخلي عن ضده (والحديث مع الضيف) أو الزوجة إيناساً لهما وإكراماً (ومع طالب حاجة) إعانة له على قضائها (ونحو ذلك) مما اشتمل على خير ناجز، ولو بعد الاختياري كالمنتظر جماعة ليعيد معهم العشاء، فلا يترك لدفع مفسدة متوهمة. وإلا المسافر (فلا كراهة فيه) لخبر أحمد: "لا سمر بعد العشاء إلا لمصلّ أو مسافر" (بل هو مستحب) لما فيه من المصلحة الناجزة (وكذا الحديث لعارض وعذر فلا كراهة فيه) ثم تارة يكون واجباً كإنذار غافل من مهلك، وتارة مندوباً بحسب ثمرته ونتيجته (وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على ما ذكرنا) من التفصيل المذكور.
__________
(1) سورة هود، الآية: 120.

(8/559)


1744- عن أبي بَرْزَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكرهُ النَّومَ قَبْلَ العِشَاءِ والحَديثَ بَعْدَهَا. متفقٌ عليه (1) .
1745- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى العِشَاء في آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قال: "أرأيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هذِه؟ فَإنَّ عَلَى رَأسِ مِئَةِ سَنَةٍ لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ علَى ظَهْرِ الأرْضِ اليَومَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1744- (وعن أبي برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء وبالزاي فالهاء نضلة بنون ثم ضاد معجمة بوزن ضربة ابن عبد الله، وقيل ابن نيار، وقيل: كان اسمه نضلة بن نيار، فسماه رسول الله وبرزة (رضي الله عنه) أسلم قديماً، وقد شهد فتح مكة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثاً اتفقا على اثنين منها، وانفرد البخاري باثنين ومسلم بأربعة، نزل البصرة وتوفي بها، وقيل: بل بخراسان في خلافة معاوية أو يزيد سنة ستين، وقيل: أربع وستين، ولا يكنى بأبي برزة من الصحابة غيره (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبل العشاء) لئلا يعرضها للفوات (والحديث بعدها) أي: بعد دخول وقتها وفعلها فيه، ومثله قدر ذلك إن جمع تقديماً لا قبل ذلك، لأنه ربما فوتته صلاة الليل وأول وقت الصبح أو جميعه، وليختم عمله بأفضل الأعمال. وقضية الأول. في كراهيته قبلها أيضاً، لكن فرق الأسنوي بأن إباحة الكلام قبلها، ينتهي بالأمر بإيقاعها في وقت الاختيار، وأما بعدها فلا ضابط له، فكان خوف الفوات فيه أكثر (متفق عليه) .
1745- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء في آخر حياته) أي: في أواخرها، فقد جاء أنه كان قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بشهر (فلما سلم قال: أرأيتكم) بفتح التاء أي: أخبروني استفهام وتعجب، والكاف لتأكيد الفاعل، لا محل له من الإعراب، وهو من وضع، السبب موضع المسبب، فإنه وضع الاستفهام عن العلم، موضع الاستخبار، ولا يخبر عن الشيء إلا العالم به (ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة) أي: منها (لا يبقي ممن هو على ظهر الأرض اليوم) أي: في زمن التكلم بذلك، وفي رواية (أحد) أي من الموجودين من الإِنس حينئذ. وأخذ بعضهم منه موت الخضر وإلياس. وأجاب من قال بتعميرهما، أنهما لم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يكره من النوم قبل العشاء (2/41) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها ... ، (الحديث:237) .

(8/560)


أحَدٌ". متفق عليه (1) .
1746- وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّهم انتظروا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءهُمْ قَريباً مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ فَصَلَّى بِهِمْ - يَعْنِي: العِشَاءَ - ثمَّ خَطَبنا فقالَ: "ألاَ إنَّ النَّاسَ قَدْ صَلُّوا، ثُمَّ رَقَدُوا، وَإنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ". رواه البخاري (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يكونا حينئذ على وجهها ولعلهما في البحر. وقال: المراد لا يبقى ممن يرونه أو يعرفونه، فهو عام أريد به الخصوص، قيل احترز بالأرض عن الملائكة، وقالوا خرج عيسى من ذلك، وهو حي لأنه في السماء، وإبليس لأنه في الهواء والماء. قال الحافظ: والحق أن أل في الأرض للعموم وأنها تتناول جميع بني آدم، وكان كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - فإن آخر من ضبط ممن كان موجوداً أبو الطفيل عامر بن وائلة، وقد أجمع العلماء على أنه آخر الصحابة موتاً. وغاية ما قيل فيه: أنه مات سنة مائة وعشرة. وذلك رأس مائة سنة من مقالته - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (متفق عليه) فيه دليل على جواز الحديث بعدها إذا كان في الخير كتعلم العلم. وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحدثهم عامة ليلهم عن بني اسرائيل.
1746- (وعن أنس رضي الله عنه أنهم) أي: الصحابة (انتظروا النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءهم قريباً من شطر الليل) أي: نصفه (فصلى بهم يعنى العشاء) جملة مستأنفة لبيان تلك الصلاة المنتظرة (قال: ثم خطبنا) هو موضع الترجمة، لأنه خطبهم. بعد أن صلى بهم العشاء؛ ففيه جواز التكلم، بل ندبه، بالخير بعد صلاة العشاء (فقال ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح (إن الناس قد صلوا ثم رقدوا وإنكم لن تزالوا في صلاة ما) مصدرية ظرفية (انتظرتم الصلاة) أي: مدة انتظاركم إياها، وجملة وإنكم معطوفة على جملة إن الناس، أي إنهم يحصل لهم الأجر في الجملة إذ منتظرها يأكل ويشرب ويتكلم، ومن في الصلاة يمتنع عليه كل من ذلك، أشار إليه الحافظ في الفتح (رواه البخاري) قبل باب الأذان.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: السمر في العلم (2/39) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس ... (2537) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة وفضلها، باب: السمر في الفقه والخير بعد العشاء، (2/60) .

(8/561)


رَفَعَ رَأسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أنْ يَجْعَلَ اللهُ رَأسَهُ رَأسَ حِمَارٍ! أَوْ يَجْعَلَ اللهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ" متفق عَلَيْهِ (1) .
338- باب في كراهة وضع اليد على الخاصرة في الصلاة
1750- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الخَصْرِ في الصَّلاَةِ. متفق عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(يخشى أحدكم) أي يخاف خوفاً مقترناً بتعظيم الله تعالى (إذا رفع رأسه قبل الإمام) مع العلم والتعمد (أن يجعل الله) أي: يصير (رأسه رأس حمار) قيل هو كناية عن تصييره بليداً لا يفهم كالحمار والأولى اجراؤه على ظاهره لأنه ممكن لا يخالفه عقل ولا يرده نقل وقد نقل الشيخ ابن حجر الهيتمي في معجمه وقوع ذلك لبعضهم والعياذ بالله تعالى (أو يجعل الله صورته صورة حمار) حقيقة بناء على الحقيقة وهو الأرجح أو المراد يجعل صفته صفة الحمار في البلادة وفيه على الوجهين شؤم أثر المعصية (متفق عليه) رواه الأربعة قال الحافظ ظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإِمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات وبه جزم المصنف في مجموعه وهنا ومع الإِثم فالصحيح صحة الصلاة واجزاؤها. وعن ابن عمر أنها تبطل وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر على أن النهي يقتضي الفساد.
باب كراهة وضع اليد على الخاصرة في الصلاة
قيل حكمة الكراهة أن ذلك فعل اليهود وقيل راحة الكفار في النار وقيل فعل الشيطان.
وقيل لأن إبليس أهبط من الجنة كذلك وقيل لأنه فعل المتكبرين.
1750- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخصر) بفتح المعجمة وسكون المهملة (في الصلاة) وظاهر أن محل النهي ما لم يكن لضرورة وإلا كما لو وجعه جنبه فوضع يده عليه لذلك فلا يتناوله النهي (متفق عليه) أي في أصل المعنى وإلا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب صلاة الجماعة، باب: إثم من رفع رأسه قبل الإِمام، (2/153) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: تحريم سبق الإِمام بركوع أو سجود ونحوها، (الحديث: 114) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: أبواب العمل في الصلاة، باب: الحضر في الصلاة (3/70) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهية الاختصار في الصلاة، (الحديث: 46) .

(8/564)


339- باب في كراهة الصلاة بحضرة الطعام ونفسه تتوق إِلَيْهِ أَوْ مَعَ مدافعة الأخبثين: وهما البول والغائط
1751- عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ". رواه مسلم (1) .
340- باب في النهي عن رفع البصر إِلَى السماء في الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فعبارته في شرح مسلم قوله نهى أن يصلي الرجل مختصراً. وفي رواية البخاري نهى عن الخصر في الصلاة اهـ. وهي صريحة في أنه انفرد به البخاري عن مسلم.
باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام
أي ما يطعم من مأكل ومشرب (ونفسه تتوق إليه) بتاءين فوقيتين أي: تشتاق وتنازع ْإليه، ومثل الحضور قربه، فتكره الصلاة معه أيضاً (أو مع مدافعة الاخبثين) بالمعجمة والموحدة والمثلثة وفسرهما بقوله (وهما البول والغائط) وهو في الأصل اسم المكان المطمئن من الأرض، تقضى فيه الحاجة، سمي باسمه الخارج من تسمية الحال باسم المحل، والعلاقة المجاورة.
1751- (عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة) أي: فاضلة كاملة، ونفى أهل الظاهر صحتها (بحضرة طعام) أي: (تتوق نفسه إليه) وذلك لما فيها من اشتغال قلبه المانع من خشوعه (وهو يدافعه الاخبثان) الجملة حالية والواو فيها للحال، والكراهة لما في ذلك من التشويش المانع مما تقدم. ومحل الكراهة إذا كان في الوقت سعة لأكل الطعام وتفريغ النفس، فإن ضاق بحيث لو أكل وتفرغ خرج الوقت صلى على حاله (رواه مسلم) ورواه أبو داود.
باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة
نقل المصنف: الإِجماع على كراهته فيها، أما خارجها فمندوب حالة الدعاء، لأنها قبلته، وكذا التفكر والاعتبار بها.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد ... ، (الحديث:67) .

(8/565)


1754- وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكَ والالتِفَاتَ فِي الصَّلاَةِ، فَإنَّ الالتفَاتَ في الصَّلاَةِ هَلَكَةٌ، فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ، فَفِي التَّطَوُّعِ لاَ في الفَريضَةِ". رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" (1) .
342- باب في النهي عن الصلاة إِلَى القبور
1755- عن أَبي مَرْثَدٍ كَنَّازِ بْنِ الحُصَيْنِ - رضي الله عنه -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1754- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة مهلكة) أتى بالظاهر فيها موضع الضمير، تعظيماً وتفخيماً للأمر.
ومهلكة بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه، أي: سبب الهلاك وذلك لأن من استخف بالمكروهات وواقعها في المحرمات، فأهلك نفسه بتعريضها للعقاب (فإن كان) أي: المصلي (لا بد) أي: لا غنى له منه (ففي التطوع لا في الفريضة) لأن الاهتمام بالفرض والاعتناء به، فوق الاعتناء بالنفل، (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
باب النهي عن الصلاة إلى القبور
تحريماً في الصلاة مستقبلاً لقبر، قاصداً استقباله بصلاته، وتنزيهاً في استقباله بها من غير قصد ذلك. 1755- (عن أبي مرثد) بفتح الميم وسكون رائه وبمثلثة قاله العيني في مغنيه (كناز) بفتح الكاف وتشديد النون وبالزاي، وقال ابن الجوزي في التلقيح: اسمه أيمن والأول أصح (بن الحصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها نون ابن يربوع الغنوي بالمعجمة والنون المفتوحتين، حليف بني عبد المطلب. وقال الذهبي في تجريد الصحابة: حليف حمزة أبو مرثد بالضبط السابق في نظيره (رضي الله عنه) قال الحافظ في التقريب: صحابي بدر في مشهور بكنيته، مات سنة اثنتي عشرة من الهجرة. خرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان، وأخرج منهما مسلم حديثاً
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة/الجمعة/، باب: ما ذكر في الالتفات في الصلاة، (الحديث: 589) .

(8/567)


قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تُصَلُّوا إِلَى القُبُورِ، وَلاَ تَجْلِسُوا عَلَيْهَا". رواه مسلم (1) .
343- باب في تحريم المرور بَيْنَ يدي المصلِّي
عن أَبي الجُهَيْمِ عبد اللهِ بن الحارِثِ بن الصِّمَّةِ الأنْصَارِيِّ - رضي الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واحداً وهو حديث الباب (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تصلوا إلى القبور) قال الشافعي: وأكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس اهـ. (ولا تجلسوا عليها) فيه النهي عن القعود عليها، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك في الموطأ: المراد القعود للحديث. قال المصنف: وهذا تأويل ضعيف وباطل، والصحيح أن المراد القعود للحديث. قال المصنف: وهذا تأويل ضعيف وباطل، والصحيح أن المراد بالقعود الجلوس، ومما يوضحه رواية مسلم "لا تجلسوا على القبور" وفي رواية له: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر". وسيأتي قريباً ما فيه. قال المصنف: قال أصحابنا يحرم الجلوس على القبر والاستناد إليه والاتكاء عليه (رواه مسلم) في الجنائز من صحيحه، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي.
باب تحريم المرور بين يدي المصلى
أي: إذا صلى إلى شاخص فإن لم يجده، فإلى مصل وإلا فإلى خط يخطه، وبينه وبينه ثلاثة أذرع، كما هو السنة، فإن لم يستقبل شيئاً من ذلك، كذلك لم يحرم المرور بين يديه. ومحل الحرمة في الأول ما لم يكن المصلي مستحقاً لغيرها، وإلا فالمصلي في الطواف لا يحرم المرور بين يديه. لأنه للطواف لا للصلاة.
1756- (عن أبي الجهيم) بضم الجيم وفتح الهاء وسكون التحتية (عبد الله بن الحارث بن الصمة) بكسر المهملة المشددة وتشديد الميم، ويجر بالكسرة لدخول أل عليه، خلافاً لبعضهم. وقد نبه عليه الحافظ السيوطي في آخر كتابه الأشباه والنظائر، وقال إنه ألف فيه مؤلفاً وأورده ثمة. واسمه بذل المهمة (رضي الله عنه) قال في أسد الغابة: اسمه عبد الله وهو
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، (الحديث: 97، 98) . الأم: (1/278) .

(8/568)


عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْراً لَهُ مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ" قَالَ الراوي: لا أدْرِي قَالَ: أرْبَعينَ يَوماً، أَوْ أرْبَعِينَ شَهْراً، أَوْ أرْبَعِينَ سَنَةً. متفق عَلَيْهِ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن أخت أبي بن كعب الأنصاري. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان، كلاهما في الصحيحين (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو يعلم المار بين يدي المصلي) فرضاً كانت صلاته أو نفلاً، وقد استقبل ما تقدم (ماذا) أي: ما الذي عليه جملة في محل النصب ليعلم لتعلقه عنها بالاستفهام (عليه) صلة ذا، ويحتمل أن "ما" ملغاة، وأن المعنى أي شيء، فيكون في محل رفع مبتدأ. خبره الظرف. وحذف مبين ما أو ما "ماذا" زيادة في التنفير عن ذلك، لتذهب النفس في تقدير كل صنف من المكروهات المحذر منها كل مذهب. قال الحافظ في الفتح: وزاد الكشميهني "ماذا عليه من الإِثم" وليست هذه اللفظة في سائر روايات الصحيح، ولا في الموطأ، ولا في شيء من الكتب الستة، والمسانيد والمستخرجات، لكنها في مصنف ابن أبي شيبة، فيحتمل أنها ذكرت في حاشية البخاري فتوهمها الكشميهني أصلاً لأنه لم يكن من أهل الحلم ولا من الحفاظ، وقد أنكر ابن الصلاح على من أثبتها في الخبر، لكن في تخريج أحاديث الشرح الكبير للحافظ لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم أن يقف أربعين خيراً له من أن "يمر بين يديه" متفق عليه من حديث الجهيمي دون قوله "من الاثم" فإنها من رواية أبي ذر عن أبي الهيثم خاصة. وقول ابن الصلاح أن العجلى وهم في قوله من الإِثم في صحيح البخاري متعقب لرواية أبي ذر عن أبي الهيثم.
وتبع بن الصلاح الشيخ النووي في مجموعه، ثم اضطر إلى أن عزاها لعبد القاهر الرهاوي في الأربعين له وفوق لك ذي علم عليم. وفي شرح المنهج لشيخ الإِسلام زكريا بعد ذكر الحديث كما ذكروا، وزاد "أربعين خريفاً" قوله متفق عليه إلا من الإِثم فللبخاري أي: في رواية. وإلا خريفاً فالبزار اهـ. (لكان أن يقف) أي: وقوفه اسم كان أو بدل من اسمها المضمر بدل اشتمال (أربعين خيراً له) أي: مدة الأربعين، وأقيم مقامها في النصب على الظرفية. خيراً خبر كان، أن نصب وبالرفع اسمها (من أن يمر بين يديه) والخيرية في المرور المنهي عنه المدلول عليها بقوله خيراً، باعتبار ظاهر ما عند المار من إتيانه به، إذ شأن العاقل أن لا يأتي إلا ما هو خير له (قال الراوي) واسمه أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله (لا أدري قال أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين سنة متفق عليه) أخرجاه في الصلاة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: إثم المار بين يدي المصلي، (11/483، 484) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي، (الحديث: 261) .

(8/569)


345- باب في كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام أَوْ ليلته بصلاة من بين الليالي
1758- عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلاَ تَخُصُّوا يَومَ الجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي صَومٍ يَصُومُهُ أحَدُكُمْ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام
أي: ما لم يضم إليه يوماً قبله أو بعده، فتنتفى بثواب ما ضمه كراهة صوم يومها (أو ليلتها بصلاة) أما تخصيصها بالقيام بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبقراءة نحو البقرة وآل عمران والكهف والدخان وغير ذلك، مما جاء طلبه في ليلتها وفي يومها، فلا كراهة فيه.
1758- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام) هو في عرف الشرع القيام للصلاة (من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة) أظهره مع أن المقام للإِضمار زيادة في الإِيضاح (بصيام من بين الأيام) الظرفان متعلقان بتخصوا، وقدم صيام هنا على الظرف الزماني وعكس في الجملة تفنناً في التعبير (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) نقل ابن مالك عن شرح المشكاة: أن تقديره إلا أن يكون يوم الجمعة واقعاً في صوم يوم يصومه أحدكم، وذلك بأن نذر صوم يوم لقي حبيبه فوافق يوم الجمعة. ثم اعترض بأنه يلزم عليه أن يكون يوم الجمعة. مظروفاً ليوم الصوم، وهو غير مستقيم. والوجه أن يقال: الضمير في يكون، عائد إلى مصدر تخصوا. قال الطيبي: سبب النهي أن الله استأثر يوم الجمعة بعبادة، فلم ير أن يخصه العبد بسوى ما يخصه الله به. وقال المصنف: سببه أن يوم الجمعة يوم عبادة وتكبير إلى الصلاة وإكثار ذكر ويوم غسل، فاستحب الفطر فيه، ليكون أهون على هذه الوظائف وأدائها بلا سآمة، كما يستحب الفطر للحاج يوم عرفة، فإن قلت: لو كان كذلك لما زالت الكراهة بصوم يوم قبله أو بعده، أجيب عنه بأن الجمعة وإن حصل فتور في وظائفه بسبب صوم، لكن يمكن أن يحصل له بفضيلة صوم ما قبله أو ما بعده، ما ينجبر ذلك به قال المظهري ونهي عن تخصيصها تحذيراً عن موافقة اليهود والنصارى لأنهم يخصون السبت والأحد بالصيام، وليلتيهما بالقيام، زاعمين أنهما أعز أيام الأسبوع، فاستحب أن نخالفهم في طريق تعظيم ما هو أعز الأيام وهو يوم الجمعة: قال المصنف: في الحديث نهي صريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة، واحتج به العلماء على كراهة الصلاة المسماة بالرغائب، قاتل الله واضعها. وقد صنفت الأئمة في تقبيحها وتضليل

(8/571)


رواه مسلم (1) .
1759- وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: "لاَ يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلاَّ يَوماً قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ". متفق عَلَيْهِ (2) .
1760- وعن محمد بن عَبَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِراً - رضي الله عنه -: أنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَومِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. متفق عَلَيْهِ (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مبتدعها أكثر من أن تحصى. (رواه مسلم) ورواه في أصل النهي عن القيام والصيام من غير استثناء، والطبراني عن سلمان وابن النجار عن ابن عباس أورده في الجامع الكبير.
1759- (وعنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو يوماً بعده) أي: إلا أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، وقد جاء كذلك في رواية للشيخين (متفق عليه) فيه التصريح بالنهي عن إفراده بالصوم وأن لا نهي عند ضم صوم يوم قبله أو بعده إليه، وذلك لما سبق في كلام المصنف. وقيل لأن بالصوم قبله، يعتاد الصوم في الجملة، فلا يحصل له بذلك سآمة عند أداء الأعمال يوم الجمعة.
1760- (وعن محمد بن عباد) بفتح المهملة وتشديد الموحدة ابن جعفر بن رفاعة بن أمية بن عامر بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي المكي: ثقة من أوساط التابعين. خرج عنه الستة، كذا في التقريب للحافظ. (قال: سألت جابراً رضي الله عنه أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الجمعة قال: نعم) وحمل النهي على التنزيه، لعدم وجود سبب الحرمة فيه، كإعراض عن ضيافة الله عز وجل في صوم الفطر والأضحى والتشريق، والضعف عن صوم الفرض بصوم النصف الأخير من شعبان عند عدم وصله بما قبله أو موافقته له عادة في الصوم (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً، (الحديث: 148) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، (4/203) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً، (الحديث: 147) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم باب صوم يوم الجمعة، (4/202، 203) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردا، (الحديث 146) .

(8/572)


1761- وعن أُمِّ المُؤمِنِينَ جويرية بنت الحارث رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: "أصُمْتِ أمْسِ؟ " قالت: لا، قَال: "تُرِيدِينَ أنْ تَصُومِي غَداً؟ " قالتْ: لاَ. قَالَ: "فَأَفْطِرِي". رواه البخاري (1) .
346- باب في تحريم الوصال في الصوم وَهُوَ أنْ يصوم يَومَينِ أَوْ أكثر وَلاَ يأكل وَلاَ يشرب بينهما
1762- عن أَبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوِصَالِ. متفق عَلَيْهِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1761- (وعن أم المؤمنين جويرية) بضم الجيم وفتح الواو وتخفيف التحتية وكسر الراء ثم تحتية بعدها هاء (بنت الحارث رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة) والظاهر أنها استأذنته فأذن من غيير استفصال (فقال: أصمت أمس؟ قالت لا قال: تريدين أن تصومي غدا) أي: يوم السبت، ظاهره انتفاء الكراهة إذا كان لما نوي صوم يوم الجمعة مريداً صوم يوم السبت، وإن لم يفعله بعد ذلك لعذر أو غيره (قالت: لا قال: فأفطري) فيه دليل لجواز قطع النفل. وقد ورد: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" ويؤخذ من أمره به ندبه إذا كان الصوم مكروهاً وإن كان ينعقد لو بقي عليه (رواه البخاري) .
باب تحريم الوصال في الصوم وهو أن يصوم يومين أو أكثر ولا يأكل ولا يشرب بينهما.
قصداً على وجه التعبد بذلك، أما لو تركه سهواً أو لعدم طلب نفسه له، أو لفقده فلا.
وقيل: الوصال المحرم استدامة أوصاف الصائم، فعلى الأول الذي ذكره المصنف، لا يخرج منه بجماع أو تقايؤ، ويخرج به على الثاني. والمختار الأول.
1762- (عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى نهياً جازماً (عن الوصال) وهو حرام على الأمة، جائز له - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي في الحديث بعده (متفق عليه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، (4/203، 204) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: الوصال، وباب: التنكيل لمن أكثر من الوصال، (4/177 و179) . أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، (الحديث: 57 و61) .

(8/573)


1766- عن جرير - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ". رواه مسلم (1) (2) .
1767- وعنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَبَقَ العَبْدُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ". رواه مسلم (3) .
350- باب في تحريم الشفاعة في الحدود
قَالَ الله تَعَالَى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1766- (عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيما عبد أبق) بفتح الموحدة من باب ضرب، وجاء من باب تعب وقتل في لغة كذا في المصباح (فقد برئت منه الذمة) بكسر المعجمة وتشديد الميم. قال المصنف في التهذيب: الذمة تكون في اللغة: العهد، وتكون الأمانة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يسعى بذمتهم أدناهم"، "ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله عز وجل" "ولهم ذمة الله ورسوله" اهـ. (رواه مسلم) في الإِيمان ورواه أبو داود في الحدود النسائي في المحاربة، وفي ألفاظه اختلاف منها ما في قول المصنف.
1767- (وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة) ولا يلزم من عدم قبولها عدم صحتها، بل هي كالصلاة في المغصوب، على ما اختاره الجماهير من صحتها فيه ولا ثواب، وعلى هذا فلا حاجة لتقييد المأزري وعياض ذلك بمن استحل الإِباق، فقد تعقبهما فيه ابن الصلاح واستظهره المصنف (وفي رواية) لمسلم (فقد كفر) أي: إن استحله أو من كُفَرَان نعمة السيد وعدم أداء حقه، فإن عمله من عمل الكفرة والجاهلية. وفي رواية "فقد حل دمه" وفي رواية "فقد أخل بنفسه".
باب تحريم الشفاعة في الحدود
بعد ثبوت سببها، قال الله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) الرفع على الابتداء، والتقدير مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فارتفع ارتفاعه، وقدم المؤنث هنا على المذكر، عكس
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: تسمية العبد الآبق كافراً، (الحديث: 123) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: تسمية العبد الآبق كافراً، (الحديث: 124) .
(3) سورة النور، الآية: 2.

(8/576)


"فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -" فَقَالَ: "أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟! " فَقَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ المَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا (1) .
351- باب في النهي عن التغوط في طريق الناس وظلِّهم وموارد الماء ونحوها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحلف من غير استحلاف، وهو مستحب. وإذا كان فيه تعظيم أمر المطلوب، كما في الحديث. وفيه المنع من الشفاعة في الحدود، وهو مجمع عليه بعد بلوغه للإِمام، أما قبله فجائز عند أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه ذا شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه. أما المعاصي التي لا حد فيها، فتجوز الشفاعة فيها شرطه السابق، وإن بلغت الإِمام لأنها أهون. وفيه مساواة الشريف وغيره في أحكام الله تعالى وحدوده، وعدم مراعاة الأهل والأقارب في مخالفة الدين (وفي رواية) للبخاري (فتلون) أي: تغير غيظاً (وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له أتشفع في حد من حدود الله فقال أسامة) لما رأى إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - وغضبه مما أتاه (استغفر لي يا رسول الله) أي: لتمحي تلك الخطيئة. (قال: ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها) زاد البخاري عن عائشة "ثم تابت بعد وتزوجت" فكانت تأتي لعائشة فترفع حاجتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
باب النهي عن التغوط في طريق الناس وظلهم وموارد الماء ونحوها حمل الجمهور النهي على التنزيه. قال الشيخ زكريا وينبغي تحريمه، لما فيه من إيذاء المسلمين؛ ونقل في الروضة عن أصلها عن صاحب العدة: على التحريم. والحديث ظاهر فيه، بل نقل في أنه من الكبائر للعن فاعله، وخص المصنف التغوط بالذكر: لعظم الضرر به بالنسبة للبول لسرعة جفافه؛ فيقل الأذى. ومحل النهي عنه في الظل إذا كان معداً لاجتماع مباح، أما لو كان معداً لاجتماع محرم كمكس أو غيبة، وقصد به تفريقهم، فلا كراهة. ومثل الظل في الصيف محل الشمس في الشتاء، فلو عبر المصنف بمتحدث لشملهما، وكأنه أراد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: آواخر كتاب الأنبياء وأخرجه أيضاً في الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحد، (12/77، 85) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (الحديث: 8) .

(8/578)


فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ " فقال: لا، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَأرْجِعهُ".
وفي روايةٍ: فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفَعَلْتَ هذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ " قال: لا، قال: "اتَّقُوا الله واعْدِلُوا فِي أوْلادِكُمْ" فَرَجَعَ أبي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ.
وفي روايةٍ: فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا بَشيرُ ألَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ " فقالَ: نَعَمْ، قال: "أكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هذَا؟ " قال: لا، قال: "فَلاَ تُشْهِدْنِي إذاً فَإنِّي لاَ أشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" وفي روايةٍ: "لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ" وفي رواية: "أشْهِدْ عَلَى هذَا غَيْرِي! " ثُمَّ قال: "أيَسُرُّكَ أنْ يَكُونُوا إلَيْكَ في البِرِّ سَواءً؟ " قال: بَلَى، قال: "فَلا إذاً". متفق عليه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
توهم بشير نسخ ذلك، أو حمل الأولى على كراهة التنزيه. وجمع الحافظ في الفتح بأنه وهبه حديقة، فلما بدا له ارتجعها لأنها لم يقبضها منه أحداً غيره، ثم عاودته فمطلها، ثم اقبضها ثم رضيت عمرة أن يهب له بدل الحديقة غلاماً، فرضيت عمرة لكنها خشيت الارتجاع، فطلبت إشهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أكلّ ولدك) بالنصب بنحلت مقدراً فسره قوله (نحلت مثل هذا) أي: أعطيت سائر ولدك كما أعطيت هذا (فقال: لا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرجعه) أي: ارتجعه هو كالعبد، لكراهة الرجوع في الهبة الموهوبة، وإن محلها ما لم توقع في كراهة، وإلا فيرتجع لأن درء المفاسد مقدم على جلب، المصالح أورده الشيخان بهذا اللفظ (وفي رواية) لمسلم (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفعلت هذا) أي: الاعطاء (بولدك كلهم) بأن أعطيت كلا كأخيه (قال: لا قال: اتقوا واعدلوا في أولادكم) بالتسوية بينهم في العطاء والبر والإِحسان (فرجع أبي فرد تلك الصدقة) أي: إلى ملكه بعد أن قبلها لولده، وتقدم في الرواية قبله أن الارتجاع بالأمر النبويّ (وفي رواية) هي أيضاً لمسلم: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم) بفتح أوليه حرف جواب (قال: أكلهم) بالنصب لمحذوف يفسره قوله (وهبت له مثل هذا) أي: أعطيت كلاً منهم (قال: لا قال: فلا تشهدني إذاً) أي: حينئذ (فإني لا أشهد على جور) أي: جيف وظلم، وأصله الميل عن الاعتدال، حراماً كان أو مكروهاً وهو بنحوه (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً (لا تشهدني على جور. وفي رواية) لمسلم أيضاً (أشهد على هذا غيري ثم قال: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء قال: بلى قال: فلا) أي: لا تفاضل بينهم في العطاء (إذاً. متفق عليه) باعتبار أصل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الهبة، باب: الهبة للولد، وباب: الإِشهاد في الهبة (5/155 و157) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، (الحديث: 9) .

(8/581)


354- باب في تحريم إحداد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام
1772- عن زينب بنتِ أبي سلمة رضي الله عنهما، قالت: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ رضيَ اللهُ عنها، زَوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حِينَ تُوُفِّيَ أبُوهَا أبُو سُفْيَانَ بن حرب - رضي الله عنه -، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقٍ أوْ غَيرِهِ، فَدَهَنَتْ مِنهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: واللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث، لما علمت من أن سياق الأحاديث المذكورة لمسلم ونحوها عند البخاري في أبواب الهبة. والحديث خرجه مالك والشافعي وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والطبراني والطحاوي والإِسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي والبغوي وغيرهم، ذكره القلقشندي في شرح عمدة الأحكام.
باب تحريم إحداد المرأة
قال في المصباح: حدت المرأة على زوجها تحد حداداً فهي حاد بغير هاء، وأحدت إحداداً فهي محد ومحدة إذا تركت الزينة لموته. وأنكر الأصمعي الثلاثي، واقتصر على الرباعي (على ميت فوق ثلاثة أيام) الظرف الأول لغو والثاني في محل الحال (إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام) النصب على الظرفية.
1772- (عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها) كذا في نسخة مصححه بضمير الواحدة والأولى عنهما (قالت دخلت على أم حبيبة) هي بنت أبي سفيان بن حرب أمية أخت معاوية (زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سفيان بن حرب) وكان موته سنة اثنين وثلاثين، وقيل بعدها (فدعت بطيب فيه صفرة خلوق) بفتح الخاء المعجمة وضم اللام المخففة في المصباح الخلوق ما يتخلق به في الطيب. وقال بعض الفقهاء: هو مائع فيه صفرة (أو) صفرة (غيره) وهذا شك منها في سبب الصفرة (فدهنت منه جارية) أي: ليدل ذلك على رضاها بفعل ربها وتسليمها الأمر له؛ (ثم مست بعارضيها) أي: أصابت منه فيهما. (ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة) أي نفسانية من التذاذ وغيره، (غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) الوصف بالجملة الفعلية ليس لإِخراج من لم يكن كذلك عن هذا

(8/582)


أنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إلاَّ علَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً". قالَتْ زَيْنَبُ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ رضي اللهُ عنها حينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: أمَا وَاللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيرَ أنِّي سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ علَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحكم، بل لكون المؤمنة تنقاد للأحكام الشرعية وإلا فالكفار مخاطبون بفروع الشريعة على الصحيح. والنفي بمعنى النهي على سبيل التأكيد (أن تحد) من أحد أو من حدّ أي: تترك زينتها التي تعتادها (على ميت) أي: لأجله (فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) التقييد بهذه المدة خرج مخرج الغالب، أما إذا كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل.
والاستثناء متصل إذا جعل قوله أربعة أشهر منصوباً بمقدر بياناً لقوله فوق ثلاث أي أعني أو أذكر، فهو من باب قولك ما اخترت إلا منكم رفيقاً يكون ما بعد إلا تبيين فيقدر المفسر أي: أعني أربعة أشهر على الاستثناء، تقديره لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاث أعني أربعة أشهر وعشراً إلا على زوج. أو من قولك ما ضرب أحد أحداً إلا زيد عمراً. وإذا جعل معمولاً لتحد مضمراً كان منقطعاً، والتقدير: لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث، لكن تحد على زوج أربعة أشهر وعشراً قاله العاقولي (قالت زينب ثم دخلت على زينب بنت جحش رضي الله عنها حين توفي أخوها) هو عبد الله بن جحش كما في تحفة القاري لشيخ الإِسلام. وفي فتح الباري: أنه كذلك في صحيح ابن حبان. وفي بعض طرق الموطأ أن ْالمعروف عبد الله بن جحش قتل بأحد شهيداً، وزينب بنت أبي سلمة، كانت يومئذ طفلة فيستحيل أن تكون دخلت على زينب بنت جحش تلك الحالة. وأنه يجوز أن يكون عبيد الله المصغر، فإن دخول زينب بنت أبي سلمة عند بلوغ الخبر إلى المدينة بوفاته وهي مميزة، وأن يكون أبا أحمد بن جحش واسمه عبد بلا إضافة لأنه مات في خلافة عمر، فيجوز أن يكون مات قبل زينب لكن ما ورد ما يدل أنه حضر دفنها، ويلزم على الأمرين أن يكون وقع في الاسم تغييراً، والميت كان أخاً لزينب من الرضاعة. أو لأمها اهـ. (فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: أما والله ما لي بالطيب من حاجة غير) بالنصب على الاستثناء، والفتحة فتحة إعراب. ويحتمل أنها فتحة بناء لإِضافته إلى مبني هو جملة (أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) ويحتمل أن يكون وقت سماعها لذلك منه - صلى الله عليه وسلم -

(8/583)


1777- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ إلاَّ أنْ يَأذَنَ لَهُ". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم (1) .
1778- وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُؤْمِنُ أَخُو المُؤْمِنِ، فَلاَ يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أخِيهِ وَلاَ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ حَتَّى يذَرَ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1777- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض) النهي للتحريم، كما تقدم. إلا إن كان لزم العقد ولا خيار فيكون غير محرم لانتفاء الإِضرار المرتب على الأول (ولا يخطب على خطبة أخيه) أي: إذا أجيب لذلك بالصريح، وكانت الخطبة جائزة لا خطبة الرجعية في عدتها، وقيد النهي في كل منهما بقوله (إلا أن يأذن له) أي: البعض المباع على بيعه في الأول، والمخطوب على خطبته في الثاني. ومثل إذنه في ذلك إعراضه عن المخطوبة (متفق عليه وهذا لفظ مسلم) ولفظ البخاري "لا يبع بعضكم على بيع بعض" وعند البخاري من حديث أبي هريرة أنه مرفوع، من جملة حديث آخره "ولا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها".
1778- (وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المؤمن أخو المؤمن) لاجتماعهما في الإيمان الذي هو أعظم مجتمع فيه (فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب) بالنصب عطفاً على يبتاع، وبالرفع على الاستئناف. والأول أقرب وأنسب (على خطبة أخيه حتى يذر) أي: يترك أو يأذن كما تقدم في الحديث قبل ذكر المؤمن، وهو لا مفهوم، له فيحرم على الكافر البيع على بيع المسلم. أو الذمي. والخطبة على خطبته.
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه وتحريم..، (الحديث: 11 و12) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة ... ، وفي أبواب متفرقة غيره وفي النكاح، باب: لا يخطب على خطبه أخيه (4/313) .
وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، (الحديث: 50)

(8/587)


بِحَرَامٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ، وإنْ خِيفَ عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ هذِهِ الأمورِ، كُرِهَ مَدْحُهُ في وَجْهِهِ كَرَاهَةً شَديدَةً، وَعَلَى هَذا التَفصِيلِ تُنَزَّلُ الأحاديثُ المُخْتَلِفَةُ فِي ذَلكَ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الإبَاحَةِ قَولُهُ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكْرٍ - رضي الله عنه -: "أرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" (1) : أيْ مِنَ الَّذِينَ يُدْعَونَ مِنْ جَمِيعِ أبْوابِ الجَنَّةِ لِدُخُولِهَا.
وَفِي الحَدِيثِ الآخر: "لَسْتَ مِنْهُمْ" (2) : أيْ لَسْتَ مِنَ الَّذِينَ يُسْبِلُونَ أُزُرَهُمْ خُيَلاَءَ.
وَقالَ - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ - رضي الله عنه -: "مَا رَآكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تارة، مباح أخرى على ما تقدم (وإن خيف عليه) أي: الممدوح (شيء من هذه الأمور) الفتنة والاغترار وتلعب النفس به وتحديثها له، أنه من الكمل المثنى عليهم، فيحمله على البطالات، وترك معالي الأعمال الصالحات (كره مدحه في وجهه) وكذا في غيبته إن علم وصول ذلك له، بأن كان ثمة من يبلغه (كراهة شديدة) وقد يحرم أن تحقق ذلك فيه، بأن علم من عادته وتحقق حصول ذلك له عند الممدوح (وعلى هذا التفصيل تنزل الأحاديث) بصيغة المجهول وبالبناء للفاعل بحذف إحدى التاءين تخفيفاً، أو أنه ماض وحذفت تاء التأنيث من آخره، لأن تأنيث الجمع مجازي باعتبار معنى الجماعة، فجاز تذكيره وتأنيثه، وإن كان الثاني أرجح (المختلفة في ذلك) فيكون من باب المختلف ظاهراً المؤتلف معنى (ومما جاء في الإِباحة قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرجو أن تكون منهم) قال العلماء: كل ما ورد في الكتاب والسنة من ألفاظ الرجاء فهو مقطوع بحصوله. وبيّن المصنف مرجع الضمير بقوله: (أي: من الذين يدعون من جميع أبواب الجنة) الثمانية بأن كان عاملاً بعمل أهل كل باب منها (لدخولها) متعلق بيدعون (وفي الحديث الآخر) قوله للصديق أيضاً وكان على المصنف أن يقول له وإن كان أسعد بانسجام ما قبله عليه الظاهر في الظاهر من ذلك (لست منهم أي: من الذين يسبلون إزارهم خيلاء) أي: فالوعيد الوارد في مسبل الإِزار لا يتناولك، وإن كنت تسبله لأنه خاص بمن يسبله خيلاء، وأنت لست كذلك وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه "ما رآك الشيطان سالكاً فجا") أي: طريقاً واسعاً واضحاً، هذا معنى الفج لغة، والظاهر أن المراد هنا ما يعم الواسع الواضح وغيره (إلا سلك فجاً، غير فجك) فيه الثناء عليه بالحفظ من وسوسة الشيطان، لأنه إذا باعد فجه فبالأولى أن يبعد منه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة في أبواب فضائل أبي بكر، (7/21، 22) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر، (الحديث: 86) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب أبي بكر، (7/21) .

(8/597)


وقال تعالى (1) : (وَلاَ تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ) .
1789- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى الشَّامِ حَتَّى إذا كَانَ بسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ - أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ وأصْحَابُهُ - فَأخْبَرُوهُ أنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ. قَال ابن عباس: فقال لي عمر: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأخْبَرَهُمْ أنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعضهم: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وأصْحَابُ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلاَ نَرَى أنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاء. فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجملة، وهو النهي عن الفرار وقال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) مصدر بمعنى الهلاك. 1789- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ) بفتح المهملة وسكون الراء، ووهم من فتحها، بعدها معجمة: منزل من منازل حاج الشام على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة. قال السيوطي في التوشيح: والذي حكى الفتح: القاضي عياض، وجعله المصنف في شرح مسلم: خلاف المشهور لا وهماً، ويجوز صرف سرغ ومنعه قال الدماميني في المصابيح: وسرغ قرية بتبوك قريب من الشام (لقيه أمراء الأجناد) قال المصنف: المراد بالأجناد مدن أهل الشام الخمس، وهي فلسطين والأردن ودمشق وحمص ونسرين. هكذا فسروه واتفقوا عليه (أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء) يعني الطاعون (قد وقع بالشام قال ابن عباس فقال لي عمر ادع لي المهاجرين الأولين) قال القاضي عياض: المراد بهم: من صلى إلى القبلتين، فأما من أسلم بعد تحويل القبلة فلا يعد فيهم (فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم خرجت لأمر) هو قتال العدو (ولا نرى أن نرجع عنه) معطوف على الجملة الأولى. قال المصنف: وهؤلاء بنوا كلامهم على أصل من أصول الشرع، هو التوكل والتسليم للقضاء (وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالجر عطفاً على الناس، وبالرفع عطفاً على بقية عطف خاص على عام (ولا نرى أن تقدمهم) بضم الفوقية وكسر الدال المهملة وبفتحها: على تقدير الجار أي: تقدم بهم (على هذا الوباء) قال المصنف وهذا مبني على أصل آخر من أصول الشريعة، هو الاحتياط والحذر،
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 195.

(8/599)


ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبيلَ المُهَاجِرينَ، وَاخْتَلَفُوا كاخْتِلاَفِهِمْ، فقال: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُريشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ - رضي الله عنه - في النَّاسِ: إنِّي مُصَبحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عليْهِ، فقال أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -: أفِراراً مِنْ قَدَرِ الله؟ فقالَ عُمرُ - رضي الله عنه -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومجانبة أسباب الإِلقاء باليد إلى التهلكة (فقال) لهم (ارتفعوا عني ثم قال) أي: لابن عباس (ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين) أي: طريقهم في اختلاف الرأي في ذلك (واختلفوا) كاختلافهم (فمن قائل بالتقدم ومن قائل بالرجوع، فقال ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش) بفتح الميم وكسر المعجمة الأولى وسكون التحتية أو بفتح الميم والتحتية وسكون المعجمة الأولى بينهما وكلاهما جمع شيخ.
كما تقدم أول الكتاب (من مهاجرة الفتح) قيل: هم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم فضل بالهجرة قبله، إذ لا هجرة بعد الفتح. وقيل: هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده، فحصل لهم اسم الهجرة دون الفضيلة. قال القاضي عياض: وهذا أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم اسم مشيخة قريش، ولذا اقتصر عليه الشيخ زكريا في تحفة القاري (فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان) معطوف على مقدر دل عليه ما قبله، أي: فاستشارهم فلم يختلفوا في أمر بالعود، فلذلك قال: (فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء) فاجتهد عمر فرأى الرجوع، لكثرة القائلين به، ولأنه أحوط ولم يفعله تقليداً. وقيل إشارة لحديث عبد الرحمن، كما في رواية لمسلم. قال ابن عمر: إنما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف قال: هولاً، ولم يكن ليرجع لرأي دون آخر حتى يجد علماً. ويوافق الأول قوله (فنادى عمر في الناس فقال إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه) وتأوله الآخرون بأن المراد أنه مسافر للجهة التي خرج إليها لا للرجوع إلى المدينة، قال المصنف: وهو تأويل فاسد، والصحيح الذي دل عليه الحديث، أنه إنما قصد الرجوع للمدينة بالاجتهاد حين رأى رأي الأكثرين عليه مع فضيلة المشيرين به، وما فيه من الاحتياط. ثم بلغه الحديث فحمد الله وشكره على موافقة رأيه واجتهاده واجتهاد معظم الصحابة نص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومصبح بصيغة الفاعل من الاصباح (فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه أفراراً من قدر الله) ؟ أي: أنفر فراراً أو ترجع فراراً (فقال عمر رضي الله

(8/600)


الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) الآية.
1791- وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ". قالوا: يَا رسولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ باللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وأكْلُ الرِّبَا، وأكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) إشارة إلى ما كتبوه من السحر ودفنوه تحت كرسي سليمان، فلما مات انتزعوه وقالوا لأوليائهم من الإنس: إن كان تسلط سليمان بهذا فتعلموه، فأبطله الله بذلك (وما أنزل على الملكين) عطف على السحر ما يتلى. أي: ويعلمونهم كما أنهما (ببابل) ظرف أو حال اسم موضع من الكوفة. وعطف على الملكين عطف بيان قوله ْ (هاروت وماروت) وعند بعض السلف أن ما نافية، فيكون عطفاً على "ما كفر سليمان" أي: ولا أنزل على ملكين أي: جبريل وميكائيل فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلى داود، فردهم الله. ويسأل: متعلق بيعلمون. وهاروت وماروت اسمان لرجلين صالحين ابتلاهما الله بالسحر وقعا بدلا من الشياطين (وما يعلمان) أي: الملكان أو الرجلان (من أحد) أي أحداً (حتى يقولا إنما نحن فتنة) ابتلاء واختبار (فلا تكفر) بتعلمه وذلك لأن تعلمه للعمل كفر، وتعلم هذا النوع كفر لما فيه من الكفر فهذه نصيحة منهما.
1791- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اجتنبوا السبع الموبقات) من باب قولك لبس الناس ثوبهم أي: لبس كل إنسان ثوبه، وليس من باب ترتيب المجموع على المجموع، إذ كل من السبع بانفراده موبق في الدين (قالوا يا رسول الله وما هن) سألوا عن حقائق ما كنى عنه بالعدد (قال الشرك بالله) أي: الكفر به، وخص الشرك لكونه كفراً للخاطئين (والسحر) في قرنه بالشرك إيماء إلى غلظه وفظاعة، شأنه، لا سيما وقد كنى عنه ْبالكفر في الآية، وبعض أفراده كذلك، ولذا قدم على القتل المحرم. إذ لا يكون من حيث ذاته كفراً، ففي تقديمه على القتل ذكراً إيماء إلى ذلك، وإن كانت الواو لا ترتيب (وقتل ْالنفس التي حرم الله) وهي النفس المعصومة بإسلام أو ذمة أو عهد أو أمان (إلا بالحق) كالقتل قصاصاً أو حداً أو زدة (وأكل الربا وأكل مال اليتيم) هو صغير لا أب له أي: إتلاف ماله والتصرف فيه أو غيره: وخص الأكل بالذكر لأنه المقصود الغالب من المال (والتولي) أي: الفرار من الصف (يوم الزحف) أي: ولم يزد العدد على الضعف، وخرج بالتولي

(8/603)


وَالدِّيبَاجِ، وَالشُّرْبِ في آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وقالَ: "هُنَّ لَهُمْ في الدُّنْيَا، وَهِيَ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ". متفق عَلَيْهِ.
وفي رواية في الصحيحين عن حُذيْفَةَ - رضي الله عنه -: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لاَ تَلْبسُوا الحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ، وَلاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَلاَ تَأكُلُوا في صِحَافِهَا" (1) .
1795- وعن أنس بن سِيِرين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة تقدم الكلام عليه في اللباس، وأنه ثوب سداه ولحمته إبريسم، ويقال هو معرب. والخلاف في أن ياءه زائدة، وأنه بوزن فيعال أو أصل بدل من الموحدة وأصله دباج بالتضعيف (والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: هن) أي: أولى النقدين (لهم) أي: الكفار (في الدنيا) بمعنى حالها لهم ديمان الصحيح أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، بل معنى أنهم المستعملون لها في الدنيا عادة، وهو نعيمهم الذي قدره الله لهم فيها، وما لهم في الآخرة من نصيب (وهي) عبر به بعد أن عبر بضمير جمع النسوة، قيل تفنناً في التعبير (لكم) أيها المؤمنون (في الآخرة) يعني في الجنة (متفق عليه) وفيه تحريم استعمال آنية النقدين على الرجال وغيرهم، بإدراج النساء في ضمن الذكور تغليباً على قول المحققين، وحقيقة على قول غيرهم، إذ علة الحرمة عين النقدين مع الخيلاء، وهي مشتركة بين الصنفين، ويحرم اتخاذهما أيضاً لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه عندنا، كالطنبور، ْوفيه المجازاة على الصبر على الزائل الفاني بالدائم الباقي (وفي رواية في الصحيحين عن ْحذيفة رضي الله عنه) الأخصر والأولى عنه قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج) هو مقصور على الذكور لأن علة تحريمه من أن فيه خنوثة تنافي شهامتهم مقصورة عليهم (ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها) أي: صحاف آنية الذهب والفضة وهي بكسر الصاد المهملة جمع صحفة وهي دون القصعة، وخص فيه الشرب والأكل بالذكر لغلبتهما في الاستعمال لا للتقييد. وخص الإِناء بالشرب، والصحاف بالأكل، لأنهما معدان لهما غالباً.
1795- (وعن أنس ابن سيرين) الأنصاري أبو موسى، وقيل أبو ضمرة. وقيل أبو عبد الله
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأشربة، باب: الشرب في آنية الذهب والشرب في آنية الفضة، (10/83) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة ... ، (الحديث: 4) .

(8/606)


1796- عن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَتَزَعْفَرَ الرجُل. متفق عَلَيْهِ (1) .
1797- وعن عبد اللهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: رأى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: "أُمُّكَ أمَرَتْكَ بِهَذا؟! " قلتُ: أَغْسِلُهُمَا! قَالَ: "بَلْ أَحْرِقْهُمَا".
وفي رواية، فَقَالَ: "إنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الكُفَّارِ فَلاَ تَلْبَسْهَا". رواه مسلم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمر، وفيه قال البيهقي بعد أن نقل عن الشافعي تحريم المزعفر: على الرجل دون المعصفر، والصواب، تحريم المعصفر عليه أيضاً للأحاديث الصحيحة، التي لو بلغت الشافعي لقال بها، وقد أوصانا بالعمل بالحديث الصحيح. ذكر ذلك في الروضة، والخنثى في ذلك كالرجل احتياطاً.
1796- (عن أنس رضي الله عنه قال نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعفر الرجل) شامل لبعض الثوب وللاطلاء بالزعفران (متفق عليه) .
1797- (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: أبصر (على ثوبين معصفرين) أي: مصبوغين بالعصفر (فقال أمك) بالرفع مبتدأ (أمرتك بهذا) أي: بلبسه، قال المصنف بمعناه أن هذا من لباس النساء وزينتهن وأخلاقهن (قلت اغسلهما) أي: منه (قال: بل احرقهما) قيل هو عقوبة وتغليظ لزجره وزجر غيره عن مثل هذا الفعل ونظيره، أمرتك: المرأة التي لعبت الناقة بإرسالها (وفي رواية) هي لمسلم أيضاً من حديث ابن عمرو أيضاً ورواها كذلك النسائي (فقال إن هذه) أي: الثياب المعصفرة (من ثياب أهل النار) أي: وهم غير متعبدين بأحكام الشرع في الدنيا لعدم إيمانهم وإن كانوا مخاطبين بها (فلا تلبسها رواه مسلم) باللفظين المذكورين في الباب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: التزعفر للرجال (10/256، 257) .
وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: نهى الرجل عن التزعفر، (الحديث: 77) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، (الحديث: 27 و28) .

(8/608)


366- باب في النهي عن صمت يوم إلَى الليل
1798- عن عليٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ، وَلاَ صُمَاتَ يَومٍ إِلَى اللَّيْلِ". رواه أَبُو داود بإسناد حسن. قَالَ الخَطَّابِيُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب النهي
تنزيهاً (عن صمت يوم إلى الليل) .
1798- (عن علي) بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووالد السبطين (رضي الله عنه) قال السيوطي في التوشيح: قال أحمد والنسائي وغيرهما: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد، أكثر مما جاء في علي، وكأن السبب في ذلك أنه تأخر ووقع الاختلاف في زمانه، وكثر المحاربون والخارجون عليه، فكان ذلك سبباً لانتشار مناقبه، لكثرة من كان يرويها من الصحابة رداً على من خالفه. وإلا فالثلاثة قبله لهم في المناقب ما توازيه وتزيد عليه اهـ وكان علي أصغر من جعفر بعشر سنين، وقيل: إن علياً أول من آمن به - صلى الله عليه وسلم -، روي ذلك عن جماعة من الصحابة حتى قال بعضهم: أليس أول من صلى لقبلتهم وأعلم الناس بالفرقان، والسنن والصحيح عند الجمهور أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال البالغين، بويع علي بالخلافة بعد قتل عثمان وتخلف عن بيعته معاوية وأهل الشام، وكان بينهم ما كان من القتال بصفين وغيرها، ثم قام الخوارج فقاتلهم فقتلهم وبقي من بقاياهم نذر يسير، فانتدب لهم منهم أشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي وكان فاتكاً ملعوناً فطعنه في رمضان سنة أربعين وقبض أول ليلة من العشر الأخير. واختلف في موضع دفنه وفي مبلغ سنه، فقيل: ثلاث وستون، قاله أبو نعيم وهو قول عبد الله بن عمر، وصححه ابن عبد البر. وقيل: سبعة وخمسون، وقيل: ثمانية وخمسون وهو قول البخاري، وقيل: أربعة وستون وهو قول ابن حبان. وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثاً. وقال: وقال أبو نعيم الأصبهاني: اسند أربعمائة حديث ونيفاً من المتون سوى الطرق، وقال البرقي: الذي حفظ لنا عنه نحو مائتي حديث روي منها في الصحيحين أربعة وأربعون حديثاً اتفقا على عشرين منها وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر (قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل بالسماع من لفظه وهو الأقرب، ويحتمل بواسطة فيكون مرسل صحابي (لا يتم بعد احتلام) وسواء فيه الرجل والمرأة، ومثله البلوغ بالسن فيرتفع اليتم بالبلوغ ويرتفع أحكامه (ولا صمات) بضم المهملة مصدر صمت من باب قتل صمتاً وصموتاً إذا سكت، ومنه الحديث: "وإذنها

(8/609)


لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الجَاهِليَّةِ، فَتَكَلَّمَتْ. رواه البخاري (1)
367- باب في تحريم انتساب الإنسان إِلَى غير أَبيه وَتَولِّيه إِلَى غير مَواليه
1800- عن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنِ ادَّعَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه شرعاً المحتاج إليه (لا يحل) حلاً مستوى الظرفين وعلل ذلك بقوله (هذا من عمل الجاهلية) وجاء الأمر بمخالفتهم لعدم ابتناء عملهم على أصل شرعي، إلا ما جاء الأمر ببقائه (فتكلمت) فيه الإِيماء إلى مبادرتها إلى الامتثال وعدم توانيها فيه عند تدبر الأمر لها. وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني ليس من شريعة الإِسلام الصمت عن الكلام وظاهر الأخبار تحريمه، واحتج بحديث أبي بكر وحديث علي المذكور قال: وإن نذر ذلك لم يلزمه الوفاء به، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفاً اهـ. قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه: ويكره صمت يوم إلى الليل، قال ابن الرفعة في شرحه إذ لم يؤثر ذلك بل جاء في حديث ابن عباس النهي عنه، ثم قال: نعم ورد في شرع من قبلنا فإن قلنا إنه شرع لنا لم يكره بل يستحب، قاله ابن يونس قال: وفيه نظر لأن الماوردي قد روى عن ابن عمر موفوعاً "صمت الصائم تسبيح" قال: فإن صح دل على مشروعية الصمت، وإلا فحديث ابن عباس أقل درجاته الكراهة، قال: وحيث قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا فذاك إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه اهـ. وهو كما قال وقد ورد النهي، والحديث المذكور لا يثبت، وقد أورده صاحب ْمسند الفردوس من حديث ابن عمر بسند فيه راو ساقط ولو ثبت لما أفاد المقصود لأن لفظه "صمت الصائم تسبيح ونومه عبادة ودعاؤه مستجاب". فالحديث مساق في أن أفعال الصائم كلها محبوبة لا أن الصمت بخصوصه مطلوب، قال في الفتح: والأحاديث الواردة في فضل الصمت، لا تعارض ما جزم به في التنبيه من الكراهة لاختلاف المقاصد في ذلك.
والصمت المرغب فيه ترك الكلام في الباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه وكذا المباح المستوى الطرفين اهـ. ملخصاً (رواه البخاري في باب أيام الجاهلية) .
باب تحريم انتساب الإِنسان إلى غير أبيه
حراً كان أو رقيقاً (وتوليته غير مواليه) أي: معتقيه.
1800- (عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ادعى) بتشديد الدال
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار، باب: أيام الجاهلية، (7/112، 113) .

(8/611)


الإبِلِ، وَأشْيَاءُ مِنَ الجَرَاحَاتِ، وَفِيهَا: قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "المَدينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً، أَوْ آوَى مُحْدِثاً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً. ذِمَّةُ المُسْلِمينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِماً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِبل وأشياء من) مسائل (الجراحات) وأحكامها (وفيها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة حرام) كمكة لكن لا ضمان في المتلف من صيدها، بخلاف صيد الحرم المكي (ما بين عير) بفتح المهملة وسكون التحتية (إلى ثور) بفتح المثلثة وسكون الواو وآخره راء. قال المصنف جبل صغير وراء جبل أحد، يعرفه أهل المدينة (فمن أحدث فيها حدثاً) كائن ابتدع فيها بدعة في الدين أو تسبب لإِحداث أذى المسلمين من مكس أو ظلامة (أو آوى) بالمد (محدثاً) بصيغة الفاعل أي: فاعل الحدث المذكور وبفتح الدال مصدر ميمي فيكون في الحديث مضاف مقدر أي: إذا أحدث (فعليه لعنة الله) بمنعه له من الرحمة (والملائكة والناس أجمعين) سؤالهم ذلك من الله تعالى، وفيه عظم المعصية بالمدينة. قال السيد السمهودي: الصغيرة من الذنب إذا فعلت بالمدينة صارت كبيرة للوعيد المذكور (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) قيل الصرف الفريضة، والعدل النافلة قاله الجمهور، وعكسه الحسن. وقال الأصمعي: الصرف التوبة والعدل الفدية. وقال يونس: الصرف الاكتساب، والعدل الفدية. وقال أبو عبيد: العدل الحيلة وقيل العدل المثل. وقيل: الصرف الدية والعدل الزيادة. قال القاضي وقيل: معناه لا تقبل فريضته ولا نافلته قبول رضاً، وإن قبلت قبولاً آخر. وقيل: يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب منهما، قال: وقد يكون معنى الفدية هنا أنه لا يجد في يوم القيامة فداء يفتدي به، بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله عز وجل على من يشاء منهم، بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني، كما ثبت في الصحيح اهـ. ملخصاً من شرح المصنف على مسلم (وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) ولو عبداً أو امرأة فإيمانهما صحيح قاله إمامنا الشافعي، والحديث شاهد له (فمن أخفر) بالخاء المعجمة والفاء (مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) قال المصنف: معناه من نقض أمان مسلم، فتعرض لكافر أمنه مسلم، فعليه ذلك (ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) قال المصنف: هذا تصريح في تغليظ تحريم الانتساب إلى غير أبيه، وانتماء

(8/613)


وَلاَ عَدْلاً. وَمَن ادَّعَى إِلَى غَيرِ أَبيهِ، أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيرِ مَوَاليهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ؛ لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً" متفق عَلَيْهِ. "ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ" أيْ: عَهْدُهُمْ وأمَانَتُهُمْ. "وأخْفَرَهُ": نَقَضَ عَهْدَهُ. "وَالصَّرْفُ": التَّوْبَةُ، وَقِيلَ الحِيلَةُ. "وَالعَدْلُ": الفِدَاءُ (1) .
1803- وعن أَبي ذَرٍّ - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، وَلَيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعتق إلى غير مواليه، لما فيه من كفر النعمة، وتضييع حقوق الإِرث والولاء والعقل وغير ذلك، مع ما فيه من القطيعة والعقوق (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) زيادة في إذلاله وإبعاده عن الرحمة (متفق عليه ذمة) بكسر المعجمة وتشديد الميم (المسلمين أي: عهدهم وأمانتهم) بيان لها بالمراد بها في الحديث أي: أن أمان المسلمين للكافر صحيح بشروطه المعروفة، فإذا وجدت حرم التعرض له كما قاله فمن أخفره إلخ. (وأخفره) بالضبط السابق (نقض عهده) أي: نقض أمانه وتعرض للكافر الذي أمنه. قال أهل اللغة: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته إذا أمنته (والصرف التوبة) تقدم أنه قول الأصمعي وأنه جاء مرفوعاً (وقيل: الحيلة) هو قول أبي عبيد (والعدل الفدية) هو قول يونس.
1803- (وعن أبي ذر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس من) زائدة للتأكيد (رجل ادعى) بتشديد الدال أي انتسب (لغير أبيه وهو يعلمه) أي: وقصده نفي نسب أبيه عنه، وإلا فلو اشتهر بالنسب إلى جده أو من تبناه مثلاً، فانتسب لذلك لشهرته غير قاصد انتفاءه من نسبه، فلا يشمله الوعيد الآتي (إلا كفر) أي: إن استحله، وقد علم بالتحريم المعلوم من الدين بالضرورة والإِجماع. هذا إن حمل على الكفر المضاد للإِيمان، وإن أريد منه الكفران المقابل للشكر، فالأمر ظاهر (ومن ادعى ما ليس له) عامداً عالماً (فليس منا) أي: على هدينا وطريقنا (وليتبوأ مقعده من النار) أي: فلينزل أو فليتخذ منزله منها. قال الخطابي:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: إثم من تبرأ من مواليه وفي الجزية والاعتصام (4/73، 74) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة ... ، (الحديث: 467، 468) .

(8/614)


وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بالكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُو اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ". متفق عَلَيْهِ، وهذا لفظ رواية مسلم (1) .
368- باب في التحذير من ارتكاب ما نهى الله - عز وجل - أَو رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه قال الله تعالى (2) : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
وقال تعالى (3) : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأصله من تباة الإِبل. وهي أعطانها. ثم إنه دعي بلفظ الأمر أي بوأه الله ذلك، وقيل: خبر بلفظ الأمر أي: فقد استوجبها. ثم معناه هذا جزاؤه وقد يجازى به وقد يعفو الله الكريم عنه، ولا يقطع عليه بدخول النار، قال المصنف (ومن دعا رجلاً بالكفر) كائن قال له يا كافر (أو قال عدو الله) بالنصب على تقدير حرف النداء وبالرفع: خبر مبتدأ، أي: هو عدو الله، وليس المدعو أي: المقول له (كذلك) أي: متلبساً بما رماه به القائل (إلا حار) المهملة والراء أي: رجع (عليه) قوله وصار القائل كما قال في أخيه أي: إن اعتقد أن الإِيمان القائم بذلك المقول له كفر، وأن المؤمن القائم به ذلك كافر، وإلا فهو محمول على الزجر والتنفير (متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم) .
باب التحذير من ارتكاب ما نهى الله عز وجل أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه
سواء كان النهي على وجه الجزم والاقتضاء، فيكون للتحريم. أولاً، وسواء كان الثاني بنهي مقصود، وهو المكروه أو غير مقصود. وهو خلاف الأولى، وذلك لشمول النيه لكلٍ وإن كان الأول أغلظ لحصول الإِثم بفعل المنهى عنه فيه لا في الثاني (قال الله تعالى: فليحذر الذين يخالفون) معرضين (عن أمره أن تصيبهم فتنة) في الدنيا (أو يصيبهم عذاب أليم) في الآخرة وإذا ورد هذا الوعيد في مخالفة أمر الرسول والإعراض عنه، فعن أمر الحق أحق (وقال تعالى: ويحذركم الله نفسه) أي: عن عقاب يصدر عن نفسه، وهذا غاية
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: حدثنا أبو معمر عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع ... ، (الحديث: 6/393) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، (الحديث: 112) .
(2) سورة النور، الآية: 63.
(3) سورة آل عمران، الآية: 30.

(8/615)


وَقَالَ تَعَالَى (1) : (إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (وَكَذِلكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) .
1804- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ اللهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيْرَة اللهِ، أنْ يَأْتِيَ المَرْءُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ". متفق عليه (3) .
369- باب فيما يقوله ويفعله من ارتكب منهياً عنه
قال الله تعالى (4) : (وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) .
وقال تعالى (5) : (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التحذير. كما يقال: احذر غضب السلطان نفسه (وقال تعالى: إن بطش ربك) أي: أخذه بالعنف لأعدائه (لشديد) مضاعف (وقال تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى) أي: أهلها (وهي ظالمة) أسند إليها ما هو لأهلها مجازاً عقلياً من الإِسناد للمكان نحو نهر جار (إن أخذه أليم شديد) وجيع صعب.
1804- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى يغار) المراد من الغيرة بالنسبة إليه تعالى غايتها من المنع كما قال (وغيرة الله) بفتح المعجمة وسكون التحتية (أن يأتي العبد ما حرم الله) أي: منع إتيان العبد ما حرمه (متفق عليه) .
باب ما يقوله ويفعله من ارتكب منهياً عنه
محرماً كان أو مكروهاً (قال الله تعالى: وإما) مركب من أن الشرطية، وأما المزيدة للتأكيد (ينزغنك من الشيطان نزغ) أي: أفسدك من الشيطان فساد (فاستعذ) أي تحصن من شره (بالله وقال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف) لمة ووسوسة، من طاف به الخيال
__________
(1) سورة البروج، الآية: 12.
(2) سورة هود، الآية: 102.
(3) أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الغيرة، (9/281) .
وأخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، (الحديث: 36) .
(4) سورة الأعراف، الآية: 200.
(5) سورة الأعراف، الآية: 201.

(8/616)


1805- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ في حَلفِهِ: بِاللاَّتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ أُقَامِركَ فَلْيَتَصَدَّقْ". متفق عليه (1) .
***
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1805- (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل) كفارة لذكرها في معرض التعظيم الموهم له (لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك) في القاموس قامره مقامرة وقماراً فقمره كنصره وتقمر راهنه فغلبه (فليتصدق) ليكون ثوابها كفارة لسيئته القولية (متفق عليه) قال في الجامع الكبير: ورواه الشافعي وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/النجم وأخرجه في كتاب الأدب والاستئذان والإِيمان، (11/467) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله (الحديث: 5) .

(8/618)