شرح أبي داود للعيني

3- كتاب الجنائز
أي: هذا كتاب في بيان " أحكام الجنائز " وأبوابها، وذكر في رواية اللؤلؤة نقيب الباب المذكور الذي هو آخر أبواب كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، وذكر الجنائز نقيب أبواب كتاب الجهاد، ولكن هذا أنسب،
وأوفق لترتيب كتب الفقه، وكذا ذكر الخطابي في " معالم السنن " كتاب الجنازة في هذا الموضع، وفي غالب النسخ الصحيحة كذلك، والجنائز جمع جنازة، والجنازة- بفتح الجيم- اسم للميت، وبكسرها اسم للنعش الذي نحمل عليه الميت، ويقال عكسه حكاه " صاحب المطالع " واشتقاقها من جنز إذا ستر، ذكره ابن فارس وغيره، والمضارع يجنز - بكسر النون- ويقال: الجنازة بكسر الجيم وفتحها والكسر أفصح،
ومنهم من فرق كما ذكرناه.
فإن قيل: لم قال: " كتاب الجنائز "، ولم يقل: " باب الجنائز "
مضموما إلى أبواب الصلاة؟ قلت: لخروجها عن كثير من أحكام الصلوات، حيث لا ركوع فيها ولا سجود، ولا قراءة عند كثير من العلماء، وأيضا هي مشتملة على أبواب شتى فذكرها/ بلفظ الكتاب 185/21- ب، ليجمع تلك الأبواب، وقد ذكرنا أن الكتاب من الكتب وهو الجمع، والباب النوع، والكتاب يجمع الأنواع.
1- باب: الأمراض المكفرة للذنوب
أي: هذا باب في بيان الأمراض المكفرة للذنوب، والأمراض جمع مرض وهو السقم.
1527- ص- نا عبد الله بن محمد النفيلي، نا محمد بن سلمي، عن
محمد بن إسحاق، حدثني رجل من أهل الشام يقال له: أبو منظور، عن
عمه، حدثني عمي، عن عامر الرام أخي الخضر (1) ، قال النفيلي: هو
__________
(1) في سنن أبي داود: " قال أبو داود: قال الطفيلي".

(6/5)


الخضر، ولكن كذا قالي محمد (1) : إني لببلادنا إذ رُفِعَتْ لنا رايات وألوية فقلتُ: ما هذا؟ قالوا: هذا رسولُ الله (2) فأَتيتُه وهو تحت شَجرة قد بُسطَ له كساءٌ، وهو جالسٌ عليه، وقد اجَتمعَ إليه أصحابه، فجلستً إليهم، فذكَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأسقامَ، فقال: " إن المؤمنَ إذَا أصابَه السقمُ، ثم أعفَاهُ اللهُ منه، كان كَفارةً لما مَضَى من ذُنُوبه، ومَوعظةً له فيما يَستقبلُ، وإن المنافقَ إذا مَرِضَ، ثم اعْفي كان كالبعيرِ عَقَلًه أهلُه، ثم أرسلُوه فلم يَدرِ لِمَ عَقَلُوهُ، ولم يَدرِ لم أرسلُوَهُ. فقالت رجلٌ ممن حولَه: يا رسولَ الله وما الأسقامُ؟ والله ما مَرضْتُ قَط، قال (3) : قُم عبئا، فلستَ منا، فبينماَ (4) نحنُ عنده إذ أقبلَ رجل عليه كسَاءٌ، وفي يده شيءٌ، قد التفَّ عليه، فقال: يا رسولَ اللهم إني لَمّا رأيتُكَ أقَبلتُ، فمررتُ بِغيضَة شجر فسمعتُ فيها أصوات فِرَاَخِ طائر فأخذتهُن فوضعتُهن في كسَائِي، فجاءت أمهُن فاستَدارتْ على رأسي، فكشًفتُ لها عَنْهُن، فوقَعَتْ عَليهن مَعَهُن، فَلَففْتُهن بكسَائي، فهن أولاء مَعي، قالي: ضَعْهُن عنكَ، فوضعتُهن، وأبتْ أمُّهنَ إَلا"زُومَهن، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحَابه: أتعجبون لرَحم أم الأفراخ فِرَاخَهَا؟ قالوا: نَعم، يا رسولَ اللهِ، قال: فوالذي بَعثنِي باَلحَقِّ لله أَرْحَمُ بعباده من أم الأفراخ بِفِرَاخِهَا، ارجعْ بهنَّ حتى تَضَعَهن من حيثُ أَخذتَهن، وأَمهن مَعَهُن، فرجعَ بِهِن))
__________
(1) في سنن أبي داود: " كذا قاله بدون لفظة محمد ".
(2) في سنن أبي لمحمود: " هذا لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(3) في سنن أبي لمحمود: " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(4) في سنن أبي داود: " فبينا ".
(5) في سنن أبي داود: " أقبلت إليك ".
(6) تفرد به أبو داود.
(7) جاء في سنن أبي داود بعد هذا الحديث حديث برقم (3090) ولم يرد في نسخة المصنف، قال عنه المزي في الأطراف: هذا الحديث في رواية ابن العبد وابن حاسة، ولم يذكره أبو القاسم اهـ. وهذا الحديث هو: قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، د إبراهيم بن مهدي المصيصي، المعنى،=

(6/6)


ش- أبو منظور ذكره في " الكمال "، في باب الكنى، وقال: روى عن عمه، عن عامر الرام، روى عنه محمد بن إسحاق، روى له أبو داود (1) .
وعامر الرام أخو الخُضْر- بالخاء المعجمة المضمومة، وسكون الضاد المعجمة- وهو حي من محارب خصَفة، روى عن النبي- عليه السلام- حديثا واحدا، وهو الحديث المذكور، وقال فيه " الكمال "، روى عن النبي- عليه السلام- حديثا واحدا في فضل المرض، وسعة رحمة الله تعالى، روى حديثه محمد بن إسحاق بن يسار، عن رجل من أهل الشام، يقال له: أبو منظور، عن عمه، عنه، روى له أبو داود (2) .
قوله: " قال محمد " أي: محمد بن مسلمة.
قوله: فإني لببلادنا" أي: لفي بلادنا، و" اللام " للتأكيد، و " الباء" للظرفية. قوله: " إذ رفعت " كلمة " إذ " على أربعة أوجه، أحدها: أن تكون اسما للزمن الماضي، ولها أربعة استعمالات، أحدها: أن تكون ظرفا وهو الغالب نحو {فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذينَ كَفَرُوا} (3) والذي في الحديث من هذا القبيل. والثاني: أن تكون مفعولا به نحو {وَاذكُرُوا إذ كُنتُمْ قَلِيلا فَكثرَكُمْ} (4) .
__________
قالا: حدثنا أبو المليح عن محمد بن خالد، قال أبو داود: قال إبراهيم بن مهدي: السلمي، عن أبيه، عن جده، وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
- "- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن العبد إذا سبقت له
من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده " قال أبو داود: زاد ابن نفيل: " ثم صبره على ذلك "، ثم اتفقا: " حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى ".
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (34/ 7652) .
(2) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (7/3) ، وأسد الغابة (3/ 1 12) ، والإصابة (2/ 261) ، وتهذيب الكمال (14/ 67 0 3) .
(3) سورة التوبة: (0 4) . (4) سورة الأعراف: (86) .

(6/7)


والثالث: أن تكون بدلا من المفعول به نحو (وَاذكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ
إِذا انتَبَذَتْ " (1) ، فإذ بدل اشتمال من مريم.
والرابع: أن يكون مضافا إليها اسم زمان، صالح للاستغناء عنه نحو
" يومئذ " و " حينئذ " أو غير صالح له نحو قوله تعالى: {بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا} (2) .
والوجه الثاني: أن تكون اسما للزمان المستقبل نحو {يَوْمَئذ تُحَدِّثُ
أخْبَارَهَا} (3) .ًَ
والوجه الثالث: أن تكون للتعليل نحو {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليَوْمَ إِذ ظَلَمْتُمْ
أنكُمْ فِي العَذَاب مُشْتَركُونَ} (4) ، والمعنى: ولن ينفعكم اليوم [] (5)
أنكم في العذاب، لأجل ظلمكم في الدنيا.
والرابع: أن تكون للمفاجأة، نص عليه سيبويه، وهي الواقعة بعد
" بينا " و "بينما".
قوله: " ثم أعفاه الله " أي: عافاه الله، كلاهما بمعنى، مِنَ العافية،
وهي دفاعُ اللهِ عن العبدِ.
قوله: "ثم أعفي" بضم الهمزة وكسر الفاء بمعنى عوفي من المعافاة.
قوله: "عَقَله" أي: ربطه.
قوله: " بينما نحن عنده " أي: عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكلام في
"بينا" و "بينما" مر غير مرة.
قوله: "غيضة شجرة" - بالضاد- الساقطة، وهي الأجمة وهي مغيض
ماء يجتمع فينبت فيه الشجر، والجمع غياض، وأصلها من غاض الماء
[186] ، يغيض غيضا/ أي: قل ونضب.
__________
(1) سورة مريم: (16) .
(2) سورة آل عمران) . (8) .
(3) سورة الزلزلة: (4) .
(4) سورة الزخرف (3) .
(5) بياض قدر كلمة، وأظنه ليس مكتوبا فيه شيء.

(6/8)


قوله: "فراخ" طائر الفراخ جمع فرخ، الفرخ ولد الطائر والأنثى فرخة، وجمع القلة أفرخ وأفراخ، والكثير فراخ بالكسر، وأفرخَ الطائرُ وفرخ، والطائر جمعه طير، مثل صاحب وصحْب، وجمع الطير طيور وأطيار، مثل فرخ وأفراخ.
قوله: " الله أرحم بعباده " اللام المفتوحة في " لله " للتأكيد، والرحمة: العطف، والحنو، والرقة.
1528- ص- نا (1) محمد بن عيسى، ومسدد، المعنى، قالا: نا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي، عن أبي بردة، عن ألف موسى، قال: سمعت النبي- عليه السلام- يقول غير مرة ولا مرتين (2) : " إذا كانَ العبدُ يعملِ (3) صالحاً فَشَغَلَهُ عنه مَرضن أو سَفر كُتبَ له كَصَالِح ما كانَ يَعملُ وهو صحيح مُقِيم " (4) .
ش- محمد بن عيسى الطباع، وهشيم بن بشير السلمي الواسطي، وأبو بردة عامر بن عبد الله بن قيس الكوفي، وأبو موسى هو عبد الله بن قيس الأشعري.
قوله: " غير مرة " نصب على أنه صفة لمصدر منصوب محذوف تقديره
" يقول قولا غير مرة ".
قوله: " وهو صحيح مقيم " جملة اسمية وقعت حالا من الضمير الذي
في "يعمل" في قوله: " ما كان يعمل ".
والحديث أخرجه البخاري.
__________
(1) في سنن أبي داود هذا الحديث تحت باب: " إذا كان الرجل يعمل عملا صالحا فشغله عنه مرض أو سفر ".
(2) في سنن أبي داود: " غير مرة ولا مرتين يقول".
(3) في سنن أبي داود: "يعمل عملا ".
(4) البخاري: كتاب الجهاد، باب: يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة (2996)

(6/9)


529 ا- ص- نا (1) سهل بن بكار، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن أم العلاء، قالت: " عَادني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مَرِيضَة، فقال: أبْشرِي يا أم العَلاء، فإن مَرَضَ المُسلِم يُذهبُ اللهُ به خَطَايَاهُ، كما تُذهب النار خَبَثَ الذهبِ وَالفِضةِ " (2) .
ش- سهل بن بكار القيسي الدارمي أبو بشر البصري، روى عن شعبة، وأبان بن يزيد العطار، وأبي عوانة، روى عنه محمد بن عثمان بن الحارث، وأبو جعفر محمد بن محمد التمار البصري، والعباس بن الفضل، قال أبو حاتم: هو ثقة، مات سنة ثمان وعشرين ومئتين، روى له البخاري، وأبو داود، والنسائي (3) . وأبو عوانة الوضاح مولى يزيد بن عطاء الواسطي، وعبد الملك بن عمير القرشي الكوفي، وأم العلاء عمة حزام بن حكيم بن حزام الأنصاري، روى عنها حديثا في المرض، روى لها أبو داود.
ويستفاد من الحديث فوائد، الأولى: إن عيادة الرجال للنساء المريضة جائزة.
الثانية. ينبغي للعائد أن يبشر المريض بذهاب خطاياه، فإن فيها تسلية لقلبه، وتقوية لجنانه.
والثالثة: إن المرض يذهب بالخطايا، كما تَذهبُ النار بخبث الذهب والفضة.
1530- ص- نا مسدد، نا يحي، ح، ونا ابن بشار، نا عثمان بن عمر (4) ، وهذا لفظه (5) ، عن أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: " قلتُ: يا رسول اللهِ، إني لأعْلَمُ أشذَ آية
__________
(1) في سنن أبي داود هذا الحديث تحت باب: "عيادة النساء".
(2) تفرد به أبو داود.
(3) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (12/ 5 0 26) .
(4) في الأصل: "عمرو" خطأ.
(5) في سنن أبي داود: قال أبو داود: " هذا لفظ ابن بشار".

(6/10)


في كتاب اللهِ تعالى، قال: أيةُ آية يا عائشةُ؟ قلتُ (1) : قَولَ الله عز وجل {مَن يَعْمًلْ سُوءً يُجْزَ به} (2) . قال: أمَا علمتِ يا عائشةُ أن اَلمسلم (3) تُصيبهُ النكبةُ أو الشوكةُ فَيكافأ بأسْوَء عَمَله؟ ومَنْ حُوسبَ عُذبَ قالتْ: أليسَ يقولُ اللهُ عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبَ حِسَاباً يَسِيراً} (4) قال: ذلِكمُ العَرْضُ، يا عائشةُ، مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذبَ " (5) ، (6) .
ش- يحي القطان، ومحمد بن بشار، وعثمان بن عمر (7) بن فارس العبدي البصري، وأبو عامر صالح بن رستم الخزاز المدني مولاهم المصري، وابن أبي مليكة عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة.
قوله: " هذا لفظه " أي: لفظ ابن بشار.
قوله: " أشد آية" أي: أقوى آية في الإخبار في الوعيد.
قوله تعالى: " يُجْزَ به " أي: بالسوء و "يجز"، مجزوم لابنه وقع جوابا لقوله:"مَن يَعْمَل ".
قوله: "النكبة" واحدة نكبات الدهر، يقال: أصابته نكبة، ونكب فلان فهو منكوب، وإنما ذكر قوله: "أو الشوكة" إشارة إلى أن النكبة وإن كانت يسيرة جدا مثل الشوكة التي تنغرز في يديه، فإن صاحبها يكافأ بأسوأ عمله بسبب ذلك.
قوله: "فيكافأ " يعني: فيجازى بأسوأ عمله، بمعنى يجعل تلك النكبة في مقابلة سوء عمله، فيتساويان، فيجعل ذاك بذاك، وأصله من
__________
(1) في سنن أبي داود: "قالت ".
(2) سورة النساء: (123) .
(3) في سنن أبي داود " أن المؤمن ".
(4) سورة الانشقاق: (8) .
(5) تفرد به أبو داود.
(6) في سنن أبي داود بعد الحديث: "قال أبو داود: وهذا لفَظ ابن بشار قال: حدثنا ابن أبي مليكة ".
(7) في الأصل: " عمرو " خطأ.

(6/11)


الكفؤ وهو النظير والمساوي، ومنه الكفاءة في النكاح، وهو أن يكون
الزوج مساويا للمرأة في حسبها ودينها، ونسبها، وغير ذلك وفي بعض
النسخ: (فيحاسب بأسوأ عمله" موضع "فيكافأ" وقد أخرج البخاري
ومسلم في "صحيحيهما": " أليسَ يقولُ اللهُ عز وجل ... " وما بعده
إلى آخر الحديث.
186/21- ب،/ 1531- ص- نا (1) عبد العزيز بن يحي، نا محمد بن سلمي، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد، قال:
"خَرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعودُ عبدَ الله بنَ أبَن في مَرَضِهِ الذي ماتَ فيه، فلما
دخلَ عليه عَرَفَ فقيه الموتَ، قالي: قد كنتُ أنهَاكَ عن حُبِّ يهودِ، قال: فقد
أبْغَضَهُم أسعدُ بن زُرَارَةَ (2) ، فلما ماتَ أتاه ابنُه فقالت: يا رسولَ الله" إن
عبدَ اللهِ بنَ أبَن قد ماتَ، فأعطِني قميصَك أكفنهُ فيه، فنزعَ رسولُ الَلهِ "
قميصَه فأعطاهُ إياهُ " (3) .
ش- عبد العزيز بن يحمى أبو الأصبغ الحراني، ومحمد بن سلمة
الحراني.
قوله: " يعود" جملة وقعت حالا من الرسول، وعبد الله بن أبي بن
سلول كان رأس المنافقين، وكان ظاهر النفاق، أنزل الله تعالى في كفره
ونفاقه آيات من القرآن تتلى.
فإن قيل: كيف جازت للنبي- عليه السلام- تكرمة المنافق، وتكفينه
في قميصه؟
قلت: كان ذلك مكافأة له من عمل صنيع سبق له، وذلكم أن العباس
- رضي الله عنه- عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا
__________
(1) في سنن أبي داود هذا الحديث تحت باب: " في العيادة".
(2) في سنن أبي داود: " أبغضهم سعد بن زرارة فمه،.
(3) تفرد به أبو داود.

(6/12)


له قميصا، وكان رجلا طوالا، فكساه عبد الله قميصه، فأراد النبي - عليه السلام- أن يكافئه على ذلك، لئلا يكون لمنافق عنده يد لم يجازه عليها، وليكون ذلك إكراما لابنه الصالح، فقد كان مسلما بريئا من النفاق وكان اسمه: الحباب، فقال رسول الله: أنت عبد الله بن عبد الله، الحباب اسم شيطان، وقد قيل للنبي- عليه السلام- لم وجهت إليه بقميصك، وهو كافر؟ فقال: إن قميصي لن يغني عنه من الله شيئا، وإني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب، فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله- عليه السلام- وكذلك ترحمه- عليه السلام- واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك دعي المسلم إلى أن ينعطف على من والى قلبه لسانه، ورآه حتما عليه، وقال الخطابي (1) : "فيه دليل على جواز التكفين بالقميص ".
قلت: لا نسلم ذلك، لأنه كان كافرا، فصار القميص وغيره من الأثواب في حقه سواء، وإنما كان هذا سترا له كما في حق سائر الكفار إذا ماتوا، ولم يكن هذا تكفينا على وجه السنة كما في حق المسلمة، حتى يقال بجواز التكهن بالقميص فافهم.
2- باب: في عيادة الذمي
أي: هذا باب في بيان عيادة الذمي، وعيادة الذمي زيارته، لكونه مريضا، وكذا عيادة المريض زيارته، مِن عاد يعود عودا، أي: صار إليه.
1532- ص- نا سليمان بن حرب، نا حماد، عن ثابت، عن أنس
رضي الله عنه- "أن غلاما من اليهودِ كان مَرِضَ، فَأتَاهُ النبي- عليه
__________
(1) معالم السنن (1/ 260) .

(6/13)


السلام- بَعوده، فَقَعَدَ عندَ رأسه (1) ، فَنَظَرَ إلى أبيه وهو عندَ رأسه فقال (2) : أطِعْ أباد القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم، فقامَ النبي- عليه السلام- وهو يقولُ الحَمْدُ لتهم الذي أنقَذه (3) من النارِ" (4) .
ش- حماد بن زيد، وثابت البناني.
قوله: "أنقذه" بالذال المعجمة، أي: خلصه ونجاه، وفيه دليل على جواز عيادة أهل الذمة، ولا سيما إذا كان الذمي جارا له، لأن فيه إظهار محاسن الإسلام، وزيادة التأليف بهم ليرغبوا في الإسلام، والحديث أخرجه البخاري في " صحيحه "، والنسائي في " سننه ".
3- باب: المشي في العيادة
أي: هذا باب في بيان فضل المشي في عيادة المريض، وفي بعض النسخ لفظ الباب ليس بموجود فيه.
1533- ص- نا أحمد بن حنبل، نا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال:"كان النبي عن يعُودُنِي، ليسَ بِرَاكبِ بَغْلٍ، ولا بِرْذوْنَ " (5) .
ش- البِرذون- بكسر الباء- قال الجوهري: البِرذون الدابة، والأنثى بِرذونة، وذكر غيره أن البِرذون الفرس العجمي. وفيه ما يدل على فضيلة عيادة المريض ماشيا، فإن ركب جاز، والأولى اتباع صاحب الشرع لما فيه من إظهار التواضع، وإدخال السرور في قلب المريض/ وليس في
__________
(1) في سنن أبي داود: "فقعد عند رأسه فقال له: أسلم ".
(2) في سنن أبي داود: "فقال له أبوه".
(3) في سنن أبي داود:"الذي أنقذه بي".
(4) البخاري: كتاب المرضى، باب: عيادة المشرك (5657) ، النسائي في الكبرى. (5) البخاري: كتاب المرضى، باب: عيادة المريض راكبا وماشية وردفاً على الحمار (5664) ، الترمذي: كتاب المناقب، باب: في مناقب جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (3851) .

(6/14)


بعض النسخ ذكر لفظ الباب، والحديث أخرجه البخاري، والترمذي - رحمهما الله تعالى-.
4- باب: من عاد مريضا وهو على وضوء (1)
أي: هذا باب في بيان فضل من عاد مريضا، والحال أنه على الوضوء، وفي كثير من النسخ ليس فيه ذكر لفظ الباب.
1534- ص- نا محمد بن عوف الطائي، نا الربيع بن روح بن خليد (2) ، يا محمد بن خالد، نا الفضل بن دلهم الواسطي، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- عليه السلام-:"مَن توضأ فأحسَن الوُضوءَ، وعادَ أخَاه المسلمَ مُحْتَسِباً، بُوعدَ من جَهنمَ مَسيرَة ستين (3) خَريفا. قلتُ: يا أبَا حَمزةَ، وما الخَريفُ؟ قالَ: الَعَامُ " (4) (5)
ش- محمد بن عوف بن سفيان أبو جعفر الحمصي الطائي.
والربيع بن روح بن خليد (2) ، أبو روح، سمع: الحارث بن عَبدة أو عبيدة، ومحمد بن خالد، روى عنه: محمد بن عوف الطائي، روى لها: أبو داود، والنسائي (6) .
ومحمد بن خالد الوَهْبي الحمصي الكندي أخو أحمد، روى عن: محمد بن عمرو بن القمة وغيره، روى عنه: الربيع بن روح وغيره، روى له: البخاري، وأبو د وود، وابن ماجه (7) .
__________
(1) في سنن أبي داود: " باب في فضل العيادة على وضوء ".
(2) في الأصل: " خالد" خطأ. (3) في سنن أبي داود " سبعين".
(4) تفرد به أبو داود.
(5) في سنن أبي داود بعد هذا الحديث: " قال أبو داود: والذي تفرد به البصريون منه العيادة وهو متوضئ".
(6) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (9/ 1860) .
(7) المصدر السابق (25/ 5180) .

(6/15)


والفضل بن دلهم البصري، وقيل: الواسطي القصاب، روى [عن] : الحسن البصري، وابن سيرين، وقيادة، وثابت البناني، روى عنه: محمد بن القاسم، وعبد الله بن المبارك، ووكيع وغيرهم، قال أحمد بن حنبل: ليس به بأس، وقال يحرص بن معين: صالح، وقال أبو داود: ليس بالقوي ولا بالحافظ، روى له: أبو داود، والترمذي، وابن ماجه (1) . قوله: "محتسبا" حال عن الضمير الذي فيه "عاد"، أي: طالبا لوجه الله وثوابه، والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد، صانعا قيل لمن ينوي بعمله وجهه الله: احتسبه، لأن له حينئذ أن يعتد عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به، والحسبة اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد، والاحتساب في الأْعمال الصالحات وعند المكروهات هو: البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بالتسليم، والصبر، أو باستعمال أنواع البر، والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو منها.
قوله: " بُوعد" مجهول باعد.
قوله: "قلت" قول ثابت البناني، وأبو حمزة كنية أنس بن مالك ص في الله عنه- وقد فسر أنس- رضي الله عنه- الخريف بالعام وهو من باب المجاز، حيث أطلق على الكل اسم جزئه، لأن الخريف أحد فصول السنة تخترف فيه الثمار، أي: تجتني. وفيه من الفوائد استحباب الوضوء عند عيادة المريض، وأنها إنما تعتبر وتعتد إذا كانت على وجه الاحتساب، لينال هذا الفضل العظيم، حتى إذا كانت على وجه الرياء والسمعة، أو لأجل غرض دنياوي لا ينال تلك الفضيلة، ولقد رأينا كثيرا من الأكابر مثل الأمراء، وغيرهم من الحكام ينزلون عند أرباب الدنيا إذا مرضوا، وقصدهم من ذلك أن يقدموا لهم تقادم من الخيول، والقماش، والمماليك، فهؤلاء وأمثالهم خارجون عن هذا الوعد العظيم، والحديث لم يخرجه غير أبي داود من الأئمة الستة.
__________
(1) المصدر السابق (23/ 4733) .

(6/16)


1535- ص- نا محمد بن كثير، أنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الله بن
نافع، عن علي- رضي الله عنه- قال: " مَا مِن رَجُلِ يعودُ مَريضاً مُمْسِياً إلا
خرجَ معه سبعونَ ألفَ مَلَكِ يستغفِرُون له حتى يُصبحَ، وكان له خَرِيف في
الجنةِ، ومن أتاه مُصْبِحاً خرجَ معه سبعونَ ألفَ مَلَك يستغفرونَ له حتى
يُمْسِيَ، وكان له خَري"في الجنةِ " (1) .
ش- شعبة بن الحجاج، والحكم بن عتيبة.
قوله: "ممسياً" حال عن الضمير الذي في " يعود"، وكذا قوله:
"مصبحاً" أي: في حال المساء وحال الصباح، وقد دل هذا على ابن عيادة
المريض في المساء لا تمنع كما يتأبى عنها كثير من العوام، والحديث يرد
عليهم.
قوله: "خريفاً" أي: " (2) مخروف من ثمر الجنة، فعيل بمعنى مفعول، وهذا كالحديث الآخر: "عائد المريض على مخارف الجنة " والمعنى- والله أعلم- أنه بسعيه إلى عيادة المريض يستوجب الجنة ومخارفها".
فإن قلت: ما وجه الحكمة في تعيين/ السبعة ألفا من بين سائر [2 / 187 - ب] الأعداد؟ قلت: قد عرفت أن العدد لا نهاية له، وأن مراتبه آحاد
وعشرات ومئات وألوف، وهذا يشمل المراتب كلها، أو يكون فيها حكمة
خفي علينا وجهها، والله أعلم.
وفي بعض النسخ في أول هذا الحديث: "باب جامع فضل العيادة"،
والحديث موقوف- كما ترى- ولم يخرجه غيره من الستة.
1536- ص- يا عثمان بن أي شيبة، يا أبو معاوية، نا الأعمش، عن
__________
(1) تفرد به أبو داود.
(2) انظر: معالم السنن (1/ 260) .
52 شرح سنن أبي داوود 6

(6/17)


الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، لم يذكر "الخريف " (1) (2) .
ش- أراد بهذا أن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى هذا الحديث عن علي
- رضي الله عنه- ولم يذكر فيه: "وكان له خريف في الجنة" وإنما وقع في رواية عبد الله بن نافع، عن علي- رضي الله عنه- وهذا موقوف، وأخرجه ابن ماجه، وقال أبو بكر البحار: وهذا الحديث رواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ورواه شعبة، عن الحكم، عن عبد الله بن نافع، وهذا اللفظ لا يعلم رواه إلا علي، وقد روي عن علي- رضي الله عنه- من غير وجه.
ص- قال أبو داود: رواه منصور، عن الحكم، كما رواه شعبة.
ش- أي: روى الحديث المذكور منصور بن المعتمر، عن الحكم بن عتيبة، كما رواه شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة وقد قال أبو داود - رحمه الله-: أسند هذا عن علي- رضي الله عنه- من غير وجه، عن النبي- عليه السلام-.
5- باب: في العيادة مرارا
أي: هذا باب في بيان عيادة المريض مرارا، وفي بعض النسخ "باب الرجل يعاد مرارا".
1537- ص- نا عثمان بن أبي شيبة، نا عبد الله بن نصير، عن هشام بن
__________
(1) ابن ماجه كتاب الجنائز، باب: ما جاء في ثواب من عاد مريضا (1442) .
(2) جاء في سنن أبي داود بعد هذا الحديث حديث (3100) وليس في نسخة المصنف، وهو حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن أبي جعفر عبد الله بن نافع قال:- وكان نافع غلام الحسن بن علي- قال: " جاء أبو موسى إلى الحسن بن علي يعوده".
قال أبو داود: وساق معنى حديث شعبة. قال أبو داود: أسند هذا عن علي
عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه صحيح.

(6/18)


عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: " لَهَا أصيبَ سعدُ بنُ مُعاذ يومَ الخَندقِ رَمَاهُ رَجُل في الأكْحَلِ، فضربَ عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خيمةً في الًمسجد ليعود (1) من قريب " (2) .
ش- (3) سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القدس بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الأشهب بن عمرو بن مالك بن الأوس سيد الأوس أبو عمرو، شهد بدرا، وأحدا، واستشهد زمن الخندق، صح أن رسول الله- عليه السلام- قال: " اهتز العرش لموت سعد بن معاذ" روى عنه عبد الله بن مسعود، قال: "كنت صديقا لأمية [بن] خلف" الحديث، أخرجه: البخاري، ويوم الخندق هو غزوة الأحزاب، كانت في شوال سنة خمس من الهجرة، نص عليه محمد بن إسحاق، وقال موسى بن عقبة: عن الزهري، أنه قال: ثم كانت الأحزاب في شوال سنة أربع، وكذا قال مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل، عن موسى بن داود، عنه، والجمهور على قول ابن إسحاق، ومات سعد بعد انقضاء شأن بني قريظة، وكان قد دعي الله أن لا يميته حتى تقر عينه من بني قريظة، وذلك حين نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله من المواثيق والعهود، ومالئوا عليه مع الأحزاب، ولما انقضى شأنهم انفجر جرحه فمات منه شهيدا، وقال ابن كثير: وكانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو أن خمس وعشرين ليلة، وكان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس كما ذكرنا، فأقاموا قريبا من شهرين، ثم خرج رسول الله لحصار بني قريظة، فأقام عليهم خمسا وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد، فمات بعد
__________
(1) في سنن أبي داود: "ليعوده ".
(2) البخاري: كتاب المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب (4121) ، مسلم: كتاب الجهاد، باب: جواز قتال من نقض العهد 65- (1769) ، النسائي: كتاب المساجد، باب: ضرب الخباء في المساجد (2/ 45) .
(3) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (27/2) ، وأسد الغابة (2/ 373) ، والإصابة (2/ 37)

(6/19)


حكمه عليهم بقليل، فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة، أو أوائل
ذي الحجة من سنة خمس، وعن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله
- عليه السلام-: "لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك
إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك، ولقد ضمه القبر ضمة " ثم بكى نافع.
رواه البزار بإسناد جيد.
وروى البيهقي بإسناده إلى أمية بن عبد الله، ابنه سأل بعض آل سعد:
ما بلغكم من قول رسول الله في هذا؟ فقالوا: "يذكر لنا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول ".
قوله: " رماه رجل" هو حبان بن العرقة- لعنه الله- رماه بسهم
فأصاب أكحله، فحسمه رسول الله كيا بالنار، فاستمسك الجرح،
والأكحل عرق في اليد يُفصدُ، ولا يقال: عرق الأكحل وعروق الفصل
في اليد ثلاثة: القيفال، والأكحل، والباسليق، فالأكحل بين القيفال والباسليق، فالقيفال من فوق، والباسليق من أسفل./ واستفيد من الحديث جواز التكرار في عيادة المريض، ولا سيما إذا كان المريض ممن
يحبه، لأن رسول الله- عليه السلام- إنما ضرب عليه خيمة في المسجد
ليكون قريبا منه، فيعوده كل وقت، واستفيد أيضا جواز تمريض المريض
في المسجد، وجواز نصب الخيمة فيه، والحديث أخرجه البخاري،
ومسلم، والنسائي- رحمهم الله تعالى-.
6- باب: العيادة في الرمد (1)
أي: هذا باب في بيان جوار العيادة من رمد العين.
1538- ص- نا عبد الله بن محمد النفيلي، نا حجاج بنِ محمد، عن
يونس بنِ أي إسحاق، عن أبيه، عن زيد بن أرقم، قال: " عَادني رسولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم من وجَع كان بعيني" (2) .
__________
(1) في سنن أبي داود: "من الرمد ".
(2) تفرد به أبو داود.

(6/20)


ش- حجاج بن محمد الأعور، ويونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني أبو إسرائيل الكوفي.
واستدل من الحديث أن العيادة تجوز من رمد العينين، خلافا لما تزعمه العامة من الناس أن الرَّمْدَانَ لا يزار، والحديث يرد عليهم.
وقوله: " من وجع كان بعيني" عام يشمل سائر أمراض العين من أنواع الرمد، وغيرها فافهم، والحديث لم يخرجه غيره من الستة.
7- باب: في الخروج من الطاعون (1)
أي: هذا باب في بيان الخروج من أرض وقع فيها الطاعون، والطاعون: الموت من الوباء، والجمع الطواعين.
1539- ص- نا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الحميد
ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن عباس، قال: قال عبد الرحمن بن عوف: سمعتُ رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: " إذا سمعتُم به بأرض فلا تَقْدموا عليه، فإذا وَقعَ بأرضٍ وأنَتم بها فلا تخْرُجُوا فِراراً منه" يعني: الًطاعونَ (2) .
ش- عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، أبو يحي المدينة، سمع: أباه، وابن عباس، وعبد المطلب بن ربيعة، روى عنه: عبد الحميد بن عبد الرحمن وغيره، قتله السَّمُومُ مع سليمان بن عبد الملك سنة تسع وتسعين، روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود (3) .
قوله: "به" أي: بالطاعون، وليس هذا إضمار قبل الذكر لجريان ذكره
__________
(1) في سنن أبي داود: "باب الخروج من الطاعون ".
(2) البخاري: كتاب الطب، باب: ما يذكر في الطاعون (5728) ، مسلم: كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها 92- (2218) .
(3) انظر ترجمته في: تهذيب للكمال (15 / 3363) .

(6/21)


بين المتكلم والمخاطب، و " الباء" في قوله: "بأرض" ظرف، أي: في أرض.
قوله: " عليه" أي: على الطاعون.
قوله: " يعني الطاعون " تفسير من الراوي لقوله: "به، وعليه، ومنه" لأن الضمائر فيها كلها ترجع إلى الطاعون، فقوله: "لا تقدموا عليه" إثبات الحذر، والنهي عن التعرض للتلف، وقوله: " لا تخرجوا فرارا منه" إثبات التوكل والتسليم لأمر الله تعالى وقضائه، فأحد الأمرين تأديب وتعليم، والآخر تفويض وتسليم، والحديث أخرجه: البخاري، ومسلم مطولاً.
8- باب: الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة
أي: هذا باب في بيان الدعاء للمريض بأن يشفيه الله عند عيادته.
1540- ص- نا هارون بن عبد الله، نا مكي بن إبراهيم، نا الجعيد، عن عائشة بنت سعد، أن أباها قال: " اشتكيتُ بمكة، فجاءَني رسولُ الله (1) صلى الله عليه وسلم يعُودُنِي، ووضعَ يده على جَبِيني، ثم مَسحَ صدْري وبطَنِي، ثم قالَ: اللهم اشفِ سعداً، وأتمِمْ له هِجْرَتَه" (2) ، (3) .
ش- الجعيد بن عبد الرحمن بن أوس، ويقال: ابن أويس المدني، سمع: السائب بن يزيد، ويزيد بن خصيفة، وعائشة بنت سعد بن
__________
(1) في سنن أبي داود: "فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم".
(2) البخاري: كتاب المرضى، باب: وضع اليد على المريض (5659) .
(3) ورد في سنن أبي داود حديث بعد هذا الحديث برقم (3105) وليس في نسخة المصنف، وهو: حدثنا ابن كثير، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن
أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني " قال سفيان: والعاني الأسير.

(6/22)


أبي وقاص، روى عنه: سليمان بن بلال، ويحيى القطان، ومكي بن إبراهيم، روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي (1) .
والجُعَيد بضم الجيم، وفتح العين، ويقال: الجعد بفتح الجيم، وسكون العين، وعائشة بنت سعد بن أبي وقاص القرشية الزهرية. قوله: "اشتكيت " على صيغة المعلوم من اشتكى فلان عضوه إذا كان بها مرض، والمعنى مرضت وضعفت. ويستفاد من الحديث استحباب وضع اليد على جبين المريض عند العيادة، ومسح صدره وبطنه، واستحباب الدعاء له، بأي دعاء شاء، والأفضل أن يقول في جملة دعائه: " اللهم اشف فلانا " ويعاين/ اسمه.
قوله: "أتمم له هجرته " بمعنى عافه ليرجع إلى المدينة، ويموت بها، لتكون هجرته تامة، وذلك لأن من رجع إلى مكة بعد هجرته منها لا تكون هجرته تامة، ولم يبق اليوم هجرة، واليوم الهجرة هجرة عما نهى الله ورسوله عنه، وأخرجه البخاري أتم منه فافهم.
1541- ص- نا (2) الربيع بن يحي، نا شعبة، نا يزيد أبو خالد، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي الله عنهم- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن عَادَ مَرِيضاً لم يَحضرْ أجلُه، فقال عنده سبعَ مِرَار: أسألُ اللهَ العظيمَ، رب العَرشِ العظيم، أن يَشْفِيَكَ إلا عَافاه اللهُ- عز وجل- من ذلكَ المرضِ" (3) .
ش- الربيع بن يحيى بن مقسم الأشناني أبو الفضل المرائي (4)
__________
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (927/4) .
(2) في سنن أبي داود هذا الحديث تحت "باب الدعاء للمريض عند العيادة".
(3) الترمذي: كتاب الطب، باب رقم (33) ، (84 0 2) ، النسائي: عمل اليوم والليلة (ص 570) رقم (2083) .
(4) في تهذيب الكمال: "المَرئي ".

(6/23)


البصري، روى عن: شعبة، والثوري، وزائدة، روى عنه: البخاري، وأبو داوود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقال: ثقة ثبت (1) .
ويزيد بن عبد الرحمن الأزدي الدالاني.
قوله: "لم يحضر أجله" صفة لقوله: " مريضا" وقد عرف أن الجملة بعد النكرة تكون صفة، وبعد المعرفة تكون حالاً ويستفاد من هذا القيد أن المريض الذي حضر أجله لا يفيده شيء في تأخير عمره، ولكن العائد إذا قرأ عنده شيئا يفيده في الآخرة، ويفيد القارئ أيضا، وربما يسهل عليه مرضه، ويهون عليه سكرات الموت ببركة القراءة والدعاء.
قوله: "رب العرش" منصوب لكونه صفة "لله"، ويجوز أن ترفع على أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره "وهو رب العرش العظيم" ومعنى العظيم في حق الله تعالى عظمة شأنه، وارتفاع سلطانه، وفي حق العرش كونه أعظم المخلوقات، وذكر الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن بعض السلف: أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء، بُعدُ ما بين قُطْرَيْهِ مسيرةُ خمسين ألف سنة، وبُعدُ ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة، واتساعه خمسون ألف سنة، والعرش في اللغة السرير، وهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سننف للمخلوقات، وبهذا بطل كلام من يقول: إنه فلك مستدير في جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وهو الفلك التاسع، والفلك الأطلس، والأثير.
قوله: "إلا عافاك الله- عز وجل-" معناه ما يفعل ذلك أحد إلا عافاه الله
- عز وجل- من المرض، فتكون كلمة النفي هاهنا مقدرة ليتم الكلام، وكذلك كل موضع يجيء مثل هذا يقدر فيه هذا التقدير، وأخرجه: الترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث المنهال بن عمرو.
__________
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (9/ 1873) .

(6/24)


1542- ص- نا يزيد بن خالد الرملي، نا ابن وهب، عن حُيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن ابن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جَاءَ الرجلُ يعودُ مريضاً فليقلْ: اللهم اشف عبدَكَ، ينكي لك عَدُوا، أو يَمْشِي لك إلى جَنَازَةٍ " (1) (2) .
ش- عبد الله بن وهب، وعبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما-.
قوله: " ينكي" من نكيت في العدو أنكي نكاية، فأنا ناكٍٍ إذا أكثرت فيه الجراح والقتل فَوَهَنُوا لذلك، وقد يهمز، وهو لغة فيه، وهو من باب فعل يفعل، نحو ضرب يضرب، والحديث رواه أحمد في " مسنده " ولفظه: " أو يمشي لك إلى صلاة ".
9- باب: كراهية تمني الموت (3)
أي: هذا باب في بيان كراهية تمني الموت لأجل شدة نزلت به.
1543- ص- نا بشر بن هلال، نا عبد الوارث، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك- رضِي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: " لا يَدْعُوَنَّ أحدُكمِ وبالموت لضُر نزلَ به، ولكن ليَقُلْ اللهم أحيني ما كانتْ الحياةُ خيراً لي، وتَوفني إذا كانت الوفاةُ خيرا لي" (4) .
ش- عبد الوارث بن سعيد التميمي البصري.
__________
(1) تفرد به أبو داود.
(2) في سنن أبي داود بعد الحديث: " قال أبو داود: وقال ابن السرح: إلى صلاة".
(3) في سنن أبي داود " باب في كراهية تمني الموت ".
(4) البخاري: كتاب المرضى باب: تمني المريض الموت (5671) ، مسلم: كتاب الفن باب: كراهة تمني الموت لضرر نزل به 10- (.2680) ، الترمذي: كتاب الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن التمني للموت (970) ، النسائي: كتاب الجنائز، باب: الدعاء بالموت (4/ 3، 4) ، ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له (4265) .

(6/25)


قوله: " لا يدعون " بنون التوكيد الثقيلة، و " الضر"- بالضم-
خلاف النفع، وكلمة "ما" في قوله: "ما كانت" للمدة، أي: ما دام
كون الحياة خيرا لي، وفي بعض/ النسخ " إذا كانت الحياة خيرا لي " والرواية الأولى أشهر وأصح. ويستفاد منه أن العبد يختار من الدعاء ما
هو خير لدينه أو لدنياه، فافهم.
1544- ص- نا محمد بن بشار، نا أبو داود، نا شعبة، عن قيادة، عن
أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يتمنيّنَّ
أحدُكم الموتَ " فذكر مثله (1) .
ش- أبو داود الطيالسي.
قوله: "مثله" أي: مثل الحديث المذكور الذي رواه عبد العزيز، عن
أنس- رضي الله عنه- وأخرجه: البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه- رحمهم الله-.