شرح الأربعين
النووية لابن دقيق العيد قل آمنت بالله ثم
استقم
21 - عن أبي عمرو - وقيل أبي عمرة - سفيان بن عبد الله رضي
الله عنه قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً
لا أسال عنه أحداً غيرك. قال: "قل آمنت بالله ثم استقم"
رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى قوله: "قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا
غيرك" أي علمني قولاً جامعاً لمعاني الإسلام واضحاً في
نفسه بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك أعمل عليه وأتقي به
فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: "قل آمنت بالله ثم
استقم".
هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم فإنه
جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين معاني الإسلام والإيمان
كلها فإنه أمره أن يجدد إيمانه بلسانه متذكراً بقلبه وأمره
أن يستقيم على أعمال الطاعات والانتهاء عن جميع المخالفات:
إذ لا تأتي الاستقامة مع شيء من الاعوجاج فإنها ضده وهذا
كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ
ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 1. الآية. أي آمنوا بالله وحده، ثم
استقاموا على ذلك، وعلى الطاعة إلى
__________
1 سورة فصلت: الآية 30.
(1/80)
أن توفاهم الله عليها. قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: "استقاموا والله على طاعته ولم يروغوا روغان
الثعلب" ومعناه: اعتدلوا على أكثر طاعة الله عقداً وقولاً
وفعلاً. وداموا على ذلك، وهذا معنى قوله أكثر المفسرين،
وهي معنى الحديث إن شاء الله تعالى.
وكذلك قوله سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} 1. قال
ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
جميع القرآن آية كانت أشق عليه من هذه الآية. ولذلك قال
صلى الله عليه وسلم: "شيبتني هود وأخواتها" 2.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيرى رحمه الله تعالى:
"الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها حصول
الخيرات ونظامها ومن لم يكن مستقيماً في حال سعيه ضاع سعيه
وخاب جده" قال وقيل: الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر
لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات
والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق ولذلك قال
النبى صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا" 3. وقال
الواسطي: الخصلة التي بها كملت المحاسن وبفقدها قبحت
المحاسن، والله أعلم.
__________
1 سورة هود: الآية 112.
2 رواه الترمذي في تفسير القرآن رقم 3297 عن ابن عباس قال:
قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شِبت، قال:
"شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا
الشمس كوّرت".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن
عباس إلا من هذا الوجه.
3 رواه أحمد 5/282 وتمامه: "استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن
خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".
(1/81)
الاقتصار على
الفرائض يدخل الجنة.
22 - عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله
عنهما: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال،
وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال:
"نعم". رواه مسلم. ومعنى حرمت الحرام: اجتنبته. ومعنى
أحللت الحلال: فعلته معتقداً حله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الرجل السائل هو النعمان بن قوقل - بقافين مفتوحتين -
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: الظاهر أنه
أراد بقوله: "وحرمت الحرام" أمرين أحدهما: أن يعتقد كونه
حراما. والثاني: أن لا يفعله. بخلاف تحليل الحلال فإنه
يكفي فيه مجرد اعتقاده حلالاً.
قال صاحب المفهم: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم للسائل
في هذا الحديث شيئاً من التطوعات على الجملة وهذا يدل على
جواز ترك التطوعات على الجملة لكن من تركها ولم يفعل شيئاً
فقد فوت على نفسه ربحاً عظيماً وثواباً جسيماً، ومن داوم
على ترك شيء من السنن كان ذلك نقصاً في دينه وقدحاً في
عدالته، فإن كان تركه تهاوناً ورغبة عنها كان ذلك فسقاً
يستحق به ذماً. قال علماؤنا: لو أن أهل بلدة تواطئوا على
ترك
(1/82)
سنة لقوتلوا عليها حتى يرجعوا. ولقد كان
صدر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يثابرون على فعل
السنن والفضائل مثابرتهم على الفرائض ولم يكونوا يفرّقون
بينهما في اغتنام ثوابها.
وإنما احتاج أئمة الفقهاء إلى ذكر الفرق لما يترتب عليه من
وجوب الإعادة وتركها وخوف العقاب على الترك ونفيه إن حصل
ترك بوجه ما. وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهه
على السنن والفضائل تسهيلاً وتيسيراً لقرب عهده بالإسلام
لئلا يكون الإكثار من ذلك تنفيراً، له وعلم أنه إذا تمكن
في الإسلام وشرح الله صدره رغب فيما رغب فيه غيره أو لئلاَ
يعتقد أن السنن والتطوعات واجبة فتركه لذلك.
وكذلك في الحديث الآخر: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه
وسلم عن الصلاة فأخبر أنها خمس, فقال: هل علي غيرها؟ قال:
"لا إلا أن تطوع", ثم سأله عن الصوم والحج والشرائع
فأجابه. ثم قال في آخر ذلك: والله لا أزيد على هذا ولا
أنقص منه. فقال: "أفلح إن صدق". وفي رواية: "إن تمسك بما
أمر به دخل الجنة" 1.
وإنما شرعت لتتميم الفرائض فهذا السائل والذي قبله إنما
تركهما النبي صلى الله عليه وسلم تسهيلاً عليهما إلى أن
تنشرح صدورهما بالفهم عنه، والحرص على تحصيل المندوبات
فيسهل عليهما.
وهذا يسمى بمحافظته على فرائضه وإقامتها والإتيان بها في
أوقاتها من غير إخلال بها - فلاحاً كثير الفلاح والنجاح -
وليتنا وفقنا - كذلك ومن أتى بالفرائض وأتبعها النوافل كان
أكثر فلاحاً منه.
__________
1 رواه مسلم في الإيمان باب بيان الإيمان الذي يدخل به
الجنة رقم 15.
(1/83)
الإسراع في الخير
23 - عن أبي مالك - الحارث بن عاصم - الأشعري رضي الله
عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر
الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله
تملآن أو تملأ - ما بين السماء والأرض، والصلاة نور،
والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل
الناس يغدو: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقد اشتمل على مهمات من
قواعد الإسلام والدين.
أما الطهور فالمراد به هنا الفعل - وهو بضم الطاء - على
المختار، واختلف في معناه فقيل: إن الأجر فيه ينتهي إلى
نصف أجر الإيمان، وقيل: المراد بالإيمان هنا الصلاة قال
تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 1.
والطهارة شرط في صحة الصلاة فصارت كالشطر ولا يلزم في
الشطر أن يكون نصفاً حقيقياً. وقيل غير ذلك.
__________
1 سورة البقرة: الآية 143.
(1/84)
وأما قوله: "والحمد لله تملأ الميزان"
فمعناه: أنها لعظم أجرها تملأ ميزان الحامد لله تعالى، وقد
تظاهرت نصوص القرآن والسنة على وزن الأعمال وثقل الموازين
وخفتها.
وكذلك قوله: "وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين
السماء والأرض" وسبب عظم فضلها ما اشتملت عليه من التنزيه
لله تعالى والافتقار إليه.
وقوله: "تملآن أو تملأ" ضبطه بعضهم بالتاء المثناة فوق وهو
صحيح فالأول ضمير مثنى والثاني ضمير هذه الجملة من الكلام.
وقال بعضهم: يجوز "يملآن" بالتذكير والتأنيث أما التأنيث
فعلى ما تقدم وأما التذكير فعلى إرادة النوعين من الكلام
وأما "تملأ" فيذكر على إرادة الذكر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "والصلاة نور" فمعناه أنها
تمنع من المعاصي وتنهي عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى
الصواب كما أن النور يستضاء به، وقيل: معناه أن يكون آخرها
نوراً لصاحبها يوم القيامة، وقيل: إنها تكون نوراً ظاهراً
على وجهه يوم القيامة ويكون في الدنيا أيضاً على وجهه
البهاء بخلاف من لم يصل، والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الصدقة برهان" فقال صاحب
التجريد: معناه أنه يفزع إليها كما يفزع للبراهين، كأن
العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت له صدقاته
براهين في جواب هذا السؤال فيقول: تصدقت به. وقال غيره:
معناه أن الصدقة حجة على إيمان فاعلها لأن المنافق يمتنع
منها لكونه لا يعتقدها فمن تصدق استدل بصدقته على قوة
إيمانه، والله أعلم.
(1/85)
أما قوله صلى الله عليه وسلم: "والصبر
ضياء" فمعناه: الصبر المحبوب في الشرع وهو الصبر على طاعة
الله تعالى والصبر على معصيته والصبر أيضاً على النائبات
وأنواع المكاره في الدنيا والمراد أن الصبر محمود لا يزال
صاحبه مستضيئاً به مهتدياً مستمراً على الصواب. قال
إبراهيم الخواص: الصبر هو الثبات على الكتاب والسنة. وقيل:
الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقال أبو علي
الدقاق رحمه الله: الصبر: أن لا يعترض على المقدور. فأما
إظهار البلاء على وجه الشكوى فلا ينافي الصبر قال الله
تعالى في حق أيوب عليه السلام: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ
صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 1 مع أنه
قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ} 2. والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "والقرآن حجة لك أو عليك"
فمعناه ظاهر أي تنتفع به إن تلوته وعملت به، وإلا فهو حجة
عليك.
وقوله: "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"
معناه: أن كل إنسان يسعى لنفسه فمنهم من يبيعها لله بطاعته
له فيعتقها من العذاب كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} 3. ومن يبيعها
للشيطان والهوى باتباعها فيوبقها أي يهلكها. اللهم وفّقنا
للعمل بطاعتك وجنبنا أن نوبق أنفسنا بمخالفتك.
__________
1 سورة ص: الآية 44.
2 سورة الأنبياء: الآية 83.
3 سورة التوبة: الآية 111.
(1/86)
تحريم الظلم.
24 - عن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "يا
عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا
تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا
عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي
إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً
فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني
ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم
وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد
ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من
ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم
قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص
ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا
عبادي إنما
(1/87)
هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن
وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا
نفسه". رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماًً" قال
بعض العلماء: معناه لا ينبغي لي ولا يجوز علي كما قال
تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً} 1. فالظلم محال في حق الله تعالى. قال بعضهم في
هذا الحديث: لا يسوغ لأحد أن يسأل الله تعالى أن يحكم له
على خصمه إلا بالحق لقوله سبحانه2: "إني حرمت الظلم على
نفسي" فهو سبحانه لا يظلم عباده فكيف يظن ظان أنه يظلم
عباده لغيره.
وكذلك قال: "فلا تظالموا" المعنى: المظلوم يقتص له من
الظالم وحذفت إحدى التاءين تخفيفاً أصله: فلا تتظالموا.
وقوله: "كلكم ضال إلا من هديته وكلكم عار إلا من كسوته
وكلكم جائع إلا من أطعمته" تنبيه على فقرنا وعجزنا عن جلب
منافعنا ودفع مضارنا إلا أن يعيننا الله سبحانه على ذلك،
وهو يرجع إلى معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله. وليعلم
العبد أنه إذا رأى آثار هذه النعمة عليه أن ذلك من عند
الله ويتعين عليه شكر الله تعالى وكلما ازداد من ذلك يزيد
في الحمد والشكر لله تعالى.
وقوله: "فاستهدوني أهدكم" أي اطلبوا مني الهداية أهدكم
والجملة في ذلك أن يعلم العبد أنه طلب الهداية من مولاه
فهداه ولو
__________
1 سورة مريم: الآية 92.
2 أي في هذا الحديث القدسي.
(1/88)
هداه قبل أن يسأله لم يبعد أن يقول: إنما
أوتيته على علم عندي. وكذلك "كلكم جائع" إلى آخره يعني أنه
خلق الخلق كلهم ذوي فقر إلى الطعام فكل طاعم كان جائعا حتى
يطعمه الله بسوق الرزق إليه وتصحيح الآلات التي هيأها له
فلا يظن ذو الثروة أن الزرق الذي في يده وقد رفعه إلى فيه
أطعمه إياه أحد غير الله تعالى وفيه أيضاً أدب للفقراء
كأنه قال: لا تطلبوا الطعام من غيري فإن هؤلاء الذين
تطلبون منهم أنا الذي أطعمهم "فاستطعموني أطعمكم" وكذلك ما
بعده.
وقوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار" في هذا الكلام من
التوبيخ ما يستحي منه كل مؤمن وكذلك أن الله خلق الليل
ليطاع فيه ويعبد بالإخلاص حيث تسلم الأعمال فيها غالباً من
الرياء والنفاق أفلا يستحي المؤمن أن لا ينفق الليل
والنهار [في الطاعة] فإنه خلق مشهوداً من الناس فينبغي من
كل فطن أن يطيع الله فيه أيضاً ولا يتظاهر بين الناس
بالمخالفة وكيف يحسن بالمؤمن أن يخطئ سراً أو جهراً لأنه
سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك: "وأنا أغفر الذنوب جمعياً"
فذكر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف وأكدها بقوله:
"جميعاً" وإنما قال ذلك قبل أمره إيماناً بالاستغفار لئلا
يقنط أحد من رحمة الله لعظم ذنب ارتكبه.
قوله: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم" إلى
آخره: فيه ما يدل على أن تقوى المتقين رحمة لهم وأنها لا
تزيد في ملكه شيئاً.
وأما قوله: "لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في
صعيد واحد" إلى آخره ففيه تنبيه الخلق على أن يعظموا
المسألة ويوسعوا الطلب ولا يقتصر سائل ولا يختصر طالب فإن
ما عند الله لا
(1/89)
ينقص وخزائنه لا تنفد فلا يظن ظان أن ما
عند الله يغيضه الإنفاق كمال قال صلى الله عليه وسلم في
الحديث الآخر: "يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل
والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم
يغض ما في يمينه" 1 وسر ذلك أن قدرته صالحة للإيجاد دائماً
لا يجوز عليها عجز ولا قصور والممكنات لا تنحصر ولا
تتناهى.
وقوله: "إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" هذا مثل قصد
به التقريب إلى الأفهام بما نشاهده، والمعنى: أن ذلك لا
ينقص مما عنده شيئاً، والمخيط بكسر الميم وإسكان الخاء
وفتح الياء هو الإبرة.
وقوله: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن
وجد خيراً فليحمد الله" يعني لا يسند طاعته وعبادته من
عمله لنفسه بل يسندها إلى التوفيق ويحمد الله على ذلك.
وقوله: "ومن وجد غير ذلك" لم يقل ومن وجد شراً يعني: ومن
وجد غير الأفضل فلا يلومن إلا نفسه، أكد ذلك بالنون،
تحذيراً أن يخطر في قلب عامل أن اللوم تستحقه غير نفسه.
والله أعلم.
__________
1 رواه البخاري في التوحيد باب وكان عرشه على الماء رقم
7419.
(1/90)
ذهب أهل الدثور
بالأجور
25 - عن أبي ذر رضي الله عنه أيضا أن ناساً من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور: يصلون كما نصلي،
ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: "أوليس قد
جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة
صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف
صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا
رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال:
"أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها
في الحلال كان له أجر" رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدثور: بضم الدال جمع دثر بفتحها وهو المال الكثير.
وقوله: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون" الرواية فيها
بتشديد الصاد والدال جميعاً ويجوز في اللغة تخفيف الصاد.
وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح وسائر الأذكار، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضار النية في المباحات وإنما
تصير طاعات بالنيات الصادقات.
(1/91)
وفيه دليل على جواز سؤال المستفتي عن بعض
ما يخفى علمه من الدليل إذا علم من حال المسؤول أنه لا
يكره ذلك ولم يكن فيه سوء أدب وذكر العالم الدليل على بعض
ما يخفى على السائل.
وقوله: "وأمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة" إشارة إلى
ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر آكد منه في التسبيح وما ذكر بعده: لأن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية وقد يتعين بخلاف
الأذكار التي تقع نوافل، وأجر الفرائض أكثر من أجر النفل
كما دل عليه قوله عز وجل: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي
مما افترضته عليه". رواه البخاري، قال بعض العلماء: يزيد
ثواب الفرض على ثواب النفل سبعين درجة واستأنس له بحديث.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "في بضع أحدكم صدقة" وهو
بضم الباء ويطلق على الجماع وعلى الفرج نفسه وكلاهما يصح
إرادته ها هنا، وقد تقدم أن المباحات تصير بالنيات طاعات
فالجماع يكون عبادة إذا نوى به الإنسان قضاء حق الزوجة
ومعاشرتها بالمعروف أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو
زوجته أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
وقولهم: "يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها
أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ "
إلى آخره: فيه جواز القياس وهو مذهب العلماء ولم يخالف فيه
إلا أهل الظاهر، وأما المنقول عن التابعين ونحوهم من ذم
القياس فليس المراد به القياس الذي يعهده الفقهاء
المجتهدون، وهذا القياس هو قياس العكس واختلف الأصوليون في
العمل به والحديث دليل لمن عمل به.
(1/92)
فضل الإصلاح بين
الناس والعدل بينهم وإعانتهم
26 - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "كل سُلامَى من الناس عليه صدقة، كل
يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في
دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة
الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط
الأذى عن الطريق صدقة" رواه البخاري ومسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "سلامى" بضم السين المهملة وتخفيف اللام: وهي
المفاصل والأعضاء وقد ثبت في صحيح مسلم أنها ثلاثمائة
وستون، قال القاضي عياض: وأصله عظام الكف والأصابع والأرجل
ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله. قال بعض العلماء:
المراد صدقة ترهيب وترغيب لا إيجاب وإلزام.
وقوله: "يعدل بين الإثنين صدقة" أي يصلح بينهما بالعدل،
وفي حديث آخر من رواية مسلم: "يصبح على كل سلامى من أحدكم
صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة
وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر
صدقة. ويجزى من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" أي يكفي من
هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان فإن الصلاة عمل لجميع
أعضاء الجسد فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته والله أعلم.
(1/93)
|