شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد

البر حسن الخلق
27 - عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" رواه مسلم. وعن وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "جئت تسأل عن البر؟ ", قلت: نعم. قال: "استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدرامي بإسناد حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق" يعني: أن حسن الخلق أعظم خصال البر كما قال: "الحج عرفة" 1 أما البر فهو الذي يبر فاعله ويلحقه بالأبرار وهم المطيعون لله عز وجل. والمراد بحسن الخلق الإنصاف في المعاملة والرفق في المحاولة والعدل في الأحكام والبذل في الإحسان وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله:
__________
1 رواه الترمذي في الحج باب 57 حديث رقم 889 وهو جزء من حديث.

(1/94)


{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1. وقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} . إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 2. وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} . إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} 3. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} 4. إلى آخر السوة. فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميعها علامة حسن الخلق وفقد جميعها علامة سوء الخلق ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده.
ولا يظن ظان أن حسن الخلق عبارة عن لين الجانب وترك الفواحش والمعاصي فقط وأن من فعل ذلك فقد هذب خلقه بل حسن الخلق ما ذكرناه من صفات المؤمنين والتخلق بأخلاقهم.
ومن حسن الخلق احتمال الأذى فقد ورد في الصحيحين: "أن أعرابياً جذب برد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشيته في عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك وأمر له بعطاء".
وقوله: "والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" يعني: هو الشيء الذي يورث نفرة في القلب وهذا أصل يتمسك به لمعرفة الإثم من البر: إن الإثم ما يحوك في الصدر ويكره صاحبه أن يطلع عليه الناس، والمراد بالناس والله أعلم أماثلهم ووجوههم لا غوغاؤهم، فهذا هو الإثم فيتركه والله أعلم.
__________
1 سورة الأنفال: الآية 2 – 4.
2 سورة التوبة: الآية 112.
3 سورة المؤمنون: الآية 1 - 10.
4 سورة الفرقان: الآية 63.

(1/95)


وجوب لزوم السنة
28 - عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيري اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي بعض طرق هذا الحديث "إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: "لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك". قوله: "موعظة بليغة"1: يعني بلغت إلينا وأثرت في قلوبنا. ووجلت منها القلوب: أي خافت. وذرفت منها العيون: كأنه قام مقام تخويف ووعيد.
وقوله: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" يعنى لولاة الأمور "وإن تأمر عليكم عبد" وفي بعض الروايات "عبد حبشي". قال بعض
__________
1 رواه الترمذي في العلم باب 16 الأخذ بالسنة واجتناب البدع رقم 2676.

(1/96)


العلماء: العبد لا يكون والياًَ ولكن ضرب به المثل على التقدير وإن لم يكن، كقوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجداً كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة" 1 ومفحص قطاة لا يكون مسجداً ولكن الأمثال يأتي فيها مثل ذلك. ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله حتى توضع الولاية في العبيد فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا تغليباً لأهون الضررين وهو الصبر على ولاية من لا تجوز ولايته لئلا يفضي إلى فتنة عظيمة.
وقوله: "وإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً" هذا من بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم: أخبر أصحابه بما يكون بعده من الاختلاف وغلبة المنكر وقد كان عالما به على التفصيل ولم يكن بينه لكل أحد إنما حذر منه على العموم وقد بين ذلك لبعض الآحاد كحذيفة وأبي هريرة وهو دليل على عظم محلهما ومنزلتهما.
وقوله: "فعليكم بسنتي" السنة الطريقة القويمة التي تجرى على السنن وهو السبيل الواضح "وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" يعني الذين شملهم الهدى وهم الأربعة بالإجماع: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهما أجمعين.
وأمر صلى الله عليه وسلم بالثبات على سنة الخلفاء الراشدين لأمرين: أحدهما: التقليد لمن عجز عن النظر.
__________
1 رواه ابن ماجه في المساجد والجماعات باب من بنى لله مسجداً رقم 738. القطاة: نوع من الطيور. وقوله: كمحفص قطاة: هو موضعها الذي تجثم فيه وتبيض، لأنها تفحص عنه التراب، وهذا مذكورة لإفادة المبالغة، وإلا فأقل المسجد أن يكون موضعاً لصلاة واحدٍ.

(1/97)


والثاني: الترجيح لما ذهبوا إليه عند اختلاف الصحابة.
وقوله: "وإياكم ومحدثات الأمور" اعلم أن المحدث على قسمين:
محدث ليس له أصل في الشريعة فهذا باطل مذموم.
ومحدث بحمل النظير على النظير فهذا ليس بمذموم لأن لفظ "المحدث" ولفظ "البدعة " لا يذمان لمجرد الاسم بل لمعنى المخالفة للسنة والداعي إلى الضلالة ولا يذم ذلك مطلقاً فقد قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} 1. وقال عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه"2 يعني التراويح.
وأما النواجذ فهي آخر الأضراس والله أعلم.
__________
1 سورة الأنبياء: الآية 2.
2 رواه البخاري في صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان رقم 2010. وأما قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه" فإنه يريد بها صلاة التراويح فإنه في حيز المدح، لأنه فعل من أفعال الخير، وحرص على الجماعة المندوب إليها، وإن كانت لم تكن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، فقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قطعها إشفاقاً من أن تُفرض على أمته، وكان عمر ممن نبّه عليها وسنّها على الدوام، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وقد قال في آخر الحديث "والتي تنامون عنها أفضل" تنبيهاً على أن صلاة آخر الليل أفضل، قال: وقد أخذ بذلك أهل مكة، فإنهم يصلون التراويح بعد أن يناموا.

(1/98)


ما يدخل الجنة
29 - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"، ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل", ثم تلا: {َتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ... } حتى بلغ: {يَعْمَلون} . ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ ", قلت: بلى يا رسول الله. قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد"، ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ ", قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه، وقال: "كف عليك هذا". قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟ ". رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

(1/99)


قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه" يعني: على من وفقه الله له ثم أرشده لعبادته مخلصاً له الدين: يعبد الله لا يشرك به شيئاً. ثم قال:
"وتقيم الصلاة": إقامتها: الإتيان بها على أكمل أحوالها.
ثم ذكر شرائع الإسلام من الزكاة والصوم والحج.
ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة" المراد بالصوم هنا: غير رمضان لأنه قد تقدم. ومراده الإكثار من الصوم، والجنة المجن. أي: الصوم سترة لك ووقاية من النار.
ثم قال: "الصدقة تطفئ الخطيئة" أراد بالصدقة هنا غير الزكاة.
ثم قال: "وصلاة الرجل في جوف الليل" ثم تلا: {َتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} 1. إلى قوله: {يَعْمَلون} 1. معناه: أن من قام في جوف الليل وترك نومه ولذته وآثر على ذلك ما يرجوه من ربه فجزاؤه ما في الآية من قوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2"3. وقد جاء في بعض الأخبار: "أن الله تعالى يباهي بقوام الليل في الظلام يقوم: انظروا إلى عبادي وقد قاموا في ظلم الليل حيث لا يراهم أحد غيري: أشهدكم أني قد أبحتهم دار كرامتي".
__________
1 سورة السجدة: الآية 16.
2 سورة السجدة: الآية 17.
3 رواه الترمذي في الإيمان باب 8 ما جاء في حرمة الصلاة رقم 2616. قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيح.

(1/100)


ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر؟ " إلى آخره. جعل الأمر كالفحل من الإبل وجعل الإسلام رأس هذا الأمر ولا يعيش الحيوان بغير رأس.
ثم قال: "وعموده الصلاة" عمود الشيء هو الذي يقيمه مما لا ثبات له في العادة بغير عمود.
وقوله: "وذروة سنامه الجهاد" وذروة كل شيء أعلاه وذورة سنام البعير: طرف سنامه والجهاد لا يقاومه شيء من الأعمال، كما روى أبو هريرة قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد. قال: "لا أجده"، قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟ ", قال: "ومن يستطيع ذلك؟ " 1.
وقوله: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت: بلى يا رسول الله قال: فأخذ بلسانه ثم قال: "كف عليك هذا" إلى آخره. حضه أولا على جهاد الكفر، ثم نقله إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس وقمعها عن الكلام فيما يؤذيها ويرديها فإنه جعل أكثر دخول الناس النار بسبب ألسنتهم حيث قال: "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟ " وقد تقدم في الحديث المتفق عليه "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" وفي حديث آخر: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" 2.
__________
1 رواه البخاري في الجهاد باب فضل الجهاد والسير رقم 2785.
2 رواه البخاري في الرقاق باب حفظ اللسان رقم 6474.

(1/101)


حقوق الله تعالى
30 - عن أبي ثعلبة الخشبي - جرثوم بن ناشر - رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها". حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "فرض" أي أوجب وألزم.
وقوله: "فلا تنتهكوها" أي فلا تدخلوا فيها وأما النهي عن البحث عما سكت الله عنه فهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" 1 قال بعض العلماء كانت بنو إسرائيل يسألون فيجابون ويعطون ما طلبوا حتى كان ذلك فتنة لهم وأدى ذلك إلى هلاكهم.
وكان الصحابة رضي الله عنهم قد فهموا ذلك وكفوا عن السؤال إلا فيما لا بد منه، وكان يعجبهم أن يجيء الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون ويعون.
__________
1 رواه مسلم في الحج باب فرض الحج مرة في العمر رقم 1337.

(1/102)


وقد بالغ قوم حتى قالوا: لا يجوز السؤال في النوازل للعلماء حتى تقع وقد كان السلف يقولون في مثلها: دعوها حتى تنزل إلا أن العلماء لما خافوا ذهاب العلم: أصّلوا وفرّعوا ومهّدوا وسطّروا.
واختلف العلماء في الأشياء قبل ورود الشرع بحكمها: أهل هي على الحظر أو على الإباحة أو الوقف؟ على ثلاث مذاهب وذلك مذكور في كتب الأصول.

(1/103)


الزهد الحقيقي.
31 - عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس: فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حث على التقلل من الدنيا والزهد فيها، وقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" 1 وقال: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" 2 وفي حديث آخر: "إن الزاهد في الدنيا
__________
1 رواه الترمذي في الزهد باب 24 ما جاء في تقارب الزمان وقصر الأمل رقم 2333. وتمامه: "وعد نفسك في أهل القبور"، فقال لي ابن عمر: إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد لله ما اسمك غداً".
2 تمام الحديث: "حب الدنيا رأس كلّ خطيئة، وحبك الشيء يعمي أو يصم". الفقرة الأولى: رواها البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن البصري مرسلاً، وإسناده إلى الحسن حسن، قال المناوي في فيض القدير: قال البيهقي: ولا أصل له من حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، أما الفقرة الثانية: "وحبك الشيء يعمي ويصم" فقد رواه أبو داود في الأدب باب في الهوى رقم 5130، وأحمد 5/194، و6/450 عن أبي الدرداء مرفوعاً.

(1/104)


يريح قلبه في الدنيا والآخرة والراغب في الدنيا يتعب قلبه في الدنيا والآخرة" 1.
واعلم أن من في الدنيا ضيف وما في يده عارية وأن الضيف مرتحل والعارية مردودة "والدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر"2 وهي مبغضة لأولياء الله محببة لأهلها، فمن شاركهم في محبوبهم أبغضوه.
وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل إلى تركها بالزهد فيها ووعد على ذلك حب الله تعالى وهو رضاه عنه فإن حب الله تعالى لعباده رضاه عنهم، وأرشده إلى الزهد فيما في أيدي الناس إن أراد محبة الناس له، والمال حب الدنيا فإنه ليس في أيدي الناس شيء يتباغضون عليه ويتنافسون فيه إلا الدنيا.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على بالية لا ينفد عذابها" 3.
__________
1 رواه الطبراني في الأوسط، وابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة.
2 هو من كلام علي رضي الله عنه في إحدى خطبه.
3 رواه الترمذي في صفة القيامة باب 30 رقم 2465.

(1/105)


لا ضرر ولا ضرار
32 - عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار" حديث حسن رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما مسنداً، ورواه مالك في الموطإ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اعلم أن من أضر بأخيه فقد ظلمه والظلم حرام كما تقدم في حديث أبي ذر "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" 1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" 2.
وأما قوله: "لا ضرر ولا ضرار" فقال بعضهم: هما لفظان بمعنى واحد تكلم بهما جميعاً على وجه التأكيد، وقال ابن حبيب: الضرر عند أهل العربية الاسم والضرار الفعل: فمعنى "لا ضرار" أي لا يدخل
__________
1 وهو الحديث رقم 24 من هذا الكتاب ورواه مسلم في البر والصلة باب تحريم الظلم رقم 2577.
2 رواه البخاري في عدة مواضع، منها، في حجّة الوداع وفي العلم باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب رقم 105.

(1/106)


أحد على أحد ضرراً لم يدخله على نفسه. ومعنى "لا ضرار" لا يضار أحد بأحد. وقال المحسني: الضرر هو الذي لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة وهذا وجه حسن المعنى. وقال بعضهم: الضرر والضرار مثل القتل والقتال فالضرر أن تضر من لا يضرك: والضرار: أن تضر من أضر بك من غير جهة الاعتداء بالمثل والانتصار بالحق وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" 1 وهذا معناه عند بعض العلماء: لا تخن من خانك بعد أن انتصرت منه في خيانته لك كأن النهي إنما وقع على الابتداء وأما من عاقب بمثل ما عوقب به وأخذ حقه فليس بخائن، وإنما الخائن من أخذ ما ليس له أو أكثر مما له.
واختلف الفقهاء في الذي يجحد حقا عليه ثم يظفر المجحود بمال للجاحد قد ائتمنه عليه أو نحو ذلك فقال بعضهم: ليس له أن يأخذ حقه في ذلك لظاهر قوله: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وقال آخرون: له أن ينتصر منه ويأخذ حقه من تحت يده واحتجوا بحديث عائشة في قصة هند مع أبي سفيان2 وللفقهاء في هذه المسألة وجوه واعتلالات ليس هذا موضوع ذكرها. والذي يصح في النظر: أنه ليس لأحد يضر بأخيه سواء ضره أم لا إلا أن له أن ينتصر ويعاقب إن قدر بما أبيح له بالحق وليس ذلك ظلماً ولا ضراراً إذا كان على الوجه الذي أباحته السنة.
__________
1 رواه الترمذي في البيوع باب 38 رقم 1264. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
2 الحديث عن عائشة: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلاّ ما أخذت منه ولا يعلم. فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
رواه مسلم في الأقضية باب قضية هند رقم 1714.

(1/107)


وقال الشيخ أبو عمرو بن صلاح رحمه الله: أسند الدارقطني هذا الحديث من وجوه مجموعها يقوي الحديث ويحسنه وقد نقله جماهير أهل العلم واحتجوا به فعن أبي داود قال: الفقه يدور على خمسة أحاديث وعد هذا الحديث منها. قال الشيخ: فعد أبي داود له من الخمسة وقوله فيه: يشعر بكونه عنده غير ضعيف، وقال فيه: هو على مثال ضرار وقتال وهو على ألسنة كثير من الفقهاء والمحدثين "لاضرر ولا إضرار" بهمزة مكسورة قبل الضاد ولا صحة لذلك.

(1/108)


البينة على المدعي واليمين على من أنكر
33 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر". حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي في الصحيحين من هذا الحديث: قال ابن أبي مليكة: كتب ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه" وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" 1. قال صاحب الأربعين: روى هذا الحديث البخاري ومسلم في صحيحيهما مرفوعاَ من رواية ابن عباس وهكذا رواه أصحاب كتب السنن وغيرهم وقال الأصيلي: لا يصح رفعه إنما هو من قول ابن عباس، قال المصنف: إذا صح رفعه بشهادة الإمامين فلا يضر من وقفه ولا يكون ذلك تعارضاً ولا اضطراباً.
وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام وأعظم مرجع عند التنازع والخصام ويقتضي أن لا يحكم لأحد بدعواه.
__________
1 رواه مسلم في الأقضية باب اليمين على المدعى عليه رقم 1711.

(1/109)


قوله: "لادعى رجال دماء رجال وأموالهم" استدل به بعض الناس على إبطال قول مالك في سماع قول القتيل فلان قتلني أو دمي عند فلان. لأنه إذا لم يسمع قول المريض: له عند فلان دينار أو درهم، فلأن لا يسمع: دمي عند فلان بطريق الأولى، ولا حجة لهم على مالك في ذلك لأنه لم يسند القصاص أو الدية إلى قول المدعي بل إلى القسامة على القتل ولكنه يجعل قول القتيل دمي عند فلان لوثاً1 يقوى بينة المدعين حتى يبرؤوا بالأيمان كسائر أنواع اللوث.
قوله: "ولكن اليمين على المدعى عليه" أجمع العلماء على استحلاف المدعى عليه في الأموال واختلفوا في غير ذلك: فذهب بعضهم إلى وجوبها على كل مدعى عليه في حق أو طلاق أو نكاح أو عتق أخذاً بظاهر عموم الحديث فإن نكل حلف المدعي وثبتت دعواه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يحلف على الطلاق والنكاح والعتق وإن نكل لزمه ذلك كله قال: ولا يستحلف في الحدود.
__________
1 اللوث: أن يشهد في القسامة شاهدٌ واحدٌ على إقرار المقتول. والمراد ما يدل على التلطخ بالدم والتهمة.

(1/110)