شرح الأربعين
النووية لابن دقيق العيد التجاوز عن المخطئ
والناسي والمكره.
39 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه" حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي
وغيرهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد جاء في التفسير في قوله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا
فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ
اللَّهُ} 1. أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي
الله عنهم فجاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن
جبل في أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا:
كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدّث نفسه بما لا
يحبّ أن يثبت في قلبه وأن له الدنيا فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "لعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا
وعصينا, قولوا: سمعنا وأطعنا", واشتد ذلك عليهم ومكثوا
حولاً فأنزل الله تعالى الفرج والرحمة بقوله: {لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا
تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 2. قال الله
تعالى: قد فعلت إلى آخرها فنزل التخفيف ونسخت الآية
الأولى.
__________
1 سورة البقرة: الآية 284.
2 سورة البقرة: الآية 286.
(1/130)
قال البيهقي: قال الشافعي رحمه الله: قال
الله جل ثناؤه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 1. وللكفر أحكام فلما وضع الله
عنه الكفر سقطت أحكام الإكراه عن القول كلها لأن الأعظم
إذا سقط سقط ما هو أصغر منه ثم أسند عن ابن عباس رضي الله
عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 2 وأسند عن
عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"3 وهو مذهب عمر وابن عمر وابن
الزبير وتزوج ثابت بن الأحنف أم ولد لعبد الرحمن بن زيد بن
الخطاب فأكره بالسياط والتخويف على طلاقها في خلافة ابن
الزبير فقال له ابن عمر: لم تطلق عليك ارجع إلى أهلك وكان
ابن الزبير بمكة فلحق به وكتب له إلى عامله على المدينة:
أن يرد إليه زوجته وأن يعاقب عبد الرحمن بن زيد فجهزتها له
صفية بنت أبي عبيد زوجة عبد الله بن عمر وحضر عبد الله بن
عمر عرسه. والله أعلم.
__________
1 سورة النحل: الآية 106.
2 رواه ابن ماجه في الطلاق باب طلاق المكروه والناس رقم
2043.
3 رواه أبو داود في الطلاق باب الطلاق على غلط رقم 2193.
قال أبو داود: الأغلاق: الغضب.
(1/131)
الدنيا وسيلة ومزرعة
للآخرة
40 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو
عابر سبيل" وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: إذا
أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ
من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام أبو الحسن علي بن خلف في شرح البخاري: قال أبو
الزناد: معنى هذا الحديث الحض على قلة المخالطة وقلة
الاقتناء والزهد في الدنيا. قال أبو الحسن: بيان ذلك أن
الغريب قليل الانبساط إلى الناس مستوحش منهم إذ لا يكاد
يمر بمن يعرفه ويأنس به ويستكثر من مخالطته فهو ذليل خائف،
وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه، وخفته
من الأثقال غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره ليس معه إلا
زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده وهذا يدل على إيثار
الزهد في الدنيا ليأخذ البلغة منها والكفاف كما لا يحتاج
المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره كذلك لا يحتاج
المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه.
وقال العز علاء الدين بن يحيى بن هبيرة رحمه الله: في هذا
(1/132)
الحديث ما يدل على أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حض على التشبه بالغريب لأن الغريب إذا دخل بلدة
لم ينافس أهلها في مجالسهم ولا يجزع أن يراه أحد على خلاف
عادته في الملبوس ولا يكون متدابراً معهم وكذلك عابر
السبيل لا يتخذ داراً، ولا يلج في الخصومات مع الناس
يشاحنهم، ناظراً إلى أن لبثه معهم أيام يسيرة: فكل أحوال
الغريب وعابر السبيل مستحبة أن تكون للمؤمن في الدنيا لأن
الدنيا ليست وطناً له. لأنها تحبسه عن داره وهي الحائلة
بينه وبين قراره.
وأما قول ابن عمر: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت
فلا تنتظر المساء" فهو حض منه على أن المؤمن يستعد أبداً
للموت. والموت يستعد له بالعمل الصالح. وحض على تقصير
الأمل: أي لا تنتظر بأعمال الليل الصباح. بل بادر بالعمل،
وكذلك إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وتؤخر أعمال الصباح
إلى الليل.
قوله: "وخذ من صحتك لمرضك" حض على اغتنام صحته فيجتهد فيها
خوفا من حلول مرض يمنعه من العمل. وكذلك قوله "ومن حياتك
لموتك" تنبيه على اغتنام أيام حياته لأن من مات انقطع عمله
وفات أمله وعظمت حسرته على تفريطه وندمه وليعلم أنه سيأتي
عليه زمان طويل وهو تحت التراب لا يستطيع عملا ولا يمكنه
أن يذكر الله عز وجل فيبادر في زمن سلامته فما أجمع هذا
الحديث لمعاني الخير وأشرفه.
وقال بعضهم: قد ذم الله تعالى الأمل وطوله وقال: {ذَرْهُمْ
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 1. وقال علي رضي الله عنه: "ارتحلت
الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون
__________
1 سورة الحجر: الآية 3.
(1/133)
فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من
أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل"1.
وقال أنس رضي الله عنه: خط النبي صلى الله عليه وسلم
خطوطاً فقال: "هذا الإنسان وهذا الأمل وهذا الأجل فبينما
هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب" 2 وهو أجله المحيط به وهذا
تنبيه على تقصير الأمل واستقصار الأجل خوف بغيته ومن غيب
عنه أجله فهو جدير بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه في حال
غرة وغفلة فليرض المؤمن نفسه على استعمال ما نبه عليه
ويجاهد أمله وهواه فإن الإنسان مجبول على الأمل. قال عبد
الله بن عمر رضي الله عنهما: رآني رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا أطين حائطاً لي أنا وأمي، فقال: "ما هذا يا عبد
الله؟ ", فقلت: يا رسول الله قد وهى فنحن نصلحه. فقال: "ما
أرى الأمر إلا أسرع من ذلك" 3. نسأل الله العظيم أن يلطف
بنا وأن يزهدنا في الدنيا وأن يجعل رغبتنا فيما لديه
وراحتنا يوم القيامة إنه جواد كريم غفور رحيم.
__________
1 رواه البخاري في الرقاق باب في الأمل وطوله تعليقاً.
2 رواه البخاري في الرقاق باب في الأمل وطوله رقم 6418.
3 رواه الترمذي في الزهد باب ما جاء في قصر الأمل رقم
2335. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(1/134)
علامة الإيمان
41 - عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن
أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" حديث حسن صحيح،
رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث كقوله سبحانه وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ} 1. وسبب نزولها: "أن الزبير رضي الله عنه كان
بينه وبين رجل من الأنصار خصومة في ماء فتحاكما إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اسق يا زبير وسرح الماء
إلى جارك، يحضه بذلك على المسامحة والتيسير فقال الأنصاري:
أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم قال: "يا زبير احبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم سرحه" 2
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشار على الزبير
بما فيه مصلحة الأنصاري فلما أحفظه الأنصاري، بما قال أي
أغضبه استوعب للزبير حقه الذي يجب له فنزلت هذه الآية.
__________
1 سورة النساء: الآية 65.
2 رواه البخاري في المساقاة باب سكر الأنهار رقم 2359 -
2360.
(1/135)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في
حديث آخر أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى
أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" 1 قال أبو
الزناد: هذا من جوامع الكلم: لأنه قد جمعت هذه الألفاظ
اليسيرة معاني كثيرة لأن أقسام المحبة ثلاثة: محبة إجلال
وعظمة كمحبة الوالد ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد ومحبة
استحسان ومشاكلة كمحبة سائر الناس فحصر أصناف المحبة.
قال ابن بطال: ومعنى الحديث والله أعلم أن من استكمل
الإيمان علم أن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضله آكد
عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين لأن بالرسول صلى الله
عليه وسلم استنقذه الله عز وجل من النار، وهداه من الضلال.
والمراد بالحديث: بذل النفس دونه صلى الله عليه وسلم وقد
كانت الصحابة رضي الله عنهم يقاتلون معه آباءهم وأبناءهم
وإخوانهم، وقد قتل أبو عبيدة أباه لإيذائه رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وتعرض أبو بكر رضي الله عنه يوم بدر لولده
عبد الرحمن لعله يتمكن منه فيقتله. فمن وجد هذا منه فقد صح
أن هواه تبع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
1 رواه البخاري في الإيمان باب حب الرسول صلى الله عليه
وسلم من الإيمان رقم 15.
(1/136)
سعة مغفرة الله
تعالى
42 - عن أنس رضي الله عنه قال، سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما
دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن
آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا
ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي
شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة" رواه الترمذي وقال: حديث حسن
صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في هذا الحديث بشارة عظيمة وحلم وكرم عظيم وما لا يحصى من
أنواع الفضل والإحسان والرأفة والرحمة والامتنان، ومثل هذا
قوله صلى الله عليه وسلم: "لله أفرح بتوبة عبده من أحد كم
بضالته لو وجدها" 1.
وعن أبي أيوب رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال: كنت قد
كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
سمعته يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون
فيغفر لهم" 2. وقد جاءت أحاديث كثيرة موافقة لهذا الحديث.
__________
1 رواه مسلم في التوبة باب الحض على التوبة رقم 2675.
2 رواه مسلم في التوبة باب سقوط الذنوب رقم 2748.
(1/137)
قوله: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني"
هذا موافق لقوله: "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" 1
وقد جاء "أن العبد إذا أذنب ثم ندم فقال: أي ربي أذنبت
ذنباً فاغفر لي ولا يغفر الذنوب إلا أنت قال: فيقول الله
تعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم
أني قد غفرت له ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة فيقول الله عز
وجل في كل مرة مثل ذلك ثم يقول: اعمل ما شئت فقد غفرت لك"
2. يعني لما أذنبت واستغفرت.
واعلم أن للتوبة ثلاثة شروط: الإقلاع عن المعصية، والندم
على ما فات، والعزم على أن لا يعود، وإن كانت حق آدمي
فليبادر بأداء الحق إليه والتحلل منه، وإن كانت بينه وبين
الله تعالى وفيها كفارة فلا بد من فعل الكفارة وهذا شرط
رابع فلو فعل الإنسان مثل هذا في اليوم مراراً وتاب التوبة
بشروطها فإن الله يغفر له.
قوله: "على ما كان منك" أي من تكرار معصيتك، "ولا أبالي":
أي ولا أبالي بذنوبك.
قوله: "يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني
غفرت لك" أي لو كانت أشخاصاً تملأ ما بين السماء والأرض
وهذا نهاية الكثرة ولكن كرمه وحلمه سبحانه وعفوه أكثر
وأعظم وليس بينهما مناسبة ولا التفضيل له هنا مدخل فتتلاشى
ذنوب العالم عند حلمه وعفوه.
__________
1 رواه البخاري في التوحيد باب قول الله تعالى:
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} . رقم 7405.
2 رواه البخاري في التوحيد باب قول الله تعالى:
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} . رقم 7507.
بلفظ مختلف.
(1/138)
قوله: "يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب
الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها
مغفرة" أي أتيتني بما يقارب مثل الأرض.
قوله: "ثم لقيتني" أي مت على الإيمان لا تشرك بي شيئا ولا
راحة للمؤمن دون لقاء ربه وقد قال الله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1. وقد قال صلى الله عليه
وسلم: "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" 2.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "حسن الظن بالله من حسن عبادة الله" 3.
__________
1 سورة النساء: الآية 48.
2 رواه أبو داود في الصلاة باب الاستغفار رقم 1514. وأخرجه
الترمذي أيضاً رقم 3554 وقال: حديث غريب إنما نعرفه من
حديث أبي نُصيرة وليس إسناده بالقوي.
3 رواه أبو داود في الأدب باب حسن الظن رقم 4993 ولفظه:
"حسن الظن من حسن العبادة".
(1/139)
|