شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد

النهي عن المنكر من الإيمان
34 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أورد مسلم هذا الحديث عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة فقال: قد ترك ما هناك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره" إلى آخره. وفي هذا الحديث دليل على أنه لم يعمل بذلك أحد قبل مروان. فإن قيل: كيف تأخر أبو سعيد عن تغيير هذا المنكر حتى أنكره هذا الرجل. قيل: يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضراً أول ما شرع مروان في تقديم الخطبة وأن الرجل أنكره عليه ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام. ويحتمل أنه كان حاضراً لكنه خاف على نفسه إن غيّر حصول فتنة بسبب إنكاره فسقط عنه الإنكار ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار فبدره الرجل فعضده أبو سعيد والله أعلم، وقد جاء في الحديث الآخر الذي اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجاه في باب صلاة العيدين: أن أبا سعيد هو الذي جذب بيد مروان حين أراد أن

(1/111)


يصعد المنبر وكانا جميعا فردّ عليه مروان بمثل ما رد هنا على الرجل فيحتمل أنهما قضيتان.
وأما قوله: "فليغيره" فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة وقد تطابق الكتاب والسنة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين. وأما قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 1. فليس مخالفاً لما ذكرنا لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية الكريمة أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به لا يضركم تقصير غيركم مثل قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2. وإذا كان كذلك فمما كلف به المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول والله أعلم.
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقي وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر.
ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر ويقصر.
قال العلماء: ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يقبل في ظنه بل يجب عليه فعله قال الله تعالى: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 3. وقد تقدم أن عليه أن يأمر وينهى، وليس عليه
__________
1 سورة المائدة: الآية 105.
2 سورة الأنعام: الآية 164.
3 سورة الذريات: الآية 55.

(1/112)


القبول، قال الله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} 1. قال العلماء: ولا يشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به. مجتنباً ما ينهى عنه بل عليه الأمر. وإن كان مرتكباً خلاف ذلك لأنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها. وأن يأمر غيره وينهاها. فإذا أخذ بأحدهما لا يسقط عنه الآخر.
قالوا: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأصحاب الولاية بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين وإنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه فإن كان من الأمور الظاهرة مثل: الصلاة والصوم والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك، فكل المسلمين علماء بها وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالاجتهاد ولم يكن للعوام فيه مدخل فليس لهم إنكاره بل ذلك للعلماء.
والعلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن على أحد المذهبين: أن كل مجتهد مصيب وهو المختار عند كثير من المحققين. وعلى المذهب الآخر: أن المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم موضوع عنه لكن على جهة النصيحة للخروج من الخلاف فهو حسن مندوب إلى فعله برفق.
قال الشيخ محي الدين رحمه الله: واعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدّاً وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح وإذا لم يأخذوا على يد
__________
1 سورة المائدة: الآية 99.

(1/113)


الظالم أوشك أن يعمهم الله بعذاب، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضى الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم لاسيما وقد ذهب معظمه ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} 2. واعلم أن الأجر على قدر النصب ولا يتركه أيضاً لصداقته ومودته: فإن الصديق للإنسان هو الذي يسعى في عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه وعدوه من يسعى في ذهاب آخرته أو نقصها وإن حصل بسببه نفع في دنياه.
وينبغى للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون من ذلك برفق ليكون أقرب إلى تحصيل المقصود فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وعابه.
ومما يتساهل الناس فيه من هذا الباب: ما إذا رأوا إنساناً يبيع متاعاً أو حيواناً فيه عيب ولا يُبيُّنه فلا ينكرون ذلك ولا يعرفون المشتري بعيبه وهم مسئولون عن ذلك فإن الدين النصيحة، ومن لم ينصح فقد غش.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" معناه: فلينكره بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير لكنه هو الذي في وسعه.
__________
1 سورة النور: الآية 63.
2 سورة الحج: الآية 40.

(1/114)


وقوله: "وذلك أضعف الإيمان" معناه - والله أعلم - أقله ثمرة. وليس للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر البحث والتفتيش والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن عثر على منكر غيّره، وقال الماوردى: ليس له أن يقتحم ويتجسس إلا أن يخبره من يثق بقوله أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزنى بها. فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدركه.
وقوله: "وذلك أضعف الإيمان" قد ذكر أن معناه أقله ثمرة. وقد جاء في رواية أخرى1: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" أي لم يبق وراء ذلك مرتبة أخرى والإيمان في هذا الحديث بمعنى الإسلام.
وفي هذا الحديث دليل على أن من خاف القتل أو الضرب سقط عنه التغيير وهو مذهب المحققين سلفاً وخلفاً وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك.
__________
1 رواه مسلم في الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم 80.

(1/115)


أخوة الإسلام
35 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره. التقوى ههنا - ويشير إلى صدور ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه " رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "لا تحاسدوا" الحسد: تمني زوال النعمة وهو حرام وفي حديث آخر: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو الخشب" 1 فأما الغبطة فهي تمني حال المغبوط من غير أن يريد زوالها. عنه وقد يوضع الحسد موضع الغبطة لتقاربهما كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين" 2 أي لا غبطة.
__________
1 رواه أبو داود في الأدب باب الحسد رقم 4903.
2 رواه البخاري في العلم باب الاغتباط في العلم والحكمة رقم 73 وأطرافه في 1409، 7141، 7316.

(1/116)


قوله: "ولا تناجشوا" أصل النجش الختل: وهو الخداع ومنه قيل للصائد ناجش - لأنه يختل الصيد ويحتال له.
قوله: "ولا تباغضوا" أي لا تتعاطوا أسباب التباغض لأن الحب والبغض معان قلبية لا قدرة للإنسان على اكتسابها ولا يملك التصرف فيها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" 1 يعني القلب.
والتدابر: المعاداة وقيل المقاطعة لأن كل واحد يؤتى صاحبه دبره.
قوله: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" معناه: أن يقول لمن اشترى سلعة في مدة الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله أو أجود بثمنه أو يكون المتبايعان قد تقرر الثمن بينهما وتراضيا به ولم يبق إلا العقد فيزيد عليه أو يعطيه بأنقص وهذا حرام بعد استقرار الثمن وأما قبل الرضى فليس بحرام.
ومعنى "وكونوا عباد الله إخواناً" أي تعاملوا وتعاشروا معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلوب والنصيحة بكل حال.
قوله: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره" والخذلان: ترك الإعانة والنصرة ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم أو نحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي.
قوله: "ولا يحقره" هو بالحاء المهملة والقاف: أي لا يتكبر عليه
__________
1 رواه أبو داود في النكاح باب في القسم بين النساء رقم 2134.

(1/117)


ويستصغره قال القاضي عياض: ورواه بعضهم بضم الياء وبالخاء المعجمة وبالفاء: أي لا يغدر بعهده ولا ينقض أيمانه والصواب المعروف هو الأول.
قوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات وفي رواية: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" 1 معناه أن الأعمال الظاهرة لا تُحصّل التقوى وإنما تقع التقوى بما في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته ونظر الله تعالى - أي رؤيته محيطة بكل شيء. ومعنى الحديث - والله أعلم: مجازاته ومحاسبته وأن الاعتبار في هذا كله بالقلب.
قوله: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" فيه تحذير عظيم من ذلك لأن الله تعالى لم يحقره إذ خلقه ورزقه ثم أحسن تقويم خلقه وسخر ما في السموات وما في الأرض جميعاً لأجله وإن كان له ولغيره فله من ذلك حصة ثم إن الله سبحانه سماه مسلماً ومؤمناً وعبداً وبلغ من أمره إلى أن جعل الرسول منه إليه محمداً صلى الله عليه وسلم فمن حقر مسلماً من المسلمين فقد حقر ما عظم الله عز وجل وكافيه ذلك، فإن من احتقار المسلم للمسلم: أن لا يسلم عليه إذا مر، ولا يرد عليه السلام إذا بدأه به، ومنها أن يراه دون أن يدخله الله الجنة أو يبعده من النار.
وأما ما ينقمه العاقل على الجاهل والعدل على الفاسق فليس ذلك احتقاراً يعنى المسلم بل لما اتصف به الجاهل من الجهل والفاسق من الفسق فمتى فارق ذلك راجعه إلى احتفاله به ورفع قدره.
__________
1 رواه مسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم ظلم المسلم رقم 2564.

(1/118)


فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.
36 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" رواه مسلم بهذا اللفظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب فيه فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما يتيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة أو غير ذلك. ومعنى تنفيس الكربة إزلتها.
قوله: "من ستر مسلماً" الستر عليه أن يستر زلاته والمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفاً بالفساد وهذا في ستر

(1/119)


معصية وقعت وانقضت أما إذا علم معصيته وهو متلبس بها فيجب المبادرة بالإنكار عليه ومنعه منها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إن لم يترتب على ذلك مفسدة فالمعروف بذلك لا يستر عليه لأن الستر على هذا يطمعه في الفساد والإيذاء وانتهاك المحرمات وجسارة غيره على مثل ذلك بل يستحب أن يرفعه إلى الإمام إن لم يخف من ذلك مفسدة وكذلك القول في جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فيجب تجريحهم عند الحاجة ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة.
قوله: "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" هذا الإجمال لا يسع تفسيره إلا أن منه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه ينبغي أن لا يجبن عن إنفاذ قول أو صدع بحق إيماناً بأن الله تعالى في عونه، وفي الحديث: فضل التيسير على المعسر وفضل السعي في طلب العلم ويلزم من ذلك فضل الاشتغال بالعلم والمراد العلم الشرعي ويشترط أن يقصد به وجه الله تعالى وإن كان شرطاً في كل عبادة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم" هذا دليل على فضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد. و"السكينة" ها هنا قيل: المراد بها الرحمة وهو ضعيف لعطف الرحمة عليها وقال بعضهم: السكينة الطمأنينة والوقار وهذا أحسن، وفي قوله: "وما اجتمع قوم" هذا نكرة شائعة في جنسها كأنه يقول: أي قوم اجتمعوا على ذلك كان لهم ما ذكره من الفضل كله فإنه لم يشترط صلى الله عليه وسلم هنا فيهم أن يكونوا علماء ولا زهاداً ولا ذوي مقامات

(1/120)


ومعنى "حفتهم الملائكة" أي حافتهم من قوله عز وجل: {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} 1. أي محدقين محيطين به مطيفين بجوانبه. فكأن الملائكة قريب منهم قرباً حفتهم حتى لم تدع فرجة تتسع لشيطان.
قوله: "وغشيتهم الرحمة" لا يستعمل غشي إلا في شيء شمل المغشي من جميع أجزائه، قال الشيخ شهاب الدين بن فرج: والمعنى في هذا فيما أرى أن غشيان الرحمة يكون بحيث يستوعب كل ذنب تقدم إن شاء الله تعالى.
قوله: "وذكرهم الله فيمن عنده" يقتضي أن يكون ذكر الله تعالى لهم في الأنبياء وكرام الملائكة والله أعلم.
__________
1 سورة الزمر: الآية 75.

(1/121)


فضل الله تعالى ورحمته.
37 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك: فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة". رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.
فانظر يا أخي وفّقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله تعالى وتأمل هذه الألفاظ. وقوله: "عنده" إشارة إلى الاعتناء بها. وقوله: "كاملة" للتأكيد وشدة الاعتناء بها. وقال: في السيئة التي هم بها ثم تركها: "كتبها الله عنه حسنة كاملة" فأكدها بـ "كاملة" وإن عملها كتبها سيئة واحدة فأكد تقليلها بـ "واحدة" ولم يؤكّدها بـ "كاملة" فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه. وبالله التوفيق.

(1/122)


قال الشراح لهذا الحديث: هذا حديث شريف عظيم بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم مقدار تفضل الله عز وجل على خلقه: بأن جعل هم العبد بالحسنة وإن لم يعملها حسنة وجعل همه بالسيئة وإن لم يعملها حسنة وإن عملها سيئة واحدة فإن عمل الحسنة كتبها الله عشراً، وهذا الفضل العظيم بأن ضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات. وإنما جعل الهم بالحسنات حسنة لأن إرادة الخير هو فعل القلب لعقد القلب على ذلك. فإن قيل: فكان يلزم على هذا القول: أن يكتب لمن هم بالسيئة ولم يعملها سيئة لأن الهم بالشيء عمل من أعمال القلب أيضاً، قيل: ليس كما توهمت فإن من كف عن الشر فقد فسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشر فجوزي على ذلك بحسنة، وقد جاء في حديث آخر: "إنما تركها من جرّائي" 1 أى من أجلى وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقة" قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فليمسك عن الشر فإنه صدقة" 2 ذكره البخاري في كتاب الآداب فأما إذا ترك السيئة مكرهاً على تركها أو عاجزاً عنها فلا تكتب له حسنة ولا يدخل في معنى هذا الحديث.
قال الطبري: وفي هذا الحديث تصحيح مقالة من قال: إن الحفظة تكتب ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة وتعلم اعتقاده لذلك ورد لمقالة من زعم أن الحفظة إنما تكتب ما ظهر من أعمال العبد أو سُمِع. والمعنى: أن الملكين الموكلين بالعبد يعلمان ما يهم به بقلبه ويجوز أن
__________
1 رواه مسلم في الإيمان باب إذا هم بحسنة كتبت رقم 205.
2 رواه البخاري في الأدب باب كل معروف صدقة رقم 6022.

(1/123)


يكون قد جعل الله تعالى لهم سبيلاً إلى علم ذلك كما جعل لكثير من الأنبياء سبيلاً في كثير من علم الغيب. وقد قال الله في حق عيسى عليه السلام أنه قال لبني إسرائيل: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} 1. ونبينا صلى الله عليه وسلم قد أخبر بكثير من علم الغيب فيجوز أن يكون قد جعل الله للملكين سبيلاً إلى علم ما في قلب بني آدم من خير أو شر فيكتبانه إذا عزم عليه. وقد قيل: إن ذلك بريح تظهر لهما من القلب، وللسلف اختلاف في أي الذكرين أفضل: ذكر القلب أو ذكر العلانية؟ هذا كله قول ابن خلف المعروف بابن بطال. وقال صاحب الإفصاح2 في كلام له: وإن الله تعالى لما صرم هذه الأمة أخلفها على ما قصر من أعمارها بتضعيف أعمالها فمن هم بحسنة احتسب له بتلك الهمة حسنة كاملة لأجل أنها همة مفردة وجعلها كاملة لئلا يظن ظان أن كونها مجرد همة تنقص الحسنة أو تهضمها فبين ذلك، بأن قال حسنة كاملة وإن هم بالحسنة وعملها فقد أخرجها من الهمة إلى ديوان العمل وكتب له بالهمة حسنة ثم ضوعفت يعني إنما يكون ذلك على مقدار خلوص النية وإيقاعها في مواضعها.
ثم قال: بعد ذلك "إلى أضعاف كثيرة" هنا نكرة وهي أشمل من
__________
1 سورة آل عمران: الآية 49.
2 هو الوزير عون الدين أبو المظفر، يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي المتوفى سنة 560 هـ، وكتابه "الإفصاح عن معاني الصحاح" وهو شرح أحاديث الصحيحين بجمع الحميدي.

(1/124)


المعرفة فيقتضي على هذا أن يحسب توجيه الكثرة على أكثر ما يكون ثم يقدر ليتناول هذا الوعد الكريم بأن يقول: إذا تصدق الآدمي بحبة بر فإنه يحسب له ذلك في فضل الله تعالى: أنه لو بذرت تلك الحبة في أزكى أرض وكان لها من التعاهد والحفظ والري ما يقتضيه حالها ثم استحصدت، فظهر في حاصلها، ثم قدر لذلك الحاصل أن يدرس في أزكى أرض وكان التعاهد له على ما تقدم ذكره، ثم هكذا في السنة الثانية ثم في السنة الثالثة والرابعة وما بعدها ثم يستمر ذلك إلى يوم القيامة، فتأتي الحبة من البر والخردل والخشخاش أمثال الجبال الرواسي وإن كانت الصدقة مثقال ذرة من جنس الإيمان، فإنه ينظر إلى ربح شيء يشتري في ذلك الوقت، ويقدر أنه لو بيع في أنفق سوق في أعظم بلد يكون ذلك الشيء فيه أشد الأشياء نفاقاً1 ثم تضاعف ويتردد هذا إلى يوم القيامة فتأتي الذرة بما يكون مقدارها على قدر عظم الدنيا كلها: وعلى هذا جميع أعمال البر في معاملة الله عز وجل إذا خرجت سهامها عن نية خالصة وأفرغت في نوع قوس الإخلاص.
ومن ذلك أيضا: أن فضل الله تعالى يتضاعف بالتحويل في مثل أن يتصدق الإنسان على فقير بدرهم فيؤثر الفقير بذلك الدرهم فقيراً آخر هو أشد منه فقراً فيؤثر به الثالث رابعاً والرابع خامساً وهكذا فيما طال، فإن الله تعالى يحسب للمتصدق الأول بالدرهم عشرة فإذا تحول إلى الثاني انتقل ذلك الذي كان للأول إلى الثاني فصار للثاني عشرة دراهم وللأول عن عشر مئات، فإذا تصدق بها الثاني صارت له مائة
__________
1 نفاقاً: أي رواجاً، من نفقت السلعة إذا راجت.

(1/125)


وللثاني ألف وللأول ألف ألف وإذا تصدق بها صارت له مائة وللثاني عشرة آلاف فيضاعف إلى ما لا يعرف مقداره إلى الله تعالى.
ومن ذلك أيضاً أن الله سبحانه وتعالى إذا حاسب عبده المسلم يوم القيامة وكانت حسناته متفاوتة فيهن الرفيعة المقدار وفيهن دون ذلك فإنه سبحانه بجوده وفضله يحسب سائر الحسنات بسعر تلك الحسنة العليا لأن جوده جل جلاله أعظم من أن يناقش من رضي عنه في تفاوت سعر بين حسنتين وقد قال جل جلاله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. كما أنه "إذا قال العبد في سوق من أسواق المسلمين لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره رافعاً بها صوته كتب الله له بذلك ألفي ألف حسنة ومحا عنه ألفي ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة" 2 على ما جاء في الحديث وهذا الذي ذكرناه إنما هو على مقدار معرفتنا لا على مقدار فضل الله سبحانه وتعالى فإنه أعظم من أن يحده أو يحصره خلق.
__________
1 سورة النحل: الآية 97.
2 رواه الترمذي في الدعوات باب ما يقول إذا دخل السوق رقم 3429.

(1/126)


العبادة لله وسيلة القرب والمحبة
38 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب الإفصاح: في هذا الحديث من الفقه: أن الله سبحانه وتعالى قدم الأعذار إلى كل من عادى وليا: أنه قد آذنه بأنه محاربه بنفس المعاداة، وولي الله تعالى هو الذي يتبع ما شرعه الله تعالى فليحذر الإنسان من إيذاء قلوب أولياء الله عز وجل. ومعنى المعاداة: أن يتخذه عدوا.
ولا أرى المعنى إلا من عاداه لأجل ولاية الله، وأما إذا كانت لأحوال تقتضي نزاعاً بين وليين لله محاكمة أو خصومة راجعة إلى استخراج حق غامض فإن ذلك لا يدخل في هذا الحديث، فإنه قد

(1/127)


جرى1 بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خصومة، وبين العباس وعلي رضي الله عنهما2 وبين كثير من الصحابة وكلهم كانوا أولياء لله عز وجل.
قوله: "وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه" فيه إشارة إلى أنه لا تقدم نافلة على فريضة وإنما سميت النافلة نافلة إذا قضيت الفريضة وإلا فلا يتناولها اسم النافلة ويدل على ذلك قوله: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" لأن التقرب بالنوافل يكون بتلو أداء الفرائض ومتى أدام العبد التقرب بالنوافل أفضى ذلك به إلى أن يحبه الله عز وجل. ثم قال: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به" إلى آخره فهذه علامة ولاية الله، لمن يكون الله قد أحبه، ومعنى ذلك أنه لا يسمع ما لم يأذن الشرع
__________
1 رواه البخاري في فضائل الصحابة باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً" رقم 3661 عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم فقد غامر"، فسلم وقال: يا رسول الله، إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيءٌ، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ، فأقبلت إليك. فقال: "يغفر الله لك يا أبا بكر" - ثلاثاً-. ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثمّ أبو بكر؟ فقالوا: لا. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم - مرتين -. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ " - مرتين-. فما أوذي بعدها. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: إن الشيء الذي كان بينهما رضي الله عنهما إنما هو محاورة أو مراجعة أو معاتبة.
2 رواه البخاري في فرض الخمس باب فرض الخمس رقم 3094 وهو حديث طويل لا مجال لذكره هنا.

(1/128)


له بسماعه ولا يبصر ما لم يأذن الشرع له في إبصاره ولا يمد يده إلى شيء ما لم يأذن الشرع له في مدها إليه، ولا يسعى برجله إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه، فهذا هو الأصل إلا أنه قد يغلب على عبد ذكر الله تعالى حتى يعرف بذلك فإن خوطب بغيره لم يكد يسمع لمن يخاطبه حتى يتقرب إليه بذكر الله غير أهل الذكر توصلاً إلى أن يسمع لهم وكذلك في المبصرات والمتناولات والمسعى إليه، تلك صفة عالية نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.
قوله: "ولئن استعاذني لأعيذنه" يدل على أن العبد إذا صار من أهل حب الله تعالى لم يمتنع أن يسأل ربه حوائجه ويستعيذ به ممن يخافه والله تعالى قادر على أن يعطيه قبل أن يسأله وأن يعيذه قبل أن يستعيذه ولكنه سبحانه متقرب إلى عباده بإعطاء السائلين وإعاذة المستعيذين وقوله: "استعاذني" ضبطوه بالنون والباء وكلاهما صحيح.
وقوله في أول الحديث "فقد آذنته بالحرب" 1 بهمزة ممدودة: أي أعلنته أنه محارب لي.
__________
1 كقوله تعالى في سورة البقرة الآية 279: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} .

(1/129)