شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

2 - كتاب الإيمان
بكسر الهمزة وهو لغة التصديق، وهو كما قاله التفتازاني إذعان لحكم المخبر وقبوله وجعله صادقًا، إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به أمنه التكذيب والمخالفة، يعدّى باللام كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، أي مصدق لنا، وبالباء كما في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الإيمان أن تؤمن بالله". الحديث. فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو الخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرَّح به الإمام الغزالي. والكتاب من الكتب وهو الجمع والضم، ومن ثم استعمل جامعًا للأبواب والفصول الجامعة للمسائل، والضم فيه بالنسبة إلى الحروف المكتوبة حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز. ولم يقل في الأول كتاب بدء الوحي لأنه كالمقدمة، ومن ثم بدأ به لأن من شأن المقدمة كونها أمام المراد، وأيضًا فإن من الوحي عرف الإيمان وغيره.

1 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ»
وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} - {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} - {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} - {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} - {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وَقَوْلُهُ: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}. وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ إِنَّ لِلإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ.
فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:

{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. وَقَالَ مُعَاذٌ اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {شَرَعَ لَكُمْ ... } أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}: سَبِيلاً وَسُنَّةً.

هذا (باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الحديث الموصول الآتي تامًّا إن شاء الله تعالى.
(بُنيّ الإسلام على خمس). وفي فرع اليونينية كهي، كتاب الإيمان، وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي أخرى باب الإيمان وقول النبي، والأول أصح لأن ذكر الإيمان بعد ذكر كتاب الإيمان لا طائل تحته كما لا يخفى، وسقط لفظ باب عند الأصيلي. والإسلام لغة الانقياد والخضوع، ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق كما سبق، قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين} [الذاريات: 35، 36] فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا فهما متحدان في الصدق وإن تغايرا بحسب المفهوم، إذ مفهوم الإيمان تصديق القلب، ومفهوم الإسلام أعمال الجوارح، وبالجملة لا يصح في الشرع أن يحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا. ومن أثبت التغاير فقد يقال له ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن، فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر فقد ظهر بطلان قوله، فإن قيل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. صريح في تحقيق الإسلام بدون الإيمان. أجيب بأن المراد أنهم انقادوا في الظاهر اهـ.
(وهو) أي الإيمان المبوَّب عليه عند المصنف كابن عيينة والثوري وابن جريح ومجاهد ومالك بن أنس وغيرهم من سلف الأمة وخنفها من المتكلمين والمحدثين: (قول) باللسان وهو النطق بالشهادتين. (وفعل)، ولأبي ذر عن الكشميهني وعمل بدل فعل، وهو أعمّ من عمل القلب والجوارح، لتدخل الاعتقادات والعبادات. وهو موافق لقول السلف اعتقاد بالقلب

(1/85)


ونطق باللسان وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط كماله. وقال المتأخرون ومنهم الأشعرية وأكثر الأئمة كالقاضي ووافقهم ابن الراوندي من المعتزلة هو تصديق الرسول عليه السلام بما علم مجيئه ضرورة، وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيما علم إجمالاً تصديقًا جازمًا مطلقًا، سواء كان لدليل أم لا، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة: 22]. وقال عليه الصلاة والسلام: "اللهمّ ثبّث قلبي على دينك". وإذا ثبت أنه فعل القلب وجب أن يكون عبارة عن مجرد التصديق، وقد خرج بقيد الضرورة ما لم يعلم بالضرورة أنه جاء به كالاجتهادات، وبالجازم التصديق الظني، فإنه غير كافِ. وقيل هو المعرفة، فقوم بالله وهو مذهب جهم بن صفوان، وقوم بالله وبما جاء به الرسول إجمالاً وهو منقول عن بعض الفقهاء. وقال الحنفية التصديق بالجنان والإقرار

باللسان، قال العلاّمة التفتازاني: إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمله كما في حالة الإكراه.
فإن قلت: التصديق قد يذهل عنه كما في حالة النوم والغفلة، أجيب: بأن التصديق باقٍ في القلب والذهول إنما هو عن حصوله. وذهب جمهور المحققين إلى أنه هو التصديق بالقلب وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، كما أن تصديق القلب أمر باطني لا بدّ له من علامة اهـ.
وقال النووي: اتفق أهل السُّنَّة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا عن الشكوك ونطق مع ذلك بالشهادتين، فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً بل يخلد في النار، إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكّن منه لمعالجة المنية أو لغير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمنًا بالاعتقاد من غير لفظ اهـ.

وقال الكرامية: انطق بكلمتي الشهادة فقط، وقال قوم العمل. وذهب الخوارج والعلاف وعبد الجبار إلى أنه الطاعة بأسرها فرضًا كانت أو نفلاً. وذهب الجبائي وابنه وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه الطاعات المفترضه من الأفعال والتروك دون النوافل. وقال الباقون منهم العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينه وبين قول السلف السالف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في الكمال، والمعتزلة جعلوها شرطًا في الصحة فهذه ثمانية أقوال، خمسة منها بسيطة والأول والثامن مركب ثلاثي والرابع مركب ثنائي، ووجه الحصر أن الإيمان لا يخرج بإجماع المسلمين عن فعل القلب وفعل الجوارح، فهو حينئذ إما فعل القلب فقط وهو المعرفة على الوجهين أو التصديق المذكور، وإما فعل الجوارح فقط وهو فعل اللسان وهو الكلمتان، أو غير فعل اللسان وهو العمل بالطاعة المطلقة أو المفترضة. وإما فعل القلب والجوارح معًا، والجارحة إما اللسان وحده أو جميع الجوارح، وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى. أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فإذا أقرّ حكمنا بإيمانه اتفاقًا، نعم النزاع واقع في نفس الإيمان والكمال فإنه لا بدّ فيه من الثلاثة إجماعًا فمن أقرّ بالكلمة جرت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره، إلا إن اقترن به فعل كالسجود لصنم، فإن كان غير دال عليه كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأثبت المعتزلة الواسطة فقالوا الفاسق لا مؤمن ولا كافر.
(و) إذا تقرر هذا فاعلم أن الإيمان (يزيد) بالطاعة (وينقص) بالمعصية كما عند المؤلف وغيره، وأخرجه أبو نعيم كذا بهذا اللفظ في ترجمة الشافعي من الحلية، وهو عند الحاكم بلفظ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وكذا نقله اللالكائي في كتاب السُّنة عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، بل قال به من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن

مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وعمارة، وأبو هريرة، وحذيفة، وعائشة وغيرهم، ومن التابعين كعب الأحبار، وعروة، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم.
وروى

(1/86)


اللالكائي أيضًا بسند صحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. وأما توقف مالك رحمه الله عن القول بنقصانه فخشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج، ثم استدل المؤلف على زيادة الإيمان بثمان آيات من القرآن العظيم مصرّحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة فقال:
(قال) وفي رواية الأصيلي وقال (الله تعالى) بالواو في سورة الفتح، ولأبي ذر: عز وجل (ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم) وقال تعالى في الكهف: (وزدناهم هدى) أي بالتوفيق والتثبيت وهذه الآية ساقطة في رواية ابن عساكر كما في فرع اليونينية كهي، والآية الثالثة في مريم: (ويزيد الله) بالواو، وفي رواية ابن عساكر يزيد الله، وفي أخرى للأصيلي، وقال: ويزيد الله (الذين اهتدوا هدى) أي بتوفيقه. وقال في القتال وفي رواية ابن عساكر والأصيلي، وقوله وفي رواية بإسقاطهما والابتداء بقوله: (والذين اهتدوا زادهم هدى) بالتوفيق، (وآتاهم تقواهم). أي بيَّن لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها، وقال تعالى في المدثر: (ويزداد) ولابن عساكر والأصيلي، وقوله: ويزداد (الذين آمنوا إيمانًا) بتصديقهم بأصحاب النار المذكورين في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} الآية [المدّثر: 31]. (وقوله) تعالى في براءة (أيّكم زادته هذه) أي السورة (إيمانًا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا) بزيادة العلم الحاصل من تدبرها وبانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم. (وقوله جل ذكره) في آل عمران (فاخشوهم فزادهم إيمانًا) لعدم التفاتهم إلى من ثبطهم عن قتال المشركين بل ثبت يقينهم بالله وازداد إيمانهم، قال البيضاوي وهو دليل على أن الإيمان يزيد وينقص. (وقوله تعالى) في الأحزاب (وما زادهم) أي لما رأوا الخطب أو البلاء في قصة الأحزاب، وسقطت واو وما للأصيلي فقال: ما زادهم (إلا إيمانًا) بالله ومواعيده، (وتسليمًا) لأوامره ومقاديره.

فإن قلت: الإيمان هو التصديق بالله وبرسوله والتصديق شيء واحد لا يتجزأ فلا يتصور كماله تارة ونقصه أخرى، أجيب بأن قبوله الزيادة والنقص ظاهر على تقدير دخول القول والفعل فيه. وفي الشاهد شاهد بذلك، فإن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، ومن ثم كان إيمان الصدّيقين أقوى من إيمان غيرهم، وهذا مبني على ما ذهب إليه المحققون من الأشاعرة من أن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، وأن الإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته التي هي الأعمال ونقصانها، وبهذا يحصل التوفيق بين ظواهر النصوص الدالّة على الزيادة وأقاويل السلف بذلك، وبين أصل وضعه اللغوي وما عليه أكثر المتكلمين.

نعم يزيد وينقص قوة وضعفًا إجمالاً وتفصيلاً أو تعدّدًا بحسب تعدد المؤمن به. وارتضاه النووي. وعزاه التفتازاني في شرح عقائد النسفيّ لبعض المحققين، وقال في المواقف: إنه الحق وأنكر ذلك أكثر المتكلمين والحنفية، لأنه متى قبل ذلك كان شكًّا وكفرًا، وأجابوا عن الآيات السابقة ونحوها بما نقلوه عن إمامهم أنها محمولة على أنهم كانوا آمنوا في الجملة، ثم يأتي فرض بعد فرض فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص. وحاصله أنه كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به، وهذا لا يتصور في غير عصره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه نظر، لأن الاطلاع على تفاصيل الفرائض يمكن في غير عصره عليه السلام، والإيمان واجب إجمالاً فيما علم إجمالاً، وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، ولا خفاء في أن التفصيلي أزيد اهـ.
ثم استدل المؤلف على قبول الزيادة أيضًا بقوله: (والحب في الله) وهو بالرفع مبتدأ (والبغض في الله) عطف عليه. وقوله: (من الأيمان) خبر المبتدأ وهذا لفظ حديث رواه أبو داود من حديث أبي أمامة لأن الحب والبغض يتفاوتان.
(وكتب عمر بن عبد العزيز) بن مروان الأموي القرشي أحد الخلفاء الراشدين المتوفى بدير سمعان بحمص يوم

(1/87)


الجمعة لخمس ليالٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة، (إلى عديّ بن عديّ) بفتح العين وكسر الدال المهملتين فيهما ابن عمرة بفتح العين الكندي التابعي المتوفى سنة عشرين ومائة، (ان للإيمان) بكسر همزة ان في اليونينية (فرائض) بالنصب اسم ان مؤخر أي أعمالاً مفروضة (وشرائع) أي عقائد دينية (وحدودًا) أي منهيّات ممنوعة (وسُننًا) أي مندوبات، وفي رواية ابن عساكر أن الإيمان فرائض بالرفع خبر ان وما بعده معطوف عليه، ووقع للجرجاني فرائع وليس بشيء.
(فمن استكملها) أي الفرائض وما معها فقد (استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان) فيه إشارة إلى قبول الإيمان الزيادة والنقصان. ومن ثم ذكره المؤلف هنا استشهادًا لا يقال إنه لا يدل على ذلك بل على خلافه، إذ قال للإيمان كذا وكذا، فجعل الإيمان غير الفرائض وما ذكر معها، وقال من استكملها أي الفرائض وما معها فجعل الكمال لما للإيمان لا للإيمان، لأنا نقول آخر كلامه يُشعِر بذلك حيث قال: فمن استكملها أي الفرائض وما معها استكمل الإيمان. (فإن أعش فسأبينها) أي فسأوضحها (لكم) إيضاحًا يفهمه كل أحد منكم. والمراد تفاريعها لا أصولها إذ كانت معلومة لهم على سبيل الإجمال. وأراد سأبينها لكم على سبيل التفصيل. (حتى تعملوا بها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص) وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة إذ الحاجة لم تتحقّق، أو أنه علم أنهم يعلمون مقاصدها ولكنه استظهر وبالغ في نصحهم وتنبيههم على المقصود وعرَّفهم أقسام الإيمان مجملاً، وأنه سيذكرها مفصلاً إذا تفرع لها فقد كان مشغولاً بالأهم، وهو من تعاليق المؤلف المجزومة وهي محكوم بصحتها. ووصله أحمد وابن أبي شيبة في كتاب الإيمان لهما من طريق عيسى بن عاصم، قال: حدّثني عديّ بن عديّ فذكره.

(وقال إبراهيم) الخليل زاد الأصيلي في روايته كما في فرع اليونينية كهي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد عاش فيما روي مائة سنة وخمسًا وسبعين سنة أو مائتي سنة ودفن بحبرون بالحاء المهملة: (ولكن ليطمئن قلبي) أي ليزداد بصيرة وسكونًا بمضامة العيان إلى الوحي والاستدلال، فإن عين اليقين فيه طمأنينة ليست في علم اليقين ففيه دلالة على قبول التصديق اليقيني للزيادة، وعند ابن جرير بسند صحيح إلى سعيد بن جبير أي يزداد يقيني. وعن مجاهد لأزداد إيمانًا إلى إيماني. لا يقال كان المناسب أن ذكر المؤلف هذه الآية عند الآيات السابقة، لأنّا نقول إن هاتيك دلالتها على الزيادة صريحة بخلاف هذه فلذا أخّرها إشعارًا بالتفاوت.

(وقال معاذ) بضم الميم والذال المعجمة وللأصيلي في روايته، وقال معاذ بن جبل كما في فرع اليونينية كهي ابن عمرو الخزرجي الأنصاري المتوفى سنة ثمانية عشر، وله في البخاري ستة أحاديث للأسود بن هلال. (اجلس بنا) بهمزة وصل (نؤمن) بالجزم (ساعة) أي نزداد إيمانًا لأن معاذًا كان مؤمنًا أي مؤمن، وقال النووي معناه نتذاكر الخير وأحكام الآخرة وأمور الدين، فإن ذلك إيمان.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي لا تتعلق فيه للزيادة لأن معاذًا إنما أراد تجديد الإيمان لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضًا، ثم يكون أبدًا مجددًا لما نظر أو فكر، وقال في الفتح متعقبًا له وما نفاه أولاً أثبته آخرًا لأن تجديد الإيمان إيمان، وهذا التعليق وصله أحمد وابن أبي شيبة كالأول بسند صحيح إلى الأسود بن هلال، قال: قال لي معاذ: اجلس فذكره، وعرف من هذا أن الأسود أبهم نفسه.
(وقال ابن مسعود) عبد الله وجده غافل بالمعجمة والفاء الهذلي نسبة إلى جده هذيل بن مدركة المتوفّى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وله في البخاري خمسة وثمانون حديثًا، (اليقين الإيمان كله) أكده بكل لدلالتها كأجمع على التبعيض للإيمان إذ لا يؤكد بهما إلا ذو أجزاء يصح افتراقها حسًّا أو حكمًا، وهذا التعليق طرف من أثر. رواه الطبراني بسند صحيح وتتمته والصبر نصف الإيمان. ولفظ النصف صريح في التجزئة.
(وقال ابن عمر) عبد الله وجدّه

(1/88)


الخطاب أحد العبادلة السابق للإسلام مع أبيه أحد الستة المكثرين للرواية المتوفى سنة ثلاث أو أربع وسبعين. (لا يبلغ العبد) بالتعريف وفي رواية ابن عساكر عبد بالتنكير (حقيقة التقوى)، التي هي وقاية النفس عن الشرك والأعمال السيئة والمواظبة على الأعمال الصالحة. (حتى يدع ما حاك) بالمهملة، والكاف الخفيفة أي اضطرب (في الصدر) ولم ينشرح له وخاف الإثم فيه. وفي بعض نسخ المغاربة ما حك بتشديد الكاف، وفي بعض نسخ العراق ما حاك بالألف والتشديد من المحاكة، حكاهما صاحب عمدة القاري والبرماوي. وقد روى مسلم معناه من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا: البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع الناس عليه. وفي أثر ابن عمر هذا إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كنه الإيمان وبعضهم لم يبلغه، فتجوز الزيادة والنقصان.

(وقال مجاهد) أي ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة غير مصغر على الأشهر المخزومي مولى عبد الله بن السائب المخزومي المتوفى وهو ساجد سنة مائة في تفسير قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ} [الشورى: 13] زاد الهروي وابن عساكر من الدين أي (أوصيناك يا محمد وإياه) أي نوحًا (دينًا واحدًا) خصّ نوحًا عليه السلام لما قيل أنه الذي جاء بتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأوّل من جاء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات. لا يقال إن إياه تصحيف وقع في أصل البخاري في هذا الأثر، وإن الصواب وأنبياءه كما عند عبد بن حميد وابن المنذر وغيرهما. وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة، لأنه أجيب بأن نوحًا عليه السلام أفرد في الآية، وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عطف عليه وهم داخلون فيما وصى به نوحًا في تفسير مجاهد، وكلهم مشتركون في ذلك، فذكر واحد منهم يغني عن الكل على أن نوحًا أقرب مذكور في الآية، وهو أولى بعود الضمير إليه في تفسير مجاهد، فليس بتصحيف بل هو صحيح، وهذا التعليق أخرجه عبد بن حميد في تفسيره بسند صحيح عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح.
(وقال ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما في تفسيره قوله تعالى: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] سبيلاً أي طريقًا واضحًا وهو تفسير لمنهاجًا (وسُنّة). يقال شرع يشرع شرعًا أي سنّ، فهو تفسير لشرعة فيكون من باب اللف والنشر الغير المرتب، وسقطت الواو من وقال لابن عساكر، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح وقد وقع هنا في رواية أبي ذر وغيره باب بالتنوين، وهو ثابت في أصل عليه خط الحافظ قطب الدين الحلبي كما قال العيني أنه رآه ورأيته أنا كذلك في فرع اليونينية كهي، لكنه فيها ساقط في رواية الأصيلي وابن عساكر، وأيّده قول الكرماني أنه وقف على أصل مسموع على الفربري بحذفه، بل قال النووي: ويقع في كثير من النسخ هنا باب وهو غلط فاحش وصوابه بحذفه، ولا يصح إدخاله هنا لأنه لا يتعلق له بما نحن فيه، ولأنه ترجم لقوله عليه الصلاة والسلام: بُنِيَ الإسلام ولم يذكره قبل هذا، وإنما ذكره بعده وليس مطابقًا للترجمة.

وعلى هذا فقوله: [الفرقان: 77] (دعاؤكم إيمانكم) من قول ابن عباس يشير به إلى قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} فسمي الدعاء إيمانًا والدعاء عمل، فاحتجّ به على أن الإيمان عمل وعطفه على ما قبله كعادته في حذف أداة العطف، حيث ينقل التفسير. وهذا التعليق وصله ابن جرير من قوله ابن عباس، وفي رواية أبي ذر لقوله تعالى {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} ومعنى الدعاء في اللغة الإيمان.

2 - باب دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ
8 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ

َ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». [الحديث 8 - طرفه في: 4515].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبيد الله) بالتصغير وفي الفرع خلافًا لأصله. وحدّثنا محمد بن إسماعيل يعني البخاري حدّثنا عبيد الله (بن موسى) بن باذام بالموحدة والذال المعجمة آخره ميم العبسي بفتح المهملة وتسكين الموحدة الشيعي الغير داعية المتوفى بالإسكندرية سنة ثلاث عشرة أو أربع عشرة أو خمس عشرة ومائتين، (قال: أخبرنا) وفي رواية الهروي، حدّثنا (حنظلة بن أبي سفيان) بن عبد الرحمن الجمحي المكي القرشي المتوفى سنة إحدى وخمسين ومائة، (عن عكرمة بن خالد) يعني ابن العاصي المخزومي القرشي، المتوفى بمكة بعد عطاء وهو توفي سنة

(1/89)


أربع عشرة أو خمس عشرة ومائة، (عن ابن عمر) بن الخطاب عبد الله (رضي الله عنهما)، هاجر به أبوه واستصغر يوم أُحُد وشهد الخندق وبيعة الرضوان والمشاهد، وكان واسع العلم متين الدين وافر الصلاح وتوفي سنة ثلاث وسبعين وله في البخاري مائتان وسبعون حديثًا (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(بني الإسلام) الذي هو الانقياد (على خمس) أي خمس دعائم، وقال بعضهم، على بمعنى من أي بني الإسلام من خمس، وبهذا يحصل الجواب عما يقال إن هذه الخمس هي الإسلام، فكيف يكون الإسلام مبنيًّا عليها والمبني لا بدّ أن يكون غير المبني عليه، ولا حاجة إلى جواب الكرماني بأن الإسلام عبارة عن المجموع والمجموع غير كل واحد من أركانه: (شهادة أن لا إله إلاّ الله و) شهادة (أن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة) أي المداومة عليها، والمراد الإتيان بها بشروطها وأركانها، (وإيتاء الزكاة) أي إعطائها مستحقيها بإخراج جزء من المال على وجه مخصوص كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في محله بعون الله، (والحج) إلى بيت الله الحرام، (وصوم) شهر (رمضان). بخفض شهادة على البدل من خمس، وكذا ما بعدها. ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف أي وهي والنصب بتقدير أعني، قال البدر الدماميني: أما وجه الرفع فواضح، وأما وجه الجر فقد يقال فيه إن البدل من خمس هو مجموع المجرورات المتعاطفة لا كل واحد منها.
فإن قلت: يكون كل منها بدل بعض، قلت حينئذ يحتاج إلى تقدير رابط اهـ. "ولا" في قوله: لا إله إلاّ الله، هي النافية للجنس وإله اسمها مركب معها تركيب مزج كأحد عشر، والفتحة فتحة بناء، وعند الزجاج فتحة إعراب لأنه عنده منصوب بها لفظًا وخبرها محذوف اتفافًا تقديره موجود، وإلاّ حرف استثناء، والاسم الكريم مرفوع على البدلية من الضمير المستتر في الخبر، وقيل: مرفوع على الخبرية لقوله لا وعليه جماعة. وفي هذه المسألة مباحث ضربت عليها بعد أن أثبتها خوف الإطالة، ثم إن هذا التركيب عند علماء المعاني يفيد القصر وهو في هذه الكلمة من باب قصر الصفة على الموصوف لا العكس، فإن إله في معنى الوصف.
فإن قلت: لمَ قدّم النفي على الإثبات فقيل لا إله إلا الله ولم يقل الله لا إله إلاّ هو بتقديم الإثبات على النفي؟ أجيب: بأنه إذا نفى أن يكون ثم إله غير الله فقد فرّغ قلبه مما سوى الله بلسانه
ليواطىء القلب وليس مشغولاً بشيء سوى الله تعالى، فيكون نفي الشريك عن الله تعالى بالجوارح الظاهرة والباطنية. ووجه الحصر في الخمسة أن العبادة إما قولية أو غيرها. الأولى الشهادتان، والثانية إما تركية أو فعلية، الأولى الصوم، والثانية إما بدنية أو مالية الأولى الصلاة، والثانية الزكاة أو مركبة منهما وهي الحج، وقد ذكره مقدّمًا على الصوم. وعليه بنى المصنف ترتيب جامعه هذا. لكن عند مسلم من رواية سعد بن عبيدة عن ابن عمر تأخير الصوم عن الحج، فقال رجل وهو يزيد بن بشر السكسكي: والحج وصوم رمضان. فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فيحتمل أن يكون حنظلة رواه هنا بالمعنى لكونه لم يسمع رد ابن عمر على يزيد أو سمعه ونسيه، نعم رواه ابن عمر في مسلم من أربع طرق تارة بالتقديم وتارة بالتأخير.
فإن قلت: لِمَ لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وأسقط الجهاد؟ أجيب: بأن الجهاد فرض كفاية ولا يتعين إلا في بعض الأحوال، وإنما لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة لأن المراد بالشهادة تصديق الرسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من الاعتقادات. وفي قوله: بني الخ استعارة بأن يقدر الاستعارة في بني، والقرينة في الإسلام شبه ثبات الإسلام واستقامته على هذه الأركان الخمسة ببناء الخباء على هذه الأعمدة الخمسة، ثم تسري الاستعارة من المصدر إلى الفعل، أو تكون مكنية بأن تكون الاستعارة في الإسلام والقرينة بني على التخييل بأن شبه الإسلام بالبيت، ثم خيل كأنه بيت على المبالغة، ثم أطلق الإسلام على ذلك المخيل، ثم خيل له ما يلزم الخباء المشبه به من البناء، ثم أثبت له ما هو لازم البيت من البناء على الاستعارة التخييلية ثم نسبه إليه ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة.

(1/90)


ويجوز أن تكون استعارة بالكناية لأنه شبه الإسلام بمبنيّ له دعائم، فذكر المشبه وطوى ذكر المشبه به وذكر ما هو من خواص المشبه به وهو البناء، ويسمى هذا استعارة ترشيحية، ويجوز أن تكون استعارة تمثيلية، فإنه مثل حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباء أقيم على خمسة أعمدة وقطبها التي تدور عليه هو شهادة أن لا إله إلاّ الله وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء.
وقال في الفتح، فإن قلت: الأربعة المذكورة بعد الشهادة مبنية على الشهادة إذ لا يصح شيء منها إلا بعد وجودها، فكيف يضم مبني إلى مبني عليه في مسمى واحد؟ أجيب: بجواز ابتناء أمر على أمر يبتنى على الأمرين أمر آخر.
فإن قلت: المبني لا بد أن يكون غير المبني عليه. فالجواب أن المجموع غير من حيث الانفراد عين من حيث الجمع، ومثاله البيت من الشعر يجعل على خمسة أعمدة أحدها أوسط والبقية أركان، فما دام الأوسط قائمًا فمسمى البيت موجود ولو سقط ما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمى البيت، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيء واحد وبالنظر إلى أفراده أشياء. وأيضًا فبالنظر إلى أسّه وأركانه الأس أصل والأركان تبع وتكملة، والله الموفق. ومن لطائف إسناد هذا الحديث

جمعه للتحديث والإخبار والعنعنة وكل رجاله مكيّون إلا عبيد الله فإنه كوفي، وهو من الرباعيات وأخرج متنه المؤلف أيضًا في التفسير ومسلم في الإيمان خماسي الإسناد اهـ.

3 - باب
أُمُورِ الإِيمَانِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ - قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الآيَةَ.
هذا (باب أمور الإيمان) بالإضافة البيانية لأن المراد بيان الأمور التي هي الإيمان، لأن الأعمال عند المؤلف هي الإيمان، أو بمعنى اللام أي باب الأمور الثابتة للإيمان في تحقيق حقيقته وتكميل ذاته، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني أمر الإيمان بالإفراد على إرادة الجنس. (وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على أمور، وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي عز وجل بدل قوله تعالى، (ليس البر) وهو اسم لكل خير وفعل مرضي، (أن تولوا وجوهكم قبل الشرق والمغرب). قال القاضي ناصر الدين البيضاوي: أي ليس البر مقصورًا على أمر القبلة أو ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، (ولكن البر) الذي ينبغي أن يهتم به (من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب) القرآن أو أعم، (والنبيين وآتى المال على حبه) تعالى أو حب المال (ذوي القربى واليتامى) المحاويج منهم، ولم يقيده لعدم الإلباس. (والمساكين وابن السبيل) المسافر أو الضيف، (والسائلين) أي الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال، (وفي الرقاب) أي تخليصها بمعاونة المكاتبين أو فك الأسارى أو ابتياع الرقاب لعتقها، (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) المفروضتين، والمراد بآتى المال بيان مصارفها، (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) عطف على من آمن، (والصابرين في البأساء والضراء) نصب على المدح، ولم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال. وعن الأزهري البأساء في الأموال كالفقر، والضرّاء في الأنفس كالمرض.
(وحين البأس) وقت مجاهدة العدو، (أولئك الذين صدقوا) في الدين واتباع الحق وطلب البر، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] عن الكفر وسائر الرذائل، والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها دالة عليها صريحًا أو ضمنًا، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس. وقد أشير إلى الأول بقوله: من آمن، إلى والنبيين، وإلى الثاني بقوله: وآتى المال، إلى وفي الرقاب. وإلى الثالث بقوله: وأقام الصلاة إلى آخرها. ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرًا إلى إيمانه واعتقاده وبالتقوى اعتبارًا لمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق، وإليه أشار عليه الصلاة والسلام بقوله من عمل بهذه الآية، فقد استكمل الإيمان. وهذا وجه استدلال المؤلف بهذه الآية ومناسبتها لتبويبه. وفي حديث أبي ذر عند عبد الرزاق بسند رجاله ثقات

أنه سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الإيمان فتلا عليه هذه الآية، ولم يذكره المؤلف لأنه ليس على شرطه، وقد سقط في رواية الأصيلي وأبي ذر ولكن البر إلى آخر الآية، وسقط لابن عساكر واليوم الآخر.
ثم استدل المؤلف لذلك أيضًا بآية أخرى فقال: (قد أفلح) أي فاز

(1/91)


(المؤمنون) الآية [المؤمنون: 1]. بإسقاط واو العطف لعدم الإلباس، قال في الفتح: ويحتمل أن يكون ساقه تفسيرًا لقوله هم المتقون تقديره المتقون هم الموصوفون بقوله قد أفلح، وفي رواية الأصيلي، وقد أفلح بإثبات الواو وفي رواية ابن عساكر، وقوله قد أفلح. قلت: وفيهما ردّ لما قاله في الفتح من احتمال التفسير، والآية يجوز فيها النصب بتقدير اقرأ والرفع مبتدأ حذف خبره.
9 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ».
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) أي ابن جعفر المسندي بضم الميم وسكون المهملة وفتح النون، سمي به لأنه كان يطلب المسندات ويرغب عن المرسل والمنقطع أو كان يتحرى المسانيد، أو لأنه أوّل من جمع مسند الصحابة على التراجم بما وراء النهر. وفي رواية ابن عساكر الجعفي كما في فرع اليونينية كهي المتوفى سنة تسع وعشرين ومائتين. (قال حدّثنا أبو عامر) عبد الملك بن عمرو بن قيس (العقدي) بفتح العين المهملة والقاف نسبة إلى العقدة، قوم من قيس وهم بطن من الأزد أو بطن من بجيلة أو قبيلة من اليمن البصري المتوفى سنة خمس أو أربع ومائتين.

(قال: حدّثنا سليمان بن بلال) القرشي المدني المتوفى بها سنة سبع وعشرون ومائة، (عن أبي صالح) ذكوان السمان الزيات المدني المتوفى سنة إحدى ومائة، (عن أبي هريرة رضي الله عنه) تصغير هرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي المختلف في اسمه، قال النووي: على أكثر من ثلاثين قولاً، وحمله في الفتح على الاختلاف في اسمه واسم أبيه معًا المتوفى بالمدينة سنة تسع أو ثمان أو سبع وخمسين وأسلم عام خيبر، وشهدها مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم لزمه وواظبه حتى كان أحفظ الصحابة، وروى عنه عليه الصلاة والسلام فأكثر، ذكر بقي بن مخلد أنه روى خمسة آلاف حديث وثلثمائة وأربعة وسبعين حديثًا، وله في البخاري أربعمائة وستة وأربعون حديثًا، وهذا أوّل حديث وقع له في هذا الجامع. (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال).
(الإيمان) بالرفع مبتدأ وخبره (بضع) بكسر الموحدة وقد تفتح، قال الفراء: هو خاص بالعشرات إلى التسعين، فلا يقال بضع ومائة ولا بضع وألف وفي القاموس هو ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى الخمس ما بين الواحد إلى أربعة أو من أربع إلى تسع أو هو سبع، وإذا جاوز العشر ذهب البضع لا يقال بضع وعشرون أو يقال ذلك اهـ. ويكون مع الذكر بهاء ومع المؤنث بغير هاء فتقول بضعة وعشرون رجلاً وبضع وعشرون امرأة، ولا تعكس، وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت

والأصيلي وابن عساكر بضعة (وستون شعبة) بتأنيث بضعة على تأويل الشعبة بالنوع إذا فسرت الشعبة بالطائفة من الشيء، وقال الكرماني: إنها في أكثر الأصول. قال ابن حجر: بل هي في بعضها، وصوّب العيني قول الكرماني تعصبًا، والذي رأيته في هامش فرع اليونينية كهي. قال الأصيلي: صوابه بضع يعني بإسقاط الهاء، وقد وقع عند مسلم من طريق سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار بضع وستون أو بضع وسبعون على الشك، وعند أصحاب السنن الثلاثة من طريقه بضع وسبعون من غير شك، ورجح البيهقي رواية البخاري بعدم شك سليمان وعورض بوقوع الشك عنه عند أبي عوانة. ورجح لأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه، لا يقال بترجيح رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة لأنا نقول الذي زادها لم يستمر على الجزم بها لا سيما مع اتحاد المخرج، وهل المراد حقيقة العدد أم المبالغة، قال الطيبي الأظهر معنى التكثير ويكون ذكر البضع للترقي يعني أن شعب الإيمان أعداد مبهمة، ولا نهاية لكثرتها، ولو أراد التحديد لم يبهم. وقال آخرون: المراد حقيقة العدد ويكون النص وقع أوّلاً على البضع والستين لكونه الواقع ثم تجددت العشر الزائدة فنص عليها، وقد حاول جماعة عدّها بطريق الاجتهاد، وللبيهقي وعبد الجليل كتاب الإيمان (والحياء) بالمد وهو في الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق وهو هنا مبتدأ خبره (شعبة) و (من الإيمان) صفة لشعبة، وإنما خصّه هنا بالذكر لأنه كالداعي إلى باقي الشعب، لأنه يبعث على

(1/92)


الخوف من فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر وينزجر، ومن تأملَ معنى الحياء ونظر في قوله عليه الصلاة والسلام: استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنّا لنستحي من الله يا رسول الله والحمد لله. قال: ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ويذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ورأى العجب العجاب.
قال الجنيد: الحياء يتولد من رؤية الآلاء ورؤية التقصير فليذق من منح الفضل الإلهي ورزق الطبع السليم معنى إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب، كان يقول: هذه شعبة واحدة من شعبه فهل تحصى وتعد شعبها هيهات. واعلم أنه لا يقال إن الحياء من الغرائز فلا يكون من الإيمان لأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقًا إلا أن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فمن ثم كان من الإيمان مع كونه باعثًا على الطاعات واجتناب المخالفات، وفي هذا الحديث دلالة على قبول الإيمان الزيادة، لأن معناه كما قال الخطابي إن الإيمان الشرعي اسم لمعنى أجزاء له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعض تلك الأجزاء كما يتعلق بكلها. وقد زاد مسلم على ما في البخاري فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وتمسك به القائلون بأن الإيمان فعل الطاعات بأسرها والقائلون بأنه مركب من التصديق والإقرار والعمل جميعًا.
وأجيب: بأن المراد شعب الإيمان قطعًا لا نفس الإيمان فإن إماطة الأذى عن الطريق ليس داخلاً في أصل الإيمان حتى يكون فاقده غير مؤمن فلا بدّ في الحديث من تقدير مضاف. ثم إن

في هذا الحديث تشبيه الإيمان بشجرة ذات أغصان وشعب، ومبناه على المجاز لأن الإيمان كما مر في اللغة التصديق وفي عرف الشرع تصديق القلب واللسان وتمامه وكماله بالطاعات، فحينئذ الإخبار عن الإيمان بأنه بضع وستون يكون من باب إطلاق الأصل على الفرع لأن الإيمان هو الأصل والأعمال فروع منه، وإطلاق الإيمان على الأعمال مجاز لأنها تكون عن الإيمان، وهذا مبني على القول بقبول الإيمان الزيادة والنقصان، أما على القول بعدم قبوله لهما فليست الأعمال داخلة في الإيمان، واستدل لذلك بأن حقيقة الإيمان التصديق، ولأنه قد ورد في الكتاب والسُّنَّة عطف الأعمال على الإيمان كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} مع القطع بأن العطف يقتضي المغايرة وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه، وقد ورد أيضًا جعل الإيمان شرط صحة الأعمال كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112]. مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لامتناع اشتراط الشيء لنفسه، وورد أيضًا إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]. مع القطع بأنه لا يتحقق الشيء بدون ركنه، ولا يخفى أن هذه الوجوه إنما تقوم حجة على من يجعل الطاعات ركنًا من حقيقة الإيمان، بحيث إن تاركها لا يكون مؤمنًا كما هو رأي المعتزلة، لا على من ذهب إلى أنها ركن من الإيمان الكامل بحيث لا يخرج تاركها عن حقيقة الإيمان كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى قاله العلاّمة التفتازاني.
ومن لطائف إسناد حديث هذا الباب أن رجاله كلهم مدنيون إلا العقدي فإنه بصري وإلا المسندي وفيه تابعي عن تابعي، وهو عبد الله بن دينار عن أبي صالح، وأخرج متنه أبو داود في السُّنَّة والترمذي في الإيمان، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الإيمان أيضًا وابن ماجة.

4 - باب الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ
10 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ وَإِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [الحديث 10 - طرفه في: 6484].
(باب) بالتنوين (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وسقط لفظ باب للأصيلي.
وبالسند السابق للمؤلف قال: (حدّثنا آدم بن أبي إياس) بكسر الهمزة وتخفيف المثناة التحتية آخره سين مهملة المتوفى سنة ست وعشرين ومائتين. (قال: حدّثنا شعبة)، ولابن عساكر عن شعبة غير منصرف ابن الحجاج بن الورد الواسطي المتوفى بالبصرة أول سنة ستين ومائة. (عن عبد الله بن

أبي السفر) بفتح المهملة والفاء، وحكى إسكانها ابن يحمد بضم المثناة التحتية وفتح الميم أو بكسرها الهمداني الكوفي المتوفى في خلافة

(1/93)


مروان بن محمد. (و) عن (إسماعيل) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر في نسخة ابن أبي خالد أي الأحمسي المتوفى سنة خمس وأربعين ومائة، كلاهما (عن الشعبي) بفتح المعجمة وسكون المهملة وكسر الموحدة نسبة إلى شعب بطن من همدان أبي عمرو وعامر بن شراحيل الكوفي التابعي الجليل قاضي الكوفة، المتوفى بعد المائة. (عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاصي القرشي السهمي المتوفى بمكة أو الطائف أو مصر في ذي الحجة سنة خمس أو ثلاث أو سبع وستين أو اثنتين أو ثلاث وسبعين، وكان أسلم قبل أبيه (رضي الله عنهما)، وكان بينه وبينه في السن إحدى عشرة سنة كما جزم به المزي، وله في البخاري ستة وعشرون حديثًا، (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(المسلم) الكامل (من سلم المسلمون) وكذا المسلمات وأهل الذمة إلا في حد أو تعزير أو تأديب، (من لسانه ويده) وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام الذي لم يسبق إليه.
فإن قلت: هذا يستلزم أن من اتصف بهذه خاصة كان مسلمًا كاملاً، أجيب: بأن المراد بذلك مع مراعاة باقي الصفات التي هي أركان الإسلام، أو يكون المراد أفضل المسلمين كما قاله الخطابي، وعبر باللسان دون القول ليدخل فيه من أخرج لسانه استهزاء بصاحبه، وقدمه على اليد لأن إيذاءه أكثر وقوعًا وأشد نكاية ولله در القائل:

جراحات السنان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللسان
وخصّ اليد مع أن الفعل قد يحصل بغيرها لأن سلطنة الأفعال إنما تظهر بها إذ بها البطش والقطع والوصل والأخذ والمنع، ومن ثم غلبت فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم وإن كان متعذرًا الوقوع بها، فالمراد من الحديث ما هو أعم من الجارحة كالاستيلاء على حق الغير من غير حق، فإنه أيضًا إيذاء لكن ليس باليد الحقيقية. ثم عطف على ما سبق قوله: (والمهاجر) أي المهاجر حقيقة (من هجر) أي ترك (ما نهى الله عنه) كأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتّكلوا على مجرد الانتقال من دارهم، أو وقع ذلك بعد انقطاع الهجرة تطييبًا لقلوب من لم يدرك ذلك. وفي إسناد هذا الحديث التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الرقاق وهو مما انفرد بجملته عن مسلم، وأخرج مسلم بعضه في صحيحه، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم.
(قال أبو عبد الله) البخاري وفي رواية الأصيلي وابن عساكر بإسقاط قال أبو عبد الله كما في فرع اليونينية كهي: (وقال أبو معاوية) محمد بن خازم بالمعجمتين الضرير الكوفي، وكان مرجئًا المتوفى سنة خمس وتسعين ومائة في صفر، (حدّثنا داود) زاد في رواية الكشميهني وابن عساكر هو ابن أبي هند المتوفى سنة أربعين ومائة، (عن عامر) الشعبي السابق قريبًا (قال سمعت عبد الله) بن عمرو وللأصيلي يعني ابن عمرو ولابن عساكر هو ابن عمرو، (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال عبد الأعلى) بن

عبد الأعلى السامي بالمهملة من بني سامة بن لؤي القُرَشي البصري المتوفى في شعبان سنة سبع وثمانين ومائة، (عن داود) بن أبي هند السابق، (عن عامر عن عبد الله) بن عمرو بن العاصي، (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهذا التعليق وصله إسحاق بن راهويه في مسنده.

5 - باب أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَل؟
11 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».
* (باب) بالتنوين (أي الإسلام أفضل).
وبالسند الماضي إلى المؤلف أوّلاً قال: (حدّثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي) بجر الياء كما في اليونينية صفة لسعيد الثاني المتوفى سنة سبع وأربعين ومائتين، وليس عند الأصيلي ابن سعيد القرشي (قال حدّثنا أبي) يحيى بن سعيد المتوفى سنة أربع وسبعين ومائة (قال حدّثنا أبو بردة) بضم الموحدة وسكون الراء واسمه بريد بالتصغير، (ابن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة) بضم الموحدة جد الذي قبله وافقه في الكنية لا في الاسم، واسمه عامر المتوفى فيما قاله الواقدي بالكوفة سنة ثلاث ومائة أو هو والشعبي في جمعة واحدة (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس بن سليم بضم السين الأشعري نسبة إلى الأشعر لأنه ولد أشعر، المتوفى بالكوفة سنة خمس أو إحدى أو أربع وأربعين وله في البخاري سبعة وخمسون حديثًا (رضي الله عنه قال):
(قالوا) وعند مسلم قلنا وعند ابن منده قلت:

(1/94)


(يا رسول الله أي) شرط أي أن تدخل على متعدد وهو هنا مقدّر بذوي أي أيّ أصحاب (الإسلام أفضل) وعند مسلم أي المسلمين أفضل (قال) عليه الصلاة والسلام (من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي أفضل من غيره لكثرة ثوابه. ومن لطائف إسناد هذا المتن أن فيه التحديث والعنعنة. وكل رجاله كوفيون، وأخرج متنه مسلم والنسائي في الإيمان، والترمذي في الزهد.

6 - باب إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلاَمِ
12 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». [الحديث 12 - طرفاه في: 28، 6236].

هذا (باب) بالتنوين، وهو عند الأصيلي ساقط في فرع اليونينية كهي، (إطعام الطعام) من سغب (من الإسلام) وللأصيلي في نسخة من الإيمان أي من خصاله. وبالسند المذكور أوّل هذا الكتاب إلى البخاري قال: (حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين ابن فروخ بفتح الفاء وتشديد الراء الضمومة آخره معجمة الحرّاني البصري نزيل مصر المتوفى بها سنة تسع وعشرين ومائتين، (قال حدّثنا الليث) بالمثلثة ابن سعد الفهمي وفهم من قيس عيلان المصري الإمام الجليل المشهور القلقشندي المولد الحنفي المذهب فيما قاله ابن خلكان، والمشهور أنه كان مجتهدًا المتوفى يوم الجمعة نصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، (عن يزيد) أبي رجاء بن أبي حبيب المصري التابعي الجليل مفتي مصر المتوفى سنة ثمان وعشرين ومائة، (عن أبي الخير) مرثد بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة ابن عبد الله اليزني نسبة إلى ذي يزن المصري المتوفى سنة تسعين، (عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص (رضي الله عنهما أن رجلاً) قال صاحب الفتح لم أعرف اسمه وقد قيل إنه أبو ذر (سأل النبي) وفي رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي) خصال (الإسلام خير قال) وفي رواية أبوي ذر والوقت فقال أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تطعم) الخلق (الطعام) تطعم في محل رفع خبر مبتدأ محذوف بتقدير أن أي هو أن تطعم الطعام فأن مصدرية والتقدير هو إطعام الطعام ولم يقل توكل الطعام ونحوه، لأن لفظ الإطعام يشمل الأكل والشرب والذواق والضيافة والإعطاء وغير ذلك (وتقرأ) بفتح التاء وضم الهمزة مضارع قرأ (السلام على من عرفت ومن لم تعرف) من المسلمين، فلا تخص به أحدًا تكبرًا وتجبرًا بل عمّ به كل أحد لأن المؤمنين كلهم إخوة وحذف العائد في الوضعين للعلم به والتقدير على من عرفته ولم يقل وتسلم حتى يتناول سلام الباعث بالكتاب المتضمن للسلام. وفي هاتين الخصلتين الجمع بين نوعي المكارم المالية والبدنية: الطعام والسلام.
وفي هذا الحديث التحديث والعنعنة وكل رواته مصريون وهذا من الغرائب، ورواته كلهم أئمة أجلاء. وأخرجه المؤلف أيضًا في باب الإيمان بعد هذا الباب بأبواب، وفي الاستئذان ومسلم في الإيمان والنسائي فيه أيضًا وأبو داود في الأدب وابن ماجة في الأطعمة.

7 - باب مِنَ الإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
13 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط في رواية الأصيلي (من الإيمان أن يحب لأخيه) المسلم وكذا المسلمة أو أعم مثل (ما) أي الذي (يحب لنفسه).

وبالسند إلى المؤلف قال:
(حدّثنا مسدد) بضم الميم وفتح السين وتشديد الدال المهملتين ابن مسرهد، ابن مرعبل بن أرندل بن سرندل بن غرندل بن ماسك بن مستورد، وعند مسلم في كتب الكنى ابن مغربل بدل ابن مرعبل الأسدي البصري المتوفى في رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد بن فروخ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة آخره خاء معجمة غير منصرف للعجمة والعلمية، القطان الأحول التميمي البصري المتفق على جلالته المتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة، (عن شعبة) بضم المعجمة ابن الحجاج الواسطي ثم البصري المتقدم (عن قتادة) بن دعامة بكسر الدال ابن قتادة السدوسي نسبة لجده الأعلى الأكمه البصري التابعي المجمع على جلالته المتوفى بواسط سنة سبع عشرة ومائة، (عن أنس) هو ابن مالك بن النضر بالنون والضاد المعجمة الأنصاري النجاري خادم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تسع سنين أو عشر سنين آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة ثلاث وتسعين، وله في البخاري مائتان وثمانية وستون حديثًا (رضي الله عنه، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ثم عطف على شعبة قوله (وعن

(1/95)


حسين) بالتنوين أي ابن ذكوان (المعلم) البصري، (قال: حدّثنا قتادة) بن دعامة السابق، فكأنه قال عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة وأفردهما تبعًا لشيخه، وليست طريق حسين معلقة بل موصولة كما رواها أبو نعيم في مستخرجه من طريق إبراهيم الحربي، عن مسدد شيخ البخاري، عن يحيى القطان، عن حسين المعلم، عن قتادة، عن أنس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال: "لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه وجاره ما يحب لنفسه".

فإن قلت: قتادة مدلس ولم يصرح بالسماع عن أنس، أجيب بأنه قد صرح أحمد والنسائي في روايتيهما بسماع قتادة له من أنس فأنتفت تهمة تدليسه: (عن أنس) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر عن أنس بن مالك (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لا يؤمن) وفي رواية أبوي الوقت وذر والأصيلي وابن عساكر (أحدكم) وفي رواية أخرى لأبي ذر أحد وفي أخرى لابن عساكر وعبد الإيمان الكامل، (حتى يحب لأخيه) المسلم وكذا المسلمة مثل (ما يحب لنفسه). أي الذي يحب لنفسه من الخير، وهذا وارد مورد المبالغة، وإلا فلا بد من بقية الأركان. ولم ينص على أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، ويحتمل أن يكون قوله أخيه شاملاً للذميّ أيضًا بأن يحب له الإسلام مثلاً، ويؤيده حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن". فقال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله. فأخذ بيدي فعدّ خمسًا قال: "اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم لك تكن أغنى الناس، وأحسِن إلى جارك تكن مؤمنًا. وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا" الحديث رواه الترمذي وغيره من رواية الحسن عن أبي هريرة، وقال الترمذي: الحسن لم يسمع من أبي هريرة ورواه البزار والبيهقي بنحوه في الزهد عن مكحول عن واثلة عنه. وقد سمع مكحول من واثلة. قال الترمذي وغيره لكن بقية إسناده فيه ضعف. ورواة حديث الباب كلهم بصريون، وإسناد الحديث السابق مصريون، والذي قبله

كوفيون، فوقع التسلسل في الأبواب الثلاثة على الولاء وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي.

8 - باب حُبُّ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الإِيمَانِ
14 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ».
(باب) بالتنوين (حب الرسول) نبينا محمد (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الإيمان).
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع السابق (قال: أخبرنا شعيب) أي ابن أبي حمزة الحمصي (قال: حدّثنا) وفي رواية ابن عساكر أخبرنا (أبو الزناد) بكسر الزاي وبالنون عبد الله بن ذكوان المدني القرشي التابعي المتوفى سنة ثلاثين ومائة (عن الأعرج) أبي داود عبد الرحمن بن هرمز التابعي المدني القرشي المتوفى بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومائة على الصحيح، (عن أبي هريرة) نقيب أهل الصفة (رضي الله عنه أن رسول الله) وفي رواية أبي ذر عن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(فو) الله (الذي) بالفاء وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر والذي (نفسي بيده) أي بقدرته أو هو من المتشابه المفوّض علمه إلى الله والأوّل أعلم والثاني أسلم وعن أبي حنيفة يلزم من تأويله بالقدرة عين التعطيل فالسبيل فيه كأمثلة الإيمان به على ما أراد، ونكف عن الخوض في تأويله فنقول له يد على ما أراد لا كيد المخلوق، وأقسم تأكيدًا. ويؤخذ منه جواز القسم على الأمر المهم للتأكيد وإن لم يكن هناك مستحلف. والمقسم عليه هنا قوله (لا يؤمن أحدكم) إيمانًا كاملاً (حتى أكون أحبّ إليه) أفعل تفضيل بمعنى المفعول، وهو هنا مع كثرته على غير قياس منصوب خبرًا لأكون وفصل بينه وبين معموله بقوله إليه لأنه يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره (من والده) أبيه أي وأمه أو اكتفى به عنها (وولده) ذكرًا أو أُنثى. وقدم الوالد للأكثرية لأن كل أحد له والد من غير عكس، أو نظر إلى جانب التعظيم أو لسبقه في الزمان. وعند النسائي تقديم الولد لمزيد الشفقة، وخصهما بالذكر لأنهما أعز على الإنسان غالبًا من غيرهما. وربما كانا أعزّ على ذي اللب من نفسه.
فالثالثة محبة رحمة وشفقة، والثانية

(1/96)


محبة إجلال. والأولى وهي محبة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- محبة إحسان، وقد ينتهي المحب في المحبة إلى أن يؤثر هوى المحبوب على هوى نفسه فضلاً عن ولده، بل يحب أعداء نفسه لمشابهتهم محبوبه قال:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ صار حظي منك حظي منهمُ

15 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ح وَحَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
وبه قال: (حدّثنا) وفي رواية أخبرنا (يعقوب) أبو يوسف (بن إبراهيم) بن كثير الدورقي العبدي المتوفى سنة اثنتين وخمسين ومائتين، (قال: حدّثنا ابن علية) بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد المثناة التحتية نسبة إلى أمه واسمه إسماعيل بن إبراهيم بن سهم البصري الأسدي أسد خزاعة الكوفي الأصل المتوفى ببغداد سنة أربع وتسعين ومائة، (عن عبد العزيز بن صهيب) بضم الصاد المهملة وفتح الهاء وسكون المثناة التحتية آخره موحدة البناني بضم الموحدة وبالنون نسبة إلى بنانة بطن من قريش التابعي كأبيه، (عن أنس) وفي رواية الأصيلي ابن مالك (عن النبي) وفي رواية ابن عساكر عن أنس قال النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). ولفظ متن هذا السند كما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن يعقوب شيخ البخاري بهذا الإسناد: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من أهله وماله بدل من والده وولده، وفي فرع اليونينية هنا علامة التحويل (ح وحدّثنا آدم) بن أبي إياس بواو العطف على السند السابق العاري عن المتن الموهمة لاستواء السندين في المتن الآتي وليس كذلك. إذ لفظ متنه لم يذكره المؤلف مقتصرًا على لفظ رواية قتادة نظرًا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه. لكونها موافقة للفظ أبي هريرة في الحديث السابق. (قال حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس) أنه (قال: قال النبي) وفي رواية أبي ذر وابن عساكر وأبي الوقت قال رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا يؤمن أحدكم) الإيمان التام (حتى أكون أحبّ إليه من والده) أبيه وأمه (وولده والناس أجمعين) هو من باب عطف العام على الخاص. وهل تدخل النفس في عموم الناس الظاهر نعم.
وقيل إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، فإنك إذا قلت جميع الناس أحب إلى زيد من غلامه يفهم منه خروج زيد منهم، وأجيب بأن اللفظ عام وما ذكر ليس من المخصصات، وحينئذٍ فلا يخرج. وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هشام الآتي إن شاء الله تعالى، والمراد هنا المحبة الإيمانية وهي اتباع المحبوب، لا الطبيعية ومن ثم لم يحكم بإيمان أبي طالب مع حبه له عليه الصلاة والسلام على ما لا يخفى، فحقيقة الإيمان لا تتم ولا تحصل إلا بتحقيق إعلاء قدره ومنزلته على كل والد وولد ومحسن، ومن لم يعتقد هذا فليس بمؤمن. وفي المواهب اللدنية بالمنح المحمدية مما جمعته في ذلك ما يشفي ويكفي. ولا ذكر المؤلف في هذا الباب أن حبه عليه الصلاة والسلام من الإيمان أردفه بما يوجد حلاوة ذلك فقال:

9 - باب حَلاَوَةِ الإِيمَانِ
16 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ

أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ». [الحديث 16 - أطرافه في: 21، 6041، 6941].
هذا (باب حلاوة الإيمان) والمراد أن الحلاوة من ثمراته، فهي أصل زائد عليه، وقد سقط لفظ باب عند الأصيلي كما في فرع اليونينية كهي.
وبالسند السابق إلى المؤلف رحمه الله تعالى قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) بالمثلثة ابن عبيد العنزي بفتح النون بعدها زاي نسبة إلى عنزة بن أسد حيّ من ربيعة البصري المتوفى بها سنة اثنتين وخمسين ومائتين، (قال: حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد بن الصلت (الثقفي) بالمثلثة بعدها قاف ثم فاء نسبة إلى ثقيف البصري المتوفى سنة أربع وتسعين ومائة، (قال: حدّثنا أيوب) بن أبي تميمة واسمه كيسان السختياني بفتح المهملة على الصحيح نسبة إلى بيع السختيان وهو الجلد البصري المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومائة، (عن أبي قلابة) بكسر القاف وبالموحدة عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر البصري المتوفى بالشام سنة أربع ومائة، (عن أنس) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر زيادة ابن مالك (رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):

(ثلاث) أي ثلاث خصال مبتدأ خبره جملة (من كن فيه وجد) أي أصاب (حلاوة الأيمان) وكذلك اكتفى بمفعول واحد، وحلاوة الإيمان استلذاذه بالطاعات عند قوّة النفس بالإيمان

(1/97)


وانشراح الصدر له بحيث يخالط لحمه ودمه. وهل هذا الذوق محسوس أو معنوي. وعلى الثاني فهو على سبيل المجاز والاستعارة الموضحة للمؤلف على استدلاله بزيادة الإيمان ونقصه، لأن في ذلك تلميحًا إلى قضية المريض والصحيح، لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مرًّا بخلاف الصحيح، فكلما نقصت الصحة نقص ذوقه بقدر ذلك، وتسمى هذه الاستعارة تخييلية، وذلك أنه شبه رغبة المؤمن في الإيمان بالعسل ونحوه ثم أثبت له لازم ذلك وهي الحلاوة، وأضافه إليه فالمرء لا يؤمن إلا (أن يكون الله) عز وجل (ورسوله) عليه الصلاة والسلام (أحب إليه مما سواهما) بإفراد الضمير في أحب لأنه أفعل تفضيل، وهو إذا وصل بمن أفرد دائمًا وعبر بالتثنية في سواهما إشارة إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى. فمن يدعي حب الله مثلاً ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك، ولا يعارض تثنية الضمير هنا بقصة الخطيب حيث قال: ومن يعصهما فقد غوى. فقال له عليه الصلاة والسلام بئس الخطيب أنت فأمره بالإفراد إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزامه الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير والأصل استقلال كل واحد من المعطوفين في الحكم. فهو في قوة قولنا: ومن عصى الله فقد غوى ومن عصى الرسول فقد غوى. ويؤيد ذلك قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم} [النساء: 59] لم يعد أطيعوا في أُولي الأمر منكم كما أعاده في وأطيعوا الرسول ليؤذن بأنه لا استقلال لهم في الطاعة استقلال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وقيل: إنه من الخصائص فيمتنع من غيره عليه الصلاة والسلام لأن غيره إذا جمع أوهم التسوية بخلافه هو عليه الصلاة والسلام، فإن منصبه لا

يتطرق إليه إيهام ذلك. وقال: مما ولم يقل ممن ليعم العاقل وغيره، والمراد بهذا الحب كما قال البيضاوي العقلي وهو إيثار ما يقتضي العقل رجحانه ويستدعي اختياره، وإن كان على خلاف هواه.
ألا ترى أن المريض يعاف الدواء وينفر عنه طبعه، ولكنه يميل إليه باختياره ويهوى تناوله بمقتضى عقله لما يعلم أن صلاحه فيه.
(و) من محبة الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام (أن يحب) المتلبس بها (المرء) حال كونه (لا يحبه إلاّ الله) تعالى (وأن يكره أن يعود) أي العود (في الكفر كما يكره أن يقذف) بضم أوّله وفتح ثالثه أي مثل كرهه القذف (في النار) وهذا نتيجة دخول نور الإيمان في القلب بحيث يختلط باللحم والدم واستكشافه عن محاسن الإسلام وقبح الكفر وشينه.
فإن قلت: لِمَ عدّى العود بفي ولم يعدّه بإلى كما هو المشهور؟ أجاب الحافظ ابن حجر كالكرماني بأنه ضمن معنى الاستقرار كأنه قال: أن يعود مستقرًّا فيه، وتعقبه العيني فقال فيه تعسف، وإنما في هنا بمعنى إلى كقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] أي لتصيرن إلى ملتنا، وفي هذا الحديث الإشارة إلى التحلّي بالفضائل والتخلّي عن الرذائل، فالأوّل من الأوّل والأخير من الثاني. وفي الثاني الحثّ على التحابب في الله، ورواته كلهم بصريون أئمة أجلاء، وأخرجه المؤلف أيضًا بعد ثلاثة أبواب وفي الأدب ومسلم والترمذي والنسائي وألفاظهم مختلفة.

10 - باب عَلاَمَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ
17 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ». [الحديث 17 - طرفه في: 3784].
(باب) بالتنوين (علامة الإيمان) التام (حبّ الأنصار)، وسقط التنوين للأصيلي، وحينئذ فقوله علامة جر بالإضافة قال ابن المنير: علامة الشيء لا يخفى أنها غير داخلة في حقيقته، فكيف تفيد هذه الترجمة مقصوده من أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وجوابه أن المستفاد منها كون مجرد التصديق بالقلب لا يكفي حتى تنصب عليه علامة من الأعمال الظاهرة التي هي مؤازرة الأنصار ومواددتهم.
وبسندي المذكور أولاً إلى الإمام البخاري قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي نسبة لبيع الطيالسة البصري المتوفى سنة عشرين ومائتين، (قال حدّثنا شعبة) بن الحجاج السابق (قال أخبرني) بالإفراد (عبد الله بن عبد الله) بفتح العين فيهما (ابن جبر) بفتح الجيم وإسكان الموحدة الأنصاري المدني، (قال سمعت أنسًا) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر أنس بن مالك (رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):

(آية

(1/98)


الإيمان) بالهمزة الممدودة والمثناة التحتية المفتوحة أي علامة الإيمان الكامل (حب الأنصار) الأوس والخزرج جمع قلة على وزن أفعال، واستشكل بأنه لا يكون لما فوق العشرة وهم ألوف: وأجيب بأن القلة والكثرة إنما يعتبران في نكرات الجموع، أما في المعارف فلا فرق بينهما.
(وآية النفاق) الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر (بغض الأنصار). إذا كان من حيث أنهم أنصاره عليه الصلاة والسلام، لأنه لا يجتمع مع التصديق وإنما خصّوا بهذه المنقبة العظيمة والمنحة الجسيمة لما فازوا به من نصره عليه الصلاة والسلام والسعي في إظهاره وإيوائه وأصحابه، ومؤاساتهم بأنفسهم وأموالهم، وقيامهم بحقهم حق القيام مع معاداتهم جميع من وجد من قبائل العرب والعجم، فمن ثم كان حبهم علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق مجازاة لهم على عملهم والجزاء من جنس العمل.
وقال في شرح المشكاة: وإنما كان كذلك لأنهم تبوءوا الدار والإيمان وجعلوه مستقرًّا وموطنًا لتمكنهم منه واستقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك: فمن أحبهم فذلك من كمال إيمانه، من أبغضهم فذلك من علامة نفاقه.
فإن قلت: لم عدل عن لفظ الكفر إلى لفظ النفاق؟ أجيب: بأن الكلام فيمن ظاهره الإيمان وباطنه الكفر فميزهم عن ذوي الإيمان الحقيقي، فلم يقل: وآية الكفر كذا إذ هو ليس بكافر ظاهرًا. وهذا الحديث وقع للمؤلف رباعي الإسناد، ولمسلم خماسيه، وفيه راوٍ وافق اسمه اسم أبيه.
وفيه التحديث والإخبار بالجمع والإفراد والسماع، وأخرجه المؤلف أيضًا في فضائل الأنصار ومسلم والنسائي.

11 - باب
هذا (باب) بالتنوين بغير ترجمة: ولفظ الباب سقط عند الأصيلي، وحينئذ فالحديث التالي من جملة الترجمة السابقة وعلى رواية إثباته فهو كالفصل عن سابقه مع تعلقه به. وفي الحديث السابق الإشارة لحب الأنصار، وفي اللاحق ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن ذلك كان ليلة العقبة لما تبايعوا على إعلاء توحيد الله وشريعته، وقد كانوا يسمون قبل ذلك بني قيلة بقاف مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم عليه الصلاة والسلام الأنصار لذلك.
18 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ. فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ

عَاقَبَهُ». فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. [الحديث 18 - أطرافه في: 3892، 3893، 3999، 4894، 6784، 6801، 6873، 7055، 7199، 7213، 7468].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة القرشي (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو إدريس عائذ الله) بالمعجمة وهو اسم علم أي ذو عياذة الله فهو عطف بيان لقوله أبو إدريس (بن عبد الله) الصحابي ابن عمر الخولاني الدمشقي الصحابي، لأن مولده كان عام حُنين، التابعي الكبير من حيث الرواية المتوفى سنة ثمانين، (أن عبادة) بضم العين (ابن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي المتوفى بالرملة سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين، وله في البخاري تسعة أحاديث (رضي الله عنه وكان شهد بدرًا) أي وقعتها، فالنصب بقوله شهد وليس مفعولاً فيه، (وهو أحد النقباء) جمع نقيب، وهو الناظر على القوم وضمينهم وعريفهم وكانوا اثني عشر رجلاً (ليلة العقبة) بمنى، أي فيها والواو في وهو كواو وكان هي الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت ولا ريب أن كون شهود عبادة بدر أو كونه من النقباء صفتان من صفاته، ولا يجوز أن تكون الواوان للحال ولا للعطف، قاله العيني. وهذا ذكره ابن هشام في مغنيه حاكيًا له عن الزمخشري في كشافه، وعبارته في تفسير قوله تعالى في سورة الحجر {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُوم} [الحجر: 4] جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أنه لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُون} [الشعراء: 208] وإنما توسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب انتهى.
وتعقبه ابن مالك في شرح تسهيله بأن ما ذهب إليه من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد، لأن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف من البصريين ولا من الكوفيين معوّل عليه، فوجب أن لا يلتفت إليه. وأيضًا فإنه معلل بما لا يناسب، وذلك لأن الواو تدل

(1/99)


على الجمع بين ما قبلها وما بعدها، وأيضًا مستلزم لتغايرهما، وهو ضد لما يراد من التأكيد، فلا يصح أن يقال للعاطف مؤكد.
وأيضًا لو صلحت الواو لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعًا لا يصلح للحال، نحو إن رجلاً رأيه سديد لسعيد، فرأيه سديد جملة نعت بها، ولا يجوز اقترانها بالواو ولعدم صلاحيتها للحال، بخلاف {ولها كتاب معلوم} فإنها جملة يصلح في موضعها الحال لأنها بعد نفي.
وتعقبه نجم الدين سعيد على الوجه الأوّل بأن الزمخشري أعرف باللغة مع أنه لا يلزم من عدم العرفان بالمعوّل عليه عدمه، وعلى الثاني أن تغاير الشيئين لا ينافي تلاصقهما، والجملة التي هي صفة لها التصاق بالموصوف، والواو أكدت الالتصاق باعتبار أنها في أصلها للجمع المناسب للإلصاق لا أنها عاطفة، وعلى الثالث أن المراد من الالتصاق ليس الالتصاق اللفظي كما فهمه ابن مالك بل المعنوي، والواو تؤكد الثاني دون الأوّل.

وتعقبه البدر الدماميني بأن قوله أعرف باللغة مجرد دعوى مع أنها لو سلمت لا تصلح لردّ أن هذا المذهب غير معروف لبصري ولا كوفي، وإنما وجه الردّ أن يقال بل هو معروف، ويبيّن من قاله منهم انتهى.
وقد تبع الزمخشري في ذلك أبو البقاء، وقال في الدران في محفوظه أن ابن جني سبق الزمخشري بذلك وقوّاه بآية {إلا لها منذرون} وقراءة ابن أبي عبلة إلا لها كتاب بإسقاط الواو، ويحتمل أن يكون قائل ذلك أبا إدريس فيكون متصلاً إن حمل على أنه سمع ذلك من عبادة أو الزهري، فيكون منقطعًا. والجملة اعتراض بين إن وخبرها الساقط من أصل الرواية هنا، ولعلها سقطت من ناسخ بعده. واستمر بدليل ثبوتها عند المصنف في باب من شهد بدرًا والتقدير هنا أن عبادة بن الصامت أخبر (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال وحوله) بالنصب على الظرفية (عصابة من أصحابه) بكسر العين ما بين العشرة إلى الأربعين، والجملة اسمية حالية وعصابة مبتدأ خبره حوله مقدمًا، ومن أصحابه صفة لعصابة، وأشار الراوي بذلك إلى المبالغة في ضبط الحديث، وأنه عن تحقيق وإتقان، ولذا ذكر أن الراوي شهد بدرًا وأنه أحد النقباء والمراد به التقوية، فإن الرواية تترجح عند المعارضة بفضل الراوي وشرفه. ومقول قوله عليه الصلاة والسلام.
(بايعوني) أي عاقدوني (على) التوحيد (أن لا تشركوا بالله شيئًا) أي على ترك الإشراك وهو عام، لأنه نكرة في سياق النهي كالنفي، وقدمه على ما بعده لأنه الأصل. (و) على أن (لا تسرقوا) فيه حذف المفعول ليدل على العموم، (ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم) خصّهم بالذكر لأنهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإملاق، أو لأن قتلهم أكثر من قتل غيرهم، وهو الوأد وهو أشنع القتل، أو أنه قتل وقطيعة رحم، فصرف العناية إليه أكثر. (ولا تأتوا) بحذف النون، ولغير الأربعة ولا تأتون (ببهتان) أي بكذب يبهت سامعه أي يدهشه لفظاعته كالرمي بالزنا والفضيحة والعار. وقوله (تفترونه) من الافتراء أي تختلقونه (بين أيديكم وأرجلكم) أي من قبل أنفسكم، فكنى باليد والرجل عن الذات لأن الأفعال بهما، والمعنى لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم أو أن البهتان ناشىء عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه، والمعنى لا تبهتوا الناس بالمعايب كفاحًا مواجهة، (ولا تعصوا في معروف) وهو ما عرف من الشارع حسنه نهيًا وأمرًا وليد به تطييبًا لقلوبهم، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا به، وقال البيضاوي في الآية والتقييد بالمعروف مع أن الرسول لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وخصّ ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره للاهتمام به (فمن وفى) بالتخفيف، وفي رواية أبي ذر وفي بالتشديد، أي ثبت على العهد (منكم فأجره على الله) فضلاً ووعدًا أي بالجنة، كما وقع التصريح به في الصحيحين من حديث عبادة في رواية الصنابحي. وعبر بلفظ على وبالأجر للمبالغة في تحقق وقوعه، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القاطعة على أنه لا يجب على الله شيء، بل الأجر من فضله عليه لما ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت

(1/100)


الأجر في موضع أحدهما. (ومن أصاب) منكم أيها المؤمنون

(من ذلك شيئًا) غير الشرك، بنصب شيئًا مفعول أصاب الذي هو صلة من الموصول المتضمن معنى الشرط والجاز للتبعيض، (فعوقب) أي به كما رواه أحمد أي بسببه (في الدنيا) أي بأن أقيم عليه الحد، (فهو) أي العقاب (كفارة له) فلا يعاقب عليه في الآخرة، وفي رواية الأربعة فهو كفّارة بحذف له، وقد قيل: إن قتل القاتل حدّ وإرداع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يجز العفو في القاتل، والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء أن الحدود كفارات لظاهر الحديث، وفي الترمذي وصححه من حديث عليّ بن أبي طالب مرفوعًا نحو هذا الحديث، وفيه: ومن أصاب ذنبًا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة.
وشيئًا نكرة تفيد العموم لأنها في سياق الشرط، وقد صرح ابن الحاجب بأنه كالنفي في إفادته، وحينئذ فيشمل إصابة الشرك وغيره، واستشكل بأن المرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون قتله كفّارة.

وأجيب بأن عموم الحديث مخصوص بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] أو المراد به الشرك الأصغر وهو الرياء، وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وأجيب بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز فهو محتمل وإن كان ضعيفًا، وتعقب بأنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص. وقال قوم بالوقف لحديث أبي هريرة المروي عند البزار والحاكم، وصححه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لا أدري الحدود كفّارة لأهلها أم لا، وأجيب بأن حديث الباب أصح إسنادًا وبأن حديث أبي هريرة ورد أولاً قبل أن يعلم عليه السلام، ثم أعلمه الله تعالى آخرًا. وعورض بتأخر إسلام أبي هريرة، وتقدم حديث الباب إذ كان ليلة العقبة الأولى، وأجيب بأن حديث أبي هريرة صحيح سابق على حديث الباب، وأن المبايعة المذكورة لم تكن ليلة العقبة وإنما هي بعد فتح مكة وآية الممتحنة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة. وعورض بأن الحديث رواه الحاكم ولا يخفى تساهله في التصحيح. على أن الدارقطني قال: إن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله، وحينئذ فلا تساوي بينهما. وعلى ذلك فلا يحتاج إلى الجمع والتوفيق بين الحديثين، وبأن عياضًا وغيره جزموا بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة عند البيعة الأولى بمنى، ويؤيده قوله عصابة المفسر بالنقباء الاثني عشر، بل صرح بذلك في رواية النسائي، ولفظه: بايعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة العقبة في رهط، والرهط ما دون العشرة من الرجال فقط. وقال ابن دريد: وربما جاوز ذلك قليلاً، وهو ضد الكثير وأقله ثلاثة وأكثر القليل اثنان فتضاف للتسعة فالمجموع أحد عشر، فكان المراد من الرهط هنا أحد عشر نقيبًا، ومع عبادة اثنا عشر نقيبًا. وإذا ثبت هذا فقد دلّ قطعًا أن هذه المبايعة كانت ليلة العقبة الأولى لأن الواقعة بعد الفتح كان فيها الرجال والنساء معًا مع العدد الكثير انتهى.
(ومن أصاب من ذلك) المذكور (شيئًا ثم ستره الله) وفي رواية ابن عساكر وعزاها الحافظ ابن حجر لكريمة زيادة عليه (فهو) مفوّض (إلى الله) تعالى (إن شاء عفا عنه) بفضله، (وإن شاء عاقبه) بعدله، (فبايعناه على ذلك). مفهوم هذا يتناول من تاب ومن لم يتب، وأنه لم يتحتم دخوله النار بل

هو إلى مشيئة الله. وقال الجمهور: إن التوبة ترفع المؤاخذة، نعم لا يأمن من مكر الله لأنه لا اطّلاع له على قبول توبته. وقال قوم بالتفرقة بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب.
فإن قلت: ما الحكمة فى عطف الجملة المتضمنة للعقوبة على ما قبلها بالفاء والمتضمنة للستر بثم؟ أجيب باحتمال أنه للتنفير عن مواقعة المعصية، فإن السامع إذا علم أن العقوبة مفاجئة لإصابة المعصية غير متراخية عنها وأن الستر متراخٍ، بعثه ذلك على اجتناب المعصية وتوقيها قاله في المصابيح. ورجال إسناد هذا الحديث كلهم شاميون وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفيه رواية قاضٍ عن قاضٍ أبو إدريس وعبادة، ورواية من رآه عليه الصلاة والسلام عمن رآه، لأن أبا إدريس له رؤية،

(1/101)


وأخرجه المؤلف أيضًا في المغازي والأحكام في وفود الأنصار وفي الحدود، ومسلم في الحدود أيضًا، والترمذي والنسائي وألفاظهم مختلفة.
ولما فرغ المصنف من تلويحه بمناقب الأنصار من بذلهم أرواحهم وأموالهم في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فرارًا بدينهم من فتن الكفر والضلال، شرع يذكر فضيلة العزلة والفرار من الفتن فقال:

12 - باب مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ.
19 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ». [الحديث 19 - أطرافه في: 3300، 3600، 6495، 7088].
هذا (باب) بالتنوين (من الدين الفرار من الفتن). ولم يقل من الإيمان لمراعاة لفظ الحديث، ولم يرد الحقيقة لأن الفرار ليس بدين، فالتقدير الفرار من الفتن شعبة من شعب الإيمان كما دل عليه أداة التبعيض.

وبالسند المذكور أوّل هذا الشرح إلى البخاري قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة ابن قعنب الحارثي البصري ذو الدعوة المجابة أحد رواة الموطأ المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائتين، (عن مالك) هو ابن أنس إمام دار الهجرة، (عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) الأنصاري المازني المدني المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائة، (عن أبيه) عبد الله، (عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن ستان الخزرجي الأنصاري (الخدري) بضم الخاء وسكون المهملة نسبة إلى خدرة جدّه الأعلى أو بطن المتوفى بالمدينة أربع وستين أو أربع وسبعين، وله في البخاري ستة وستون حديثًا زاد في رواية أبي ذر رضي الله عنه، (أنّه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).

(يوشك) بكسر المعجمة وفتحها لغة رديئة وهي من أفعال المقاربة أي يقرب (أن يكون خير مال المسلم غنمًا) بالنصب خبر يكون، وفي رواية غير الأصيلي بنصب خير خبرًا مقدمًا ورفع غنم اسمًا مؤخرًا، ولا يضر كونه نكرة لأنه موصوف بجملة يتبع، وجوّز ابن مالك رفعهما على الابتداء والخبر، ويقدر في يكون ضمير الشأن. قال الفتح: لكن لم تجىء به الرواية، وذكره العيني من غير تنبيه على الرواية فأوهم. والغنم اسم مؤنث موضوع للجنس (يتبع بها) بتشديد المثناة الفوقية افتعال من اتبع اتباعًا، ويجوز إسكانها من تبع بكسر الموحدة يتبع بفتحها أي يتبع بالغنم، (شعف) بمعجمة فمهملة مفتوحتين جمع شعفة بالتحريك وهو بالنصب مفعول يتبع أي رؤوس (الجبال ومواقع) بكسر القاف وهو بالنصب عطف على شعف أي مواضع نزول (القطر) أي المطر أي بطون الأودية والصحارى، حال كونه (يفرّ بدينه) أي يهرب بسببه أو مع دينه (من الفتن) طلبًا لسلامته لا لقصد دنيوي، فالعزلة عند الفتنة ممدوحة إلا لقادر على إزالتها فتجب الخلطة عينًا أو كفاية بحسب الحال والإمكان، واختلف فيها عند عدمها، فمذهب الشافعي تفضيل الصحبة لتعلمة وتعليمه وعبادته وأدبه وتحسين خلقه بحلم واحتمال وتواضع ومعرفة أحكام لازمة، وتكثير سواد المسلمين وعيادة مريضهم وتشييع جنازتهم وحضور الجمعة والجماعات، واختار آخرون العزلة للسلامة المحققة، وليعمل بما علم ويأنس بدوام ذكره، فبالصحبة والعزلة كمال المرء، نعم تجب العزلة لفقيه لا يسلم دينه بالصحبة، وتجب الصحبة لمن عرف الحق فاتبعه والباطل فاجتنبه، وتجب على من جهل ذلك ليعلمه فافهم.
ورجال إسناد هذا الحديث كلهم مدنيون وفيه صحابي ابن صحابي وهو من أفراد البخاري عن مسلم، وقد رواه المؤلف أيضًا في الفتن والرقاق وعلامات النبوّة، وأخرجه أبو داود والنسائي. ولما كان الفرار من الفتن لا يكون إلا على قدر قوّة دين الرجل وهي تدل على قوة المعرفة. شرع بذكر ذلك فقال:

13 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ». وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالإضافة، وسقط لفظ باب عند الأصيلي، ومقول قوله عليه الصلاة والسلام (أنا أعلمكم بالله) لأنه كلما كان الرجل أقوى في دينه كان أقوى في معرفة ربه، وذلك يدل ظاهرًا على قبول الإيمان الزيادة والنقصان، وللأصيلي في غير الفرع وأصله أعرفكم بدل أعلمكم، والفرق بينهما أن المعرفة هي إدراك الجزئي، والعلم إدراك الكلي، (و) باب بيان (أن المعرفة) بفتح الهمزة (فعل القلب) فالإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه خلافًا للكرامية، والاعتقاد فعل القلب (لقول الله تعالى) ولأبوي

(1/102)


الوقت وذر لقوله عز وجل: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا

كَسَبَتْ قُلُوبُكُم} [البقرة: 225] أي عزمت عليه، ومفهومه المؤاخذة بما يستقر من فعل القلب وهو ما عليه المعظم.
فإن قلت: يعارضه قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل) أجيب بأنه محمول على ما إذا لم يستقر لأنه يمكن الانفكاك عنه بخلاف ما يستقر.
20 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا».

وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا محمد بن سلام) هو بالتخفيف والتشديد كما في فرع اليونينية كهي عن الأصيلي، وصحح الحافظ ابن حجر التخفيف، قال العيني: وبه قطع الجمهور كالخطيب وابن ماكولا، وقول صاحب المطالع إن التشديد عليه الأكثر حمله النووي على أكثر المشايخ فقال: وإنما الذي عليه أكثر العلماء التخفيف قال: وقد روى عنه ذلك نفسه وهو أخبر بأبيه وهو يشير إلى ما رواه سهل بن المتوكل عنه أنه قال: أنا محمد بن سلام بالتخفيف، وقد صنف المنذري جزءًا في ترجيح التشديد، ولكن المعتمد خلافه، حتى قال بعض الحفاظ فيما نقله العيني إن التشديد لحن انتهى. واسم أبيه الفرج السلميّ البخاري زاد في رواية كريمة مما ليس في الفرع وأصله البيكندي بموحدة مكسورة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم كاف مفتوحة ثم نون ساكنة نسبة إلى بيكند بلدة على مرحلة من بخارى. وتوفي محمد بن سلام هذا سنة خمس وعشرين ومائتين وهو مما انفرد به البخاري عن الكتب الستة، (قال: أخبرنا) وللأصيلي حدّثنا (عبدة) بسكون الموحدة، قيل هو لقبه واسمه عبد الرحمن بن سليمان بن حاجب الكلابي الكوفي المتوفى بها في جمادى أو رجب سنة سبع أو ثمان وثمانين ومائة، (عن هشام) هو ابن عروة. (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قالت):
(كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أمرهم) أي أمر الناس بعمل، (أمرهم من الأعمال بما) وفي رواية أبي الوقت ما (يطيقون) أي يطيقون الدوام عليه، فخير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قلّ، ولا يخفى أن الكثرة تؤدي إلى القطع، والقاطع في صورة ناقض العهد، فأمرهم الثانية جواب أوّل للشرط والثاني قوله (قالوا إنّا لسنا كهيئتك) بفتح الهاء، قال الكرماني والهيئة الحالة والصورة، وليس المراد نفي تشبيه ذواتهم بحالته عليه الصلاة والسلام، فلا بدّ من تأويل في أحد الطرفين، فقيل المراد من هيئتك كمثلك أي كذاتك أو كنفسك، وزيد لفظ الهيئة للتأكيد نحو مثلك لا يبخل أو من لسنا أي ليس حالنا كحالك، فحذف الحال وأقيم المضاف إليه مقامه فاتصل الفعل بالضمير فقيل لسنا كهيئتك (يا رسول الله إن الله) تعالى (قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أي منه، والمعنى والله أعلم أي

حال بينك وبين الذنوب، فلا تأتيها لأن الغفر الستر، وهو إما بين العبد والذنب وإما بين الذنب وعقوبته، فاللائق بالأنبياء الأوّل وبأممهم الثاني، قاله البرماوي. وقال غيره: المراد منه ترك الأولى والأفضل بالعدول إلى الفاضل وترك الأفضل كأنه ذنب لجلالة قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
(فيغضب حتى يعرف) بلفظ المضارع والمراد منه الحال، وفي بعض النسخ فغضب حتى عرف (الغضب) بالرفع (في وجهه) الشريف (ثم يقول) بالرفع عطفًا على يغضب: (إن أتقاكم وأعلمكم بالله) عز وجل (أنا). أتقاكم اسم إن وتاليه عطف عليه والأخير خبرها، كأنهم قالوا أنت مغفور لك لا تحتاج إلى عمل. ومع ذلك تواظب على الأعمال فكيف بنا مع كثرة ذنوبنا، فرد عليهم بقوله أنا أولى بالعمل لأني أتقاكم وأعلمكم، وأشار بالأوّل إلى كماله عليه الصلاة والسلام بالقوّة العملية وبالثاني إلى القوّة العلمية.
وقال في المصابيح: فإن قلت: السياق يقتضي تفضيله على المخاطبين فيما ذكر وليس هو منهم قطعًا، وقد فقد شرط استعمال أفعل التفضيل مضافًا، وأجاب: بأنه إنما قصد التفضيل على كلٍّ من سواه مطلقًا لا على المضاف إليه وحده، والإضافة لمجرد التوضيح، فما ذكر من الشرط هنا لاغٍ إذ يجوز في هذا المعنى أن تضيفه إلى جماعة هو أحدهم نحو نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل قريش، وأن تضيفه إلى جماعة من جنسه، ليس داخلاً فيهم، نحو يوسف أحسن

(1/103)


إخوته، وأن تضيفه إلى غير جماعة نحو فلان أعلم بغداد أي أعلم ممن سواه وهو مختص ببغداد لأنها مسكنه أو منشئه اهـ.
وهذا الحديث كما قاله الحافظ ابن حجر من أفراد المصنف وهو من غرائب الصحيح لا أعرفه إلا من هذا الوجه، فهو مشهور عن هشام فرد مطلق من حديثه عن أبيه عن عائشة ورواته كلهم أجلاء ما بين بخاري وكوفي ومدني.
ولما فرغ المصنف من هذا الحديث المتضمن لسؤال الصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام الإذن لهم في الازدياد من العبادات استلذاذًا لوجدانهم حلاوة الطاعة، شرع يذكر حديث ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان فقال:

14 - باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنَ الإِيمَانِ
(باب) ذكر كراهة (من كره أن يعود) أي العود (في الكفر كما يكره أن يلقى) أي ككراهة الإلقاء (في النار من الإيمان) أي من شعبه، ولفظ باب ساقط عند الأصيلي، ويجوز تنوين باب وإضافته إلى تاليه، وعلى كل تقدير فمن مبتدأ ومن الإيمان خبره وأن في الموضعين مصدرية وكذا ما ومن موصولة، وكره أن يعود صلتها، وسقط لأبي الوقت من الإيمان.

21 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ».
وبالسند إلى البخاري قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) بفتح المهملة وسكون الراء آخره موحدة ابن بجيل بفتح الموحدة وكسر الجيم وسكون المثناة التحتية آخره لام الأزدي الواشحي بكسر الشين المعجمة والحاء المهملة نسبة إلى بطن من الأزد، البصري قاضي مكة المتوفى بالبصرة سنة أربع وعشرين ومائتين، (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس) وللأصيلي زيادة ابن مالك كما في فرع اليونينية كهي (رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال): خصال.
(ثلاث) أو ثالث خصال، فعلى الأول ثلاث صفة لمحذوف، وعلى الثاني مبتدأ، وسوّغ الابتدائية إضافته إلى الخصال والجملة اللاحقة خبره، وهي (من كن فيه وجد) أي أصاب (حلاوة الإيمان) باستلذاذه الطاعات فيحتمل في أمر الدين المشقات ويؤثر ذلك على أعراض الدنيا الفانية، وهل هذه الحلاوة محسوسة أو معنوية، قال بكل قوم: ويشهد للأوّل قول بلال: أحد أحد، حين عذب في الله إكراهًا على الكفر، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وعند موته أهله يقولون واكرباه وهو يقول واطرباه غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وهي حلاوة الإيمان، فالقلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يذوق طعم الإيمان ويتنعم به كما يذوق الفم طعم العسل وغيره من ملذوذات الأطعمة ويتنعم بها، ولا يذوق ذلك ويتنعم به إلا (من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) من نفس وولد ووالد وأهل ومال وكل شيء، ومن ثم قال مما ولم يقل ممن ليعمّ من يعقل ومن لم يعقل. (و) كذلك يجد هذه الحلاوة (من أحب عبدًا) وفي الرواية السابقة في باب حلاوة الإيمان أن يحب المرء (لاّ يحبه إلا لله) زاد في رواية أبي ذر عز وجل كما في فرع اليونينية، (و) كذا (من يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله) أي خلصه الله ونجاه، زاد في رواية ابن عساكر منه (كما يكره أن يلقى في النار)، وفي الرواية السابقة، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار. ومن علامات هذه المحبة نصر دين الإسلام بالقول والفعل والذبّ عن الشريعة المقدسة والتخلّق بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام في الجود والإيثار والحلم والصبر والتواضع وغير ذلك مما ذكرته في أخلاقه العظيمة في كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ الطاعات وتحمل في الدين المشقات، بل ربما يلتذ بكثير من المؤلمات، ولذلك تقرير طويل، فلينظر في كتاب المواهب، والله يهب لمن يشاء ما يشاء. وأنت إذا تأملت الاختلاف بين رواة حديث هذا الباب والسابق ظهر لك بما نبّهت عليه هنا مع النظر في الإسنادين والمتن أنه لا تكرير في سياقه له هنا لا سيما والحديث مشتمل

على ثلاثة أشياء: حلاوة الإيمان المبوّب لها فيما سبق، والمحبة لله، وكراهة الكفر كما يكره أن يلقى في النار. وعليه بوّب. فلفه در المؤلف من: إمام.
ولما فرغ رحمه الله تعالى من هذا الحديث المتضمن للخصال الثلاث

(1/104)


والناس يتفاوتون فيها وبه يحصل التفاضل في العمل، شرع يذكر تفاضل الأعمال فقال:

15 - باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الأَعْمَالِ
22 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا -أَوِ الْحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ- فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً»؟
قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو «الْحَيَاةِ». وَقَالَ «خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ». [الحديث 22 - أطرافه في: 4581، 4919، 6560، 6574، 7438، 7439].
(باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال) أي التفاضل الحاصل بسبب الأعمال، ولفظ باب ساقط عند الأصيلي.

وبالسند أوّل هذا المجموع إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أُويس بن عبد الله الأصبحي المدني ابن أُخت إمام دار الهجرة مالك، وتكلم فيه كأبيه لكن أثنى عليه ابن معين وأحمد، وقد وافقه على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب ومعن بن عيسى عن مالك، وليس هو في الموطأ. قال الدارقطني: هو غريب صحيح، وأخرجه المؤلف أيضًا عن غيره فانجبر اللين الذي فيه، وتوفي إسماعيل هذا في رجب سنة سبع أو ست وعشرين ومائتين. (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الإمام (عن عمرو بن يحيى) بن عمارة بفتح عين عمرو (المازني) المدني المتوفى سنة أربعين ومائة، (عن أبيه) يحيى (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري) بالدال المهملة (رضي الله عنه، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(يدخل أهل الجنة الجنة) أي فيها، وعبر بالمضارع العاري عن سين الاستقبال المتمحض للحال لتحقق وقوع الإدخال، (و) يدخل (أهل النار النار، ثم) بعد دخولهم فيها (يقول الله تعالى) وفي رواية عز وجل للملائكة (أخرجوا) بهمزة قطع مفتوحة أمر من الإخراج زاد في رواية الأصيلي من النار (من) أي الذي (كان في قلبه) زيادة على أصل التوحيد (مثقال حبة) ويشهد لهذا قوله أخرجوا من النار من قال لا إله إلاّ الله وعمل من الخير ما يزن كذا أي مقدار حبة حاصلة (من خردل) حاصل (من إيمان) بالتنكير ليفيد التقليل، والقلة هنا باعتبار انتفاء الزيادة على ما يكفي، لا لأن

الإيمان ببعض ما يجب الإيمان به كافٍ لأنه علم من عرف الشرع أن المراد من الإيمان الحقيقة المعهودة، وفي رواية الأصيلي والحموي والمستملي من الإيمان بالتعريف. ثم إن المراد بقوله حبة من خردل التمثيل، فيكون عيارًا في المعرفة لا في الوزن حقيقة، لأن الإيمان ليس بجسم، فيحصره الوزن والكيل، لكن ما يشكل من المعقول قد يردّ إلى عيار محسوس، ليفهم ويشبه به ليعلم، والتحقيق فيه أن يجعل عمل العبد وهو عرض في جسم على مقدار العمل عنده تعالى، ثم يوزن كما صرّح به في قوله: وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، أو تمثل الأعمال بجواهر فتجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة، أو الموزون الخواتيم. وقد استنبط الغزالي من قوله أخرجوا من النار من كان في قلبه الخ. نجاة من أيقن بالإيمان، وحال بينه وبين النطق به الموت، فقال: وأما من قدر على النطق ولم يفعل حتى مات مع إيقانه بالإيمان بقلبه، فيحتمل أن يكون امتناعه منه بمنزلة امتناعه عن الصلاة، فلا يخلد في النار. ويحتمل خلافه، ورجح غيره الثاني، فيحتاج إلى تأويل قوله في قلبه، فيقدّر فيه محذوف تقديره منضمًّا إلى النطق به مع القدرة عليه، ومنشأ الاحتمالين الخلاف في أن النطق بالإيمان شطر فلا يتم الإيمان إلا به، وهو مذهب جماعة من العلماء، واختاره الإمام شمس الذين وفخر الإسلام، أو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، وهو مذهب جمهور المحققين، وهو اختيار الشيخ أبي منصور، والنصوص معاضدة لذلك قاله المحقق التفتازاني.
(فيخرجون منها) أي من النار حال كونهم (قد اسودوا) أي صاروا سودًا كالحمم من تأثير النار، (فيلقون) بضم المثناة التحتية مبنيًّا للمفعول (في نهر الحيا) بالقصر لكريمة وغيرها أي المطر (أو الحياة) بالمثناة الفوقية آخره، وهو النهر الذي من غمس فيه حيي، (شك مالك) وفي رواية ابن عساكر يشك بالمثناة التحتية أوّله أي في أيهما الرواية، ورواية الأصيلي من غير الفرع الحياء بالمد ولا وجه له، والمعنى على الأولى لأن المراد كل ما تحصل به الحياة، وبالمطر تحصل حياة الزرع بخلاف الثالث، فإن معناه الخجل، ولا يخفى بعده عن المعنى المراد هنا، وجملة شك اعتراض بين قوله فيلقون في نهر الحياة السابق، وبين لاحقه وهو قوله (فينبتون) ثانيًا (كما تنبت الحبة) بكسر المهملة وتشديد الموحدة، أي كنبات برز العشب، فأل للجنس أو للعهد، والمراد

(1/105)


البقرة الحمقاة لأنها تنبت سريعًا. (في جانب السيل، ألم تر) لكل من يتأتى منه الرؤية (أنها تخرج) حال كونها (صفراء) تسرّ الناظر، وحال كونها (ملتوية)، أي منعطفة منثنية، وهذا مما يزيد الرياحين حسنًا باهتزازه وتمايله، فالتشبيه من حيث الإسراع والحسن، والمعنى من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان يخرج من ذلك الماء نضرًا متبخترًا كخروج هذه الريحانة من جانب السيل صفراء متمايلة، وحينئذ فيتعين كون أل في الحبة للجنس فافهم، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في صفة الجنة والنار، حيث أخرج المؤلف هذا الحديث. وقد أخرجه مسلم أيضًا في الإيمان، وهو من عوالي المؤلف على مسلم بدرجة، وأخرجه النسائي أيضًا، وليس هو في الموطأ. وهو هنا قطعة من الحديث الآتي إن شاء الله تعالى بعون الله مع مباحثه.

وبه قال (قال وهيب) بضم أوّله وفتح ثانيه مصغرًا آخره موحدة، ابن خالد بن عجلان الباهلي البصري، (حدّثنا عمرو) بفتح العين ابن يحيى المازني السابق قريبًا (الحياة) بالجر على الحكاية، وهو موافق لمالك في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يحيى بسنده، ولم يشك كما شك مالك أيضًا.
(وقال) وهيب أيضًا في روايته مثقال حبة من (خردل من خير) بدل من إيمان، فخالف مالكًا في هذه اللفظة. وهذا التعليق أخرجه المصنف مسندًا في الرقاق عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد به، وسياقه أتم من سياق مالك لكنه قال من خردل من إيمان كرواية مالك، وفي هذا الحديث الرد على المرجئة لما تضمنه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة القائلين بأن المعاصي موجبة للخلود في النار.
23 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ». قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الدِّينَ». [الحديث 23 - أطرافه في: 3691، 7008، 7009].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبيد الله) بالتصغير ابن محمد بن زيد القرشي الأموي المدني مولى عثمان بن عفان، (قال حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحرث بن زهرة التابعي الجليل المدني المتوفى ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة، (عن صالح) أبي محمد بن كيسان الغفاري المدني التابعي المتوفى بعد أن بلغ من العمر مائة وستين سنة وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسعين، (عن ابن شهاب) الزهري (عن أبي أمامة) بضم الهمزة أسعد المختلف في صحبته، ولم يصح له سماع المذكور في الصحابة لشرف الرؤية، (ابن سهل)، وللأصيلي وأبي الوقت زيادة ابن حنيف بضم المهملة المتوفى سنة مائة، (أنه سمع أبا سعيد) سعد بن مالك (الخدري) رضي الله عنه حال كونه (يقول قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(بينا) بغير ميم (أنا نائم رأيت الناس)، من الرؤيا الحلمية على الأظهر أو من الرؤية البصرية فتطلب مفعولاً واحدًا وهو الناس، وحينئذ فيكون قوله (يعرضون عليّ) جملة حالية أو علمية من الرأي، وحينئذ فتطلب مفعولين وهما الناس يعرضون عليّ أي يظهرون ليس (وعليهم قمص) بضم الأوّلين جمع قميص والواو للحال (منها) أي من القمص، (ما) أي الذي (يبلغ الثدي) بضم المثلثة وكسر المهملة وتشديد المثناة التحتية جمع ثدي يذكر ويؤنث للمرأة والرجل، والحديث يردّ على من خصّه بها وهو هنا نصب مفعول يبلغ والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو الموصول، وفي رواية أبي ذر الثدي بفتح المثلثة وإسكان الدال (ومنها) أي من القمص، (ما دون ذلك). أي لم يصل للثدي لقصره. (وعرض علي) بضم العين وكسر الراء مبنيًّا للمفعول (عمر بن الخطاب) بالرفع نائب عن
الفاعل رضي الله عنه (وعليه قميص يجره) لطوله، (قالوا) أي الصحابة ولابن عساكر في نسخة قال أي عمر بن الخطاب أو غيره أو السائل أبو بكر الصديق كما يأتي إن شاء الله تعالى في التعبير، (فما أوّلت) فما عبرت (ذلك يا رسول الله، قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوّلت (الدين) بالنصب معمول أوّلت، ولا يلزم منه أفضلية الفاروق على الصديق، إذ القسمة غير حاصرة، إذ يجوز رابع، وعلى تقدير الحصر فلم يخص الفاروق بالثالث ولم يقصره عليه، ولئن سلمنا التخصيص به فهو معارض بالأحاديث الكثيرة البالغة درجة التواتر المعنوي الدالة على أفضلية الصديق فلا تعارضها الآحاد، ولئن

(1/106)


سلمنا التساوي بين الدليلين، لكن إجماع أهل السُّنة والجماعة على أفضليته، وهو قطعي فلا يعارضه ظني. وفي هذا الحديث، التشبيه البليغ وهو تشبيه الدين بالقميص لأنه يستر عورة الإنسان، وكذلك الدين يستره من النار. وفيه الدلالة على التفاضل في الإيمان كما هو مفهوم تأويل القميص، وبالدين مع ما ذكره من أن اللابسين يتفاضلون في لبسه، ورجاله كلهم مدنيون كالسابق، ورواية ثلاثة من التابعين أو تابعيين وصحابيين. وأخرجه المصنف أيضًا في التعبير وفي فضل عمر، ورواه مسلم في الفضائل والترمذي والنسائي.
ولما فرغ المؤلف من بيان تفاضل أهل الإيمان في الأعمال شرع يذكر ما ينقص به الإيمان فقال:

16 - باب الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ
هذا (باب) بالتنوين (الحياء) بالمد والرفع مبتدأ خبره (من الإيمان). وحديثه سبق، وفائدة سياقه هنا أنه ذكر الحياء هنا بالتبعية وهنا بالقصد مع فائدة مغايرة الطريق.
24 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ -وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ». [الحديث 24 - طرفه في: 6118].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي السابق (قال: أخبرنا) وفي رواية الأصيلي حدّثنا (مالك)، ولكريمة وأبي الوقت مالك بن أنس أي إمام دار الهجرة رحمه الله (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي التابعي الجليل أحد الفقهاء السبعة بالمدينة في أحد الأقوال، المتوفى سنة ست أو خمس أو ثمان ومائة، (عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرَّ) أي اجتاز (على رجل من الأنصار وهو) أي حال كونه (يعظ أخاه) من الدين أو النسب، قال في المقدمة ولم يسميا جميعًا (في) شأن (الحياء) بالمد وهو تغيير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم. قال الراغب: وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما

يشتهي، فلا يكون كالبهيمة. والوعظ النصح والتخويف والتذكير. وقال الحافظ ابن حجر: والأولى أن يشرح بما عند المؤلف في الأدب المفرد بلفظ يعاتب أخاه في الحياء، يقول إنك تستحي حتى كأنه قد أضرّ بك. قال: ويحتمل أن يكون جمع له العتاب والوعظ، فذكر بعد الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن المخرج متّحد، فالظاهر أنه من تصرف الراوي بحسب ما اعتقد أن كل لفظ يقوم مقام الآخر انتهى. وتعقبه العيني بأنه بعيد من حيث اللغة، فإن معنى الوعظ الزجر ومعنى العتب الوجد، يقال: عتب عليه إذا وجد. على أن الروايتين تدلان على معنيين جليين ليس في واحد منهما خفاء حتى يفسر أحدهما بالآخر، وغايته أنه وعظ أخاه في استعمال الحياء وعاتبه عليه والراوي حكى في إحدى روايتيه بلفظ الوعظ وفي الأخرى بلفظ المعاتبة. وقال التيمي معناه الزجر يعني يزجره ويقول له: لا تستحي، وذلك أنه كان كثير الحياء، وكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه فوعظه أخوه على ذلك.
(فقال) له (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: دعه) أي اتركه على حيائه، (فإن الحياء من الإيمان) لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانًا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه، قاله ابن قتيبة. ومن تبعيضية كقوله في الحديث السابق الحياء شعبة من الإيمان، لا يقال إذا كان الحياء بعض الإيمان فينتفي الإيمان بانتفائه، لأن الحياء من مكملات الإيمان، ونفي الكمال لا يستلزم نفي الحقيقة، والظاهر أن الواعظ كان شاكًّا بل كان منكرًا ولذا وقع التأكيد بأن، ّ ويجوز أن يكون من جهة أن القصة في نفسها مما يجب أن يهتم به ويؤكد عليه، وأن لم يكن ثمة إنكار أو شك.
ورجال هذا الحديث كلهم مدنيون إلا عبد الله. وأخرجه البخاري أيضًا في البرّ والصلة ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

17 - باب (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)
هذا (باب) بالتنوين والإضافة كما في فرع اليونينية. قال الحافظ ابن حجر والتقدير باب في تفسير قوله وباب تفسير قوله، وعورض بأن المصنف لم يضع الباب لتفسير الآية بل غرضه بيان أمر الإيمان وبيان أن الأعمال من الإيمان مستدلاً على ذلك بالآية والحديث، فباب بمفرده لا يستحق إعرابًا لأنه كتعديد الأسماء من غير تركيب، والإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب. (فإن تابوا) أي المشركون عن شركهم بالإيمان، (وأقاموا) أي

(1/107)


أدّوا (الصلاة) في أوقاتها (وآتوا الزكاة) أعطوها تصديقًا لتوبتهم وإيمانهم، (فخلوا) أي أطلقوا (سبيلهم). جواب الشرط في قوله فإن تابوا وفيه كما قال القاضي البيضاوي دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله، ومراد المؤلف بهذا الردّ على المرجئة في قولهم: إن الإيمان غير محتاج إلى الأعمال مع التنبيه على أن الأعمال من الإيمان.

25 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) أي ابن عبد الله، ولابن عساكر المسندي بضم الميم وفتح النون، وسبق (قال: حدّثنا أبو روح) بفتح الراء وسكون الواو واسمه (الحرمي) بفتح الحاء والراء المهملتين وكسر الميم وتشديد المثناة التحتية بلفظ النسبة تثبت فيه أل وتحذف، وليس نسبة إلى الحرم كما توهم (ابن عمارة) بضم العين المهملة وتخفيف الميم ابن أبي حفصة نابت بالنون العتكي البصري المتوفى سنة إحدى وثمانين، (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن واقد بن محمد) بالقاف، زاد الأصيلي يعني ابن زيد بن عبد الله بن عمر كما في فرع اليونينية، (قال: سمعت أبي) محمد بن زيد بن عبد الله (يحدث عن ابن عمر) بن الخطاب عبد الله رضي الله عنهما فواقد هنا روى عن أبيه عن جد أبيه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(أمرت) بضم الهمزة لما لم يسمّ فاعله (أن) أي أمرني الله بأن (أقاتل الناس) أي بمقاتلة الناس وهو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بالناس المشركون من غير أهل الكتاب، ويدل له رواية النسائي بلفظ: أمرت أن أقاتل المشركين أو المراد مقاتلة أهل الكتاب. (حتى) أي إلى أن (يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، و) حتى (يقيموا الصلاة) المفروضة بالمداومة على الإتيان بها بشروطها، (و) حتى (يؤتوا الزكاة) المفروضة أي يعطوها لمستحقيها. والتصديق برسالته عليه الصلاة والسلام يتضمن التصديق بكل ما جاء به، وفي حديث أبي هريرة في الجهاد الاقتصار على قوله لا إله إلا الله: فقال الطبري: إنه عليه الصلاة والسلام قاله في وقت قتاله للمشركين أهل الأوثان الذين لا يقرون بالتوحيد، وأما حديث الباب ففي أما الكتاب المقرّين بالتوحيد الجاحدين لنبوّته عمومًا وخصوصًا. وأما حدث أنس في أبواب أهل القبلة: وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فيمن دخل الإسلام ولم يعمل الصالحات كترك الجمعة والجماعة فيقاتل حتى يذعن لذلك، (فإذا فعلوا ذلك) أو أعطوا الجزية، وأطلق على القول فعلاً لأنه فعل اللسان أو هو من باب تغليب الاثنين على الواحد، (عصموا) أي حفظوا ومنعوا (مني دماءهم وأموالهم)، فلا تهدر دماؤهم ولا تستباح أموالهم بعد عصمتهم بالإسلام بسبب من الأسباب، (إلاّ بحق الإسلام) من قتل نفس أو حدّ أو غرامة بمتلف أو ترك صلاة، (وحسابهم) بعد ذلك (على الله) في أمر سرائرهم، وأما نحن فإنما نحكم بالظاهر فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، أو المعنى هذا القتال وهذه العصمة إنما هما باعتبار أحكام الدنيا المتعلقة بنا، وأما أمور الآخرة من الجنة والنار والثواب والعقاب فمفوّض إلى

الله تعالى، ولفظة على مشعرة بالإيجاب، فظاهره غير مراد، فإما أن يكون المراد وحسابهم إلى الله أو لله، وأنه يجب أن يقع لا أنه تعالى يجب عليه شيء خلافًا للمعتزلة القائلين بوجوب الحساب عقلاً، فمن من باب التشبيه له بالواجب على العباد في أنه لا بدّ من وقوعه، واقتصر على الصلاة والزكاة لكونهما أُمًّا للعبادات البدنية والمالية، ومن ثم كانت الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام.
ويؤخذ من هذا الحديث قبول الأعمال الظاهرة والحكم مما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافًا لمن أوجب تعلم الأدلة وترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن. وفيه رواية الأبناء عن الآباء، وفيه التحديث والعنعنة والسماع، وفيه الغرابة مع اتفاق الشيخين على تصحيحه، لأنه تفرّد بروايته شعبة عن واقد قاله ابن حبان، وهو عن شعبة عزيز تفرد بروايته عنه حرمي المذكور وعبد الملك بن الصباح، وهو عزيز عن حرمي تفرد به عنه

(1/108)


المسندي وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة وابن حبان والإسماعيلي وغيرهم، وهو غريب عن عبد الملك تفرّد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم، وليس هو في مسند أحمد على سعته، قاله الحافظ ابن حجر: وأخرجه البخاري أيضًا في الصلاة كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعون الله وقوته.

ولما فرغ المؤلف من التنبيه على أن الأعمال من الإيمان ردًّا على المرجئة شرع يذكر أن الإيمان هو العمل ردًّا على المرجئة حيث قالوا إن الإيمان قول بلا عمل فقال:

18 - باب مَنْ قَالَ إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عَنْ قَوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَقَالَ {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}
(باب) بغير تنوين لإضافته إلى قوله: (من قال إن الإيمان هو العمل لقول الله تعالى) ولأبوي ذر والوقت عز وجل (وتلك) مبتدأ خبره (الجنة التي أورثتموها) أي صيرت لكم إرثًا فأطلق الإرث مجازًا عن الإعطاء لتحقق الاستحقاق أو المورث الكافر وكان له نصيب منه، ولكن كفره منعه فانتقل منه إلى المؤمن. وقال البيضاوي: شبّه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل، والإشارة إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُون} [الزخرف: 70]. والجملة صفة للجنة، أو الجنة صفة للمبتدأ الذي هو تلك، والتي أورثتموها صفة أخرى والخبر {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [الزخرف: 72]. أي تؤمنون. وما مصدرية أي بعملكم أو موصولة أي بالذي كنتم تعملونه، والباء للملابسة أي أورثتموها ملابسة لأعمالكم أي لثواب أعمالكم أو للمقابلة، وهي التي تدخل على الأعواض كاشتريت بألف، ولا تنافي بين ما في الآية وحديث لن يدخل أحد الجنة

بعمله لأن المثبت في الآية الدخول بالعمل المقبول، والمنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عنه والمقبول إنما هو من رحمة الله تعالى، فآلى ذلك إلى أنه لم يقع الدخول إلا برحمته، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في محله بعون الله وقوته وقد أشبعت الكلام عليه في الواهب فليراجع.
(قال عدّة) بكسر العين وتشديد الدال أي عدد (من أهل العلم) كأنس بن مالك فيما رواه الترمذي مرفوعًا بإسناد فيه ضعف، وابن عمر فيما رواه الطبري في تفسيره، والطبراني في الدعاء له، ومجاهد فيما رواه عبد الرزاق في تفسيره (في قوله تعالى) وفي رواية الأصيلي وأبي الوقت عز وجل (فوربك) يا محمد (لنسألنهم) أي المقتسمين جواب القسم مؤكدًا باللام (أجمعين) تأكيد للضمير في لنسألنهم مع الشمول في افراد المخصوصين (عما كانوا يعملون عن لا إله إلاّ الله) وفي رواية عن قول لا إله إلا الله وسقط لأبوي ذر والوقت والأصيلي لفظ قول، ولفظ رواية ابن عساكر قال: عن لا إله إلا الله، لكن قال النووي: المعنى لنسألنهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف، فقول من خص بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بل دليل فلا تقبل انتهى.
ومراده كما قاله صاحب عمدة القاري: أن دعوى التخصيص بلا دليل خارجي لا تقبل، لأن الكلام عامّ في السؤال عن التوحيد وغيره، فدعوى التخصيص بالتوحيد يحتاج إلى دليل خارجي، فإن استدل بحديث الترمذي فقد ضعف من جهة ليث، وليس التعميم في قوله أجمعين حتى يدخل فيه المسلم والكافر لكونه مخاطبًا بالتوحيد قطعًا وبباقي الأعمال على الخلاف، فالمانع من الثاني يقول: إنما يسألون عن التوحيد فقط للاتفاق عليه، وإنما التعميم هنا في قوله {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون} [الحجر: 93]. فتخصيص ذلك بالتوحيد تحكم، ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]. لأن في القيامة مواقف مختلفه وأزمنة متطاولة، ففي موقف أو زمان يسألون، وفي آخر لا يسألون أو لا يسألون سؤال استخبار بل سؤال توبيخ لمستحقه.
(وقال) الله تعالى وسقط لغير الأربعة لفظ وقال (لمثل هذا) أي لنيل مثل هذا الفوز العظيم {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون} [الصافات: 61]. أي فليؤمن المؤمنون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، وهذا يدل على أن الإيمان هو العمل كما ذهب إليه المصنف، لكن اللفظ عامّ ودعوى التخصيص بلا رهان لا تقبل. نعم إطلاق العمل على الإيمان صحيح من حيث أن الإيمان هو عمل القلب: لكن لا يلزم من ذلك أن يكون العمل من نفس الإيمان، وغرض البخاري من هذا الباب وغيره إثبات أن العمل

(1/109)


من أجزاء الإيمان ردًّا على من يقول: إن العمل لا دخل له في ماهية الإيمان، فحينئذ لا يتم مقصوده على ما لا يخفى وإن كان مراده جواز إطلاق العمل على الإيمان فلا نزاع فيه لأن الإيمان عمل القلب وهو التصديق، وقد سبق البحث في ذلك.

26 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالاَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ». قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ». [الحديث 26 - طرفه في: 1519].
وبالسند السابق أول هذا التعليق إلى المؤلف قال رحمه الله تعالى: (حدّثنا أحمد بن يونس) نسبة إلى جده لشهرته به وإنما اسم أبيه عبد الله اليربوعي التميمي الكوفي المتوفى في ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومائتين (و) كذا حدّثنا (موسى بن إسماعيل) المنقري بكسر الميم السابق (قالا) بالتثنية (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف السابق (قال حدثنا ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن سعيد بن المسيب) بضم الميم وكسر المثناة التحتية والفتح فيها أشهر وكان يكرهه ابن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي إمام التابعين في الشرع وفقيه الفقهاء المتوفى سنة ثلاث أو أربع أو خمس وتسعين وهو زوج بنت أَبي هريرة وأبوه وجده صحابيان (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل) بالبناء للمفعول في محل رفع خبر أن وأبهم السائل وهو أبو ذر وحديثه في العتق (أي العمل أفضل)، أي أكثر ثوابًا عند الله تعالى وهو مبتدأ وخبر (قال) ولغير الأربعة وكريمة قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو (إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا) أي أيّ شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ (قال) عليه الصلاة والسلام هو (الجهاد في سبيل الله) لإعلاء كلمة الله أفضل لبذله نفسه. (قيل: ثم ماذا) أفضل؟ (قال) عليه الصلاة واالسلام هو (حج مبرور) أي مقبول أي لا يخالطه إثم أو لا رياء فيه، وعلامة القبول أن يكون حاله بعد الرجوع خيرًا مما قبله، وقد وقع هنا الجهاد بعد الإيمان. وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثمّ الجهاد، وفي الحديث السابق ذكر السلامة من اليد واللسان وكلها في الصحيح. وقد أجيب بأن اختلاف الأجوبة في ذلك لاختلاف الأحوال والأشخاص، ومن ثم لم يذكر الصلاة والزكاة والصيام في حديث هذا الباب. وقد يقال: خير الأشياء كذا ولا يراد أنه خير من جميع الوجوه في جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال، وإنما قدم الجهاد على الحج للاحتياج إليه أول الإسلام، وتعريف الجهاد باللام دون الإيمان والحج إما لأن المعرف بلام الجنس كالنكرة في المعنى على أنه وقع في مسند الحرث بن أبي أسامة ثم جهاد بالتنكير هذا من جهة النحو، وأما من جهة المعنى فلأن الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فنوّنا للإفراد والجهاد قد يتكَرر فعرف والتعريف للكمال. وفي إسناد هذا الحديث أربعة كلهم مدنيون وفيه شيخان للمؤلف والتحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم في الإيمان، والنسائي والترمذي باختلاف بينهم في ألفاظه.

19 - باب إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلاَمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الاِسْتِسْلاَمِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}. فَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}
هذا (باب) بالتنوين (إذا لم يكن) أي إن لم يكن (الإسلام على الحقيقة) الشرعية (وكان على الاستسلام) أي الانقياد الظاهر فقط والدخول في السلم (أو) كان على (الخوف من القتل) لا ينتفع به في الآخرة فإذا متضمنة معنى الشرط والجزاء محذوف وتقديره نحو ما قدرته (لقوله تعالى) ولأبي ذر والأصيلي عز وجل: (قالت الأعراب) أهل البدو ولا واحد له من لفظه ومقول قولهم (آمنا) نزلت في نفر من بني أسلم قدموا المدينة في سنة مجدبة وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون، فقال الله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} إذ الإيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار للشهادة لا بالحقيقة، ومن ثم قال تعالى: (قل لم تؤمنوا) لأن كل ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان، وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا إذ لم تؤمنوا ولكن أسلمتم، فعدل عنه إلى هذا النظم ليفيد تكذيب دعواهم.

(1/110)


وفي هذه الآية كما قال الإمام أبو بكر بن الطيب حجة على الكرامية ومن وافقهم من المرجئة في قولهم: إن الإيمان إقرار باللسان فقط، ومثل هذه الآية في الدلالة لذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَان} [المجادلة: 22]. ولم يقل كتب في ألسنتهم، ومن أقوى ما يردّ به عليهم الإجماع على كفر المنافقين مع كونهم أظهروا الشهادتين.
(فإذا كان) أي الإسلام (على الحقيقة) الشرعية وهو الذي يرادف الإيمان وينفع عند الله تعالى (فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. أي لا دين مرضي عنده تعالى سواه، وفتح الكسائي همزة أن على أنه بدل من أنه بدل الكل من الكل إن فسر الإسلام بالإيمان وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة، وقد استدل المؤلف بهذه الآية على أن الإسلام الحقيقي هو الدين، وعلى أن الإسلام والإيمان مترادفان وهو قول جماعة من المحدثين وجمهور المعتزلة والمتكلمين، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين} [الذاريات: 35، 36]. فاستثنى المسلمين من المؤمنين، والأصل في الاستثناء كون المستثنى من جنس المستثنى منه فيكون الإسلام هو الإيمان وردّ بقوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. فلو كان شيئًا واحدًا لزم إثبات شيء ونفيه في حالة واحدة وهو مُحال. وأجيب بأن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية بمعنى انقياد الظاهر من غير انقياد الباطن كما تقدم قريبًا، ثم استدل المؤلف أيضًا على مذهبه بقوله تعالى:

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ} أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى {دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. جواب الشرط. ووجه الدلالة على ترادفهما أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولاً، فتعين أن يكون عينه لأن الإيمان هو الدين والدين هو الإسلام لقوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) فينتج أن الإيمان هو الإسلام وسقط للكشميهني والحموي من قوله: ومن يبتغ إلخ.
27 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلاً هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ «أَوْ مُسْلِمًا». فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا». ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ «يَا سَعْدُ، إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ». وَرَوَاهُ يُونُسُ وَصَالِحٌ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. [الحديث طرفه في: 1478].

وبسندي الذي قدّمته أول هذا التعليق إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي (قال أخبرنا) وللأصيلي حدّثنا (شعيب) هو ابن أبي حمزة الأموي (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال أخبرني) بالإفراد (عامر بن سعد بن أبي وقاص) بتشديد القاف وسعد بسكون العين واسم أبي وقاص مالك القرشي المتوفى بالمدينة سنة ثلاث أو أربع ومائة (عن) أبيه (سعد) المذكور أحد العشرة المبشرة بالجنة المتوفى آخرهم بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة سنة سبع وخمسين، وحمل على رقاب الرجال إلى المدينة ودفن بالبقيع، وله في البخاري عشرون حديثًا (رضي الله عنه).
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعطى رهطاً) من المؤلفة شيئاً من الدنيا لما سألوه كما عند الإسماعيلي ليتألفهم لضعف إيمانهم، والرهط: العدد من الرجال لا امرأة فيهم من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو مما دون العشرة ولا واحد له من لفظه، وجمعه أرهط وأراهط وأرهاط وأراهيط. (وسعد جالس) جملة اسمية وقعت حالاً ولم يقل أنا جالس كما هو الأْصل، بل جرّد من نفسه شخصًا وأخبر عنه ْبالجلوس أو هو من باب الالتفات من التكلم الذي هو مقتضى المقام إلى الغيبة كما هو قول صاحب المفتاح.
قال سعد: (فترك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلاً) سأله أيضًا مع كونه أحب إليه ممن أعطى وهو جعيل بن سراقة الضمري المهاجري (هو أعجبهم إليّ) أي أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي، والجملة نصب صفة لرجلاً، وكان السياق يقتضي أن يقول أعجبهم إليه لأنه قال وسعد جالس، بل قال إليَّ على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم (فقلت يا رسول الله ما لك عن فلان) أي أيّ سبب لعدولك عنه إلى غيره؟ ولفظ فلان كناية عن اسم أبهم بعد أن ذكر (فوالله إني لأراه مؤمنًا) بفتح الهمزة أي

أعلمه. وفي رواية أبي ذر وغيره هنا كالزيادة لأراه بضمها بمعنى أظنه وبه جزم القرطبي في المفهم، وعبارته الرواية بضم الهمزة وكذا رواه الإسماعيلي وغيره. ولم يجوزه النووي محتجًا بقوله الآتي، ثم غلبني ما أعلم منه لأنه راجع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرارًا فلو لم يكن جازمًا باعتقاده لما كرر

(1/111)


المراجعة. وتعقب بأنه لا دلالة فيه على تعين الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب نحو قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]. أي العلم الذي يمكنكم تحصيله وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات، وإنما سماه علمًا إيذانًا بأنه كالعلم في وجوب العمل به كما قاله البيضاوي.

وأجيب بأن قسم سعد وتأكيد كلامه بإن واللام ومراجعته للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتكرار نسبة العلم إليه يدل على أنه كان جازمًا باعتقاده (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي رواية الأصيلي وابن عساكر قال: (أو مسلمًا) بسكون الواو فقط بمعنى الإضراب على قول سعد وليس الإضراب هنا بمعنى إنكار كون الرجل مؤمنًا بل معناه النهي عن القطع بإيمان من لم يختبر حاله الخبرة الباطنة لأن الباطن لا يطّلع عليه إلا الله فالأولى التعبير بالإسلام الظاهر بل في الحديث إشارة إلى إيمان المذكور وهي قوله لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه قال سعد: (فسكت) سكوتًا (قليلاً ثم غلبني ما) أي الذي (أعلم منه فعدت) أي فرجعت (لمقالتي) مصدر ميمي بمعنى القول أي لقولي وثبت لأبي ذر وابن عساكر فعدت وسقط للأصيلي وأبي الوقت لفظ لمقالتي (فقلت) يا رسول الله (ما لك عن فلان فوالله إني لأراه) باللام وضم الهمزة وكذا رواه ابن عساكر ورواه أبو ذر أراه (مؤمنًا فقال) عليه الصلاة والسلام (أو مسلمًا فسكت) سكوتًا (قليلاً) وسقط للحموي قوله فسكت قليلاً (ثم غلبني ما) أي الذي (أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وليس في رواية الكشميهني إعادة السؤال ثانيًا ولا الجواب عنه وإنما لم يقبل عليه الصلاة والسلام قول سعد في جعيل لأنه لم يخرج مخرج الشهادة وإنما هو مدح له وتوسل في الطلب لأجله ولهذا ناقشه في لفظه نعم في الحديث نفسه ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام قبل قوله فيه وهو قوله (ثم قال) لمجيب مرشدًا له إلى الحكمة في إعطاء أولئك وحرمان جعيل مع كونه أحب إليه ممّن أعطاه (يا سعد إني لأعطي الرجل) الضعيف الإيمان العطاء أتألف قلبه به (وغيره أحب إليّ منه) جملة حالية وفي رواية أبي ذر والحموي والمستملي أعجب إلي منه (خشية أن يكبه الله) بفتح المثناة التحتية وضم الكاف ونصب الموحدة بأن أي لأجل خشية كبّ الله إياه أي إلقائه منكوسًا (في النار) لكفره إما بارتداده إن لم يعط، أو لكونه ينسب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى البخل، وأما من قوي إيمانه فهو أحب إلي فأكله إلى إيمانه ولا أخشى عليه رجوعًا عن دينه ولا سوءًا في اعتقاده، وفيه الكناية لأن الكب في النار من لازم الكفر فأطلق اللازم وأراد الملزوم. وفي الحديث دلالة على جواز الحلف على الظن عند من أجاز ضم همزة أراه، وجواز الشفاعة إلى ولاة الأمور وغيرهم ومراددة الشفيع إذا لم يؤدّ إلى مفسدة، وأن المشفوع إليه لا عتب عليه إذا رد الشفاعة إذا كانت خلاف المصلحة، وأن الإمام يصرف الأموال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم، وأنه لا يقطع لأحد على التعيين بالجنة إلا العشرة البشرة، وأن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا قرن به الاعتقاد وعليه الإجماع كما مر. واستدل به عياض لعدم ترادف الإيمان والإسلام، ولكنه لا يكون مؤمنًا إلا مسلمًا، وقد

يكون مسلمًا غير مؤمن، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفيه ثلاثة رواة زهريون مدنيون وثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض، ورواية الأكابر عن الأصاغر، وأخرجه المؤلف أيضًا في الزكاة ومسلم في الإيمان والزكاة.
قال المؤلف: (ورواه) بواو العطف وللأربعة بإسقاطها أي هذا الحديث أيضًا (يونس) بن يزيد الأيلي (وصالح) يعني ابن كيسان المدني (ومعمر) بفتح الميمين يعني ابن راشد البصري (وابن أخي الزهري) محمد بن عبد الله بن مسلم المتوفى فيما جزم به النووي في سنة اثنتين وخمسين ومائة.
هؤلاء الأربعة (عن الزهري) محمد بن مسلم بإسناده كما رواه شعيب عنه، فحديث يونس موصول في كتاب الإيمان لعبد الرحمن بن عمر الملقب رسته وهو قريب من سياق الكشميهني ليس فيه إعادة السؤال ولا الجواب عنه. وحديث

(1/112)


صالح موصول عند المؤلف في الزكاة. وحديث معمر عند أحمد بن حنبل والحميدي وغيرهما عن عبد الرزاق عنه وقال فيه: أنه أعاد السؤال ثالثًا وحديث ابن أخي الزهري عند مسلم وساق فيه السؤال والجواب ثلاث مرات، والله تعالى أعلم.

20 - باب إِفْشَاءُ السَّلاَمِ مِنَ الإِسْلاَمِ. وَقَالَ عَمَّارٌ: ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَار
هذا (باب) بالتنوين (السلام من الإسلام) أي هذا باب بيان أن السلام من شعب الإسلام، وفي رواية غير الأصيلي وأبي ذر وابن عساكر إفشاء السلام من الإسلام وهو بكسر الهمزة أي إذاعة السلام ونشره (وقال عمار) أبو اليقظان بالمعجمة ابن ياسر بن عامر أحد السابقين الأوّلين المقتول بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين مع علي ومقول قوله (ثلاث) أي ثلاث خصال (من جمعهن فقد جمع الإيمان) أي حاز كماله أحدهما: (الإنصاف) وهو العدل (من نفسك) بأن لم تترك لمولاك حقًا واجبًا عليك إلا أذيته ولا شيئًا مما نهيت عنه إلا اجتنبته وسقط لفظ فقد عند الأربعة، (و) الثاني: (بذل السلام) بالمعجمة (للعالم) بفتح اللام أي لك مؤمن عرفته أو لم تعرفه وخرج الكافر بدليل آخر. وفيه حضّ على مكارم الأخلاق والتواضع واستئلاف النفوس، (و) الثالث: (الإنفاق من الإقتار) بكسر الهمزة أي في حالة الفقر وفيه غاية الكرم لأنه إذا أنفق وهو محتاج كان مع التوسع أكثر إنفاقًا، والإنفاق شامل للنفقة على العيال وعلى الضيف والزائر، وهذا الأثر أخرجه أحمد في كتاب الإيمان، والبزار في مسنده، وعبد الرزاق في مصنفه، والطبراني في معجمه الكبير.
28 - حدّثنا قُتَيْبَةُ قال: حدّثنا اللَّيْثُ عن يزيدَ بنِ أبي حَبيبِ عنْ أبي الخَيرِ عن عبد اللهِ بنِ عَمْرِو "أنَّ رَجُلاً سَأل رسول اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أيُّ الإسُلامِ خَيرٌ؟ قال: تُطْعِمُ الطعامَ وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لم تَعْرِفْ".

وبالسند إلى المؤلف قال رحمه الله تعالى: (حدّثنا قتيبة) تصغير قتبة بكسر القاف واحدة الأقتاب وهي الأمعاء. قال الصغاني: وبها سمي الرجل قتيبة، وكنيته أبو رجاء واسمه فيما قاله ابن منده علي بن سعيد بن جميل البغلاني نسبة إلى بغلان بفتح الموحدة وسكون المعجمة قرية من قرى بلخ المتوفى سنة أربعين ومائتين (قال: حدّثنا الليث) بن سعد (عن يزيد بن أبي حبيب) المصري (عن أبي الخير) مرثد بفتح الميم والمثلثة (عن عبد الله بن عمرو) يعني ابن العاص رضي الله عنهما.
(أن رجلاً) هو أبو ذر فيما قيل (سأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي) خصال (الإسلام خير. قال) عليه الصلاة والسلام: (تطعم) الخلق (الطعام وتقرأ) بفتح التاء (السلام على من عرفت ومن لم تعرف) من المسلمين. وهذا الحديث تقدم في باب إطعام الطعام، وأعاده المؤلف هنا كعادته في غيره لما اشتمل عليه وغاير بين شيخيه اللذين حدّثاه عن الليث مراعاة للفائدة الإسنادية وهي تكثير الطرق حيث يحتاج إلى إعادة المتن، فإن عادته أن لا يعيد الحديث في موضعين على صورة واحدة، وقد مرّ أن المؤلف أخرج هذا الحديث في ثلاثة مواضع، وأخرجه مسلم والنسائي.

21 - باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ، وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ. فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
هذا (باب) بغير تنوين لإضافته لقوله: (كفران العشير) وهو الزوج كما يدل عليه السياق. قيل له عشير بمعنى معاشر والمعاشرة المخالطة أو الألف واللام للجنس، والكفران من الكفر بالفتح وهو الستر، ومن ثم سمي ضد الإيمان كفرًا لأنه ستر على الحق وهو التوحيد، وأطلق أيضًا على جحد النعم، لكن الأكثرون على تسمية ما يقابل الإيمان كفرًا وعلى جحد النعم كفرانًا، وكما أن الطاعات تسمى إيمانًا كذلك المعاصي تسمى كفرًا، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد به المخرج عن الملة، ثم إن هذا الكفر يتفاوت في معناه كما أشار إليه المؤلف بقوله: (وكفر دون كفر) كذا للأربعة أي أقرب من كفر، فأخذ أموال الناس بالباطل دون قتل النفس بغير حق، وفي بعض الأصول: وكفر بعد كفر ومعناه كالأول وهو الذي في فرع اليونينية كهي لكنه ضبب عليه، وأثبت على الهامش الأوّل راقمًا عليه علامة أبي ذر والأصيلي وابن عساكر وأصل السميساطي والجمهور على جر وكفر عطفًا على كفران المجرور، ولأبوي ذر والوقت وكفر بالرفع على القطع وخصّ المؤلف كفران العشير من بين أنواع الذنوب، كما قال ابن العربي لدقيقة بديعة وهي قوله عليه الصلاة والسلام: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله تعالى، فإذا كفرت المرأة

(1/113)


حق زوجها وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية كان ذلك دليلاً على تهاونها بحق الله تعالى. وقال ابن بطال: كفر نعمة الزوج هو كفر نعمة الله لأنها من الله أجراها على يده.
وقال المؤلف رحمه الله (فيه) أي يدخل في الباب حديث رواه (أبو سعيد) سعد بن مالك رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) كما أخرجه المؤلف في الحيض وغيره من طريق عياض بن عبد الله

عنه، ولكريمة وغير الأصيلي وأبي ذر فيه عن أبي سعيد ولأبي الوقت زيادة الخدري، أي مروي عن أبي سعيد، ونبّه بذلك على أن للحديث طريقًا غير هذه الطريق التي ساقها هنا، وزاد الأصيلي بعد قوله وسلم كثيرًا.
29 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُرِيتُ النَّارَ، فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ. قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ. لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ». [الحديث 29 - أطرافه في: 431، 748، 1052، 3202، 5197].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي المدني (عن مالك) يعني ابن أنس إمام الأئمة (عن زيد بن أسلم) مولى عمر رضي الله عنه المكنى بأبي أسامة المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومائة (عن عطاء بن يسار) بمثناة تحتية ومهملة مخففة القاص المدني الهلالي مولى أُم المؤمنين ميمونة المتوفى سنة ثلاث أو أربع ومائة، وقيل: أربع وتسعين (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال):
(قال النبي) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر في نسخة وأبي ذر عن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أريت النار) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول من الرؤية بمعنى أبصرت، وتاء المتكلم هو المفعول الأوّل أقيم مقام الفاعل، والنار هو المفعول الثاني أي أراني الله النار، ولأبي ذر: ورأيت بالواو ثم راء وهمزة مفتوحتين، وللأصيلي فرأيت بالفاء (فإذا أكثر أهلها النساء) برفع أكثر والنساء مبتدأ وخبر، وفي رواية: رأيت النار فرأيت أكثر أهلها النساء بنصب أكثر والنساء مفعولي رأيت، ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: رأيت النار بالنصب أكثر بالرفع، وفي رواية أخرى: أريت النار أكثر أهلها النساء بحذف فرأيت، وحينئذ فقوله: أريت بمعنى أعلمت والتاء والنار والنساء مفاعيله الثلاثة وأكثر بدل من النار (يكفرن) بمثناة تحتية مفتوحة أْوّله وهي جملة مستأنفة تدل على السؤال والجواب كأنه جواب سؤال سائل سأل يا رسول الله؟ ولأربعة بكفرهن أي بسبب كفرهن (قيل) يا رسول الله: (أيكفرن بالله؟ قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يكفرن العشير) أي الزوج قال للعهد كما سبق أو المعاشر مطلقًا فتكون للجنس (ويكفرن الإحسان) ليس كفران العشير لذاته بل كفران إحسانه، فهذه الجملة كالبيان للسابقة وتوعده على كفران العشير وكفران الإحسان بالنار. قال النووي: يدل على أنهما من الكبائر (لو) وفي رواية الحموي والكشميهني إن (أحسنت إلى إحداهن الدهر) أي مدة عمرك أو الدهر مطلقًا على سبيل الفرض مبالغة في كفرهن وهو نصب على الظرفية، والخطاب في أحسنت غير خاص بل هو عامّ لكل من يتأتى منه أن يكون مخاطبًا فهو على سبيل المجاز، لأن الحقيقة أن يكون المخاطب خاصًّا لكنه جاء على نحو: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِم} [السجدة: 12].
فإن قلت: لولا امتناع الشيء لامتناع غيره فكيف صح جعل إن في الرواية الثانية موضعها، أجيب بأن لو هنا بمعنى إن في مجرد الشرطية فقط لا بمعناها الأصلي ومثله كثير أو هو من قبيل:

نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فالحكم ثابت على النقيضين، والطرف المسكوت عنه أولى من المذكور، ويسميه البيانيون ترك المعين إلى غير المعين ليعم كل مخاطب.
(ثم رأت منك شيئًا) قليلاً لا يوافق مزاجها أو شيئًا حقيرًا لا يعجبها (قالت ما رأيت منك خيرًا قط) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة على الأشهر ظرف زمان لاستغراق ما مضى.
وفي هذا الحديث وعظ الرئيس الرؤوس وتحريضه على الطاعة ومراجعة المتعلم العالم والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه، وجواز إطلاق الكفر على كفر النعمة وجحد الحق وأن المعاصي تنقص الإيمان لأنه جعله كفرًا ولا يخرج إلى الكفر الوجب للخلود في النار، وأن إيمانهنّ يزيد بشكر نعمة العشير، فثبت أن الأعمال من الإيمان. ورواة هذا

(1/114)


الحديث كلهم مدنيون إلا ابن عباس مع أنه أقام بالمدينة وفيه التحديث والعنعنة، وهو طرف من حديث ساقه في صلاة الكسوف تامًّا، وكذا أخرجه في باب من صلى وقدّامه نار، وفي بدء الخلق في ذكر الشمس والقمر، وفي عشرة النساء، وفي العلم. وأخرجه مسلم في العيدين.

22 - باب الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلاَ يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلاَّ بِالشِّرْكِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ». وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط عند الأصيلي (المعاصي) كبائرها وصغائرها (من أمر الجاهلية) وهي زمان الفترة قبل الإسلام وسمي بذلك لكثرة الجهالات فيه (ولا يكفر) بفتح المثناة التحتية وسكون الكاف، وفي غير رواية أبي الوقت ولا يكفر بضمها وفتح الكاف وتشديد الفاء المفتوحة (صاحبها بارتكابها) أي لا ينسب إلى الكفر باكتساب المعاصىِ والإتيان بها (إلا بالشرك) أي بارتكابه خلافًا للخوارج القائلين بتكفيره بالكبيرة والمعتزلة القائلين بأنه لا مؤمن ولا كافر، واحترز بالارتكاب عن الاعتقاد. فلو اعتقد حلّ حرام معلوم من الدين بالضرورة كفر قطعًا.
ثم استدل المؤلف لا ذكره فقال: القول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنك امرؤ فيك جاهلية) أي إنك في تعييره بأمه على خُلُق من أخلاق الجاهلية ولست جاهلاً محضًا (وقول الله تعالى) ولأبي ذر والأصيلي عز وجل ولأبي ذر عن الكشميهني، وقال الله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) أي يكفر به ولو بتكذيب نبيه لأن من جحد نبوّة الرسول عليه الصلاة والسلام مثلاً فهو كافر ولو لم يجعل مع الله إلهًا آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48]، فصير ما دون الشرك تحت إمكان المغفرة، فمن مات على التوحيد غير مخلد في النار وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما عساه أن يرتكب.

30 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ عَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ». [الحديث 30 - طرفاه في: 2545، 6050].

وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) بالموحدة الأزدي البصري (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن واصل) هو ابن حيان بالمهملة المفتوحة والمثناة التحتية الشددة، ولغير أبوي ذر والوقت عن وأصل الأحدب وللأصيلي هو الأحدب (عن المعرور) بعين مهملة وراءين مهملتين بينهما واو، وليس رواية ابن عساكر زيادة ابن سويد (قال) ولأبي ذر عن الكشميهني وقال (لقيت أبا ذر بالربذة) بالذال المعجمة المفتوحة وتشديد الراء جندب بضم الجيم والدال المهملة وقد تفتح ابن جنادة بضم الجيم الغفاري السابق في الإسلام، الزاهد القائل بحرمة ما زاد من المال على الحاجة، المتوفى بالربذة بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة منزل للحاج العراقي على ثلاث مراحل من المدينة، وله في البخاري أربعة عشر حديثًا (وعليه) أي لقيته حال كونه عليه (حلة) بضم المهملة ولا تكون إلا من ثوبين سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل على الآخر (وعلى غلامه حلة) أي وحال كون غلامه عليه حلة ففيه ثلاث أحوال، قال في فتح الباري: ولم يسم غلام أبي ذر؛ ويحتمل أن يكون أبا مراوح مولى أبي ذر (فسألته عن ذلك) أي عن تساويهما في لبس الحلة، وسبب السؤال أن العادة جارية بأن ثياب الغلام دون ثياب سيده (فقال) أبو ذر رضي الله عنه: (إني ساببت) بموحدتين أي شاتمت (رجلاً فعيّرته بأمه) بالعين المهملة أي نسبته إلى العار، وعند المؤلف في الأدب المفرد: وكانت أمه أعجمية فنلت منها، وفي رواية فقلت له: يا ابن السوداء (فقال ليس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا أبا ذر أعيّرته بأمه)؟ بالاستفهام على وجه الإنكار التوبيخي (إنك امرؤ) بالرفع خبر إن وعين كلمته تابعة للامها في أحوالها الثلاث (فيك جاهلية) بالرفع مبتدأ قدّم خبره، ولعل هذا كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريم ذلك، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، ولذا قال له عليه الصلاة والسلام: إنك امرؤ فيك جاهلية، وإلا فأبو ذر من الإيمان بمنزلة عالية، وإنما وبّخه بذلك على عظيم منزلته تحذيرًا له عن معاودة مثل ذلك. وعند الوليد بن مسلم منقطعًا كما ذكره في الفتح أن الرجل المذكور هو بلال المؤذن. وروى البرماوي أنه لما شكاه بلال إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له: "شتمت بلالاً وعيرته بسواد أُمه "؟ قال: نعم. قال: "حسبت أنه بقي فيك شيء من كبر الجاهلية" فألقى أبو ذر خدّه على التراب ثم قال: لا أرفع خدّي حتى يطأ بلال خذي بقدمه. زاد ابن الملقن فوطئ خدّه اهـ.

(1/115)


ثم قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-ِ: (إخوانكم) أي في الإسلام أو من جهة أولاد آدم فهو على سبيل المجاز (خولكم) بفتح أوّله المعجم والواو أي خدمكم أو عبيدكم الدين يتخوّلون الأمور أي
يصلحونها وقدّم الخبر على المبتدأ في قولكم إخوانكم خولكم للاهتمام بشأن الأخوة ويجوز أن يكونا خبرين حذف من كل مبتدؤه أي هم إخوانكم هم خولكم وأعربه الزركشي بالنصب أي احفظوا قال: وقال أبو البقاء إنه أجود لكن رواه البخاري في كتاب حسن الخلق هم إخوانكم وهو يرجح تقدير الرفع هم (جعلهم الله تحت أيديكم) مجاز عن القدرة أو الملك أي وأنتم مالكون إياهم (فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس) أي من الذي يأكله ومن الذي يلبسه والمثناة التحتية في فليطعمه وليلبسه مضمومة وفي يلبس مفتوحة، والفاء في فمن عاطفة على مقدّر أي وأنتم مالكون إلى آخر ما مرّ، ويجوز أن تكون سببية كما في ({فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّة} [الحج: 63]، ومن للتبعيض، فإذا أطعم عبده مما يقتاته كأن قد أطعمه مما يأكله ولا يلزمه أن يطعمه من كل مأكوله على العموم من الأدم وطيبات العيش، لكن يستحب له ذلك (ولا تكلفوهم ما) أي الذي (يغلبهم) أي تعجز قدرتهم عنه والنهي فيه للتحريم (فإن كلفتموهم) ما يغلبهم (فأعينوهم) ويلحق بالعبد الأجير والخادم والضيف والدابة. وفي الحديث النهي عن سبّ العبيد ومن في معناهم وتعييرهم بآبائهم والحث على الإحسان إليهم والرفق بهم، وأن التفاضل الحقيقي بين المسلمين إنما هو في التقوى، فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى ويفيد الوضيع النسب بالتقوى. قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13]، وجواز إطلاق الأخ على الرقيق والمحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي رجاله بصري وواسطي وكوفيان والتحديث والعنعنة، وأخرجه المصنف في العتق والأدب، ومسلم في الإيمان والنذور، وأبو داود والترمذي باختلاف ألفاظ بينهم.

باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فَسَمَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط في رواية الأصيلي {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، أي تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع (فأصلحوا بينهما) بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى، وللأصيلي وأبي الوقت اقتتلوا الآية. (فسماهم المؤمنين) ولابن عساكر مؤمنين مع تقاتلهم كذا في رواية الأصيلي وغيره فصل هذه الآية والحديث التالي لها بباب كما ترى، وأما رواية أبي ذر عن مشايخه فأدخل ذلك في الباب السابق بعد قوله {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، لكن سقط حديث أبي بكرة من رواية المستملي.
31 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ». [الحديث 31 - طرفاه في: 6875، 7083].

وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد الرحمن بن المبارك) بن عبد الله العيشي بفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية وبالشين المعجمة البصري، المتوفى سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائتين قال: (حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم أبو إسماعيل الأزرق الأزدي البصري، المتوفى سنة تسع وسبعين ومائة قال: (حدّثنا أيوب) السختياني (ويونس) بن عبيد بن دينار البصري، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائة كلاهما (عن الحسن) أبي سعيد بن أبي الحسن الأنصاري البصري المتوفى سنة ست عشرة ومائة (عن الأحنف) من الحنف وهو الاعوجاج في الرجل بالهملة والنون أبي بحر الضحاك (بن قيس) بن معاوية المخضرم، المتوفى بالكوفة سنة سبع وستين في إمارة ابن الزبير أنه (قال ذهبت لأنصر) أي لأجل أن أنصر (هذا الرجل) هو على بن أبي طالب كما في مسلم من هذا الوجه، وأشار إليه المؤلف في الفتن بلفظ: أريد نصرة ابن عمّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان ذلك يوم الجمل (فلقيني أبو بكرة) نفيع بضم النون وفتح الفاء ابن الحرث بن كلدة بالكاف واللام المفتوحتين. المتوفى بالبصرة سنة اثنتين وخمسين، وله في البخاري أربعة عشر حديثًا (فقال: أين تريد؟ قلت) وللأصيلي فقلت: أريد مكانًا لأن السؤال عن المكان والجواب بالفعل فيؤوّل بذلك (أنصر) أي لكي أنصر (هذا الرجل.
قال: ارجع فإني سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما) فضرب كل واحد منهما الآخر

(1/116)


(فالقاتل والمقتول في النار) إذا كان القاتل منهما بغير تأويل سائغ أما إذا كانا صحابيين فأمرهما عن اجتهاد وظن لإصلاح الدين فالمصيب منهما له أجران والمخطئ أجر، وإنما حمل أبو بكرة الحديث على عمومه في كل مسلمين التقيا بسيفيهما حسمًا للمادة، وقد رجع الأحنف عن رأي أبي بكرة في ذلك وشهد مع علي باقي حروبه، ولا يقال إن قوله فالقاتل والمقتول في النار يشعر بمذهب المعتزلة القائلين بوجوب العقاب للعاصي، لأن المعنى أنهما يستحقان وقد يعفى عنهما أو واحد منهما فلا يدخلان النار كما قال تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] أي جزاؤه وليس بلازم أن يجازى. قال أبو بكرة (فقلت) وللأربعة وكريمة قلت (يا رسول الله هذا القاتل) يستحق النار لكونه ظالمًا (فما بال المقتول) وهو مظلوم؟ (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إنه كان حريصًا على قتل صاحبه) مفهومه أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه، ولا تنافي بين هذا وبين قوله في الحديث الآخر "إذا همّ عبدي بسيئة فلم يعملها فلا تكتبوها عليه" لأن المراد أنه لم يوطن نفسه عليها بل مرت بفكره من غير استقرار، ورجال إسناد هذا الحديث كلهم بصريون وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: أيوب والحسن والأحنف، واشتمل على التحديث والعنعنة والسماع، وأخرجه المؤلف أيضًا في الفتن، ومسلم وأبو داود والنسائي.

23 - باب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ
هذا (باب) بالتنوين (ظلم دون ظلم) أي بعضه أخف من بعض، وهذه الترجمة لفظ رواية حديث رواه الإمام أحمد من كتاب الإيمان من حديث عطاء.

32 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. ح. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نفسه؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. [الحديث 32 - أطرافه في: 3360، 3428، 3429، 4629، 4776، 6918، 6937].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي الباهلي البصري السابق (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (ح) مهملة (قال: وحدّثني) بالإفراد (بشر) كذا في فرع اليونينية كهي، وفي بعض الأصول وهو لكريمة ح. وحدّثني بشر قال في الفتح: فإن كانت -يعني الحاء المفردة- من أصل التصنيف فهي مهملة مأخوذة من التحويل على المختار، وإن كانت مزيدة من بعض الرواة فيحتمل أن تكون مهملة كذلك أو معجمة مأخوذة من البخاري لأنها رمزه، أي قال البخاري: وحدْثني بشر، لكن في بعض الروايات المصححة وحدّثني بواو العطف من غير حاء قبلها، وبشر بكسر الموحدة وسكون المعجمة، وفي رواية ابن عساكر بن خالد أبو محمد العسكري كما في فرع اليونينية كهي المتوفى أبو بشر المذكور سنة ثلاث وخمسين ومائتين (قال: حدّثنا محمد) وفي رواية ابن عساكر محمد بن جعفر كما في الفرع أيضًا كاليونينية الهذلي البصري المعروف بغندر المتوفى فيما قاله أبو داود سنة ثلاث وتسعين ومائة (عن شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن مهران الأعمش الأسدي الكاهلي الكوفي، ولد يوم قتل الحسين يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وعند المؤلف سنة ستين المتوفى سنة ثمان ومائة (عن إبراهيم) بن يزيد بن قيس النخعي أبي عمران الكوفي الفقيه الثقة، وكان يرسل كثيرًا، المتوفى وهو مُختَفٍ من الحجاج سنة ست وتسعين وهو من الخامسة (عن علقمة) بن قيس بن عبد الله، المتوفى سنة اثنتين وستين، وقيل: وسبعين (عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه.
(قال لما نزلت) زاد الأصيلي قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون} [الأنعام: 82] وقوله: بظلم أي عظيم أي لم يخلطوه بشرك إذ لا أعظم من الشرك، وقد ورد التصريح بذلك عند المؤلف من طريق حفص بن غياث عن الأعمش ولفظه: قلنا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون بل لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك ألم تسمعوا إلى قول لقمان فذكر الآية الآتية، لكن منع التيمي تصوّر خلط الإيمان بالشرك وحمله على عدم حصول الصفتين لهم كفر متأخر عن إيمان متقدّم. أي: لم يرتدوا أو المراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهرًا وباطنًا أي لم ينافقوا وهذا أوجه. (قال أصحاب رسول الله) وللأصيليّ النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أينا لم يظلم نفسه) مبتدأ وخبر والجملة مقول القول (فأنزل الله) ولأبي ذر والأصيلي، فأنزل الله عز وجل عقب ذلك (إن الشرك لظلم عظيم) إنما حملوه على العموم لأن قوله بظلم نكرة في سياق النفي، لكن عمومها

(1/117)


هنا بحسب الظاهر. قال المحققون: إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم
ويقوّيه نحو: من في قوله: ما جاءني من رجل أفاد تنصيص العموم، وإلا فالعموم مستفاد بحسب الظاهر كما فهمه الصحابة من هذه الآية، وبيّن لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن ظاهره غير مراد، بل هو من العام الذي أريد به الخاص، والمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك، وإنما فهموا حصر الأمن والاهتداء فيمن لم يلبس إيمانه حتى ينتفيا عمن لبس من تقديم لهم على الأمن في قوله لهم الأمن أي: لهم لا لغيرهم ومن تقديم وهم على مهتدون. وفي الحديث أن المعاصي لا تسمى شركًا وأن من لم يشرك بالله شيئاًً فله الأمن وهو مهتدٍ. لا يقال: إن العاصي قد يعذب فما هذا الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ لأنه أجيب بأنه آمن من التخليد في النار مهتدِ إلى طريق الجنة انتهى.
وفيه أيضًا: أن درجات الظلم تتفاوت كما ترجم له، وأن العامّ يطلق ويراد به الخاصّ، فحمل الصحابة ذلك على جميع أنواع الظلم، فبين الله تعالى أن المراد نوع منه، وأن المفسر يقضي على المجمل، وأن النكرة في سياق النفي تعم، وأن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفع التعارض.

وفي إسناده رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم: الأعمش عن شيخه إبراهيم النخعي عن خاله علقمة بن قيس والثلاثة كوفيون فقهاء، وهذا أحد ما قيل فيه إنه أصح الأسانيد، وأمن تدليس الأعمش بما وقع عند المؤلف فيما مرّ في رواية حفص بن غياث عنه حدّثنا إبراهيم، وفيه التحديث بصورة الجمع والإفراد والعنعنة، وأخرج متنه المؤلف أيضًا في باب أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي التفسير، ومسلم في الإيمان والترمذي.
ولما فرغ المؤلف من بيان مراتب الكفر والظلم وأنها متفاوتة عقبه بأن النفاق كذلك فقال:

24 - باب عَلاَمَةِ الْمُنَافِقِ
هذا (باب علامات المنافق) جمع علامة وهي ما يستدل به على الشيء، وعدل عن التعبير بآيات المنافق المناسب للحديث المسوق هنا للعلامات موافقة لما ورد في صحيح أبي عوانة، ولفظ باب ساقط عند الأصيلي، والجمع في العلامات رواية الأربعة. والنفاق لغة مخالفة الظاهر للباطن فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، وإلا فهو نفاق العمل ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه، ولفظ المنافق من باب المفاعلة وأصلها أن تكون بين اثنين لكنها هنا من باب خادع وطارق.
33 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». [الحديث 33 - أطرافه في: 2682، 2749، 6095].

وبالسند إلى المصنف قال: (حدّثنا سليمان أبو الربيع) بن داود الزهراني العتكي المتوفى بالبصرة سنة أربع وثلاثين ومائتين (قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفر) هو ابن أبي كثير الأنصاري الزرقي مولاهم المدني قارئ أهل المدينة الثقة الثبت وهو من الثامنة المتوفى ببغداد سنة ثمانين ومائة (قال: حدّثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل) الأصبحي التيمي المدني من الرابعة المتوفى بعد الأربعين (عن أبيه) مالك جدّ إمام الأئمة المتوفى سنة اثنتي عشرة ومائة (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(آية المنافق) أي علامته واللام للجنس وكان القياس جمع المبتدأ الذي هو آية ليطابق الخبر الذي هو (ثلاث) وأجيب: بأن الثلاث اسم جمع ولفظه مفرد على أن التقدير آية المنافق معدودة بالثلاث.
وقال الحافظ ابن حجر: الإفراد على إرادة الجنس أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث. قال: والأوّل أليق بصنيع المؤلف ولهذا ترجم بالجمع انتهى. وتعقبه العلامة العيني فقال: كيف يراد الجنس والتاء فيها تمنع ذلك لأن التاء فيها كالتاء في تمرة، فالآية والآي كالتمرة والتمر. قال: وقوله إنما تحصل باجتماع الثلاث يشعر بأنه إذا وجد فيه واحد من الثلاث لا يطلق عليه منافق وليس كذلك بل يطلق عليه اسم المنافق، غير أنه إذا وجد فيه الثلاث كلها يكون منافقًا كاملاً. وأجيب بأنه مفرد مضاف فيعم كأنه قال: آياته ثلاث.
(إذا حدّث) في كل شيء (كذب) أي أخبر عنه بخلاف ما هو به قاصدًا للكذب (وإذا وعد) بالخير في المستقبل (أخلف) فلم يَفِ وهو من عطف الخاص على العامّ، لأن الوعد نوع من التحديث وكان داخلاً في قوله: وإذا حدّث ولكنه أفرده بالذكر معطوفًا تنبيهًا على زيادة قبحه.
فإن قلت: الخاص إذا

(1/118)


عطف على العامّ لا يخرج من تحت العامّ وحينئذ تكون الآية اثنتين لا ثلاثًا. أجيب: بأن لازم الوعد الذي هو الإخلاف الذي قد يكون فعلاً ولازم التحديث الذي هو الكذب الذي لا يكون فعلاً متغايرًا فبهذا الاعتبار كان الملزومان متغايران وخلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنًا للوعد، أما لو كان عازمًا ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم يوجد منه صورة النفاق. وفي حديث الطبراني ما يشهد له حيث قال: إذا وعد وهو يحدّث نفسه أنه يخلف، وكذا قال في باقي الخصال. وإسناده لا بأس به وهو عند الترمذي وأبي داود مختصرًا بلفظ: إذا وعد الرجل أخاه ومن نيّته أن يَفِي له فلم يَفِ فلا إثم عليه وهذا في الوعد بالخير، أما الشر فيستحب إخلافه وقد يجب.
(و) الثالثة من الخصال (إذا ائتمن) على صيغة المجهول من الائتمان أمانة (خان) بأن تصرف فيها على خلاف الشرع. ووجه الاقتصار على هذا الثلاث أنها منبّهة على ما عداها إذ أصل عمل الديانة منحصر في ثلاث: القول والفعل والنية، فنبّه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النيّة بالخلف، وحينئذ فلا يعارض هذا الحديث بما وقع في الآتي بلفظ: أربع من كنّ فيه، وفيه: وإذا عاهد غدر إذ هو معنى قوله: وإذا ائتمن خان لأن الغدر خيانة.

فإن قلت: إذا وجدت هذه الخصال في مسلم فهل يكون منافقًا؟ أجيب: بأنها خصال نفاق لا نفاق فهو على سبيل المجاز أو المراد نفاق العمل لا نفاق الكفر أو مراده من اتصف بها وكانت له ديدنًا وعادة، ويدل عليه التعبير بإذا المفيدة لتكرار الفعل أو هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبًا أو مراده الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال، وأن الظاهر غير مراد أو الحديث وارد في رجل معين وكان منافقًا ولم يصرح عليه الصلاة والسلام به على عادته الشريفة في كونه لا يواجههم بصريح القول بل يشير إشارة كقوله: ما بال أقوام ونحوه، أو المراد المنافقون الذين كانوا في الزمن النبوي. ورجال إسناد هذا الحديث كلهم مدنيون إلا أبا الربيع، وفيهم تابعي عن تابعي، وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الوصايا والشهادات والأدب، ومسلم في الإيمان والترمذي والنسائي.
34 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ. [الحديث 34 - طرفاه في: 2459، 3178].
وبه قال المؤلف: (حدّثنا قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة وسكون المثناة التحتية وفتح المهملة (ابن عقبة) بضم المهملة وسكون القاف وفتح الموحدة ابن محمد أبو عامر السوائي الكوفي المختلف في توثيقه من جهة كونه سمع من سفيان الثوري صغيرًا، فلم يضبط فهو حجة إلا فيما رواه عنه، لكن احتجاج البخاري به في غير موضع كافٍ. وقول أحمد إنه ثقة لا بأس به لكن كثير الغلط معارض بقول أبي حاتم لم أرَ من المحدّثين من يحفظ ويأتي بالحديث على لفظ واحد ولا يغيره سوى قبيصة وأبي نعيم اهـ. وتوفي في المحرم سنة ثلاث عشرة. وقال النووي: سنة خمس عشرة ومائتين.
(قال: حدّثنا سفيان) بتثليث سينه ابن سعيد بن منصور أبو عبد الله الثوري أحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، المتوفى سنة ستين ومائة بالبصرة متواريًا من سلطانها وكان يدلس (عن الأعمش) سليمان (عن عبد الله بن مرة) بضم الميم وتشديد الراء الهمداني بسكون الميم الكوفي التابعي الخارفي بالخاء المعجمة وبالراء والفاء، المتوفى سنة مائة (عن مسروق) يعني ابن الأجدع بالجيم والمهملتين ابن مالك الهمداني الكوفي الحضرمي المتفق على جلالته، المتوفى سنة ثلاث أو اثنتين وستين (عن عبد الله بن عمرو) يعني ابن العاصي رضي الله عنهما (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(أربع) أي أربع خصال أو خصال أربع مبتدأ خبره (من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا) أي في هذه الخصال فقط لا في غيرها أو شديد الشبه بالمنافقين، ووصفه بالخلوص يؤيد قول من قال: إن المراد بالنفاق العملي لا الإيماني أو النفاق العرفي لا الشرعي، لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم

الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار. (ومن كانت فيه خصلة منهن كانت) وللأصيلي في نسخة كان (فيه خصلة من النفاق حتى يدعها) حتى يتركها

(1/119)


(إذا ائتمن) شيئاً (خان) فيه (وإذا حدّث كذب) في كل ما حدّث به (وإذا عاهد) عهدًا (غدر) أي ترك الوفاء بما عاهد عليه (وإذا خاصم فجر) في خصومته أي مال عن الحق وقال الباطل، وقد تحصل من الحديثين خمس خصال الثلاثة السابقة في الأوّل والغدر فى المعاهدة والفجور في الخصومة فهي متغايرة باعتبار تغاير الأوصاف واللوازم، ووجه الحصر فيها أن إظهار خلاف ما في الباطن إما في الماليات وهو ما إذا ائتمن، وإما في غيرها وهو إما في حالة الكدورة فهو إذا خاصم، وإما في حالة الصفاء فهو إما مؤكد باليمين فهو إذا عاهد أو لا فهو إما بالنظر إلى المستقبل فهو إذا وعد، وإما بالنظر إلى الحال فهو إذا حدّث، لكن هذه الخمسة في الحقيقة ترجع إلى الثلاث لأن الغدر في العهد منطوٍ تحت الخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة داخل تحت الكذب في الحديث. ورجال هذا الحديث كلهم كوفيون إلا الصحابي على أنه قد دخل الكوفة أيضًا، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض والتحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الجزية، ومسلم في الإيمان وأصحاب السنن.

ثم قال المؤلف (تابعه) أي تابع سفيان الثوري (شعبة) بن الحجاج في رواية هذا الحديث (عن الأعمش) وقد وصل المؤلف هذه المتابعة في كتاب المظالم، ومراده بالمتابعة هنا كون الحديث مرويًّا من طريق أخرى عن الأعمش، والمتابعة هنا ناقصة لكونها ذكرت في وسط الإسناد لا في أوّله.
ولما ذكر المؤلف كتاب الإيمان الجامع لبيان باب السلام من الإسلام وأردفه بخمسة أبواب استطرادًا لما فيها من المناسبة وضمنها علامات النفاق رجع إلى ذكر علامات الإيمان فقال:

25 - باب قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الإِيمَانِ
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط في رواية الأصيلي (قيام ليلة القدر من الإيمان) أي من شعبه.
35 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [الحديث 35 - أطرافه في: 37، 38، 1901، 2008، 2009، 2014].

" وبالسند المذكور أوّلاً إلى المصنف قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع البهراني بفتح الموحدة الحمصي الثقة الثبت من العاشرة. يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائتين (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (قال: حدّثنا أبو الزناد) بالنون عبد الله بن ذكوان القرشي (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدني (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):

(من يقم ليلة القدر) للطاعة (إيمانًا) أي تصديقًا بأنه حق وطاعة (واحتسابًا) لوجهه تعالى لا للرياء ونحوه ونصبًا على المفعول له، وجوّز أبو البقاء فيما حكاه البرماوي أن يكونا على الحال مصدرًا بمعنى الوصف أي مؤمنًا محتسبًا (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي غير الحقوق الآدمية، لأن الإجماع قائم على أنها لا تسقط إلا برضاهم، وفيه الدلالة على جعل الأعمال إيمانًا لأنه جعل القيام إيمانًا وليلة نصب مفعول به لا فيه، وجملة غفر له جواب الشرط. وقد وقع ماضيًا، وفعل الشرط مضارعًا، وفي ذلك نزاع بين النحاة والأكثرون على المنع، واستدل القائلون بالجواز بقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ} [الشعراء: 4] لأن قوله فظلت بلفظ الماضي وهو تابع للجواب. وتابع الجواب جواب، وإنما عبّر بالمضارع في الشرط في قيام ليلة القدر، وبالماضي في قيام رمضان وصيامه في البابين اللاحقين لأن قيام رمضان وصيامه محقّقًا الوقوع فجاءا بلفظ يدل عليه بخلاف قيام ليلة القدر فإنه غير متيقن، فلهذا ذكره بلفظ المستقبل وقاله الكرماني. وقال غيره: استعمل لفظ الماضي في الجزاء مع أن المغفرة في زمن الاستقبال إشارة إلى تحقق وقوعه على حد قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّه} [النحل: 1] وقد روى النسائي الحديث عن محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان شيخ المصنف بلفظ "من يقم ليلة القدر يغفر له" فلم يغاير بين الشرط والجزاء. قال في الفتح: فظهر أنه من تصرف الرواة فلا يستدل به للقول بجواز التغاير في الشرط والجزاء. وعند أبي نعيم في مستخرجه "لا يقوم أحدكم ليلة القدر فيوافقها إيمانًا واحتسابًاً إلا غفر له". وقوله: فيوافقها زيادة بيان وإلاّ فالجزاء مرتب على قيام ليلة القدر ولا يصدق قيامها إلا على من يوافقها. وقوله: يقم بفتح الياء من قام يقوم وقع هنا

(1/120)


متعدّيًا، ويدل له حديث الشيخين مرفوعًاً "من قامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
ومن لطائف إسناد هذا الحديث ما قيل إن أصح أسانيد أبي هريرة أبو الزناد عن الأعرج عنه، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصيام مطوّلاً، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي ومالك في موطئه.
ولما كان التماس ليلة القدر يستدعي محافظة زائدة ومجاهدة تامة ومع ذلك فقد يوافقها وقد لا يوافقها، وكان هذا المجاهد يلتمس الشهادة ويقصد إعلاء كلمة الله تعالى ناسب أن يعقب المؤلف هذا الباب بفضل الجهاد استطرادًا فقال:

26 - باب الْجِهَادُ مِنَ الإِيمَانِ
هذا (باب) بالتنوين (الجهاد من الإيمان) أي شعبة من شعبه أو أنه كالأبواب السابقة في أن الأعمال أيمان لأنه لما كان الإيمان هو المخرج له في سبيله تعالى كان الخروج أيمانًا تسمية للشيء باسم سببه، والجهاد قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، ولفظ باب ساقط في رواية الأصيلي.

36 - حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ -لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي- أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. وَلَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ». [الحديث 36 - أطرافه في: 2787، 2797، 2972، 3123، 7226، 7227، 7457، 7463].
وبالسند إلى البخاري قال: (حدّثنا حرمي بن حفص) أي ابن عمر العتكي بفتح المهملة والمثناة الفوقية نسبة إلى العتيك بن الأسد القسملي بفتح القاف وسكون المهملة، وفتح الميم نسبة إلى قسملة وهو معاوية بن عمرو أو إلى القساملة قبيلة من الأزد البصري ثقة من كبار العاشرة، وانفرد به المؤلف عن مسلم، وتوفي سنة ثلاث أو ست وعشرين ومائتين، (قال: حدّثنا عبد الواحد) بن زياد العبدي نسبة إلى عبد القيس البصري الثقفي نسبة إلى ثقيف، المتوفى سنة سبع وسبعين ومائة (قال حدّثنا عمارة) بضم العين المهملة ابن القعقاع بن شبرمة الكوفي الضبي نسبة إلى ضبة بن أدّ بن طابخة (قال حدّثنا أبو زرعة) هرم أو عبد الرحمن أو عمرو أو عبد الله (بن عمرو) وفي رواية غير أبي ذر والأصيلي بزيادة (ابن جرير) البجلي بفتح الموحدة والجيم نسبة إلى بجيلة بنت صعب (قال: سمعت أبا هريرة) رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال):
(انتدب الله) بنون ساكنة ومثناة فوقية مفتوحة ودال مهملة كذلك في آخره بموحدة. وقال الحافظ ابن حجر في رواية الأصيلي: هنا ائتدب بمثناة تحتية مهموزة بدل النون من المأدبة وهو تصحيف وقد وجّهوه بتكلف، لكن إطباق الرواة على خلافه مع اتحاد المخرّج كاف في تخطئته انتهى.
وعزاها القاضي عياض لرواية القابسي، وأما رواية انتدب بالنون فهو من ندبت فلانًا لكذا فانتدب أي أجاب إليه. وفي القاموس وندبه إلى الأمر دعاه وحثّه أو معناه تكفل، كما رواه المؤلف في أواخر الجهاد أو سارع بثوابه وحسن جزائه، وللأصيلي وكريمة انتدب الله عز وجل (لمن خرج في سبيله) حال كونه (لا يخرجه إيمان) وفي رواية إلا الإيمان (بي وتصديق برسلي) بالرفع فيهما فاعل لا يخرجه والاستثناء مفرغ، وإنما عدل عن به الذي هو الأصل إلى بي للالتفات من الغيبة إلى التكلم، وقول ابن مالك في التوضيح كان الأليق إيمان به ولكنه على تقدير حال محذوف أي قائلاً لا يخرجه إلا إيمان بي، ولا يخرجه مقول القول لأن صاحب الحال على هذا التقدير هو الله. ردّه ابن المرحل فقال: أساء في قوله كان الأليق، وإنما هو من باب الالتفات ولا حاجة إلى تقدير حال لأن حذف الحال لا يجوز حكاه الزركشي وغيره.
وقال في المصابيح: ما ذكره من عدم جواز حذف الحال ممنوع، فقد ذكر ابن مالك من شواهده هنا قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}

[البقرة: 127] أي قائلين. وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] أي قائلين سلام عليكم. وقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء} [غافر: 7] أي قائلين. قال ابن المرحل: وإنما هو من باب الالتفات، وقال الزركشي: الأليق أن يقال عدل عن ضمير الغيبة إلى الحضور يعني أن الالتفات يوهم الجسمية فلا يطلق في كلام الله تعالى، وهذا خلاف ما أطبق عليه علماء البيان. وذكر الكرماني قوله: أو تصديق برسلي بلفظ أو واستشكله لأنه لا بدّ من الأمرين الإيمان بالله والتصديق برسله. وأجاب بما معناه أن أو بمعنى الواو أو أن الإيمان بالله مستلزم لتصديق رسله وتصديق رسله مستلزم للإيمان بالله. وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم يثبت في شيء من الروايات بلفظ أو اهـ.
نعم. وجدته في أصل

(1/121)


فرع اليونينية كهي أو بالألف قبل الواو وعلى الألف لا س علامة سقوط الألف عند من رقم له بالسين وهو ابن عساكر الدمشقي، ومقتضاه ثبوتها عند غيره فليتأمل مع كلام ابن حجر، وفوق الواو جزمة سوداء ونصبة بالحمرة، وكذا وجدته أيضًا بالألف في متن البخاري من النسخة التي وقفت عليها من تنقيح الزركشي، وكذا في نسخة كريمة، وعند الإسماعيلي كمسلم إلا إيمانًا بالنصب مفعول له أي لا يخرجه المخرج إلا الإيمان والتصديق.
(أن أرجعه) بفتح الهمزة من رجع وأن مصدرية والأصل بأن أرجعه أي يرجعه إلى بلده، وفي نسخة كريمة وقف الآثار أرجعه بهمزة مضمومة ظاهرها أنها كانت نصبة فأصلحتها ضمة (بما نال من أجر) أي بالذي أصابه من النيل وهو العطاء من أجر فقط إن لم يغنموا (أو) أجر مع (غنيمة) إن غنموا أو أن أو بمعنى الواو كما رواه أبو داود بالواو بغير ألف، وعبَّر بالماضي موضع المضارع في قوله: نال لتحقق وعده تعالى (أو) أن (أدخله الجنة) عند دخول المقربين بلا حساب ولا مؤاخذة بذنوب إذ تكفرها الشهادة أو عند موته لقوله: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169] (ولولا أن أشق) أي لولا المشقة (على أمتي ما قعدت خلف) بالنصب على الظرفية أي ما قعدت بعد (سرية) بل كنت أخرج معها بنفسي لعظم أجرها ولولا امتناعية وأن مصدرية في موضع رفع بالابتداء وما قعدت جواب لولا وأصله لما فحذفت اللام، والمعنى امتنع عدم القعود وهو القيام لوجود المشقة وسبب المشقة صعوبة تخلفهم بعده ولا قدرة لهم على المسير معه لضيق حالهم، قال ذلك -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شفقة على أمته جزاه الله عنا أفضل الجزاء. (ولوددت) عطفًا على ما قعدت واللام للتأكيد أو جواب قسم محذوف أي: والله لوددت أي أحببت (أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أُقتل) بضم الهمزة في كلّ من أحيا وأقتل وهي خمسة ألفاظ. وفي رواية الأصيلي أن أقتل بدل أني، ولأبي ذر فأقتل ثم أحيا فأقتل كذا في اليونينية وختم بقوله ثم أقتل، والقرار إنما هو على حالة الحياة لأن المراد الشهادة فختم الحال عليها أو الاحياء للجزاء من المعلوم فلا حاجة إلى ودادته لأنه ضروري الوقوع، وثم للتراخي في الرتبة أحسن من حملها على تراخي الزمان لأن المتمنى حصول مرتبة بعد مرتبة إلى الانتهاء إلى الفردوس الأعلى.

فإن قلت: تمنّيه عليه الصلاة والسلام أن يقتل يقتضي تمني وقوع زيادة الكفر لغيره وهو ممنوع للقواعد. أجيب: بأن مراده عليه الصلاة والسلام حصول ثواب الشهادة لا تمنّي المعصية للقاتل.
وفي الحديث استحباب طلب القتل في سبيل الله وفضل الجهاد، ورجاله ما بين بصري وكوفي خالٍ عن العنعنة وليس فيها إلا التحديث والسماع، وأخرجه المؤلف أيضًا في الجهاد، وكذا مسلم والنسائي.

27 - باب تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الإِيمَانِ
هذا (باب) بالتنوين (تطوّع قيام رمضان) بالطاعة في لياليه (من الإيمان) أي من شعبه والتطوع تفعل ومعناه التكلف بالطاعة، والمراد هنا التنفل وهو رفع بالابتداء مضاف لتاليه، ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية والألف والنون، وفي نسخة بفرع اليونينية باب تطوع قيام رمضان بغير تنوين مضافًا للاحقه، وفي رواية أبي ذر قيام شهر رمضان ولفظ باب ساقط في رواية الأصيلي.
37 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وبالسند إلى البخاري قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أُويس المدني الأصبحي (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) يعني ابن أنس إمام الأئمة وهو خاله (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن حميد بن عبد الرحمن) بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة أبو إبراهيم القرشي المدني الزهري الثقة وهو من الثانية وأمه أم كلثوم بنت عقبة أخت عثمان بن عفان لأمه المتوفى بالمدينة سنة خمس وتسعين. قال العيني وقيل سنة خمس ومائة. قال الحافظ ابن حجر في التقريب: بل هو الصحيح (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):

(من قام) بالطاعة صلاة التراويح أو غيرها من الطاعات في ليالي (رمضان) حال كون قيامه (إيمانًا) أي مؤمنًا بالله مصدقًا به (و) حال كونه (احتسابًا) أي محتسبًا والمعنى مصدقًا ومريدًا به وجه الله تعالى بخلوص نيّته (غفر له ما تقدم من ذنبه) من

(1/122)


الصغائر، وفي فضل الله وسعة كرمه ما يؤذن بغفران الكبائر أيضًا وهو ظاهر السياق، لكنهم أجمعوا على التخصيص بالصغائر كنظائره من إطلاق الغفران في أحاديث لما وقع من التقييد في بعضها بما اجتنبت الكبائر وهي لا تسقط إلا بالتوبة أو الحد. وأجيب عن استشكال مجيء الغفران في قيام رمضان وفي صومه وليلة القدر وكفّارة صوم يوم عرفة سنتين وعاشوراء سنة وما بين الرمضانين إلى غير ذلك مما ورد به الحديث فإنها إذا كفرت بواحد فما الذي يكفره الآخر بأن كلاًّ يكفر الصغائر، فإذا لم توجد بأن كفرها واحد مما ذكر أو غفرت بالتوبة أو لم تفعل للتوفيق المنعم به رفع له بعمله ذلك درجات وكتب له به حسنات أو خفَّف عنه بعض الكبائر كما ذهب إليه بعضهم وفضل الله واسع. ورواة هذا الحديث كلهم أئمة أجلاء

مدنيون، وفيه التحديث بصيغة الإفراد والجمع والعنعنة، وأخرجه المؤلف في الصيام أيضًا، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والموطأ وغيرهم.

28 - باب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الإِيمَانِ
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط عند الأصيلي (صوم رمضان) حال كونه (احتسابًا) أي محتسبًا (من الإيمان) ولم يقل إيمانًا للاختصار أو لاستلزام الاحتساب الإيمان.
38 - حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وبالسند إلى المؤلف قال رحمه الله: (حدّثنا ابن سلام) بالتخفيف على الصحيح وهو رواية ابن عساكر البيكندي وفي رواية للأصيلي وابن عساكر محمد بن سلام (قال: أخبرنا) وللأصيلي وكريمة حدّثنا (محمد بن فضيل) بضم الفاء وفتح المعجمة ابن غزوان الضبي مولاهم الكوفي المتوفى سنة تسع وخمسين ومائة (قال: حدّثنا يحيى بن سعيد) الأنصاري قاضي المدينة (عن أبي سلمة) عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من صام رمضان) كله عند القدرة عليه أو بعضه عند عجزه ونيّته الصوم لولا المانع حال كون صيامه (إيمانًاً و) حال كونه (احتسابًا) أي مؤمنًا محتسبًا بأن يكون مصدقًا به راغبًا في ثوابه طيب النفس به غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه (غفر له ما تقدم من ذنبه) الصغائر تخصيصًا للعامّ بدليل آخر كما سبق ورمضان نصب على الظرفية وأتى باحتسابًاً بعد إيمانًا مع أن كلاًّ منهما يلزم الآخر للتوكيد، ويأتي ما في البابين من المباحث في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى.
ولما تضمن ما ذكره من الأحاديث الترغيب في القيام والصيام والجهاد أراد أن يبيّن أن الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع فقال:

29 - باب الدِّينُ يُسْرٌ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ»
هذا (باب) بالتنوين وسقط لفظ باب للأصيلي (الدين) أي دين الإسلام بالنسبة إلى سائر الأديان (يسر) أي ذو يسر (وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بجر قول، وفي فرع اليونينية وقول بالرفع فقط على القطع (أحب) خصال (الدين) المعهود وهو دين الإسلام (إلى الله) الملّة (الحنيفية) أي المائلة عن الباطل إلى الحق (السمحة) أي السهلة الإبراهيمية وأحب الدين مبتدأ خبره الحنيفية المخالفة لأديان بني إسرائيل وما يتكلفه أحبارهم من الشدائد، وأحب بمعنى محبوب لا بمعنى محب، وإنما أخبر عنه

وهو مذكر بمؤنث وهو الحنيفية لغلبة الاسمية عليها لأنها علم على الدين أو لأن أفعل التفضيل المضاف لقصد الزيادة على ما أُضيف إليه يجوز فيه الإفراد والمطابقة لمن هو له. وهذا التعليق أسنده ابن أبي شيبة فيما قاله الزركشي والبخاري في الأدب المفرد، وأحمد بن حنبل فيما قاله الحافظ ابن حجر وغيره، وإنما استعمله المؤلف في الترجمة لأنه ليس على شرطه ومقصوده: أن الدين نبع على الأعمال لأن الذي يتّصف بالعسر واليسر إنما هو الأعمال دون التصديق.

39 - حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ مُطَهَّرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». [الحديث 39 - أطرافه في: 5673، 6463، 7235].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد السلام بن مطهر) بالطاء المهملة والهاء المشددة المفتوحتين ابن حسام الأزدي البصري المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا عمر بن علي) يعني ابن عطاء وعين عمر مضمومة المقدمي البصري وكان يدلس تدليسًا شديدًا يقول: حدّثنا وسمعت ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة الأعمش وتوفي سنة تسعين ومائة (عن معن بن محمد) بفتح الميم وسكون

(1/123)


العين المهملة واسم جده معن أيضًا (الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة إلى غفار الحجازي.
فإن قلت: ما حكم حديث رواية عمر بن علي المدلس بالعنعنة عن معن؟ أجيب: بأنها محمولة على ثبوت سماعه من جهة أخرى كجميع ما في الصحيحين عن المدلسين انتهى.
(عن سعيد بن أبي سعيد) واسمه كيسان (المقبري) بفتح الميم وضم الموحدة نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاورًا بها المدني أبي سعد بسكون العين المتوفى بعد اختلاطه بأربع سنين سنة خمس وعشرين ومائة وكان سماع معن عن سعيد قبل اختلاطه وإلاّ لما أخرجه المؤلف (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إن الدين يسر) أي ذو يسر. قال العيني: وذلك لأن الالتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلا بالتأويل أو هو اليسر نفسه كقول بعضهم في النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنه عين الرحمة مستدلاً بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء: 107] كأنه لكثرة الرحمة المودعة فيه صار نفسها، والتأكيد بأن فيه ردّ على منكر يسر هذا الدين فإما أن يكون المخاطب منكرًا أو على تقدير تنزيله منزلته أو على تقدير المنكرين غير المخاطبين أو لكون القصة مما يهتم بها (ولن يشادّ هذا) كذا في اليونينية بغير رقم (الدين) وللأصيلي ولن يشادّ الدين (أحد) بالشين المعجمة وإدغام سابق المثلين في لاحقه من المشادّة وهي المغالبة أي لا يتعمق أحد في الدين ويترك الرفق (إلا غلبه) الدين وعجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه، ويشادّ منصوب بلن والدين نصب بإضمار الفاعل أي لن يشادّ الدين أحد، ورواه كذلك ابن السكن، وكذا هو في بعض روايات الأصيلي كما نبهوا عليه

ووجدته في فرع اليونينية، وحكى صاحب المطالع: أن أكثر الروايات برفع الدين على أن يشادّ مبني لما لم يسمّ فاعله وتعقبه النووي بأن أكثر الروايات بالنصب، وجمع بينهما الحافظ ابن حجر بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ولابن عساكر: ولن يشادّ إلا غلبه، وله أيضًا ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه (فسدّدوا) بالمهملة من السداد وهو التوسط في العمل أي الزموا السداد من غير إفراط ولا تفريط (وقاربوا) في العبادة وهو بالموحدة أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه (وأبشروا) بقطع الهمزة من الإبشار، وفي لغة بضم الشين من البشرى بمعنى الإبشار أي أبشروا بالثواب على العمل، وأبهم المبشر به للتنبيه على تعظيمه وتفخيمه وسقط لغير أبي ذر لفظ وأبشروا (واستعينوا) من الإعانة (بالغدوة) سير أول النهار إلى الزوال أو ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس كالغداة والغدية (والروحة) اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل، وضبطهما الحافظ ابن حجر كالزركشي والكرماني بفتح أولهما، وكذا البرماويّ وهو الذي في فرع اليونينية، وضبطه العيني بضم أول الغدوة وفتح أول الثاني. قلت: وكذا ضبطه ابن الأثير وعبارته: والغدوة بالضم ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، ثم عطف على السابق قوله: (وشيء) أي واستعينوا بشيء (من الدلجة) بضم الدال المهملة وإسكان اللام سير آخر الليل أو الليل كله، ومن ثم عبر بالتبعيض ولأن عمل الليل أشرف من عمل النهار وفي هذا استعارة الغدوة والروحة وشيء من الدلجة لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، فإن هذه الأوقات أطيب أوقات المسافر فكأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاطب مسافرًا إلى مقصده فنبّهه على أوقات نشاطه لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعًا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة، ورواة هذا الحديث ما بين مدنيّ وبصري وفيه التحديث والعنعنة، وأخرج المؤلف طرفًا منه في الرقاق وأخرجه النسائي.
ولما كانت الصلوات الخمس أفضل طاعات البدن وهي تقام في هذه الأوقات الثلاث، فالصبح في الغدوة، والظهر والعصر في الروحة، والعشاءان في جزء الدلجة عند من

(1/124)


يقول إنها سير الليل كله عقب المصنف هذا الباب بذكر الصلاة من الإيمان فقال:

30 - باب الصَّلاَةُ مِنَ الإِيمَانِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يَعْنِي صَلاَتَكُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ
هذا (باب) بالتنوين (الصلاة من الإيمان) أي شعبة من شعبه مبتدأ وخبر ويجوز إضافة الباب إلى الجملة ولفظ باب ساقط عند الأصيلي (وقول الله تعالى) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي عز وجل وقول بالرفع عطفًا على لفظ الصلاة والجر عطفًا على المضاف إليه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} بالخطاب، وكان المقام يقتضي الغيبة، لكنه قصد تعميم الحكم للأمة الأحياء والأموات فذكر الأحياء المخاطبين تغليبًا لهم على غيرهم، وفسر البخاري الإيمان بقوله: (يعني صلاتكم) بمكة (عند البيت)
الحرام إلى بيت المقدس. قال في الفتح: قد وقع التنصيص على هذا التفسير من الوجه الذي أخرج منه المصنف حيث الباب؛ وروى النسائي والطيالسي فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] صلاتكم إلى بيت المقدس، وعلى هذا فقول المصنف عند البيت مشكل مع أنه ثابت عنه في جميع الروايات ولا اختصاص بذلك لكونه عند البيت، وقد قيل: إنه تصحيف والصواب يعني صلاتكم لغير البيت قال الحافظ ابن حجر وعندي أنه لا تصحيف فيه بل هو صواب ومقاصد البخاري دقيقة وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توجه إليها للصلاة وهو بمكة فقال ابن عباس وغيره إلى بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس وقال آخرون كان يصلي إلى الكعبة فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين والأول أصح لأنه يجمع بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس فكان البخاري رحمه الله تعالى أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس واقتصر على ذلك اكتفاة بالأولوية لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه والله أعلم.

40 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ -أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ- مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلاَّهَا صَلاَةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ، وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا -كَمَا هُمْ- قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ.
قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.
[الحديث 40 - أطرافه في: 399، 4486، 4492، 7252].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين ابن فروخ الحنظلي الحراني نزيل مصر المتوفى سنة تسع وعشرين ومائتين وليس هو عمر بالضم والفتح وإن وقع في رواية القابسي عن عبدوس عن أبي زيد المروزي وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني فقد قالوا إنه تصحيف (قال) أي عمرو (حدّثنا زهير) بضم أوّله وفتح ثانيه ابن معاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال الهملتين آخره جيم الجعدي الكوفي المتوفى سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين ومائة (قال حدّثنا أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي الكوفي التابعي الجليل المتوفى سنة ست أو سبع أو ثمان أو تسع

وعشرين ومائة وقول أحمد إن سماع زهير منه بعد أن بدا تغيره أجيب عنه بأن إسرائيل بن يونس حفيده وغيره تابعه عليه عند المؤلف (عن البراء) بتخفيف الراء والمد على الأشهر أبي عمرو أو أبي عامر أو أبي الطفيل وللأصيلي في رواية عن البراء بن عازب بن الحرث الأنصاري الأوسي المتوفى بالكوفة سنة اثنتين وسبعين وله في البخاري ثمانية وثلاثون حديثًا وما يخاف من تدليس أبي إسحاق فهو مأمون حيث ساقه المؤلف في التفسير من طريق الثوري بلفظ عن أبي إسحاق سمعت البراء رضي لله عنه.
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أوّل ما قدم) بكسر الدال ونصب أوّل على الظرفية لا خبر كان كما وهم الزركشي فإن خبر كان قوله نزل أي في أوّل قدومه (المدينة) طيبة في هجرته من مكة (نزل على أجداده أو قال) أي أبو إسحاق (أخواله من الأنصار) وكلاهما صحيح وهو على سبيل المجاز لأن أقاربه من الأنصار من جهة الأمومة لأن أُم جده عبد المطلب منهم (وأنه) عليه الصلاة والسلام (صلى قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة (بيت المقدس) مصدر ميمي كالمرجع أي حال كونه متوجهًا إليه (ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا) على الشك في رواية زهير هنا، وللمؤلف عن إسرائيل وللترمذي أيضًا، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص الجزم بالأوَل فيكون أخذ من شهر

(1/125)


القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الأيام الزائدة. وللبزار والطبراني عن عمرو بن عوف الجزم بالثاني كغيرهما، فيكون عدّ الشهرين معًا ومن شك تردد في ذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل في نصف رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور. ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان: سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول. وقال ابن حبيب: كان التحويل في نصف شعبان وهو الذي ذكره النووي في الروضة وأقره مع كونه رجح في شرح مسلم رواية ستة عشر شهرًا لكونها مجزومًا بها عند مسلم ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغى شهرًا القدوم والتحويل وسقط لغير ابن عساكر قوله شهرًا الأول (وكان) عليه الصلاة والسلام (يعجبه أن تكون قبلته قبل) أي كون قبلته جهة (البيت) الحرام (وأنه) بفتح الهمزة عطفًا على أن الأولى كالثانية (صلى أول صلاة صلاها) متوجهًا إلى الكعبة (صلاة العصر) بنصب أول مفعول صلى وصلاة العصر بدل منه وأعربه ابن مالك بالرفع وسقط لغير الأربعة لفظة صلى، ولابن سعد حوّلت القبلة في صلاة الظهر أو العصر (وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه) وهو عباد بن بشر بن قيظي أو عباد بن نهيك (فمرّ على أهل المسجد) من بني حارثة ويعرف الآن بمسجد القبلتين (وهم راكعون) حقيقة أو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل (فقال أشهد) أي أحلف (بالله لقد صلّيت مع رسول الله) ولابن عساكر مع النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل مكة) أي حال كونه متوجهًا إليها واللام للتأكيد وقد للتحقيق، وجملة أشهد اعتراض بين القول ومقوله (فداروا) أي سمعوا كلامه فداروا (كما هم) عليه (قبل البيت) الحرام ولم يقطعوا الصلاة بل أتموها إلى جهة الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى جهتين بدليلين شرعيين. قال في المصابيح: والظاهر أن الكاف في كما هم بمعنى على وما كافة وهم مبتدأ حذف خبره أي عليه أو كائنون، وقد يقال: إن ما

موصولة وهم مبتدأ حذف خبره أي عليه، لكن يلزم حذف العائد المجرور مع تخلف شرطه وفيه جواز النسخ بخبر الواحد وإليه ميل المحققين، (وكانت اليهود قد أعجبهم) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم منصوب على المفعولية (إذ كان) عليه الصلاة والسلام (يصلي قبل بيت المقدس) أي حال كونه متوجهًا إليه (وأهل الكتاب) بالرفع عطفًا على اليهود وهو من عطف العام على الخاص أو المراد به النصارى فقط وإعجابهم ذلك ليس لكونه قبلتهم بل بطريق التبعية لهم (فلما ولى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وجهه) الشريف (قبل البيت) الحرام (أنكروا ذلك) فنزل {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 142] كما صرّح به المصنف في رواية من طريق إسرائيل (قال زهير) يعني ابن معاوية (حدّثنا أبو إسحاق) يعني السبيعي (عن البراء) بن عازب (في حديثه هذا) وللأصيلي أبو إسحاق في حديثه عن البراء (أنه مات على القبلة) المنسوخة (قبل أن تحول) أي قبل التحويل إلى الكعبة (رجال) عشرة منهم: عبد الله بن شهاب الزهري القرشي مات بمكة والبراء بن معرور الأنصاري بالمدينة (وقتلوا) بضم أوله وكسر ثانيه وفائدة ذكر القتل بيان كيفية موتهم إشعارًاً بشرفهم واستبعادًا لضياع طاعتهم، أو أن الواو بمعنى أو فيكون شكًّا لكن القتل فيه نظر، فإن تحويل القبلة كان قبل نزول القتال على أن هذه اللفظة لا توجد في غير رواية زهير بن معاوية إنما الموجود في باقي الروايات ذكر الموت فقط (فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر عز وجل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] بالقبلة المنسوخة أو صلاتكم إليها. وقول الكرماني في قول زهير هذا أنه يحتمل أن يكون المؤلف ذكره معلقًا تعقبه الحافظ ابن حجر بأن المؤلف ساقه في التفسير موصولاً مع جملة الحديث، وقد تعقبه العيني بأن صورته صورة تعليق، وأنه لا يلزم من سوقه في التفسير جملة واحدة أن يكون هذا موصولاً غير معلق انتهى.
واختلف في صلاته عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس

(1/126)


وهو بمكة فقال قوم: لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وقال البيضاوي في تفسير قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] أي الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة. فإنه كان عليه الصلاة والسلام يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفًا لليهود. وقال قوم: كان لبيت المقدس فروى ابن ماجة حديث صلينا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرًا وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين، وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضًا. وعن ابن عباس كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه. قال البيضاوي: فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، وعلى الثاني المنسوخ، والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وما جعلنا قبلتك بيت المقدس اهـ.
وفي هذا الحديث جواز نسخ الأحكام خلافًا لليهود وبخبر الواحد، وإليه مال القاضي أبو بكر وغيره من المحققين وجواز الاجتهاد في القبلة، وبيان شرفه عليه الصلاة والسلام وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب والرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانًا. ورواة الحديث السابق

أئمة أجلاء أربعة، وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة والتفسير وفي خبر الواحد والنسائي والترمذي وابن ماجة.

31 - باب حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ
هذا (باب حسن إسلام المرء) بإضافة باب لتاليه وباب ساقط عند الأصيلي.
41 - قَالَ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلاَمُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا».
وبالسند إلى المؤلف قال (قال مالك) وللأصيلي وقال مالك ولابن عساكر في نسخة قال: وقال مالك يعني ابن أنس إمام دار الهجرة (أخبرني زيد بن أسلم) أو أسامة القرشي المكي مولى عمر بن الخطاب (أن عطاء بن يسار) بفتح المثناة التحتية والسين المهملة أبا محمد المدني مولى أم المؤمنين ميمونة (أخبره أن أبا سعيد الخدري) بالدال المهملة رضي الله عنه (أخبره أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يقول) بالمضارع حكاية حال ماضية.
(إذا أسلم العبد) أو الأمة وذكر المذكر فقط تغليبًا (فحسن إسلامه) أو إسلامها بأمن دخلا فيه بريئين من الشكوك أو المراد المبالغة في الإخلاص بالمراقبة (يكفر الله عنه) وعنها (كل سيئة كان زلفها) بتخفيف اللام المفتوحة وبه قرئ على الحافظ المنذري وغيره، ولأبي الوقت زلفها بتشديدها وعزاه في التنقيح للأصيلي، ولأبي ذر مما ليس في اليونينية أزلفها بزيادة همزة مفتوحة وهما بمعنى كما قاله الخطابي وغيره أي أسلفها وقدمها، وفي فرع اليونينية كهي أسلفها بالهمزة والسين لأبي ذر والتكفير هو التغطية وهو في المعاصي كالإحباط في الطاعات. وقال الزمحشري: التكفير إماطة المستحق من العقاب بثواب زائد والرواية في يكفر بالرفع، ويجوز الجزم لأن فعل الشرط ماضٍ وجوابه مضارع، وقول الحافظ ابن حجر في الفتح بضم الراء لأن إذا وإن كانت من أدوات الشرط لكنها لا تجزم تعقبه العيني فقال: هذا كلام من لم يشم شيئاً من العربية وقد قال الشاعر:
استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتحمل فجزم إذا تصبك انتهى. قلت: قال ابن هشام في مغنيه: ولا تعمل إذا الجزم إلا في الضرورة كقوله: استغن ما أغناك الخ. قال الرضي لما كان حدث إذا الواقع فيه مقطوعًا به في أصل الوضع لم يرسخ فيه معنى أن الدّال على الفرض بل صار عارضًا على شرف الزوال، فلهذا لم تجزم إلا في الشعر مع إرادة معنى الشرط وكونه بمعنى متى (وكان بعد ذلك) أي بعد حسن الإسلام (القصاص) بالرفع اسم كان على أنها ناقصة أو فاعل على أنها تامّة، وعبّر بالماضي وإن كان السياق يقتضي
المضارع لتحقق الوقوع كما في نحو قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] والمعنى وكتابة المجازاة في الدنيا (الحسنة) بالرفع مبتدأ وخبره (بعشر) أي تكتب أو تثبت بعشر (أمثالها) حال كونها منتهية (إلى سبعمائة ضعف) بكسر الضاد والضعف المثل إلى ما زاد، ويقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة

(1/127)


أمثاله لأنه زيادة غير مخصوصة قاله في القاموس، وقد أخذ بعضهم فيما حكاه الماوردي بظاهر هذه الغاية، فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة. وأجيب بأن في حديث ابن عباس عند المصنف في الرقاق كتب له الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وهو يرد عليه، وأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاء} [البقرة: 261] فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء بأن يجعلها سبعمائة وهو الذي قاله البيضاوي تبعًا لغيره، ويحتمل أن يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها (والسيئة بمثلها) من غير زيادة (إلا أن يتجاوز الله) عز وجل (عنها) أي عن السيئة فيعفو عنها، وفيه دليل لأهل السُّنَّة أن العبد تحت المشيئة إن شاء الله تعالى تجاوز عنه وإن شاء آخذه وردّ على القاطع لأهل الكبائر بالنار كالمعزلة. وقول الحافظ ابن حجر: إن أول الحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان لأن الحسن تتفاوت درجاته. تعقبه العيني بأن الحسن من أوصاف الإيمان ولا يلزم من قابلية الوصف الزيادة والنقصان قابلية الذات إياهما، لأن الذات من حيث هي هي لا تقبل ذلك كما عرف في موضعه انتهى.
وقد تقدم في أوّل كتاب الإيمان عند قوله: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] تحقيق البحث في ذلك فليراجع. وهذا الحديث لم يسنده المؤلف بل علقه وقد
وصله أبو ذر الهروي في روايته فقال: أخبرنا النضروي وهو العباس بن الفضل، حدّثنا الحسين بن
إدريس، حدّثنا هشام بن خالد، حدّثنا الوليد بن مسلم، عن مالك، عن زيد بن أسلم به ووصله النسائي في سننه، والحسن بن سفيان في مسنده والإسماعيلي، ولفظه من طريق عبد الله بن نافع عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا أسلم العبد كتب الله له كل حسنة قدمها ومحا عنه كل سيئة زلفها" ثم قيل له: ائتنف العمل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة والسيئة بمثلها إلا أن يغفر الله، والدارقطني في غرائب مالك من تسع طرق، ولفظه من طريق طلحة بن يحيى عن مالك "ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها ومحا عنه كل خطيئة زلفها" بالتخفيف فيهما، وللنسائي نحوه لكن قال: أزلفها، فقد ثبت في جميع الروايات ما أسقطه البخاري وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام. وقوله: كتب الله أي أمر أن يكتب. وللدارقطني من طريق ابن شعيب عن مالك يقول الله لملائكته اكتبوا. قيل: وإنما اختصره المؤلف لأن قاعدة الشرع أن الكافر لا يثاب على طاعته في شركه، لأن من شرط المتقرب كونه عارفًا بمن تقرب إليه، والكافر ليس كذلك. ورده النووي بأن الذي عليه الحققون بل نقل بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل أفعالاً جميلة على جهة التقرّب إلى الله تعالى كصدقة وصلة رحم وإعتاق ونحوها ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له. وحديث حكيم بن حزام المروي في

الصحيحين يدل عليه كالحديث الآتي، ودعوى أنه مخالف للقواعد غير مسلمة لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار، فإنه لا يلزم إعادتها إذا أسلم وتجزئه. قال ابن المنير: المخالف للقواعد دعوى أنه يكتب له ذلك في حال كفره، وأما أن الله تعالى يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرًا فلا مانع منه. ورواة هذا الحديث أئمة أجلاء مشهورون وهو مسلسل بلفظ الاخبار على سبيل الانفراد مع التصريح بسماع الصحابي من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
42 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا».
وبالسند إلى المؤلف قال (حدّثنا) بالجمع وفي رواية ابن عساكر حدّثني (إسحاق بن منصور) أي ابن أبي بهرام بكسر الموحدة فيما قاله النووي، والمشهور فتحها أبو يعقوب الكوسج من أهل مرو، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومائتين (قال: حدّثنا) وفي رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر أخبرنا (عبد الرزاق) بن همام بن نافع اليماني الصنعاني المتوفى سنة إحدى عشرة ومائتين (قال أخبرنا معمر) بميمين مفتوحتين ابن راشد أبو عروة البصري وسبق (عن همام) بتشديد الميم وفي رواية عن همّام بن منبّه بن كامل أبي

(1/128)


عقبة اليماني الذماري الأنباري التابعي، المتوفى سنة إحدى عشرة ومائة بصنعاء (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أحسن أحدكم إسلامه) باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر: والخطاب للحاضرين والحكم عامّ لهم ولغيرهم باتفاق لأن حكمه عليه الصلاة والسلام على الواحد حكم على الجماعة ويدخل فيه النساء والعبيد، لكن النزاع في كيفية التناول أهي حقيقة عرفية أو شرعية أو مجاز (فكل حسنة يعملها) مبتدأ خبره (تكتب له بعشر أمثالها) حال كونها منتهية (إلى سبعمائة ضعف) بكسر الضاد أي مثل وأتى بكل وهي أصرح في الاستغراق من أل في الحديث السابق (وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها) زاد مسلم حتى يلقى الله تعالى، وقيد الحسنة والسيئة هنا بالعمل وأطلق في السابق فيحمل المطلق على المقيد والباء في بمثلها للمقابلة. وفي الحديث التحديث والإخبار والعنعنة، وهو إسناد حديث من نسخة همام المشهورة المروية بإسناد واحد عن عبد الرزاق عن معمر عنه، والجمهور على جواز سياق حديث منها بإسنادها ولو لم يكن مبتدأ به فافهم.

32 - باب أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُه
هذا (باب) بالتنوين (أحب الدين ألى الله) زاد في رواية الأصيلي عز وجل (أدومه) أفعل تفصيل من الدوام، والمراد به هنا الدوام العرفي وهو قابل للكثرة والقلة.

43 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ. قَالَ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ فُلاَنَةُ -تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا- قَالَ «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا». وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. [الحديث 43 - طرفه في: 1151].
وبالسند إلى المؤلف قال رحمه الله تعالى: (حدّثنا محمد بن المثنى) بالمثلثة والنون المفتوحة المشدّدة أبو موسى البصري المذكور في باب حلاوة الإيمان قال (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان الأحول (عن هشام) يعني ابن عروة (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير بن العوام (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.

(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل عليها و) الحال (عندها امرأة فقال) بإثبات فاء العطف، وللأصيلي قال بحذفها فيكون جملة استئنافية جواب سؤال مقدّر كأن قائلاً يقول ماذا قال حين دخل قالت قال (من هذه؟ قالت) عائشة هي (فلانة) بعدم الصرف للتأنيث والعلمية إذ هو كناية عن ذلك وهي الحولاء بالمهملة والد كما في مسلم بنت تويت بمثناتين مصغرًا (تذكر) بفتح المثناة الفوقية أي عائشة (من صلاتها) في محل نصب على المفعولية، ولغير الأربعة يذكر بضم المثناة التحتية مبنيًّا لما لم يسمّ فاعله وتاليه نائب عنه أي يذكرون أن صلاتها كثيرة، وعند المؤلف في صلاة الليل معلقًا لا تنام الليل، ولعل عائشة أمنت عليها الفتنة فمدحتها في وجهها لكن في مسند الحسن بن سفيان كانت عندي امرأة فلما قامت قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من هذه يا عائشة قالت: يا رسول الله هذه فلانة وهي أعبد أهل المدينة، فظاهر هذه الرواية أن مدحها كان في غيبتها (قال) عليه الصلاة والسلام: (مه) بفتح الميم وسكون الهاء اسم للزجر بمعنى اكفف نهاها عليه السلام عن مدح المرأة بما ذكرته أو عن تكلّف عمل ما لا يطاق، ولذا قال بعده (عليكم) من العمل (بما) بموحدة قبل الميم، وفي رواية الأصيلي ما (تطيقون) أي بالذي تطيقون المداومة عليه وحذف العائد للعلم به ويفهم منه النهي عن تكليف ما لا يطاق وسبب وروده خاص بالصلاة، لكن اللفظ عامّ فيشمل جميع الأعمال، وعدل عن خطاب النساء إلى خطاب الرجال طلبًا لتعميم الحكم فغلب الذكور على الإناث في الذكر (فوالله لا يملّ الله حتى) أن (تملوا) بفتح الميم في الموضعين وهو من باب المشاكلة والازدواج، وهو أن تكون إحدى اللفظتين موافقة للأخرى وإن خالفت معناها. والملال ترك الشيء استثقالًا وكراهة له بعد حرص ومحبة فيه فهو من صفات المخلوقين لا من صفات الخالق تعالى فيحتاج إلى تأويل، فقال المحققون: هو على سبيل المجاز لأنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن قطع العمل ملالاً عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه أو معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، (وكان أحب الدين) أي الطاعة (إليه) أي إلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي رواية المستملي إلى الله وليس بين الروايتين تخالف لأن ما كان أحب

(1/129)


إلى الله كان أحب إلى رسوله وفي رواية أبي الوقت والأصيلي وكان أحب بالرفع اسم كان (ما داوم) أي واظب (عليه صاحبه) وإن قلَّ فبالمداومة على القليل تستمر الطاعة
بخلاف الكثير الشاق، وربما ينمو القليل الدائم حتى يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة، وهذا من مزيد شفقته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورأفته بأمته حيث أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه من غير مشقة جزاه الله عنّا ما هو أهله، وسقط عند الأصيلي قوله ما داوم عليه صاحبه، والتعبير بأحب هنا يقتضي أن ما لم يداوم عليه صاحبه من الدين محبوب، ولا يكون هذا إلا في العمل ضرورة أن ترك الإيمان كفر. قاله في الصابيح. وفي هذا الحديث الدلالة على استعمال المجاز وجواز الحلف من غير استحلاف وأنه لا كراهة فيه إذا كان لمصلحة وفضيلة المداومة على العمل وتسمية العمل دينًا، وقد أخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة ومسلم ومالك في موطئه.

33 - باب زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى - وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) وَقَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِص
(باب زيادة الإيمان ونقصانه) بإضافة باب لتاليه فقط. (وقول الله تعالى) بجر قول عطفًا على زيادة الإيمان، ولأبي ذر وابن عساكر عز وجل بدل قوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] لأن زيادته مستلزمة للإيمان أو المراد بالهدى الإيمان نفسه، وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] (وقال) تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي شرائعه.
فإن قلت: إذا كان تفسير الآية ما ذكر فما وجه استدلال المصنف بها على زيادة الإيمان ونقصانه. أجيب: بأن الكمال مستلزم للنقص واستلزامه للنقص يستدعي قبوله الزيادة.

ومن ثم قال المؤلف: (فإذا ترك) وللأصيلي فإذا تركت (شيئًا من الكمال فهو ناقص) لا يقال إن الدين كان ناقصًا قبل وإن من مات من الصحابة كان ناقص الإيمان من حيث إن موته قبل نزول ْالفرائض أو بعضها لأن الإيمان لم يزل تامًّا والنقص بالنسبهَ إلى الذين ماتوا قبل نزول الفرائض من الصحابة صوريّ نسبيّ ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى، وهذا يشبه قول القائل إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى لاشتماله من الأحكام على ما لم يقع في الكتب السابقة، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملاً وتجدد في شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكملية أمر نسبيّ، وعبر المؤلف بقال الماضي ولم يقل، وقوله اليوم على أسلوب السابق لأن الاستدلال به نص صريح في الزيادة وهو مستلزم للنقص بخلاف هذه، فإن الصريح فيها الكمال وليس هو نصًّا صريحًا في الزيادة.
44 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ

قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، ويَخرُجُ مِن النارِ من
قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ أَبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مِنْ إِيمَانٍ» مَكَانَ «مِنْ خَيْرٍ». [الحديث 44 - أطرافه في: 4476، 6565، 7410، 7440، 7509، 7510، 7516].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) بضم ميم مسلم وكسر لامه مخففًا أبو عمرو البصري الأزدي الفراهيدي بفتح الفاء وبالراء وبالهاء المكسورة والمثناة التحتية والدال المهملة، وعند ابن الأثير بالمعجمة بطن من الأزد مولاهم القصاب أو الشحام، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا هشام) بكسر الهاء ابن أبي عبد الله سندر الربعي بفتح الراء والموحدة نسبة إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان البصري الدستوائي بفتح الدال وإسكان السين المهملتين بعدهما مثناة فوقية مفتوحة أو مضمومة مهموز من غير نون نسبة إلى كورة من كور الأهواز لبيعه الثيات المجلوبة منها، المتوفى سنة أربع وخمسين ومائة، وكان يرمى بالقدر لكنه لم يكن داعية (قال: حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس) هو ابن مالك رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(يخرج من النار) بفتح المثناة التحتية من الخروج، وفي رواية الأصيلي وأبي الوقت يخرج بضمها من الإخراج في جميع الحديث فالتالي وهو (من قال) في محل رفع على الوجهين، فالرفع على الأوّل على الفاعلية، وعلى الثاني على النيابة عن الفاعل ومن موصولة ولاحقها جملة صلتها ومقول القول (لا اله إلاّ الله) أي مع قول محمد رسول الله، فالجزء الأوّل علم على المجموع كـ {قل هو الله أحد} على السورة كلها أو أن هذا كان قبل مشروعية ضمها إليه كما قاله العيني كالكرماني وفي ذلك نظر على ما لا يخفى. (وفي قلبه وزن شعيرة من خير) أي من إيمان كما في الرواية الأخرى. والمراد به الإيمان بجميع ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام

(1/130)


والجملة في موضع الحال، والتنوين في خير للتقليل المرغب في تحصيله إذ إنه إذا حصل الخروج بأقل مما ينطلق عليه اسم الإيمان فبالكثير منه أحرى.
فإن قلت: الوزن إنما يتصوّر في الأجسام دون المعاني. أجيب: بأن الإيمان شبّه بالجسم فأضيف إليه ما هو من لوازمه وهو الوزن، والمراد بالقول هنا النفسي. نعم الإقرار لا بدّ منه ولذا أعاده في كل مرة.
(ويخرج من النار من قال: لا إله إلاّ الله) محمد رسول الله (وفي قلبه وزن برة) بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة وهي القمحة (من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله) محمد رسول الله (وفي قلبه وزن ذرة من خير) بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء المفتوحة واحدة الذر وهو كما في القاموس: صغار النمل ومائة منها زنة حبة شعير انتهى. ولغيره أن أربع ذرّات وزن خردلة أو هو الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤوس الإبر وهو الساقط من التراب بعد وضع كفّك فيه ونفضها، ونسب هذا الأخير لابن عباس، فوزن الذرة هو التصديق الذي لا يجوز أن يدخله النقص،

وما في البرة والشعيرة من الزيادة على الذرة فإنما هو من زيادة الأعمال التي يكمل التصديق بها وليست زيادة في نفس التصديق قاله المهلب. وقال في الكواكب: وإنما أضاف هذه الأجزاء التي في الشعيرة والبرة الزائدة على الذرة إلى القلب لأنه لا كان الإيمان التامّ إنما هو قول وعمل، والعمل لا يكون إلا بنية وإخلاص من القلب، فلذا جاز أن ينسب العمل إلى القلب إذ تمامه بتصديق القلب.
فإن قلت: التصديق القلبيّ كافٍ في الخروج إذ المؤمن لا يخلد في النار، وأما قوله: لا إله إلاّ الله فلإجراء أحكام الدنيا عليه فما وجه الجمع بينهما؟ أجيب: بأن المسألة مختلف فيها فقال جماعة لا يكفي مجرد التصديق، بل لا بدّ من القول والعمل أيضًا وعليه البخاري، أو المراد بالخروج هو بحسب حكمنا به أي الحكم بالخروج لمن كان في قلبه إيمان ضامًّا إليه عنوانه الذي يدل عليه إذ الكلمة هي شعار الإيمان في الدنيا وعليه مدار الأحكام فلا بدّ منهما حتى يصحّ الحكم بالخروج انتهى.
وقال ابن بطال: التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل فمن قلَّ علمه كان تصديقه مثلاً بمقدار ذرّة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار برة أو شعيرة إلا أن التصديق الحاصل في قلب كل واحد منهم لا يجوز عليه النقصان وتجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. وبالجملة؛ فحقيقة التصديق واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان وقدّم الشعيرة على البرة لكونها أكبر جرمًا منها وأخّر الذرّة لصغرها، فهو من باب الترقي في الحكم وإن كان من باب التنزل.
وفي هذا الحديث الدلالة على زيادة الإيمان ونقصانه ودخول طائفة من عصاة الموحدين النار، وأن الكبيرة لا يكفر من عملها ولا يخلد في النار، ورواته كلهم أئمة أجلاّء بصريون وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه البخاري أيضًا في التوحيد، ومسلم في الإيمان، والترمذي في صفة جهنم وقال: حسن صحيح.
(قال أبو عبد الله) البخاري وفي رواية ابن عساكر بحذف قال أبو عبد الله كما في الفرع، وأصله (قال أبان) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة بالصرف على أنه فعال كغزال والهمزة أصل وهي فاء الكلمة والمنع على أنها زائدة ووزنه أفعل فمنع لوزن الفعل والعلمية واختاره ابن مالك بن يزيد العطار البصري وللأربعة، وقال أبان بواو العطف (حدّثنا قتادة) بن دعامة قال: (حدّثنا أنس) هو ابن مالك (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من إيمان مكان خير). وللأصيلي من خير، وهذا من التعليقات وقد وصله الحاكم في كتاب الأربعين له من طريق أبي سلمة موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا أبان، ونبّه المؤلف به على تصريح زيادة فيه بالتحديث عن أنس، لأن قتادة مدلس لا يحتج بعنعنته إلا إذا ثبت سماعه للذي عنعن عنه، وعلى تفسير المتن بقوله: من إيمان بدل قوله من خير.

45 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ أَيُّ آيَةٍ قَالَ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا). قَالَ عُمَرُ قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. [الحديث 45 - أطرافه في: 4407، 4606، 7268].
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن الصباح) بتشديد الموحدة ابن محمد، وللأصيلي البزار بزاي بعدها راء الواسطي، المتوفى ببغداد سنة ستين ومائتين أنه (سمع جعفر بن عون) أي ابن أبي جعفر المخزومي المتوفى بالكوفة سنة سبع ومائتين

(1/131)


قال: (حدّثنا أبو العميس) بضم العين المهملة وفتح الميم وسكون المثناة التحتية آخره سين مهملة الهذلي المسعودي الكوفي المتوفى سنة عشرين ومائة قال: (أخبرنا قيس بن مسلم) الكوفي العابد المتوفى سنة عشرين ومائة أيضًا (عن طارق بن شهاب) يعني ابن عبد شمس الصحابي المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومائة. وقال المزي: سنة ثلاث وثمانين، وقيل سنة اثنتين وقيل سنة أربع (عن عمر بن الخطاب) رضي الله عنه.
(أن رجلاً من اليهود) هو كعب الأحبار قبل أن يسلم كما قاله الطبراني في الأوسط وغيره كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة عن عبادة بن نسي بضم النون وفتح المهملة عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب عن كعب أنه (قال له) أي لعمر: (يا أمير المؤمنين آية) مبتدأ وساغ مع كونه نكرة لتخصصه بالصفة وهي (في كتابكم تقرؤونها) والخبر (لو علينا معشر اليهود نزلت) أي لو نزلت علينا كقوله: لو أنتم تملكون أي لو تملكون أنتم لأن لولا تدخل إلا على الفعل، فحذف الفعل لدلالة الفعل المذكور عليه، ومعشر نصب على الاختصاص أي أعني معشر اليهود (لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا) نعظمه في كل سنة ونسر فيه لعظم ما حصل فيه من كمال الدين (قال) عمر رضي الله عنه: (أي آية) هي فالخبر محذوف؟ (قال) كعب {اليوم أكملت لكم دينكم} قال البيضاوي بالنصر والإظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد {وأتممت عليكم نعمتي} بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منارات الجاهلية {ورضيت لكم الإسلام} أي اخترته لكم {دينًا} [المائدة: 3] من بين الأديان وهو الدين عند الله (قال) وفي رواية الأربعة فقال (عمر) رضي الله عنه: (قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت) في رواية الأصيلي أنزلت (فيه على النبي) وفي رواية أبي ذر على رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو قائم) أي والحال أنه قائم (بعرفة) بعدم الصرف للعلمية والتأنيث (يوم جمعة). وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت ونسخة لابن عساكر يوم الجمعة، وإنما لم يمنع من الصرف على الأولى كما في عرفة لأن الجمعة صفة أو غير صفة وليس علمًا، ولو كانت علمًا لامتنع صرفها وهي بفتح الميم وضمها وإسكانها، فالمتحرك بمعنى

الفاعل كضحكة بمعنى ضاحك والمسكن بمعنى المفعول كضحكة أي مضحوك عليه وهذه قاعدة كلية فالمعنى إما جامع للناس أو مجموع له، وإنما لم ينقل عمر رضي الله عنه جعلناه عيدًا ليطابق جوابه السؤال، لأنه ثبت في الصحيح أن النزول كان بعد العصر ولا يتحقق العيد إلا من أوّل النهار، وقد قالوا: إن رؤية الهلال بعد الزوال للقابلة ولا ريب أن اليوم التالي ليوم عرفة عيد للمسلمين، فكأنه قال: جعلناه عيدًا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتعبّد فيه.
وقال الحافظ ابن حجر: وعندي أن هذه الرواية اكتفى فيها بالإشارة وإلاّ فرواية إسحاق بن قبيصة قد نصت على المراد ولفظه يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد، وللطبراني وهما لنا عيد، فظهر أن الجواب تضمن أنهم اتخذوا ذلك اليوم عيدًا وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدًا لأنه ليلة العيد انتهى.
وقال النووي: فقد اجتمع في ذلك اليوم فضيلتان وشرفان، ومعلوم تعظيمنا لكلٍّ منهما فإذا اجتمعا زاد التعظيم فقد اتخذنا ذلك اليوم عيدًا وعظمنا مكانه. وفي رجال هذا الحديث ثلاثة كوفيون ورواية صحابي عن صحابي والتحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف في المغازي والتفسير والاعتصام ومسلم والترمذي وقال حسن صحيح، وكذا النسائي في الإيمان والحج.

34 - باب الزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلاَمِ، وَقَوْلُهُ {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)
(باب) بالتنوين (الزكاة من الإسلام) أي من شعبه مبتدأ أو خبر ويجوز إضافة الباب للاحقه (وقوله) بالرفع والجرّ على ما لا يخفى وللأصيلي: عز وجل، ولابن عساكر: سبحانه: {وما أُمروا} أي أهل الكتاب في التوراة والإنجيل، ولأبي ذر باب الزكاة من الإسلام وما أُمروا {إلا ليعبدوا الله} حال كونهم (مخلصين له الدين) لا يشركون به فما أُريد به وجه الله فقط إخلاص ما لم يشبه ركون أو حظ كطهره لله تعالى مع نيّة تبرد وصومه لله تعالى بنيّة الحمية ونحوها، أو يعتكف له بمسجد ويدفع مؤونة

(1/132)


مسكنه، وهذه النية لا تحبطه لصحة حجه لله تعالى مع نية تجارة إجماعًا، فالإخلاص ما صفا عن الكدر وخلص من الشوائب، الرياء آفة عظيمة تقلب الطاعة معصية، فالإخلاص رأس جميع العبادات {حنفاء} مائلين عن العقائد الزائغة {ويقيموا الصلاة} التي هي عماد الدين وهو من باب عطف الخاص على العام {ويؤتوا الزكاة} ولكنهم حرّفوا وبدّلوا {وذلك} المذكور من هذه الأشياء هو {دين القيمة} [البينة: 5] أي دين الملّة القيّمة أي المستقيمة وسقط عند الأصيلي وذلك دين القيّمة.
وفي رواية أبي الوقت من قوله حنفاء إلى آخر الآية فقال: {مخلصين له الدين} الآية.
46 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلاَ نُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَصِيَامُ رَمَضَانَ. قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزَّكَاةَ. قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ. [الحديث أطرافه 46 - في: 1891، 2678، 6956].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أُويس الأصبحي المدني المتوفى سنة ست وعشرين ومائتين (قال: حدّثني) بالإفراد، وللأصيلي حدّثنا (مالك بن أنس) الإمام وسقط عند الأصيلي وابن عساكر قوله ابن أنس (عن عمه أبي سهيل بن مالك) واسم أبي سهيل نافع المدني (عن أبيه) مالك بن أبي عامر (أنه سمع طلحة بن عبيد الله) بن عثمان القرشي التيمي أحد العشرة المبشرة بالجنة المقتول يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين ودفن بالبصرة وله في البخاري أربعة أحاديث (يقول):
(جاء رجل) هو ضمام بن ثعلبة أو غيره (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أهل نجد) بفتح النون وسكون الجيم وهو كما في العباب وغيره ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق، وفي رواية أبي ذر جاء رجل من أهل نجد إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ثائر) بالمثلثة أي متفرق شعر (الرأس) من عدم الرفاهية فحذف المضاف للقرينة العقلية، أو أطلق اسم الرأس على الشعر لأنه نبت منه، كما يطلق اسم السماء على المطر أو مبالغة بجعل الرأس كأنها المنتفشة، وثائر بالرفع صفة لرجل أو بالنصب على الحال ولا يضر إضافتها لأنها لفظية (نسمع) بنون الجمع (دويّ صوته) بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء منصوب مفعولاً به (ولا نفقه) بنون الجمع كذلك (ما يقول) أي الذي يقوله في محل نصب على الفعولية، وفي رواية ابن عساكر يسمع ولا يفقه بضم المثناة التحتية فيهما مبنيًّا لما لم يُسمّ فاعله ودوي وما يقول نائبان عنه. والدوي شدة الصوت وبعده في الهواء فلا يفهم منه شيء (حتى دنا) أي إلى أن قرب فهمناه. (فإذا هو يسأل عن الإسلام) أي عن أركانه وشرائعه بعد التوحيد والتصديق أو عن حقيقته، واستبعد هذا من حيث إن الجواب يكون غير مطابق للسؤال وهو قوله (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): هو (خمس صلوات في اليوم والليلة) أو خذ خمس صلوات ويجوز الجرّ بدلاً من الإسلام، فظهر أن السؤال وقع عن أركان الإسلام وشرائعه، ووقع الجواب مطابقًا. ويؤيده ما في رواية إسماعيل بن جعفر عند المؤلف في الصيام أنه قال: أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصلاة وليس الصلوات الخمس عين الإسلام، ففيه حذف تفديره إقامة خمس صلوات في اليوم والليلة،

وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها أو علم أنه إنما يسأل عن الشرائع الفعلية أو ذكرها فلم ينقلها الراوي لشهرتها (فقال) الرجل المذكور، ولابن عساكر قال (هل عليّ غيرها) بالرفع مبتدأ مؤخر خبره عليّ (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا) شيء عليك غيرها وهو حجة على الحنفية حيث أوجبوا الوتر وعلى الإصطخري من الشافعية حيث قال: إن صلاة العيدين فرض كفاية (إلا أن تطوع) استثناء من قوله لا منقطع أي لكن التطوّع مستحب لك، وعلى هذا لا تلزم النوافل بالشروع فيها، لكن يستحب إتمامها ولا يجب. وقد روى النسائي وغيره أن النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أحيانًا ينوي صوم التطوّع ثم يفطر، وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحرث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل على أن الشروع في النفل لا يستلزم الإتمام، فهذا النص في الصوم والباقي بالقياس ولا يرد الحج لأنه امتاز عن غيره بالمضي في فاسده، فكيف في صحيحه أو الاستثناء متصل على الأصل، واستدل به على أن الشروع في التطوّع يلزم إتمامه. وقرره القرطبي من المالكية بأنه نفي وجوب شيء آخر أي: إلا ما تطوّع به، والاستثناء من النفي إثبات

(1/133)


ولا قائل بوجوب التطوع، فتعيّن أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوّع فيلزمك إتمامه.
وفي مسند أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين فأهديت لنا شاة فأكلنا، فدخل علينا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرناه فقال "صوما يومًا مكانه" والأمر للوجوب، فدلّ علي أن الشروع ملزم.
(قال) وفي رواية أبي الوقت والأصيلي فقال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصيام) بالرفع عطفًا على خمس
صلوات وفي رواية أبي ذر وصوم (رمضان. قال) الرجل (هل عليّ غيره؟ قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا إلا أن تطوّع) فلا يلزمك إتمامه إذا شرعت فيه أو إلا إذا تطوّعت، فالتطوّع يلزمك إتمامه لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33] وفي استدلال الحنفية نظر لأنهم لا يقولون بفرضية الإتمام بل بوجوبه واستثناء الواجب من الفرض منقطع لتباينهما، وأيضًا فإن الاستثناء عندهم من النفي ليس للإثبات بل مسكوت عنه كما قاله في الفتح. (قال) الراوي طلحة بن عبيد الله (وذكر له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزكاة قال) وفي رواية الأصيلي وأبي ذر فقال الرجل المذكور: (هل عليّ غيرها؟ قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا إلا أن تطوّع، قال) الراوي (فأدبر الرجل) من الإدبار أي تولى (وهو يقول) أي والحال أنه يقول: (والله لا أزيد) في التصديق والقبول (على هذا ولا أنقص) منه شيئاً أي قبلت كلامك قبولاً لا مزيد عليه من جهة السؤال ولا نقصان فيه من طريق القبول، أو لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص منه عند الإبلاغ لأنه كان وافد قومه ليتعلم ويعلمهم، لكن يعكر عليهما رواية إسماعيل بن جعفر حيث قال: لا أتطوّع شيئًا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئًا، أو المراد لا أغير صفة الفرض كمن ينقص الظهر مثلاً ركعة أو يزيد المغرب، (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أفلح) الرجل أي فاز (إن صدق) في كلامه. واستشكل كونه أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر وهو لم يذكر له جميع الواجبات ولا المنهيات

ولا المندوبات. وأجيب: بأنه داخل في عموم قوله في حديث إسماعيل بن جعفر المروي عند المؤلف في الصيام بلفظ: فأخبره رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بشرائع الإسلام.
فإن قلت: أما فلاحه بأنه لا ينقص فواضح وأما بأن لا يزيد فكيف يصح؟ أجاب النووي بأنه أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحًا لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الجواب أولى، وفي هذا الحديث أن السفر والارتحال لتعلّم العلم مشروع وجواز الحلف من غير استحلاف ولا ضرورة ورجاله كلهم مدنيون وتسلسل بالأقارب، لأن إسماعيل يرويه عن خاله عن عمه عن أبيه، وأخرجه أيضًا في الصوم وفي ترك الحيل، وأخرجه مسلم في الإيمان، وأبو داود في الصلاة والنسائي فيها وفي الصوم.

35 - باب اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَان
هذا (باب) بالتنوين (اتّباع الجنائز من الإيمان) أي شعبة من شعبه، واتّباع بتشديد التاء المكسورة والجنائز جمع جنازة بفتح الجيم وكسرها الميت أو بالفتح للميت وبالكسر للنعش أو عكسه أو بالكسر النعش وعليه الميت.

47 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ. وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ».
تَابَعَهُ عُثْمَانُ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. نَحْوَهُ. [الحديث 47 - طرفاه في: 1323، 1325].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا أحمد بن عبد الله بن عليّ المنجوفي) نسبة إلى جدّ أبيه منجوف بفتح الميم وسكون النون وضم الجيم وفي آخره فاء ومعناه الموسع، المتوفى سنة اثنتين وخمسين ومائتين (قال: حدّثنا روح) بفتح الراء وبالحاء المهملتين ابن عبادة بن العلاء البصري المتوفى سنة خمس ومائتين (قال: حدّثنا عوف) بالفاء ابن أبي جميلة بندويه بفتح الموحدة وبالنون الساكنة والدال المهملة المضمومة والواو الساكنة والمثناة التحتية العبدي الهجري البصري، المتوفى سنة ست أو سبع وأربعين ومائة، ونسب إلى التشيع (عن الحسن) البصري (ومحمد) بالجرّ عطفًا على الحسن، وللأصيلي ومحمد بالرفع هو ابن سيرين أبو بكر الأنصاري مولاهم البصري التابعي الجليل، المتوفى سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة وعشرين يومًا كلاهما (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(من اتبع) بتشديد المثناة الفوقية، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر تبع بغير ألف وكسر الموحدة (جنازة

(1/134)


مسلم) حال كون ذلك (إيمانًا واحتسابًا) أي محتسبًا لا مكافأة ومخافة (وكان معه) أي مع
المسلم. وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني معها أي الجنازة (حتى يصلى) بفتح اللام في اليونينية فقط وفي هامشها بكسرها (عليها ويفرغ من دفنها) بالبناء للفاعل في الفعلين أو بالبناء للمفعول والجار والمجرور فيهما هو النائب عن الفاعل، وللأصيلي يصلّ بحذف الياء وكسر اللام (فإنه يرجع من الأجْر بقيراطين) مثنى قيراط وهو اسم لمقدار من الثواب يقع على القليل والكثير بينه بقوله (كل قيراط مثل) جبل (أُحُد) بضمتين بالمدينة سمي به لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، فحصول القيراطين مقيد بالصلاة والاتّباع في جميع الطريق مع الدفن وهو تسوية القبر بالتمام أو نصب اللبن عليه والأوّل أصح عندنا، ويحتمل حصول القيراط بكل منهما، لكن بتفاوت القيراط ولا يقال يحصل القيراطان بالدفن من غير صلاة بظاهر رواية فتح لام يصلى لأن المراد فعلهما معًا جميعًا بين الروايتين وحملاً للمطلق على المقيد (ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن) بنصب قبل على الظرفية وأن مصدرية أي قبل الدفن (فإنه يرجع بقيراط) من الأجْر، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ثم حضر الدفن لم يحصل له القيراط الثاني كذا قاله النووي، وليس في الحديث ما يقتضي ذلك إلا بطريق المفهوم، فإن ورد منطوق بحصول القيراط بشهود الدفن وحده، كان مقدمًا ويجمع حينئذ بتفاوت القيراط، ولو صلى ولم يشيع رجع بالقيراط لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى دون قيراط من شيع مثلاً وصلى، وفي مسلم أصغرهما مثل أُحُد وهو يدل على أن القراريط تتفاوت، وفي رواية مسلم أيضًا: من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط، لكن يحتمل أن يكون المراد بالاتباع هنا ما بعد الصلاة ولو تبعها ولم يصل ولم يحضر الدفن فلا شيء له بل حكي عن أشهب كراهته، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في كتاب الجنائز بحول الله وقوته. وفي الحديث الحثّ على صلاة الجنازة واتّباعها وحضور الدفن والاجتماع لها، ورجاله كلهم بصريون غير أبي هريرة، واشتمل على التحديث والعنعنة، وأخرجه النسائي في الإيمان والجنائز.
(تابعه) أي تابع روحًا في الرواية عن عوف (عثمان) بن الهيثم بن جهم البصري (المؤذن) بجامعها المتوفى لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة عشرين ومائتين. وفي رواية ابن عساكر قال أبو عبد الله أي البخاري تابعه عثمان المؤذن (قال: حدّثنا عوف) الأعراب (عن محمد) بن سيرين ولم يروه عن الحسن (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحوه) بالنصب أي بمعنى ما سبق لا بلفظه، وهذه المتابعة وصلها أبو نعيم في مستخرجه هذا.

36 - باب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذَّبًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ. مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ. وَمَا

يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى التَقاتُلِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
(باب خوف المؤمن من أن يحبط) على صيغة المعلوم من باب علم يعلم (عمله) أي من حبط عمله وهو ثوابه الموعود به (وهو لا يشعر) به جملة اسمية وقعت حالاً لا يقال إن ما قاله المؤلف يقوّي مذهب الإحباطية لأن مذهبهم إحباط الأعمال بالسيئات وإذهابها جملة، فحكموا على العاصي بحكم الكافر، لأن مراد المؤلف إحباط ثواب ذلك العمل فقط لأنه لا يُثاب إلا على ما أخلص فيه.
وقال النووي المراد بالحبط نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر انتهى. ولفظة (من) ساقطة في رواية ابن عساكر وهي مقدّرة عند سقوطها لأن المعنى عليها، وهذا الباب وضعه المؤلف ردًّا على المرجئة القائلين بأن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط المطلقين الإيمان الكامل مع وجود المعصية.
(وقال إبراهيم) بن يزيد بن شريك (التيمي) تيم الرباب بكسر الراء الكوفي المتوفى سنة اثنتين وتسعين (ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا) بفتح المعجمة أي يكذبني من رأى عملي مخالفًا لقولي، وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ، وفي رواية الأربعة مكذبًاً بكسر الذال وهي رواية الأكثر كما قاله الحافظ ابن حجر، ومعناه: أنه مع وعظه للناس لم يبلغ غاية العمل، وقد ذمّ الله تعالى من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في العمل فقال: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
وقال البيضاوي في آية {أَتَأْمُرُونَ

(1/135)


النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] أنها ناعية على من يعظ غيره ولا يعظ نفسه سوء صنيعه وخبث نفسه وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل ليقوم فيقيم لا منع الفاسق من الوعظ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر انتهى.
وهذا التعليق المذكور وصله المصنف في تاريخه عن أبي نعيم وأحمد بن حنبل في الزهد، عن ابن مهدي كلاهما، عن سفيان الثوري، عن أبي حيان التيمي، عن إبراهيم المذكور.
(وقال ابن أبي مليكة) بضم الميم عبد الله بفتح العين ابن عبيد الله بضمها القرشي التيمي المكي الأحول المؤذن القاضي لابن الزبير المتوفى سنة سبع عشرة ومائة (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي) وفي نسخة رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة، وعقبة بن الحرث والمسور بن مخرمة (كلهم يخاف) أي يخشى (النفاق) في الأعمال (على نفسه) لأنه قد عرض للمؤمن في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص ولا يلزم من خوفهم ذلك وقوعه منهم، وإنما ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنّا بهم، أو قالوا ذلك لكون أعمارهم طالت حتى رأوا من التغيير ما لم يعهدوه مع عجزهم عن إنكاره فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت (ما

منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل) عليهما الصلاة والسلام أي: لا يجزم أحد منهم بعدم عروض ما يخالف الإخلاص، كما يجزم بذلك في إيمان جبريل وميكائيل لأنهما معصومان لا يطرأ عليهما ما يطرأ على غيرهما من البشر، وقد روى معنى هذا الأثر الطبراني في الأوسط مرفوعًا من حديث عائشة بإسناد ضعيف، وفي هذا الأثر إشارة إلى أنهم كانوا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه، (ويذكر) بضم أوله وفتح ثالثه (عن الحسن) البصري رحمه الله مما وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق (ما خافه) أي النفاق وفي نسخة عن الحسن أنه قال: ما خافه، وفي رواية وما خافه (إلا مؤمن ولا أمنه) بفتح الهمزة وكسر الميم (إلا منافق) جعل النووي الضمير في خافه وأمنه لله تعالى، وتبعه جماعة على ذلك، لكن سياق الحسن البصري المروي عند الفريابي حيث قال: حدّثنا قتيبة، حدّثنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلاّ هو ما مضى مؤمن قطّ وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قطّ ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وهو عند أحمد بلفظ: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق ولا أمنه إلا منافق يعين إرادة المؤلف الأوّل وأتى بيذكر الدالة على التمريض مع صحة هذا الأثر لأن عادته الإتيان بنحو ذلك فيما يختصر من المتون أو يسوقه بالمعنى لا أنه ضعيف.
ثم عطف المؤلف على خوف المؤمن قوله: (وما يحذر) بضم أوّله وفتح ثالثه المعجم مع التخفيف. وقال الحافظ ابن حجر: بتشديده أي وباب ما يحذر (من الإصرار على التقاتل والعصيان من غير توبة)، وفي رواية أبوي ذر والوقت على النفاق بدل التقاتل، والأولى هي المناسبة لحديث الباب حيث قال فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى - وقتاله كفر وهي رواية أبي ذر والأصيلي وابن عساكر، ومعنى الثانية كما في الفتح صحيح وإن لم تثبت به الرواية انتهى.
نعم ثبتت به الرواية عن أبي ذر ونسخة السيمساطي كما رقم له بفرع اليونينية كما ترى، وما مصدرية وما بين الترجمتين من الآثار اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وفصل بها بينهما لتعلقها بالأولى فقط. وأما الحديثان الآتيان إن شاء الله تعالى- فالأوّل منهما للثانية والثاني للأولى فهو لفّ ونشر غير مرتب، ومراد المؤلف الرد على المرجئة أيضًا حيث قالوا: لا حذر من المعاصي مع حصول الإيمان، ومفهوم الآية التي ذكرها المؤلف يردّ عليهم حيث قال: (لقول الله تعالى) ولأبي ذر عز وجل بدل قوله تعالى، وفي رواية الأصيلي لقوله عز وجل (ولم يصروا على ما فعلوا) ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه الترمذي

(1/136)


من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة (وهم يعلمون)، حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به، وروى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعًا: ويل للمصرّين الدين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون أي يعلمون أن من تاب تاب الله عليه ثم لا يستغفرون قاله مجاهد وغيره.
48 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنِ

الْمُرْجِئَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ». [الحديث 48 - طرفاه في: 6044، 7076].
وبالسند السابق إلى المصنف قال: (حدّثنا محمد بن عرعرة) بالعينين والراءين المهملات غير منصرف للعلمية والتأنيث ابن البرند بكسر الموحدة والراء أو بفتحهما وبسكون النون البصري المتوفى سنة ثلاث عشرة ومائتين (قال حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن زبيد) بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة ابن الحرث بن عبد الكريم اليامي بالمثناة التحتية وميم خفيفة مكسورة الكوفي المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائة (قال):
(سألت أبا وائل) بالهمز بعد الألف شقيق بن سلمة الأسدي أسد خزيمة الكوفي التابعي، المتوفى سنة تسع وتسعين أو سنة اثنتين وثمانين (عن) المقالة المنسوبة للطائفة (المرجئة) بضم الميم وكسر الجيم ثم همزة نسبة إلى الإرجاء أي التأخير لأنهم أخّروا الأعمال عن الإيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق هل هم مصيبون فيها أو مخطئون (فقال) أبو وائل في جوابه لزبيد: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه (أن) أي بأن (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: سباب) بكسر السين المهملة وتخفيف الموحدة مصدر مضاف للمفعول أي شتم (المسلم) والتكلم في عرضه بما يعيبه ويؤلمه (فسوق) أي فجور وخروج عن الحق، ويحتمل أن يكون على بابه من المفاعلة أي تشاتمهما فسوق (وقتاله) أي مقاتلته (كفر) أي: فكيف يحكم بتصويب قولهم إن مرتكب الكبيرة غير فاسق مع حكم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على من سبّ المسلم بالفسق ومن قاتله بالكفر وقد علم بهذا خطؤهم، ومطابقة جواب أبي وائل لسؤال زبيد عنهم، وليس المراد بالكفر هنا حقيقته التي هي الخروج عن الملّة وإنما أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير معتمدًا على ما تقرر من القواعد على عدم كفره بمثل ذلك أو أطلقه عليه لشبهه به لأن قتال المسلم من شأن الكافر، أو المراد الكفر اللغوي وهو الستر لأنه بقتاله له ستر ما له عليه من حق الإعانة والنصرة وكفّ الأذى.
وفي هذا الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بالفسق، ورجاله كلهم أئمة أجلاء ما بين بصري وواسطي وكوفي مع التحديث إفرادًا وجميعًا والعنعنة، وأخرجه أيضًا في الأدب ومسلم في الإيمان والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي في المحاربة.
49 - أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: إِنِّي خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ». [الحديث 49 - طرفاه في: 2023، 6049].

وبه قال (أخبرنا قتيبة بن سعيد) السابق وفي رواية الأصيلي بإسقاط ابن سعيد، وفي رواية أبي الوقت هو ابن سعيد قال: (حدّثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المدني (عن حميد) بضم الحاء ابن أبي حميد تير بكسر المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية آخره راء أي السهمي الخزاعي البصري، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة (عن أنس)، وزاد الأصيلي ابن مالك وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: حدّثنا أنس، ولأبوي ذر والوقت حدّثني بالإفراد أنس، وبذلك يحصل الأمن من تدليس حميد (قال):
(أخبرني) بالإفراد (عبادة بن الصامت) رضي الله عنه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج) من الحجرة (يخبر) استئناف أو حال مقدرة لأن الخبر بعد الخروج على حدّ {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] أي مقدرين الخلود (بليلة القدر) أي بتعيينها (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة من التلاحي بكسرها أي تنازع (رجلان من المسلمين) وهما فيما قاله ابن دحية عبد الله بن أبي حدرد بمهملة مفتوحة ودالين مهملتين أولاهما ساكنة وبينهما راء، وكعب بن مالك كان له على عبد الله دين فطلبه فتنازعا وارتفع صوتهما في المسجد (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إني خرجت لأخبركم) بنصب الراء بأن المقدرة بعد لام التعليل والضمير مفعول أخبر الأوّل، وقوله (بليلة القدر) سد مسد الثاني والثالث أي: أخبركم بأن ليلة القدر هي ليلة كذا (وأنه تلاحى فلان وفلان) ابن أبي حدرد وكعب

(1/137)


بن مالك في المسجد، وشهر رمضان اللذين هما محلان للذكر لا للغو مع استلزام ذلك لرفع الصوت بحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام المنهي عنه (فرفعت) أي رفع بيانها أو علمها من قلبي بمعنى نسيتها ويدل له حديث أبي سعيد المروي في مسلم، فجاء رجلان يحتقان بتشديد القاف أي يدّعي كلّ منهما أنه محق معهما الشيطان فنسيتها، (وعسى أن يكون) رفعها (خيرًا لكم) لتزيدوا في الاجتهاد في طلبها فتكون زيادة في ثوابكم ولو كانت معينة لاقتصرتم عليها فقل عملكم وشذ قوم فقالوا برفعها وهو غلط كما بيّنه قوله (التمسوها) أي اطلبوها إذ لو كان المراد رفع وجودها لم يأمرهم بالتماسها، وفي رواية أبي ذر والأصيلي فالتمسوها (في) ليلة (السبع) بالموحدة والعشرين من رمضان المذكور (والتسع) والعشرين منه (والخمس) والعشرين منه كما استفيد التقدير من روايات أُخر، وفي رواية بتقديم التسع بالثناة على السبع بالموحدة.

فإن قلت: كيف أمر بطلب ما رفع علمه؟ أجيب: بأن المراد طلب التعبد في مظانها، وربما يقع العمل مضافًا لها لا أنه أمر بطلب العلم بعينه. وفي الحديث ذمّ الملاحاة والخصومة وأنهما سبب العقوبة للعامّة بذنب الخاصة والحثّ على طلب ليلة القدر، ورواته ما بين بلخي وبصري ومدني ورواية صحابي عن صحابي، والتحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه أيضًا في الصوم وفي الأدب وكذا النسائي.
37 - باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الإِيمَانِ، وَالإِسْلاَمِ، وَالإِحْسَانِ، وَعِلْمِ السَّاعَةِ. وَبَيَانِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ثُمَّ قَالَ «جَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا. وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنَ الإِيمَانِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.
هذا (باب) بغير تنوين لإضافته إلى قوله (سؤال جبريل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الإيمان والإسلام إحسان) بإضافة سؤال لجبريل من إضافة المصدر للفاعل والنبي نصب معمول المصدر (و) عن (علم) وقت لساعة) قدر بالوقت لأن السؤال لم يقع عن نفس الساعة، وإنما هو عن وقتها بقرينة ذكر متى الساعة، (وبيان) لجر عطفًا على سؤال جبريل (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أكثر المسؤول عنه لأنه لم يبين وقت الساعة إذ كم عظم الشيء حكم كله أو أن قوله عن الساعة لا يعلمها إلاّ الله بيان له (ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعطف لجملة الفعلية على الاسمية لأن الأسلوب يتغير بتغير المقصود لأن مقصوده من الكلام الأوّل الترجمة، ومن الثاني كيفية الاستدلال فلتغايرهما تغاير الأسلوبان (جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم فجعل) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ذلك كله دينًا) يدخل فيه اعتقاد وجود الساعة وعدم العلم بوقتها لغير الله تعالى لأنهما من الدين، (وما بين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لوفد عبد القيس من الإيمان) أي مع ما بين للوفد أن الإيمان هو الإسلام حيث فسّره في قصتهم بما فسر به الإسلام (وقوله تعالى) وفي رواية أبي ذر وقول الله تعالى، وفي رواية الأصيلي عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] أي مع ما دلّت عليه هذه الآية أن الإسلام هو الدين إذ لو كان غيره لم يقبل، فاقتضى ذلك أن الإيمان والإسلام شيء واحد، ويؤيده ما نقل أبو عوانة في صحيحه عن المزني من الجزم بأنهما عبارة عن معنى واحد، وأنه سمع ذلك من الشافعيّ، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى قريبًا.
50 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ. قَالَ مَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: «الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ». قَالَ: مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا؛ وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ. ثُمَّ تَلاَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآيَةَ. ثُمَّ أَدْبَرَ. فَقَالَ رُدُّوهُ. فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَقَالَ: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الإِيمَانِ». [الحديث 50 - طرفه في: 4777].

وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم) بن سهم وأمه علية بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد المثناة التحتية (قال أخبرنا أبو حيان) بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية يحيى بن سعيد بن حيان (التيمي) نسبة إلى تيم الرباب الكوفي (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير البجلي (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال):
(كان النبي) وفي رواية رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بارزًا) أي ظاهرًا (يومًا للناس) غير محتجب عنهم ويومًا نصب على الظرفية (فأتاه رجل) أي ملك في صورة رجل وهو رواية الأربعة، وفي رواية في أصل متن فرع اليونينية كهي جبريل (فقال) بعد أن سلم يا محمد كما في مسلم، وإنما ناداه باسمه كما يناديه الأعراب تعمية بحاله أو لأن له دالة المعلم (ما الإيمان) أي ما متعلقاته وقد وقع السؤال بما ولا يسأل بها إلا عن الماهية (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الإيمان أن تؤمن بالله) أي تصدق بوجوده وبصفاته الواجبة له تعالى، لكن الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام علم أنه سأله

(1/138)


عن متعلقات الإيمان لا عن حقيقته، وإلاّ فكان الجواب الإيمان التصديق، وإنما فسر الإيمان بذلك لأن المراد من المحدود الإيمان الشرعي ومن الحد اللغوي حتى لا يلزم الشيء بنفسه وحمله الآبي على الحقيقة معللًّا بأن السؤال بما يحسب الخصوصية إنما يكون عن الحقيقة لا عن الحكم، وعلى هذا قوله: أن تؤمن الخ من حيث أنه جواب السؤال المذكور يتعين أن يكون حدًا لأن المقول في جوابه إنما هو الحد.
فإن قلت: لو كان حدًّا لم يقل جبريل عليه السلام في جوابه صدقت كما في مسلم لأن الحد لا يقبل التصديق، أجيب: بأنه إذا قيل في الإنسان إنه حيوان ناطق وقصد به التعريف فلا يقبل التصديق كما ذكرت، وإن قصد به أنه الذات المحكوم عليها بالحيوانية والناطقية فهو دعوى وخبر فيقبل التصديق، فلعل جبريل عليه الصلاة والسلام راعى هذا المعنى، فلذلك قال: صدقت أو يكون قوله صدقت تسليمًا، والحد يقبل التسليم ولا يقبل المنع لأن المنع طلب الدليل، والدليل إنما يتوجه للخبر والحد تفسير لا خبر وأعاد لفظ الإيمان للاعتناء بشأنه وتفخيمًا لأمره.
(وملائكته) جمع ملك وأصله ملاك مفعل من الألوكة بمعنى الرسالة زيدت فيه التاء لتأكيد معنى الجمع أو لتأنيث الجمع وهم أجساد علوية نورانية مشكلة بما شاءت من الأشكال والإيمان بهم هو التصديق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: عباد مكرمون أي وأن تؤمن بملائكته (و) أن تؤمن (بلقائه) أي برؤيته تعالى في الآخرة كما قال الخطابي، وتعقبه النووي بأن أحدًا لا يقطع لنفسه بها إذ هي مختصّة بمن مات مؤمنًا والمرء لا يدري بِمَ يختم له. وأجيب: بأن المراد أنها حق في نفس الأمر أو المراد الانتقال من دار الدنيا. (و) أن تؤمن (برسله) عليهم الصلاة والسلام، وفي رواية غير الأصيلي ورسله بإسقاط الموحدة أي التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى وتأخيرهم في الذكر لتأخر إيجادهم لا لأفضلية الملائكة، وفي هامش فرع اليونينية كهي زيادة، وكتبه للأصيلي بإسقاط الموحدة أي تصدق بأنها كلام الله وأن ما اشتملت عليه حق (و) أن (تؤمن) أي تصدق (بالبعث) من القبور وما بعده كالصراط والميزان والجنة والنار أو المراد بعثة الأنبياء، وقد قيل، إن

قوله وبلقائه مكرر لأنها داخلة في الإيمان بالبعث وتغاير تفسيرهما يحقق أنها ليست مكررة، وإنما أعاد تؤمن لأنه إيمان بما سيوجد وما سبق إيمان بالموجود في الحال فهما نوعان.

ثم (قال) أي جبريل يا رسول الله (ما الإسلام؟ قال) عليه الصلاة والسلام: (الإسلام أن تعبد الله) أي تطيعه مع خضوع تذلل أو تنطق بالشهادتين (ولا تشرك به) بالفتح، وفي نسخة كريمة: ولا تشرك بالضم، زاد الأصيلي شيئاً (و) أن (تقيم) أي تديم (الصلاة) المكتوبة كما صرح به في مسلم، أو تأتي بها على ما ينبغي، وهو وتاليه من عطف الخاص على العام. (و) أن (تؤدي الزكاة المفروضة) قيد بها احترازًا من صدقة التطوّع فإنها زكاة لغوية أو من المعجلة أو لأن العرب كانت تدفع المال للسخاء والجود، فنبّه بالفرض على رفض ما كانوا عليه. قال الزركشي: والظاهر أنها للتأكيد، وفي رواية مسلم تقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة، (وتصوم رمضان) ولم يذكر الحج إما ذهولاً أو نسيانًا من الراوي، ويدل له مجيئه في رواية كهمس، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، وقيل: لأنه لم يكن فرض ودفع بأن في رواية ابن منده بسند على شرط مسلم: إن الرجل جاء في آخر عمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولمن يذكر الصوم في رواية عطاء الخراساني، واقتصر في حديث أبي عامر على الصلاة والزكاة ولم يزد في حديث ابن عباس على الشهادتين، وزاد سليمان التيمي بعد ذكر الجميع الحج والاعتمار والاغتسال من الجنابة وإتمام الوضوء، وقد وقع هنا التفريق بين الإيمان والإسلام، فجعل الإيمان عمل القلب، والإسلام عمل الجوارح. فالإيمان لغة التصديق مطلقًا، وفي الشرع التصديق والنطق معًا فأحدهما ليس بإيمان، أما التصديق فإنه لا ينجي وحده من النار، وأما النطق فهو وحده نفاق، فتفسيره في الحديث الإيمان بالتصديق

(1/139)


والإسلام بالعمل إنما فسر به إيمان القلب والإسلام في الظاهر لا الإيمان الشرعي والإسلام الشرعى، والمؤلف يرى أنهما والدين عبارات عن واحد، والمتضح أن محل الخلاف إذا أفرد لفظ أحدهما فإن اجتمعا تغايرا كما وقع هنا.
ثم (قال) جبريل: يا رسول الله (ما الإحسان)؟ مبتدأ وخبر أل للعهد. أي: ما الإحسان المتكرر في القرآن المترتب عليه الثواب؟ (قال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مجيئًا له: الإحسان (أن تعبد الله) أي عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك له (كأنك تراه) أي مثل حال كونك رائيًا له (فإن لم تكن تراه) سبحانه وتعالى فاستمر على إحسان العبادة (فإنه) عز وجل (يراك) دائمًا، والإحسان الإخلاص أو إجادة العمل، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام إذ هو شامل لمقام المشاهدة ومقام المراقبة، ويتضح لك ذلك بأن تعرف أن للعبد في عبادته ثلاث مقامات.
الأول: أن يفعلها على الوجه الذي تسقط معه وظيفة التكليف باستيفاء الشرائط والأركان.
الثاني: أن يفعلها كذلك وقد استغرق في بحار المكاشفة حتى كأنه يرى الله تعالى، وهذا مقامه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" لحصول الاستلذاذ بالطاعة والراحة بالعبادة وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب واشتغال السرّ به، ونتيجته نسيان الأحوال من المعلوم واضمحلال الرسوم.

الثالث: أن يفعلها وقد غلب عليه أن الله تعالى يشاهده وهذا هو مقام المراقبة.
فقوله: فإن لم تكن تراه نزول عن مقام المكاشفة إلى مقام المراقبة أي إن لم تعبده وأنت من أهل الرؤية المعنوية فاعبده وأنت بحيث أنه يراك، وكلٍّ من المقامات الثلاث إحسان إلاّ أن الإحسان الذي هو شرط في صحة العبادة إنما هو الأوّل لأن الإحسان بالآخرين من صفة الخواص ويتعذر من كثيرين، وإنما أخر السؤال عن الإحسان لأنه صفة الفعل أو شرط في صحته والصفة بعد الموصوف، وبيان الشرط متأخر عن المشروط قاله أبو عبد الله الآبي.
ثم (قال) جبريل (متى) تقوم (الساعة) اللام للعهد والمراد يوم القيامة. (قال: ما) أي ليس (المسؤول) زاد في رواية أبي ذر عنها (بأعلم من السائل) بزيادة الموحدة في أعلم لتأكد معنى النفي، والمراد نفي علم وقتها لأن علم مجيئها مقطوع به فهو علم مشترك، وهذا وإن أشعر بالتساوي في العلم إلا أن المراد التساوي في العلم بأن الله استأثر بعلم وقت مجيئها لقوله بعد خمس لا يعلمهن إلاّ الله، وليس السؤال عنها ليعلم الحاضرون كالأسئلة السابقة بل لينزجروا عن السؤال عنها كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَة} [الأحزاب: 63] فلما وقع الجواب بأنه لا يعلمها إلا الله تعالى كفوًا، وهذا السؤال والجواب وقعا بين عيسى ابن مريم وجبريل عليهما السلام كما في نوادر الحميدي، لكن كان عيسى هو السائل وجبريل هو المسؤول ولفظه: حدّثنا سفيان: حدّثنا مالك بن مغول، عن إسماعيل بن رجاء، عن الشعبي قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل عن الساعة قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.

(وسأخبرك عن أشراطها) بفتح الهمزة جمع شرط بالتحريك أي علاماتها السابقة عليها أو مقدماتها لا المقارنة لها وهي: (إذا ولدت الأمة) أي وقت ولادة الأمة (ربها) أي مالكها وسيدها وهو هنا كناية عن كثرة أولاد السراري حتى تصير الأم كأنها أمة لابنها من حيث إنها ملك لأبيه، أو أن الإماء تلدن الملوك فتصير الأم من جملة الرعايا والملك سيد رعيته، أو كناية عن فساد الحال لكثرة بيع أمهات الأولاد فيتداولهن الملاك فيشتري الرجل أمه وهو لا يشعر، أو هو كناية عن كثرة العقوق بأن يعامل الولد أمه معاملة السيد أمته في الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليه ربها مجازًا لذلك، وعورض بأنه لا وجه لتخصيص ذلك بولد الأمة إلا أن يقال إنه أقرب إلى العقوق، وعند المؤلف في التفسير ربتها بتاء التأنيث على معنى النسمة ليشمل الذكر والأنثى، وقيل: كراهة أن يقول ربها تعظيمًا للفظ الرب، وعبّر بإذا الدالّة على الجزم لأن الشرط محقق الوقوع، ولم يعبر بإن لأنه لا يصح أن يقال: إن قامت القيامة كان كذا، بل يرتكب

(1/140)


قائله محظورًا لأنه يشعر بالشك فيه، (و) من أشراط الساعة: (إذا تطاول رعاة الأبل) بضم الراء (البهم في البنيان) أي وقت تفاخر أهل البادية بإطالة البنيان وتكاثرهم باستلائهم على الأمر، وتملكهم البلاد بالقهر المقتضي لتبسطهم في الدنيا، فهو عبارة عن ارتفاع الأسافل كالعبيد والسفلة من الجمالين وغيرهم وما أحسن قول القائل:
إذا التحق الأسافل بالأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا

وفيه إشارة إلى اتساع دين الإسلام، كما أن الأوّل فيه اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الكفر وسبي ذراريهم. قال البيضاوي: لأن بلوغ الأمر الغاية منذر بالتراجع المؤذن بأن القيامة ستقوم كما قيل:
وعند التناهي يقصر المتطاول
والبُهم بضم الموحدة جمع الأبهم، وهو الذي لاشية له أو جمع بهيم وهي رواية أبي ذر وغيره، وروي عن الأصيلي الضم والفتح، وكذا ضبطه القابسي بالفتح أيضًا ولا وجه له لأنها صغار الضأن والمعز، وفي الميم الرفع نعتًا للرعاة أي السود أو المجهولون الدين لا يعرفون والجر صفة للإبل أي رعاة الإبل البهم السود، وقد عد في الحديث من الأشراط علامتين والجمع يقتضي ثلاثة، فإما أن يكون على أقل الجمع اثنان، أو أنه اكتفى باثنين لحصول المقصود بهما في علم أشراط الساعة.
وعلم وقتها داخل (في) جملة (خمس) من الغيب (لا يعلمهن إلاّ الله. ثم تلا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] أي علم وقتها، وللأصيلي وينزل (الأية) بالنصب بتقدير اقرأ وبالرفع مبتدأ خبره محذوف أي الآية مقروءة إلى آخر السورة، ولمسلم إلى قوله خبير، وكذا في رواية أبي فروة والسياق يرشد إلى أنه تلا الآية كلها، وسقط في رواية قوله الآية والجار متعلق بمحذوف كما قدّرته فهو على حد قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَات} [النمل: 12] أي اذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات، وتمام الآية السابقة: وينزل الغيث أي في إبانه المقدّر له والمحل المعين له، ويعلم ما في الأرحام أذكرًا أم أُنثى تامًّا أم ناقصًا، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا من خير أو شر، وربما يعزم على شيء ويفعل خلافه، وما تدري نفس بأي أرض تموت أي كما لا تدري في أي وقت تموت. قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة لهذا الحديث، فمن ادعى علم شيء منها غير مستند إلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كان كاذبًا في دعواه.
(ثم أدبر) الرجل السائل (فقال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ردّوه) فأخذوا ليردوه (فلم يروا شيئًا) لا عينه ولا أثره. قال ابن بزيزة: ولعل قوله ردّوه عليّ إيقاظ للصحابة ليتفطنوا إلى أنه ملك لا بشر.
(فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (هذا) ولكريمة إذ هذا (جبريل) عليه السلام (جاء بعلم الناس دينهم) أي قواعد دينهم وهي جملة وقعت حالاً مقدرة لأنه لم يكن معلمًا وقت المجيء، وأسند التعليم إليه وإن كان سائلاً لأنه لما كان السبب فيه أسنده إليه أو أنه كان من غرضه، وللإسماعيلي أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا.
وفي حديث أبي عامر: والذي نفس محمد بيده ما جاءني قطّ إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة، وفي رواية سليمان التيمي ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولّى.
(قال أبو عبد الله) البخاري رحمه الله تعالى: (جعل) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ذلك) المذكور في هذا الحديث (كله من الإيمان) أي الكامل المشتمل على هذه الأمور كلها.

وفي هذا الحديث بيان عظم الإخلاص والمراقبة، وفيه أن العالم إذا سئل عمّا لا يعلمه يقول لا أدري ولا ينقص ذلك من جلالته، بل يدل على ورعه وتقواه ووفور علمه. وأنه يسأل العالم ليعلم السامعون، ويحتمل أن في سؤال جبريل النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حضور الصحابة أنه يريد أن يريهم أنه عليه الصلاة والسلام مليء من العلوم وأن علمه مأخوذ من الوحي فتزيد رغبتهم ونشاطهم فيه وهو المعنى بقوله: جاء يعلم الناس دينهم، وأن الملائكة تمثل بأي صورة شاؤوا من صور بني آدم. وأخرجه المؤلف في التفسير وفي الزكاة مختصرًا، ومسلم في الإيمان، وابن ماجة في السُّنَّة بتمامه وفي الفتن ببعضه، وأبو داود في السُّنَّة، والنسائي في الإيمان، وكذا الترمذي وأحمد في مسنده،

(1/141)


والبزار بإسناد حسن، وأبو عوانة في صحيحه. وأخرجه مسلم أيضًا عن عمر بن الخطاب ولم يخرجه البخاري لاختلاف فيه على بعض رواته.
وبالجملة: فهو حديث جليل حتى قال القرطبي: يصلح أن يقال له أم السُّنَّة لما تضمنه من جمل علمها. وقال عياض: إنه اشتمل على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداءً وحالاً ومآلاً، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر والتحفّظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه اهـ.

38 - باب
(باب) بالتنوين مع سقوط الترجمة لأبي الوقت وكريمة وسقط ذلك للأصيلي وأبي ذر وابن عساكر، ورجح النووي الأوّل بأن الحديث التالي لا تعلق له بالترجمة السابقة. وأجيب بأنه يتعلق بها من جهة اشراكهما في جعل الإيمان دينًا، لكن استشكل من جهة الاستدلال بقول هرقل مع كونه غير مؤمن. وأجيب بأن هرقل لم يقله من قبل رأيه إنما رواه عن الكتب السالفة، وفي شرعهم كان الإيمان دينًا وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ وتداولته الصحابة.
51 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ. [انظر الحديث 7].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إبراهيم بن حمزة) بالزاي ابن محمد بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن العوّام القرشي المدني المتوفى بالمدينة سنة ثلاثين ومائتين (قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد) هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني. (عن صالح) هو ابن كيسان الغفاري (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله) بفتحها ابن عتبة
أحد الفقهاء السبعة بالمدينة (ابن عبد الله بن عباس أخبره قال أخبرني) بالإفراد (أبو سفيان) بتثليث أوّله وللأصيلي ابن حرب (أن هرقل قال له) أي لأبي سفيان (سألتك هل يزيدون أم ينقصون) وفي الرواية السابقة الاستفهام بالهمزة وهو القياس لأن أم المتصلة مستلزمة. وأجيب بأن أم هنا منقطعة أي بل ينقصون فيكون إضرابًا عن سؤال الزيادة واستفهامًا عن النقصان على أن جار الله أطلق أنها لا تقع إلا بعد الاستفهام فهو أعمّ من الهمزة (فزعمت) وفي السابقة فذكرت (أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم) أي أمر الإيمان كما في الرواية السابقة. (وسألتك: هل يرتد) وفي السابقة أيرتد بالهمزة (أحد سخطة) بفتح السين وفي رواية ابن عساكر أحد منهم سخطة (لدينه بعد أن يدخل فيه، فزعمت) وفي السابقة فذكرت (أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد) بفتح المثناة التحتية والخاء ولم يذكر هذه اللفظة وتاليها في الرواية السابقة، وبين المؤلف وبين الزهري هنا ثلاثة أنفس، وفي السابقة اثنان أبو اليمان وشعيب، واقتصر هنا على هذه القطعة من جملة السابقة لتعلقها بغرضه هنا وهي تسمية الدين إيمانًا، ونحو هذا الحذف يسمونه خرمًا، والصحيح جوازه من العالم إذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة، والظاهر أن الخرم وقع من الزهري لا من البخاري لاختلاف شيوخ الإسنادين بالنسبة إلى المؤلف، ولعل شيخه ابن حمزة لم يذكر في مقام الاستدلال على أن الإيمان دين إلا هذا القدر، وإنما يقع الخرم لاختلاف المقامات والسياقات، فهناك بيان كيف الوحي يقتضي ذكر الكل ومقام الاستدلال يقتضي الاختصار، ورواته كلهم مدنيون وفيهم ثلاثة من التابعين مع التحديث والإخبار والعنعنة.

39 - باب فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ
هذا (باب فضل من استبرأ لدينه) أي الذي طلب البراءة لأجل دينه من الذمّ الشرعي أو من الإثم واكتفى بالدين عن أن يقول لعرضه ودينه لأنه لازم له، ولا ريب أن الاستبراء للدين من الإيمان.
52 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «الْحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ. أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ». [الحديث 52 - طرفه: 2051].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو نعيم) بضم النون الفضل بن دكين بمهملة مضمومة وفتح الكاف واسمه عمرو بن حماد القرشي التيمي الطلحي المتوفى بالكوفة سنة ثماني أو تسع عشرة ومائتين

(قال: حدّثنا زكريا) بن أبي زائدة واسمه خالد بن ميمون الهمداني الوادعي الكوفي المتوفى سنة سبع أو تسع وأربعين ومائة (عن عامر) الشعبي، وفي فوائد ابن أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون عن زكريا قال: حدّثنا الشعبي فحصل الأمن من

(1/142)


تدليس زكريا أنه (قال: سمعت النعمان بن بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة ابن سعد بسكون العين الأنصاري الخزرجي وأمه عمرة بنت رواحة، وهو أوّل مولود للأنصار بعد الهجرة، المقتول سنة خمس وستين، وله في البخاري ستة أحاديث. وقول أبي الحسن القابسي ويحيى بن معين عن أهل المدينة إنه لا يصح للنعمان سماع من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرده قوله هنا سمعت النعمان بن بشير (يقول):
(سمعت رسول الله) وفي رواية النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وعند مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أُذنيه (يقول: الحلال بيّن) أي ظاهر بالنظر إلى ما دل عليه بلا شبهة (والحرام بين) أي ظاهر بالنظر إلى ما دلّ عليه بلا شبهة (وبينهما) أمور (مشبهات) بتشديد الموحدة المفتوحة أي شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين. وفي رواية الأصيلي وابن عساكر مشتبهات بمثناة فوقية مفتوحة وموحدة مكسورة أي اكتسبت الشبهة من وجهين متعارضين (لا يعلمها) أي لا يعلم حكمها (كثير من الناس) أمن الحلال هي أم من الحرام، بل انفرد بها العلماء إما بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا تردّد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد وألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فالمشتبهات على هذا في حق غيرهم وقد يقع لهم حيث لا يظهر ترجيح لأحد الدليلين، وهل يؤخذ في هذا المشتبه بالحل أو الحرمة أو يوقف؟ وهو كالخلاف في الأشياء قبل ورود الشرع، والأصح عدم الحكم بشيء لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، وقيل الحل والإباحة، وقيل المنع، وقيل الوقف. وقد يكون الدليل غير خالٍ عن الاحتمال فالورع تركه لا سيما على القول بأن المصيب واحد وهو مشهور مذهب مالك ومنه ثار القول في مذهبه بمراعاة الخلاف أيضًا، وكذلك روي أيضًا عن إمامنا الشافعي أنه كان يراعي الخلاف، ونص عليه في مسائل، وبه قال أصحابه حيث لا تفوت به سُنّة عندهم.
(فمن اتقى) أي حذر (المشبهات) بالميم وتشديد الموحدة، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر المشتبهات بالميم والمثناة الفوقية بعد الشين الساكنة، وفي أخرى الشبهات بإسقاط الميم وضم الشين وبالموحدة (استبرأ) ولأبي ذر فقد استبرأ بالهمز بوزن استفعل (لدينه) المتعلق بخالقه (وعرضه) المتعلق بالخلق أي حصل البراءة لدينه من النقص ولعرضه من الطعن فيه، ولابن عساكر والأصيلي لعرصه ودينه، (ومن) شرطية وفعل الشرط قوله (وقع في الشبهات) التي أشبهت الحرام من وجه والحلال من آخر، وللأصيلي المشتبهات بالميم وسكون الشين وفوقية قبل الموحدة، ولابن عساكر المشبهات بالميم والموحدة المشددة وجواب الشرط محذوف في جميع نسخ الصحيح، وثبت في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ المؤلف فيه ولفظه قال: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام (كراع) أي مثله مثل راعٍ وفي رواية كما في اليونينية كراعي بالياء آخره (يرعى) جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل

للتنبيه بالشاهد على الغائب، ويحتمل أن تكون من موصولة لا شرطية فتكون مبتدأ والخبر كراع يرعى، وحينئذ لا حذف. والتقدير الذي وقع في الشبهات كراع يرعى مواشيه (حول الحمى) بكسر الحاء المهملة وفتح الميم المحمي من إطلاق المصدر على اسم المفعول والمراد موضع الكلأ الذي منع منه الغير وتوعد على من رعى فيه (يوشك) بكسر المعجمة أي يقرب (أن يواقعه) أي يقع فيه. وعند ابن حبّان: اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه، فمن أكثر من الطيبات مثلاً فإنه يحتاج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق فيقع في الحرام فيأثم وإن لم يتعمد لتقصيره أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية ومن تعاطى ما نهي عنه أظلم قلبه لفقد نور الورع، وأعلى الورع ترك الحلال مخافة الحرام كترك ابن أدهم أجرته لشكه في وقاء عمله وطوى من جوع شديد.
فائدة: بالله ما لم تعلم حلّه يقينًا اتركه كتركه

(1/143)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تمرة خشية الصدقة كما في البخاري. الأورع أسرع على الصراط يوم القيامة. قالت أُخت بشر الحافي لأحمد بن حنبل: إنّا نغزل على سطوحنا فيمر بنا مشاعل الظاهرية ويقع الشعاع علينا أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟ فقال: من أنت عافاك الله؟ قالت: أخت بشر الحافي فبكى وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق لا تغزلي في شعاعها.
مكث مالك بن دينار بالبصرة أربعين سنة لم يأكل من ثمرها حتى مات. أقامت السيدة بديعة الإيجية من أهل عصرنا هذا بمكة أكثر من ثلاثين سنة لم تأكل من اللحوم والثمار وغيرها المجلوبة من بجيلة لما قيل إنهم لا يورثون البنات. وامتنع أبوها نور الدين من تناول ثمر المدينة لما ذكر أنهم لا يزكّون.
من ترخص ندم ومن فواضل الفضائل حرم.
(ألا) يفتح الهمزة وتخفيف اللام أن الأمر كما تقدم (وإن لكل ملك) بكسر اللام من ملوك العرب (حمى) مكانًا مخصبًا حظره لرعي مواشيه وتوعد من رعى فيه بغير إذنه بالعقوبة الشديدة، وسقط قوله ألا وإن في رواية الأصيلي (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام (إن) وفي رواية أبي ذر: وإن (حمى الله) تعالى، وفي رواية غير المستملي هنا زيادة (في أرضه محارمه) أي المعاصي التي حرمها كالزنا والسرقة فهو من باب التمثيل والتشبيه بالشاهد عن الغائب، فشبه المكلف بالراعي والنفس البهيمية بالأنعام. والمشبهات بما حول الحمى والمحارم بالحمى وتناول المشبهات بالرتع حول الحمى، ووجه التشبيه حصول العقاب بعدم الاحتراز عن ذلك كما أن الراعي إذا جره رعيه حول الحمى إلى وقوعه في الحمى استحق العقاب بسبب ذلك، فكذلك من أكثر من الشبهات وتعرض لمقدماتها وقع في الحرام فاستحق العقاب بسبب ذلك. (ألا) إن الأمر كما ذكر (وإن فى الجسد مضغة) النصب اسم إن مؤخرًا أي قطعة من اللحم وسميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها (إذا صلحت) بفتح اللام وقد تضم أي المضغة (صلح الجسد كله) وسقط لفظ كله عند ابن عساكر (وإذا فسدت) أي المضغة أيضًا (فسد الجسد كله ألا وهي القلب) إنما كان كذلك لأنه أمير البدن وبصلاح الأمير تصلح

الرعية وبفساده تفسد، وأشرف ما في الإنسان قلبه فإنه العالم بالله تعالى والجوارح خدم له. وفي هذا الحديث الحثّ على إصلاح القلب وأن لطيب الكسب أثرًا فيه، والمراد به المعنى المتعلق به من الفهم والمعرفة وسمي قلبًا لسرعة تقلبه بالخواطر ومنه قوله:
ما سمي القلب إلا من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وهو محل العقل عندنا خلافًا للحنفية، ويكفي في الدلالة لنا قول الله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ} [الحج: 46] وهو قول الجمهور من المتكلمين، وقال أبو حنيفة في الدماغ، وحكي الأوّل عن الفلاسفة والثاني عن الأطباء حتجاجًا بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل، وردّ بأنّ الدماغ آلة عندهم وفساد الآلة لا يقتضي فساده، وثبتت الواو بعد ألا من قوله: ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن في الجسد مضغة وسقط من ألا أن حمى الله لبعد المناسبة بين حمى الملوك وبين حمى الله تعالى الذي هو الملك الحق لا ملك حقيقة إلا له، وثبت في رواية غير أبي ذر نظرًا إلى وجوب التناسب بين الجملتين من حيث ذكر الحمى فيهما، وعبَّر بقوله إذا دون إن لتحقق الوقوع وقد تأتي بمعنى إن كما هنا، وقد أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث وأنه أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام المنظومة في قوله:
عمدة الدين عندنا كلمات ... مسندات من قول خير البرية
اتق الشبه وازهدنّ ودع ما ... ليس يعنيك واعملنّ بنيه
وهذا الحديث من الرباعيات ورجاله كلهم كوفيون، وفيه التحديث والعنعنة والسماع وأخرجه المؤلف أيضًا في البيوع، وكذا مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي فيه وابن ماجة في الفتن.

40 - باب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الإِيمَانِ
هذا (باب) بالتنوين (أداء الخمس) بضم المعجمة والميم (من الإيمان) أي من شعبه مبتدأ وخبر ويجوز إضافة باب لتاليه.
53 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي، فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ الْقَوْمُ -أَوْ مَنِ الْوَفْدُ؟ -. قَالُوا رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَىُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ

مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ. وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ -وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ- وَقَالَ: احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ». [الحديث 53 - أطرافه في: 87، 523، 1398، 3095، 3510، 4368، 4369، 6176، 7266، 7556].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا علي بن الجعد) بفتح الجيم وسكون

(1/144)


العين ابن عبيد الهاشمي الجوهري البغدادي المتوفى سنة ثلاثين ومائتين (قال: أخبرنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي جمرة) بالجيم والراء اسمه نصر بالصاد المهملة ابن عمران الضبعي بضم المعجمة وفتح الموحدة البصري المتوفى سنة ثمان وعشرين ومائة (قال):
(كنت أقعد) بلفظ المضارع حكاية عن الحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة للحاضرين (مع ابن عباس) رضي الله عنهما أي عنده في زمن ولايته البصرة من قبل علي بن أبي طالب (يجلسني) بضم أوّله من غير فاء في أصل فرع اليونينية كهي من أجلس، وفي هامشها عن أبوي ذر والوقت وابن عساكر فيجلسني أي يرفعني بعد أن أقعد (على سريره) فهو عطف على أقعد بالفاء لأن الجلوس على السرير قد يكون بعد القعود وغيره، وقد بيّن المصنف في العلم من رواية غندر عن شعبة السبب في إكرام ابن عباس له، ولفظه: كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس (فقال: أقم) أي توطن (عندي) لتساعدني بتبليغ كلامي إلى من خفي عليه من السائلين أو بالترجمة عن الأعجمي لأن أبا جمرة كان يعرف بالفارسية وكان يترجم لابن عباس بها (حتى) أن (اجعل لك سهمًا) أي نصيبًا (من مالي) سبب الجعل الرؤيا التي رآها في العمرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى بحول الله وقوته في الحج. قال أبو جمرة: (فأقمت معه) أي عنده مدة (شهرين) بمكة وإنما عبر بمع المشعرة بالمصاحبة دون عند المقتضية لمطابقة أقم عندي لأجل المبالغة، وفي رواية مسلم بعد قوله: وبين الناس فأتت امرأة تسأله عن نبيذ الجرّ فنهى عنه، فقلت: يا ابن عباس إني أنتبذ في جرة خضراء نبيذًا حلوًا فأشرب منه فيقرقر بطني. قال: لا تشرب منه وإن كان أحلى من العسل.
(ثم قال: إن وفد عبد القيس) هو ابن أفصى بهمزة مفتوحة وفاء ساكنة وصاد مهملة مفتوحة ابن دعمي بضم الدال المهملة وسكون العين المهملة وبياء النسبة أبو قبيلة كانوا ينزلون البحرين وكانوا أربعة عشر رجلاً بالأشج، ويروى أنهم أربعون فيحتمل أن يكون لهم وفادتان، أو أن الأشراف أربعة عشر والباقي تبع (لما أتوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عام الفتح وكان سبب مجيئهم إسلام منقذ بن حبان وتعلمه الفاتحة وسورة اقرأ وكتابته عليه الصلاة والسلام لجماعة عبد القيس كتابًا، فلما رحل إلى قومه كتمه أيامًا وكان يصلي فقالت زوجته لأبيها المنذر بن عائذ وهو الأشج: إني أنكرت فعل بعلي منذ قدم من يثرب إنه ليغسل أطرافه ثم يستقبل الجهة يعني الكعبة فيحني ظهره مرة ويقع أخرى فاجتمعا فتحادثا ذلك فوقع الإسلام في قلبه وقرأ عليهم الكتاب وأسلموا وأجمعوا المسير إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلما
قدموا (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (من القوم أو) قال (من الوفد) شك شعبة أو أبو جمرة (قالوا) نحن (ربيعة) أي ابن نزار بن معد بن عدنان وإنما قالوا ربيعة لأن عبد القيس من أولاده وعبّر عن البعض بالكل لأنهم بعض ربيعة ويدل عليه ما عند المصنف في الصلاة، فقالوا: إنّا هذا الحي من ربيعة (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (مرحبًا بالقوم، أو) قال (بالوفد) وأول من قال مرحبًا سيف بن ذي يزن كما قاله العسكري وانتصابه على المصدرية بفعل مضمر أي صادفوا رحبًا بالضم أي سعة حال كونهم (غير خزايا) جمع خزيان على القياس أي غير أذلاء أو غير مستحيين لقدومكم مبادرين دون حرب يوجب استحياءكم وغير بالنصب حال ويروى بالخفض صفة للقوم. وتعقبه أبو عبد الله الآبي بأنه يلزم منه وصف المعرفة بالنكرة إلا أن تجعل الأداة في القوم للجنس كقوله: ولقد أمرّ على اللئيم يسبني. فالأولى أن تكون بالخفض على البدل. (ولا ندامى) جمع نادم على غير قياس، وإنما جمع كذلك اتباعًا لخزايا للمشاكلة والتحسين، وذكر القزاز أن ندمان لغة في نادم فجمعه المذكور على هذا قياس (فقالوا) وللأصيلي قالوا: (يا رسول الله إنّا لا نستطيع أن نأتيك) أي الإتيان إليك (إلا في الشهر الحرام) لحرمة القتال فيه عندهم والمراد الجنس، فيشمل الأربعة الحرم أو العهد والمراد شهر رجب كما صرح به في رواية البيهقي، وللأصيلي وكريمة إلا في شهر الحرام وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة كصلاة

(1/145)


الأولى والبصريون يمنعونها ويؤولون ذلك على حذف مضاف أي صلاة الساعة الأولى وشهر الوقت الحرام.
وقول الحافظ ابن حجر هذا من إضافة الشيء إلى نفسه. تعقبه العيني بأن إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز (و) الحال (بيننا وبينك هذا الحي من كفّار مضر) بضم الميم وفتح المعجمة مخفوض بالمضاف بالفتحة للعلمية والتأنيث، وهذا مع قولهم يا رسول الله يدل على تقدم إسلامهم على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة وكانت مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق. (فمرنا بأمر فصل) بالصاد المهملة وبالتنوين في الكلمتين على الوصفية لا بالإضافة أي يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المفصل المبين، وأصل مرنا أؤمرنا بهمزتين من أمر يأمر فحذفت الهمزة الأصلية للاستثقال فصار أمرنا فاستغنى عن همزة الوصل فحذفت فبقي مر على وزن على لأن المحذوف فاء الفعل (نخبر به من) أي الذي استقر (وراءنا) أي خلفنا من قومنا الذين خلفناهم في بلادنا، ونخبر بالجزم جوابًا للأمر وهو الذي في فرع اليونينية وبالرفع لخلوه من ناصب وجازم. وبالجملة في محل جر صفة لأمر. (وندخل به الجنة) إذا قبل برحمة الله ويجوز الجزم والرفع في ندخل كنخبر عطفًا عليها. نعم يتعين الرفع في هذه على رواية حذف الواو وتكون جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
(وسألوه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن الأشربة)، أي عن ظروفها أو سألوه عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة، فعلى التقدير الأول المحذوف المضاف وعلى الثاني الصفة (فأمرهم) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بأربع) أي بأربع جمل أو خصال، (ونهاهم عن أربع. أمرهم بالإيمان بالله وحده) تفسير لقوله فأمرهم بأربع ومن ثم حذف العاطف (قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هو (شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله) برفع شهادة خبر مبتدأ محذوف ويجوز جره على البدلية (وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس) واستشكل قوله أمرهم بأربع مع

ذكر خمسة. وأجيب بزيادة الخامسة وهي أداء الخمس لأنهم كانوا مجاورين لكفّار مضر وكانوا أهل جهاد وغنائم. وتعقب بأن المؤلف عقد الباب على أن أداء الخمس من الإيمان فلا بد أن يكون داخلاً تحت أجزاء الإيمان، كما أن ظاهر العطف يقتضي ذلك أو أنه عدَّ الصلاة والزكاة واحدة لأنها قرينتها في كتاب الله تعالى، أو أن أداء الخمس داخل في عموم إيتاء الزكاة والجامع بينهما إخراج مال معين في حال دون حال.

وعن البيضاوي أن الخمسة تفسير للإيمان وهو أحد الأربعة المأمور بها والثلاثة الباقية حذفها الراوي نسيانًا أو اختصارًا أو أن الأربعة إقام الصلاة إلى آخره وذكر الشهادتين تبركًا بهما كما في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]. لأن القوم كانوا مؤمنين، ولكن كانوا ربما يظنون أن الإيمان مقصور على الشهادتين كما كان الأمر في صدر الإسلام، وعورض بأنه في رواية حماد بن زيد عن أى جمرة عند المؤلف في المغازي آمركم بأربع: الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلاّ الله وعقد واحدة وهو يدل على أن الشهادة إحدى الأربع وعنده في الزكاة من هذا الوجه الإيمان بالله ثم فسّرها لهم بشهادة أن لا إله إلاّ الله وهو يدل أيضًا على عدّها في الأربع لأنه أعاد الضمير في قوله فسرها مؤنثًا فيعود على الأربع ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرًا وأجيب بزيادة أداء الخمس.
قال أبو عبد الله الآبي: وأتم جواب في المسألهَ ما ذكره ابن الصلاح من أنه معطوف على أربع أي أمرهم بأربع وبإعطاء الخمس وإنما كان أتم لأن به تتفق الطريقان ويرتفع الإشكال انتهى. ولم يذكر الحج لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلاً وتركًا. ويدل على ذلك اقتصاره في الناهي على الانتباذ في الأوعية مع أن في الناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها أو لأنه لم يفرض كما قاله عياض إلا في سنة تسع ووفاتهم في سنة ثمان أي على أحد

(1/146)


الأقوال في وقت فرضه، ولكن الأرجح أنه فرض سنة ست كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- أو لكونه لم يكن لهم سبيل إليه من أجل كفّار مضر، أو لكونه على التراخي، أو لشهرته عندهم، أو أنه أخبرهم ببعض الأوامر.
ثم عطف المؤلف على قوله: وأمرهم قوله: (ونهاهم عن أربع عن الحنتم) أي عن الانتباذ فيه وهو بفتح المهملة وسكون النون وفتح المثناة الفوقية وهي الجرة أو الجرار الخضر أو الحمر أعناقها على جنوبها أو متخذة من طين وشعر ودم، أو الحنتم ما طلي من الفخار بالحنتم المعمول بالزجاج وغيره وسقطت عن الثانية لكريمة (و) عن الانتباذ في (الدباء) بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد اليقطين (و) عن الانتباذ في (النقير) بفتح النون وكسر القاف، وهو ما ينقر في أصل النخلة فيوعى فيه (و) عن الانتباذ في (المزفت) بالزاي والفاء ما طلي بالزفت (وربما قال المقير) بالقاف والمثناة التحتية المشدّدة المفتوحة وهو ما طلي بالقار ويقال له القير، وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها

كما تطلى بالزفت. (وقال احفظوهن وأخبروا بهن) بفتح الهمزة (من وراءكم) أي الدين كانوا أو استقروا، ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع إليها الإسكار، فربما شرب منها من لم يشعر بذلك ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر، ففي صحيح مسلم: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرًا" وفي الحديث استعانة العالم في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم، واستحباب قول مرحبًا ْللزوار وندب العالم إلى إكرام الفاضل، ورواته ما بين بغدادي وواسطي وبصري، واشتمل على التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف في عشرة مواضع هنا وفي خبر الواحد وكتاب العلم وفي الصلاة وفي الزكاة وفي الخمس وفي مناقب قريش وفي المغازي وفي الأدب وفي التوحيد، وأخرجه مسلم في الإيمان وفي الأشربة، وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي في العلم والإيمان والصلاة.

41 - باب مَا جَاءَ أَنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
فَدَخَلَ فِيهِ الإِيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلاَةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالأَحْكَامُ. وَقَالَ: اللَّهُ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}: عَلَى نِيَّتِهِ: ونَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ -يَحْتَسِبُهَا- صَدَقَةٌ. وَقَالَ: وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.

(باب ما جاء) في الحديث (أن الأعمال) بفتح همزة أن وكسرها في اليونينية ولكريمة إن العمل (بالنية والحسبة) بكسر الحاء وإسكان السين المهملتين أي الاحتساب وهو الإخلاص. (ولكل امرىءٍ ما نوى) ولفظ الحسبة من حديث أبي مسعود الآتي -إن شاء الله تعالى- وأدخلها بين الجملتين للتنبيه على أن التبويب شامل لثلاث تراجم الأعمال بالنيّة والحسبة ولكل امرىءٍ ما نوى. وفي رواية ابن عساكر قال أبو عبد الله البخاري: وفي رواية الباقي بحذف قال أبو عبد الله وإذا كان الأعمال بالنية (فدخل فيه) أي في الكلام المتقدم (الإيمان) أي على رأيه لأنه عنده عمل كما مرّ البحث فيه، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب، (و) كذا (الوضوء) خلافًا للحنفية لأنه عندهم من الوسائل لا عبادة مستقلة، وبأنه عليه الصلاة والسلام علم الأعرابي الجاهل الوضوء ولم يعلمه النيّة، ولو كانت فريضة لعلمه ونوقضوا بالتيمم فإنه وسيلة وشرطوا فيه النية، وأجابوا بأنه طهارة ضعيفة فيحتاج لتقويتها بالنية وبأن قياسه على التيمم غير مستقيم لأن الماء خلق مطهرًا. قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. والتراب ليس كذلك، وكان التطهير به تعبدًا محضًا فاحتاج إلى النية إذ التيمم ينبئ لغة عن القصد فلا يتحقق دونه بخلاف الوضوء ففسد قياسه على التيمم، (و) كذا (الصلاة) من غير خلاف أنها لا تصح إلا بالنية. نعم نازع ابن القيم في استحباب التلفّظ بها محتجًّا بأنه لم يروَ أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلفظ بها ولا عن أحد من أصحابه. وأجيب بأنه عون على استحضار النية القلبية وعبادة للسان وقاسه بعضهم على ما في الصحيح من حديث أنس أنه

سمع النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يلبّي بالحج والعمرة جميعًا يقول: لبيك حجًّا وعمرة، وهذا تصريح باللفظ والحكم
كما يثبت باللفظ يثبت بالقياس وتجب مقارنة النية لتكبيرة الإحرام لأنها أول الأركان، وذلك بأن يأتي بها عند أولها ويستمر ذاكرًا لها إلى آخرها. واختار النووي في شرحي

(1/147)


المهذب والوسيط تبعًا للإمام الغزالي الاكتفاء بالمقارنة العرفية عند العوام بحيث يعد مستحضرًا للصلاة اقتداء بالأولين في تسامحهم بذلك. وقال ابن الرفعة: إنه الحق، وصوبه السبكي ولو عزبت النية قبل تمام التكبيرة لم تصح الصلاة لأن النية معتبرة في الانعقاد، والانعقاد لا يحصل إلا بتمام التكبيرة، ولو نوى الخروج من الصلاة أو تردد في أن يخرج أو يستمر بطلت بخلاف الصوم والحج والوضوء والاعتكاف لأنها أضيق بابًا من الأربعة، فكان تأثيرها باختلاف النية أشد. ولو علق الخروج من الصلاة بحضور شيء بطلت في الحال ولو لم يقطع بحصوله كتعليقه بدخول شخص كما لو علق به الخروج من الإسلام فإنه يكفر في الحال قطعًا، وتجب نية فعل الصلاة أي لتمتاز عن بقية الأفعال وتعيينها كالظهر والعصر لتمتاز عن غيرها (و) كذا يدخل في قوله الأعمال بالنية (الزكاة) إلا إن أخذها الإمام من الممتنع فإنها تسقط ولو لم ينوِ صاحب المال لأن السلطان قائم مقامه، (و) كذا (الحج) وإنما ينصرف إلى فرض من حج عنه غيره لدليل خاص وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة (و) كذا (الصوم) خلافًا لمذهب عطاء ومجاهد وزفر أن الصحيح المقيم في رمضان لا يحتاج إلى نية لأنه لا يصح النفل في رمضان، وعند الأربعة تلزم النية. نعم تعيين الرمضانية لا يشترط عند الحنفية. (و) كذا (الأحكام) من المناكحات والمعاملات والجراحات إذ يشترط في كلها القصد، فلو سبق لسانه إلى بعت أو وهبت أو نكحت أو طلّقت لغا لانتفاء القصد إليه ولا يصدق ظاهرًا إلا بقرينة كأن دعا زوجته بعد طهرها من الحيض إلى فراشه وأراد أن يقول: أنت طاهر فسبق لسانه وقال: أنت الآن طالق. (وقال: {قُلْ كُلٌّ}) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر وقال الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ} وللأصيلي وكريمة عز وجل {قُلْ كُلٌّ} أي كل أحد {يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] أي (على نيته) وهو مروي عن الحسن البصري ومعاوية بن قرة المزني وقتادة فيما أخرجه عبد بن حميد والطبري عنهم، وقال مجاهد والزجّاج: شاكلته أي طريقته ومذهبه وحذف المؤلف أداة التفسير (ونفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة) حال كونه مريدًا بها وجه الله تعالى فيحتسبها حال متوسط بين المبتدأ والخبر، وفي فرع اليونينية كهي نفقة الرجل بحذف الواو، وجملة نفقة الرجل إلى آخرها ساقطة عند أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر. (وقال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث ابن عباس المروي عند المؤلف مسندًا: لا هجرة بعد الفتح، (ولكن) طلب الخير (جهاد ونية) وسقط لغير الأربعة، وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

54 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». [انظر الحديث رقم 1].

وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بفتح الميمين واللام (قال: أخبرنا) وفي رواية ابن عساكر حدّثنا (مالك) هو إمام الأئمة (عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن محمد بن إبراهيم) بن الحرث التيمي (عن علقمة بن وقاص) الليثي (عن عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(الأعمال) تجزئ (بالنية) بالإفراد وحذف إنما، واتفق المحققون على إفادة الحصر من هذه الصيغة كالمصدرة بإنما وهو من حصر المبتدأ في الخبر، والتقدير كل الأعمال بالنية نعم خرج من العموم جزئيات بدليل، والجار والمجرور يتعلق بمحذوف قدره بعضهم قبول الأعمال واقع بالنية وفيه حذف المبتدأ وهو قبول وإقامة المضاف إليه مقامه، ثم حذف الخبر وهو واقع. والأحسن تقدير من قدر الأعمال صحيحة أو مجزئة. وقيل: تقدير الخبر واقع أولى من تقديره بمعتبر لأنهم أبدًا لا يضمرون إلا ما يدل عليه الظرف وهو واقع أو استقر وهي قاعدة مطّردة عندهم. وأجيب بأنه مسلم في تقدير ما يتعلق به الظرف مطلقًا مع قطع النظر عن صورة خاصة، وأما الصورة المخصوصة فلا
يقدر فيها إلا ما يليق بها مما يدل عليه المعنى أو السياق، وإنما قدر هذا خبر التقدير المبتدأ وهو قبول، وإذا قدرنا ذلك نفس الخبر لم يحتج إلى حذف المبتدأ. (ولكل امرئ ما نوى) أي الذي نواه إذا كان المحل قابلاً كما سبق تقريره (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله) نية

(1/148)


وعقدًا (فهجرته إلى الله ورسوله) حكمًا وشرعًا كذا قاله ابن دقيق العيد، ورده الزركشي بأن المقدر حينئذ حال مبنية فلا تحذف، ولذا منع الرندي في شرح الجمل جعل بسم الله متعلقًا بحال محذوفة أي ابتدئ متبركًا.
قال: لأن حذف الحال لا يجوز انتهى. وأجيب بمنع أن المقدر حال بل هو تمييز ويجوز حذف التمييز إذا دلّ عليه دليل نحو: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] أي رجلاً. ويمكن أن يقال لم يرد بتقدير نية وعقدًا في الأول وحكمًا وشرعًا في الثاني أن هناك لفظًا محذوفًا، بل أراد بيان المعنى ومغايرة الأول للثاني، وتأوّله بعضهم على إرادة المعهود المستقر في النفوس، فإن المبتدأ والخبر وكذلك الشرط والجزاء قد يتحدان لبيان الشهرة وعدم التغيير وإرادة المعهود المستقر في النفس، ويكون ذلك للتعظيم وقد يكون للتحقير وذلك بحسب المقامات والقرائن، فمن الأول قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]. وقوله عليه الصلاة والسلام: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" ومن الثاني قوله: (ومن كانت هجرته لدنيا) وفي رواية لأبوي ذر والوقت وابن عساكر وكريمة إلى دنيا (يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي إلى ما ذكر واستشكل استعمال دنيا لأنها في الأصل مؤنث أدنى وأدنى أفعل تفضيل من الدنو وأفعل التفضيل إذا نكر لزم الإفراد والتذكير، وامتنع تأنيثه وجمعه ففي استعمال دنيا بالتأنيث مع كونه منكرًا إشكال، ولهذا لا يقال قصوى ولا كبرى. وأجاب ابن مالك بأن دنيا خلعت عن الوصفية غالبًا وأجريت مجرى ما لم يكن قطّ وصفًا مما وزنه فعلى كرجعى وبهمى، فلهذا ساغ فيها ذلك. ثم إن غرض المؤلف من إيراد هذا الحديث هنا الرد على من زعم من المرجئة: أن الإيمان قول باللسان دون

عقد القلب، فبين أن الإيمان لا بدّ له من نية واعتقاد قلب فافهم. وإنما أبرز الضمير في الجملة الأولى لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما.
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
وهذا بخلاف الدنيا والمرأة لا سيما والسياق يُشعِر بالحثّ على الإعراض عنهما، وهذه الجملة الأولى هنا سقطت عند المؤلف من رواية الحميدي أول الكتاب فذكر في كل تبويب ما يناسبه بحسب ما رواه.
55 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ». [الحديث 55 - طرفاه في: 4006، 5351].

وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم، وفي رواية أبي ذر الحجاج بن المنهال بالتعريف فيهما ولأبي الوقت حجاج بن المنهال أبو محمد الأنماطي بفتح الهمزة وسكون النون نسبة إلى الأنماط ضرب من البسط السلمي بضم المهملة وفتح اللام، المتوفى بالبصرة سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومائتين (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي، المتوفى سنة ست عشرة ومائة (قال: سمعت عبد الله بن يزيد) بن حصين الأنصاري الخطمي بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة، المتوفى زمن ابن الزبير، (عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو بفتح العين وسكون الميم ابن ثعلبة الأنصاري الخزرجي البدري المتوفى بالكوفة أو بالمدبنة قبل الأربعين سنة إحدى وثلاثين أو إحدى أو اثنتين وأربعين، وله في البخاري أحد عشر حديثًا. (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا أنفق الرجل) نفقة من دراهم أو غيرها (على أهله) زوجة وولد حال كون الرجل (يحتسبها) أي يريد بها وجه الله (و) أي الإنفاق، ولغير الأربعة فهي أي النفقة (له صدقة) أي كالصدقة في الثواب لا حقيقة وإلا حرمت على الهاشمي والمطلبي، والصارف له عن الحقيقة الإجماع وإطلاق الصدقة على النفقة مجاز أو المراد بها الثواب كما تقدم، فالتشبيه واقع على أصل الثواب لا في الكمية ولا في الكيفية.
قال القرطبي: أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة سواء كانت واجبة أم مباحة، وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة لأنها معقولة المعنى، وحذف المعمول ليفيد التعميم أي أي نفقة كانت كبيرة أو صغيرة.
وفي هذا الحديث الرد على المرجئة قالوا: إن الإيمان إقرار

(1/149)


باللسان فقط ورجاله خمسة ما بين بصري وواسطي وكوفي، ورواية صحابي عن صحابي، وفيه التحديث والإخبار والسماع والعنعنة،

وأخرجه المؤلف أيضًا في المغازي والنفقات، ومسلم في الزكاة، والترمذي في البر وقال حسن صحيح، والنسائي في الزكاة.
56 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ». [الحديث 56 - أطرافه في: 1295، 2742، 2744، 3936، 4409، 5354، 5659، 5668، 6373، 6733].
وبه قال: (حدّثنا الحكم) بفتح الكاف هو أبو اليمان (بن نافع قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي
حمزة القرشي (عن الزهري) أبي بكر محمد بن شهاب (قال: حدّثني) بالإفراد (عامر بن سعد) بسكون
العين (عن سعد بن أبي وقاص) المدني أحد العشرة (أنه أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) يخاطب سعدًا ومن يصح منه الإنفاق.
(إنك لن تنفق نفقة) قليلة أو كثيرة (تبتغي) أي تطلب (بها وجه الله) تعالى هو منع المتشابه وفيه مذهبان التفويض والتأويل.
قال العارف المحقق شمس الدين بن اللبان المصري الشاذلي وقد جاء ذكره في آيات كثيرة: فإذا أردت أن تعلم حقيقة مظهره من الصور فاعلم أن حقيقته من غمام الشريعة بارق نور التوحيد ومظهره من العمل وجه الإخلاص: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [الروم: 43] الآية. ويدل على أن وجه الإخلاص مظهره قوله تعالى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. وقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]. وقوله عز وجل: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20]. والمراد بذلك كله الثناء بالإخلاص على أهله تعبيرًا بإرادة الوجه عن إخلاص النية وتنبيهًا على أنه مظهر وجهه سبحانه وتعالى. ويدل على أن حقيقة الوجه هو بارق نور التوحيد. قوله عز وجل: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي إلاّ نور توحيده انتهى.

والباء في قوله في الحديث بها للمقابلة أو بمعنى على، ولذا وقع في بعض النسخ عليها بدل بها أو للسببية أي لن تنفق نفقة تبتغي بسببها وجه الله تعالى (إلا) نفقة (أجرت عليها) بضم الهمزة وكسر الجيم ولكريمة إلاّ أجرت بها وهي في اليونينية لأبي ذر والأصيلي وابن عساكر لكنه ضرب عليها بالحمرة. (حتى ما تجعل) أي الذي تجعله (في فم امرأتك) فأنت مأجور فيه، وعلى هذا فالمرائي بعمل الواجب غير مثاب وإن سقط عقابه بفعله كذا قاله البرماوي كالكرماني. وتعقبه العيني بأن سقوط العقاب مطلقًا غير صحيح، بل الصحيح التفصيل فيه وهو أن العقاب الذي يترتب على ترك الواجب يسقط لأنه أتى بعين الواجب ولكنه كان مأمورًا أن يأتي بما عليه بالإخلاص وترك الرياء،
فينبغي أن يعاقب على ترك الإخلاص لأنه مأمور به وتارك المأمور به يعاقب. وقال النووي: ما أريد به وجه الله يثبت فيه الأجر وإن حصل لفاعله في ضمنه حظ شهوة من لذة أو غيرها كوضع لقمة

في فم الزوجة وهو غالبًا لحظ النفس والشهوة، وإذا ثبت الأجر في هذا ففيما يراد به وجه الله فقط أحرى، وفي رواية الكشميهني في في امرأتك بغير ميم. قال في الفتح: وهي رواية الأكثر والمستثنى محذوف لأن الفعل لا يقع مستثنى، والتقدير كما قال العيني: لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاّ نفقة أجرت عليها، ويكون قوله: أجرت عليها صفة للمستثنى، والمعنى على هذا لأن النفقة المأجور فيها هي التي تكون ابتغاء لوجه الله تعالى لأنها لو لم تكن لوجه الله لما كانت مأجورًا فيها، والاستثناء متصل لأنه من الجنس والتنكير في قوله نفقة في سياق النفي يعم القليل والكثير والخطاب في أنك للعموم، إذ ليس المراد سعدًا فقط فهو مثل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} [السجدة: 12]. والصارف قرينة عدم اختصاصه، ويحتمل أن يكون بالقياس. وحتى ابتدائية وما مبتدأ خبره المحذوف المقدر بقوله: (فأنت مأجور فيه)، فالنية الصالحة إكسير تقلب العادة عبادة والقبيح جميلاً، فالعاقل لا يتحرك حركة إلاّ لله فينوي بمكثه في المسجد زيارة ربه في انتظار الصلاة واعتكافه على طاعته وبدخوله الأسواق ذكر الله، وليس الجهر بشرط وأمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر وينوي عقب كل فريضة انتظار أخرى فأنفاسه إذًا نفائس ونيته خير من عمله.
وهذا الحديث المذكور في الباب قطعة من حديث طويل مشهور أخرجه المؤلف في الجنائز والمغازي والدعوات والهجرة والطب والفرائض، ومسلم في الوصايا، وأبو داود والترمذي فيها أيضًا. وقال: حسن صحيح،

(1/150)


والنسائي فيها وفي عشرة النساء وفي اليوم والليلة، وابن ماجة في الوصايا.

42 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»، وَقَوْلِهِ تَعَالَى (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)
هذا (باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مبتدأ مضاف خبره قوله (الدين النصيحة) أي قوام الدين وعماده النصيحة (لله) تعالى بأن يؤمن به ويصفه بما هو أهله ويخضع له ظاهرًا وباطنًا ويركب في محابه بفعل طاعته ويرغب عن مساخطه بترك معصيته ويجاهد في رد العاصين إليه (و) النصيحة (لرسوله) عليه الصلاة والسلام بأن يصدق برسالته ويؤمن بجميع ما أتى به ويعظمه وينصره حيًّا وميتًا ويحيي سُنته بتعلمها وتعليمها ويتخلق بأخلاقه ويتأدب بآدابه ويحب أهل بيته وأصحابه وأتباعه وأحبابه، (و) النصيحة (لأئمة المسلمين) بإعانتهم على الحق وطاعتهم فيه وتنبيههم عند الغفلة برفق وسد خلتهم عند الهفوة ورد القلوب النافرة اليهم، وأما أئمة الاجتهاد فببث علومهم ونشر مناقبهم وتحسين الظن بهم، (و) نصيحة (عامّتهم) بالشفقة عليهم والسعي فيما يعود نفعه عليهم وتعليم ما ينفعهم وكفّ الأذى عنهم إلى غير ذلك. ويستفاد من هذا الحديث أن الدين يطلق على العمل لأنه سمى النصيحة دينًا، وعلى هذا المعنى بنى المؤلف أكثر كتاب الإيمان، وإنما أورده هنا ترجمة ولم يذكره في الباب مسندًا لكونه ليس على شرطه -كما سيأتي قريبًا- ووصله مسلم عن تميم الداري
وزاد فيه: النصيحة لكتاب الله وذلك يقع بتعلمه وتعليمه وإقامة حروفه في التلاوة وتحريرها في الكتابة وبفهم معانيه وحفظ حدوده والعمل بما فيه إلى غير ذلك، وإنما لم يسنده المؤلف لأنه ليس على شرطه لأن راويه تميم، وأشهر طرقه فيه سهيل بن أبي صالح، وقد قال ابن المديني فيما ذكره عنه المؤلف أنه نسي كثيرًا من الأحاديث لموجدته لموت أخيه. وقال ابن معين: لا يحتج به، ونسبه بعضهم لسوء الحفظ، ومن ثم لم يخرج له البخاري، وقد أخرج له الأئمة كمسلم والأربعة. وروى عنه مالك ويحيى الأنصاري والثوري وابن عيينة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال ابن عديّ: هو عندي ثبت لا بأس به مقبول الأخبار، ثم إن هذا الحديث قد عدّ من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام وهو من بليغ الكلام والنصيحة من نصحت العسل إذا صفّيته من الشمع أو من النصح وهو الخياطة بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى أنه يلم شعثه بالنصح كما تلم المنصحة ومنه التوبة النصوح كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله آية يعضد بها الحديث فقال: (وقوله تعالى) ولأبي الوقت: عز وجل بدل قوله تعالى، ولأبي ذر، وقول الله {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] بالإيمان والطاعة في السر والعلانية أو بما قدروا عليه فعلاً أو قولاً يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح.
57 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. [الحديث 57 - أطرافه في: 524، 1401، 2157، 2714، 2715، 7204].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن إسماعيل) بن أبي خالد البجلي التابعي (قال: حدّثني) بالتوحيد (قيس بن أبي حازم) بالحاء المهملة وبالزاي المعجمة البجلي بفتح الموحدة والجيم نسبة إلى بجيلة بنت صعب الكوفي التابعي المخضرم، المتوفى سنة أربع أو سبع وثمانين أو منة ثمان وتسعين، (عن جرير بن عبد الله) بن جابر البجلي الأحمسي بالحاء والسين المهملتين، المتوفى سنة إحدى وخمسين.
(قال بايعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي عاقدته وكان قدومه عليه سنة عشر في رمضان وأسلم وبايعه (على إقام الصلاة وإيتاء) أي إعطاء (الزكاة والنصح) بالعطف على المجرور السابق (لكل مسلم) ومسلمة وفيه تسمية النصح دينًا وإسلامًا، لأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول وهو فرض كفاية على قدر الطاقة إذا علم أنه يقبل نصحه ويأمن على نفسه المكروه، فإن خشي فهو في سعة فيجب على من علم بالمبيع عيبًا أن يبينه بائعًا كان أو أجنبيًّا، وعلى أن ينصح نفسه بامتثال الأوامر واجتناب المناهي وحذف التاء من إقامة تعويضًا عنها بالمضاف إليه ولم يذكر الصوم ونحوه لدخوله في السمع والطاعة.

وهذا الحديث من الخماسيات وفيه اثنان من التابعين إسماعيل وقيس وكل رواته كوفيون غير مسدد وفيه التحديث بالإفراد والجمع والعنعنة. وأخرجه المؤلف في الصلاة والزكاة والبيوع

(1/151)


والشروط ومسلم في الإيمان والترمذي في البيعة.
58 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لأَمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلاَمِ. فَشَرَطَ عَلَىَّ "وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ". فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ. ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي بفتح السين الأولى نسبة إلى سدوس بن شيبان البصري المعروف بعارم بمهملتين المختلط بأخرة المتوفى بالبصرة سنة أربع عشرة ومائتين (قال: حدّثنا أبو عوانة) بفتح العين والنون الوضاح اليشكري (عن زياد بن علاقة) بكسر العين المهملة وبالقاف ابن مالك الثعلبي بالمثلثة والمهملة الكوفي المتوفى سنة خمس وعشرين ومائة.

(قال: سمعت جرير بن عبد الله) البجلي الأحمسي الصحابي المشهور، المتوفى سنة إحدى وخمسين، وله في البخاري عشرة أحاديث أي سمعت كلامه، فالمسموع هو الصوت والحروف فلما حذف هذا وقع ما بعده تفسيرًا له وهو قوله (يقول) قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193] أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع (يوم) بالنصب على الظرفية أضيف إلى قوله: (مات المغيرة بن شعبة) سنة خمسين من الهجرة وكان واليًا على الكوفة فى خلافة معاوية واستناب عند موته ولده عروة، وقيل استناب جريرًا ولذا خطب وقد:
(قام فحمد الله) أي أثنى عليه بالجميل عقب قيامه وجملة قام لا محل لها من الأعراب لأنها استئنافية (وأثنى عليه) ذكره بالخير أو الأوّل وصف بالتحلّي بالكمال، والثاني وصف بالتخلي عن النقائص، وحينئذ فالأولى إشارة إلى الصفات الوجودية، والثانية إلى الصفات العدمية أي التنزيهات (وقال: عليكم باتقاء الله) أي الزموه (وحده) أي حال كونه منفردًا (لا شريك له والوقار) أي الرزانة وهو بفتح الواو والجر عطفًا على اتّقاء أي وعليكم بالوقار (والسكينة) أي السكون (حتى يأتيكم أمير) بدل أميركم المغيرة المتوفى (فإنما يأتيكم الأن) بالنصب على الظرفية أي المدة القريبة من الآن فيكون الأمير زيادًا إذ ولاّه معاوية بعد وفاة المغيرة الكوفة، أو المراد الآن حقيقة فيكون الأمير جريرًا بنفسه
لما روي أن المغيرة استخلف جريرًا على الكوفة عند موته، وإنما أمرهم بما ذكره مقدمًا لتقوى الله تعالى، لأن لغالب أن وفاة الأمراء تؤدي إلى الاضطراب والفتنة سيما ما كان عليه أهل الكوفة إذ

ذاك من مخالفة ولاة الأمور، ومفهوم الغاية من حتى هنا وهو أن المأمور به وهو الاتقاء ينتهي بمجيء الأمير ليس مرادًا، بل يلزم عند مجيء الأمير بطريق الأولى وشرط اعتبار مفهوم المخالفة أن لا يعارضه مفهوم الموافقة.
(ثم قال) جرير (استعفوا) بالعين المهملة أي اطلبوا العفو (لأميركم) المتوفى من الله تعالى (فإنه) أي الأمير والفاء للتعليل (كان يحب العفو) عن ذنوب الناس فالجزاء من جنس العمل، وفي رواية أبي الوقت وابن عساكر: استغفروا لأميركم بغين معجمة وزيادة راء (ثم قال أما بعد) بالبناء على الضم ظرف زمان حذف منه المضاف إليه ونوى معناه وفيه معنى الشرط تلزم الفاء في تاليه والتقدير أما بعد كلامي هذا (فإني أتيت النيي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلت) لم يأت بأداة العطف لأنه بدل اشتمال من أتيت أو استئناف وفي رواية أبي الوقت فقلت له: يا رسول الله (أبايعك على الإسلام. فشرط) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (علي) بتشديد الياء أي الإسلام (والنصح) بالجر عطفًا على قوله الإسلام وبالنصب عطفًا على المقدر أي شرط عليّ الإسلام وشرط النصح (لكل مسلم) وكذا لكل ذمي بدعائه إلى الإسلام إرشاده إلى الصواب إذا استشار فالتقييد بالمسلم من حيث الأغلب، (فبايعته على هذا) المذكور من الإسلام والنصح، (وربّ هذا المسجد) أي مسجد الكوفة إن كانت خطبته ثم أو أشار به إلى المسجد الحرام، ويؤيده ما في رواية الطبراني بلفظ: ورب الكعبة تنبيهًا على شرف المقسم به ليكون أقرب إلى القلوب (إني لناصح لكم) فيه إشارة إلى أنه وفى بما بايع به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن كلامه عارٍ عن الأغراض الفاسدة، والجملة جواب القسم مؤكد بأن واللام والجملة الاسمية، (ثم استغفر)

(1/152)


الله (ونزل) عن المنبر أو قعد من قيامه لأنه خطب قائمًا كما مرَّ. وهذا الحديث من الرباعيات، ورواته ما بين كوفي وبصري وواسطي مع التحديث والسماع والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الشروط، ومسلم في الإيمان، والنسائي في البيعة والسير والشروط، والله أعلم.