شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
3 - كتاب العلم
أي بيان ما يتعلق به، وقدم على لاحقه لأن على العلم مدار
كل شيء والعلم مصدر علمت أعلم علمًا وحدّه صفة توجب
تمييزًا لا يحتمل النقيض في الأمور المعنوية، واحترزوا
بقولهم لا يحتمل النقيض عن مثل الظن، وبقولهم في الأمور
المعنوية عن إدراك الحواس لأن إدراكها في الأمور الظاهرة
المحسوسة. وقال بعضهم: لا يحدّ لعسر تحديده. وقال الإمام
فخر الدين: لأنه ضروري إذ لو لم يكن ضروريًّا لزم الدور.
(بسم الله الرحمن الرحيم) كذا في رواية الأصيلي وكريمة،
وفي رواية أبي ذر وغيره ثبوتها قبل كتاب.
1 - باب فَضْلِ الْعِلْمِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ} وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبِّ زِدْنِي
عِلْمًا}
(باب فضل العلم) وكلا كتاب العلم وباب فضل العلم ثابت عند
ابن عساكر، (وقول الله تعالى) وفي رواية أبي ذر عز وجل،
وقول بالجر عطفًا على المضاف إليه في قوله باب فضل العلم
على رواية من أثبت الباب أو على العلم فى قوله كتاب العلم
على رواية من حذفه، وقال الحافظ ابن حجر: ضبطناه في الأصول
بالرفع على الاستئناف، وتعقبه العيني فقال: إن أراد
بالاستئناف الجواب عن السؤال فإذا لا يصح لأنه ليس في
الكلام ما يقتضي هذا، وإن أراد ابتداء الكلام فذا أيضًا لا
يصح لأنه على تقدير الرفع لا يتأتى الكلام، لأن قوله وقول
الله ليس بكلام فإذا رفع لا يخلو إما أن يكون رفعه
بالفاعلية أو بالابتداء وكلّ منهما لا يصح، أما الأوّل
فواضح، وأما الثاني فلعدم الخبر.
فإن قلت: الخبر محذوف! قلت: حذف الخبر لا يخلو إما أن يكون
جوازًا أو وجوبًا، فالأوّل فيما إذا قامت قرينة كوقوعه في
جواب الاستفهام عن المخبر به أو بعد إذا الفجائية أو يكون
الخبر فعل قول وليس شيء من ذلك هاهنا، والثاني فيما إذا
التزم في موضعه غيره وليس هذا أيضًا كذلك، فتعين بطلان
دعوى الرفع.
(يرفع) برفع يرفع في الفرع والتلاوة بالكسر للساكنين
وأصلحها في اليونينية بكشط الرفع وإثبات الكسر {الله الذين
آمنوا منكم} بالنصر وحسن الذكر في الدنيا وإيوائكم غرف
الجنان في الآخرة {والذين أُوتوا العلم درجات} نصب بالكسر
مفعول يرفع أي، ويرفع العلماء منكم خاصة درجات بما جمعوا
من العلم والعمل. قال ابن عباس: درجات العلماء فوق
المؤمنين بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين خمسمائة عام
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} [المجادلة: 11]
تهديد لمن لم يمتثل الأمر أو استكرهه.
(وقوله عز وجل: رب) وللأصيلي: وقل رب وَقُلْ رَبِّ
{زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] أي سله الزيادة منه، واكتفى
المصنف في بيان فضيلة العلم بهاتين الآيتين، لأن القرآن
العظيم أعظم الأدلة أو لأنّه لم يقع له حديث من هذا النوع
على شرطه أو اخترمته المنيّة قبل أن يلحق بالباب حديثًا
يناسبه لأنه كتب الأبواب والتراجم، ثم كان يلحق فيها ما
يناسبها من الحديث على شرطه فلم يقع له شيء من ذلك، ولو لم
يكن من فضيلة العلم إلا آية {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران:
18] فبدأ الله تعالى بنفسه وثنى بملائكته وثلث بأهل العلم
وناهيك بهذا شرفًا، والعلماء ورثة الأنبيباء كما ثبت في
الحديث، وإذا كان لا رتبة فوق النبوّة فلا شرف فوق شرف
الوراثة لتلك الرتبة، وغاية العلم العمل لأنه ثمرته وفائدة
العمر وزاد الآخرة فمن ظفر به سعد ومن فاته خسر، فإذًا
العلم أفضل من العمل به لأن شرفه بشرف معلومه، والعمل بلا
علم لا يسمى عملاً بل هو ردّ وباطل، وينقسم العلم بانقسام
المعلومات وهي لا تحصى.
فمنها: الظاهر والمراد به العلم الشرعي المقيد بما يلزم
المكلف في أمر دينه عبادة ومعاملة وهو يدور على التفسير
والفقه والحديث، وقد عدّ الشيخ عز الدين بن عبد السلام
تعلم النحو وحفظ غريب الكتاب والسُّنَّة وتدوين أصول الفقه
من البدع الواجبة.
ومنها: علم الباطن وهو نوعان. الأوّل: علم المعاملة، وهو
فرض عين في فتوى علماء الآخرة فالمعرض عنه هالك بسطوة
(1/153)
مالك الملوك في الآخرة، كما أن المعرض عن
الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء
الدنيا، وحقيقته النظر في تصفية القلب وتهذيب النفس
باتّقاء الأخلاق الذميمة التي ذمّها الشارع كالرياء والعجب
والغش وحب العلو والثناء والفخر والطمع، ليتصف بالأخلاق
الحميدة المحمدية كالإخلاص والشكر والصبر والزهد والتقوى
والقناعة، ليصلح عند أحكامه ذلك لعلمه بعلمه ليرث ما لم
يعلم، فعلمه بلا عمل وسيلة بلا غاية وعكسه جناية وإتقانهما
بلا ورع كلفة بلا أجرة، فأهم الأمور زهد واستقامة لينتفع
بعلمه ومحمله، وسأشير
إلى نبذة منثورة في هذا الكتاب من مقاصد هذا النوع إن شاء
الله تعالى بألطف إشارة، وأعبر عن مهماته الشريفة بأرشق
عبارة جميعًا لفرائد الفوائد.
وأما النوع الثاني: فهو علم المكاشفة وهو نور يظهر في
القلب عند تزكيته فتظهر به المعاني المجملة فتحصل له
المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وكتبه ورسله؛ وتنكشف
له الأستار عن مخبآت الأسرار فافهم. وسلم تسلم، ولا تكن من
المنكرين تهلك مع الهالكين. قال بعض العارفين: من لم يكن
له من هذا العلم شيء أخشى عليه سوء الخاتمة وأدنى النصيب
منه التصديق به وتسليمه لأهله، والله تعالى أعلم.
2 - باب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي
حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ
(باب من سئل) بضم السين وكسر الهمزة (علمًا) بالنصب مفعول
ثانٍ (وهو مشتغل في حديثه) جملة وقعت حالاً من الضمير،
(فأتم الحديث ثم أجاب السائل) عطفه بثم لتراخيه.
59 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ. ح.
وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
بَيْنَمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ
فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُ. فَقَالَ
بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا
قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ
السَّاعَةِ؟ قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
«فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ
الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
[الحديث 59 - طرفه في: 6496].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا محمد بن سنان) بكسر السين
المهملة وبالنونين أبو بكر البصري (قال: حدّثنا فليح) بضم
الفاء وفتح اللام وبسكون المثناة التحتية وفي آخره حاء
مهملة وهو لقب له واسمه عبد الملك وكنيته أبو يحيى (ح).
قال البخاري: (وحدّثني) بالإفراد، وفي رواية ابن عساكر
قال: وحدّثنا (إبراهيم بن المنذر) المدني (قال: حدّثنا
محمد بن فليح) المذكور (قال: حدّثني) بالإفراد وفي رواية
الأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت: حدّثنا. (أبي) فليح (قال:
حدّثني) بالإفراد (هلال بن علي) ويقال له هلال بن أبي
ميمونة وهلال بن أبي هلال وهلال بن أسامة نسبة إلى جده وقد
يظن أنهم أربعة والكل واحد (عن عطاء بن يسار) مولى ميمونة
بنت الحرث (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أنه (قال):
(بينما) بالميم (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في مجلس يحدث القوم) أي الرجال فقط أو والنساء
تبعًا لأن القوم شامل للرجال والنساء (جاءه) أي النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أعرابي) الأعراب
سكان البادية لا واحد له من لفظه ولم
يعرف اسمه نعم سماه أبو العالية فيما نقله عنه البرماوي
رفيعًا، وفيه استعمال بينما بدون إذ وإذا وهو فصيح (فقال:
متى الساعة) استفهام عن الوقت التي تقوم فيه (فمضى رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحدث) أي القوم،
وفي رواية ابن عساكر وأبي ذر عن المستملي والحموي
والكشميهني يحدّثه بالهاء أي يحدّث القوم الحديث الذي كان
فيه فلا يعود الضمير المنصوب على الأعرابي (فقال بعض
القوم: سمع) عليه الصلاة والسلام (ما قال فكره ما قال) أي
الذي قاله فحذف العائد (وقال بعضهم: بل لم يسمع) قوله، وبل
حرف إضراب وليه هنا جملة وهي لم يسمع فيكون بمعنى الإبطال
لا العطف، والجملة اعتراض بين فمضى وبين قوله (حتى إذا
قضى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حديثه) فحتى
إذا يتعلق بقوله فمضى يحدث لا بقوله لم يسمع، وإنما لم
يجبه عليه الصلاة والسلام لأنه يحتمل أن يكون لانتظار
الوحي أو يكون مشغولاً بجواب سائل آخر، ويؤخذ منه أنه
ينبغي للعالم والقاضي ونحوهما رعاية تقدم الأسبق فالأسبق،
(قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أين أراه) بضم
الهمزة أي أظن أنه قال أين (السائل عن الساعة) أي عن
زمانها، والشك من محمد بن فليح ولم يضبط همزة أراه في
اليونينية، وفي رواية أين السائل وهو في الروايتين بالرفع
على الابتداء وخبره أين المتقدم وهو سؤال عن المكان بني
لتضمنه حرف الاستفهام.
(قال) الأعرابي: (ها أنا) السائل (يا رسول الله) فالسائل
المقدر خبر المبتدأ الذي هو أنا
(1/154)
وها حرف تنبيه (قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.
قال) الأعرابي: (كيف إضاعتها؟ قال) عليه الصلاة والسلام
مجيئًا له: (إذا وسد) بضم الواو وتشديد السين أي جعل
(الأمر) المتعلق بالدين كالخلافة والقضاء والإفتاء (إلى
غير أهله) أي بولاية غير أهل الدين والأمانات (فانتظر
الساعة): الفاء للتفريع أو جواب شرط محذوف، أي: إذا كان
الأمر كذلك فانتظر الساعة، ولا يقال هي جواب إذا وسد لأنها
لا تتضمن هنا معنى الشرط. وقال ابن بطال فيه: إن الأئمة
ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصح، وإذا قلدوا
الأمر لغير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانات، وفيه: أن الساعة
لا تقوم حتى يؤتمن الخائن، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهّال
وضعف أهل الحق عن القيام به ونصرته، وفيه وجوب تعليم
السائل لقوله عليه الصلاة والسلام: أين السائل، وفيه
مراجعة العالم عند عدم فهم السائل لقوله: كيف إضاعتها، وهو
ثمانيّ الإسناد ورجاله كلهم مدنيون مع التحديث بالإفراد
والجمع والعنعنة، وأخرجه المصنف أيضًا في الرقاق مختصرًا
وهو مما انفرد به عن بقية الكتب الستة.
3 - باب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ
(باب من) أي الذي (رفع صوته بالعلم) أي بكلام يدل على
العلم فهو من باب إطلاق اسم المدلول على الدال، وإلاّ
فالعلم صفة معنوية لا يتصوّر رفع الصوت به.
60 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ
الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي
بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا،
فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا
الصَّلاَةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ
عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «وَيْلٌ
لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.
[الحديث 60 - طرفاه في: 96، 163].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو النعمان عارم بن
الفضل) واسمه محمد وعارم لقبه السدوسي البصري المتوفى سنة
ثلاث أو أربع وعشرين ومائتين، وسقط عند ابن عساكر والأصيلي
وأبي ذر عارم بن الفضل (قال: حدّثنا أبو عوانة) بفتح العين
المهملة الوضاح اليشكري (عن أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون
المعجمة جعفر بن إياس اليشكري عرف بابن وحشية الواسطي
الثقة المتوفى سنة أربع وعشرين ومائة، (عن يوسف) بتثليث
السين المهملة مع الهمز وتركه (ابن ماهك) بفتح الهاء غير
منصرف للعلمية والعجمة لأن ماهك بالفارسية تصغير ماه وهو
القمر بالعربي، وقاعدتهم إذا صغّروا الاسم جعلوا في آخره
الكاف، وفي رواية الأصيلي ماهك بالصرف لأنه لاحظ فيه معنى
الصفة، لأن التصغير من الصفات، والصفة لا تجامع العلمية
لأن بينهما تضادًّا، وحينئذ يصير الاسم بعلة واحدة وهي غير
مانعة من الصرف، وروي بكسر الهاء مصروفًا اسم فاعل من مهكت
الشيء مهكًا إذا بالغت في سحقه، وعلى قول الدارقطني: إن
ماهك اسم أمه يتعين عدم صرفه للعلمية والتأنيث، لكن
الأكثرون على خلافه وأن اسمها مسيكة ابنة بهز بضم الموحدة
وسكون الهاء وبالزاي الفارسي المكي المتوفى سنة ثلاث عشرة
ومائة، وقيل غير ذلك (عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاصي
رضي الله عنهما.
(قال تخلف) أي تأخر خلفنا (النبي) ولأبي ذر تخلّف عنّا
النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفرة
سافرناها) من
مكة إلى المدينة كما في مسلم (فأدركنا) النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي لحق بنا وهو بفتح الكاف
(وقد أرهقتنا) بتأنيث الفعل أي غشيتنا (الصلاة) بالرفع على
الفاعلية أي وقت صلاة العصر كما في مسلم، وفي رواية أرهقنا
بالتذكير وسكون القاف لأن تأنيث الصلاة غير حقيقي والصلاة
بالنصب على المفعولية أي أخّرناها وحينئذ فنا ضمير رفع،
وفي الرواية الأولى ضمير نصب (ونحن نتوضأ) جملة اسمية وقعت
حالاً (فجعلنا) أي كدنا (نمسح) أي نغسل غسلاً خفيفًا أي
مبقعًا حتى يرى كأنه مسح (على أرجلنا) جمع رجل لقابلة
الجمع، وإلاّ فليس لكل إلا رجلان، ولا يقال يلزم أن يكون
لكل واحد رجل واحدة لأنّا نقول: المراد جنس الرجل سواء
كانت واحدة أو اثنتين، (فنادى) عليه الصلاة والسلام (بأعلى
صوته: ويل) بالرفع على الابتداء وهي كلمة عذاب وهلاك
(للأعقاب) المقصرين في غسلها أو العقب هي المخصوصة
بالعقوبة (من النار مرتين أو ثلاثًا) شك من ابن عمرو، وأل
في الأعقاب للعهد، والمراد الأعقاب التي رآها لم ينلها
المطهر، ويحتمل أن لا يختصّ بتلك الأعقاب المرئية له، بل
المراد كل عقب لم يعمها الماء فتكون عهدية جنسية.
4 - باب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ "حَدَّثَنَا" أَوْ
"أَخْبَرَنَا" وَ"أَنْبَأَنَا"
وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ: كَانَ عِنْدَ ابْنِ
عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا
وَسَمِعْتُ وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ.
وَقَالَ شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَلِمَةً. وَقَالَ
حُذَيْفَةُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدِيثَيْنِ. وَقَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرْوِي عَنْ
رَبِّهِ. وَقَالَ أَنَسٌ: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْوِيهِ عَنْ
رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ.
(باب قول
(1/155)
المحدث) أي الذي يحدث غيره (حدثنا أو
أخبرنا) وللأصيلي وغيره: وأخبرنا (وأنبأنا) هل بينهما فرق
أو الكل واحد؟ ولكريمة بإسقاط وأنبأنا، وللأصيلي بإسقاط
وأخبرنا، وثبت الجميع في رواية أبي ذر. (قال) لنا
(الحميدي) بضم المهملة وفتح الميم فياء تصغير وياء نسبة
أبو بكر بن عبد الله بن الزبير المكّي المذكور أوّل الكتاب
(كان عند ابن عيينة) سفيان، وللأصيلي وكريمة وقال لنا
الحميدي، وكذا ذكره أبو نعيم في المستخرج فهو متصل، وأفاد
جعفر بن حمدان النيسابوري أن كل ما في البخاري من قال ليس
فلان فهو عرض أو مناولة. (حدّثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت
واحدًا) لا فرق بين هذه الألفاظ الأربعة عند المؤلف كما
يعطيه قوة تخصيصه بذكره عن شيخه الحميدي من غير ذكر ما
يخالفه، وهو مروي أيضًا عن مالك والحسن البصري ويحيى بن
سعيد القطان ومعظم الكوفيين والحجازيين، وممن رواه عن مالك
إسماعيل بن أبي أُويس فإنه قال: إنه سئل عن حديث أسماع هو
فقال منه سماع ومنه عرض وليس العرض عندنا بأدنى من السماع.
وقال القاضي عياض: لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ
الشيخ أن يقول السامع فيه حدّثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعته
يقول وقال لنا فلان وذكر لنا فلان، وإليه مال الطحاوي،
وصحح هذا المذهب ابن الحاجب ونقل هو وغيره أنه مذهب الأئمة
الأربعة، ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه
وتقييده حيث يقرأ عليه وهو مذهب إسحاق بن راهويه والنسائي
وابن حبان وابن منده وغيرهم. وقال آخرون بالتفرقة بين
الصيغ بحسب افتراق التحمل، فلما سمع من لفظ الشيخ سمعت أو
حدّثنا، ولما قرأه على الشيخ أخبرنا، والأحوط الإفصاح
بصورة الواقع فيقول إن كان قرأ قرأت على فلان أو أخبرنا
بقراءتي عليه، وإن كان سمع: قرأ علي فلان وأنا أسمع،
وأخبرنا فلان قراءة عليه وأنا أسمع، وأنبأنا ونبأنا
بالتشديد للإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، وهذا
مذهب ابن جريج والأوزاعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق، ثم
أحدث أتباعهم تفصيلاً آخر فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد
فقال حدّثني، ومن سمع مع غيره جمع فقال حدّثنا، ومن قرأ
بنفسه على الشيخ أفرد فقال أخبرني، ومن سمع بقراءة غيره
جمع فقال أخبرنا، وأما قال لنا أو قال لي واذكر لنا وذكر
ليس ففيما سمع في حال المذاكرة، وجزم ابن منده بأنه
للإجازة، وكذا قال أبو يعقوب الحافظ، وقال أبو جعفر بن
أحمد أنه عرض ومناولة. قال في فتح المغيث: وهو على تقدير
تسليمه منهم له حكم الاتصال أيضًا على رأي الجمهور لكنه
مردود عليهم، فقد أخرج البخاري في الصوم من صحيحه حديث أبي
هريرة قال: قال: إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فقال فيه
حدّثنا عبدان، وأورده في تاريخه بصيغة قال ليس عبدان،
وأورد حديثًا في التفسير من صحيحه عن إبراهيم بن موسى
بصيغة التحديث، ثم أورده في الإيمان والنذور منه أيضًا
بصيغة قال ليس إبراهيم بن موسى في أمثلة كثيرة. قال:
وحقّقه شيخنا باستقرائه لها أنه إنما يأتي بهذه الصيغة
يعني بانفرادها إذا كان المتن ليس على شرطه في أصل موضوع
كتابه كأن يقول ظاهره الوقف أو في السند من ليس على شرطه
في الاحتجاج، وذلك في المتابعات والشواهد، وإنما خصّوا
قراءة الشيخ بحدّثنا لقوّة إشعاره بالنطق والمشافهة،
وينبغي ملاحظة هذا الاصطلاح لئلا يختلط المسموع بالمجاز،
قال الإسفرايني: لا يجوز فيما قرأ أو سمع أن يقول حدّثنا
ولا فيما سمع لفظًا أن يقول أخبرنا، إذ بينهما فرق ظاهر،
ومن لم يحفظ ذلك على نفسه كان من المدلسين، ثم عطف المؤلف
ثلاثة تعاليق يؤيد بها مذهبه في التسوية بين الصيغ الأربعة
فقال:
(وقال ابن مسعود) عبد الله رضي الله عنه (حدّثنا رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الصادق) في نفس
الأمر (المصدوق) بالنسبة إلى الله تعالى أو إلى الناس أو
بالنسبة إلى ما قاله غيره أي جبريل له، وهذا طرف من حديث
وصله المؤلف في القدر.
(وقال شقيق) بفتح المعجمة أبو وائل السابق في باب خوف
المؤمن أن يحبط عمله من كتاب الإيمان (عن عبد الله) أي ابن
مسعود، وإذا
(1/156)
أطلق كان هو المراد من بين العبادلة (سمعت
النبي) ولأبي ذر والأصيلي سمعت من النبي (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلمة) وهذا وصله المؤلف في الجنائز.
(وقال حذيفة) بن اليمان صاحب سرّ رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المنافقين، المتوفى
بالمدائن سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان رضي الله عنه
بأربعين ليلة ومقول قوله: (حدّثنا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديثين) وهذا وصله المؤلف في
الرقاق، وساق التعاليق الثلاثة تنبيهًا على أن الصحابي
تارة يقول حدّثنا، وتارة يقول سمعت، فدلّ على عدم الفرق
بينهما. ثم عطف على هذه الثلاثة ثلاثة أخرى فقال: (وقال
أبو العالية) بالمهملة والمثناة التحتية هو رفيع بضم الراء
وفتح الفاء ابن مهران بكسر الميم الرياحي بالمثناة التحتية
والحاء المهملة، أسلم بعد موته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بسنتين، وتوفي سنة تسعين. وقال العيني، كالقطب
الحلبي: هو البراء بتشديد الراء نسبة لبري النبل، واسمه
زياد بن فيروز القرشي البصري المتوفى سنة تسعين. قال ابن
حجر: وهو وهم فإن الحديث المذكور معروف برواية الرياحي
دونه، وتعقبه العيني بأن كل واحد منهما يروي عن ابن عباس،
وترجيح أحدهما عن الآخر في رواية هذا الحديث عن ابن عباس
يحتاج إلى دليل، وبأن قوله: فإن الحديث المذكور معروف
برواية الرياحي دونه يحتاج إلى نقل عن أحد يعتمد عليه.
وأجاب في انتقاض الاعتراض بأن المصنف وصله في التوحيد، ولو
راجعه العيني من هناك لما احتاج إلى طلب الدليل. (عن ابن
عباس، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما
يروي عن ربه) عز وجل.
(وقال أنس) بن مالك رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرويه عن ربه عز وجل)
وللأصيلي فيما يرويه عن ربه، ولأبوي ذر والوقت تبارك
وتعالى بدلاً عن قوله عز وجل.
(وقال أبو هريرة) رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرويه عن ربكم عز وجل) بكاف الخطاب مع
ميم الجمع، وهذه التعاليق الثلاثة وصلها المؤلف في كتاب
التوحيد، وأوردها هنا تنبيهًا على حكم المعنعن، والذي ذهب
إليه هو وأئمة جمهور المحدّثين أنه موصول إذا أتى عن رواة
مسمّين معروفين بشرط السلامة واللقاء، وهو مذهب ابن
المديني وابن عبد البر والخطيب وغيرهم. وعزاه النووي
للمحققين بل هو مقتضى كلام الشافعي. نعم لم يشترطه مسلم بل
أنكر اشتراطه في مقدمة صحيحة وادّعى أنه قول مخترع لم يسبق
قائله إليه، وإن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم
بالأخبار قديمًا وحديثًا ما ذهب هو إليه من عدم اشتراطه
لكنه اشترط تعاصرهما فقط، وإن لم يأت في خبر قط أنهما
اجتمعا وتشافها يعني تحسينًا للظن بالثقة وفيما قاله نظر
يطول ذكره.
61 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ
يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ،
فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ
الْبَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي
أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ. ثُمَّ قَالُوا:
حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: هِيَ
النَّخْلَةُ». [الحديث 61 - أطرافه في: 62، 72، 131، 2209،
4698، 5444، 5448، 6132، 6144].
وبالسند إلى المؤلف رحمه الله قال: (حدّثنا قتيبة) زاد في
رواية ابن عساكر ابن سعيد وقد مرّ قال: (حدّثنا إسماعيل بن
جعفر) المذكور في باب علامة المنافق (عن عبد الله بن
دينار) السابق في باب أمور الإيمان (عن ابن عمر) بن الخطاب
رضي الله عنهما (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن من الشجر) أي من جنسه (شجرة) بالنصب اسم إن وخبرها
الجار والمجرور ومن للتبعيض. وقوله (لا يسقط ورقها) في محل
نصب صفة لشجرة وهي صفة سلبية تبين أن موصوفها مختص بها دون
غيرها (وإنها مثل المسلم) بكسر الهمزة عطفًا على أن الأولى
وبكسر ميم مثل وسكون المثلثة كذا في رواية أبي ذر، وفي
رواية الأصيلي وكريمة مثل بفتحهما كشبه وشبه لفظًا ومعنى،
واستعير المثل هنا كاستعارة الأسد للمقدام للحال العجيبة
أو الصفة الغريبة كأنه قال: حال المسلم العجيب الشأن كحال
النخلة أو صفته الغريبة كصفتها فالمسلم هو المشبه والنخلة
هي المشبه بها.
وقوله: (فحدّثوني) فعل أمر أي إن عرفتموها فحدّثوني (ما
هي) جملة من مبتدأ وخبر سدّت مسد مفعول التحديث (فوقع
الناس في شجر البوادي) أي جعل كل منهم يفسرها بنوع من
الأنواع وذهلوا عن النخلة، (قال عبد الله) بن عمر بن
الخطاب رضي الله عنهما: (ووقع في نفسي أنها النخلة) بالرفع
خبر أن وبفتح الهمزة لأنها فاعل وقع (فاستحييت) أن أتكلم،
وعنده أبو بكر وعمر وغيرهما رضي الله
(1/157)
عنهم هيبة منه وتوقيرًا لهم (ثم قالوا:
حدّثنا) بكسر الدال وسكون المثلثة (ما هي يا رسول الله:
قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هي النخلة).
وعند المؤلف في التفسير من طريق نافع عن ابن عمر قال: كنا
عند
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال:
أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ولا ولا
ذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء، وقد ذكروا في
تفسيره ولا ينقطع ثمرها ولا يعدم فيئها ولا يبطل نفعها.
5 - باب طَرْحِ الإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ
لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
هذا (باب طرح) بالجر للإضافة أي إلقاء (الإمام المسألة على
أصحابه ليختبر ما عندهم) أي ليمتحن الذي عندهم (من العلم).
62 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ
يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ،
حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟
قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي. قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا
النَّخْلَةُ. ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ».
وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون الخاء
أبو الهيثم القطواني بفتح القاف والطاء نسبة لموضع بالكوفة
البجلي مولاهم الكوفي تكلم فيه. وقال ابن عدي: لا بأس به
المتوفى في المحوم سنة ثلاث عشرة ومائتين قال: (حدّثنا
سليمان) بن بلال أبو محمد التيمي القرشي المدني الفقيه
المشهور، وكان بربريًّا حسن الهيئة وتوفي سنة اثنتين
وسبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد. قال: (حدّثنا عبد
الله بن دينار عن ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (عن
النبي) أنه (قال):
(إن من الشجر شجرة) زاد المؤلف في باب الفهم في العلم قال:
صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال: كنا عند النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأُتي بجمارة فقال: إن من
الشجر شجرة (لا يسقط ورقها وإنها مثل) بكسر الأوّل وسكون
الثاني وبفتحهما على ما مرّ أي شبه (المسلم، حدّثوني) كذا
في الرواية بغير فاء على الأصل (ما هي؟ قال: فوقع الناس في
شجر البوادي) أي ذهبت أفكارهم إليها دون النخلة، وسقطت
لفظة قال من الرواية الأولى (قال عبد الله) بن عمر رضي
الله عنهما: (فوقع في نفسي) وفي الرواية السابقة ووقع في
نفسي (أنها النخلة). وفي صحيح أبي عوانة قال: فظننت أنها
النخلة من أجل الجمار الذي أُتي به. زاد في رواية أبي ذر
عن المستملي وأبي الوقت والأصيلي فاستحييت.
قال في رواية مجاهد عند المؤلف في باب الفهم في العلم:
فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم وعنده في
الأطعمة فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم، وفي رواية نافع:
ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم. (ثم قالوا:
حدّثنا) المراد منه الطلب والسؤال (ما هي يا رسول الله؟
قال: هي النخلة) ولابن عساكر حدّثنا يا رسول الله. قال: هي
النخلة، وللأصيلي ثم قالوا: حدّثنا يا رسول الله. ووجه
الشبه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق كما رواه
الحرث بن أبي أسامة في هذا الحديث كنا ذكره السهيلي في
التعريف. وقال زاد زيادة تساوي رحلة ولفظه عن ابن عمر قال:
كنا عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ذات يوم فقال: إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا يسقط لا أبلمة
أتدرون ما هي؟ قالوا: لا. قال: هي النخلة لا يسقط لها
أبلمة ولا يسقط لمؤمن دعوة فبيّن وجه
الشبه. قال ابن حجر: وعند المؤلف في الأطعمة من حديث ابن
عمر بينما نحن عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذ أُتي بجمارة فقال: إن من الشجر لا بركته
كبركة السلم وهذا أعمّ من الذي قبله. وبركة النخلة موجودة
في جميع أجزائها تستمر في جميع أحوالها من حين تطلع إلى
حين تيبس تؤكل أنواعًا ثم ينتفع بجميع أجزائها حتى النوى
في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى،
وكذلك بركة السلم عامة في جميع الأحوال ونفعه مستمر له
ولغيره. وأما من قال: إن وجه الشبه كون النخلة خلقت من فضل
طينة آدم فلم يثبت الحديث بذلك، وفائدة إعادته لهذا الحديث
اختلاف السند المؤذن بتعداد مشايخه واتساع روايته مع
استفادة الحكم المترتب عليه المقتضي لدقّة نظره في تصرفه
في تراجم أبوابه، والله الموفق والمعين.
6 - باب مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
بَابُ الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ.
وَرَأَى الْحَسَنُ وسُفيانُ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ
جَائِزَةً. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى
الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ
لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آللَّهُ
أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ؟ قَالَ «نَعَمْ».
قَالَ: فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ
بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ
يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ أَشْهَدَنَا
فُلاَنٌ: وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ،
وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ:
أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ
عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ
عَلَى الْعَالِمِ عُبَيْدُ اللَّهِ. وَأَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرَبْرِيُّ وَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ
قَالَ: إِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ
يَقُولَ: حَدَّثَنِي. قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ
يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ: الْقِرَاءَةُ عَلَى
الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ.
(باب ما جاء في العلم وقول الله تعالى: وقل رب زدني علمًا)
أي سل الله تعالى زيادة العلم وهذا ساقط في رواية ابن
عساكر والأصيلي وأبوي ذر والوقت، والباب التالي له ساقط
عند الأصيلي وأبي ذر وابن عساكر.
(باب القراءة والعرض على المحدث) وفي نسخة القراءة والعرض
على المحدث بحذف الباب أي بأن يقرأ عليه الطالب من حفظه أو
كتاب أو يسمعه عليه بقراءة غيره من كتاب أو حفظ والمحدّث
(1/158)
حافظ للمقروء أو غير حافظ، لكن مع تتبع
أصله بنفسه أو ثقة ضابط غيره واحترز به عن عرض المناولة
وهو العاري عن القراءة. وصورته: أن يعرض الطالب مروي شيخه
اليقظ العارف عليه فيتأمله الشيخ ثم يعيده عليه ويأذن له
في روايته عنه. (ورأى الحسن) البصري (وسفيان) الثوري
(ومالك) أي ابن أنس إمام الأئمة (القراءة) على المحدّث
(جائزة) في صحة النقل عنه خلافًا لأبي عاصم النبيل وعبد
الرحمن بن سلام الجمحي ووكيع. والمعتمد الأوّل، بل صرح
القاضي عياض بعدم الخلاف في صحة الرواية بها، وقد كان
الإمام مالك يأبى أشد الإباء على المخالف ويقول:
كيف لا يجزيك هذا في الحديث ويجزيك في القرآن والقرآن
أعظم. وقال بعض أصحابه: صحبته سبع عشر سنة فما رأيته قرأ
الموطأ على أحد بل يقرؤون عليه، وفي رواية غير الأصيلي
وأبي الوقت وابن عساكر. قال أبو عبد الله أي المؤلف سمعت
أبا عاصم يذكر عن سفيان الثوري ومالك الإمام أنهما كانا
يريان القراءة والسماع جائزًا وفي رواية أبي ذر جائزة أي
القراءة لأن السماع لا نزاع فيه، ولغير أبي ذر حدّثنا عبيد
الله بن موسى عن سفيان قال: إذا قرئ على المحدّث فلا بأس
أن يقول حدّثني بالإفراد وسمعت.
(واحتجّ بعضهم) هو الحميدي شيخ المؤلف أو أبو سعيد الحداد
كما في المعرفة للبيهقي من طريق ابن خزيمة (في القراءة على
العالم) أي في صحة النقل عنه (بحديث ضمام بن ثعلبة) بكسر
الضاد المعجمة وثعلبة بالمثلثة ثم المهملة وبعد اللام
موحدة. زاد في رواية الأصيلي وأبي ذر أنه وسقطت لغيرهما
كما في فرع اليونينية كهي (قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: آلله) بهمزة الاستفهام مرفوع مبتدأ
خبره قوله (أمرك أن) أي بأن (تصلي) بالمثناة الفوقية وفي
فرع اليونينية أن نصلي بنون الجمع (الصلوات).
وفي رواية أبوي الوقت وذر عن الكشميهني الصلاة بالإفراد
(قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (نعم) أمرنا أن
نصلي. قال الحميدي: (فهذه قراءة على النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفي رواية الأصيلي كما في الفرع فهذه
قراءة على العالم (أخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه) أي قبلوه
من ضمام وليس في الرواية الآتية من حديث أنس في قصته أنه
أخبر قومه بذلك. نعم روي ذلك من طريق آخر عند أحمد من حديث
ابن عباس قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة الحديث،
وفيه أن ضمامًا قال لقومه عندما رجع إليهم: إن الله قد بعث
رسولاً وأنزل عليه كتابًا وقد جئتكم من عنده بما أمركم به
ونهاكم عنه. قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره
رجل ولا امرأة إلا مسلمًا.
(واحتج مالك) الإمام (بالصك) بفتح المهملة وتشديد الكاف
الكتاب فارسي معرب يكتب فيه إقرار المقر (يقرأ على القوم)
بضم المثناة التحتية مبنيًّا للمفعول (فيقولون) أي
الشاهدون لا القوم لأن المراد منهم من يعطي الصك وهم
المقرون بالدّيون أو غيرها فلا يصح لهم أن يقولوا: (أشهدنا
فلان ويقرأ ذلك قراءة عليهم) وفي رواية أبوي ذر والوقت:
وإنما ذلك قراءة عليهم فتسوغ الشهادة عليهم بقولهم نعم بعد
قراءة المكتوب عليهم مع عدم تلفظهم بما هو مكتوب. قال ابن
بطال: وهذه حجة قاطعة لأن الإشهاد أقوى حالات الإخبار
(ويقرأ) بضم أوّله أيضًا (على المقرئ) المعلم للقرآن
(فيقول القارئ) عليه (أقرأني فلان) روى الخطيب البغدادي في
كفايته من طريق ابن وهب قال:
سمعت مالكًا رحمه الله وقد سئل عن الكتب التي تعرض: أيقول
الرجل حدّثني؟ قال: نعم كذلك القرآن أليس الرجل يقرأ على
الرجل فيقول أقرأني فلان، فكذلك إذا قرأ على العالم صحّ أن
يروي عنه انتهى.
وبالسند السابق إلى المؤلف قال: (حدّثنا محمد بن سلام)
بتخفيف اللام البيكندي، قال: (حدّثنا محمد بن الحسن) بفتح
الحاء ابن عمران (الواسطي) قاضيه المتوفى سنة تسع وثمانين
ومائة
وليس له في البخاري غير هذا (عن عوف) بفتح العين آخره فاء
هو ابن أبي جميلة الأعرابي (عن الحسن) البصري (قال: لا
بأس) في صحة النقل عن المحدّث (بالقراءة على العالم) أي
الشيخ.
(1/159)
وبه قال المؤلف: (حدّثنا عبيد الله) زاد في
رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر ما هو ثابت في فرع
اليونينية لا في أصلها إلا في الهامش وفوقه هـ س ط.
(وأخبرنا محمد بن يوسف الفربري، وحدّثنا محمد بن إسماعيل
البخاري قال: حدّثنا عبيد الله) بضم العين وفتح الموحدة
مصغر (ابن موسى) بن باذام العبسي بالمهملتين (عن سفيان)
الثوري أنه (قال: إذا قرئ) بضم القاف وكسر الراء وللأصيلي
وابن عساكر: إذا قرأت، وفي رواية أبي الوقت: إذا قرأ (على
المحدّث لا بأس) على القارئ (أن يقول حدّثني) كما جاز أن
يقول أخبرني (قال) أي المؤلف: (وسمعت) وفي رواية س قال أبو
عبد الله سمعت بغير واو (أبا عاصم) هو الضحاك بن مخلد
الشيباني البصري النبيل بفتح النون وكسر الموحدة وسكون
المثناة التحتية المتوفى في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة
ومائتين (يقول عن مالك) إمام دار الهجرة (و) عن (سفيان)
الثوري (القراءة على العالم وقراءته سواء) في صحة النقل
وجواز الرواية. نعم استحب مالك القراءة على الشيخ، وروى
عنه الدارقطني أنها أثبت من قراءة العالم والجمهور على أن
قراءة الشيخ أرجح من قراءة الطالب عليه، وذهب آخرون إلى
أنهما سواء كما تقدم عن مذهب المؤلف ومالك وغيرهما.
63 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ:
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ -هُوَ الْمَقْبُرِيُّ-
عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ
أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ بَيْنَمَا
نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي الْمَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ
فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ
لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ -وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ-
فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: قَدْ أَجَبْتُكَ: فَقَالَ الرَّجُلُ
لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنِّي
سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلاَ
تَجِدْ عَلَىَّ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا
لَكَ. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ
قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟
فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ،
آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ
فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ
تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ:
اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ
أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ
أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا
جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي،
وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ
بَكْرٍ ". رَوَاهُ مُوسَى وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِهَذَا.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: حدّثنا
الليث) بن سعد عالم مصر (عن سعيد) بن أبي سعيد بكسر العين
فيهما (هو المقبري) بضم الموحدة ولفظ هو ساقط في رواية أبي
ذر
(عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر) بفتح النون وكسر الميم
القرشي المدني المتوفى سنة أربع ومائة (أنه سمع أن بن
مالك) رضي الله عنه أي كلامه حال كونه (يقول):
(بينما) بالميم وفي نسخة بينا بغير ميم (نحن) مبتدأ خبره
(جلوس مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
المسجد) النبوي (دخل رجل) جواب بينما، وللأصيلي، إذ دخل،
لكن الأصمعي لا يستفصح إذ وإذا في جواب بينا وبينما (على
جمل فأناخه في) رحبة (المسجد) أو ساحته (ثم عقله) بتخفيف
القاف أي شدّ على ساقه مع ذراعه حبلاً بعد أن ثنى ركبته،
وفي رواية أبي نعيم أقبل على بعير له حتى أتى المسجد
فأناخه ثم عقله فدخل المسجد، وفي رواية أحمد والحاكم عن
ابن عباس فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل، وهذا
يدل على أنه لم يدخل به السجد وهو يرفع احتمال دلالة ذلك
على طهارة أبوال الإبل (ثم قال لهم: أيكم) استفهام مرفوع
على الابتداء خبره (محمد والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- متكئ) بالهمزة مستو على وطاء، والجملة اسمية
وقعت حالاً (بين ظهرانيهم) بفتح الظاء المعجمة والنون أي
بينهم وزيد لفظ الظهر ليدل على أن ظهرًا منهم قدامه وظهرًا
وراءه. فهو محفوف بهم من جانبيه والألف والنون فيه
للتأكيد. قاله صاحب الفائق، وقال في المصابيح: ثم زيدت
الألف والنون على ظهر عند التثنية للتأكيد ثم كثر حتى
استعمل في الإقامة بين القوم مطلقًا انتهى. فهو مما أريد
بلفظ التثنية فيه معنى الجمع، لكن استشكل البدر الدماميني
ثبوت النون مع الإضافة. وأجيب بأنه ملحق بالمثنى لا أنه
مثنى وحذفت منه نون التثنية فصار ظهرانيهم. (فقلنا: هذا
الرجل الأبيض المتكئ) والمراد بالبياض هنا المشرب بحمرة
كما دل عليه رواية الحرث بن أبي عمير حيث قال: الأمغر وهو
مفسر بالحمرة مع بياض صافٍ، ولا تنافي بين وصفه هنا
بالبياض وبين ما ورد أنه ليس بأبيض ولا آدم لأن المنفي
البياض الخالص كلون الجص، وفي كتابي المنح من مباحث ذلك ما
يكفي ويشفي، ويأتي إن شاء الله تعالى بعون الله نكت من ذلك
في الصفة النبوية من هذا المجموع. (فقال له) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الرجل) الداخل (ابن عبد
المطلب) بكسر الهمزة وفتح النون كما في فرع اليونينية،
والذي رأيته في اليونينية بهمزة وصل. وقال الزركشي
والبرماوي. بفتح الهمزة للنداء ونصب النون لأنه مضاف، وزاد
الزركشي لا على الخبر ولا على سبيل الاستفهام بدليل قوله
عليه الصلاة والسلام: قد أجبتك.
قال: وفي رواية أبي داود يا ابن عبد المطلب، وتعقبه في
المصابيح بأنه لا دليل في شيء مما ذكره على تعيين فتح
الهمزة لكن إن ثبتت الرواية بالفتح فلا كلام، وإلاّ فلا
مانع من أن تكون همزة الوصل التي في ابن سقطت
(1/160)
للدرج وحرف النداء محذوف وهو في مثله قياس
مطّرد بلا خلاف انتهى.
وللكشميهني يا ابن عبد المطلب بإثبات حرف النداء: (فقال له
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أجبتك) أي
سمعتك أو المراد إنشاء الإجابة، أو نزل تقريره للصحابة في
الإعلام عنه منزلة النطق ولم يجبه عليه الصلاة والسلام
بنعم لأنه أخلّ بما يجب من رعاية التعظيم والأدب حيث قال:
أيّكم محمد ونحو ذلك؟ (فقال الرجل للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط قوله الرجل إلى آخر التصلية عند
ابن عساكر، وسقط لفظ الرجل فقط لأبي الوقت (إني سائلك) وفي
رواية ابن عساكر أيضًا والأصيلي فقال الرجل: إني سائلك
(فمشدد عليك في المسألة) بكسر الدال الأولى المثقلة والفاء
عاطفة على سائلك (فلا تجد) بكسر الجيم والجزم على النهي
وهي من الموجدة أي لا تغضب (عليّ في نفسك. فقال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (سل عما بدا) أي ظهر (لك
فقال) الرجل (أسالك بربك) أي بحق ربك (ورب من قبلك آلله)
بهمزة الاستفهام الممدودة والرفع على الابتداء والخبر قوله
(أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-؟ وفى رواية قال: (اللهمّ) أي يا الله (نعم)
فالميم بدل من حرف النداء وذكر ذلك للتبرك، وإلا فالجواب
قد حصل بنعم أو استشهد في ذلك بالله تأكيدًا لصدقه (قال)
وفي رواية فقال الرجل: (أنشدك) بفتح الهمزة وسكون النون
وضم الشين المعجمة أي أسالك (بالله) والباء للقسم (آلله
أمرك) بالمد (أن نصلي الصلوات الخمس) بنون الجمع للأصيلي
واقتصر عليه في فرع اليونينية ولغيره تصلي بتاء الخطاب وكل
ما وجب عليه وجب على أمته حتى يقوم دليل على الخصوصية.
وللكشميهني والسرخسي الصلاة بالإفراد أي جنس الصلاة (في
اليوم والليلة قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(اللهمّ نعم. قال) الرجل (أنشدك بالله آلله) بالمد (أمرك
أن تصوم) بتاء الخطاب، وللأصيلي أن نصوم بالنون كذا في
الفرع، والذي في اليونينية نصوم بالنون فقط غير مكررة (هذا
الشهر من السنة) أي رمضان من كل سنة فاللام فيهما للعهد
والإشارة لنوعه لا لعينه. (قال) عليه الصلاة والسلام:
(اللهمّ نعم قال) الرجل: (أنشدك بالله آلله) بالمد (أمرك
أن تأخذ) بتاء المخاطب أي بأن تأخذ (هذه الصدقة) المعهودة
وهي الزكاة (من أغنيائنا فتقسمها) بتاء المخاطب المفتوحة
والنصب عطفًا على أن تأخذ (على فقرائنا) من تغليب الاسم
للكل بمقابلة الأغنياء أو خرج مخرج الأغلب لأنهم معظم
الأصناف الثمانية (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: اللهمّ نعم) ولم يتعرض للحج، فقال في مصابيح
الجامع كالكرماني والزركشي وغيرهما لأنه كان معلومًا عندهم
في شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكأنهم لم يطلعوا
على ما في صحيح مسلم، فقد وقع فيه ذكر الحج ثابتًا عن أنس،
وكذا في حديث أبي هريرة وابن عباس عنده، وقيل: إنما لم
يذكره لأنه لم يكن فرض، وهذا بناء على قول الواقدي وابن
حبيب إن قول ضمام كان سنة خمس وهو مردود بما في مسلم أن
تدومه كان بعد نزول النهي عن السؤال في القرآن، وهو في
المائدة ونزولها متأخر جدًّا، وبما قد علم أن إرسال الرسل
إلى الدعاء إلى الإسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية
ومعظمه بعد فتح مكة وبما في حديث ابن عباس أن قومه أطاعوه
ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد وهو
ابن بكر بن هوازن في الإسلام إلا بعد وقعة خيبر، وكانت في
شوّال سنة ثمانٍ والصواب أن قدوم ضمام كان في سنة تسع وبه
جزم ابن إسحاق وأبو عبيدة وغيرهما. (فقال الرجل) المذكور
لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (آمنت)
قبل (بما) أي بالذي (جئت به) من الوحي، وهذا يحتمل أن يكون
إخبارًا، وإليه ذهب المؤلف، ورجحه القاضي عياض وأنه حضر
بعد إسلامه مستثبتًا من الرسول عليه الصلاة والسلام ما
أخبره به رسوله إليهم، لأنه قال في حديث ثابت عن أنس عند
مسلم وغيره فإن رسولك زعم، وقال في رواية كريب عن ابن عباس
عند الطبراني أتتنا كتبك وأتتنا رسلك (وأنا رسول من) مبتدأ
وخبر مضاف إلى من بفتح الميم (ورائي من) بكسرها (قومي وأنا
ضمام بن ثعلبة)
(1/161)
بالمثلثة المفتوحة والهملة والموحدة (أخو
بني سعد بن بكر)
بفتح الموحدة أي ابن هوازن وما وقع من السؤال والاستفهام
على الوجه المذكور، فمن بقايا جفاء الأعراب الذين وسعهم
حلمه عليه الصلاة والسلام، وليس في رواية الأصيلي وأنا
ضمام إلى قوله بكر. (رواه) أي الحديث السابق، وفي رواية
ابن عساكر، ورواه (موسى) أي ابن إسماعيل كما في رواية ابن
عساكر وهو أبو سلمة المنقري، (و) رواه أيضًا (علي بن عبد
الحميد) بن مصعب المعنيّ بفتح الميم وسكون العين المهملة
وكسر النون بعدها ياء نسبة إلى معن بن مالك، المتوفى في
سنة اثنتين وعشرين ومائتين كلاهما (عن سليمان) زاد في
رواية أبي ذر ابن المغيرة كما في الفرع كأصله المتوفى سنة
خمسين ومائة، وللأصيلي أخبرنا سليمان (عن ثابث) البناني
بضم الموحدة وبالنونين نسبة إلى بنانة بطن من قريش أو اسم
أمه بنانة واسم أبيه أسلم العابد البصري، المتوفى سنة ثلاث
وعشرين ومائة (عن أنس) رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذا) أي بمعناه وسقط لفظ
بهذا من رواية أبي الوقت وابن عساكر، وفي رواية مثله.
وحديث موسى بن إسماعيل موصول في صحيح أبي عوانة، وحديث علي
بن عبد الحميد موصول عند الترمذي أخرجه عن المؤلف. ولما
فرغ المؤلف من عرض القراءة شرع يذكر المناولة فقال:
7 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ، وَكِتَابِ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَان
وَقَالَ أَنَسٌ: نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ فَبَعَثَ
بِهَا إِلَى الآفَاقِ، وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكٌ ذَلِكَ جَائِزًا.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ
بِحَدِيثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حَيْثُ كَتَبَ لأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ:
«لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا،
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(باب ما يذكر) بضم الياء وفتح الكاف (في المناولة)
المقرونة بالإجازة وهو أن يعطي الشيخ الكتاب للطالب ويقول:
هذا سماعي من فلان أو تصنيفي وقد أجزت لك أن ترويه عني،
وهي حالّة محل السماع عند يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك
والزهري فيسوغ فيها التعبير بالتحديث والإخبار، لكنها أحطّ
مرتبة من السماع عند الأكثرين، وهذه غير عرض المناولة
السابق الذي هو أن يحضر الطالب الكتاب على أن الجمهور
سوّغوا الرواية بها، وتقييد المناولة باقتران الإجازة مخرج
لما إذا ناول الشيخ الكتاب للطالب من غير إجازة فإنه لا
تسوغ الرواية بها على الصحيح. ثم عطف المؤلف على قوله في
المناولة قوله:
(وكتاب أهل العلم بالعلم إلى) أهل (البلدان) بضم الموحدة
وأهل القرى والصحارى وغيرهما والمكاتبة صورتها، أن يكتب
المحدّث لغائب بخطه أو يأذن لثقة يكتب سواء كان لضرورة أم
لا، وسواء سئل في ذلك أم لا. فيقول بعد البسملة: من فلان
ابن فلان ثم يكتب شيئًا من مرويه حديثًا فأكثر أو من
تصنيفه أو نظمه، والإذن له في روايته عنه كأن يكتب أجرت لك
ما كتبته لك أو ما كتبت به إليك ويرسله إلى الطالب مع ثقة
مؤتمن بعد تحريره بنفسه أو بثقة معتمد وشده وختمه
احتياطًا ليحصل الأمن من توهم تغييره، هذه في القوة والصحة
كالمناولة المقترنة بالإجازة كما مشى عليه المؤلف حيث قال:
ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان،
لكن قد رجح قوم منهم الخطيب المناولة عليها لحصول المشافهة
فيها بالإذن دون المكاتبة، وهذا وإن كان مرجحًا فالمكاتبة
أيضًا تترجح بكون الكتابة لأجل الطالب، وإذا أدى المكاتب
ما تحمله من ذلك فبأي صيغة يؤدّي؟ جوّز قوم منهم الليث بن
سعد ومنصور بن المعتمر إطلاق أخبرنا وحدّثنا، والجمهور على
اشتراط التقييد بالكتابة فيقول: حدّثنا أو أخبرنا فلان
مكاتبة أو كتابة أو نحوهما، فإن عرت الكتابة عن الإجازة
فالمشهور تسويغ الرواية بها.
(وقال أنس) وللأصيلي أنس بن مالك كما هو موصول عند المؤلف
في حديث طويل في فضائل القرآن (نسخ) أي كتب (عثمان
المصاحف) أي أمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد
بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها.
وللأصيلي عثمان بن عفان وهو أحد العشرة المتوفى شهيد الدار
يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين
وهو ابن تسعين سنة، وكانت خلافته اثنتي عشر سنة رضي الله
عنه. (فبعث بها) أي أرسل عثمان بالمصاحف (إلى الآفاق)
مصحفًا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى
البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وأمسك
بالمدينة واحدًا. والمشهور أنها كانت خمسة. وقال الداني
أكثر الروايات على
(1/162)
أنها أربعة. قلت: وفيما جمعته في فنون
القراءات الأربع عشرة مزيد لذلك فليراجع.
ودلالة هذا الحديث على تجويز الرواية بالمكاتبة بيِّن غير
خفي، لأن عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف
ومخالفة ما عداها. قال ابن المنير: والمستفاد من بعثه
المصاحف إنما هو ثبوت إسناد صورة المكتوب فيها إلى عثمان
لا أصل ثبوت القرآن فإنه متواتر عندهم.
(ورأى عبد الله بن عمر) بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد
الرحمن القرشي المدني العدوي، المتوفى سنة إحدى وسبعين
ومائة، أو هو عمرو بن العاص، وبالأوّل جزم الكرماني وغيره
وهو موافق لجميع نسخ البخاري حيث ضمت العين من عمر وسقطت
الواو، وبالثاني قال الحافظ ابن حجر معلّلاً بقرينة تقديمه
في الذكر على يحيى بن سعيد لأن يحيى أكبر من العمري، وبأنه
وجد في كتاب الوصية لابن مندة من طريق البخاري بسند صحيح
إلى أبي عبد الله الحبلي بضم المهملة والموحدة أنه أتى عبد
الله بكتاب فيه أحاديث فقال: انظر هذا الكتاب فما عرفته
منه اتركه وما لم تعرفه امحه. قال: وعبد الله يحتمل أن
يكون ابن عمر بن الخطاب، فإن الحبلي سمع منه، ويحتمل أن
يكون ابن عمرو بن العاص فإن الحبلي مشهور بالرواية عنه.
وتعقبه العيني بأن التقديم لا يستلزم التعيين، فمن ادّعى
ذلك فعليه بيان اللازمة، وبأن قول الحبلي أنه أتى عبد الله
لا يدل بحسب الاصطلاح إلا على عبد الله بن مسعود، وبأن
عمرو بن العاص بالواو وهي ساقطة في جميع نسخ البخاري.
وأجاب في انتقاض الاعتراض بأنه لا يلزم من انتفاء الملازمة
أن لا تثبت الملازمة إذا
وجدت القرينة وهي أن التقديم يفيد الاهتمام والاهتمام
بالأسن الأوثق، وبأن الحصر الذي ادّعاه مردود، وقد صرّح
الأئمة بخلافه فقال الخطيب عن أهل الصنعة: إذا قال المصري
عن عبد الله فمراده عبد الله بن عمرو بن العاص، وإذا قال
الكوفي عبد الله فمراده ابن مسعود والحبلي مصري انتهى.
(و) كذا رأى (يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني (ومالك) إمام
دار الهجرة وللأصيلي مالك بن أنس (ذلك جائزًا) أي المناولة
والإجازة على حدّ قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِك}
[البقرة: 68] أي ما ذكر من الفارض والبكر فأشار بذلك إلى
المثنى. (واحتج بعض أهل الحجاز) هو شيخ المصنف الحميدي
(في) صحة (المناولة بحديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حيث كتب) أي أمر بالكتابة (لأمير) وفي رواية
الأصيلي إلى أمير (السرية) عبد الله بن جحش المجدّع أخي
زينب أم المؤمنين (كتابًا وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان
كذا وكذا) وفي رواية عروة أنه قال: إذا سرت يومين فافتح
الكتاب. وللكشميهني: لا نقرأ بنون الجمع مع حذف الضمير
ويلزم منه كون نبلغ بالنون أيضًا. (فلما بلغ ذلك المكان)
وهو نخلة بين مكة والطائف (قرأه على الناس وأخبرهم بأمر
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولم يذكره
المؤلف موصولاً. نعم وصله الطبراني بإسناد حسن وهو في سيرة
ابن إسحاق مرسلاً ورجاله ثقات ووجه الدلالة منه غير خفية
فإنه جاز له الإخبار بما في الكتاب بمجرد المناولة ففيه
المناولة ومعنى الكتابة.
64 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً
وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ،
فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا
قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ
قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.
[الحديث 64 - أطرافه في: 2939، 4424، 7264].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) بن
أبي أويس (قال حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعد) بسكون
العين سبط عبد الرحمن بن عوف (عن صالح) يعني ابن كيسان
الغفاري المدني (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن
عبيد الله) بالتصغير (ابن عبد الله) بالتكبير (ابن عتبة)
بضم العين المهملة وإسكان المثناة الفوقية وفتح الموحدة
(ابن مسعود أن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (أخبره):
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث
بكتابه رجلاً) أي بعث رجلاً متلبّسًا بكتابه مصاحبًا له
ورجلاً بالنصب على المفعولية وهو عبد الله بن حذافة السهمي
كما سمي في المغازي من هذا الكتاب (وأمره) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أن يدفعه إلى عظيم البحرين) المنذر
بن ساوى بالسين المهملة وبفتح الواو والبحرين بلفظ التثنية
بلد بين البصرة وعمان وعبر بالعظيم دون ملك لأنه لا ملك
ولا سلطنة للكفار (فدفعه) أي فذهب به إلى عظيم البحرين
فدفعه إليه ثم دفعه (عظيم البحرين إلى كسرى) بكسر الكاف
وفتحها
(1/163)
والكسر أفصح
وهو أبرويز بن هرمز بن أنو شروان وليس هو أنو شروان (فلما
قرأه)، وللحموي والمستملي قرأ بحذف الهاء أي قرأ كسرى
الكتاب (مزقه) أي خرقه. قال ابن شهاب الزهري: (فحسبت أن
ابن المسيب) بفتح المثناة التحتية وكسرها. قال السفاقسي:
وبالفتح رويناه (قال) ولما مزقه وبلغ النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك غضب (فدعا عليهم رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن) أي بأن
(يمزقوا) أي بالتمزيق فإن مصدرية (كل ممزق) بفتح الزاي في
الكلمتين أي يمزقوا غاية التمزيق، فسلط الله على كسرى ابنه
شيرويه فقتله بأن مزق بطنه سنة سبع فتمزق ملكه كل ممزق
وزال من جميع الأرض واضمحل بدعوته -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ووجه الدلالة من الحديث كما قال ابن
المنير: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يقرأ
الكتاب على رسوله، ولكن ناوله إياه وأجاز له أن يسند ما
فيه عنه، ويقول: هذا كتاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويلزم المبعوث إليه العمل بما فيه
وهذه ثمرة الإجازة في الحديث. وفي هذا الحديث من اللطائف
التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والإخبار، ورجاله كلهم
مدنيون وفيه تابعي عن تابعي، وأخرجه المؤلف في المغازي وفي
خبر الواحد وفي الجهاد، وهو من أفراده عن مسلم، وأخرجه
النسائي في السير.
65 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ
قال أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
كَتَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كِتَابًا -أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ- فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا،
فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ. كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي
يَدِهِ، فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: مَنْ قَالَ نَقْشُهُ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ أَنَسٌ. [الحديث 65 -
أطرافه في: 2938، 5870، 5872، 5874، 5875، 5877، 7162].
وبه قال (حدّثنا محمد بن مقاتل) بصيغة الفاعل من المقاتلة
بالقاف والمثناة الفوقية وكنيته (أبو الحسن) المتوفى آخر
سنة ست وعشرين ومائتين ولابن عساكر أبو الحسن المروزي
(قال: أخبرنا) وللأصيلي حدّثنا (عبد الله) بن المبارك لأنه
إذا أطلق عبد الله فيمن بعد الصحابة فالمراد هو (قال:
أخبرنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة السدوسي (عن
أنس بن مالك) وسقط لأبي ذر وابن عساكر ابن مالك رضي الله
عنه (قال):
(كتب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي كتب
الكاتب بأمره (كتابًا) إلى العجم أو إلى الروم كما صرّح
بهما في كتاب اللباس عند المؤلف (أو أراد أن يكتب) أي أراد
الكتابة فأن مصدرية وهو شك من الراوي أنس (فقيل له)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إنهم) أي الروم أو
العجم (لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا) خوفًا من كشف
أسرارهم ومختومًا نصب على الاستثناء لأنه من كلام غير
موجب، (فاتخذ) عليه الصلاة والسلام (خاتمًا من فضة نقشه)
بسكون القاف مبتدأ (محمد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مبتدأ وخبر والجملة خبر عن الأول،
والرابط كون الخبر عين المبتدأ كأنه قيل نقشه هذا المذكور
(كأني أنظر إلى بياضه) حال كونه (في يده) الكريمة وهو من
باب إطلاق الكل وإرادة الجزء وإلا فالخاتم ليس في اليد بل
في إصبعها وفيه القلب لأن الأصبع
في الخاتم لا الخاتم في الأصبع ومثله عرضت الناقة على
الحوض. قال شعبة: (فقلت لقتادة) ابن دعامة (من قال نقشه
محمد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال
أنس) قاله.
8 - باب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ،
وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا
(باب) حكم (من قعد حيث) بالبناء على الضم وموضعه نصب على
الظرفية (ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة) بضم الفاء فعلة
بمعنى المفعول كالقبضة بمعنى المقبوض (في الحلقة) بإسكان
اللام لا بفتحها على المشهور قال العسكري هي كل مستدير
خالي الوسط والجمع حلق بفتح الحاء واللام (فجلس فيها) أي
في الفرجة وفي رواية إليها، وإنما قال في الحلقة دون أن
يقول في المجلس ليطابق لفظ الحديث، وقال في الأوّل به
المجلس لأن الحكم فيهما واحد.
66 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ
أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ
مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ
اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَذَهَبَ وَاحِدٌ. قَالَ فَوَقَفَا عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ
فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ،
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا. فَلَمَّا فَرَغَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟
أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ تَعَالى فَآوَاهُ
اللَّهُ إلَيْهِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا
فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ
فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ». [الحديث 66 - طرفه في: 474].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس
(قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) إمام الأئمة (عن إسحاق بن
عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري البخاري ابن أخي أنس لأمه
التابعي المتوفى سنة اثنتين وثلاثين ومائة (أن أبا مرة)
بضم الميم وتشديد الراء اسمه يزيد (مولى عقيل بن أبي طالب)
بفتح العين (أخبره عن أبي واقد) بالقاف المكسورة والدال
المهملة اسمه الحرث بن مالك أو ابن عوف الصحابي (الليثي)
بالمثلثة البدري في قول بعضهم المتوفى بمكة سنة ثمان
وستين، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث، وقد صرح أبو
مرة في رواية النسائي من طريق يحيى بن أبي كثير عن إسحاق
فقال عن أبي مرة أن أبا واقد حدّثه.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينما)
بزيادة الميم (هو) مبتدأ خبره
(1/164)
(جالس) حال كونه (في المسجد) المدني
(والناس معه) جملة حالية (إذ أقبل) جواب بينما (ثلاثة نفر)
بالتحريك، ولم يسم واحد من الثلاثة أي ثلاثة رجال من
الطريق فدخلوا المسجد كما في حديث أنس، فإذا ثلاثة نفر
مارّين (فأقبل اثنان) منهم (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذهب واحد. قال: فوقفا على) مجلس
(رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أو على
هنا بمعنى عند قاله في الفتح. وتعقبه صاحب عمدة القاري
بأنها لم تجئ بمعناها، وزاد الترمذي والنسائي وأكثر
رواة الموطأ، فلما وقفا سلما (فأما) بفتح الهمزة وتشديد
الميم تفصيلية (أحدهما) بالرفع مبتدأ خبره (فرأى فرجة) بضم
الفاء (في الحلقة فجلس فيها) وأتى بالفاء في قوله فرأى
لتضمن أما معنى الشرط ولابن عساكر فرجة بفتح الفاء وهي
والضم لغتان وهي الخلل بين الشيئين قاله النووي فيما نقله
في عمدة القاري، (وأما الآخر) بفتح الخاء أي الثاني (فجلس
خلفهم) بالنصب على الظرفية (وأما الثالث فأدبر) حال كونه
(ذاهبًا) أي أدبر مستمرًا في ذهابه ولم يرجع، وإلا فأدبر
بمعنى مرّ ذاهبًا (فلما فرغ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مما كان مشتغلاً به من تعليم القرآن
أو العلم أو الذكر أو الخطبة أو نحو ذلك (قال ألا)
بالتخفيف حرف تنبيه والهمزة يحتمل أن تكون للاستفهام ولا
للنفي (أخبركم عن النفر الثلاثة) فقالوا: أخبرنا عنهم يا
رسول الله. فقال: (أما أحدهم فأوى) بقصر الهمزة أي لجأ
(إلى الله تعالى) أو انضم إلى مجلس الرسول -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فآواه الله إليه) بالمد أي جازاه
بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه أو يؤويه يوم
القيامة إلى ظل عرشه، فنسبة الإيواء إلى الله تعالى مجاز
لاستحالته في حقه تعالى، فالمراد لازمه وهو إرادة إيصال
الخير، ويسمى هذا المجاز مجاز المشاكلة والمقابلة. (وأما
الآخر) بفتح الخاء (فاستحيا) أي ترك المزاحمة حياء من
الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أصحابه
وعند الحاكم، ومضى الثاني قليلاً ثم جاء فجلس. قال في
الفتح: فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل
رفيقه الثالث، (فاستحيا الله منه) بأن رحمه ولم يعاقبه
فجازاه بمثل ما فعل، وهذا أيضًا من قبيل المشاكلة لأن
الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يذم به، وهذا
محُال على الله تعالى فيكون مجازًا عن ترك العقاب، حينئذ
فهو من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم. (وأما الأخر) وهو
الثالث (فأعرض) عن مجلس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يلتفت إليه بل ولّى مدبرًا (فأعرض
الله) تعالى (عنه) أي جازاه بأن سخط عليه، وهذا أيضًا من
قبيل المشاكلة لأن الإعراض هو الالتفات إلى جهة أخرى، وذلك
لا يليق بالباري تعالى فيكون مجازًا عن السخط والغضب،
ويحتمل أن هذا كان منافقًا فأطلع الله النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أمره، ورواة هذا الحديث
مدنيون وفيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والأخبار
وتابعي عن مثله. وأخرجه المؤلف في الصلاة، ومسلم والترمذي
في الاستئذان، والنسائي في العلم.
9 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رب
مبلغ) بفتح اللام لا بكسرها إليه عني يكون (أوعى) أي أفهم
لما أقوله (من سامع) مني، وقول مجرور بالإضافة، ورب حرف جر
يفيد التقليل لكنه كثر في الاستعمال للتكثير بحيث غلب حتى
صارت كأنها حقيقة فيه وتنفرد عن أحرف الجر بوجوب تصديرها
وتنكير مجرورها ونعته إن كان ظاهرًا وغلبة حذف معداها
ومضيه وبزيادتها في الإعراب دون المعنى ومحل مجرورها رفع
على الابتداء نحو قوله: هنا رب مبلغ فإنه وإن كان مجرورًا
بالإضافة لكنه مرفوع على الابتدائية محلاً وخبره يكون
المقدّر، وأوعى صفة للمجرور، وأما في نحو: ربّ رجل لقيت
فنصب على المفعولية في نحو: ربّ رجل صالح لقيت فرفع أو
نصب.
67 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ
قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ
ذَكَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ
-أَوْ بِزِمَامِهِ- قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟.
فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى
اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ النَّحْرِ؟
قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا؟ فَسَكَتْنَا
حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ،
فَقَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ
هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا.
لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ
عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ.
[الحديث 67 - أطرافه في: 105، 1741، 3197، 4406، 4662،
5550، 7078، 7447].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا بشر)
بكسر الموحدة وسكون الشين
المعجمة ابن المفضل بن لاحق الرّقاشي البصري، المتوفى سنة
تسع وثمانين ومائة قال: (حدّثنا ابن
عون) بالنون عبد الله بن أرطبان البصري الثقة الفاضل من
السادسة، المتوفى سنة إحدى وخمسين
ومائة. وقال ابن حجر: سنة خمسين
(1/165)
على الصحيح (عن ابن سيرين) محمد (عن عبد
الرحمن بن أبي
بكرة) بن الحرث الثقفي البصري أوّل من ولد في الإسلام
بالبصرة سنة أربع عشرة المتوفى سنة تسع
وتسعين (عن أبيه) أبي بكرة نفيع بضم النون وفتح الفاء.
(ذكر) أي أبو بكرة أي أنه كان يحدثهم فذكر (النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفي رواية ابن عساكر وأبي
الوقت والأصيلي عن أبيه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت وابن عساكر في
نسخة قال: ذكر بضم أوّله وكسر ثانيه النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرفع نائب عن الفاعل أي قال أبو
بكرة: حال كونه قد ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وعند النسائي عن أبي بكرة قال: وذكر النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قالوا: وللحال؛
ويجوز أن تكون للعطف على أن يكون المعطوف عليه محذوفًا
(قعد) عليه الصلاة والسلام (على بعيره) بمنى يوم النحر في
حجة الوداع، وإنما قعد عليه لحاجته إلى إسماع الناس،
فالنهي عن اتخاذ ظهورها منابر محمول على ما إذا لم تدع
الحاجة إليه (وأمسك إنسان بخطامه) بكسر الخاء (أو بزمامه)
وهما بمعنى، وإنما شك الراوي في اللفظ الذي سمعه وهو الخيط
الذي تشد فيه الحلقة التي تسمى البرة بضم الموحدة وتخفيف
الراء المفتوحة ثم يشد في طرفه المقود والإنسان الممسك هنا
هو أبو بكرة لرواية الإسماعيلي الحديث بسنده إلى أبي بكرة.
قال: خطب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
على راحلته وأمسكت أنا قال بخطامها أو زمامها، أو كان
الممسك بلالاً لرواية النسائي عن أم الحصين قالت: حججت
فرأيت بلالاً يقود بخطام راحلة النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو عمرو بن خارجة لما في السنن من
حديثه قال: كنت آخذًا بزمام ناقته عليه الصلاة والسلام،
وفائدة إمساك الزمام صون البعير عن الاضطراب والإزعاج
لراكبه ثم (قال) عليه الصلاة والسلام، وفي رواية أبوي ذر
والوقت والأصيلي فقال: (أي يوم هذا) برفع أي والجملة
وقعت مقول القول، (فسكتنا) عطف على قال (حتى ظننا أنه
سيسميه سوى اسمه قال: أليس) هو (النحر؟ قلنا) وفي رواية
أبي الوقت فقلنا: (بلى) حرف يختص بالنفي ويفيد إبطاله وهو
هنا مقول القول أقيم مقام الجملة التي هي مقول القول (قال)
عليه الصلاة والسلام: (فأيّ شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه
سيسمّيه بغير اسمه. فقال) عليه الصلاة والسلام، ولأبي
الوقت وابن عساكر قال: (أليس بذي الحجة) بكسر الحاء كما في
الصحاح، وقال الزركشي: هو المشهور وأباه قوم، وقال القزاز:
الأشهر فيه الفتح (قلنا بلى) وقد سقط من رواية الحموي
والمستملي والأصيلي السؤال عن الشهر، والجواب الذي قبله
ولفظهم أي يوم هذا فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه.
قال: أليس بذي الحجة وتوجيهه ظاهر وهو من إطلاق الكل على
البعض، وفي رواية كريمة فأيّ بلد هذا فسكتنا حتى ظننا أنه
سيسميه بغير اسمه. قال: أليس بمكة، وفي رواية الكشميهني
وكريمة بالسؤال عن الشهر، والجواب الذي قبله كمسلم وغيره
مع السؤال عن البلد والثلاثة ثابتة عند المؤلف في الأضاحي
والحج. (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فإن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في
شهركم هذا في بلدكم هذا) أي: فإن سفك دمائكم وأخذ أموالكم
وثلب أعراضكم، لأن الذوات لا تحرم فيه فيقدر لكل ما يناسبه
كذا قاله الزركشي والبرماوي والعيني والحافظ ابن حجر، وفي
إطلاقهم هذا اللفظ نظر لأن سفك الدم وأخذ المال وثلب العرض
إنما يحرم إذا كان بغير حق، فالإفصاح به متعيّن، والأولى
كما أفاده في مصابيح الجامع أن يقدر في الثلاثة كلمة واحدة
وهي لفظة انتهاك التي موضوعها تناول الشيء بغير حق كما نص
عليه القاضي، فكأنه قال: فإن انتهاك دمائكم وأموالكم
وأعراضكم ولا حاجة إلى تقديره مع كل واحد من الثلاثة لصحة
انسحابه على الجميع وعدم احتياجه إلى التقييد بغير
الحقيقة. والأعراض جمع عرض بكسر العين وهو موضع المدح
والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه، وشبه
الدماء والأموال والأعراض
(1/166)
في الحرمة باليوم والشهر والبلد لاشتهار
الحرمة فيها عندهم، وإلاّ فالمشبه إنما يكون دون المشبه
به، ولهذا قدّم السؤال عنها مع شهرتها لأن تحريمها أثبت في
نفوسهم، إذ هي عادة سلفهم وتحريم الشرع طارئ، وحينئذ فإنما
شبه الشيء بما هو أعلى منه باعتبار ما هو مقرر عندهم
(ليبلغ الشاهد) أي الحاضر في المجلس (الغائب) عنه ولام
ليبلغ مكسورة فعل أمر ظاهره الوجوب وكسرت غينه لالتقاء
الساكنين، والمراد تبليغ القول المذكور أو جميع الأحكام
(فإن الشاهد عسى أن يبلغ من) أي الذي (هو أوعى له) أي
للحديث (منه) صلة لأفعل التفضيل وفصل بينهما بله للتوسع في
الظرف، كما يفصل بين المضاف والمضاف إليه كقراءة ابن عامر
زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم بضم الزاي ورفع
اللام ونصب الدال وخفض الهمزة، والفاصل غير أجنبي. واستنبط
من الحديث أن حامل الحديث يؤخذ عنه وإن كان جاهلاً بمعناه
وهو مأجور بتبليغه محسوب في زمرة أهل العلم. وفي هذا
الحديث التحديث والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وأخرجه
المؤلف في الحج والتفسير والفتن وبدء الخلق، ومسلم في
الديّات، والنسائي في الحج والعلم.
10 - باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ} فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ
وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ،
وَرَّثُوا الْعِلْمَ، مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ
وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا
سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ
جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ} وَقَالَ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ
الْعَالِمُونَ}. {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. وَقَالَ:
{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ}. وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا
يُفَقِّهْهُ». وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ
عَلَى هَذِهِ -وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ- ثُمَّ ظَنَنْتُ
أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ
تُجِيزُوا عَلَىَّ لأَنْفَذْتُهَا. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) حُكَمَاءَ فُقَهَاءَ
عُلَمَاءَ. وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي
النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ.
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط في رواية الأصيلي (العلم قبل
القول والعمل) لتقدمه بالذات عليهما لأنه شرط في صحتهما إذ
إنه مصحح للنيّة المصححة للعمل، فنسبه المؤلف على مكانة
العلم خوفًا من أن يسبق إلى الذهن من قولهم لا ينفع العلم
إلا بالعمل توهين أمر العلم والتساهل في طلبه (لقول الله
تعالى) وللأصيلي عز وجل {فاعلم} أي يا محمد (أنه لا إله
إلاّ الله فبدأ) تعالى (بالعلم) أوّلاً حيث قال: فاعلم ثم
قال: واستغفر إشارة إلى القول والعمل، وهذا وإن كان خطابًا
له عليه الصلاة والسلام فهو يتناول أمته أو الأمر للدوام
والثبات كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}
[الأحزاب: 1] أي دُم على التقوى، (وأن العلماء هم ورثة
الأنبياء) بفتح همزة أن عطفًا على سابقه أو بكسرها على
الحكاية (ورثوا) بتشديد الراء المفتوحة أي الأنبياء أو
بالتخفيف مع الكسر أي العلماء ورثوا (العلم من أخذه أخذ)
من ميراث النبوّة (بحظ وافر) أي بنصيب كامل، وهذا كله قطعة
من حديث عند أبي داود والترمذي وابن حبّان والحاكم مصححًا
من حديث أبي الدرداء، وضعفه غيرهم بالاضطراب في سنده، لكن
له شواهد يتقوّى بها ومناسبته للترجمة من جهة أن الوارث
قائم مقام المورث فله حكمه فيما قام مقامه فيه. (ومن سلك
طريقًا) حال كونه (يطلب به) أي السالك (علمًا سهل الله له
طريقًا) أي في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفّقه للأعمال
الصالحة الموصلة (إلى الجنة) أو هو بشارة بتسهيل العلم على
طالبه لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة، ونكر علمًا
كطريقًا ليندرج فيه القليل والكثير وليتناول أنواع الطرق
الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية. وهذه الجملة أخرجها
مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح والترمذي وقال: حسن،
وإنما لم يقل صحيح لتدليس الأعمش، لكن في رواية مسلم عن
الأعمش حدّثنا أبو صالح فانتفت تهمة تدليسه. وفي مسند
الفردوس بسنده إلى سعيد بن جبير قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "ارحموا طالب العلم
فإنه متعوب البدن لولا أنه يأخذ بالعجب لصافحته الملائكة
معاينة ولكن يأخذ بالعجب ويريد أن يقهر من هو أعلم منه".
(وقال) الله (جل ذكره) وفي رواية جل وعز: {إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّه} أي يخافه {مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
[فاطر: 28] الذين علموا قدرته وسلطانه، فمن كان أعلم كان
أخشى لله، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أخشاكم لله
وأتقاكم له". (وقال) تعالى: {وما
يعقلها} أي الأمثال المضروبة وحسنها وفائدتها {إِلَّا
الْعَالِمُون} [العنكبوت: 43] الذين يعقلون عن الله
فيتدبرون الأشياء على ما ينبغي. وقال تعالى حكاية عن قول
الكفار حين دخولهم النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ} أيّ كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش
اعتمادًا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات {أَوْ نَعْقِلُ}
فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين {مَا كُنَّا فِي
أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] أي في عدادهم وفي
جملتهم. (وقال) تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] قال
القاضي ناصر الدين
(1/167)
رحمه الله تعالى نفي لاستواء الفريقين
باعتبار القوة العلمية بعد نفيها باعتبار القوّة العملية
على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم، وقيل: تقرير للأوّل على
سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي
القانتون والعاصون.
(وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما
وصله المؤلف بعد بابين (من يرد الله به خيرًا يفقهه) في
الدين، وللمستملي يفهمه بالهاء المشددة المكسورة بعدها
ميم، وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبي عاصم في كتاب العلم بإسناد
حسن والتفقّه هو التفهّم، (وإنما العلم بالتعلم) بضم اللام
المشددة على الصواب، وليس هو من كلام المؤلف، فقد رواه ابن
أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية مرفوعًا وأبو نعيم
الأصفهاني في رياض المتعلمين من حديث أبي الدرداء مرفوعًا:
إنما العلم بالتعلّم وإنما الحلم بالتحلّم ومن يتحرّ الخير
يعطه، وفي بعض النسخ وهو في أصل فرع اليونينية بالتعليم
بكسر اللام وبالمثناة التحتية وفي هامشها بالتعلم بضم
اللام قال: وهو الصواب.
(وقال أبو ذر) جندب بن جنادة فيما وصله الدارمي في مسنده
وغيره من حديث أبي مرثد لما قال له رجل والناس مجتمعون
عليه عند الجمرة الوسطى يستفتونه: ألم تنه عن الفتيا وكان
الذي منعه عثمان لاختلاف حصل بينه وبين معاوية بالشام في
تأويل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة}
[التوبة: 34] فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصة. وقال
أبو ذر: نزلت فينا وفيهم، وأدّى ذلك إلى انتقال أبي ذر عن
المدينة إلى الربذة (لو وضعتم الصمصامة) بالمهملتين الأولى
مفتوحة أي السيف الصارم الذي لا ينثني أو الذي له حد واحد
(على هذه وأشار إلى قفاه) كذا في فرع اليونينية وفي غيره
إلى القفا وهو مقصور يذكر ويؤنث، (ثم ظننت أني أنفذ) بضم
الهمزة وكسر الفاء آخره معجمة أي أمضي (كلمة سمعتها من
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبوي ذر
والوقت وابن عساكر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قبل أن تجيزوا) بضم المثناة الفوقية وكسر الجيم
وبعد التحتية زاي الصمصامة (علي) أي على قفاي، والمعنى قبل
أن تقطعوا رأسي (لأنفذتها) بفتح الهمزة والفاء وتسكين
الدّال المعجمة، وإنما فعل أبو ذر هذا حرصًا على تعليم
العلم طلبًا للثواب وهو يعظم مع حصول المشقة، واستشكل
الإتيانُ هنا بلو لأنها لامتناع الثاني لامتناع الأوّل،
وحينئذ فيكون المعنى انتفاء الإنفاذ لانتفاء الوضع وليس
المعنى عليه.
وأجيب بأن "لو" هنا لمجرد الشرط كان من غير أن يلاحظ
الامتناع أو المراد أن الإنفاذ حاصل على تقدير الوضع، فعلى
تقدير عدم الوضع حصوله أولى فهو مثل قوله عليه السلام: نعم
العبد صهيب
لو لم يخف الله لم يعصه، ولأبي الوقت هنا زيادة وهي قول
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليبلغ الشاهد
الغائب وتقدم قريبًا.
(وقال ابن عباس) رضي الله عنهما فيما وصله ابن أبي عاصم
والخطيب بإسناد حسن (كونوا ربانيين) أي (حلماء) جمع حليم
باللام (فقهاء) جمع فقيه، وفي رواية حكماء بالكاف جمع حكيم
(علماء) جمع عالم وهذا تفسير ابن عباس. وقال البيضاوي
والرباني المنسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني
والرقباني وهو الكامل في العلم والعمل. وقال البخاري حكاية
عن قول بعضهم.
(ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) أي
بجزئيات العلم قبل كلياته أو بفروعه قبل أصوله أو بوسائله
قبل مقاصده، أو ما وضح من مسائله قبل ما دقّ منها. ولم
يذكر المؤلف حديثًا موصولاً، ولعله اكتفى بما ذكره أو غير
ذلك من الاحتمالات والله أعلم.
11 - باب مَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ
كَىْ لاَ يَنْفِرُوا
(باب ما كان) أي باب كون (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يتخوّلهم) بالخاء المعجمة واللام أي يتعهد
أصحابه (بالموعظة) بالنصح والتذكير بالعواقب (والعلم) من
عطف العام على الخاص، وإنما عطفه لأنها منصوصة في الحديث
الآتي وذكر العلم استنباطًا (كي لا ينفروا) بفتح المثناة
التحتية وكسر الفاء أي يتباعدوا.
68 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَخَوَّلُنَا
بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ
عَلَيْنَا. [الحديث 68 - طرفاه في: 70، 6411].
وبالسند السابق إلى المؤلف قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) بن
واقد الفريابي الضبي، المتوفى في ربيع الأوّل سنة اثنتي
عشرة ومائتين وليس هو محمد بن يوسف البيكندي لأنه إذا أطلق
في هذا الكتاب محمد بن يوسف تعين الأوّل (قال: أخبرنا) وفي
رواية ابن عساكر والأصيلي حدّثنا (سفيان) الثوري
(1/168)
(عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي وائل)
شقيق بن سلمة الكوفي (عن ابن مسعود) عبد الله رضي الله عنه
أنه (قال):
(كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتخوّلنا)
بالخاء المعجمة واللام أي يتعهدنا، والمعنى كان يراعي
الأوقات في تذكيره ولا يدخل ذلك في كل يوم أو هي بالمهملة
أي يطلب أحوالنا التي ننشط منها للموعظة.
وصوّبها أبو عمرو الشيباني. وعن الأصمعي يتخوّننا بالمعجمة
والنون أي يتعهدنا (بالموعظة في الأيام) فكان يراعي
الأوقات في وعظنا فلا يفعله كل يوم (كراهة) بالنصب مفعول
له أي لأجل كراهة (السآمة) أي الملالة من الموعظة (علينا).
وفي رواية الأصيلي وأبي ذر عن الحموي كراهية بزيادة مثناة
تحتية وهما لغتان والجار والمجرور متعلق بالسآمة على تضمين
السآمة معنى المشقة أي كراهة المشقة
علينا، أو بتقدير الصفة أي كراهة السآمة الطارئة علينا، أو
الحال أي كراهة السآمة حال كونها طارئة علينا، أو بمحذوف
أي كراهة السآمة شفقة علينا.
69 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ
تُنَفِّرُوا». [اللحديث 69 - طرفه في: 6125].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة وتشديد
المعجمة ابن داود الملقب ببندار بضم الموحدة وسكون النون
وبالدال المهملة العبدي نسبة إلى عبد مضر بن كلاب البصري،
المتوفى في رجب سنة اثنتين وخمسين ومائتين (قال: حدّثنا
يحيى) وفي رواية أبي ذر والأصيلي وأبي الوقت (ابن سعيد) أي
الأحول القطان (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: حدّثني)
بالإفراد (أبو التياح) بفتح المثناة الفوقية وتشديد
التحتية آخره مهملة يزيد بن حميد بالتصغير الضبعي بضم
المعجمة وفتح الموحدة نسبة إلى ضبعة بن يزيد، المتوفى سنة
سبع وعشرين ومائة (عن أنس) أي ابن مالك كما في رواية
الأصيلي (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(يسروا) أمر من اليسر نقيض العسر (ولا تعسروا) نهي من عسر
تعسيرًا، واستشكل الإتيان بالثاني بعد الأوّل لأن الأمر
بالإتيان بالشيء نهي عن ضده. وأجيب بأنه إنما صرح باللازم
للتأكيد وبأنه لو اقتصر على الأول لصدق على من أتى به مرة
وأتى بالثاني غالب أوقاته، فلما قال: ولا تعسروا انتفى
التعسير في كل الأوقات من جميع الوجوه، (وبشروا) أمر من
البشارة وهي الإخبار بالخير نقيض النذارة (ولا تنفروا) نهي
من نفر بالتشديد أي بشروا الناس أو المؤمنين بفضل الله
وثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته، ولا تنفروهم بذكر التخويف
وأنواع الوعيد لا يقال كان المناسب أن يأتي بدل ولا تنفروا
ولا تنذروا لأنه نقيض التبشير لا التنفير لأنهم قالوا:
المقصود من الإنذار التنفير،
فصرّح بما هو المقصود منه ولم يقتصر على أحدهما كما لم
يقتصر في الأوّلين لعموم النكرة في سياق النفي، لأنه لا
يلزم من عدم التعسير ثبوت التيسير، ولا من عدم التنفير
ثبوت التبشير، فجمع بين هذه الألفاظ لثبوت هذه المعاني لا
سيما والمقام مقام إطناب، وفي قوله: بشروا بعد يسروا
الجناس الخطي.
12 - باب مَنْ جَعَلَ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا
مَعْلُومَة
هذا (باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة) بالجمع في
الأول والإفراد في الثاني أو بالجمع فيهما أو بالإفراد
فيهما، فالأوّل لكريمة، والثاني للكشميهني، والثالث
لغيرهما، وباب خبر مبتدأ محذوف ومضاف لتاليه.
70 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ:
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ
خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ
يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ
أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي
أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَخَوَّلُنَا بِهَا
مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) هو
عثمان بن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة بن عثمان بن خواستي
بضم الخاء المعجمة وبعد الألف سين مهملة ساكنة ثم مثناة
فوقية العبسي الكوفي، المتوفى لثلاث بقين من المحرم سنة
تسع وثلاثين ومائتين (قال: حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد
بن قرط العبسي الكوفي، المتوفى في سنة ثمان أو سبع وثمانين
ومائة (عن منصور) هو ابن المعتمر بن عبد الله المتوفى سنة
ثلاث أو اثنتين وثلاثين ومائة (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة
أنه (قال):
(كان عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه (يذكر الناس في كل
خميس فقال له) أي لابن مسعود (رجل). قال في فتح الباري:
يشبه أن يكون هو يزيد بن عبد الله النخعي (يا أبا عبد
الرحمن) وهو كنية ابن مسعود (لوددت) أي والله لأحببت (أنك)
بفتح الهمزة مفعول سابقه (ذكرتنا) بتشديد الكاف (كل) أي في
كل (يوم). قاله استحلاء للذكر لما وجد من بركته ونوره.
(قال) عبد الله: (أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف
(1/169)
تنبيه عند الكرماني واستفتاح بمنزلة ألا أو
بمعنى حقًا عند غيره (إنّه) بكسر الهمزة أو بفتحها على قول
إن أما بمعنى حقًّا والضمير للشأن (يمنعني من ذلك أني)
بفتح الهمزة فاعل يمنعني (أكره أن أُملكم) بضم الهمزة وكسر
الميم وتشديد اللام المفتوحة أي أكره إملالكم وضجركم
(وإني) بكسر الهمزة (أتخولكم) بالخاء المعجمة أي أتعهدكم
(بالموعظة كما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يتخوّلنا بها) أي بالموعظة في مظان القبول ولا
يكثر (مخافة السآمة علينا) إما أن يتعلق بالمخافة أو
بالسآمة. وزعم بعضهم أن الصواب يتحوّلنا بالحاء المهملة،
لكن الروايات الصحيحة بالخاء المعجمة.
13 - باب مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ
فِي الدِّينِ
هذا (باب) بالتنوين (من) أي الذي (يرد الله به خيرًا)
بالنصب مفعول يرد المجزوم لأنه فعل الشرط إذ الموصول متضمن
معنى الشرط وكسر لالتقاء الساكنين وجواب الشرط (يفقهه)
فالهاء ساكنة، وفي رواية للكشميهني زيادة (في الدين) وهي
ساقطة عند الباقين، والفقه في الأصل الفهم يقال: فقه الرجل
بالكسر يفقه فقهًا إذا فهم وعلم، وفقه بالضم إذا صار
فقيهًا عالمًا وجعله العرف خاصًّا بعلم الشريعة ومخصصًا
بعلم الفروع وإنما خصّ علم الشريعة بالفقه لأنه علم مستنبط
بالقوانين والأدلة والأقيسة والنظر الدقيق بخلاف علم اللغة
والنحو وغيرهما.
روي: أن سليمان نزل على نبطية بالعراق فقال لها: هل هنا
مكان نظيف أصلي فيه؟ فقالت: طهّر قلبك وصلِّ حيث شئت.
فقال: فقهت وفطنت الحق، ولو قال: علمت لم يقع هذا الموقع،
ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين فقد حرم الخير.
71 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ
مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ
يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ.
وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي. وَلَنْ
تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ
لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ
اللَّهِ». [الحديث 71 - أطرافه في: 3116، 3641، 7312،
7460].
وبالسند السابق إلى المؤلف قال: (حدثنا سعيد بن عفير) بضم
العين المهملة وفتح الفاء وسكون المثناة التحتية آخره راء
المصري واسم أبيه كثير بمثلثة، وإنما نسبه المؤلف لجده
لشهرته به، المتوفى سنة ست وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا
ابن وهب) بسكون الهاء واسمه عبد الله بن مسلم القرشي
المصري الفهري الذي لم يكتب الإمام مالك لأحد الفقه إلا له
فيما قيل؛ المتوفى بمصر سنة سبع وتسعين ومائة لأربع بقين
من شعبان (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري
(قال: قال حميد بن عبد الرحمن) بن عوف وحاء حميد مضمومة،
وفي نسخة حدّثني بالإفراد حميد بن عبد الرحمن قال: (سمعت
معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب كاتب الوحي لرسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذا المناقب الجمة،
المتوفى في رجب سنة ستين وله من العمر ثمان وسبعون سنة،
وله في البخاري ثمانية أحاديث أي سمعت قوله حال كونه
(خطيبًا) حال كونه (يقول سمعت النبي) وفي رواية الأصيلي:
سمعت رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي
كلامه حال كونه (يقول):
(من يرد الله) عز وجل بضم المثناة التحتية وكسر الراء من
الإرادة وهي صفة مخصصة لأحد طرفي الممكن المقدر بالوقوع
(به خيرًا) أي جميع الخيرات أو خيرًا عظيمًا (يفقهه) أي
يجعله فقيهًا (في الدين) والفقه لغة الفهم والحمل عليه هنا
أولى من الاصطلاحي ليعم فهم كل من علوم الدين، ومن موصول
فيه معنى الشرط كما مرّ، ونكر خيرًا ليفيد التعميم لأن
النكرة في سياق الشرط كهي في سياق النفي أو التنكير
للتعظيم إذ إن المقام يقتضيه، ولذا قدر كما مرّ بجميع
وعظيم (وإنما أنا قاسم) أي أقسم بينكم تبليغ الوحي من خير
تخصيص (والله يعطي) كل واحد منكم من الفهم على قدر ما
تعلقت به إرادته تعالى، فالتفاوت في أفهامكم منه سبحانه،
وقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر
الجلي ويسمعه آخر منهم أو من القرن الذي يليهم أو ممّن أتى
بعدهم فيستنبط منه مسائل كثيرة ({ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة: 4].
وقال الطيبي: الواو في قوله: وإنما أنا قاسم للحال من فاعل
يفقهه أو من مفعوله، فعلى الثاني فالمعنى أن الله تعالى
يعطي كلاًّ ممن أراد أن يفقهه استعدادًا لدرك المعاني على
قدره له، ثم
يلهمني بإلقاء ما هو لائق باستعداد كل واحد، وعلى الأوّل
فالمعنى أني ألقي على ما يسنح لي وأسوّي فيه ولا أرجح
بعضهم على بعض، والله يوفق كلاًّ منهم على ما أراد وشاء من
العطاء انتهى.
وقال غيره: المراد القسم المالي، لكن سياق الكلام يدل على
(1/170)
الأوّل إذ إنه أخبر من أراد به خيرًا يفقهه
في الدين، وظاهره يدل على الثاني لأن القسمة حقيقية في
الأموال. نعم يتوجه السؤال عن وجه المناسبة بين اللاحق
والسابق، وقد يجاب بأن مورد الحديث كان عند قسمة مال وخصص
عليه الصلاة والسلام بعضهم بزيادة لمقتض اقتضاه فتعرض بعض
من خفي عليه الحكمة، فردّ عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بقوله: "من يرد الله به خيرًا" الخ أي من أراد
الله به الخير يزيد له في فهمه في أمور الشرع فلا يتعرض
لأمر ليس على وفق خاطره إذ الأمر كله لله وهو الذي يعطي
ويمنع ويزيد وينقص، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قاسم بأمر الله ليس بمعطٍ حتى ينسب إليه
الزيادة والنقصان، واستشكل الحصر بإنما مع أنه عليه الصلاة
والسلام له صفات أخرى سوى قاسم. وأجيب بأن هذا ورد ردًّا
على من اعتقد أنه عليه الصلاة والسلام يعطي ويقسم فلا ينفي
إلا ما اعتقده السامع لا كل صفة من الصفات وفيه حذف
المفعول.
(ولن تزال هذه الأمة قائمة) بالنصب خبر تزال (على أمر
الله) على الدين الحق (لا يضرهم من) أي الذي (خالفهم حتى
يأتي أمر الله). وحتى غاية لقوله لن تزال، واستشكل بأن ما
بعد الغاية مخالف لما قبلها إذ يلزم منه أن لا تكون هذه
الأمة يوم القيامة على الحق. وأجيب: بأن المراد من قوله:
أمر الله التكاليف وهي معدومة فيها، أو المراد بالغاية هنا
تأكيد التأبيد على حدّ قوله تعالى: {مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْض} [هود: 107] أو هو غاية كقوله:
لا يضرهم لأنه أقرب، ويكون المعنى حتى يأتي بلاء الله
فيضرهم حينئذ فيكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها.
14 - باب الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ
(باب الفهم) بإسكان الهاء وفتحها لغتان (في العلم) أي
المعلوم أي إدراك المعلومات، وإلا فالفهم نفس العلم كما
فسّره به الجوهري. كذا قاله الحافظ ابن حجر والبرماوي
تبعًا للكرماني، وعورض بأن العلم عبارة عن الإدراك الجلي،
والفهم جودة الذهن، والذهن قوّة تقتنص بها الصور والمعاني
وتشمل الإدراكات العقلية والحسية. وقال الليث: يقال فهمت
الشيء إذا عقلته وعرفته، ويقال: فهم بتسكين الهاء وفتحها
وهذا قد فسر الفهم بالمعرفة وهو عين العلم.
72 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ:
قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ
أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ حَدِيثًا وَاحِدًا
قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ: «إِنَّ مِنَ
الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ.
فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا
أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هِيَ النَّخْلَةُ».
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا علي) وفي رواية أبي ذر بن
عبد الله أي المديني أعلم أهل زمانه بهذا الشأن، المتوفى
فيما قاله المؤلف لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة أربع
وثلاثين ومائتين قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال، قال
لي ابن أبي نجيح) بفتح النون هو عبد الله واسم أبيه يسار
القدري الموثق من أبي زرعة المتوفى سنة إحدى وثلاثين
ومائة. وفي مسند الحميدي عن سفيان حدّثني ابن أبي نجيح (عن
مجاهد) أي ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة وقيل جبير
مصغر المخزومي الإمام المتفق على جلالته وتوثيقه، المتوفى
سنة مائة وليس له في هذا الكتاب إلا هذا (قال: صحبت ابن
عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (إلى المدينة) النبوية (فلم
أسمعه) حال كونه (يحدّث عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا حديثًا واحدًا قال):
(كنا) ولغير أبي الوقت واحدًا كنا (عند النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأتي) بضم الهمزة (بجمار) بضم
الجيم وتشديد الميم وهو شحم النخيل (فقال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إن من الشجر شجرة مثلها كمثل) بفتح
الميم والمثلثة فيهما أي صفتها العجيبة كصفة (المسلم) قال
ابن عمر: (فأردت أن أقول) في جواب قول الرسول -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدّثوني ما هي كما صرّح به في
غير هذا الرواية (هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم فسكت)
تعظيمًا للأكابر (قال) وفي رواية أبي الوقت وابن عساكر
فقال (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هي
النخلة). فإن قلت: ما وجه مناسبة الحديث للترجمة؟ أجيب: من
كون ابن عمر لما ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- المسألة عند إحضار الجمار إليه فهم أن المسؤول
عنه النخلة بقرينة الإتيان بجمارها.
15 - باب الاِغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ
قَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه- تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ
تَسُودوا. قَالَ أَبُو عَبْدُ اللهِ: وَبَعْدَ أَنْ
تَسَوَّدُوا. وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي كِبَرِ سِنِّهِم.
هذا (باب الاغتباط في العلم والحكمة) من باب العطف
التفسيري، أو من باب عطف الخاص على العامّ. والاغتباط
بالغين المعجمة افتعال من الغبطة وهي تمنِّي مثل ما
للمغبوط من غير زواله عنه بخلاف الحسد فإنه مع تمني الزوال
عنه. (قال عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه) فيما رواه ابن
عبد البر بسند صحيح من حديث ابن سيرين عن
(1/171)
الأحنف عنه (تفقهوا قبل أن تسوَّدوا) بضم
المثناة الفوقية وتشديد الواو أي تصيروا سادة من ساد قومه
يسودهم سيادة. قال أبو عبيدة أي تفقهوا وأنتم صغار قبل أن
تصيروا سادة فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم فتبقوا
جهالاً، ولا وجه لمن خصّه بالتزوّج لأن السيادة أعم لأنها
قد تكون به وبغيره من الأشياء الشاغلة، ولا يخفى تكلف من
جعله من السواد في اللحية فيكون أمر الشباب بالتفقه قبل أن
تسودّ لحيته، والكهل قبل أن تتحوّل لحيته من السواد إلى
الشيب، وزاد الكشميهني في روايته (قال أبو عبد الله) أي
المؤلف وفي نسخة وقال محمد بن إسماعيل: (وبعد أن تسوَّدوا)
وإنما عقب المؤلف السابق بهذا اللاحق ليبين أن لا
مفهوم له خوف أن يفهم منه أن السيادة مانعة من التفقه،
وإنما أراد عمر رضي الله عنه أنه قد يكون سببًا للمنع لأن
الرئيس قد يمنعه الكبر والاحتشام أن يجلس مجلس المتعلمين.
(وقد تعلم أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في كبر سنّهم) أورده تأكيدًا للسابق، وليس قول
عمر رضي الله عنه هنا من تمام الترجمة، نعم قال البرماوي
وغير تبعًا للكرماني إلا أن يقال الاغتباط في الحكمة على
القضاء لا يكون إلا قبل كون الغابط قاضيًا. قالوا: ويؤوّل
حينئذ بمصدر، والتقدير باب الاغتباط وقول عمر انتهى. وتعقب
بأنه كيف يؤوّل الماضي بالمصدر وتأويل الفعل بالمصدر لا
يكون إلا بوجود أن المصدرية.
73 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
خَالِدٍ -عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ-
قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ
حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ
مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ
آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهْوَ يَقْضِي بِهَا
وَيُعَلِّمُهَا». [الحديث 73 - أطرافه في: 1409، 7141،
7316].
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) أبو بكر عبد الله بن الزبير بن
عيسى المكّي، المتوفى سنة تسع عشرة ومائتين (قال: حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال: حدّثني) بالإفراد وفي رواية أبوي ذر
والوقت حدّثنا (إسماعيل بن أبي خالد على غير ما) أي على
غير اللفظ الذي (حدّثناه الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
المسوق روايته عند المؤلف في التوحيد، والحاصل أن ابن
عيينة روى الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد وساق لفظه هنا،
وعن الزهري وساق لفظه في التوحيد، وسيأتي ما بين الروايتين
من التخالف في اللفظ إن شاء الله تعالى. (قال) أي إسماعيل
بن أبي خالد (سمعت قيس بن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي
(قال: سمعت عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه أي كلامه حال
كونه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
(لا حسد) جائز في شيء (إلا في) شأن (اثنتين) بتاء التأنيث
أي خصلتين، وللمؤلف في الاعتصام اثنين بغير تاء أي في
شيئين (رجل) بالرفع بتقدير إحدى الاثنتين خصلة رجل، فلما
حذف المضاف اكتسب المضاف إليه إعرابه والجر بدل من اثنين،
وأما على رواية تاء التأنيث فبدل أيضًا على تقدير حذف
المضاف أي خصلة رجل لأن الاثنتين معناه كما مرّ خصلتان
والنصب بتقدير أعني وهو رواية ابن ماجة (آتاه الله) بمدّ
الهمزة كاللاحقة أي أعطاه (مالاً فسلّط) بضم السين مع حذف
الهاء وهي لأبي ذر وعبر بسلط ليدل على قهر النفس المجبولة
على الشح، ولغير أبي ذر فسلطه (على هلكته) بفتح اللام
والكاف أي إهلاكه بأن أفناه كله (في الحق) لا في التبذير
ووجوه المكاره. (ورجل) بالحركات الثلاث كما مرّ (آتاه الله
الحكمة) القرآن أو كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح (فهو
يقضي بها) بين الناس (ويعلمها) لهم وأطلق الحسد وأراد به
الغبطة وحينئذ فهو من باب إطلاق المسبب على السبب، ويؤيده
ما عند المؤلف في فضائل القرآن من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه باللفظ فقال: ليتني أُوتيت مثل ما أُوتي فلان فعملت
بمثل ما يعمل، فلم يتمنّ السلب بل أن يكون
مثله أو الحسد على حقيقته، وخصّ منه المستثنى لإباحته كما
خصّ نوع من الكذب بالرخصة، وإن كانت جملته محظورة فالمعنى
هنا لا إباحة في شيء من الحسد إلا فيما كان هذا سبيله أي
لا حسد محمود إلا في هذين، فالاستثناء على الأوّل من غير
الجنس، وعلى الثاني منه كذا قرره الزركشي والبرماوي
والكرماني والعيني. وتعقبه البدر الدماميني بأن الاستثناء
متصل على الأوّل قطعًا، وأمّا على الثاني فإنه يلزم على
إباحة الحسد في الاثنتين كما صرح به، والحسد الحقيقي وهو
كما تقرر تمنّي زوال نعمة المحسود عنه وصيرورتها إلى
الحاسد لا يباح أصلاً، فكيف يباح تمنّي زوال نعمة الله
(1/172)
تعالى عن المسلمين القائمين بحق الله فيها؟
انتهى.
16 - باب مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ
تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)
(باب ما ذكر في ذهاب موسى) بن عمران زاد الأصيلي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) المتوفى وعمره مائة وستون
سنة فيما قاله الفربري في التيه فى سابع آذار لمضي ألف سنة
وستمائة وعشرين سنة من الطوفان (في البحر إلى الخضر)
عليهما السلام بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، وقد تسكن
الضاد مع كسر الخاء وفتحهما، وكنيته أبو العباس. واختلف في
اسمه كأبيه وهل هو نبي أو رسول أو ملك؟ وهل هو حيّ أو ميت؟
فقال ابن قتيبة: اسمه بليا بفتح الموحدة وسكون اللام
وبمثناة تحتية ابن ملكان بفتح الميم وسكون اللام، وقيل:
إنه ابن فرعون صاحب موسى وهو غريب جدًّا، وقيل: ابن مالك
وهو أخو إلياس، وقيل ابن آدم لصلبه رواه ابن عساكر بإسناده
إلى الدارقطني. والصحيح أنه نبي معمر محجوب عن الأبصار
وأنه باقٍ إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة وعليه
الجماهير واتفاق الصوفية وإجماع كثير من الصالحين، وأنكر
جماعة حياته منهم: المؤلف وابن المبارك والحربي وابن
الجوزي، ويأتي ما في ذلك من المباحث إن شاء الله تعالى،
وظاهر التبويب أن موسى عليه الصلاة والسلام ركب البحر لما
توجه في طلب الخضر واستشكل فإن الثابت عند المصنف وغيره
أنه إنما ذهب في البر وركب البحر في السفينة مع الخضر بعد
اجتماعهما. وأجيب: بأن مقصود الذهاب إنما حصل بتمام القصة،
ومن تمامها أنه ركب مع الخضر البحر فأطلق على جميعها
ذهابًا مجازًا من إطلاق اسم الكل على البعض، أو من قبيل
تسمية السبب باسم ما تسبب عنه. وعند عبد بن حميد عن أبي
العالية أن موسى التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر،
ولا ريب أن التوصل إلى جزيرة البحر لا يقع إلا بسلوك البحر
غالبًا، وعنده من طريق الربيع بن أنس قال: انجاب الماء عن
مسلك الحوت فصار طاقة مفتوحة فدخلها موسى على إثر الحوت
حتى انتهى إلى الخضر، فهذا يوضح أنه ركب البحر إليه، وهذان
الأثران الموقوفان رجالهما ثقات.
(و) باب (قوله تعالى {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ
تُعَلِّمَن}) أي على شرط أن تعلمني وهو في موضع الحال من
الكاف (الآية) بالنصب بتقدير، فذكر على المفعولية وزاد
الأصيلي في روايته باقي الآية وهو
قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] أي علمًا ذا
رشد وهو إصابة الخير، وقرأ يعقوب وأبو عمرو والحسن
واليزيدي بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون
الشين، وهما لغتان كالبخل والبخل وهو مفعول تعلمني ومفعول
علمت العائد محذوف، وكلاهما منقول من علم الذي له مفعول
واحد، ويجوز أن يكون علة لأتبعك أو مصدرًا بإضمار فعله،
ولا ينافي نبوّته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم
يكن شرطًا في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم
ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا
مطلقًا، وكأنه راعى في ذلك غاية الأدب والتواضع فاستجهل
نفسه واستأذن أن يكون تابعًا له وسأل منه أن يرشده وينعم
عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه قاله البيضاوي.
74 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ
قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَ
أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ
بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ
مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ. فَمَرَّ
بِهِمَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي
صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى
لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ،
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ: «بَيْنَمَا مُوسَى
فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إذ جَاءَهُ رَجُلٌ
فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ
مُوسَى: لاَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى
عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ،
فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ إِذَا
فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ.
وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. فَقَالَ
لِمُوسَى فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا
أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. قَالَ:
ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا
قَصَصًا، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا
الَّذِي قَصَّ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ».
[الحديث 74 - أطرافه في: 78، 122، 2267، 2728، 3278، 3400،
3401، 4725، 4726، 4727، 6672، 7478].
وبالسند إلى المؤلف قال (حدّثني) بالإفراد وللأصيلي وابن
عساكر حدّثنا (محمد بن غرير) بغين معجمة مضمومة وراء مكررة
الأولى منهما مفتوحة بينهما مثناة تحتية ساكنة ابن الوليد
القرشي (الزهري) المدني نزيل سمرقند (قال: حدّثنا يعقوب بن
إبراهيم) بن سعد القرشي المدني الزهري سكن بغداد وتوفي بها
في شوّال سنة ثمان ومائتين (قال: حدّثني) بالإفراد،
وللأصيلي وابن عساكر حدّثنا (أبي) إبراهيم بن سعد بن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن صالح) أي ابن كيسان بفتح
الكاف المدني التابعي، المتوفى وهو ابن مائة سنة ونيف
وستين سنة (عن ابن شهاب) الزهري أنه (حدث) وفي رواية
الحموي والمستملي حدّثه (أن عبيد الله) بالتصغير (ابن عبد
الله) بالتكبير ابن عتبة أحد الفقهاء السبعة (أخبره عن ابن
عباس) عبد الله رضي الله عنهما.
(أنه تمارى) أي تجادل وتنازع (هو) أي ابن عباس (والحرّ)
بضم الحاء المهملة وتشديد الراء (ابن قيس) بفتح القاف
وسكون المثناة التحتية آخره مهملة (ابن حصن) بكسر الحاء
وسكون الصاد المهملتين
(1/173)
الصحابي (الفزاري) بفتح الفاء والزاي ثم
الراء نسبة إلى فزارة بن شيبان (في صاحب موسى) عليه الصلاة
والسلام هل هو خضر أم غيره (فقال ابن عباس) رضي الله
عنهما: (هو خضر) بفتح أوّله وكسر ثانيه أو بكسر أوّله
وإسكان ثانيه، ولم يذكر مقالة الحرّ بن قيس، قال الحافظ
ابن حجر: ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق هذا الحديث.
(فمرّ بهما) أي بابن عباس والحرّ بن قيس (أُبيّ بن كعب) هو
ابن المنذر الأنصاري المتوفى سنة تسع عشرة أو عشرين أو
ثلاثين (فدعاه) أي ناداه (ابن عباس) رضي الله عنهما وفسره
السفاقسي فيما نقله عنه الزركشي وغيره بقيامه إليه أي ثم
سأله، وعلّل بأن ابن عباس كان آدب من أن يدعو أُبيًَّا مع
جلالته انتهى. وليس في دعائه أن يجلس عندهم لفصل الخصومة
ما يخل بالأدب، وقد روي فأمر بهما أُبيّ بن كعب فدعاه ابن
عباس فقال: يا أبا الطفيل هلمّ إلينا فهو صريح في المراد
(فقال: إني تماريت) أي اختلفت (أنا وصاحبي هذا) الحرّ بن
قيس (في صاحب موسى الذي سأل موسى) وللأصيلي زيادة -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (السبيل إلى لقيه) بلام
مضمومة فقاف مكسورة فمثناة تحتية مشدّدة (هل سمعت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يذكر شأنه
قال) أُبيّ (نعم سمعت رسول الله) وفي رواية ابن عساكر
النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في رواية
(يذكر شأنه) حال كونه (يقول بينما) بالميم (موسى) عليه
الصلاة والسلام (في ملأ) بالقصر أي في جماعة أو أشراف (من
بني إسرائيل) وهم أولاد يعقوب عليه السلام، وكان أولاده
اثني عشر وهم الأسباط وجميع بني إسرائيل منهم (جاءه رجل)
جواب بينما والفصيح في جوابه كما تقرر ترك إذ وإذا نعم
ثبتت إذ في رواية أبي ذر كما في فرع اليونينية كهي. قال
الحافظ ابن حجر: ولم أقف على تسمية الرجل (فقال: هل تعلم
أحدًا أعلم منك) بنصب أعلم صفة لأحدًا؟ (قال) وفي رواية
الأصيلي فقال (موسى لا) أعلم أحدًا أعلم مني، وفي التفسير
فسئل أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله عليه أي تنبيهًا
له وتعليمًا لمن بعده، ولئلا يقتدي به غيره في تزكية نفسه
فيهلك، ولا ريب أن في هذه القصة أبلغ ردّ على من في هذا
العصر حيث فاه بقوله: أنا أعلم خلق الله، وإنما ألجئ موسى
للخضر للتأديب لا للتعليم فافهم. (فأوحى الله) زاد
الأصيلي: عز وجل (إلى موسى بلى) بفتح اللام وألف كعلى
(عبدنا خضر) أعلم منك بما أعلمته من الغيوب وحوادث القدرة
مما لا تعلم الأنبياء منه إلا ما أعلموا به كما قال سيدهم
وصفوتهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم في هذا المقام:
"إني لا أعلم إلا ما علمني ربي" وإلاّ فلا ريب أن موسى
عليه الصلاة والسلام أعلم بوظائف النبوّة وأمور الشريعة
وسياسة الأمة. وفي رواية الكشميهني بل بإسكان اللام
والتقدير، فأوحى الله إليه لا تطلق النفي بل قل خضر، لكن
استشكل على هذه الرواية قوله عبدنا إذ إن المقام يقتضي أن
يقول عبد الله أو عبدك، وأجيب: بأنه ورد على سبيل الحكاية
عن الله تعالى، وأضافه تعالى إليه للتعظيم، (فسأل موسى)
عليه الصلاة والسلام (السبيل إليه) أي إلى الخضر فقال:
اللهمّ ادللني عليه (فجعل الله له) أي لأجله (الحوت آية)
أي علامة لمكان الخضر ولقيه (وقيل له) يا موسى (إذا فقدت
الحوت) بفتح القاف
(فارجع فإنك ستلقاه) وذلك أنه لما سأل موسى السبيل إليه.
قال الله تعالى: اطلبه على الساحل عند الصخرة. قال: يا رب
كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتًا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك،
فقيل أخذ سمكة مملوحة وقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني
(وكان) وللأصيلى وأبي الوقت وابن عساكر فكان (يتبع) بتشديد
المثناة الفوقية (أثر الحوت في البحر، فقال لموسى فتاه)
يوشع بن نون فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذلك سماه فتاه
(أرأيت) ما دهاني (إذ) أي حين (أوينا إلى الصخرة) يعني
الصخرة التي رقد عندها موسى عليه الصلاة والسلام، أو
الصخرة التي دون نهر الزيت، وذلك أن موسى لما رقد اضطرب
الحوت المشوي ووقع في البحر معجزة لموسى أو الخضر عليهما
السلام. وقيل: إن يوشع، حمل الخبز والحوت في المكتل ونزلا
ليلاً على شاطئ عين تسمى عين الحياة، فلما أصاب السمكة روح
الماء وبرده عاشت، وقيل:
(1/174)
توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على
الحوت فعاش ووقع في الماء. {فإني نسيت الحوت} فقدته أو
نسيت ذكره بما رأيت {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره}
قال البيضاوي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن أن أذكره
بدل من الضمير وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له
بوساوسه، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما
ضري بمشاهدة أمثالها عند موسى وألفها قلَّ اهتمامه بها،
ولعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى
جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه
إلى الشيطان هضمًا لنفسه. (قال) موسى (ذلك) أي فقدان الحوت
(ما كنا نبغي) أي الذي نطلبه علامة على وجدان المقصود
{فارتدّا على آثارهما} فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه
يقصّان (قصصًا) أي يتبعان آثارهما اتباعًا أو مقتصّين حتى
أتيا الصخرة (فوجدا خضرًا) عليه الصلاة والسلام (فكان من
شأنهما) أي الخضر وموسى (الذي قصّ الله عز وجل في كتابه)
من قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُك}
[الكهف: 66] إلى آخر ذلك والله أعلم.
17 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
اللهمّ علّمه) أي حفظه أو فهمه (الكتاب) أي القرآن،
والضمير يحتمل أن يكون لابن عباس لسبق ذكره في الحديث
السابق إشارة إلى أن ما وقع من غلبته للحرّ بن قيس إنما
كان بدعائه له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو
استعمل لفظ الحديث الآتي ترجمة إشارة إلى أن ذلك لا يختص
جوازه به، والضمير على هذا الغير المذكور، وهل يقال لمثل
هذا مما سبق في الباب سنده تعليق فيه خلاف.
75 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: «اللَّهُمَّ
عَلِّمْهُ الْكِتَابَ». [الحديث 75 - أطرافه في: 143،
3756، 7270].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو معمر) بميمين
مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة آخره راء عبد الله بن
عمرو بن أبي الحجاج البصري المقعد بضم الميم وفتح العين
المنقري الحافظ القدري
الموثق من ابن معين، المتوفى سنة تسع وعشرين ومائتين (قال:
حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري أبو
عبيدة البصرى، المتوفى فى المحرم سنة ثمانين ومائة. (قال
حدّثنا خالد) هو ابن مهران الحذاء ولم يكن حذاء، وإنما كان
يجلس إليهم التابعي الموثق من يحيى وأحمد، المتوفى سنة
إحدى وأربعين ومائة (عن عكرمة) أبي عبد الله المدني
المتكلم فيه لرأيه رأي الخوارج، نعم اعتمده البخاري في
أكثر ما يصح عنه من الروايات، المتوفى سنة خمس أو ست أو
سبع ومائة (عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما (قال):
(ضمني رسول الله) وفي رواية لأبي ذر النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى نفسه أو صدره كما في
رواية مسدّد عن عبد الوارث (وقال: اللهمَّ علّمه) أي عرفه
(الكتاب) بالنصب مفعول ثانٍ والأوّل الضمير أي القرآن،
والمراد تعليم لفظه باعتبار دلالته على معانيه، وفي رواية
عطاء عن ابن عباس عند الترمذي والنسائي أنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا له أن يؤتى الحكمة مرتين.
وفي رواية ابن عمر عند البغوي في معجم الصحابة مسح رأسه
وقال "اللهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل" وفي رواية
طاوس مسح رأسه وقال: "اللهمّ علّمه الحكمة وتأويل الكتاب"
وقد تحققت إجابته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فقد كان ابن عباس بحر العلم وحبر الأمة ورئيس المفسرين
وترجمان القرآن.
18 - باب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ؟
هذا (باب) بالتنوين (متى يصح سماع الصغير) وللكشميهني
الصبي، ومراده أن البلوغ ليس شرطًا في التحمل.
76 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى
حِمَارٍ أَتَانٍ -وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ
الاِحْتِلاَمَ- وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ
جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَىْ بَعْضِ الصَّفِّ،
وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ فَدَخَلْتُ الصَّفَّ،
فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَىَّ. [الحديث 76 - أطرافه في:
493، 861، 1857، 4412].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسماعيل بن أبي أُويس)
كما في رواية كريمة (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) هو ابن
أنس الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبيد الله) بتصغير
العبد (ابن عبد الله بن عتبة) بضم العين وسكون المثناة
الفوقية وفتح الموحدة (عن عبد الله بن عباس) رضي الله
عنهما (قال):
(أقبلت) حال كوني (راكبًا على حمار أتان) بفتح الهمزة
وبالمثناة الفوقية الأُنثى من الحمير، ولما كان الحمار
شاملاً للذكر والأُنثى خصّصه بقوله: أتان، وإنما لمن يقل
حمارة، ويكتفى عن تعميم حمار ثم تخصيصه لأن التاء تحتمل
الموحدة كذا قاله الكرماني، لكن تعقبه البرماوي بأن حمارًا
مفرد لا اسم
جنس جمعي كتمر. وقال العيني: الأحسن في الجواب أن الحمارة
قد تطلق على الفرس الهجين كما قاله الصغاني، فلو قال على
حمارة لربما كان يفهم أنه
(1/175)
أقبل على فرس هجين وليس الأمر كذلك، على أن
الجوهري حكى أن الحمارة في الأُنثى شاذة وأتان بالجر
والتنوين كسابقه على النعت أو بدل الغلط أو بدل بعض من كل،
لأن الحمار يطلق على الجنس فيشمل الذكر والأنثى أو بدل كل
من كل نحو شجرة زيتونة، ويروى بإضافة حمار إلى أتان أي
حمار هذا النوع وهو الأتان. قال البدر الدماميني، قال سراج
بن عبد الملك: كذا وجدته مضبوطًا في بعض الأصول، واستنكرها
السهيلي وقال: إنما يجوّزه من جوّز إضافة الشيء إلى نفسه
إذا اختلف اللفظان، وذكر ابن الأثير أن فائدة التنصيص على
كونها أُنثى الاستدلال بطريق الأولى على أن الأُنثى من بني
آدم لا تقطع الصلاة لأنهنّ أشرف، وعورض بأن العلة ليست
مجرد الأنوثة فقط بل الأُنوثة بقيد البشرية لأنها مظنة
الشهوة.
(وأنا يومئذ قد ناهزت) أي قاربت (الاحتلام ورسول الله -صلى
اله عليه وسلم- يصلي بمنى) بالصرف وعدمه والأجود الصرف
وكتابته بالألف وسميت بذلك لما يمنى أي يراق بها من الدماء
(إلى غير جدار) قال في فتح الباري: أي إلى غير سترة أصلاً
قاله الشافعي، وسياق الكلام يدل عليه لأن ابن عباس أورده
في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع
صلاته، ويؤيده رواية البزار بلفظ: والنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي المكتوبة ليس شيء يستره (فمررت
بين يدي) أي قدام (بعض الصف) فالتعبير باليد مجاز وإلا
فالصف لا يد له (وأرسلت الأتان ترتع) أي تأكل وترتع مرفوع،
والجملة في محل نصب على الحال من الأتان وهي حال مقدّرة
لأنه لم يرسلها في تلك الحال، وإنما أرسلها قبل مقدّرًا
كونها على تلك الحال، وجوّز ابن السيد فيه أن يريد لترتع،
فلما حذف الناصب رفع كقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ
اللَّهِ تَأْمُرُونِّي} [الزمر: 64] قاله البدر الدماميني،
وقيل ترتع تسرع في المشي والأوّل أصوب، ويدل عليه رواية
المؤلف في الحج نزلت عنها فرتعت (ودخلت الصف) وللكشميهني
فدخلت بالفاء في الصف (فلم ينكر) بفتح الكاف (ذلك على) أي
لم ينكره عليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ولا غيره، واستدل المؤلف بسياق هذا على ما ترجم
له، وهو أن التحمل لا يشترط فيه كمال الأهلية، وإنما يشترط
عند الأداء، ويلحق بالصبي في ذلك العبد والفاسق والكافر،
وأدخل المصنف هذا الحديث في ترجمة سماع الصبي وليس فيه
سماع لتنزيل عدم إنكار المرور منزلة قوله إنه جائز،
والمراد من الصغير غير البالغ، وذكره مع الصبي من باب
التوضيح والبيان.
77 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ
حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: عَقَلْتُ مِنَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَجَّةً
مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ
دَلْوٍ. [الحديث 77 - أطرافه في: 189، 839، 1185، 6354،
6422].
وبه قال (حدّثني) بالإفراد، وللأصيلي وأبي ذر وابن عساكر
حدّثنا (محمد بن يوسف) هو البيكندي كما جزم به البيهقي
وغيره، وقيل: هو الفريابي وردّ بأنه لا رواية له عن أبي
مسهر الآتي
(قال: حدّثنا أبو مسهر) بضم الميم وسكون السين المهملة
وكسر الهاء وآخره راء عبد الأعلى بن (قال: حدّثنا أبو
مسهر) بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء وآخره راء
عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي، المتوفى ببغداد سنة
ثمان عشرة ومائتين، وقد لقيه المؤلف وسمع منه شيئًا يسيرًا
لكنه حدّث عنه هنا بواسطة (قال: حدّثني) بالإفراد، ولابن
عساكر وأبي الوقت: حدّثنا (محمد بن حرب) بفتح الحاء وسكون
الراء المهملتين آخره موحدة الخولاني الحمصي، المتوفى سنة
أربع وسبعين ومائة، وقد شارك أبا مسهر في رواية هذا الحديث
عن محمد بن حرب هذا محمد بن المصفى كما عند النسائي وابن
جوصى عن سلمة بن الخليل وابن التقي كلاهما عن محمد بن حرب
كما في المدخل للبيهقي، فقد رواه ثلاثة غير أبي مسهر عن
ابن حرب فاندفع دعوى تفرد أبي مسهر به عنه (قال: حدّثني)
بالإفراد (الزبيدي) بضم الزاي وفتح الموحدة أبو الهزيل
محمد بن الوليد بن عامر الشامي الحمصي، المتوفى بالشام سنة
سبع أو ثمان وأربعين ومائة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن
شهاب (عن محمود بن الرييع) بفتح الراء وكسر الموحدة ابن
سراقة الأنصاري الخزرجي المدني، المتوفى ببيت المقدس سنة
تسع وتسعين عن ثلاث وتسعين سنة أنه (قال عقلت) بفتح القاف
من باب ضرب يضرب أي عرفت أو حفظت (من النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مجة) بالنصب على المفعولية
(مجها) من فيه أي رمى بها حال كونها (في وجهي وأنا ابن خمس
سنين) جملة من المبتدأ والخبر وقعت حالاً إما من الضمير
المرفوع في عقلت
(1/176)
أو من الياء في وجهي (من) ماء (دلو) كان من
بئرهم التي في دارهم، وكان فعله عليه الصلاة والسلام لذلك
على جهة المداعبة أو التبريك عليه كما كان -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعل مع أولاد الصحابة، ثم نقله لذلك
الفعل المنزل منزلة السماع وكونه سُنّة مقصودة دليل لأن
يقال لابن خمس سمع. وقد تعقب ابن أبي صفرة المؤلف في كونه
لم يذكر في هذه الترجمة حديث ابن الزبير في رؤيته إياه يوم
الخندق يختلف إلى بني قريظة، ففيه السماع منه، وكان سنّه
حينئذ ثلاث سنين أو أربعًا فهو أصغر من محمود، وليس في قصة
محمود ضبطه لسماع شيء فكان ذكر حديث ابن الزبير أولى بهذين
المعنيين. وأجاب ابن المنير كما قاله في فتح الباري
ومصابيح الجامع: بأن المؤلف إنما أراد نقل السنن النبوية
لا الأحوال الوجودية، ومحمود نقل سنة مقصودة في كون النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مج مجة في وجهه، بل
في مجرد رؤيته إياه فائدة شرعية ثبت بها كونه صحابيًّا،
وأما قصة ابن الزبير فليس فيها نقل سُنّة من السُّنن
النبوية حتى تدخل في هذا الباب، ولا يقال كما قاله الزركشي
إن قصة ابن الزبير تحتاج إلى ثبوت صحتها على شرط البخاري
أي حتى يتوجه الإيراد بأنه قد أخرجها في مناقب الزبير في
كتابه هذا، فنفي الورود حينئذ لا يخفى ما فيه. وفي هذا
الحديث من الفقه جواز إحضار الصبيان مجالس الحديث. واستدل
به أيضًا على أن تعيين وقت السماع خمس سنين، وعزاه عياض في
الإلماع لأهل الصنعة. وقال ابن الصباغ: وعليه قد استقر عمل
أهل الحديث المتأخرين فيكتبون لابن خمس فصاعدًا سمع ولمن
لم يبلغها حضر أو أحضر. وحكى القاضي عياض أن محمودًا حين
عقل المجة كان ابن أربع، ومن ثم صحح الأكثرون سماع من بلغ
أربعًا، لكن بالنسبة لابن العربي خاصة، أما ابن العجمي
فإذا بلغ سبعًا قال في فتح الباري: وليس في الحديث ما يدل
على تسميع من عمره
خمس سنين، بل الذي ينبغي في ذلك اعتبار الفهم، فمن فهم
الخطاب يسمع وإن كان دون خمس وإلاّ فلا.
19 - باب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَرَحَلَ
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ
هذا (باب الخروج في طلب العلم) أي السفر لأجل طلب العلم.
(ورحل جابر بن عبد الله) الأنصاري الصحابي رضي الله عنه
(مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس) بضم الهمزة مصغر الجهني،
المتوفى بالشام سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية رضي الله
عنه (في) أي لأجل (حديث واحد) ذكره المؤلف في المظالم آخر
هذا الصحيح بلفظ: ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس، سمعت
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "يحشر
الله العباد فيناديهم بصوت" الحديث. رواه أيضًا في الأدب
المفرد موصولاً، وفيه: أن جابرًا بلغه عنه حديث سمعه من
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاشترى
بعيرًا ثم شدّ رحله وسار إليه شهرًا حتى قدم عليه وسمعه
منه فذكره، ورواه كذلك أحمد وأبو يعلى. لا يقال إن المؤلف
نقض قاعدته حيث عبر هنا بقوله: ورحل بصيغة الجزم القتضية
للتصحيح. وفي باب المظالم بقوله: ويذكر بصيغة التمريض كما
ذكره الزركشي، وحكاه عنه صاحب المصابيح من غير تعرض له،
لأن المجزوم به هو الرحلة لا الحديث. قال في فتح الباري:
جزم بالارتحال لأن الإسناد حسن، واعتضد ولم يجزم بما ذكره
من المتن لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى
الرب، ويحتاج إلى تأويل فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طرق
مختلف فيها ولو اعتضدت انتهى.
78 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: قَالَ
الأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ
بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ
مُوسَى، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا
وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ
السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ
شَأْنَهُ؟ فَقَالَ أُبَىٌّ نَعَمْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ شَأْنَهُ
يَقُولُ: «بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَتَعْلَمُ
أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لاَ. فَأَوْحَى
اللَّهُ تَعَالى إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ،
فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ
لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ
الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَّبِعُ أَثَرَ
الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى
أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي
نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ
أَنْ أَذْكُرَهُ. قَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كُنَّا
نَبْغِي. فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا،
فَوَجَدَا خَضِرًا. فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ».
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو القاسم خالد بن خلّي)
بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام الخفيفة بعدها مثناة تحتية
مشددة لا بلام مشدّدة كما وقع للزركشي كما في فتح الباري
وهو سبق قلم أو خطأ من الناسخ انتهى. الكلاعي. وفي رواية
أبي ذر قاضي حمص (قال: حدّثنا محمد بن حرب) الخولاني
الحمصي (قال: قال الأوزاعي) وللأصيلي قال: حدّثنا الأوزاعي
بفتح الهمزة نسبة إلى الأوزاع قرية بقرب دمشق خارج باب
الفراديس، أو لبطن من حمير أو همدان بسكون الميم أو
الأوزاع القبائل التي فرقها أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو
بن يحمد أحد الأعلام من أتباع التابعين، المتوفى سنة سبع
وخمسين ومائة (أخبرنا الزهري) محمد بن مسلم (عن عبيد الله
بن عبد الله) بتصغير العبد الأوّل (ابن عتبة) بضم العين
(ابن مسعود عن ابن عباس) عبد الله
(1/177)
رضي الله عنهما (أنه تمارى) من التماري وهو
التجادل والتنازع (هو والحرّ بن قيس بن حصن الفزاري في
صاحب موسى) بن عمران عليه السلام هل هو خضر أم لا، وأتى
بضمير الفصل لأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل إلا
إذا أكد بالمنفصل وسقطت لفظة هو من رواية ابن عساكر فعطفه
على المرفوع المتصل بغير تأكيد ولا فصل وهو جائز عند
الكوفيين، وزاد في الرواية السابقة قال ابن عباس: هو خضر
(فمر بهما أُبيّ بن كعب) الأنصاري أقرأ هذه الأمة المقول
فيه من عمر سيد المسلمين (فدعاه ابن عباس) هلمّ إلينا
(فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل)
موسى (السبيل إلى لقيه) بضم اللام وكسر القاف وتشديد الياء
مصدر بمعنى اللقاء. يقال: لقيته لقاء بالمد ولقا بالقصر
ولقيّا بالتشديد (هل سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر شأنه) قصته؟ (فقال أُبيّ: نعم
سمعت النبي) وفي رواية أبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر شأنه يقول):
(بينما موسى) عليه السلام (في ملأ من بني إسرائيل) من ذرية
يعقوب بن إسحاق بن الخليل عليهم الصلاة والسلام، وعند مسلم
بينما موسى في قومه يذكرهم أيام الله (إذ جاءه رجل) لم يسم
(فقال) وفي رواية قال: (أتعلم) بهمزة الاستفهام وفي رواية
الأربعة تعلم بحذفها، وللكشميهني هل تعلم (أحدًا أعلم)
بنصبهما مفعولاً وصفة، وفي رواية الحموي أن أحدًا أعلم
(منك. قال موسى: لا) إنما نفى الأعلمية بالنظر لما في
اعتقاده (فأوحى الله تعالى إلى موسى: بلى) وللكشميهني
والحموي بل (عبدنا خضر) أعلم منك أي في شيء خاص، (فسأل)
موسى (السبيل إلى لقيه) وفي السابقة إليه بدل لقيه وزيادة
موسى (فجعل الله) تعالى (له الحوت آية) علامة دالّة على
مكانه (وقيل له: إذا فقدت الحوت) بفتح القاف (فارجع فإنك
ستلقاه، فكان موسى يتبع) بتشديد المثناة الفوقية (أثر
الحوت في البحر)، وللكشميهني والحموي في الماء (فقال فتى
موسى) يوشع (لموسى: أرأيت إذ أوينا) أي حين نزلنا {إلى
الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن
أذكره} وفي حرف عبد الله: وما أنسانيه أن أذكره إلا
الشيطان، وكانا تزوّدا حوتًا وخبزًا فكانا يصيبان منه عند
الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر
فانسرب الحوت فيه، وكان قد قيل لموسى تزوّد حوتًا، فإذا
فقدته وجدت الخضر فاتخذ سبيله في البحر مسلكًا ومذهبًا
(قال موسى: ذلك ما كنا نبغي) من الآية الدالّة
على لقي الخضر عليه اسلام {فارتدّا على آثارهما} يقصان
{قصصًا فوجدا خضرًا} على طنفسة على وجه الماء أو نائمًا
مسجى بثوب أو غير ذلك (فكان من شأنهما) أي من شأن موسى
والخضر (ما قصّ الله في كتابه) بسورة الكهف مما سيأتي
البحث فيه إن شاء الله تعالى بعون الله.
20 - باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ
هذا (باب فضل من علم) بتخفيف اللام المكسورة أي من صار
عالمًا (وعلم) غيره بفتحها مشددة.
79 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ:
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى
وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ
أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ
فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ
مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ
بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا،
وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ
قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً،
فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ
مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ
مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ
هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ». قَالَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا
طَائِفَةٌ قَيَّلَتِ الْمَاءَ قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ،
وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ.
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) بالمهملة
والمد المكنى بأبي كريب بضم الكاف مصغر كرب بالموحدة
وشهرته بكنيته أكثر من اسمه، المتوفى سنة ثمان وأربعين
ومائتين (قال: حدّثنا حماد بن أسامة) بضم الهمزة ابن يزيد
الهاشمي القرشي الكوفي، المتوفى سنة إحدى ومائتين وهو ابن
ثمانين سنة فيما قيل (عن بريد بن عبد الله) بضم الموحدة
وفتح الراء وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة (عن أبي
بردة) بضم الموحدة وإسكان الراء ابن أبي موسى الأشعري (عن
أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، ولم يقل
عن أبيه بدل قوله عن أبي موسى تفننًا في العبارة (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(مثل) بفتح الميم والمثلثة (ما بعثني الله به من الهدى
والعلم) بالجر عطفًا على الهدى من عطف المدلول على الدليل،
لأن الهدى هو الدلالة الموصلة للمقصد والعلم هو المدلول
وهو صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض، والمراد به هنا
الأدلة الشرعية (كمثل) بفتح الميم والمثلثة (الغيث) المطر
(الكثير أصاب)
(1/178)
الغيث (أرضًا) الجملة من الفعل والفاعل
والمفعول في موضع نصب على الحال بتقدير قد (فكان منها) أي
من الأرض أرض (نقية) بنون مفتوحة وقاف مكسورة ومثناة تحتية
مشددة أي طيبة (قبلت الماء) بفتح القاف وكسر الموحدة من
القبول (فانبتت الكلأ) بفتح الكاف واللام آخره مهموز مقصور
النبات يابسًا ورطبًا (والعشب) الرطب منه وهو نصب عطفًا
على المفعول (الكثير) صفة
للعشب فهو من ذكر الخاص بعد العام. وفي حاشية أصل أبي ذر
وهو عند الخطابي والحميدي ثغبة بمثلثة مفتوحة وغين معجمة
مكسورة، وقد تسكن بعدها باء موحدة خفيفة مفتوحة. وفي فرع
اليونينية ثغبة مضبب عليها وهي بضم المثلثة وتسكين الغين
وهو مستنقع الماء في الجبال والصخور كما قاله الخطابي، لكن
ردّه القاضي عياض وجزم بأنه تصحيف وقلب للتمثيل قال لأنه
إنما جعل هذا المثل فيما ينبت والثغاب لا تنبت، والذي
رويناه من طرق البخاري كلها بالنون مثل قوله في مسلم طائفة
طيبة قبلت الماء. (وكانت) وفي بعض النسخ وكان (منها أجادب)
بالجيم والدال المهملة جمع جدب بفتح الدال المهملة على غير
قياس ولغير الأصيلي أجاذب بالمعجمة، قال الأصيلي:
وبالمهملة هو الصواب أي لا تشرب ماء ولا تنبت (أمسكت الماء
فنفع الله بها) أي بالأجادب، وللأصيلي به (الناس) والضمير
المذكر للماء (فشربوا) من الماء (وسقوا) دوابهم وهو بفتح
السين (وزرعوا) ما يصلح للزرع، ولمسلم وكذا النسائي ورعوا
من الرعي، وضبط المازري أجاذب بالذال المعجمة وهمه فيه
القاضي عياض، ولأبي ذر إخاذات بهمزة مكسورة وخاء خفيفة
وذال معجمتين آخره مثناة فوقية قبلها ألف جمع إخّاذ وهي
الأرض التي تمسك الماء كالغدير. وعند الإسماعيلي أحارب
بحاء وراء مهملتين آخره موحدة. (وأصاب منها طائفة أخرى)
وللأصيلي وكريمة وأصابت أي أصابت طائفة أخرى ووقع كذلك
صريحًا عند النسائي (إنما هي قيعان) بكسر القاف جمع قاع
وهو أرض مستوية ملساء (لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ) بضم
المثناة الفوقية فيهما (فذلك) أي ما ذكر من الأقسام
الثلاثة (مثل) بفتح الميم والمثلثة (من فقه) بضم القاف وقد
تكسر أي صار فقيهًا (في دين الله ونفعه ما) وفي رواية أبي
الوقت وابن عساكر بما أي بالذي (بعثني الله) عز وجل (به
فعلم) ما جئت به (وعلم) غيره وهذا يكون على قسمين: الأوّل
العالم العامل المعلم وهو كالأرض الطيبة شربت فانتفعت في
نفسها وأنبتت فنفعت غيرها، والثاني الجامع للعلم المستغرق
زمانه فيه المعلم غيره لكنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه
فيما جمع، فهو كالأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس
به.
(ومثل) بفتح الميم والمثلثة (من لم يرفع بذلك رأسًا) أي
تكبر ولم يلتفت إليه من غاية تكبره وهو من دخل في الدين
ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، فهو كالأرض
السبخة التي لا تقبل الماء وتفسده على غيرها وأشار بقوله:
(ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) إلى من لم يدخل في
الدين أصلاً بل بلغه فكفر به وهو كالأرض الصماء الملساء
المستوية التي يمر عليها الماء فلا تنتفع به.
قال في المصابيح: وتشبيه الهدى والعلم بالغيث المذكور
تشبيه مفرد بمركب إذ الهدى مفرد وكذا العلم، والمشبه به
وهو غيث كثير أصاب أرضًا منها ما قبلت فأنبتت، ومنها ما
أمسكت خاصة، ومنها ما لم تنبت ولم تمسك مركب من عدة أمور
كما تراه وشبه من انتفع بالعلم ونفع به بأرض قبلت الماء
وأنبتت الكلأ والعشب، وهو تمثيل لأن وجه الشبه فيه هو
الهيئة الحاصلة من قبول المحل لما يرد عليه من الخير مع
ظهور أماراته وانتشارها على وجه عام الثمرة متعدي النفع،
ولا يخفى أن هذه الهيئة منتزعة من أمور متعددة، ويجوز أن
يشبه انتفاعه بقبول الأرض الماء ونفعه المتعدي
بإنباتها الكلأ والعشب، والأوّل أفحل وأجزل لأن في الهيئات
المركبات من الوقع في النفس ما ليس في المفردات في ذواتها
من غير نظر إلى تضامها ولا التفات إلى هيئتها الاجتماعية،
قال الشيخ عبد القاهر في قول القائل:
(1/179)
وكأنّ أجرام النجوم لوامعًا ... درر نشرن
على بساط أزرق
لو قلت: كان النجوم درر وكأن السماء بساط أزرق كان التشبيه
مقبولاً، لكن أين هو من التشبيه الذي يريك الهيئة التي
تملأ النواظر عجبًا وتستوقف العيون وتستنطق القلوب بذكر
الله من طوع النجوم مؤتلفة متفرقة في أديم السماء وهي
زرقاء زرقتها بحسب الرؤية صافية والنجوم تبرق وتلألأ في
أثناء تلك الزرقة؟ ومن لك بهذه الصورة إذا جعلت التشبيه
مفردًا، وقد وقع في الحديث أنه شبه من انتفع بالعلم في
خاصة نفسه ولم ينفع به أحدًا بأرض أمسكت الماء ولم تنبت
شيئًا، أو شبه انتفاعه المجرد بإمساك الأرض للماء مع عدم
إنباتها، وشبه من عدم فضيلتي النفع والانتفاع جميعًا بأرض
لم تمسك ماء أصلاً، أو شبه فوات ذلك له بعدم إمساكها
الماء، وهذه الحالات الثلاث مستوفية لأقسام الناس ففيه من
البديع التقسيم.
فإن قلت: ليس في الحديث تعرض إلى القسم الثاني، وذلك أنه
قال: فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به
فعلم وعلم وهذا القسم الأوّل، ثم قال: ومثل من لم يرفع
بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به وهذا هو القسم
الثالث، فأين الثاني؟ أجيب: فاحتمال أن يكون ذكر من
الأقسام أعلاها وأدناها وطوى ذكر ما بينهما لفهمه من أقسام
المشبه به المذكورة أوّلاً، ويحتمل أن يكون قوله نفعه الخ
صلة موصول محذوف معطوف على الوصول الأوّل أي: فذلك مثل من
فقه في دين الله، ومثل من نفعه كقول حسان رضي الله عنه:
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
أي: ومن يمدحه وينصره سواء، وعلى هذا فتكون الأقسام
الثلاثة مذكورة فمن فقه في دين الله هو الثاني، ومن نفعه
الله من ذلك فعلم وعلم والأوّل، ومن يرفع بذك رأسًا هو
الثالث، وفيه حينئذ لف ونشر غير مرتب انتهى.
وقال غيره: شبه عليه الصلاة والسلام ما جاء به من الدين
بالغيث العامّ الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا
كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت،
فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له
بالأراضى المختلفة التي ينزل يها الغيث. وهذا الحديث فيه
التحديث والعنعنة، ورواته كلهم كوفيون، وأخرجه المؤلف هنا
فقط، ومسلم في فضائله -صلى لله عليه وسلم-، والنسائي في
العلم.
(قال أبو عبد الله) أي البخاري، وفي رواية غير الأصيلي
وابن عساكر بحذف ذلك (قال إسحاق) بن إبراهيم بن مخلد بفتح
الميم وسكون الخاء وفتح اللام الحنظلي المروزي المشهور
بابن
راهويه، المتوفى بنيسابور سنة ثمان وثلاثين ومائتين وهذا
هو الظاهر لأنه إذا وقع في هذا الكتاب إسحاق غير منسوب فهو
كما قاله الجياني عن ابن السكن يكون ابن راهويه في روايته
عن أبي أسامة، (وكان منها طائفة قيلت الماء) بالمثناة
التحتية المشددة بدل قوله قبلت بالموحدة، وجزم الأصيلي
بأنها تصحيف من إسحاق وصوّبها غيره والمعنى شربت القيل وهو
شرب نصف النهار وزاد في رواية المستملي هنا (قاع) أي أن
قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع أرض (يعلوه الماء) ولا
يستقرّ فيه، (والصفصف المستوي من الأرض) هذا ليس في
الحديث، وإنما ذكره جريًا على عادته في الاعتناء بتفسير ما
يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وعند ابن
عساكر بعد قيلت الماء والصفصف المستوي من الأرض.
21 - باب رَفْعِ الْعِلْمِ، وَظُهُورِ الْجَهْلِ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ: لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَىْءٌ
مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ
(باب رفع العلم وظهور الجهل) الأوّل مستلزم للثاني وأتى به
للإيضاح (وقال ربيعة) الرأي بالهمزة الساكنة ابن أبي عبد
الرحمن المدني التابعي شيخ إمام الأئمة مالك، المتوفى
بالمدينة سنة ست وثلاثين ومائة، وإنما قيل له الرأي لكثرة
اشتغاله بالرأي والاجتهاد، ومقول قوله الموصول عند الخطيب
في جامعه والبيهقي في مدخله (لا ينبغي لأحد عنده شيء من
العلم) أي الفهم (أن يضيع نفسه) بترك الاشتغال أو بعدم
إفادته لأهله لئلا يموت العلم فيؤدي ذلك إلى رفع العلم
المستلزم لظهور الجهل، وفي رواية الأربعة يضيع نفسه بحذف
أن.
80 - حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ
أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ،
وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا». [الحديث 80 -
أطرافه في: 81، 5231، 5577، 6808].
وبالسند السابق إلى المؤلف قال: (حدّثنا عمران بن ميسرة)
ضد الميمنة المنقري
(1/180)
البصري، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين
(قال: حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان التميمي البصري
(عن أبي التيّاح) بفتح المثناة الفوقية وتشديد التحتية
آخره مهملة يزيد بن حميد الضبعي، المتوفى سنة ثمان وعشرين
ومائة (عن أنس) وللأصيلي زيادة ابن مالك أنه (قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن من أشراط الساعة) بفتح الهمزة أي علاماتها (أن يرفع
العلم) بموت حملته وقبض نقلته لا بمحوه من صدورهم، ويرفع
بضم أوّله، وعند النسائي من أشراط الساعة بحذف إن، وحينئذ
فيكون محل أن يرفع العلم رفعًا على الابتداء وخبره مقدّم
(و) أن (يثبت الجهل) بفتح المثناة التحتية من الثبوت
بالمثلثة وهو ضد النفي، وعند مسلم ويبث من البث بموحدة
فمثلثة وهو الظهور والفشوّ. (و) أن (يشرب) بضم المثناة
التحتية (الخمر) أي يكثر شربه. وفي النكاح من طريق هشام
عن قتادة ويكثر شرب الخمر فالمطلق محمول على المقيد خلافًا
لمن ذهب إلى أنه لا يجب حمله عليه، والاحتياط بالحمل هاهنا
أولى لأن حمل كلام النبوّة على أقوى محامله أقرب، فإن
السياق يفهم أن المراد بأشراط الساعة وقوع أشياء لم تكن
معهودة حين المقالة، فإذا ذكر شيئًا كان موجودًا عند
المقالة فحمله على أن المراد بجعله علامة أن يتصف بصفة
زائدة على ما كان موجودًا كالكثرة والشهرة أقرب، (و) أن
(يظهر) أي يفشو (الزنا) بالقصر على لغة أهل الحجاز وبها
جاء التنزيل وبالمد لأهل نجد والنسبة إلى الأوّل زنوي وإلى
الآخر زناوي، فوجود الأربع هو العلامة لوقوع الساعة.
81 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لاَ يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ
بَعْدِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ
أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ
الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ
حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ
الْوَاحِدُ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) بضم الميم وفتح السين والدال
المهملتين ابن مسرهد (قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان
(عن شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بفتح القاف ابن دعامة (عن
أنس) وللأصيلي ابن مالك (قال: لأحدثنكم) بفتح اللام أي
والله لأحدّثنكم ولذا أكد بالنون وبه صرح أبو عوانة عن
هشام عن قتادة (حديثًا لا يحدّثكم أحد بعدي) ولمسلم لا
يحدّث أحد بعدي بحذف المفعول، وللمؤلف من طريق هشام لا
يحدّثكم غيري وحمل على أنه قاله لأهل البصرة وقد كان هو
آخر من مات بها من الصحابة (سمعت رسول الله) وفي رواية
الأصيلي وابن عساكر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أي كلامه حال كونه (يقول):
(من) وللأصيلي وأبي ذر أن من (أشراط الساعة أن يقل العلم)
بكسر القاف من القلة وله في الحدود والنكاح أن يرفع العلم
وكذا لمسلم ولا تنافي بينهما إما لأن القلّة فيه معبّر بها
عن العدم. قال في الفتح: وهذا أليق لاتحاد المخرج أو ذلك
باعتبار زمانين مبدأ الاشتراط وانتهائه (و) أن (يظهر الجهل
و) أن (يظهر الزنا و) أن (تكثر النساء و) أن (يقل الرجال)
لكثرة القتل بسبب الفتن وبقلتهم مع كثرة النساء يظهر الجهل
والزنا ويرفع العلم لأن النساء حبائل الشيطان (حتى) أي إلى
أن (يكون لخمسين امرأة القيم الواحد) بالرفع صفة القيم وهو
من يقوم بأمرهن، وقال أبو عبد الله القرطبي في التذكرة:
يحتمل أن يراد بالقيم من يقوم عليهنّ سواء كنّ موطوءات أم
لا، ويحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي لا يبقى فيه من
يقول: الله الله فيتزوّج الواحد بغير عدد جهلاً بالحكم
الشرعي، وقال القيم: بأل إشعارًا بما هو معهود من كون
الرجال قوّامين على النساء، وهل المراد من قوله خمسين
امرأة حقيقة العدد أو المجاز عن الكثرة؟ ويؤيد الثاني ما
في حديث أبي موسى ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة.
22 - باب فَضْلِ الْعِلْمِ
هذا (باب فضل العلم) والباب السابق في أوّل كتاب العلم باب
فضيلة العلماء، والمراد هنا الزيادة أي ما فضل عنه وهناك
بمعنى الفضيلة وحينئذ فلا تكرار.
82 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ
ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَيْنَا أَنَا
نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي
لأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ
أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ» قَالُوا:
فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
«الْعِلْمَ». [الحديث 82 - أطرافه في: 3681، 7006، 7007،
7027، 7032].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا سعيد بن عفير) بضم العين
المهملة وفتح الفاء وسكون المثناة التحتية آخره راء (قال:
حدّثني) بالإفراد وفي رواية أبي ذر حدّثنا (الليث) بن سعد
إمام المصريين (قال: حدّثني) بالإفراد (عقيل) بضم العين
وفتح القاف وسكون المثناة التحتية ابن خالد الأيلي بفتح
الهمزة، وفي رواية أبي ذر عن عقيل، وفي فتح الباري
وللأصيلي وكريمة حدّثني الليث حدّثني عقيل (عن ابن شهاب)
(1/181)
محمد بن مسلم الزهري (عن حمزة) بالمهملة
والزاي (ابن عبد الله بن عمر) بن الخطاب المكنى بأبي عمارة
بضم العين القرشي العدوي المدني التابعي (أن ابن عمر) رضي
الله عنهما (قال: سمعت رسول الله) أي كلامه (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (قال) وفي رواية
أبي ذر والأصيلي وابن عساكر يقول:
(بينا) بغير ميم (أنا) مبتدأ وخبره (نائم أتيت) بضم الهمزة
وهو جواب بينا (بقدح لبن فشربت) أي من اللبن (حتى إني)
بكسر همزة إن لوقوعها بعد حتى الابتدائية أو فتحها على
جعلها جارّة (لا أرى) بفتح الهمزة من الرؤية (الري) بكسر
الراء وتشديد الياء كذا في الرواية، وزاد الجوهري حكاية
الفتح أيضًا، وقيل بالكسر الفعل وبالفتح المصدر (يخرج في
أظفاري) في محل نصب مفعول ثان لأرى إن قدرت الرؤية بمعنى
العلم أو حال إن قدرت بمعنى الإبصار، وفي رواية ابن عساكر
والحموي من أظفاري، وللمؤلف في التعبير من أطرافي، ويجوز
أن تكون في هنا بمعنى على. أي على أظفاري كقوله تعالى:
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي
عليها، ويكون بمعنى يظهر عليها، والظفر إما منشأ الخروج أو
ظرفه. وقال: لأرى بلفظ المضارع لاستحضار هذه الرؤية
للسامعين واللام فيه هي الداخلة في خبر إن للتأكيد كما في
قولك: إن زيد القائم أو هي لام جواب قسم محذوف ورد بأنه
ليس بصحيح فليس فيه قسم صريح ولا مقدر انتهى. وعبر بيخرج
المضارع موضع الماضي لاستحضار صورة الرؤية للسامعين وجعل
الري مرئيًّا تنزيلاً له منزلة الجسم، وإلاّ فالري لا يرى
فهو استعارة أصلية (ثم أعطيت فضلي) أي ما فضل من لبن القدح
الذي شربت منه (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه مفعول أعطيت
الثاني (قالوا) أي
الصحابة: (فما أوّلته) أي عبرته (يا رسول الله؟ قال)
أوّلته (العلم) بالنصب ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف أي
المؤوّل به العلم، ووجه تفسير اللبن بالعلم الاشتراك في
كثرة النفع بهما وكونهما سببًا لصلاح ذاك في الأشباح،
والآخر في الأرواح والفاء في فما أوّلته زائدة كهي في قوله
تعالى: {فَلْيَذُوقُوهُ} [ص: 57] فافهم ذلك.
23 - باب الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ
وَغَيْرِهَا
(باب الفتيا) بضم الفاء (وهو) أي العالم المفتي المجيب
المستفتي عن سؤاله (واقف) أي راكب (على الدابّة) التي
تركب، وفي بعض الروايات على ظهر الدابة (وغيرها) سواء كان
واقفًا على الأرض أو ماشيًا وعلى كل أحواله، وفي رواية
أبوي ذر والوقت أو غيرها.
83 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى
لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ
أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. فَقَالَ:
اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ. فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ
أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: ارْمِ
وَلاَ حَرَجَ. فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ شَىْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ
إِلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ. [الحديث 83 - أطرافه
في: 124، 1736، 1737، 1738، 6665].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أُويس
ابن أُخت الإمام مالك (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) بن
أنس الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن عيسى بن طلحة بن عبيد
الله) بضم العين مصغرًا القرشي التيمي التابعي، المتوفى
سنة مائة (عن عبد الله بن عمرو بن العاصي) بإثبات الياء
بعد الصاد على الأفصح:
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقف في
حجة الوداع) بفتح الواو اسم من ودع والفتح في حاء حجة هو
الرواية ويجوز كسرها أي حال وقوفه (بمنى) بالصرف وعدمه
(للناس) حال كونهم (يسألونه) عليه الصلاة والسلام فهو حال
من ضمير وقف، ويحتمل أن يكون من الناس أي وقف لهم حال
كونهم سائلين منه، ويجوز أن يكون استئنافًا بيانًا لعلة
الوقوف (فجاءه رجل) قال في الفتح: لم أعرف أسمه، وفي رواية
الأصيلي فجاء رجل (فقال): يا رسول الله (لم أشعر) بضم
العين أي لم أفطن (فحلقت) رأسي (قبل أن أذبح) الهدي،
(فقال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(اذبح ولا حرج) أي ولا إثم عليك (فجاء آخر) غيره (فقال) يا
رسول الله (لم أشعر فنحرت) هدْيي (قبل أن أرمي) الجمرة
(قال) عليه الصلاة والسلام، وفي رواية أبي ذر فقال: (ارم)
الجمرة (ولا حرج) عليك في ذلك (فما سئل النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن شيء) من أعمال يوم العيد
الرمي والنحر والحلق والطواف (قدّم ولا أخّر) بضم أولهما
على صيغة المجهول، وفي الأوّل حذف أي لا قدّم ولا أخر
لأنها لا تكون في الماضي إلا مكررة على الفصيح وحسن ذلك
هنا أنه في سياق النفي كما في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي
مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}
[الأحقاف: 9] ولمسلم ما سئل عن شيء قدّم أو أخّر (إلا قال)
عليه الصلاة والسلام للسائل: (افعل) ذلك كما فعلته قبل أو
متى شئت (ولا حرج) عليك
(1/182)
مطلقًا لا في الترتيب ولا في ترك الفدية.
وهذا مذهب إمامنا الشافعي وأحمد وعطاء وطاوس ومجاهد. وقال
مالك وأبو حنيفة: الترتيب واجب يجبر بدم لما روى ابن عباس
أنه قال: من قدَّم شيئًا في حجه أو أخّره فليهرق لذلك
دمًّا، وتأوّلوا الحديث أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من
هذا لأنكم فعلتموه على الجهل منكم لا على القصد فأسقط عنهم
الحرج وأعذرهم لأجل النسيان وعدم العلم، ويدل له قول
السائل لم أشعر، ويؤيده أن في رواية علي عند الطحاوي
بإسناد صحيح بلفظ: رميت وحلقت ونسيت أن أنحر، وفي الحديث
جواز سؤال العالم راكبًا وماشيًا وواقفًا على كل حال ولا
يعارض هذا بما روي عن مالك من كراهة ذكر العلم والسؤال عن
الحديث في الطريق، لأن الموقف بمنى لا يعدّ من الطرقات
لأنه موقف سُنّة وعبادة وذكر ووقت حاجة إلى التعلم خوف
الفوات إما بالزمان أو بالمكان.
24 - باب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ
وَالرَّأْسِ
هذا (باب من أجاب الفتيا) أي في بيان المفتي الذي أجاب
المستفتي فيما سأله عنه (بإشارة اليد والرأس) وسقط لفظ باب
للأصيلي.
84 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ:
حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ
فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَأَوْمَأَ
بِيَدِهِ قَالَ: وَلاَ حَرَجَ. وقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ
أَنْ أَذْبَحَ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: وَلاَ حَرَجَ.
[الحديث 84 - أطرافه في: 1721، 1722، 1723، 1734، 1735،
6666].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل)
التبوذكي البصري (قال: حدّثنا وهيب) بضم الواو وفتح الهاء
وسكون المثناة التحتية آخره موحدة ابن خالد الباهلي
البصري، المتوفى سنة خمس أو تسع وستين لا سنة ست وخمسين
(قال: حدّثنا أيوب) السختياني (عن عكرمة) مولى ابن عباس
(عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما:
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل) بضم
السين (في حجته) أي الوداع (فقال) أي السائل (ذبحت) هديي
(قبل أن أرمي) الجمرة فهل يصح وهل عليّ حرج؟ (فأومأ) أي
أشار -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي رواية
الأصيلي وأبي الوقت قال: فأومأ (بيده) الكريمة حال كونه قد
(قال) وفي رواية أبي ذر فقال: (لا حرج) عليك، وللأصيلي ولا
حرج بالواو أي صح فعلك ولا حرج عليك وهي ساقطة في رواية
لأبي ذر وعلى حالية قال يكون جمع بين الإشارة والنطق،
ويحتمل أن يكون قال بيانًا لقوله: فأومأ ويكون من إطلاق
القول على الفعل وهذا هو الأحسن. (وقال) ذلك السائل أو
غيره (حلقت) رأسي (قبل أن أذبح) هديي أي قبل ذبحه (فأومأ)
فأشار رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(بيده) الشريفة (ولا حرج) أي صح فعلك
ولا إثم عليك، ولم يحتج إلى ذكر قال هنا لأنه أشار بيده
بحيث فهم من تلك الإشارة أنه لا حرج.
ورجال هذا الحديث كلهم بصريون، وفيه رواية تابعي عن تابعي،
والتحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الحج من
طريقين، ومسلم والنسائي فيه أيضًا.
85 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ سَالِمٍ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُقْبَضُ الْعِلْمُ،
وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ».
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ
هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ
الْقَتْلَ. [الحديث 85 - أطرافه في: 1036، 1412، 3608،
3609، 4635، 4636، 6037، 6506، 6935، 7061، 7115، 7121].
وبه قال: (حدّثنا المكي بن إبراهيم) بن بشير بفتح الموحدة
وكسر المعجمة آخره راء البلخي، المتوفى ببلخ سنة أربع عشرة
ومائتين (قال: أخبرنا حنظلة) زاد الأصيلي ابن أبي سفيان
(عن سالم) هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(قال: سمعت أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر أي كلامه (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(يقبض العلم) أي بموت العلماء ويقبض بضم أوّله على صيغة
المجهول وهو تفسير لقوله في الرواية السابقة يرفع العلم.
(وبظهر الجهل) بفتح المثناة التحتية على صيغة المعلوم وذكر
هذه لزيادة التأكيد والإيضاح وإلاّ فظهور الجهل من لازم
قبض العلم (والفتن) بالرفع عطفًا على الجهل وللأصيلي وابن
عساكر ونظهر الفتن بإسقاط الجهل (ويكثر الهرج) بفتح الهاء
وسكون الراء آخره جيم الفتنة والاختلاط، وأصله كثرة الشر
وهو بلسان الحبشة القتل كما عند المصنف في كتاب الفتن.
(قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرّفها
كأنه يريد القتل) فهمه الراوي من تحريف يده الكريمة
وحركتها كالضارب، وفي إطلاق القول على الفعل والفاء في
قوله: فحرّفها تفسيرية فهى مفسرة لقوله هكذا.
86 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ:
حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ
فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ
وَهِيَ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ؟ النَّاسِ
فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ
فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ. قُلْتُ: آيَةٌ. فَأَشَارَتْ
بِرَأْسِهَا -أَىْ نَعَمْ- فَقُمْتُ حَتَّى عَلاني
الْغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ.
فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ
قَالَ: مَا مِنْ شَىْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ
رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.
فَأُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ
مِثْلَ، أَوْ قَرِيبَ -لاَ أَدْرِي أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ
أَسْمَاءُ- مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ،
يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا
الْمُؤْمِنُ، أَوِ الْمُوقِنُ -لاَ أَدْرِي بِأَيِّهِمَا
قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا
وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ (ثَلاَثًا)، فَيُقَالُ:
نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا
بِهِ، وَأَمَّا
الْمُنَافِقُ، أَوِ الْمُرْتَابُ- لاَ أَدْرِي أَىَّ
ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي،
سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. [الحديث
86 - أطرافه في: 184، 922، 1053، 1054، 1061، 1235، 1373،
2519، 2520، 7287].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي (قال: حدّثنا
وهيب) أي ابن خالد (قال: حدّثنا هشام) أي ابن عروة بن
الزبير بن العوام (عن فاطمة) بنت المنذر بن الزبير بن
العوام وهي زوجة هشام هذا وبنت عمه (عن أسماء) بنت أبي بكر
الصديق ذات النطاقين زوج الزبير، المتوفاة بمكة سنة ثلاث
وسبعين وقد بلغ المائة ولم يسقط
(1/183)
لها سن ولم يتغير لها عقل أنها (قالت):
(أتيت عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها (وهي تصلي) أي حال
كون عائشة تصلي (فقلت: ما شأن الناس) قائمين مضطربين فزعين
(فأشارت) عائشة (إلى السماء) تعني انكسفت الشمس (فإذا
الناس) أي بعضهم (قيام) لصلاة الكسوف (فقالت) أي ذكرت
عائشة رضي الله عنها (سبحان الله، قلت: آية) هي أي علامة
لعذاب الناس لأنها مقدمة له قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ
بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] أو علامة
لقرب زمان قيام الساعة (فأشارت) عائشة (برأسها أي نعم)
قالت أسماء (فقمت) في الصلاة (حتى علاني) بالعين المهملة
من علوت الرجل غلبته، ولكريمة تجلاني بفتح المثناة الفوقية
والجيم وتشديد اللام وضبب عليه في الفرع أي علاني (الغشي)
بفتح الغين وسكون الشين
المعجمتين آخره مثناة تحتية مخففة وبكسر الشين وتشديد
الياء أيضًا بمعنى الغشاوة وهي الغطاء، وأصله مرض معروف
يحصل بطول القيام في الحر ونحوه وهو طرف من الإغماء،
والمراد به هنا الحالة القريبة منه فأطلقته مجازًا ولهذا
قالت: (فجعلت أصب على رأسي الماء) أي في تلك الحالة ليذهب
(فحمد الله عز وجل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أثنى عليه) عطف على حمد من باب عطف العام على
الخاص، لأن الثناء أعمّ من الحمد والشكر والمدح أيضًا (ثم
قال) عليه الصلاة والسلام: (ما من شيء لم أكن أريته) بضم
الهمزة أي مما يصح رؤيته عقلاً كرؤية الباري تعالى ويليق
عرفًا مما يتعلق بأمر الدين وغيره (إلا رأيته) رؤية عين
حقيقة حال كوني (في مقامي) بفتح الميم الأولى وكسر
الثانية.
زاد في رواية الكشميهني والحموي هذا خبر مبتدأ محذوف أي هو
هذا، ويؤوّل بالمشار إليه والاستثناء مفرغ متصل فتلغى فيه
إلا من حيث العمل لا من حيث المعنى كسائر الحروف نحو: ما
جاءني إلا زيد وما رأيت إلا زيدًا وما مررت إلا بزيد (حتى
الجنة والنار) بالرفع فيهما على أن حتى ابتدائية والجنة
مبتدأ محذوف الخبر أي حتى الجنة مرئية والنار عطف عليه
والنصب على أنها عاطفة عطفت الجنة على الضمير المنصوب في
رأيته، والجر على أنها جارّة. وكذا قرّروه بالثلاثة وهي
ثابتة في فرع اليونينية كهي. وقال الحافظ ابن حجر: رويناه
بالحركات الثلاث فيهما، لكن استشكل البدر الدماميني بالجر
بأنه لا وجه له إلا العطف على المجرور المتقدم وهو ممتنع
لما يلزم عليه من زيادة من مع المعرفة والصحيح منعه.
(فأوحي) بضم الهمزة وكسر الحاء (إليّ أنكم) بفتح الهمزة
مفعول أوحي
ناب عن الفاعل (تفتنون) تمتحنون وتختبرون (في قبوركم مثل
أو قريبًا) بحذف التنوين في مثل وإثباته في تاليه (لا أدري
أي ذلك) لفظ مثل أو قريبًا.
(قالت أسماء) رضي الله عنها: (من فتنة المسيح) بالحاء
المهملة لمسحه الأرض أو لأنه ممسوح العين (الدجال) الكذاب،
والتقدير مثل فتنة المسيح أو قريبًا منها فحذف ما كان مثل
مضافًا إليه لدلالة ما بعده وترك هو على هيئته قبل الحذف
كذا وجهه ابن مالك وقال: إنه الرواية المشهورة.
وقال عياض: الأحسن تنوين الثاني وتركه في الأوّل، وفي
رواية في الفرع وأصله مثل أو قريب بالنصب من غير ألف بغير
تنوين فيهما.
قال الزركشي: المشهور في البخاري أي تفتنون مثل فتنة
الدجال أو قريب الشبه من فتنة الدجال، فكلاهما مضاف، وجملة
لا أدري إلى آخرها اعتراض بين المضاف والمضاف إليه مؤكدة
لمعنى الشك المستفاد من كلمة أو لا يقال كيف فصل بين
المضافين وبين ما أضيفا إليه، لأن الجملة المؤكدة للشيء لا
تكون أجنبية منه، وإثبات من كما في بعض النسخ وهو الذي في
فرع اليونينية بين المضاف والمضاف إليه لا يمتنع عند جماعة
من النحاة ولا يخرج بذلك عن الإضافة، وفي رواية مثلاً أو
قريبًا بإثبات التنوين فيهما أي تفتنون في قبوركم فتنة
مثلاً من فتنة المسيح أو فتنة قريبًا من فتنة المسيح،
وحينئذ فالأوّل صفة لمصدر محذوف، والثاني عطف عليه، وأي
مرفوع على الأشهر بالابتداء والخبر.
قالت أسماء: وضمير المفعول محذوف أي قالته وفعل الدراية
معلق بالاستفهام لأنه من أفعال القلوب وبالنصب مفعول أدري
إن جعلت موصولة، أو قالت
(1/184)
إن جعلت استفهامية أو موصولة (يقال)
للمفتون: (ما علمك) مبتدأ وخبره (بهذا الرجل) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يعبر بضمير المتكلم لأنه
حكاية قول الملكين، ولم يقل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه يصير تلقينًا لحجته وعدل عن خطاب
الجمع في أنكم تفتنون إلى المفرد في قوله ما علمك لأنه
تفصيل. أي كل واحد يقال له ذلك لأن السؤال عن العلم يكون
لكل واحد، وكذا الجواب بخلاف الفتنة، (فأما المؤمن أو
الموقن) أي المصدق بنبوّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (لا أدري بأيهما) وفي رواية الأربعة أيهما
المؤمن أو الموقن.
(قالت أسماء) والشك من فاطمة بنت المنذر (فيقول) الفاء
جواب أما لما في أما من معنى الشرط (هو محمد رسول الله) هو
(جاءنا بالبينات) بالمعجزات الدالّة على نبوّته (والهدى)
أي الدلالة الموصلة إلى البغية (فأجبنا واتبعنا) وفي رواية
أبي ذر فأجبناه واتبعناه بالهاء فيهما فحذف ضمير المفعول
في الرواية الأولى للعلم به أي قبلنا نبوّته معتقدين
مصدّقين واتّبعناه فيما جاء به إلينا أو الإجابة تتعلق
بالعلم والاتباع بالعمل. يقول المؤمن: (هو محمد) وفي رواية
أبي ذر وأبي الوقت وهو محمد-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قولاً (ثلاثًا) أي ثلاث مرات (فيقال) له: (نم)
حال كونك (صالحًا) منتفعًا بأعمالك إذ الصلاح كون الشيء في
حدّ الانتفاع (قد علمنا إن كنت) بكسر الهمزة أي الشأن كنت
(لموقنًا به) أي إنك موقن كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] أي أنتم أو تبقى على بابها. قال
القاضي: وهو الأظهر واللام في قوله لموقنًا عند البصريين
للفرق بين إن المخففة وإن النافية، وأما الكوفيون فهي
عندهم بمعنى "ما" واللام بمعنى "إلا" كقوله تعالى: {إِنْ
كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أي ما
كل نفس إلا عليها حافظ والتقدير ما كنت إلا موقنًا. وحكى
السفاقسي فتح همزة أن على جعلها مصدرية أي علمنا كونك
موقنًا به، وردّه بدخول اللام انتهى. وتعقبه البدر
الدماميني فقال: إنما تكون اللام مانعة إذا جعلت لام
الابتداء على رأي سيبويه ومن تابعه، وأما على رأي الفارسي
وابن جني وجماعة أنها لام غير لام الابتداء اجتلبت للفرق
فيسوغ الفتح بل يتعين حينئذ لوجود المقتضى وانتفاء المانع.
(وأما المنافق) أي غير المصدق بقلبه لنبوّته (أو المرتاب)
الشاك قالت فاطمة (لا أدري أيّ ذلك قالت أسماء فيقول لا
أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) أي قلت ما كان الناس
يقولونه وفي رواية وذكر الحديث أي الخ الآتي إن شاء الله
تعالى. وفي هذا الحديث إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين
وأنّ من ارتاب في صدق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وصحة رسالته فهو كافر وأنّ الغشي لا ينقض
الوضوء ما دام العقل باقيًا إلى غير ذلك مما لا يخفى.
25 - باب تَحْرِيضِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا
الإِيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: قَالَ لَنَا
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ».
هذا (باب تحريض النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أي حثّه (وفد عبد القيس) القبيلة المشهورة
(على أن يحفظوا الإيمان والعلم) من باب عطف الخاص على
العام (ويخبروا به من وراءهم) وتحريض بالضاد المعجمة، وقيل
وبالمهملة أيضًا وهما بمعنى كما قاله الكرماني، وعورض بأنه
تصحيف ودفع بأنه إذا كان كلاهما يستعمل في معنى واحد لا
يكون تصحيفًا وعلى منكر استعمال المهمل بمعنى المعجم
البيان، وأجيب: بأن النافي لا يلزمه إقامة دليل وبأنه لا
يلزم من ترادفهما وقوعهما معًا في الرواية، والكلام إنما
هو في تقييد الرواية لا مطلق الجواز انتهى.
(وقال مالك بن الحويرث) بالتصغير والمثلثة ابن حشيش بفتح
المهملة وبالشين المعجمة المكررة الليثي له في البخاري
أربعة أحاديث، المتوفى بالبصرة سنة أربع وتسعين مما هو
موصول عند المؤلف في الصلاة والأدب وخبر الواحد كما سيأتي
إن شاء الله تعالى، وأخرجه مسلم كذلك (قال لنا النبيّ) وفي
نسخة رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي
لما قدم عليه في ستة من قومه وأسلم وأقام عنده أيامًا وأذن
له في الرجوع:
(ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم) أمر دينهم، وفي رواية الأصيلي
والمستملي فعظوهم من الوعظ والتذكير.
87 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ
الْقَيْسِ أَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَنِ الْوَفْدُ -أَوْ مَنِ الْقَوْمُ-
قَالُوا: رَبِيعَةُ. فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ
بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى. قَالُوا
إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَبَيْنَنَا
وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَىُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَلاَ
نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ،
فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا
نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ،
وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ
بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ، قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ
مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ
رَمَضَانَ، وَتُعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ.
وَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ،
وَالْمُزَفَّتِ -قَالَ شُعْبَةُ: رُبَّمَا قَالَ
النَّقِيرِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ. قَالَ:
احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ.
[الحديث 87 - أطرافه في: 53، 523، 1398، 3095، 3510، 4368،
4369، 6176، 7266، 7556].
وبالسند إلى البخاري قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بفتح
الموحدة والشين المعجمة المثقلة ابن عثمان البصري (قال:
حدّثنا غندر) بضم الغين المعجمة وفتح الدال المهملة محمد
بن جعفر الهذلي
(1/185)
البصري (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن
أبي جمرة) بالجيم والراء نصر بن عمران البصري أنه (قال):
(كنت أترجم) أي أعبر (بين ابن عباس) رضي الله عنهما (وبين
الناس) فأعبر لهم ما أسمع من ابن عباس وله ما أسمع منهم
(فقال) ابن عباس: (إن وفد عبد القيس) بن أفصى بفتح الهمزة
وسكون الفاء وفتح الصاد المهملة، والوفد اسم جمع لا جمع
لوافد على الصحيح، قال القاضي: وهم القوم يأتون ركبانًا
(أتوا النبي) وفي الرواية السابقة لما أتوا النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) لهم: (من الوفد أو) قال
لهم (من القوم)؟ شك شعبة أو شيخه. (قالوا): نحن (ربيعة)
لأن عبد القيس من أولاده (فقال) عليه الصلاة والسلام، وفي
رواية ابن عساكر قال: (مرحبًا بالقوم أو الوفد) على الشك
أيضًا، وفي رواية غير الأصيلي وكريمة بحذفهما (غير خزايا)
أي مذلّين ولا مهانين ولا فضوحين بوطء البلاد وقتل الأنفس
وسبي النساء ونصب غير على الحال. قال النووي: وهو المعروف
وبالجر على الصفة.
(ولا ندامى) الأصل نادمين جمع نادم، لأن ندامى إنما هو جمع
ندمان أي المنادم في اللهو، لكن هنا على الاتباع كما
قالوا: العشايا والغدايا وغداة جمعها الغدوات لكنه اتبع
قاله الزركشي كالخطابي، وعورض بما في جامع القزاز على ما
حكاه السفاقسي أنه يقال: رجل نادم وندمان في الندامة بمعنى
أي نادم، وحينئذ يكون جاريًا على الأصل، وعند النسائي من
طريق قرة فقال: مرحبًا بالوفد ليس الخزايا النادمين.
(قالوا) يا رسول الله (إنّا نأتيك من شقة) بضم الشين
المعجمة أي سفرة (بعيدة وبيننا وبينك هذا الحي من كفار
مضر) أصل الحي منزل القبيلة ثم سميت به اتساعًا لأن بعضهم
يحيا ببعض. (ولا نستطيع أن نأتيك إلاّ في شهر حرام)
بتنكيرهما وهو يصلح لكلها، وفي رواية الأصيلي في شهر
الحرام بتعريف الثاني كمسجد الجامع، والمراد رجب لتفرّده
بالتحريم مع التصريح به في
رواية البيهقي كما مرّ (فمرنا بأمر) زاد في رواية كتاب
الإيمان فصل (نخبر به) بالرفع على الصفة لقوله أمر وبالجزم
جوابًا للأمر (من وراءنا) من قومنا (ندخل به الجنة) بإسقاط
واو العطف الثابتة في رواية كتاب الإيمان مع الرفع على
الحال المقدرة. أي: نخبر مقدرين دخول الجنة أو على
الاستئناف أو البدلية أو الصفة بعد الصفة والجزم جوابًا
للأمر جوابًا بعد جواب، وفي فرع اليونينية وندخل بإثبات
العاطف كالأولى، وحينئذ فلا يتأتى الجزم في الثاني مع رفع
الأوّل، (فأمرهم) عليه الصلاة والسلام (بأربع) وزاد خامسة
وهي إعطاء الخمس، (ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله
عز وجل وحده) زاد في رواية الكشميهني لفظة قال (قال: هل
تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله
وإقام الصلاة) المفروضة (وإيتاء الزكاة) المعهودة (وصوم
رمضان) وأن (تعطوا الخُمس من المغنم) صرّح بأن في وتعطوا
في رواية أحمد عن غندر فقال: وأن تعطوا فكأن الحذف من شيخ
البخاري. (ونهاهم عن الدباء) بضم الدال المهملة وتشديد
الموحدة والمدّ القرع (و) عن (الحنتم) بفتح المهملة وهو
جرار خضر مطلية بما يسدّ الخرق (و) عن (المزفت) أي المطلي
بالزفت.
(قال شعبة: ربما) وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت وربما (قال)
أبو جمرة عن (النقير) بالنون المفتوحة وكسر القاف أي الجذع
المنقور، (وربما قال) عن (المقير) أي المطلي بالقار. قال
في فتح الباري: وليس المراد أنه كان يتردد في هاتين
اللفظتين ليثبت إحداهما دون الأخرى لئلا يلزم من ذكر
المقير التكرار لسبق ذكر المزفت لأنه بمعناه، بل المراد
أنه كان جازمًا بذكر الثلاث الأول شاكًا في الرابع وهو
النقير، فكان تارة يذكره وتارة لا يذكره، وكان أيضًا
شاكًّا في التلفظ بالثالث فكان تارة يقول المزفت وتارة
يقول المقير هذا توجيهه فلا يلتفت إلى ما عداه، والدليل
عليه أنه جزم بالنقير في الباب السابق يعني في كتاب
الإيمان ولم يتردد إلا في المزفت والمقير (قال: احفظوه) أي
المذكور (وأخبروه) بفتح الهمزة وكسر الموحدة، وللكشميهني
وأخبروا بحذف الضمير، وفي رواية ابن عساكر وأبي ذر عن
الكشميهني وأخبروا به (من وراءكم) من قومكم.
(1/186)
26 - باب الرِّحْلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ
النَّازِلَةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ
هذا (باب الرحلة) بكسر الراء من رحل أي الارتحال (في
المسألة النازلة) بالمرء. قال الحافظ ابن حجر: وفي روايتنا
أيضًا الرحلة بفتح الراء أي الواحدة، وأما بضمها فالمراد
به الجهة وقد يطلق على من يرحل إليه اهـ.
وفي هامش الفرع كأصله بضم الراء ورقم عليه علامة الأصيلي،
وزاد في رواية كريمة وأبي الوقت بعد قوله النازلة: (وتعليم
أهله) بالجر عطفًا على الرحلة وصوّب حذفه لمجيئه في باب
آخر.
88 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قال: أخبرنا
عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ
أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأَبِي
إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ:
إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ
بِهَا. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ
أَرْضَعْتِنِي، وَلاَ أَخْبَرْتِنِي. فَرَكِبَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَيْفَ وَقَدْ
قِيلَ؟ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجًا
غَيْرَهُ. [الحديث 88 - أطرافه في: 2052، 2640، 2659،
2660، 5104].
وبالسند السابق قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي، وفي
رواية غير الأصيلي ابن مقاتل أبو الحسن (قال: أخبرنا عبد
الله) بن المبارك المروزي (قال أخبرنا عمر بن سعيد) بضم
العين في الأولى وكسرها في الثانية (عن أبي حسين) بضم
الحاء وفتح السين مصغرًا النوفلي المكي (قال: حدّثني)
بالإفراد (عبد الله) بفتح العين وسكون الموحدة (ابن أبي
مليكة) بضم الميم زهير التيمي القرشي الأحول ونسبه لجده
أبي مليكة لشهرته وإلاّ فأبوه عبيد الله بضم العين (عن
عقبة) بضم العين وسكون القاف وفتح الباء الموحدة (ابن
الحرث) بن عامر القرشي المكي أبو سروعة بكسر السين المهملة
وقد تفتح أسلم يوم الفتح، وعند المؤلف في النكاح في باب
شهادة المرضعة أنّ ابن أبي مليكة قال: حدّثنا عبيد بن أبي
مريم عن عقبة بن الحرث قال: وسمعته من عقبة لكني لحديث
عبيد أحفظ فصرّح بسماعه من عقبة، فانتفى قول أبي عمران ابن
أبي مليكة لم يسمع من عقبة بينهما عبيد بن أبي مريم
فإسناده منقطع.
(أنه) أي عقبة بن الحرث (تزوّج ابنة) وللأصيلي بنتًا (لأبي
إهاب بن عزيز) بكسر الهمزة وفتح العين المهملة وكسر الزاي
وسكون المثناة التحتية لا بضم العين وفتح الزاي ابن قيس بن
سويد التميمي الدارمي، واسم ابنته غنية بفتح المعجمة وكسر
النون وتشديد المثناة التحتية وكنيتها أمُ يحيى، (فأتته
امرأة) قال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسمها (فقالت: إني
قد أرضعت عقبة) بن الحرث (والتي تزوّج بها) أي غنية، وفي
رواية الأربعة بحذف بها (فقال لها عقبة: ما أعلم أنك) بكسر
الكاف (أرضعتني) وفي رواية ابن عساكر وأبي الوقت أرضعتيني
بزيادة مثناة تحتية قبل النون (ولا أخبرتني) ولابن عساكر
ولا أخبرتيني بزيادة مثناة تحتية بعد الفوقية تولدت من
إشباع الكسرة فيهما، وعبر بأعلم مضارعًا وأخبرت ماضيًا لأن
نفي العلم حاصل في الحال بخلاف نفي الأخبار فإنه كان في
الماضي فقط، (فركب) عقبة (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (بالمدينة) أي فيها (فسأله)
أي سأل عقبة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن الحكم في المسألة النازلة به (فقال) وفي
رواية الأصيلي وأبي الوقت وابن عساكر قال (رسول الله) وفي
رواية أبي ذر قال النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: كيف) تباشرها وتفضي إليها (وقد قيل) إنك أخوها
من الرضاعة أي ذلك بعيد من ذي المروءة والورع (ففارقها
عقبة) بن الحرث رضي الله عنه صورة أو طلقها احتياطًا
وورعًا لا حكمًا بثبوت الرضاع وفساد النكاح إذ ليس قول
المرأة الواحدة شهادة يجوز بها الحكم في أصل من الأصول.
نعم عمل بظاهر هذا الحديث أحمد رحمه الله تعالى فقال:
الرضاع يثبت بشهادة المرضعة وحدها بيمينها، (ونكحت) غنية
بعد فراق عقبة (زوجًا
غيره) هو ظريب بضم المعجمة وفتح الراء آخره موحدة ابن
الحرث وتأتي بقية مباحث هذا الحديث -إن شاء الله تعالى-
والله أسال العافية والسلامة في السفر والإقامة.
27 - باب التَّنَاوُبِ فِي الْعِلْمِ
هذا (باب التناوب) بالخفض على الإضافة (في العلم) أي بأن
يأخذ هذا مرة ويذكره لهذا والآخر مرة ويذكره له وسقط لفظ
باب للأصيلي.
89 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قال: أخبرنا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ. ح. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ
ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ:
كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي
أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ -وَهْيَ مِنْ عَوَالِي
الْمَدِينَةِ- وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ
جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ
وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ
فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟
فَفَزِعْتُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ
أَمْرٌ عَظِيمٌ .... فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا
هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ؟
قَالَتْ لاَ أَدْرِي. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ وَأَنَا
قَائِمٌ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لاَ. فَقُلْتُ:
اللَّهُ أَكْبَرُ. [الحديث 89 - أطرافه في: 2468، 4913،
4914، 4915، 5191، 5218، 5843، 7256، 7263].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن
نافع (قال: أخبرنا شعيب) أي ابن أبي حمزة بالمهملة والزاي
(عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (ح) للتحويل (قال أبو
عبد الله) أي البخاري وهو ساقط في رواية الأصيلي، وأبي
الوقت وابن عساكر. (وقال ابن وهب) عبد الله المصري فيما
وصله ابن حبّان في صحيحه عن ابن قتيبة عن حرملة عن عبد
الله بن وهب، (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي، (عن ابن شهاب)
هو الزهري المذكور في الموصوف فغاير بين اللفظين تنبيهًا
(1/187)
على قوّة محافظته على ما سمعه من شيوخه (عن
عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله) بفتحها (ابن أبي ثور)
بالمثلثة القرشي النوفلي التابعي (عن عبد الله بن عباس عن
عمر) بن الخطاب رضي الله عنه أنه (قال):
(كنت أنا وجار لي) بالرفع عطفًا على الضمير المنفصل
المرفوع وهو أنا وإنما أظهره لصحة العطف لئلا يلزم عطف
الاسم على الفعل وهو جائز عند الكوفيين من غير إعادة
الضمير، ويجوز النصب على معنى المعية، واسم الجار عتبان بن
مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري الخزرجي كما أفاده الشيخ
قطب الدين القسطلاني فيما ذكره الحافظ ابن حجر ولم يذكر
غيره وعند أبن بشكوال، وذكره البرماوي أنه أوس بن خولي،
وعلل بأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آخى
بينه وبين عمر لكن لا يلزم من المؤاخاة الجوار (من
الأنصار) الكائنين أو المستقرين أو النازلين (في) موضع أو
قبيلة (بني) وفي
رواية من بني (أمية بن زيد وهي) أي القبيلة، وفي رواية ابن
عساكر وهو أي الموضع (من عوالي المدينة) قرى شرقيّ المدينة
بين أقربها وبينها ثلاثة أميال أو أربعة وأبعدها ثمانية
(وكنا نتناوب النزول) بالنصب على المفعولية (على رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينزل) جاري الأنصاري
(يومًا) بالنصب على الظرفية من العوالي إلى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لتعلم العلم (وأنزل
يومًا) كذلك (فإذا نزلت) أنا (جئته) جواب فإذا لما فيها من
معنى الشرط (بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل)
جاري (فعل) معي (مثل ذلك فنزل صاحبي الأنصاري) بالرفع صفة
لصاحبي (يوم نوبته) أي يومًا من أيام نوبته، فسمع أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعتزل زوجاته
فرجع إلى العوالي فجاء (فضرب بابي ضربًا شديدًا فقال أثم
هو) بفتح المثلثة وتشديد الميم اسم يشار به إلى المكان
البعيد (ففزعت) بكسر الزاي أي خفت لأجل الضرب الشديد فإنه
كان على خلاف العادة فالفاء تعليلية، وللمؤلف في التفسير
-كما سيأتي إن شاء الله تعالى- قال عمر رضي الله عنه: كنا
نتخوّف ملكًا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا
وقد امتلأت صدورنا منه فتوهمت لعله جاء إلى المدينة فخفته
لذلك (فخرجت إليه، فقال: قد حدث أمر عظيم) طلَّق رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نساءه. قلت: قد كنت
أظن أنّ هذا كائن حتى إذا صليت الصبح شددت عليَّ ثيابي ثم
نزلت (فدخلت على حفصة) أم المؤمنين، فالداخل عليها أبوها
عمر لا الأنصاري وقضية حذف طلق إلى قوله فدخلت يوهم أنه من
قول الأنصاري، فالفاء في فدخلت فصيحة تفصح عن المقدر أي
نزلت من العوالي فجئت إلى المدينة فدخلت، وفي رواية الحموي
والمستملي دخلت، وللأصيلي قال فدخلت على حفصة، (فإذا هي
تبكي فقلت: طلقكن) وفي رواية لابن عساكر وأبي ذر عن
الكشميهني أطلقكن (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-؟ قالت) حفصة: (لا أدري) أي لا أعلم أنه طلق (ثم
دخلت على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت
وأنا قائم) يا رسول الله: (أطلقت نساءك) بهمزة الاستفهام
كما في فرع اليونينية كهي، وقال العيني بحذفها (قال) عليه
الصلاة والسلام: (لا. فقلت) وللأصيلي قلت: (الله أكبر)
تعجبًا من كون الأنصاري ظن أن اعتزاله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن نسائه طلاق أو ناشئ عنه، والمقصود
من إيراده لهذا الحديث هنا التناوب في العلم اهتمامًا
بشأنه، لكن قوله كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول
ليس في رواية ابن وهب إنما هو في رواية شعيب كما نص عليه
الذهلي والدارقطني والحاكم في آخرين. وفي هذا الحديث رواية
تابعي عن تابعي وصحابي عن صحابي والتحديث والإخبار
والعنعنة، وأخرجه المؤلف في النكاح والمظالم، ومسلم في
الطلاق، والترمذي في التفسير، والنسائي في الصوم وعِشرة
النساء.
28 - باب الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ
إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ
هذا (باب الغضب) بالإضافة وهو انفعال يحصل من غليان الدم
لشيء دخل في القلب (في) حالة (الموعظة و) حالة (التعليم
إذا رأى) الواعظ أو المعلم (ما يكره) أي الذي يكرهه فحذف
العائد، وقيل أراد المؤلف الفرق بين قضاء القاضي وهو غضبان
وبين تعليم المعلم وتذكير الواعظ فإنه بالغضب أجدر كذا
قاله البرماوي
(1/188)
والعيني كابن المنير، وتعقبه البدر
الدماميني فقال: أما الوعظ
فمسلم وأما تعليم العلم فلا نسلم أنه أجدر بالغضب لأنه مما
يدهش الفكر فقد يفضي التعليم به في هذه الحالة إلى خلل
والمطلوب كمال الضبط انتهى.
90 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ:
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ
قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ
الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ
لاَ أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاَةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا
فُلاَنٌ. فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ
يَوْمِئِذٍ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ
مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ،
فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا
الْحَاجَةِ». [الحديث 90 - أطرافه في: 702، 704، 6110،
7159].
وبالسند السابق قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بفتح الكاف
وبالمثلثة العبدي بسكون الموحدة البصري الموثق من أبي حاتم
المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين (قال: أخبرنا) ولأبي ذر
أخبرني (سفيان) الثوري (عن ابن أبي خالد) هو إسماعيل
البجلي الكوفي الأحمسي التابعي الطحان المسمى بالميزان (عن
قيس بن أبي حازم) بالمهملة والزاي الأحمسي الكوفي البجلي
(عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (الأنصاري) الخزرجي البدري
أنه (قال):
(قال رجل) هو حزم بن أبي كعب كذا قاله ابن حجر في المقدمة،
ثم قال في الشرح في كتاب الصلاة: لم أقف على تسميته، ووهم
من زعم أنه حزم بن أبي كعب، لأن قصته كانت مع معاذ لا مع
ابن أُبي بن كعب (يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما
يطوّل بنا فلان) هو معاذ بن جبل، وفي رواية مما يطيل،
فالأولى من التطويل والأخرى من الإطالة، قال القاضي عياض:
ظاهره مشكل لأن التطويل يقتضي الإدراك لا عدمه ولعله لأكاد
أترك الصلاة فزيدت الألف بعد لا وفصلت التاء من الراء
فجعلت دالاً، وعورض بعدم مساعدة الرواية لما ادّعاه، وقيل:
معناه أنه كان به ضعف فكان إذا طوّل به الإمام في القيام
لا يبلغ الركوع إلا وقد ازداد ضعفه فلا يكاد يتم معه
الصلاة، ودفع بأن المؤلف رواه عن الفريابي بلفظ لأتأخر عن
الصلاة، وحينئذ فالمراد أني لا أقرب من الصلاة في الجماعة
بل أتأخر عنها أحيانًا من أجل التطويل فعدم مقاربته لإدراك
الصلاة مع الإمام ناشئ عن تأخره عن حضورها ومسبب عنه، فعبر
عن السبب بالمسبب وعلّله بتطويل الإمام، وذلك لأنه إذا
اعتيد التطويل منه تقاعد المأموم عن المبادرة ركونًا إلى
حصول الإدراك بسبب التطويل فيتأخر لذلك وهو معنى الرواية
الأخرى المروية عن الفريابي فالتطويل سبب التأخر الذي هو
سبب لذلك الشيء ولا داعي إلى حمل الرواية الثابتة في
الأمهات الصحيحة على التصحيف قاله البدر الدماميني (فما
رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في موعظة
أشد غضبًا) بالنصب على التمييز (من يومئذ) وفي رواية ابن
عساكر منه من يومئذ ولفظة منه صلة أشد والمفضل عليه وإن
كانا واحدًا وهو الرسول لأن الضمير راجع إليه لكن
باعتبارين فهو مفضل باعتبار يومئذ ومفضل عليه باعتبار سائر
الأيام. وسبب شدّة غضبه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إما لمخالفة الموعظة لاحتمال تقدّم الإعلام
بذلك أو للتقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه أو لإرادة
الاهتمام بما يلقيه على
أصحابه ليكونوا من سماعه على بال لئلا يعود من فعل ذلك إلى
مثله. (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يا
أيها الناس إنكم منفرون) عن الجماعات، وفي رواية أبي الوقت
إن منكم منفرين ولم يخاطب المطوّل على التعيين بل عمم خوف
الخجل عليه لطفًا به وشفقة على جميل عادته الكريمة صلوات
الله وسلامه عليه (فمن صلى بالناس) أي من صلى متلبسًا بهم
إمامًا لهم (فليخفف) جواب من الشرطية (فإن فيهم المريض)
الذي ليس بصحيح (والضعيف) الذي ليس بقوي الخلقة كالنحيف
والمسنّ، (وذا) بالنصب أي صاحب (الحاجة) وللقابسي وذو
الحاجة بالرفع مبتدأ حذف خبره، والجملة عطف على الجملة
المتقدمة أي وذو الحاجة كذلك، وإنما ذكر الثلاثة لأنها
تجمع الأنواع الموجبة للتخفيف لأن المقتضي له إما في نفسه
أو لا، والأوّل إما بحسب ذاته وهو الضعيف أو بحسب العارض
وهو المريض أولاً في نفسه وهو ذو الحاجة.
91 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ بِلاَلٍ الْمَدِينِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ
اللُّقَطَةِ فَقَالَ: «اعْرِفْ وِكَاءَهَا -أَوْ قَالَ:
وِعَاءَهَا- وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ
اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا
إِلَيْهِ» قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى
احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ -أَوْ قَالَ: احْمَرَّ وَجْهُهُ-
فَقَالَ: «وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا
وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ،
فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» قَالَ: فَضَالَّةُ
الْغَنَمِ؟ قَالَ: «لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ».
[الحديث 91 - أطرافه في: 2372، 2427، 2428، 2429، 2436،
2438، 5292، 6112].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) أبو جعفر المسندي بفتح
النون (قال: حدّثنا أبو عامر) وفي رواية ابن عساكر العقدي،
وفي رواية أبي ذر عبد الملك بن عمرو العقدي (قال: حدّثنا
سليمان بن بلال المديني) بالمثناة التحتية قبل النون
وللأصيلي المدني بحذفها (عن ربيعة) الرأي (ابن أبي عبد
الرحمن) شيخ إمام الأئمة مالك بن أنس (عن يزيد) من الزيادة
(مولى المنبعث) بالنون والموحدة والمهملة والمثلثة المدني
(عن زيد بن خالد
(1/189)
الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء وبالنون نزيل
الكوفة المتوفى بها أو المدينة أو مصر سنة ثمان وسبعين وله
في البخاري خمسة أحاديث.
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سأله رجل)
هو عمير والد مالك، وقيل بلال المؤذن، وقيل الجارود، وقيل
هو زيد ابن خالد نفسه (عن اللقطة) بضم اللام وفتح القاف
وقد تسكن الشيء الملقوط وهو ما ضاع بسقوط أو غفلة فيجده
شخص (فقال) له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
ولكريمة قال: (اعرف) بكسر الراء من المعرفة (وكاءها) بكسر
الواو ممدودًا ما يربط به رأس الصرّة والكيس ونحوهما أو
بكسر الواو أي ظرفها، (-أو قال وعَاءَها-) الشّك من زيد بن
خالد أو ممن دونه من الرواة (وعفاصها) بكسر العين المهملة
وبالفاء هو الوعاء أيضًا لأن العفص هو الثني والعطف لأن
الوعاء يثنى على ما فيه وينعطف، والمراد الشيء الذي يكون
فيه النفقة من خرقة أو جلدة ونحوهما، أو هو الجلد الذي
يلبس رأس القارورة، وأما الذي
يدخل في فمها فهو الصمام بالمهملة المكسورة، وإنما أمر
بمعرفة ما ذكر ليعرف صدق مدّعيها من كذبه ولئلا يختلط
بماله، (ثم عرّفها) على سبيل الوجوب للناس بذكر بعض صفاتها
(سنة) أي مدة سنة متصلة يعرّف أوّلاً كل يوم طرفي النهار
ثم كل يوم مرة ثم كل أسبوع ثم كل شهر ولا يجب فور في
التعريف بل المعتبر سنة متى كان، وهل تكفي سنة مفرقة؟
وجهان ثانيهما وبه قطع العراقيون.
نعم قال النووي وهو الأصح (ثم استمتع بها) بكسر التاء
الثانية وتسكين العين عطف على ثم عرّفها، (فإن جاء ربّها)
أي مالكها (فأدّها) جواب الشرط أي أعطها (إليه. قال): يا
رسول الله (فضالة الإبل) ما حكمها؟ أكذلك أم لا وهو من باب
إضافة الصفة إلى الموصوف (فغضب) عليه الصلاة والسلام (حتى
احمرّت وجنتاه) تثنية وجنة بتثليث الواو وأجنة بهمزة
مضمومة وهي ما ارتفع عن الخد (أو قال احمرّ وجهه) وإنما
غضب استقصارًا لعلم السائل وسوء فهمه إذ إنه لم يراع
المعنى المذكور ولم يتفطن له فقاس الشيء على غير نظيره لأن
اللقطة وإنما هو الشيء الذي سقط من صاحبه ولا يدرى ْأين
موضعه وليس كذلك الإبل فإنها مخالفة للقطة اسمًا وصفة،
(فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وما لك
ولها) أي ما تصنع بها أي لم تأخذها ولم تتناولها. وفي
رواية الحموي والمستملي فما لك، وفي رواية الأصيلي وابن
عساكر ما لك بغير واو ولا فاء (معها سقاؤها) بكسر السين
مبتدأ وخبر مقدم أي أجوافها فإنها تشرب فتكتفي به أيامًا.
(وحذاؤها) بكسر الحاء المهملة والمد عطف على سقاؤها أي
خفّها الذي تمشي عليه (ترد الماء) جملة بيانية لا محل لها
من الإعراب أو محلها الرفع خبر مبتدأ محذوف أي هي ترد
الماء (وترعى الشجر فذرها) أي إذا كان الأمر كذلك فدعها
فالفاء في فذرها جواب شرط محذوف (حتى يلقاها ربها) مالكها
إذ إنها غير فاقدة أسباب العود إليه لقوّة سيرها بكون
الحذاء والسقاء معها لأنها ترد الماء ربعًا وخمسًا، وتمتنع
من الذئاب وغيرها من صغار السباع ومن التردّي وغير ذلك
(قال): يا رسول الله (فضالة الغنم) ما حكمها أهي مثل ضالة
الإبل أم لا؟ (قال) عليه الصلاة والسلام: ليست كضالهَ
الإبل بل هي (لك) إن أخذتها (أو لأخيك) من اللاقطين إن لم
تأخذها (أو للذئب) يأكلها إن لم تأخذها أنت ولا غيرك، فهو
إذن في أخذها دون الإبل. نعم إذا كانت الإبل في القرى
والأمصار فتلتقط لأنها تكون حينئذ معرّضة للتلف مطمحة
للأطماع، ومباحث ذلك تأتي إن شاء الله تعالى في بابه بعون
الله وحوله وقوّته.
92 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي
بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَشْيَاءَ
كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ
لِلنَّاسِ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ قَالَ رَجُلٌ: مَنْ
أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ. فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ:
مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَبُوكَ سَالِمٌ
مَوْلَى شَيْبَةَ. فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ». [الحديث 92 - طرفه في: 7291].
وبه قال: (حدّثنا) وفي رواية ابن عساكر حدّثني (محمد بن
العلاء) هو أبو كريب الكوفي (قال: حدّثنا أبو أسامة) هو
حمّاد بن أسامة الكوفي (عن بريد) بضم الموحدة وفتح الراء
(عن أبي
بردة) بضم الموحدة وسكون الراء عامر بن أبي موسى الأشعري
(عن أبي موسى) الأشعري رضي الله عنه (قال): (سئل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم السين المهملة
وكسر الهمزة (عن أشياء) غير منصرف (كرهها) لأنه ربما كان
(1/190)
فيها شيء سببًا لتحريم شيء على المسلمين
فيلحقهم به المشقة أو غير ذلك، وكان من هذه الأشياء السؤال
عن الساعة ونحوها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(فلما أكثر) بضم الهمزة على صيغة المجهول أي فلما أكثر
الناس السؤال (عليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(غضب)
لتعنتهم في السؤال وتكلفهم ما لا حاجة لهم فيه (ثم قال)
عليه الصلاة والسلام (للناس سلوني) وللأصيلي ثم قال: (عمّا
شئتم) بالألف، وللأصيلي عمّ شثتم بحذفها لأنه يجب حذف ألف
ما الاستفهامية إذا جرت وإبقاء الفتحة دليل عليها نحو فيم
وإلامَ وعلام للفرق بين الاستفهام والخبر ومن ثم حذفت في
نحو {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]
{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ} [النمل: 35] وثبتت في
{لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ} [النور: 14] {أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بيدي} [ص: 75] فكما لا تحذف الألف
في الخبر لا تثبت في الاستفهام، وحمل هذا القول منه عليه
الصلاة والسلام على الوحي أولى، وإلا فهو لا يعلم ما يسأل
عنه من المغيبات إلا بإعلام الله تعالى كما هو مقرر (قال
رجل) هو عبد الله بن حذافة الرسول إلى كسرى (من أبي) يا
رسول الله؟ (قال) عليه الصلاة والسلام (أبوك حذافة) بمهملة
مضمومة وذال معجمة وفاء القرشي السهمي، المتوفى في خلافة
عثمان رضي الله عنه (فقام) رجل (آخر) وهو سعد بن سالم كما
في التمهيد لابن عبد البر (فقال: من أبي يا رسول الله؟
فقال) وفي رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر قال: (أبوك
سالم مولى شيبة) بن ربيعة وهو صحابي جزمًا وكان سبب السؤال
طعن بعض الناس في نسب بعضهم على عادة الجاهلية، (فلما رأى)
أبصر (عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (ما في وجهه) الوجيه
عليه الصلاة والسلام من أثر الغضب (قال: يا رسول الله إنّا
نتوب إلى الله عز وجل) مما يوجب غضبك.
29 - باب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإِمَامِ
أَوِ الْمُحَدِّث
(باب من برك) بفتحتين وتخفيف الراء.
93 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوكَ
حُذَافَةُ. ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: «سَلُونِي».
فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا
بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَبِيًّا، فَسَكَتَ.
[الحديث 93 - أطرافه في: 540، 749، 4621، 6362، 6468،
6486، 7089، 7090، 7091، 7294، 7295].
وبالسند إلى المصنف قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن
نافع (قال: أخبرنا) وللأصيلي حدّثنا (شعيب) هو ابن أبي
حمزة بالمهملة والزاي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
(قال: أخبرني)
بالتوحيد (أنس بن مالك) رضي الله عنه (أن رسول الله-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج) فسئل فأكثروا عليه فغضب
فقال: سلوني (فقام عبد الله بن حذافة) السهمي المهاجري أحد
الذين أدركوا بيعة الرضوان (فقال) يا رسول الله (من أبي؟
فقال) عليه الصلاة والسلام وفي رواية قال: من أبي؟ (فقال:
أبوك حذافة) وفي مسلم أنه كان يدعى لغير أبيه ولما سمعت
أمه سؤاله قالت: ما سمعت بابن أعقّ منك أأمنت أن تكون أمك
قارفت ما يقارف نساء الجاهلية تفضحها على أعين الناس.
فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به (ثم أكثر)
بالمثلثة (أن يقول) عليه الصلاة والسلام (سلوني فبرك) بفتح
الموحدة والراء المخففة (عمر) رضي الله عنه (على ركبتيه)
يقال برك البعير إذ ستناخ واستعمل في الآدمي على طريق
المجاز غير المقيد وهو أن يكون في حقيقته مقيدًا فيستعمل
في الأعمّ بلا قيد كالمشفر لشفة البعير فيستعمل لمطلق
الشفة فيقال: زيد غليظ المشفر (فقال) عمر رضي الله عنه بعد
أن برك على ركبتيه تأدبًّا وإكرامًا لرسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشفقة على السلمين: (رضينا
بالله ربًَّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نبيَّا) فرضي النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك، (فسكت) وفي بعض الروايات فسكن
غضبه بدل فسكت.
30 - باب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلاَثًا لِيُفْهَمَ
عَنْهُ
فَقَالَ: «أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ»، فَمَا زَالَ
يُكَرِّرُهَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «هَلْ بَلَّغْتُ»؟ ثَلاَثًا.
هذا (باب من أعاد الحديث) في أمور الدين (ثلاثًا ليفهم)
بضم المثناة التحتية وفتح الحاء (عنه) كذا للأصيلي وكريمة
فيما نص عليه الحافظ ابن حجر، وفي رواية حذف عنه وكسر
الهاء، وفي أخرى كذلك مع فتحها (فقال: ألا) بالتخفيف وفي
غير رواية أبي ذر، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: ألا (وقول الزور فما زال يكرّرها) في مجلسه
ذلك والضمير لقوله وقول الزور وهذا طرف من حديث وصله
بتمامه في كتاب الشهادات (وقال ابن عمر) بن الخطاب رضي
الله عنهما فيما وصله المؤلف في خطبة الوداع (قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هل بلغث ثلاثًا) أي
قال: هل بلغت ثلاث مرات.
94 - حَدَّثَنَا عَبْدَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ
ثَلاَثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا
ثَلاَثًا. [الحديث 94 - طرفاه في: 95، 6244].
وبالسند الماضي إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبدة) بفتح العين
المهملة وسكون الموحدة ابن عبد الله
(1/191)
الخزاعي البصري الكوفي الأصل، المتوفى سنة
ثمان وخمسين ومائتين (قال: حدّثنا عبد الصمد) بن عبد
الوارث بن سعيد العنبري التميمي البصري الحافظ الحجة،
المتوفى سنة سبع ومائتين (قال حدّثنا عبد الله بن المثنى)
بضم الميم وفتح المثلثة وتشديد النون المفتوحة ابن عبد
الله بن أنس بن مالك الأنصاري وثّقه العجلي والترمذي (قال:
حدّثنا ثمامة) بضم المثلثة وتخفيف الميمين زاد في غير
رواية
أبي ذر وأبي الوقت (ابن عبد الله) أي ابن أنس بن مالك
الأنصاري البصري (عن) جدّه (أنس) أي ابن مالك رضي الله عنه
(عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه:
(كان إذا سلم) على أناس (سلم) عليهم (ثلاثًا) أي ثلاث مرات
ويشبه أن يكون ذلك عند الاستئذان لحديث إذا استأذن أحدكم
ثلاثًا ولم يؤذن له فليرجع، وعورض بأن تسليمة الاستئذان لا
تثنى إذا حصل الإذن بالأولى، ولا تثلث إذا حصل بالثانية،
نعم يحتمل أن يكون معناه أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا
أتى على قوم سلم عليهم تسليمة الاستئذان، وإذا دخل سلم
تسليمة التحية، ثم إذا قام من المجلس سلم تسليمة الوداع
وكلٌّ سُنَّة. (وإذا تكلم) عليه الصلاة والسلام (بكلمة) أي
بجملة مفيدة من باب إطلاق اسم البعض على الكل (أعادها
ثلاثًا) أي ثلاث مرات.
قال البدر الدماميني: لا يصح أن يكون أعاد مع بقائه على
ظاهره عاملاً في ثلاثًا ضرورة أنه يستلزم قول تلك الكلمة
أربع مرات، فإن الإعادة ثلاثًا إنما تتحقق بها إذ المرة
الأولى لا إعادة فيها، فأما إن تضمن معنى قال ويصح عملها
في ثلاثًا بالمعنى المضمن أو يبقى أعاد على معناه، ويجعل
العامل محذوفًا أي أعادها فقالها وعليهما فلم تقع الإعادة
إلا مرتين انتهى.
95 - حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ إِذَا
تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ
عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ
سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا.
وبه قال (حدّثنا عبدة بن عبد الله) زاد في رواية الأصيلي
الصفار وهو السابق وسقط عنده لفظة ابن عبد الله (قال
حدّثنا عبد الصمد) بن عبد الوارث (قال حدّثنا عبد الله بن
المثنى) الأنصاري (قال حدّثنا ثمامة بن عبد الله) وفي
رواية الأصيلي وابن عساكر ثمامة بن أن فنسباه إلى جدّه
وأسقطا اسم أبيه وإلا فاسم أبيه عبد الله (عن أنس) رضي
الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها) أي الكلمة المفسرة بالجملة
المفيدة (ثلاثًا) أي ثلاث مرات وقد بيّن المراد بالتكرار
في قوله (حتى تفهم عنه) بضم أوّله وفتح ثالثه أي لكي تعقل
لأنه عليه الصلاة والسلام مأمور بالإبلاغ والبيان وعبر
بكان إذا تكلم ليشعر بالاستمرار لأن كان تدل على الثبات
والاستمرار بخلاف صار فإنها تدل على الانتقال فلهذا يجوز
أن يقال كان الله ولا يجوز صار (و) كان -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إذا أتى على قوم سلم عليهم سلم عليهم
ثلاثًا) أي ثلاث مرات إذا شرط جوابه سلم لا فسلم بل هو عطف
على أتى من بقية الشرط وقد سقط حديث عبدة الأول في رواية
ابن عساكر وأبي ذر ولا يخفى الاستغناء
عنه بالثاني.
96 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا
الصَّلاَةَ صَلاَةَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ،
فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى
بِأَعْلَى صَوْتِهِ «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.
وبه قال (حدّثنا مسدد) بفتح السين المهملة (قال حدّثنا أبو
عوانة) بفتح العين المهملة اليشكري (عن أبي بشر) بكسر
الموحدة وسكون المعجمة جعفر بن إياس (عن يوسف بن ماهك)
بفتح الهاء وبكسرها غير منصرف للعجمة والعلمية وللأصيلي
بالصرف لأجل الصفة على ما تقدم تقريره في باب من رفع صوته
بالعلم (عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاصي رضي الله عنه
(قال تخلف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في سفر سافرناه) وللأصيلي كما في الفرع في سفرة سافرناها،
ووقع في مسلم تعينها من مكة إلى المدينة (فأدركنا) بفتح
الكاف أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وقد
أرهقنا) بسكون القاف (الصلاة) بالنصب على المفعوية ولأصيلي
أرهقتنا بالتأنيث وفتح القاف الصلاة بالرفع على الفاعلية
(صلاة العصر) النصب أو الرفع على البدلية من الصلاة (ونحن
نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا) أي نغسلها غسلاً خفيفًا
(فنادى) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثًا) شك من
الراوي، وقد سبق الحديث في باب من رفع صوته بالعلم وأعاده
لغرض تكرار الحديث، وأخرجه هناك عن النعمان عن أبي عوانة،
وهنا عن مسدّد عن أبي عوانة وصرح هنا بصلاة العصر، وتأتي
بقية مباحثه
(1/192)
في الطهارة إن شاء الله تعالى.
31 - باب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَه
(باب تعليم الرجل أمته وأهله) من عطف العامّ على الخاص لأن
أمة الرجل من أهل بيته.
97 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ -هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ- قال:
حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ
بْنُ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ
حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْعَبْدُ
الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ
مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ
فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا
فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا
فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ».
ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ: أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَىْءٍ،
قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
[الحديث 97 - أطرافه في: 2544، 2547، 2551، 3011، 3446،
5083].
وبالسند قال: (أخبرنا) وفي رواية أبوي ذر والوقت حدّثنا
(محمد) ولكريمة حدّثنا محمد (هو ابن سلام) أي بتخفيف اللام
وفي رواية أبي ذر والأصيلي حدّثنا محمد بن سلام، وفي رواية
ابن عساكر وأبي الوقت حدّثني محمد بن سلام (قال: حدّثنا)
وفي رواية أبي الوقت وابن عساكر أخبرنا (المحاربي) بضم
الميم وبالحاء المهملة وكسر الراء والموحدة عبد الرحمن بن
محمد بن زياد الكوفي الموثق المتوفى سنة خمس وتسعين ومائة
(قال: حدثنا صالح بن حيان) بفتح المهملة وتشديد المثناة
التحتية ونسبه لجده الأعلى لشهرته به وإلا فهو صالح بن
صالح بن مسلم بن حيان وليس هو صالح بن حيان القرشي الضعيف
(قال) أي صالح، (قال عامر) هو ابن شراحيل (الشعبي) بفتح
المعجمة وسكون المهملة وبالموحدة (حدّثني) بالتوحيد (أبو
بردة) بضم الموحدة (عن أبيه) هو أبو
موسى الأشعري كما صرّح به في العتق وغيره (قال) أي أبو
موسى، (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ثلاثة) مبتدأ خبره جملة (لهم أجران) أوّلهم (رجل) وكذا
امرأة (من أهل الكتاب) التوراة والإنجيل أو الإنجيل فقط
على القول بأن النصرانية ناسخة لليهودية حال كونه قد (آمن
بنبيه) موسى أو عيسى عليهما الصلاة والسلام مع إيمانه
بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المنعوت في
التوراة والإنجيل المأخوذ له الميثاق على سائر النبيين
وأممهم (وآمن بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أي بأنه هو الموصوف في الكتابين، ويأتي إن شاء الله تعالى
ما في ذلك من المباحث في باب فضل من أسلم من أهل الكتابين
في كتاب الجهاد، (و) الثاني (العبد المملوك) أي جنس العبد
المملوك (إذا أدّى حق الله) تعالى، أي كالصلاة والصوم (وحق
مواليه) بسكون الياء جمع مولى لتحصل مقابلة الجمع في جنس
العبيد بجمع المولى، أو ليدخل ما لو كان العبد مشتركًا بين
موالي، والمراد من حقهم خدمتهم ووصف العبد بالمملوك لأن كل
الناس عباد الله فميّزه بكونه مملوكًا للناس، (و) الثالث
(رجل كانت عنده أمة) زاد في رواية الأربعة هـ س ط ص يطأها
بالهمزة (فأدّبها) لتتخلق بالأخلاق الحميدة (فأحسن
تأديبها) بلطف ورفق من غير عنف (وعلمها) ما يحب تعليمه من
الدين (فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها) بعد أن أصدقها
(فله أجران) الضمير يرجع إلى الرجل الأخير، وإنما لم يقتصر
على قوله لهم أجران مع كونه داخلاً في الثلاثة بحكم العطف
لأن الجهة كانت فيه متعددة وهي التأديب والتعليم والعتق
والتزوّج وكانت مظنة أن يستحق من الأجر أكثر من ذلك فأعاد
قوله: فله أجران إشارة إلى أن المعتبر من الجهات أمران،
وإنما اعتبر اثنين فقط لأن التأديب والتعليم يوجبان الأجر
في الأجنبي والأولاد وجميع الناس فلم يكن مختصًّا بالإماء
فلم يبق الاعتبار إلا في العتق والتزوج، وإنما ذكر
الأخيرين لأن التأديب والتعليم أكمل للأجر إذ تزوّج المرأة
المؤدبة المعلمة أكثر بركة وأقرب إلى أن تعين زوجها على
دينه. وعطف بثم في العتق وفي السابق بالفاء لأن التأديب
والتعليم ينفعان في الوطء بل لا بدّ منهما فيه، والعتق نقل
من صنف إلى صنف ولا يخفى ما بين الصنفين من البعد بل من
الضدّيّة في الأحكام والمنافاة في الأحوال، فناسب لفظًا
دالاً على التراخي بخلاف التأديب وغيره مما ذكر.
فإن قلت: إذا لم يطأ الأمة لكن أدّبها هل له أجران؟ أجيب:
بأن المراد تمكنه من وطئها شرعًا وإن لم يطأها انتهى.
وإنما عرف العبد ونكر رجل في الموضعين الأخيرين لأن المعرف
بلام الجنس كالنكرة في المعنى، وكذا الإتيان في العبد بإذا
دون القسم الأوّل لأنها ظرف وآمن حال وهي في حكم الظرف لأن
معنى جاء زيد راكبًا في وقت الركوب وحاله إذ يقال في وجه
المخالفة الإشعار بفائدة عظيمة، وهي أن الإيمان بنبيّه لا
يفيد في الاستقبال الأجرين، بل لا بدّ من الإيمان في عهده
حتى يستحق أجرين بخلاف العبد فإنه في زمان الاستقبال يستحق
الأجرين أيضًا، فأتى بإذا التي للاستقبال قاله البرماوي
كالكرماني، وتعقبه في
(1/193)
الفتح فقال: هو غير مستقيم لأنه مشى فيه مع
ظاهر اللفظ وليس متفقًا عليه بين الرواة بل هو عند المصنف
وغيره مختلف، فقد عبّر في ترجمة عيسى بإذا في الثلاثة،
وعبّر في النكاح بقوله: أيما رجل في المواضع الثلاثة وهي
صريحة في التعميم، وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله
تعالى في الجهاد.
(ثم قال عامر) الشعبي لرواية صالح المذكور (أعطيناكها) أي
أعطينا المسألة أو المقالة إياك (بغير شيء) من أجرة بل
بثواب التعليم أو التبليغ أو الخطاب لرجل من أهل خراسان
سأل الشعبي عمن يعتق أمته ثم يتزوجها كما عند المؤلف في
باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَم} [مريم: 16]
والأوّل قاله الكرماني والثاني العيني كابن حجر وهو الراجح
(قد) وللأصيلي وقد بالواو ولغيره كما قاله العيني
والبرماوي فقد (كان يركب) بضم المثناة التحتية وفتح الكاف
أي يرحل (فيما دونها إلى المدينة) النبوية، والضمير
للمسألة أو المقالة، وقد ظهر أن مطابقة الحديث للترجمة في
الأمة بالنص وفي الأهل بالقياس إذ الاعتناء بالأهل الحرائر
في تعليم فرائض الله تعالى وسنن رسوله عليه الصلاة والسلام
آكد من الاعتناء بالإماء، ورواة هذا الحديث الستة كلهم
كوفيون ما خلا ابن سلام وفيه التحديث والإخبار والعنعنة،
ورواية تابعي عن تابعي، وأخرجه المؤلف أيضًا في العتق
والجهاد.
وأحاديث الأنبياء والنكاح، ومسلم في الإيمان، والترمذي في
النكاح، وكذا النسائي فيه وابن ماجة.
32 - باب عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ
هذا (باب عظة الأمام) أي الأعظم أو نائبه (النِّساء) أي
تذكيرهن العواقب (وتعليمهن) أمور الدين.
98 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ
عَطَاءً قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَشْهَدُ
عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَوْ
قَالَ عَطَاءٌ أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خَرَجَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ
النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ
فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ،
وَبِلاَلٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [الحديث 98 - أطرافه في:
863، 962، 964، 975، 977، 979، 989، 1431، 1449، 4895،
5249، 5880، 5881، 5883، 7325].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) بالمهملة
والموحدة الأزدي الأنصاري (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج
(عن أيوب) السختياني (قال: سمعت عطاء) أي ابن أبي رباح
سلمان الكوفي القرشي الحبشي الأسود الأعور الأفطس الأشل
الأعرج ثم عمي بآخرة المرفوع بالعلم والعمل حتى صار من
الجلالة والثقة بمكان، المتوفى سنة خمس ومائة أو سنة أربع
عشرة ومائة (قال سمعت ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما
(قال أشهد على النبي) وفي رواية أبي الوقت رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، (أو قال عطاء،
أشهد على ابن عباس) يعني أن الراوي تردد هل لفظ أشهد من
قول ابن عباس أو من قول عطاء، وأخرجه أحمد بن حنبل عن غندر
عن شعبة جازمًا بلفظ أشهد عن كلٍّ منهما، وعبّر بلفظ
الشهادة تأكيدًا لتحققه ووثوقًا بوقوعه (أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج) من بين صفوف
الرجال إلى صف النساء (ومعه بلال) أي ابن أبي رباح بفتح
الراء وتخفيف الموحدة الحبشي واسم أمه حمامة، ولغير
الكشميهني معه بلال بلا واو على أنه حال استغنى فيها عن
الواو بالضمير كقوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الأعراف: 24] (فظن) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أنه لم يسمع النساء) حين أسمع الرجال
فإن مع اسمها وخبرها سدت مسد مفعولي ظن، وفي رواية أنه لم
يسمع بدون ذكر النساء (فوعظهن) عليه الصلاة والسلام بقوله:
"إني رأيتكن أكثر أهل النار لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن
العشير" وهذا أصل في حضور النساء مجالس الوعظ ونحوه بشرط
أمن الفتنة، (وأمرهن بالصدقة) النفلية لما رآهن أكثر أهل
النار لأنها ممحاة لكثير من الذنوب المدخلة للنار، أو لأنه
كان وقت حاجة إلى المؤاساة والصدقة حينئذٍ كانت أفضل وجوه
البر، (فجعلت المرأة تلقي القرط) بضم القاف
وسكون الراء آخره مهملة الذي يعلق بشحمة أُذنها (والخاتم)
بالنصب عطفًا على المفعول (وبلال يأخذ في طرف ثوبه) ما
يلقينه ليصرفه عليه الصلاة والسلام في مصارفه لأنه يحرم
عليه الصدقة وحذف المفعول للعلم به ورفع بلال بالابتداء
وتاليه خبره والجملة حالية.
(وقال إسماعيل) وفي رواية ابن عساكر قال أبو عبد الله أي
البخاري، وقال إسماعيل أي ابن علية (عن أيوب) السختياني
(عن عطاء) أي ابن أبي رباح، (وقال عن ابن عباس) رضي الله
عنهما وفي رواية ابن عساكر والأصيلي وأبي الوقت قال ابن
عباس: (أشهد على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) فجزم بأن لفظ أشهد من كلام ابن عباس فقط، هذا
من تعاليقه لأنه لم يدرك إسماعيل بن علية لأنه مات في عام
(1/194)
ولادة المؤلف سنة أربع وتسعين ومائة، ووصله
في كتاب الزكاة.
33 - باب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيث.
هذا (باب الحرص على) تحصيل (الحديث) المضاف إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسقط لفظ باب
للأصيلي.
99 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي
عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ
أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ
عَلَى الْحَدِيثِ. أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ». [الحديث 99 - طرفه
في: 6570].
وبالسند السابق إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد
الله) بن يحيى الأويسي المدني (قال: حدّثني) بالتوحيد
(سليمان) بن بلال أبو محمد التيمي القرشي (عن عمرو بن أبي
عمرو) بفتح العين فيهما مولى المطلب المدني، المتوفى في
خلافة أبي جعفر المنصور سنة ست وثلاثين ومائة (عن سعيد بن
أبي سعيد المقبري) بضم الموحدة وفتحها (عن أبي هريرة) عبد
الرحمن بن صخر رضي الله عنه (أنه) بفتح الهمزة (قال):
(قيل يا رسول الله) ولغير أبي ذر وكريمة قال: يا رسول الله
بإسقاط قيل كما في رواية الأصيلي والقابسي فيما قاله
العيني وغيره وهو الصواب، ولعلها كانت قلت كما عند المؤلف
في الرقاق فتصحفت بقيل لأن السائل هو أبو هريرة نفسه، فدل
هذا على أن رواية أبي ذر وكريمة وهم (من أسعد الناس
بشفاعتك يوم القيامة) بنصب يوم على الظرفية ومن استفهامية
مبتدأ خبره تاليه (قال رمول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): والله (لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني)
بضم اللام وفتحها على حدّ قراءتي وحسبوا أن لا تكون بالرفع
والنصب لوقوع أن بعد الظن واللام في لقد جواب القسم
المحذوف كما قدّرته أو للتأكيد (عن هذا الحديث أحد) بالرفع
فاعل يسألني (أوّل منك) برفع أوّل صفة لأحد أو بدل منه
بالنصب، وهو الذي في فرع اليونينية كهي وصحح عليه وخرج على
الظرفية. وقال عياض على المفعول الثاني لظننت. قال في
المصابيح: ولا يظهر له وجه، وقال أبو البقاء: على الحال أي
لا يسألني أحد سابقًا لك ولا يضرّ كونه نكرة لأنها في سياق
النفي كقولهم: ما كان أحد مثلك (لما رأيت) أي الذي رأيته
(من حرصك على الحديث) أو لرؤيتي بعض حرصك فمن بيانية على
الأول وتبعيضية على الثاني (أسعد الناس) الطائع والعاصي
(بشفاعتي يوم القيامة) أي في يوم القيامة (من قال) في موضع
رفع خبر المبتدأ الذي هو أسعد، ومن موصولة أي الذي قال:
(لا إله إلاّ الله) مع قوله محمد رسول الله حال كونه
(خالصًا) من الشرك، زاد في رواية الكشميهني وأبي الوقت
مخلصًا (من قلبه أو نفسه) شك من الراوي، وقد يكتفى بالنطق
بأحد الجزأين من كلمتي الشهادة لأنه صار شعارًا لمجموعهما.
فإن قلت: الإخلاص محله القلب فما فائدة قوله من قلبه؟
أجيب: بأن الإتيان به للتأكيد ولو صدق بقلبه ولم يتلفظ دخل
في هذا الحكم لكنا لا نحكم عليه بالدخول إلا أن يتلفظ فهو
للحكم باستحقاق الشفاعة لا لنفس الاستحقاق، واستشكل
التعبير بالفعل التفضيل في قوله أسعد إذ مفهومه أن كلاًّ
من الكافر الذي لم ينطق بالشهادة والمنافق الذي نطق بلسانه
دون قلبه أن يكون سعيدًا.
وأجيب: بأن أفعل هنا ليست على بابها، بل بمعنى سعيد الناس
من نطق بالشهادتين أو تكون أفعل على بابها والتفضيل بحسب
المراتب أي هو أسعد ممن لم يكن في هذه المرتبة من الإخلاص
المؤكد البالغ غايته، والدليل على إرادة تأكيده ذكر القلب
إذ الإخلاص محله القلب ففائدته التأكيد كما مرّ.
وقال البدر الدماميني: حمله ابن بطال يعني قوله مخلصًا على
الإخلاص العام الذي هو من لوازم التوحيد، ورده ابن المنير
بأن هذا لا يخلو عنه مؤمن فتعطل صيغة أفعل وهو لم يسأله
عمن يستأهل
شفاعته، وإنما سأل عن أسعد الناس بها، فينبغي أن يحمل على
إخلاص خاصّ مختص ببعض دون بعض ولا يخفى تفاوت رتبه،
والحديث يأتي إن شاء الله تعالى في صفة الجنة والنار من
كتاب الرقاق، والله أعلم.
34 - باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي
بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ
الْعُلَمَاءِ، وَلاَ يُقْبَلْ إِلاَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلْيُفْشُوا
الْعِلْمَ. وَلْيَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لاَ
يَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لاَ يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ
سِرًّا. حَدَّثَنَا الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ. يَعْنِي حَدِيثَ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى قَوْلِهِ "ذَهَابَ
الْعُلَمَاءِ".
هذا (باب) بالتنوين وفي فرع اليونينية بغير تنوين مضافًا
لقوله: (كيف يقبض العلم) أي كيفية رفع العلم، وسقط لفظ باب
للأصيلي: (وكتب) وفي رواية ابن عساكر قال: أي البخاري وكتب
(عمر بن عبد العزيز) أحد الخلفاء الراشدين المهديين (إلى)
نائبه في الإمرة والقضاء على المدينة (أبي بكر) بن محمد بن
عمرو (بن حزم) بفتح المهملة وسكون الزاي الأنصاري المدني،
المتوفى سنة اثنتين ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك وهو
(1/195)
ابن أربع وثمانين سنة، ونسبه المؤلف إلى جد
أبيه لشهرته به ولجده عمرو صحبة ولأبيه محمد رؤية (انظر ما
كان) أي الجمع الذي تجده، وفي رواية الكشميهني انظر ما كان
عندك أي في بلدك، فكان على الرواية الأولى تامة وعلى
الثانية ناقصة وعندك الخبر (من حديث رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأكتبه فإني خفت دروس العلم)
بضم الدال (وذهاب العلماء) فإن في كتبه ضبطًا له وإبقاء،
وقد كان الاعتماد إذ ذاك إنما هو على الحفظ فخاف عمر بن
عبد العزيز في رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت
العلماء فأمر بذلك، (ولا يقبل) بضم المثناة التحتية وسكون
اللام، وفي بعض النسخ بالرفع على أن لا نافية وفي فرع
اليونينية كهي تقبل بفتح المثناة الفوقية على الخطاب مع
الجزم (إلا حديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. وليفشوا العلم وليجلسوا) بضم المثناة التحتية
في الأوّل من الإفشاء وفتحها في الثاني من الجلوس لا من
الإجلاس مع سكون اللام وكسرها معًا فيهما. وفي رواية عن
ابن عساكر: ولتفشوا ولتجلسوا بالمثناة الفوقية فيهما (حتى
يعلم) بضم المثناة التحتية وتشديد اللام المفتوحة
وللكشميهني يعلم بفتحها وتخفيف اللام مع تسكين العين من
العلم (من لا يعلم فإن العلم لا يهلك) بفتح أوّله وكسر
ثالثه كضرب يضرب وقد تفتح (حتى يكون سرًّا) أي خفية
كاتخاذه في الدار المحجورة التي لا يتأتى فيها نشر العلم
بخلاف المساجد والجوامع والمدارس ونحوها، وقد وقع هذا
التعليق موصولاً عقبه في غير رواية الكشميهني وكريمة وابن
عساكر ولفظه: حدّثنا. وفي رواية الأصيلي قال أبو عبد الله
أي البخاري: (حدّثنا العلاء بن عبد الجبار) أبو الحسن
البصري العطار الأنصاري الثقة، المتوفى سنة اثنتي عشرة
ومائتين (قال: حدّثنا عبد العزيز بن مسلم) القسملي،
المتوفى
سنة سبع وستين ومائة (عن عبد الله بن دينار) القرشي المدني
مولى ابن عمر رضي الله عنهما (بذلك يعني حديث عمر بن عبد
العزيز إلى قوله ذهاب العلماء) قال الحافظ ابن حجر: محتمل
لأن يكون ما بعده ليس من كلام عمر أو من كلامه ولم يدخل في
هذه الرواية والأوّل أظهر، وبه صرّح أبو نعيم في المستخرج
ولم أجده في مواضع كثيرة إلا كذلك، وعلى هذا فبقيته من
كلام المصنف أورده تلو كلام عمر، ثم بيّن أن ذلك غاية ما
انتهى إليه كلام عمر انتهى.
100 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ
الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ،
وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى
إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا
جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ
فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
قَالَ الْفِرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ قَالَ:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
هِشَامٍ نَحْوَهُ. [الحديث 100 - طرفه في: 7307].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس) بضم
الهمزة والسين المهملة (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) هو
ابن أنس الإمام (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة (عن عبد
الله بن عمرو بن العاصي) رضي الله عنهما أنه (قال: سمعت
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي كلامه
حال كونه (يقول) أي في حجة الوداع كما عند أحمد والطبراني
من حديث أبي أمامة:
(إن الله لا يقبض العلم) من بين الناس (انتزاعًا) بالنصب
مفعول مطلق (ينتزعه) وفي رواية ينزعه (من العباد) بأن
يرفعه إلى السماء أو يمحوه من صدورهم، (ولكن يقبض العلم
بقبض) أرواح (العلماء) وموت حملته، وإنما عبّر بالمظهر في
قوله يقبض العلم موضع المضمر لزيادة تعظيم المظهر كما في
قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} بعد قوله: {اللَّهُ
أَحَدٌ} (حتى إذا لم يبق) بضم المثناة التحتية وكسر القاف
من الإبقاء وفيه ضمير يرجع إلى الله تعالى أي حتى إذا لم
يبق الله تعالى (عالمًا) بالنصب على المفعولية كذا في
رواية الأصيلي ولغيره يبق بفتح حرف المضارعة من البقاء
الثلاثي وعالم بالرفع على الفاعلية، ولمسلم حتى إذا لم
يترك عالمًا (اتخذ الناس) بالرفع على الفاعلية (رؤوسًا)
بضم الراء والهمزة والتنوين جمع رأس، ولأبي ذر أيضًا كما
في الفتح رؤساء بفتح الهمزة وفي آخره همزة أخرى مفتوحة جمع
رئيس (جهالاً) بالضم والتشديد والنصب صفة لسابقه (فسئلوا)
بضم السين أي فسألهم السائل (فأفتوا) له (بغير علم فضلوا)
من الضلال أي من أنفسهم (وأضلوا) من الإضلال أي أضلّوا
السائلين.
فإن قلت: الواقع بعد حتى هنا جملة شرطية فكيف وقعت غاية،
أجيب: بأن
(1/196)
التقدير ولكن يقبض العلم بقبض العلماء إلى
أن يتخذ الناس رؤساء جهالاً وقت انقراض أهل العلم، فالغاية
في
الحقيقة هي ما ينسبك من الجواب مرتبًا على فعل الشرط
انتهى. واستدل به الجمهور على جواز خلو الزمان عن مجتهد
خلافًا للحنابلة.
(قال الفربري) أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر (حدّثنا
عباس) بالموحدة والمهملة آخره وفي رواية بإسقاط قال
الفربري. (قال: حدّثنا قيبة) بن سعيد أحد مشايخ المؤلف
(قال: حدّثنا جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد الضبي (عن
هشام) هو ابن عروة بن الزبير بن العوام (نحوه) أي نحو حديث
مالك السابق، وهذه من زيادات الراوي عن البخاري في بعض
الأسانيد، ولفظ رواية قتيبة هذه أخرجها مسلم عنه وسقط من
قوله قال الفربري الخ لابن عساكر وأبي الوقت والأصيلي.
35 - باب مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَرَاجَعَ حَتَّى يَعْرِفَه
هذا (باب من سمع شيئًا) زاد في رواية أبي ذر فلم يفهمه
(فراجع) أي راجع الذي سمعه منه وللأصيلي فراجع فيه وفي
رواية فراجعه (حتى يعرفه).
101 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ
أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ
شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى
تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» قَالَتْ
عَائِشَةُ فَقُلْتُ: أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}
قَالَتْ: فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ
مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ». [الحديث 101 - أطرافه
في: 4939، 6536، 6537].
وبالسند قال: (حدّثنا سعيد) بكسر العين (ابن أبي مريم)
الجمحي البصري المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين ونسبه لجد
أبيه لأن أباه الحكم بن محمد بن أبي مريم (قال: أخبرنا
نافع بن عمر) وفي رواية أبي ذر ابن عمر الجمحي وهو قرشي
مكي توفي سنة أربع وعشرين ومائة (قال: حدّثني) بالإفراد
(ابن أبي مليكة) بضم الميم وفتح اللام عبد الله بن عبيد
الله:
(أن عائشة) بفتح الهمزة أي بأن عائشة (زوج النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) رضي الله عنها (كانت لا
تسمع) وفي رواية أبي ذر لا تستمع (شيئًا) مجهولاً موصوفًا
بصفة (لا تعرفه إلاّ راجعت فيه) النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى) أي إلى أن (تعرفه) وجمع بين
كانت الماضي وبين لا تسمع المضارع استحضارًا للصورة
الماضية لقوة تحققها (وأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) عطف على قوله أن عائشة (قال من) موصول مبتدأ و
(حوسب) صلته و (عذب) خبر المبتدأ (قالت عائشة) رضي الله
عنها (فقلت أ) كان كذلك (وليس يقول الله تعالى) وللأصيلي
وكريمة عز وجل فيقول خبر ليس واسمها ضمير الشأن أو أن ليس
بمعنى لا أي أو لا يقول الله تعالى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ
حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] أي سهلاً لا يناقش فيه
(قالت) عائشة (فقال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (إنما ذلك العرض) بكسر الكاف لأنه خطاب المؤنث
(ولكن من نوقش الحساب) بالنصب على المفعولية أي من ناقشه
الله الحساب أي من استقصى حسابه (يهلك) بكسر اللام وإسكان
الكاف
جواب من الموصول المتضمن معنى الشرط، ويجوز رفع الكاف لأن
الشرط إذا كان ماضيًا جاز في الجواب الوجهان، والمعنى أن
تحرير الحساب يفضي إلى استحقاق العذاب لأن حسنات العبد
متوقفة على القبول وإن لم تحصل الرحمة المقتضية للقبول لا
تقع النجاة، وظاهر قول ابن أبي مليكة أن عائشة كانت لا
تسمع شيئًا إلا راجعته فيه. الإرسال لأن ابن أبي مليكة
تابعي لم يدرك مراجعتها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، لكن قول عائشة فقلت أوليس يدل على أنه موصول.
والله أعلم.
36 - باب هل يجعل للنساء يوماً على حِدَةٍ في العلم؟
هذا (باب) بالتنوين (هل يجعل) الإمام اللنساء يومًا على
حدة في العلم) بكسر الحاء وتخفيف الدال المهملتين أي على
انفراد، ولأصيلي وكريمة يجعل على صيغة المجهول ويوم بالرفع
مفعول ناب عن فاعله.
101 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ. قَالَ: النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَلَبَنَا عَلَيْكَ
الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ.
فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ
وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: «مَا
مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا
إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ». فَقَالَتِ
امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: وَاثْنَيْنِ. [الحديث
101 - طرفاه في: 1249، 7310].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا آدم) غير منصرف للعجمة
والعلمية على القول بعجمته، وإلا فالعلمية ووزن الفعل وهو
ابن أبي إياس (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: حدّثني)
بالتوحيد (ابن الأصبهاني) بفتح الهمزة وقد تكسر وقد تبدل
باؤها فاء عبد الرحمن بن عبد الله الكوفي (قال: سمعت أبا
صالح ذكوان) بالدّال المعجمة وسكون الكاف حال كونه (يحدث
عن أبي سعيد الخدري) سعد بن مالك رضي الله عنه (قال) أي
قال أبو سعيد:
(قال النساء) وفي رواية بإسقاط قال الأولى ولغير أبي ذر
وأبي الوقت وابن عساكر قالت النساء بتاء التأنيث وكلاهما
جائز في فعل اسم الجمع (للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- غلبنا) بفتح الموحدة (عليك الرجال) بملازمتهم
لك كل الأيام يتعلمون الدين ونحن نساء ضعفة لا نقدر على
مزاحمتهم (فاجعل) أي انظر لنا فعيَّن (لنا يومًا) من
الأيام تعلمنا فيه يكون منشؤه (من نفسك) أي من اختيارك لا
من اختيارنا وعبر عن التعيين بالجعل لأنه لازمه (فوعدهن)
عليه الصلاة والسلام (يومًا) ليعلمهنّ فيه (لقيهنّ فيه) أي
في اليوم الموعود به ويومًا نصب مفعول ثانٍ لوعد.
قال العيني: فإن قلت: عطف الجملة البرية وهي فوعدهنّ على
الإنشائية وهي فاجعل لنا، وقد منعه ابن عصفور وابن مالك
وغيرهما. أجيب: بأن العطف ليس على قوله فاجعل لنا يومًا،
بل العطف على جميع الجملة من قوله: غلبنا عليك الرجال
فاجعل لنا يومًا من نفسك انتهى.
(فوعظهنّ) عليه الصلاة والسلام أي فوفى عليه الصلاة
والسلام بوعدهنّ ولقيهنّ فوعظهنّ بمواعظ (وأمرهنّ) بأمور
دينية (فكان فيما قال لهنّ: ما منكنّ امرأة تقدم ثلاثة من
ولدها إلا كان) التقديم (لها حجابًا) بالنصب خبر كان،
وللأصيلي: ما منكن من امرأة بزيادة من زيدت تأكيدًا كما
قال البرماوي وللأصيلي وابن عساكر والحموي حجاب بالرفع على
أن كان تامّة أي حصل لها حجاب (من النار فقالت امرأة: و)
من قدم (اثنين) ولكريمة واثنتين بتاء التأنيث والسائلة هي
أم سليم كما عند أحمد والطبراني، وأم أيمن كما عند
الطبراني في الأوسط، أو أم مبشر بالمعجمة المشددة كما
بيّنه المؤلف (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(و) من قدم (اثنين) ولكريمة واثنتين أيضًا.
تنبيه: حكم الرجل في ذلك كالمرأة.
102 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
«ثَلاَثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ». [الحديث 103 -
طرفه في: 1250].
وبه قال: (حدّثنا) وفي رواية أبوي ذر والوقت حدّثني (محمد
بن بشار) الملقب ببندار (قال: حدّثنا غندر) هو محمد بن
جعفر البصري (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد الرحمن
بن الأصبهاني عن ذكوان) أبي صالح، وأفاد المؤلف هنا تسمية
ابن الأصبهاني المبهم في الرواية السابقة (عن أبي سعيد) أي
الخدري كما للأصيلى (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بهذا) أي بالحديث المذكور. (وعن عبد الرحمن بن
الأصبهاني) الواو في وعن للعطف على قوله في السابقة عن عبد
الرحمن، والحاصل أن شعبة يرويه عن عبد الرحمن بإسنادين فهو
(1/197)
موصول ومن زعم أنه معلق فقد وهم (قال: سمعت
أبا حازم) بالمهملة والزاي سلمان الأشجعي الكوفي، المتوفى
في خلافة عمر بن عبد العزيز (عن أبي هريرة قال) وفي رواية
أبي ذر وقال بواو العطف على محذوف تقديره مثله أي مثل حديث
أبي سعيد، وقال: (ثلاثة لم يبلغوا الحنث) بكسر المهملة
وبالمثلثة أي الإثم فزاد هذه على الرواية الأولى، والمعنى
أنهم ماتوا قبل البلوغ فلم يكتب الحنث عليهم ووجه اعتبار
ذلك أن الأطفال أعلق بالقلوب والمصيبة عند النساء أشد لأن
وقت الحضانة قائم.
37 - باب لِيُبَلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
هذا (باب) بالتنوين (ليبلغ العلم) بالنصب (الشاهد) بالرفع
(الغائب) بالنصب أي ليبلغ الحاضر الغائب العلم فالشاهد
فاعل والغائب مفعول أول له وإن تأخر في الذكر والعلم مفعول
ثانٍ واللام في ليبلغ لام الأمر، وفي الغين الكسر على
الأصل في حركة التقاء الساكنين والفتح لخفته (قاله) أي
رواه (ابن عباس) رضي الله عنهما فيما وصله المؤلف في كتاب
الحج في باب الخطبة أيام منى (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لكن بحذف
العلم ولفظه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خطب الناس يوم النحر فقال: أيها الناس أي يوم
هذا؟ قالوا: يوم حرام، وفي آخره: اللهمّ هل بلغت. قال ابن
عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصية إلى أمته فليبلغ الشاهد
الغائب، والظاهر أن المصنف ذكره بالمعنى لأن المأمور
بتبليغه هو العلم أشار لمعناه في الفتح.
104 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ:
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ
أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ
-وَهْوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ- ائْذَنْ لِي
أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْغَدَ
مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَاىَ وَوَعَاهُ
قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ:
حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ
مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا
النَّاسُ، فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ
يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ
لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ
لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ
لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ
حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ،
وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ». فَقِيلَ لأَبِي
شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ
يَا أَبَا شُرَيْحٍ، أنَّ مَكَّةَ لاَ تُعِيذُ عَاصِيًا،
وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ، وَلاَ فَارًّا بِخَرْبَةٍ. [الحديث
104 - طرفاه في: 1832، 4295].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال:
حدّثني) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر حدّثنا (الليث) بن
سعد المصري (قال: حدّثني) بالإفراد (سعيد) بكسر العين
المقبري وللأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت سعيد بن أبي سعيد
ولغيرهم هو ابن أبي سعيد (عن أبي شريح) بضم
(1/198)
المعجمة وفتح الراء آخره حاء مهملة خويلد
بن عمرو بن صخر الخزاعي الكعبي الصحابي، المتوفى سنة ثمان
وستين رضي الله عنه وله في البخاري ثلاثة أحاديث.
(أنه قال لعمرو بن سعيد) بفتح العين في الأولى وكسرها في
الثانية ابن العاص بن أمية القرشي الأموي المعروف بالأشدق.
قال ابن حجر: وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان
(وهو يبعث البعوث) بضم الموحدة جمع البعث بمعنى المبعوث،
والجملة اسمية وقعت حالاً والمعنى يرسل الجيوش (إلى مكة)
زادها الله تعالى شرفًا ومنَّ علينا بالمجاورة بها على
أحسن وجه في عافية بلا محنة لقتال عبد الله بن الزبير
لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية في سنة إحدى وستين
من الهجرة، واعتصم بالحرم بلغنا الله المجاورة به في عافية
بلا محنة وكان عمرو وإلي يزيد على المدينة الشريفة (ائذن
لي) يا (أيها الأمير أُحدّثك) بالجزم لأنه جواب الأمر
(قولاً) بالنصب مفعول ثانٍ لأحدّث (قام به النبي) وفي
رواية أبي الوقت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الغد) بالنصب على الظرفية (من يوم الفتح) أي
ثاني يوم فتح مكة في العشرين من رمضان السنة الثامنة من
الهجرة (سمعته أُذناي) أصله
أُذنان لي فسقطت النون لإضافته لياء المتكلم، والجملة في
محل نصب صفة للقول كجملة قام به
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو ينفي أن
يكون سمعه من غيره (ووعاه قلبي) أي حفظه وتحقق فهمه وتثبت
في تعقل معناه (وأبصرته عيناي) بتاء التأنيث كسمعته
أُذناي، لأن كل ما هو في الإنسان من الأعضاء اثنان كاليد
والرجل والعين والأُذن فهو مؤنث بخلاف الأنف والرأس،
والمعنى أنه لم يكن اعتماده على الصوت من وراء حجاب بل
بالرؤية والمشاهدة وأتى بالتثنية تأكيدًا (حين تكلم)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (به) أي بالقول الذي
أحدّثك (حمد الله) تعالى بيان لقوله تكلم به (وأثنى عليه)
عطف على سابقه من باب عطف العام على الخاص (ثم قال) عليه
الصلاة والسلام (إن مكة حرمها الله) عز وجل يوم خلق
السماوات والأرض (ولم يحرمها الناس) من قبل أنفسهم
واصطلاحهم، بل حرمها الله تعالى بوحيه فتحريمها ابتدائي من
غير سبب يعزى لأحد فلا مدخل فيه لنبي ولا لغيره ولا تنافي
بين هذا وبين ما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرمها
إذ المراد أنه بلغ تحريم الله وأظهره بعد أن رفع البيت وقت
الطوفان واندرست حرمتها، وإذا كان كذلك (فلا يحل لامرئ)
بكسر الراء كالهمزة إذ هي تابعة لها
في جميع أحوالها أي لا يحل لرجل (يؤمن بالله واليوم الأخر)
يوم القيامة إشارة إلى المبدأ والمعاد (أن يسفك بها دمًا)
بكسر الفاء وقد تضم وهما لغتان. قال في العباب: سفكت الدم
أسفكه وأسفكه سفكًا. وفي رواية المستملي والكشميهني فيها
بدل بها والباء بمعنى في وأن مصدرية أي فلا يحل سفك دم
فيها والسفك صب الدم والمراد به القتل. (و) أن (لا يعضد
بها) بفتح المثناة التحتية وتسكين العين المهملة وكسر
الضاد المعجمة آخره دال مهملة مفتوحة أي يقطع بالمعضد وهو
آلة كالفأس (شجرة) أي ذات ساق ولا زيدت لتأكيد معنى النفي
أي لا يحل له أن يعضد، (فإن) ترخص (أحد ترخص) برفع أحد
بفعل مقدر يفسره ما بعده لا بالابتداء لأن إن من عوامل
الفعل وحذف الفعل وجوبًا لئلا يجمع بين المفسر والمفسر
وأبرزته لضرورة البيان، والمعنى إن قال أحد ترك القتال
عزيمة والقتال رخصة تتعاطى عند الحاجة (القتال) أي لأجل
قتال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فيها) مستدلاً بذلك (فقولوا) له ليس الأمر كذلك (إن الله)
تعالى (قد أذن لرسوله) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خصيصة له (ولم يأذن لكم وإنما أذن لي) الله في
القتال فقط (فيها) أي مكة وهمزة أذن مفتوحة ويجوز ضمها على
البناء للمفعول ولأبي ذر كما في الفرع وأصله إسقاط لفظة
فيها اختصارًا للعلم به فقال: أذن ليس (ساعة) أي في ساعة
(من نهار) وهي من طلوع الشمس إلى العصر كما في حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن
(1/199)
جدّه عند أحمد فكانت مكة في حقه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تلك الساعة بمنزلة الحل،
(ثم عادت حرمتها اليوم) أي تحريمها المقابل للإباحة
المفهومة من لفظ الإذن في اليوم المعهود وهو يوم الفتح إذ
عود حرمتها كان في يوم صدور هذا القول لا في غيره (كحرمتها
بالأمس) الذي قبل يوم الفتح. (وليبلغ الشاهد) الحاضر
(الغائب) بالنصب مفعول الشاهد، ويجوز كسر لام ليبلغ
وتسكينها فالتبليغ عن الرسول عليه الصلاة والسلام فرض
كفاية. (فقيل لأبي شريح) المذكور (ما قال عمرو) أي ابن
سعيد المذكور في جوابك فقال (قال) عمرو (أنا أعلم منك يا
أبا شريح أن مكة) يعني صح سماعك وحفظك لكن ما فهمت المعنى
فإن مكة (لا تعيذ) بالمثناة الفوقية والذال المعجمة أي لا
تعصم (عاصيًا) من إقامة الحدّ عليه وفي رواية إن الحرم لا
يعيد بالمثناة التحتية عاصيًا (ولا فارًّا) بالفاء والراء
المشددة (بدم) أي مصاحبًا بدم
ومتلبسًا به وملتجئًا إلى الحرم بسبب خوفه من إقامة الحد
عليه (ولا فارًّا بخربة) أي بسبب خربة وهي بفتح المعجمة
وبعد الراء الساكنة موحدة، ووقع في رواية المستملي تفسيرها
فقال: بخربة يعني السرقة، وفي رواية الأصيلي كما قاله
القاضي عياض بخربة بضم الخاء أي الفساد، وزاد البدر
الدماميني الكسر مع إسكان الراء كذلك وقال: على المشهور أي
في الراء قال: وأصلها سرقة الإبل وتطلق على كل خيانة
انتهى.
وقد حاد عمرو عن الجواب وأتى بكلام ظاهره حق، لكن أراد به
الباطل فإن أبا شريح الصحابي أنكر عليه بعث الخيل إلى مكة
واستباحة حرمتها بنصب الحرب عليها. فأجاب بأنه لا يمنع من
إقامة القصاص وهو الصحيح، إلا أن ابن الزبير لم يرتكب
أمرًا يجب عليه فيه شيء، بل هو أولى بالخلافة من يزيد بن
معاوية لأنه بويع قبله، وهو صاحب النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومباحث ذلك تأتي إن شاء الله تعالى
في الحج.
ورواة هذا الحديث ما بين مصري ومدني وفيه التحديث بالجمع
والإفراد والعنعنة، وأخرجه المؤلف في الحج والمغازي ومسلم
في الحج، والترمذي فيه وفي الدّيات، والنسائي في الحج
والعلم والله الموفق.
105 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ
قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ
عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -قَالَ مُحَمَّدٌ:
وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ- عَلَيْكُمْ حَرَامٌ
كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا. أَلاَ
لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ»، وَكَانَ
مُحَمَّدٌ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانَ ذَلِكَ «أَلاَ هَلْ
بَلَّغْتُ» مَرَّتَيْنِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب) أبو محمد الحجبي
بفتح الحاء المهملة والجيم والموحدة البصري الثقة الثبت،
المتوفى سنة ثمانٍ وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا حماد) أي
ابن زيد البصري (عن أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن
سيرين (عن ابن أبي بكرة) عبد الرحمن (عن) أبيه (أبي بكرة)
نفيع كذا في رواية الكشميهني والمستملي وهو الصواب كما سبق
في كتاب العلم من طريق أخرى، وهو الذي رواه سائر رواة
الفربري، ووقع في نسخة أبي ذر فيما قيده عن الحموي وأبي
الهيثم عن الفربري عن محمد عن أبي بكرة فأسقط ابن أبي بكرة
كذا قاله أبو علي الغساني، والصواب الأول قال أبو بكرة حال
كونه (ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم
الذال مبنيًّا للمفعول وفي نسخة مبنيًّا للفاعل (قال)
وللأصيلي فقال: أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في حجة الوداع أي يوم الحديث السابق في باب رب
مبلغ من كتاب العلم، واقتصر منه هنا على بيان التبليغ إذ
هو المقصود فقال:
(فإن) بفاء العطف على المحذوف كما تقرر (دماءكم وأموالكم
قال محمد) أي ابن سيرين (وأحسبه) أي وأظن ابن أبي بكرة
(قال وأعراضكم) بالنصب عطفًا على السابق (عليكم حرام) أي
فإن انتهاك دمائكم وانتهاك أموالكم وانتهاك أعراضكم عليكم
حرام. يعني مال بعضكم حرام على
بعض لا أن مال الشخص حرام عليه كما دلّ عليه العقل ويدل له
رواية بينكم بدل عليكم (كحرمة يومكم هذا) وهو يوم النحر
(في شهركم هذا) ذي الحجة (ألا) بالتخفيف (ليبلغ الشاهد
منكم الغائب) بالنصب على المفعولية وكسر لام ليبلغ الثانية
وغينها للساكنين. (وكان محمد) يعني ابن سيرين (يقول صدق
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان كذلك)
أي إخباره عليه الصلاة والسلام بأنه سيقع التبليغ فيما بعد
فيكون الأمر في قوله: ليبلغ بمعنى الخبر لأن
(1/200)
التصديق إنما يكون للخبر لا للأمر أو يكون
إشارة إلى تتمة الحديث، وهو أن الشاهد عسى أن يبلغ من هو
أوعى منه يعني وقع تبليغ الشاهد أو إشارة إلى ما بعده وهو
التبليغ الذي في ضمن ألا هل بلغت بمعنى وقع تبليغ الرسول
إلى الأمة قاله البرماوي كالكرماني وغيره، وفي رواية قال
ذلك بدل قوله كان ذلك. (ألا) بالتخفيف أيضًا أي يا قوم (هل
بلغت مرتين) أي قال هل بلغت مرتين لا إنه قال الجميع مرتين
إذ لم يثبت، فقوله قال محمد الخ اعتراض وألا هل بلغت من
كلامه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
38 - باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
هذا (باب إثم من كذب على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أعاذنا الله من ذلك ومن سائر المهالك.
106 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ:
سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ
عَلِيًّا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «لاَ تَكْذِبُوا عَلَىَّ، فَإِنَّهُ
مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ».
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن الجعد) بفتح الجيم وسكون
العين آخره دال مهملتين الجوهري البغدادي (قال: أخبرنا
شعبة) بن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (منصور) هو ابن
المعتمر (قال: سمعت ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر
المهملة وتشديد المثناة التحتية (ابن حراش) بكسر الحاء
المهملة وتخفيف الراء وبالشين المعجمة ابن جحش بفتح الجيم
وسكون المهملة آخره شين معجمة الغطفاني العبسي بالموحدة
الكوفي الأعور. قيل: إنه لم يكذب قطّ، وحلف أن لا يضحك حتى
يعلم أين مصيره فما ضحك إلا عند موته، وتوفي في خلافة عمر
بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة أو سنة أربع ومائة
(يقول: سمعت عليًّا) أي ابن أبي طالب أحد السابقين إلى
الإسلام والعشرة
المبشرة بالجنة والخلفاء الراشدين والعلماء الربانيين
والشجعان المشهورين، وَليِ الخلافة خمس سنين، وتوفي
بالكوفة ليلة الأحد تاسع عشر رمضان سنة أربعين عن ثلاث
وستين سنة رضي الله عنه، وكان ضربه عبد الرحمن بن ملجم
بسيف مسموم، وله في البخاري تسعة وعشرون حديثًا أي سمعت
عليًّا حال كونه (يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا تكذبوا عليّ) بصيغة الجمع وهو عامّ في كل كذب مطلق في
كل نوع منه في الأحكام وغيرها كالترغيب والترهيب، ولا
مفهوم لقوله عليّ لأنه لا يتصور أن يكذب له لأنه عليه
الصلاة
والسلام نهى عن مطلق الكذب، (فإنه) أي الشأن (من كذب عليّ
فليلج النار) أي فليدخل فيها هذا جزاؤه وقد يعفو الله
تعالى عنه، ولا يقطع عليه بدخول النار كسائر أصحاب الكبائر
غير الكفر، وقد جعل الأمر بالولوج مسببًا عن الكذب لأن
لازم الأمر الإلزام، والإلزام يولج النار بسبب الكذب عليه
أو هو بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم: "من
يكذب عليّ يلج النار" ولابن ماجة: "فإن الكذب عليَّ يولج
النار" وقيل: دعاء عليه ثم أخرج مخرج الذم.
107 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: إِنِّي لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ. قَالَ: أَمَا إِنِّي
لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ
كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ
النَّارِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
البصري (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن جامع بن شداد)
المحاربي الكوفي الثقة، المتوفى سنة ثمان عشرة ومائة (عن
عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوام الأسدي القرشي،
المتوفى سنة أربع وعشرين ومائة (عن أبيه) عبد الله بن
الزبير الصحابي أول مولود في الإسلام للمهاجرين بالمدينة
وكان أطلس لا لحية له، وتوفي سنة اثنتين وسبعين أنه (قال):
(قلت للزبير) بن العوام بتشديد الواو حواري رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحد العشرة المبشرين
بالجنة المتوفى بوادي السباع بناحية البصرة سنة ست وثلاثين
بعد منصرفه من وقعة الجمل، وله في البخاري تسعة أحاديث
(إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كما يحدّث فلان وفلان) أي كتحديث فلان وفلان
وسمى منهما في رواية ابن ماجة عبد الله بن مسعود (قال) أي
الزبير: (أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف استفتاح ولذا
كسرت همزة إن بعدها في قوله: (إني لم أفارقه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زاد الإسماعيلي منذ أسلمت،
والمراد المفارقة العرفية الصادقة بأغلب الأوقات، وإلا فقد
هاجر إلى الحبشة ولم يكن مع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حال هجرته إلى المدينة لكن أجيب عن
هجرة الحبشة بأنها كانت قبل ظهور شوكة الإسلام أي ما
فارقته عند ظهور شوكته (ولكن) وللأصيلي
(1/201)
وابن عساكر وأبي ذر والحموي ولكني، وفي
رواية مما ليس في اليونينية ولكنني إذ يجوز في إن وأخواتها
إلحاق نون الوقاية بها وعدمه (سمعته) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يقول: من كذب عليَّ فليتبوّأ) بكسر
اللام على الأصل وبسكونها على المشهور ومن موصول متضمن
معنى الشرط والتالي صلته وفليتبوّأ جوابه أمر من التبوّء
أي فليتخذ (مقعده من النار) أي فيها. والأمر هنا معناه
الخبر أي أن الله تعالى يبوِّئه مقعده من النار، أو أمر
على سبيل التهكم والتغليظ، أو أمر تهديد أو دعاء على معنى
بوَّأه الله، وإنما خشي الزبير من الإكثار أن يقع في الخطأ
وهو لا يشعر لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكنه قد يأثم
بالإكثار، إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدَّث بالخطأ
فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق
بنقله فيكون سببًا للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من
الإكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد
الإكثار، فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار
من التحديث، وأما من أكثر منهم
فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبّت أو طالت
أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان
قاله الحافظ ابن حجر.
108 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ
لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَنْ تَعَمَّدَ عَلَىَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ
مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بفتح الميمين وسكون العين
المهملة عبد الله بن عمرو المنقري البصري المعروف بالمقعد
(قال: حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد التيمي البصري (عن عبد
العزيز) بن صهيب الأعمى البصري أنه قال: (قال أنس) أي ابن
مالك رضي الله عنه، وفي رواية أبوي ذر والوقت بإسقاط قال
الأولى:
(إنه ليمنعني أن أحدثكم) بكسر همزة إن الأولى مع التشديد،
وفتح الثانية مع التخفيف أي ليمنعني تحديثكم (حديثًا
كثيرًا) بالنصب فيهما والمراد جنس الحديث، ومن ثم وصفه
بالكثرة (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: من تعمد عليّ كذبًا) عامّ في جميع أنواع الكذب لأن
النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي في إفادة
العموم، والمختار أن الكذب عدم مطابقة الخبر للواقع ولا
يشترط في كونه كذبًا تعمده والحديث يشهد له لدلالته على
انقسام الكذب إلى متعمد وغيره (فليتبوّأ مقعده من النار)
فأفاد أنس أن توقّيه من التحديث لم يكن للامتاع من أصل
التحديث للأمر بالتبليغ، وإنما هو لخوف الإكثار المفضي إلى
الخطأ. وقد ذهب الجويني إلى كفر من كذب متعمدًا عليه صلوات
الله وسلامه عليه، ورده عليه ولده إمام الحرمين وقال: إنه
من هفوات والده، وتبعه من بعده فضعفوه، وانتصر له ابن
المنير بأن خصوصية الوعيد توجب ذلك إذ لو كان بمطلق النار
لكان كل كاذب كذلك عليه وعلى غيره، فإنما الوعيد بالخلود.
قال: ولهذا قال فليتبوّأ أي فليتخذها مباءة ومسكنًا وذلك
هو الخلود، وبأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلاً لا ينفك
عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال
الحرام كفر والحمل على الكفر كفر، وأجيب عن الأوّل: بأن
دلالة التبوّء على الخلود غير مسلمة ولو سلم فلا نسلم أن
الوعيد بالخلود مقتضٍ للكفر بدليل متعمد القتل الحرام.
وأجيب عن الثاني: بأنَّا لا نسلم أن الكذب عليه ملازم
لاستحلاله ولا لاستحلال متعلقه فقد يكذب عليه في تحليل
حرام مثلاً مع قطعه بأن الكذب عليه حرام، وأن ذلك الحرام
ليس بمستحل كما تقدم العصاة من المؤمنين على ارتكابهم
الكبائر مع اعتقادهم حرمتها انتهى:
109 - حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بنِ
الأكْوَعِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ يَقُلْ عَلَىَّ مَا لَمْ أَقُلْ
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وبه قال: (حدّثنا المكي) وفي رواية أبي ذر: حدّثني المكي
بالإفراد والتعريف، وفي أخرى: حدّثني مكي بالإفراد
والتنكير (ابن إبراهيم) البلخي (قال: حدّثنا يزيد بن أبي
عبيد) بضم العين
الأسلمي، المتوفى بالمدينة سنة ست أو سبع وأربعين ومائة
(عن سلمة) بفتح السين واللام (ابن الأكوع) واسم الأكوع
سنان بن عبد الله السلمي المدني، المتوفى بالمدينة سنة
أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة، وله في البخاري عشرون
حديثًا.
(سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي
كلامه حال كونه (يقول: من يقل علي) أصله يقول حذفت الواو
للجزم
(1/202)
لأجل الشرط (ما لم أقل) أي الذي لم أقله
وكذا لو نقل ما قاله بلفظ يوجب تغير الحكم أو نسب إليه
فعلاً لم يرد عنه (فليتبوّأ) جواب الشرط السابق (مقعده من
النار) لما فيه من الجرأة على الشريعة وصاحبها -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلو نقل العالم معنى قوله
بلفظ غير لفظه لكنه مطابق لمعنى لفظه فهو سائغ عنده
المحققين، وفي هذا الحديث زيادة على ما سبق التصريح بالقول
لأن السابق أعمّ من نسبة القول والفعل إليه.
110 - حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلاَ
تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي. وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ
فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِي
صُورَتِي. وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». [الحديث 110 -
أطرافه في: 3539، 6188، 6197، 6993].
وبه قال (حدّثنا) وفي رواية حدّثني (موسى) بن إسماعيل
المنقري التبوذكي البصري (قال: حدّثنا أبو عوانة) الوضاح
اليشكري (عن أبي حصين) بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين
عثمان بن عاصم الكوفي، المتوفى سنة سبع أو ثمان وعشرين
ومائة (عن أبي صالح) ذكوان السمان المدني (عن أبي هريرة)
الدوسي رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(تسموا) بفتح التاء والسين والميم المشددة أمر بصيغة الجمع
من باب التفعّل (باسمي) محمد وأحمد (ولا تكتنوا) بفتح
التاءين بينهما كاف ساكنة، وفي رواية الأربعة "ولا تكنوا"
بفتح الكاف ونون مشدّدة من غير تاء ثانية من باب التفعّل
من تكنى يتكنى تكنيًّا، وأصله لا تتكنوا فحذفت إحدى
التاءين أو بضم التاء وفتح الكاف وضم النون المشددة من باب
التفعيل من كنى يكني تكنية، أو بفتح التاء وسكون الكاف
وكلها من الكناية (بكنيتي) أبي القاسم وهو من باب عطف
المنفي على المثبت. (ومن رآني في المنام فقد رآني) حقًّا
(فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي) أي لا يتمثل بصورتي،
وتأتي مباحث ذلك إن شاء الله تعالى. وفي كتابي المواهب من
ذلك ما يكفي ويشفي. (ومن كذب علي متعمدًا فليتبوّأ مقعده
من النار) مقتضى هذا الحديث استواء تحريم الكذب عليه في كل
حال سواء في اليقظة والنوم، وقد أورد المصنف حديث من كذب
عليّ هاهنا عن جماعة من الصحابة علي والزبير وأنس وسلمة
وأبي هريرة وهو حديث في غاية الصحة ونهاية القوّة، وقد
أطلق القول بتواتره جماعة وعورض بأن المتواتر شرطه استواء
طرفيه وما بينهما في الكثرة وليست موجودة في كل
طريق بمفردها، وأجيب: بأن المراد من إطلاق تواتره رواية
المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر،
وهذا كافٍ في إفادة العلم.
39 - باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ
هذا (باب كتابة العلم).
111 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ:
أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنِ
الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ
لِعَلِيِّ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لاَ إِلاَّ
كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ،
أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا
فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ
الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. [الحديث
111 - أطرافه في: 1870، 3047، 3172، 3179، 6755، 6903،
6915، 7300].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا ابن سلام) بالتخفيف. قال
في الكمال: وقد يشدده من لا يعرف، وقال الدارقطني:
بالتشديد لا بالتخفيف البيكندي ولغير أبي ذر محمد بن سلام
(قال: أخبرنا وكيع) أي ابن الجراح بن مليح الكوفي، المتوفى
يوم عاشوراء سنة سبع وسبعين ومائة (عن سفيان) الثوري أو
ابن عيينة، وجزم في فتح الباري بالأوّل لشهرة وكيع
بالرواية عنه، ولو كان ابن عيينة لنسبه المؤلف لأن إطلاق
الرواية عن متّفقي الاسم يقتضي أن يحمل من أهملت نسبته على
من يكون له به خصوصية من إكثار ونحوه، وتعقبه العيني بأن
أبا مسعود الدمشقي قال في الأطراف: إنه ابن عيينة. (عن
مطرف) بضم الميم وفتح الطاء وكسر الراء المشددة آخره فاء
ابن طريف بطاء مهملة مفتوحة الحارثي، المتوفى سنة ثلاث
وثلاثين ومائة (عن الشعبي) بفتح الشين وسكون العين المهملة
واسمه عامر (عن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة
وسكون المثناة التحتية وبالفاء واسمه وهب بن عبد الله
السوائي بضم السين المهملة وتخفيف الواو وبالمد الكوفي من
صغار الصحابة، المتوفى سنة اثنتين وسبعين (قال):
(قلت لعلي) وللأصيلي زيادة ابن أبي طالب (هل عندكم) أهل
البيت النبوي أو الميم للتعظيم (كتاب) أي مكتوب خصّكم به
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دون غيركم
من أسرار علم الوحي كما يزعم الشيعة (قال) علي: (لا) كتاب
عندنا (إلا كتاب الله) بالرفع بدل من مستثنى منه (أو فهم)
بالرفع (أعطيه) بصيغة المجهول وفتح الياء (رجل مسلم) من
فحوى الكلام ويدركه من باطن المعاني التي هي غير الظاهر من
نصه ومراتب الناس في ذلك متفاوتة،
(1/203)
ويفهم منه جواز استخراج العالم من القرآن
بفهمه ما لم يكن مقولاً عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة
ورفع فهم بالعطف على سابقه، فالاستثناء متصل قطعًا. وأما
قول الحافظ ابن حجر: الظاهر أنه منقطع فمدفوع بأنه لو كان
من غير الجنس لكان قوله أو فهم منصوبًا لأنه عطف على
المستثنى، والمستثنى إذا كان من غير جنس المستثنى منه
يكون منصوبًا وما عطف عليه كذلك ثم عطف على قوله كتاب
الله. قوله: (أو ما) أي الذي (في هذه الصحيفة) وهي الورقة
المكتوبة وكانت معلقة بقبضة سيفه إما احتياطًا أو
استحضارًا، وإما لكونه منفردًا بسماع ذلك، وللنسائي فأخرج
كتابًا من قراب سيفه (قال) أبو جحيفة (قلت وما) وفى رواية
الكشميهني فما وكلاهما للعطف أي أيّ شيء (في هذه الصحيفة؟
قال) علي رضي الله عنه، فيها (العقل) أي حكم العقل وهو
الدّية لأنهم كانوا يعقلون فيها الإبل ويربطونها بفناء دار
المستحق للعقل، والمراد أحكامها ومقاديرها وأصنافها
وأسنانها، (وفكاك) بفتح الفاء ويجوز كسرها وهو ما يحصل به
خلاص (الأسير ولا يقتل مسلم بكافر) بضم اللام عطف جملة
فعلية على جملة اسمية أي
فيها العقل وفيها حرمة قصاص المسلم بالكافر. وفي رواية
الأصيلي والكشميهني: وأن لا يقتل بزيادة أن المصدرية
الناصبة وعطفت الجملة على المفرد لأن التقدير فيها أي
الصحيفة حكم العقل وحكم تحريم قتل المسلم بالكافر، فالخبر
محذوف. وحينئذ فهو عطف جملة على جملة، وحرمة قصاص المسلم
بالكافر هو مذهب إمامنا الشافعي ومالك وأحمد والأوزاعي
والليث وغيرهم من العلماء، خلافًا للحنفية. ويدل لهم أنّ
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قتل مسلمًا
بمعاهد وقال: (أنا أكرم من وفى بذمته) الحديث. رواه
الدارقطني لكنه ضعيف فلا يحتج به، وتمام البحث في ذلك يأتي
في محلّه إن شاء الله تعالى.
ووقع عند المصنف ومسلم قال: ما عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب
الله، وهذه الصحيفة فإذا فيها المدينة حرم، ولمسلم وأخرج
صحيفة مكتوبة فيها لعن الله من ذبح لغير الله، وللنسائي
فإذا فيها المؤمنون يتكافؤون دماءهم يسعى بذمتهم أدناهم
الحديث، ولأحمد فيها فرائض الصدقة. والجمع بين هذه أنّ
الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوبًا فيها فنقل كلٌّ
من الرواة عنه ما حفظ.
112 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ
قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا
رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ
مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَكِبَ
رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ
عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ -أَوِ الْفِيلَ. شَكَّ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ- وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُؤْمِنِينَ.
أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ
تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي. أَلاَ وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي
سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. أَلاَ وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ
حَرَامٌ: لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ
شَجَرُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ
لِمُنْشِدٍ. فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ
الْقَتِيلِ». فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ
فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ:
«اكْتُبُوا لأَبِي فُلاَنٍ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
قُرَيْشٍ: إِلاَّ الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِلاَّ
الإِذْخِرَ». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يُقَالُ يُقَادُ
بِالْقَافِ. فَقِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَىْءٍ
كَتَبَ لَهُ؟. قَالَ: كَتَبَ لَهُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ.
[الحديث 112 - طرفاه في: 2434، 6880].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم الفضل بن دكين) بضم الدال
المهملة وفتح الكاف (قال: حدّثنا شيبان) بفتح المعجمة
وسكون المثناة التحتية ابن عبد الرحمن النحوي المؤدب
البصري الثقة، المتوفى
سنة أربع وستين ومائة في خلافة المهدي (عن يحيى) بن أبي
كثير صالح بن المتوكل الطائي مولاهم العطار أحد الأعلام
الثقات العباد، المتوفى سنة تسع وعشرين ومائة. وقيل: سنة
اثنتين وثلاثين (عن أبي سلمة) بفتح اللام عبد الله بن عبد
الرحمن بن عوف (عن أبي هريرة) رضي الله عنه. وللمؤلف في
الدّيات: حدّثنا أبو سلمة قال: حدّثنا أبو هريرة:
(أن خزاعة) بضم الخاء المعجمة وبالزاي غير منصرف للعلمية
والتأنيث وهم حي من الأزد (قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح
مكة بقتيل منهم قتلوه). في السيرة أن خراش بن أمية الخزاعي
قتل جندب بن الأقرع الهذلى بقتيل قتل في الجاهلية يقال له
أحمر، وعلى هذا فيكون قوله أنّ خزاعة قتلوا أي واحد منهم
فأطلق عليه اسم الحيّ مجازًا (فأخبر) بضم الهمزة وكسر
الموحدة (بذلك النبيّ) بالرفع نائب الفاعل (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فركب راحلته) الناقة التي
تصلح أن يرحل عليها (فخطب) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال: وإن الله) عز وجل (حبس) أي منع
(عن مكة القتل) بالقاف المفتوحة والمثناة الفوقية (أو
الفيل) بالفاء المكسورة والمثناة التحتية الحيوان المشهور
(شك أبو عبد الله) أي البخاري وسقط قوله شك أبو عبد الله
عند أبي ذر وابن عساكر وللأربعة قال أبو عبد الله كذا قال
أبو نعيم هو الفضل بن دكين، وأراد به أن الشك فيه من شيخه
واجعلوا بصيغة الأمر، وللأصيلي واجعلوه بضمير النصب أي
اجعلوا اللفظ على الشك الفيل بالفاء أو القتل
(1/204)
بالقاف وغيره أي غير أبي نعيم ممن رواه عن
الشيباني رفيقًا لأبي نعيم وهو عبيد الله بن موسى، ومن
رواه عن يحيى رفيقًا لشيبان وهو حرب بن شداد كما سيأتي إن
شاء الله تعالى في الدّيات يقول الفيل بالفاء من غير شك،
والمراد بحبس الفيل أهل الفيل الذين غزوا مكة فمنعها الله
تعالى منهم كما أشار إليه تعالى في القرآن، وهذا تصريح من
المصنف بأن الجمهور على رواية الفيل بالفاء، وفي بعض النسخ
مما ليس في اليونينية أن الله حبس عن مكة القتل أو الفيل
كذا قال أبو نعيم، واجعلوا على الشك الفيل أو القتل. وفي
رواية قال محمد أي البخاري: وجعلوه أي الرواة على الشك كذا
قال أبو نعيم الفيل أو القتل. وقال البرماوي كالكرماني
الفتك بالفاء والكاف أي سفك الدم على غفلة أي بدل القتل،
ووجهه ظاهر، لكن لا أعلمه روي كذلك ولا يبعد أن يكون
تصحيفًا.
ثم عطف على السابق قوله: (وسلط عليهم) بضم السين بالبناء
للمفعول (رسول الله) نائب عن الفاعل (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنون) رفع بالواو عطف عليه كذا
في رواية أبي ذر ولغيره وسلّط بفتح السين أي الله رسول
الله مفعوله والمؤمنين نصب بالياء عطف عليه (ألا) بفتح
الهمزة وتخفيف اللام أن الله قد حبس عنها (وإنها) ولأبي ذر
فإنها بالفاء (لم تحل) بفتح أوّله وكسر ثانيه (لأحد قبلي
ولا تحل) بضم اللام وفي رواية الكشميهني ولم تحل (لأحد
بعدي) واستشكلت هذه الرواية، فإن لم تقلب المضارع ماضيًا
ولفظ بعدي للاستقبال فكيف يجتمعان؟ وأجيب بأن المعنى لم
يحكم الله في الماضي بالحال في المستقبل (ألا) بالتخفيف مع
الفتح أيضًا (وإنها) بالعطف على مقدر كالسابقة (أحلّت لي
ساعة من نهار ألا) بالتخفيف أيضًا (وإنها) بواو العطف كذلك
(ساعتي) أي في ساعتي (هذه) التي أتكلم فيها بعد الفتح
(حرام)
بالرفع على الخبرية لقوله إنها أي مكة واستشكل بكون مكة
مؤنثة فلا تطابق بين المبتدأ والخبر المذكور. وأجيب: بأنه
مصدر في الأصل يستوي فيه التذكير والتأنيث والإفراد والجمع
(لا يختلى) يضم أوّله وبالمعجمة أي لا يقطع ولا يجز
(شوكها) إلا المؤذي كالعوسج واليابس كالحيوان المؤذي
والصيد الميت (ولا يعضد) بضم أوّله وفتح ثالثه المعجم أي
لا يقطع (شجرها ولا تلتقط) بالبناء للمفعول (ساقطتها) أي
ما سقط فيها بغفلة مالكه (إلا لمنشد) أي معرف فليس لواجدها
غير التعريف ولا يملكها هذا مذهبنا، (فمن قتل) بضم أوّله
وكسر ثانيه أي قتل له قتيل كما في الدّيات عند المصنف (فهو
بخير النظرين) أي أفضلهما، ولغير الكشميهني بخير بالتنوين
وإسقاط النظرين. وفي نسخة الصغاني فمن قتل له قتيل وصحح
على قوله له قتيل، كذا قدر المحذوف هنا الحافظ ابن حجر
كالخطابي، وتعقبه العيني بأنه يلزم منه حذف الفاعل. وقال
البرماوي: أي المستحق لديته بخير وهو معنى قول البدر
الدماميني يمكن جعل الضمير من قوله فهو عائدًا إلى الولي
المفهوم من السياق. وقال العيني: التحقيق أن يقدر فيه
مبتدأ محذوف وحذفه سائغ، والتقدير فمن أهله قتل فهو بخير
النظرين فمن مبتدأ وأهله قتل جملة من المبتدأ والخبر وقعت
صلة للموصول، وقوله: فهو مبتدأ وقوله بخير النظرين خبره،
والجملة خبر المبتدأ الأوّل والضمير في قتل يرجع إلى الأهل
المقدر. وقوله: هو يرجع إلى من والباء في بخير النظرين
متعلق بمحذوف تقديره فهو مرضي بخير النظرين أو عامل أو
مأمور.
(إما أن يعقل وإما أن يقاد) أي يمكن (أهل القتيل) من القتل
يقال أقدت القاتل بالمقتول أي اقتصصته منه، فالنائب عن
الفاعل ضمير يعود للمفعول أي يؤخذ له القود أو نحو ذلك،
وبهذا يزول الإشكال إذ لولا التقدير كان المعنى وإما أن
يقتل أهل القتيل وهو باطل، قال الدماميني: ولعل يقاد يمكن
من القود وهو القتل. أي: وإما أن يمكن أهل القتيل من القود
فيستقيم المعنى والفعلان مبنيان للمفعول وهمزة إما
التفصيلة مكسورة وأن المصدرية مفتوحة في الأربعة. (فجاء
رجل من أهل اليمن) هو أبو شاه بشين معجمة وهاء منوّنة كما
في فتح الباري (فقال: اكتب لي) أي الخطبة التي سمعتها منك
(يا رسول الله. فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (اكتبوا لأبي
(1/205)
فلان) أي لأبي شاه (فقال رجل من قريش) هو
العباس بن عبد المطلب قل يا رسول الله لا يختلى شوكها ولا
يعضد شجرها (إلا الإذْخر يا رسول الله) بكسر الهمزة وسكون
الذال وكسر الخاء المعجمتين وهو نبت معروف طيب الرائحة
ويجوز فيه الرفع على البدل من السابق والنصب على الاستثناء
لكونه واقعًا بعد النفي، (فإنا نجعله في بيوتنا) للسقف فوق
الخشب أو يخلط بالطين لئلا ينشق إذا بني به (وقبورنا) نسدّ
به فرج اللحد المتخللة بين اللبنات (فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): بوحي في الحال أو قبل ذلك
أنه إن طلب منه أحد استثناء شيء منه فاستثنه (إلا الإذْخر)
وللأصيلي إلا الإذْخر مرتين فتكون الثانية للتأكيد. وفي
فرع اليونينية هنا زيادة وهي (قال أبو عبد الله) أي
البخاري (يقال يقاد بالقاف فقيل لأبي عبد الله أي شيء كتب
له؟ فقال: كتب له هذه الخطبة). وليس هذا التفسير عند أبي
ذر والأصيلي وأبي الوقت وابن عساكر.
113 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ:
أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدٌ
أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ
وَلاَ أَكْتُبُ. تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ.
- وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني الإمام (قال:
حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: حدّثنا عمرو) هو ابن دينار
المكي الجمحي أحد الأئمة المجتهدين، المتوفى سنة ست وعشرين
ومائة (قال: أخبرني) بالإفراد (وهب بن منبّه) بضم الميم
وفتح النون وكسر الموحدة المشددة ابن كامل بن سيج بفتح
السين المهملة، وقيل بكسرها وسكون المثناة التحتية في آخره
جيم الصنعاني الأنباري الذماري بالمعجمة، المتوفى سنة أربع
عشرة ومائة (عن أخيه) همام بن منبّه المتوفى سنة إحدى
وثلاثين ومائة (قال: سمعت أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر
رضي الله عنه (يقول):
(ما من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أحد) بالرفع اسم ما النافية (أكثر) بالنصب خبرها (حديثًا)
بالنصب على التمييز (عنه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (مني) وفي رواية أبي أكثر بالرفع صفة أحد كذا
أعربه العيني والكرماني والزركشي، وتعقبه البدر الدماميني
فقال قوله اسم ما يقتضي أنها عاملة وأحد الشروط متخلف وهو
تأخير الخبر واغتفارهم لتقدّم الظرف دائمًا إنما هو إذا
كان معمولاً للخبر لا خبرًا، وأما نصب أكثر فيحتمل أن يكون
حالاً من الضمير المستكن في الظرف المتقدم على بحث فيه
فتأمله. قال: والذي يظهر أن (ما) هذه مهملة غير عاملة عمل
ليس، وأن أحد مبتدأ وأكثر صفته ومن أصحاب النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خبره اهـ.
(إلا ما كان من عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص رضي الله
عنهما (فإنه كان يكتب و) أنا (لا أكتب) أي لكن الذي كان من
عبد الله بن عمرو وهو الكتابة لم يكن مني والخبر محذوف
بقرينة ما في الكلام سواء لزم منه كونه أكثر حديثًا لما
تقتضيه عادة الملازمة مع الكتابة أم لا. ويجوز أن يكون
الاستثناء متصلاً نظرًا إلى المعنى إذ حديثًا وقع تمييزًا،
والتمييز كالمحكوم عليه فكأنه قال: ما أحد حديثه أكثر من
حديثي إلا أحاديث حصلت من عبد الله، ويفهم منه جزم أبي
هريرة رضي الله عنه بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثًا عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منه إلا عبد
الله بن عمرو مع أن الموجود عن عبد الله بن عمرو أقل من
الموجود المرويّ عن أبي هريرة بأضعاف لأنه سكن مصر، وكان
الواردون إليها قليلاً بخلاف أبي هريرة فإنه استوطن
المدينة وهي مقصد المسلمين من كل جهة، وروى عنه فيما قاله
المؤلف نحو من ثمانمائة رجل، ورُوِيَ عنه من الحديث خمسة
آلاف وثلاثمائة حديث ووجد لعبد الله سبعمائة حديث (تابعه)
أي تابع وهب بن منبّه في روايته لهذا الحديث عن همام
(معمر) هو ابن راشد (عن همام عن أبي هريرة) كما أخرجها عبد
الرزاق عن معمر.
114 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعُهُ قَالَ:
«ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لاَ
تَضِلُّوا بَعْدَهُ» قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَلَبَهُ الْوَجَعُ،
وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا،
وَكَثُرَ اللَّغَطُ. قَالَ: قُومُوا عَنِّي، وَلاَ
يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيئةَ كُلَّ الرَّزِيئةِ مَا حَالَ
بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَبَيْنَ كِتَابِهِ. [الحديث 114 - أطرافه في:
3053، 3168، 4431، 4432، 5669، 7366].
وبه قال (حدّثنا يحيى بن سليمان) بن يحيى الجعفي المكّي
المتوفى بمصر سنة سبع أو ثمان وثلاثين ومائتين (قال:
حدّثني) بالإفراد (ابن وهب) عبد الله المصري (قال: أخبرني)
بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن
مسلم الزهري (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله) بن
عتبة أحد الفقهاء السبعة (عن ابن عباس) رضي الله عنهما
(قال):
(لما اشتد) أي حين قوي (بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
(1/206)
وجعه) الذي توفي فيه يوم الخميس قبل موته
بأربعة أيام (قال: ائتوني بكتاب) أي بأدوات الكتاب كالدواة
والقلم أو أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه كالكاغد
وعظم الكتف كما صرح به في رواية مسلم (كتب لكم) بالجزم
جوابًا للأمر ويجوز الرفع على الاستئناف أي آمر من يكتب
لكم (كتابًا) فيه النص على الأئمة بعدي أو أبين فيه مهمات
الأحكام (لا تضلوا بعده) بالنصب على الظرفية، وتضلوا بفتح
أوّله وكسر ثانيه مجزوم بحذف النون بدلاً من جواب الأمر.
(قال عمر) بن الخطاب رضي الله عنه لمن حضره من الصحابة:
(إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غلبه الوجع
و) الحال (عندنا كتاب الله) هو (حسبنا) أي كافينا، فلا
نكلف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما
يشق عليه في هذه الحالة من إملاء الكتاب ولم يكن الأمر في
ائتوني للوجوب، وإنما هو من باب الإرشاد للأصلح للقرينة
الصارفة للأمر عن الإيجاب إلى الندب، وإلا فما كان يسوغ
لعمر رضي الله عنه الاعتراض على أمر الرسول عليه الصلاة
والسلام على أنّ في تركه عليه الصلاة والسلام الإنكار على
عمر رضي الله عنه دليلاً على استصوابه، فكان توقف عمر
صوابًا، لا سيما والقرآن فيه تبيان لكل شيء، ومن ثم قال
عمر: حسبنا كتاب (فاختلفوا) أي الصحابة عند ذلك فقالت
طائفة: بل نكتب لما فيه من امتثال أمره وزيادة الإيضاح،
(وكثر) بضم المثلثة (اللغط) بتحريك اللام والغين المعجمة
أي الصوت والجلبة بسبب ذلك، فلما رأى ذلك عليه الصلاة
والسلام (قال) وفي رواية فقال بفاء العطف وفي أخرى وقال
بواوه (قوموا عني) أي عن جهتي (ولا ينبغي عندي التنازع)
بالضم فاعل ينبغي، (فخرج ابن عباس) من المكان الذي كان به
عندما تحدث بهذا الحديث وهو (يقول: إن الرزيئة) بفتح الراء
وكسر الزاي بعدها ياء ساكنة ثم همزة وقد تسهل وتشدد الياء
(كل الرزيئة) بالنصب على التوكيد (ما حال) أي الذي حجز
(بين رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين
كتابه) وقد كان عمر أفقه من ابن عباس حيث اكتفى بالقرآن
على أنه يحتمل أن يكون -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان ظهر له حين همّ بالكتاب أنه مصلحة، ثم ظهر
له أو أُوحي إليه بعد أنّ المصلحة في تركه ولو كان واجبًا
لم يتركه عليه
الصلاة والسلام لاختلافهم لأنه لم يترك التكليف لمخالفة من
خالف، وقد عاش بعد ذلك أيامًا ولم يعاود أمرهم بذلك.
ويستفاد من هذا الحديث جواز كتابة الحديث الذي عقد المؤلف
الباب له، وكذا من حديث علي وقصة أبي شاه الإذن فيها، لكن
يعارض ذلك حديث أبي سعيد الخدري المروي في مسلم مرفوعًا
"لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن" وأجيب: بأن النهي خاص
بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك
أو الإذن ناسخ للنهي عند الأمن من الالتباس، أو النهي خاص
بمن خشي منه الاتّكال على الكتاب دون الحفظ والإذن لمن أمن
منه ذلك. وقد كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث
واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظًا كما أخذوا حفظًا، لكن لما
قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دوّنوه وأوّل من دوّن
الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد
العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف وحصل بذلك خير كثير
ولله الحمد والمنّة.
40 - باب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ
(باب) تعليم (العلم والعظة) بكسر العين أي الوعظ، وفي بعض
النسخ واليقظة (بالليل).
115 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ
عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ. وَعَمْرٌو وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ:
اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ
مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ، وَمَاذَا
فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ. أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ
الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ
فِي الآخِرَةِ». [الحديث 115 - أطرافه في: 1126، 3599،
5844، 6218، 7069].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا صدقة) بن الفضيل المروزي،
المتوفى سنة ثلاث أو ست وعشرين ومائتين وانفرد المؤلف به
عن الستة (قال: أخبرنا ابن عيبنة) سفيان (عن معمر) بفتح
الميمين وسكون العين بينهما ابن راشد (عن الزهري) محمد بن
مسلم (عن هند) بنت الحرث الفراسية بكسر الفاء وبالسين
المهملة، وللكشميهني عن امرأة بدلها (عن أم سلمة) هند
وقيل: رملة أم المؤمنين بنت سهل بن المغيرة بن عبد الله بن
عمرو بن مخزوم ورثت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- علمًا كثيرًا، لها في البخاري أربعة أحاديث،
وتوفيت سنة تسع وخمسين رضي الله عنها. (وعمرو) بالرفع على
الاستئناف والمعنى أن ابن عيينة حدّث عن معمر عن الزهري،
ثم قال: وعمرو وكأنه حدّث
(1/207)
بحذف صيغة الأداء كما هي عادته، ويجوز
الجرّ في عمرو عطفًا على معمر وهو الذي في الفرع مصححًا
عليه. قال القاضي عياض: والقائل وعمرو هو ابن عيينة، وعمرو
هذا هو ابن دينار، (ويحيى بن سعيد) هو الأنصاري لا القطان
إذ هو لم يلق الزهري حتى يكون سمع منه (عن) ابن شهاب
(الزهري عن هند) وفي رواية الأربعة عن امرأة بدل قوله في
هذا الإسناد الثاني عن هند، وفي هامش فرع اليونينية، ووقع
عند الحموي والمستملي في الطريق الثاني عن هند عن أم سلمة
كما في الحديث قبله، ولغيرهما عن امرأة
قال: وفي نسخة صحيحة مرقوم على قوله عن امرأة علامة أبي
الهيثم، والأصيلي وابن عساكر وابن السمعاني في أصل سماعه
عن أبي الوقت في خانقاه السميساطي اهـ. والحاصل أن الزهري
ربما أبهمها وربما سماها (عن أم سلمة) رضي الله عنها أنها
(قالت):
(استيقظ) أي تيقظ فالسين ليست هنا للطلب أي انتبه (النبي)
وفي رواية أبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ذات ليلة) أي في ليلة ولفظ ذات زيدت للتأكيد،
وقال جار الله: هو من إضافة المسمى إلى اسمه وكان عليه
الصلاة والسلام في بيت أُم سلمة لأنها كانت ليلتها (فقال:
سبحان الله ماذا) استفهام متضمن معنى التعجب لأن سبحان
تستعمل له (أنزل) بضم الهمزة وللكشميهني أنزل الله
(الليلة) بالنصب ظرفًا للإنزال (من الفتن وماذا فتح من
الخزائن) عبر عن العذاب بالفتن لأنها أسبابه وعن الرحمة
بالخزائن لقوله تعالى: {خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [ص:
9] واستعمل المجاز في الإنزال، والمراد به إعلام الملائكة
بالأمر المقدور، وكأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رأى في المنام أنه سيقع بعده فتن وتفتح لهم
الخزائن؛ أو أوحى الله تعالى إليه ذلك قبل النوم فعبّر عنه
بالإنزال وهو من المعجزات، فقد فتحت خزائن فارس والروم
وغيرهما كما أخبر عليه الصلاة والسلام (أيقظوا) بفتح
الهمزة أي نبهوا (صواحب) وفي رواية صواحبات (الحجر) بضم
الحاء وفتح الجيم جمع حجرة وهي منازل أزواجه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخصّهنّ لأنهنّ الحاضرات
حينئذ (فربّ كاسية في الدنيا) أثوابًا رقيقة لا تمنع إدراك
البشرة أو نفيسة (عارية) بتخفيف الياء أي معاقبة (في
الآخرة) بفضيحة التعرّي أو عارية من الحسنات في الآخرة،
فندبهنّ بذلك إلى الصدقة وترك السرف. ويجوز في عارية الجر
على النعت لأن ربّ عند سيبويه حرف جر يلزم صدر الكلام
والرفع بتقدير هي، والفعل الذي يتعلق به محذوف. واختار
الكسائي أن تكون ربّ اسمًا مبتدأ والمرفوع خبرها وهي هنا
للتكثير وفعلها الذي تتعلق به ينبغي أن يكون محذوفًا
غالبًا، والتقدير: رب كاسية عارية عرفتها، والحديث يأتي في
الفتن إن شاء الله تعالى.
41 - باب السَّمَرِ بِالْعِلْمِ
(باب السمر) بفتح السين والميم وهو الحديث في الليل (في
العلم) وللأربعة بالعلم، وفي اليونينية في العلم وضبب
عليه، ومكتوب على الهامش بالعلم مصحح عليه، ولغير أبي ذر
باب بالتنوين مقطوعًا عن الإضافة أي هذا باب في بيان السمر
بالعلم.
116 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي بَكْرِ
بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعِشَاءَ فِي آخِرِ
حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ:
«أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ
مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى
ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ». [الحديث 116 - طرفاه في: 564،
601].
وبالسند السابق إلى المؤلف قال: (حدّثنا سعيد بن عفير) بضم
العين المهملة وفتح الفاء (قال: حدّثني) بالإفراد وللأصيلي
حدّثنا (الليث) بن سعد عالم مصر (قال: حدّثني) بالإفراد
(عبد الرحمن بن خالد) زاد في رواية أبي ذر ابن مسافر أي
الفهمي مولى الليث بن سعد أمير مصر لهشام بن عبد الملك،
المتوفى سنة سبع وعشرين ومائة، وفي رواية حدّثني الليث
حدّثه عبد الرحمن أي أنه حدّثه عبد الرحمن (عن ابن شهاب)
الزهري (عن سالم) أي ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب (وأبي
بكر بن سليمان بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة وسكون
المثلثة، ولم يخرج له المؤلف سوى هذا الحديث مقرونًا
بسالم.
(أن عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (قال: صلّى
بنا النبي) وفي رواية الأربعة لنا باللام بدل الباء يعني
إمامًا لنا، وإلاّ فالصلاة لله لا لهم، وفي رواية أبي ذر
عن الكشميهني رسول الله بدل قوله النبي (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العشاء) بكسر العين والمد أي صلاة
العشاء (في آخر حياته) قبل موته عليه الصلاة والسلام بشهر،
(فلما سلَّم) من الصلاة (قام فقال: أرأيتكم) أي أخبروني
وهو من إطلاق
(1/208)
السبب على المسبب لأن مشاهدة هذه الأشياء
طريق إلى الإخبار عنها والهمزة فيه مقررة أي قد رأيتم ذلك
فأخبروني (ليلتكم) أي شأن ليلتكم أو خبر ليلتكم (هذه) هل
تدرون ما يحدث بعدها من الأمور العجيبة، وتاء أرأيتكم فاعل
والكاف حرف خطاب لا محل لها من الإعراب ولا تستعمل إلا في
الاستخبار عن حالة عجيبة، وليلتكم نصب مفعول ثانٍ
لأخبروني، (فإن رأس) وللأصيلي فإن على رأس (مائة سنة منها)
أي من تلك الليلة (لا يبقى ممّن هو على ظهر الأرض أحد) ممن
ترونه أو تعرفونه عند مجيئه، أو المراد أرضه التي بها نشأ
ومنها بعث كجزيرة العرب المشتملة على الحجاز وتهامة ونجد
فهو على حدّ قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}
[المائدة: 33] أي بعض الأرض التي صدرت الجناية فيها، فليست
أل للاستغراق، وبهذا يندفع قول من استدل بهذا الحديث على
موت الخضر عليه السلام كالمؤلف وغيره، إذ يحتمل أن يكون
الخضر في غير هذه الأرض المعهودة، ولئن سلمنا أن أل
للاستغراق فقوله أحد عموم يحتمل إذ على وجه الأرض الجنّ
والإنس والعمومات يدخلها التخصيص بأدنى قرينة، وإذا احتمل
الكلام وجوهًا سقط به الاستدلال قاله الشيخ قطب الدين
القسطلاني. وقال النووي: المراد أن كل من كان تلك الليلة
على الأرض لا يعيش بعدها أكثر من مائة سنة سواء قلّ عمره
قبل ذلك أم لا، وليس فيه نفي حياة أحد يولد بعد تلك الليلة
مائة سنة.
117 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ:
حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ
خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَهَا فِي
لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى
مَنْزِلِهِ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ،
ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: «نَامَ الْغُلَيِّمُ» -أَوْ
كَلِمَةً تُشْبِهُهَا- ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عَنْ
يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ
رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى
سَمِعْتُ غَطِيطَهُ -أَوْ خَطِيطَهُ- ثُمَّ خَرَجَ إِلَى
الصَّلاَةِ.
[الحديث 117 - أطرافه في: 138، 183، 697، 698، 699، 726،
728، 859، 9924، 1198، 4569، 4570، 4571، 4572، 5919،
6215، 6316، 7452].
وبه قال: (حدّثنا آدم) أي ابن أبي إياس (قال: حدّثنا شعبة)
بن الحجاج (قال: حدّثنا الحكم) بفتح الحاء والكاف ابن عتبة
بضم العين تصغير عتبة ابن النهاس فقيه الكوفة، المتوفى سنة
أربع عشرة وقيل: خمس عشرة ومائة.
(قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه
(قال):
(بت) بكسر الموحدة من البيتوتة (في بيت خالتي ميمونة بنت
الحرث) الهلالية (زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وهي أخت أمه لبابة الكبرى بنت الحرث ولبابة
هذه أوّل امرأة أسلمت بعد خديجة، وتوفيت ميمونة رضي الله
عنها سنة إحدى وخمسين بسرف بالمكان الذي بنى بها فيه النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصلى عليها ابن عباس
لها في البخاري سبعة أحاديث. (وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندها في ليلتها) المختصة بها بحسب
قسم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أزواجه
(فصلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العشاء)
في المسجد، (ثم جاء) منه (إلى منزله) الذي هو بيت ميمونة
أم المؤمنين، والفاء في فصلى هي التي تدخل بين المجمل
والمفصل لأنّ التفصيل إنما هو عقب الإجمال لأن صلاته عليه
الصلاة والسلام العشاء ومجيئه إلى منزله كانا قبل كونه عند
ميمونة ولم يكونا بعد الكون عندها. (فصلى) عليه الصلاة
والسلام عقب دخوله (أربع ركعات ثم نام) بعد الصلاة على
التراخي، (ثم قام) من نومه (ثم قال: نام الغليم) بضم الغين
المعجمة وفتح اللام وتشديد المثناة التحتية تصغير شفقة،
ومراده ابن عباس وقوله نام استفهام حذفت همزته لقرينة
المقام أو إخبار منه عليه الصلاة والسلام بنومه (أو) قال
(كلمة تشبهها) أي تشبه كلمة نام الغليم شك من الراوي وعبر
بكلمة على حدّ كلمة الشهادة (ثم قام) عليه الصلاة والسلام
في الصلاة، (فقمت عن يساره) بفتح الياء وكسرها شبّهوها في
الكسر بالشمال وليس في كلامهم كلمة مكسورة الياء إلا هذه،
وحكي التشديد للسين لغة فيه عن ابن عباد (فجعلني عن يمينه
فصلى) وفي رواية ابن عساكر وصلّى (خمس ركعات) وفي الرفع
كأصله من غير رقم عشرة ركعة، (ثم صلى ركعتين ثم نام) عليه
الصلاة والسلام (حتى) أي إلى أن (سمعت غطيطه) بفتح الغين
المعجمة وكسر المهملة الأولى وهو صوت نفس النائم عند
استثقاله. وفي العباب وغطيط النائم والمخنوق نخيرهما (أو
خطيطه) بفتح الخاء المعجمة وكسر المهملة شك من الراوي وهو
بمعنى الأوّل، ثم استيقظ عليه الصلاة والسلام (ثم خرج إلى
الصلاة) ولم يتوضأ لأن من خصائصه أن نومه مضطجعًا لا ينقض
وضوءه لأن عينه تنامان ولا ينام قلبه، لا يقال إنه معارض
بحديث نومه عليه الصلاة والسلام في الوادي إلى أن طلعت
الشمس لأن
(1/209)
الفجر والشمس إنما يدركان بالعين لا
بالقلب. ويأتي تمام البحث في ذلك في ذكر تهجده عليه الصلاة
والسلام.
فإن قلت: ما المناسبة بين هذا الحديث والترجمة؟ أجيب:
باحتمال أن يطلق السمر على الكلمة وهي هنا قوله عليه
الصلاة والسلام: "نام الغليم" أو هو ارتقاب ابن عباس
لأحواله عليه الصلاة والسلام، لأنه لا فرق بين التعلم من
القول والتعلم من الفعل. وتعقب بأن المتكلم بالكلمة
الواحدة لا يسمى سامرًا، وبأن صنيع ابن عباس يسمى سهرًا لا
سمرًا لأن السمر لا يكون إلا عن تحدّث.
وأجيب: بأن حقيقة السمر التحدّث بالليل ويصدق بكلمة واحدة
ولم يشترط أحد التعدّد، وكما يطلق السمر على القول يطلق
على الفعل بدليل قولهم: سمر القوم الخمر إذا شربوها ليلاً.
وأجاب الحافظ ابن حجر: بأن المناسبة مستفادة من لفظ آخر في
هذا الحديث بعينه من طريق أخرى في التفسير عند المؤلف
بلفظ: بتّ في بيت ميمونة، فتحدّث رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أهله ساعة قال: وهذا أولى
من غير تعسّف ولا رجم بالظن، لأن تفسير الحديث بالحديث
أولى من الخوض فيه بالظن.
وتعقبه العيني بأن من يعقد بابًا بترجمة ويضع فيه حديثًا،
وكان قد وضع هذا الحديث في باب آخر بطريق أخرى وألفاظ
متغايرة هل يقال مناسبة الترجمة في هذا الباب تستفاد من
ذلك الحديث الموضوع في الباب الآخر. قال: وأبعد من هذا أنه
علّل ما قاله بقوله لأن تفسير الحديث بالحديث أولى من
الخوض فيه بالظن، لأن هؤلاء ما فسروا الحديث هنا بل ذكروا
مطابقة الترجمة بالتقارب.
42 - باب حِفْظِ الْعِلْمِ
هذا (باب حفظ العلم) وسقط لفظ باب للأصيلي.
118 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ
يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَلَوْلاَ
آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا.
ثُمَّ يَتْلُو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ -إِلَى قَوْلِهِ تعالى-
الرَّحِيمُ}. إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وِإِنَّ
إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ
الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لاَ
يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ. [الحديث 118
- أطرافه في: 119، 2047، 2350، 3648، 7354].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله)
أي الأويسي المدني (قال: حدّثني) بالتوحيد (مالك) هو ابن
أنس إمام الأئمة (عن ابن شهاب) الزهري (عن الأعرج) عبد
الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال):
(إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة) أي الحديث كما في البيوع
وهو حكاية كلام الناس وإلاّ لقال أكثرت. زاد المصنف في
رواية في الزراعة ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا
يحدّثون مثل أحاديثه، (ولولا آيتان) موجودتان (في كتاب
الله) تعالى (ما) أي لما (حدّثت حديثًا). قال الأعرج (ثم
يتلو) أبو هريرة: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات
والهدى} إلى قوله تعالى: ({الرَّحِيمِ})
[البقرة: 159] وعبّر بالمضارع في قوله: ويتلو استحضارًا
لصورة التلاوة، والمعنى لولا أن الله تعالى ذم الكاتمين
للعلم لما حدّثتكم أصلاً، لكن لما كان الكتمان حرامًا وجب
الإظهار، فلذلك حصلت الكثرة عنده، ثم ذكر سبب الكثرة
بقوله: (إن إخواننا) جمع أخ ولم يقل إخوانه ليعود الضمير
على أبي هريرة لغرض الالتفات وعدل عن الإفراد إلى الجمع
لقصد نفسه وأمثاله من أهل الصفة وحذف العاطف على جعله جملة
استئنافية كالتعليل للإكثار جوابًا للسؤال عنه، والمراد
أخوّة الإسلام (من المهاجرين) الذين هاجروا من مكة إلى
المدينة (كان يشغلهم) بفتح أوّله وثالثه من الثلاثي، وحكي
ضم أوّله من الرباعي وهو شاذ (الصفق بالأسواق) بفتح الصاد
وإسكان الفاء كناية عن التبايع لأنهم
كانوا يضربون فيه يدًا بيد عند المعاقدة وسميت السوق لقيام
الناس فيها على سوقهم، (وإن إخواننا من الأنصار) الأوس
والخزرج (كان يشغلهم العمل في أموالهم) أي القيام على
مصالح زرعهم (وإن أبا هريرة) عدل عن قوله: وإني لقصد
الالتفات (كان يلزم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بشبع بطنه) كذا للأصيلي بموحدة في أوّله، وفي
رواية الأربعة باللام وكلاهما للتعليل أي لأجل شبع بطنه
وهو بكسر الشين المعجمة وفتح الموحدة. وعن ابن دريد
إسكانها وعن غيره الإسكان اسم لما أشبعك من الشيء، وفي
رواية ابن عساكر في نسخة ليشبع بطنه بلام كي ويشبع بصورة
المضارع المنصوب، والمعنى أنه كان يلازم قانعًا بالقوت لا
يتجر ولا يزرع، (ويحضر ما لا يحضرون) من أحوال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه يشاهد ما لا
يشاهدون، (ويحفظ ما لا يحفظون) من أقواله لأنه يسمع ما لا
يسمعون.
119 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو
مُصْعَبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا
كَثِيرًا أَنْسَاهُ. قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ.
فَبَسَطْتُهُ. قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
ضُمُّهُ، فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ».
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا. أَوْ قَالَ:
غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن أبي بكر) زاد في رواية عن أبي ذر
وابن عساكر والأصيلي
(1/210)
(أبو مصعب) وهو كنية أحمد وهو أشهر بها
وسقطت في رواية أبي ذر والأصيلي، واسم أبي بكر القاسم بن
الحرث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري
العوفي قاضي المدينة وعالمها صاحب مالك، المتوفى سنة
اثنتين وأربعين ومائتين عن اثنتين وتسعين سنة (قال: حدّثنا
محمد بن إبراهيم بن دينار) مفتي المدينة مع إمامها مالك بن
أنس، المتوفى سنة اثنتين وثمانين ومائة (عن ابن أبي ذئب)
بكسر الذال المعجمة، وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن
الحرث بن أبي ذئب القرشي المدني العامري. قال الإمام أحمد:
كان ابن أبي ذئب أفضل من مالك إلا أن مالكًا أشد تنقية
للرجال منه، المتوفى بالكوفة سنة تسع وخمسين ومائة (عن
سعيد) أي ابن أبي سعيد (المقبري) بفتح الميم وضم
الموحدة المدني (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: قلت
يا رسول الله) وفي رواية ابن عساكر قلت لرسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(إني أسمع منك حديثًا كثيرًا) صفة لقوله حديثًا لأنه اسم
جنس يتناول القليل والكثير (أنساه) صفة ثانية لحديثًا
والنسيان زوال علم سابق عن الحافظة والمدركة والسهو زواله
عن الحافظة فقط، ويفرق بينه وبين الخطأ بأن السهو ما ينتبه
صاحبه بأدنى تنبيه بخلاف الخطأ. (قال) أي النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي هريرة وفي رواية فقال:
(ابسط رداءك فبسطته) أي لما قال ابسط امتثلت أمره فبسطته،
وإلا فيلزم منه عطف الخبر على الإنشاء وهو مختلف فيه. (قال
فغرف) عليه الصلاة والسلام (بيديه) من فيض فضل الله فجعل
الحفظ كالشيء الذي يغرف منه ورمى به في ردائه ومثل بذلك في
عالم الحس. (ثم قال) عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة:
(ضمه) بالهاء مع ضم الميم تبعًا للضاد وفتحها وهي رواية
أبي ذرّ لأن الفتح أخف الحركات وكسرها لأن الساكن إذا حرك
حرك بالكسر وفك الإدغام فيصير اضممه والهاء فيه ترجع إلى
الحديث، كما يدل عليه قوله في غير الصحيح فغرف بيده ثم
قال: ضم الحديث، وعند المصنف في بعض طرقه: لن يبسط أحدكم
ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعها إلى صدره، وقد وقع في
جامع الترمذي وحلية أبي نعيم التصريح بهذه المقالة المبهمة
في حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما من رجل يسمع كلمة أو كلمتين مما
فرض الله تعالى عليه فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة".
ووقع في رواية الكشميهني وعزاها في الفرع للحموي والمستملي
ضم بغير هاء.
قال أبو هريرة: (فضممته فما نسيت شيئًا بعده) أي بعد الضم
وفي رواية الأكثر بعد مقطوع عن الإضافة مبني على الضم
وتنكير شيئًا بعد النفي ظاهر العموم في عدم النسيان منه
لكل شيء في الحديث وغيره لأن النكرة في سياق النفي تدل
عليه، لكن وقع في رواية ابن عيينة وغيره عن الزهري في
الحديث السابق ما نسيت شيئًا سمعته منه وعند مسلم من رواية
يونس فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدّثني به وهو يقتضي
تخصيص عدم النسيان بالحديث، وأخصُّ منه ما جاء في رواية
شعيب حيث قال: فما نسيت من مقالته تلك شيئًا، فإنه يفهم
تخصيص عدم النسيان بهذه المقالة فقط. لكن سياق الكلام
يقتضي ترجيح رواية يونس ومن وافقه لأن أبا هريرة نبّه به
على كثرة محفوظه من الحديث فلا يصح حمله على تلك المقالة
وحدها، ويحتمل أن يكون وقعت له قضيتان، فالتي رواها الزهري
مختصة بتلك المقالة، والتي رواها سعيد المقبري عامّة، هكذا
قرره في فتح الباري وهذا من المعجزات الظاهرات حيث رفع
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أبي هريرة النسيان
الذي هو من لوازم الإنسان حتى قيل إنه مشتق منه، وحصول هذا
في بسط الرداء الذي ليس للعقل فيه مجال.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) بالذال المعجمة وسبق
في أوّل كتاب العلم (قال: أخبرنا ابن أبي فديك) بضم الفاء
وفتح الدال المهملة وهو أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن
أبي فديك واسم أبي فديك دينار المدني الليثي، المتوفى سنة
مائتين، وابن أبي فديك يرويه عن ابن أبي ذئب كما
عند المؤلف في علامات النبوّة (بهذا) أي بهذا الحديث (أو
قال) وفي رواية الكشميهني وقال: (غرف بيده فيه) بالإفراد
مع زيادة فيه
(1/211)
والضمير للثوب، وللمستملي وحده يحذف فيه
بالحاء المهملة والذال المعجمة والفاء من الحذف وهو الرمي،
لكن حديث علامات النبوّة المنبّه عليه فيما سبق ليس فيه
إلا الغرف، وبه استوضح الحافظ ابن حجر على أن يحذف تصحيف
مع ما استشهد به مما في طبقات ابن سعد عن ابن أبي فديك حيث
قال: فغرف. وتعقبه العيني بأن ما قاله لا يكون دليلاً لما
ادّعاه من التصحيف، ولو كان كذلك لنبّه عليه صاحب المطالع،
وأجيب بأنه لا يلزم من كون صاحب المطالع لم ينبّه عليه أن
لا يكون تصحيفًا انتهى. لكن يبقى طلب الدليل على كونه
تصحيفًا فافهم، وهذا المذكور من قوله: حدّثنا إبراهيم بن
المنذر إلى آخر قوله فغرف أو يحذف بيده فيه ساقط في رواية
أبي ذر والأصيلي والمستملي وابن عساكر.
120 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي
عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِعَاءَيْنِ:
فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ
فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني)
بالتوحيد وللأصيلي حدّثنا (أخي) عبد الحميد بن أبي أويس
(عن ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن السابق قريبًا (عن
سعيد المقبري) بضم الموحدة (عن أبي هريرة) رضي الله عنه
أنه (قال):
(حفظت عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
وفي رواية الكشميهني من بدل عن وهي أصرح في تلقّيه من
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلا واسطة
(وعاءين) بكسر الواو والمدّ تثنية وعاء وهو من باب ذكر
المحل وإرادة الحال أي نوعين من العلم. (فأما أحدهما) أي
أحد ما في الوعاءين من نوعي العلم (فبثثته) بموحدة مفتوحة
ومثلثتين بعدهما مثناة فوقية ودخلته الفاء لتضمنه معنى
الشرط أي نشرته زاد الأصيلي فبثثته في الناس، (وأما)
الوعاء (الآخر فلو بثثته) أي نشرته في الناس (قطع) وفي
روايهَ لقطع (هذا البلعوم) بضم الموحدة مرفوعًا لكونه ناب
عن الفاعل وكُنِّي به عن القتل، وزاد في رواية ابن عساكر
والأصيلي وأبي الوقت وأبي ذر والمستملي، قال أبو عبد الله
أي البخاري: البلعوم مجرى الطعام أي في الحلق وهو المريء.
قاله القاضي والجوهري وابن الأثير، وعند الفقهاء الحلقوم
مجرى النفس خروجًا ودخولاً والمريء مجرى الطعام والشراب
وهو تحت الحلقوم، والبلعوم تحت الحلقوم، وأراد بالوعاء
الأوّل ما حفظه من الأحاديث وبالثاني ما كتمه من أخبار
الفتن وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول عليه الصلاة
والسلام من فساد الدين على يدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد
كان أبو هريرة يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم أو المراد
الأحاديث التي فيها تبيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم
وذمهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعض ذلك ولا يصرّح خوفًا
على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة
الصبيان يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة
ستين من الهجرة، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة فمات
قبلها بسنة، وسيأتي ذلك مع مزيد له في كتاب
الفتن إن شاء الله تعالى أو المراد به علم الأسرار المصون
عن الأغيار المختص بالعلماء بالله من أهل العرفان
والمشاهدات والاتقان التي هي نتيجة علم الشرائع والعمل بما
جاء به الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والوقوف عند ما حدّه وهذا لا يظفر به إلا الغوّاصون في بحر
المجاهدات، ولا يسعد به إلا المصطفون بأنوار المشاهدات،
لكن في كون هذا هو المراد نظر من حيث إنه لو كان كذلك لما
وسع أبا هريرة كتمانه مع ذكره من الآية الدالّة على ذم
كتمان العلم لا سيما هذا الشأن الذي هو لبّ ثمرة العلم
وأيضًا فإنه نفى بثّه على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل
به لذلك؟ وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم، فمن أين
علم أن الذي كتمه هو هذا فمن ادّعى ذلك فعليه البيان فقد
ظهر أن الاستدلال بذلك لطريق القوم فيه ما فيه على أنهم في
غنية عن الاستدلال إذ الشريعة ناطقة بأدلتهم، ومن تصفح
الأخبار وتتبع الآثار مع التأمّل والاستنارة بنور الله ظهر
له ما قلته والله يهدينا إلى سواء السبيل.
43 - باب الإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ
هذا (باب الإنصات) بكسر الهمزة أي السكوت والاستماع
(للعلماء) أي لأجل ما يقولونه.
121 - حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي
زُرْعَةَ عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:
اسْتَنْصِتِ النَّاسَ. فَقَالَ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي
كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ». [الحديث
121 - أطرافه في: 4405، 6869، 7080].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا حجاج) هو ابن منهال (قال:
حدّثنا شعبة) أي ابن الحجاج (قال: أخبرني) بالتوحيد (علي
بن مدرك) بضم الميم وكسر الراء النخعي الكوفي،
(1/212)
المتوفى سنة عشرين ومائة (عن أبي زرعة) هرم
بفتح الهاء وكسر الراء، زاد في رواية أبي ذر والأصيلي ابن
عمرو (عن جرير) هو ابن عبد الله البجلي، وهو جدّ أبي زرعة
الراوي عنه هنا لأبيه وكان بديع الجمال طويل القامة بحيث
يصل إلى سنام البعير وكان نعله ذراعًا وسبق في باب الدين
النصيحة.
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له)
وعند المؤلف في حجة الوداع أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لجرير (في حجة الوداع) بفتح الحاء
والواو عند جمرة العقبة واجتماع الناس للرمي وغيره (استنصت
الناس) استفعال من الإنصات ومعناه طلب السكوت، وقد أنكر
بعضهم لفظه له من قوله قال له في حجة الوداع معلّلاً بأن
جريرًا أسلم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بأربعين يومًا،
وتوقف المنذري لثبوتها في الطرف الصحيحة وقد ذكر غير واحد
أنه أسلم في رمضان سنة عشر فأمكن حضوره مسلمًا لحجة الوداع
وحينئذ فلا خلل في الحديث (فقال) عليه الصلاة والسلام بعد
أن أنصتوا: (لا ترجعوا) أي لا تصيروا (بعدي) أي بعد موقفي
هذا أو بعد موتي (كفارًا) نصب خبر لا ترجعوا المفسر بلا
تصيروا (يضرب بعضكم رقاب بعض) مستحلين لذلك ويضرب بالرفع
على الاستئناف بيانًا لقوله: لا
ترجعوا أو حالاً من ضمير ترجعوا أي لا ترجعوا بعدي كفّارًا
حال ضرب بعضكم رقاب بعض أو صفة. أي لا ترجعوا بعدي كفارًاً
متصفين بهذه الصفة القبيحة أي ضرب بعضكم، وجوّز ابن مالك
وأبو البقاء جزم الباء بتقدير شرط أي: فإن ترجعوا يضرب
بعضكم بعضًا، والمعنى لا تتشبهوا بالكفار في قتل بعضهم
بعضًا، ويأتي تمام البحث إن شاء الله تعالى في الفتن أعاذ
الله تعالى منها.
44 - باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَيُّ
النَّاسِ أَعْلَمُ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ
هذا (باب ما يستحب) أي الذي يستحب (للعالم إذا سئل أي
الناس) أي أيّ شخص من أشخاص الناس (أعلم) من غيره (فيكل)
أي فهو يكل (العلم إلى الله) وحينئذ فإذا شرطية والفاء في
جوابها، والجملة بيان لا يستحب أو إذا ظرف ليستحب والفاء
تفسيرية على أن يكل في تقدير أن أي ما يستحب وقت السؤال هو
الوكول إلى الله تعالى.
122 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ:
أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ
عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ
مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ
مُوسَى آخَرُ، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَامَ مُوسَى
النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ:
أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ.
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ
إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ
عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ.
قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ لي بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ
حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهْوَ ثَمَّ.
فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ،
وَحَمَلاَ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ
الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا، فَانْسَلَّ
الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ سَرَبًا، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا،
فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهِمَا،
فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا
غَدَاءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا
نَصَبًا، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ
حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ. فَقَالَ
لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ. قَالَ مُوسَى:
ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي. فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا
قَصَصًا، فَلَمَّا آَتَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ
مُسَجًّى بِثَوْبٍ -أَوْ قَالَ: تَسَجَّى بِثَوْبِهِ-
فَسَلَّمَ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ
السَّلاَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى. فَقَالَ: مُوسَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا. قَالَ:
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا. يَا مُوسَى
إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ
تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَ الله
لاَ أَعْلَمُهُ. قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا. فَانْطَلَقَا
يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا
سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ
أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الْخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا
بِغَيْرِ نَوْلٍ. فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ
السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ
فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ
عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ
هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ. فَعَمَدَ الْخَضِرُ
إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ.
فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ
عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ
أَهْلَهَا. قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ
مَعِيَ صَبْرًا. قَالَك لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ.
فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. فَانْطَلَقَا
فَإِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ
الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ
بِيَدِهِ. فَقَالَ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً
بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ (وقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ:
وَهَذَا أَوْكَدُ) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا
أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ، قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ
فَأَقَامَهُ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ
لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ: هَذَا فِرَاقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى،
لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ
أَمْرِهِمَا».
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) هو
الجعفي المسندي بفتح النون (قال: حدّثنا سفيان) بن عيينة
(قال: حدّثنا) وفي رواية ابن عساكر أخبرنا (عمرو) بفتح
العين وهو ابن دينار (قال: أخبرني) بالتوحيد (سعيد بن
جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة (قال):
(قلت لابن عباس) رضي الله عنهما (إن نوفًا) بفتح النون
وسكون الواو آخره منصوبًا باسم إن منصرفًا في الفصحى بطن
من العرب، ولئن سلمنا عجمته فمنصرف أيضًا لسكون وسطه كنوح
ولوط واسم أبي نوف فضالة بفتحتين القاص (البكالي) بكسر
الموحدة وفتحها وتخفيف الكاف وحكي تشديدها مع فتح الموحدة
وعزاه في المطالع لأكثر المحدثين، والصواب التخفيف نسبة
إلى بني بكال بطن من حمير وهو نصب نعتًا لنوف وكان تابعًا
عالمًاً إمامًا لأهل دمشق وهو ابن امرأة كعب الأحبار على
المشهور (يزعم أن) بفتح الهمزة مفعول يزعم أي يقول: إن
(موسى) صاحب الخضر (ليس بموسى بني اسرائيل) المرسل لهم
والباء زائدة للتوكيد حذفت في رواية الأربعة وأضيف لبني
إسرائيل مع العلمية لأنه نكر بأن أوّل بواحد من الأمة
المسماة ثم أضيف إليه (إنما هو موسى آخر) بتنوين موسى
لكونه نكرة فانصرف لزوال علميته، وفي رواية بترك التنوين،
قال الحافظ ابن حجر: كذا في روايتنا بغير تنوين فيهما وهو
علم على شخص معين. قالوا: إنه موسى بن ميشا بكسر الميم
وسكون المثناة التحتية وبالشين المعجمة (فقال) ابن عباس:
(كذب عدوّ الله) نوف خرج منه مخرج الزجر والتحذير لا القدح
في نوف، لأن ابن عباس قال ذلك في حال غضبه وألفاظ الغضب
تقع على غير الحقيقة غالبًا وتكذيبه له لكونه قال غير
الواقع ولا يلزم منه تعمده.
(حدّثنا) في رواية أبوي ذر والوقت حدّثني (أُبي بن كعب)
الصحابي رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال قام موسى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال
(1/213)
كونه (خطيبًا في بني إسرائيل فسئل أيّ
الناس أعلم) أي منهم على حدّ الله أكبر أي من كل شيء
(فقال: أنا أعلم) الناس أي بحسب اعتقاده وهذا أبلغ
من السابق في باب الخروج في طلب العلم هل تعلم أن أحدًا
أعلم منك؟ فقال: لا فإنه إنما نفى هناك علمه وهنا على
البتّ، (فعتب الله عليه إذ) بسكون الدّال للتعليل (لم يردّ
العلم إليه) فكان يقول نحو الله أعلم، وفي رواية أبي ذر عن
الكشميهني إلى الله ويردّ بضم الدال اتباعًا لسابقها
وبفتحها لخفته وبكسرها على الأصل في الساكن إذا حرك وجوّز
الفك أيضًا، والعتب من الله محمول على ما يليق به فحمل على
أنه لم يرض قوله شرعًا:، فإن العتب الذي هو معنى تغيير
النفس مستحيل على الله تعالى: (فأوحى الله) تعالى (إليه أن
عبدًا) بفتح الهمزة أي بأن وفي فرع اليونينية بكسرها على
تقدير فقال إن عبدًا والمراد الخضر (من عبادي) كائنًا
(بمجمع البحرين) أي ملتقى بحري فارس والروم من جهة الشرق
أو بإفريقية أو طنجة (هو أعلم منك). أي بشيء مخصوص كما يدل
عليه قول الخضر الآتي إن شاء الله تعالى إني على علم من
علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم علمك لا أعلمه
ولا ريب أن موسى أفضل من الخضر بما اختصّ به من الرسالة
وسماع الكلام والتوراة، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم
داخلون تحت شريعته ومخاطبون بحكم نبوّته حتى عيسى عليه
السلام، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل
وموسى أفضلهم. وإن قلنا إن الخضر ليس بنبي بل وليّ، فالنبي
أفضل من الوليّ وهو أمر مقطوع به، والقائل بخلافه كافر
لأنه معلوم من الشرع بالضرورة، وإنما كانت قصة موسى مع
الخضر امتحانًا لموسى ليعتبر، ووقع عند النسائي أنه عرض في
نفس موسى عليه السلام أن أحدًا لم يؤت من العلم ما أُوتي
وعلم الله بما حدّث به نفسه، فقال: يا موسى إن من عبادي من
آتيته من العلم ما لم أُوتك. (قال: رب) بحذف أداة النداء
وياء المتكلم تخفيفًا اجتزاء بالكسرة وفي بعض الأصول يا رب
(وكيف لي به) أي كيف السبيل إلى لقائه؟ (فقيل له احمل)
بالجزم على الأمر (حوتًا) أي سمكة كائنة (في مكتل) بكسر
الميم وفتح المثناة الفوقية شبه الزنبيل يسع خمسة عشر
صاعًا كذا في العباب (فإذا فقدته) بفتح القاف أي الحوت
(فهو ثم) بفتح المثلثة بمعنى هناك أي العبد الأعلم منك
هناك (فانطلق) موسى (وانطلق بفتاه يوشع) مجرور بالفتحة عطف
بيان لفتاه غير منصرف للعجمة والعلمية (ابن نون) مجرور
بالإضافة منصرف كنوح ولوط على الفصحى، وفي رواية أبي ذر
وانطلق معه فتاه فصرح بالمعيّة للتأكيد وإلاّ فالمصاحبة
مستفادة من قوله بفتاه (وحملا حوتًا في مكتل) كما وقع
الأمر به، وقد قيل كانت سمكة مملوحة، وقيل شق سمكة (حتى
كانا عند الصخرة) التي عند ساحل البحر الموعود بلقي الخضر
عنده (وضعا رؤوسهما وناما) وفي رواية الأربعة فناما بالفاء
وكلاهما للعطف على وضعا، (فانسل الحوت) الميت المملوح (من
المكتل) لأنه أصابه من ماء عين الحياة الكائنة في أصل
الصخرة شيء إذ إصابتها مقتضية للحياة كما عند المؤلف في
رواية (فاتخذ سبيله) أي طريقه (في البر سربًا) أي مسلكًا
زاد في سورة الكهف، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار
عله مثل الطاق (وكان) إحياء الحوت المملوح وإمساك جرية
الماء حتى صار مسلكًا (لموسى وفتاه عجبًا فانطلقا بقية)
بالنصب على الظرف (ليلتهما) بالجر على الإضافة (ويومهما)
بالنصب على إرادة سير جميعه وبالجر عطفًا على ليلتهما
والوجه الأوّل هو الذي في فرع اليونينية، وفي مسلم كالمؤلف
في التفسير بقية يومهما وليلتهما وهو الصواب
لقوله، (فلما أصبح) إذ لا يقال أصبح إلا عن ليل (قال موسى
لفتاه آتنًا غداءنا) بفتح الغين مع المد وهو الطعام يؤكل
أوّل النهار (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا) أي تعبًا
والإشارة لسير البقية والذي يليها ويدل عليه قوله (ولم يجد
موسى) عليه السلام (مسًّا) وفي نسخة شيئًا (من النصب حتى
جاوز المكان الذي أمر به) فألقي عليه الجوع
(1/214)
والنصب (فقال) وفي رواية الأصيلي قال (له
فتاه: أرأيت) أي أخبرني ما دهاني (إذ أوينا إلى الصخرة
فإني نسيت الحوت) أي فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت، زاد في
رواية ابن عساكر: وما أنسانيه أي وما أنساني ذكره إلا
الشيطان، وإنما نسبه للشيطان هضمًا لنفسه (قال موسى ذلك)
أي أمر الحوت (ما كنا نبغي) هو الذي كنا نطلّب لأنه علامة
وجدان المطلوب وحذف العائد (فارتدا على آثارهما) أي فرجعا
في الطريق الذي جاءا فيه يقصّان (قصصًا) أي يتبعان آثارهما
اتباعًا، (فلما أتيا إلى الصخرة) وفي نسخة انتهيا (إذا
رجل) مبتدأ وسوغ لتخصيصه بالصفة وهي قوله (مسجى) أي مغطى
كله (بثوب) والخبر محذوف أي نائم (أو قال تسجى بثوبه) شك
من الراوي، (فسلم موسى) عليه السلام (فقال الخضر وأنَّى)
بهمزة ونون مشددة مفتوحتين أي كيف (بأرضك السلام) وهو غير
معروف بها وكأنها كانت دار كفر وكانت تحيتهم غيره وعنده في
التفسير وهل بأرضي من سلام (فقال) وفي رواية الأصيلي قال
(أنا موسى فقال) له الخضر أنت (موسى بني اسرائيل) فهو خبر
مبتدأ محذوف (قال نعم) أنا موسى بني إسرائيل فهو مقول
القول ناب عن الجملة، وهذا يدل على أن الأنبياء ومن دونهم
لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى، لأن الخضر لو
كان يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله (قال هل أتبعك على
أن تعلمني مما علمت) أي من الذي علمك الله علمًا (رشدًا)
ولا ينافي نبوّته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم
يكن شرطًا في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم
ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا
مطلقًا، وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب فاستجهل نفسه
واستأذن أن يكون تابعًا له وسأل منه أن يرشده وينعم عليه
بتعليم بعض ما أنعم الله عليه به قاله البيضاوي، لكن لم
يكن موسى مرسلاً إلى الخضر فقد يوهم ما قاله دخوله فيهم من
السياق فليتأمل.
(قال إنك لن تستطيع معي صبرًا) فإني أفعل أمورًا ظاهرها
مناكير وباطنها لم تحط به (يا موسى إني على علم من علم
الله علمنيه) جملة من الفعل والفاعل والمفعولين أحدهما ياء
المفعول والثاني الضمير الراجع إلى العلم صفة لعلم (لا
تعلمه أنت وأنت على علم) مبتدأ وخبره معطوف على السابق
(علمك الله) جملة كالسابقة لكن الثاني محذوف تقديره علمك
الله إياه. وفي فرع اليونينية علمكه الله بهاء الضمير
الراجع إلى العلم (لا أعلمه) صفة أخرى وهذا لا بد من
تأويله لأن الخضر كان يعرف من علم الشرع ما لا غنى للمكلف
عنه وموسى كان يعرف من علم الباطن ما لا بدّ منه كما لا
يخفى (قال ستجدني إن شاء الله صابرًا) معك غير منكر عليك
وانتصاب صابرًا مفعول ثانٍ لستجدني وإن شاء الله اعتراض
بين المفعولين (ولا أعصي لك أمرًا) عطف على صابرًا أي
ستجدني صابرًا أو غير عاصٍ، قال القاضي: وتعليق الوعد
بالمشيئة إما للتيمن وإما لعلمه بصعوبة الأمر فإن الصبر
على خلاف المعتاد شديد (فانطلقا) على الساحل حال كونهما
(يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة
فمرت بهما سفينة فكلموهم) أي موسى والخضر ويوشع كلموا
أصحاب السفينة (أن) أي لأن (يحملوهما) أي لأجل حملهم
إياهما (فعرف الخضر فحملوهما) أي الخضر وموسى (بغير نول)
بفتح النون أي بغير أُجرة ولم يذكر يوشع معهما كما في
قوله، فانطلقا يمشيان لأنه تابع غير مقصود بالأصالة،
ويحتمل أن يكون يوشع لم يركب معهما لأنه لم يقع له ذكر بعد
ذلك وضمه معهما في كلام أهل السفينة لأن المقام يقتضي كلام
التابع، لكن في رواية بفرع اليونينية كهي فعرف الخضر
فحملوهم بالجمع وهو يقتضي الجزم بركوبه معهما في السفينة
(فجاء عصفور) بضم أوّله، وحكى ابن رشيق في كتاب الغرائب
فتحه قيل وسمي به لأنه عصى وفرّ قاله الدميري، وقيل إنه
الصرد (فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة) بالنصب على المصدر
(أو نقرتين) عطف عليه (في البحر فقال الخضر يا موسى ما نقص
علمي وعلمك من علم الله) أي من معلومه (إلا كنقرة هذا
العصفور في البحر) وعند المؤلف
(1/215)
أيضًا ما علمي وعلمك في جنب علم الله تعالى
إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر أي في جنب
معلوم الله تعالى، وهو أحسن سياقًا من المسوق هنا وأبعد عن
الإشكال ومفسر للواقع هنا والعلم يطلق، ويراد به المعلوم
بدليل دخول حرف التبعيض وهو من في قوله من علم الله لأن
العلم القائم بذات الله تعالى صفة قديمة لا تتبعض، فليس
العلم هنا على ظاهره لأن علم الله تعالى لا يدخله نقص،
وقيل نقص بمعنى أخذ لأن النقص أخذ خاص فيكون التشبيه
واقعًا على الأخذ لا على المأخوذ منه إذ نقص العصفور لا
تأثير له فكأنه لم يأخذ شيئًا فهو كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
أي ليس فيهم عيب. وقيل: هذا الطائر من الطيور التي تعلو
مناقيرها بحيث لا يعلق بها ماء البتة، (فعمد الخضر) بفتح
الميم كضرب (إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه) بفأس فانخرقت
ودخل الماء (فقال) له (موسى) عليه السلام هؤلاء (قوم
حملونا بغير نول) بفتح أوّله أي بغير أجر (عمدت) بفتح
الميم (إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق) بضم المثناة الفوقية
وكسر الراء على الخطاب مضارع أغرق أي لأن تغرق (أهلها) نصب
على المفعولية ولا ريب أن خرقها سبب لدخول الماء فيها
المفضي إلى غرق أهلها. وفي رواية ليغرق بفتح المثناة
التحتية وفتح الراء على الغيب مضارع غرق أهلها بالرفع على
الفاعلية. (قال) الخضر (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا)
ذكره بما قال له قبل (قال) موسى (لا تؤاخذني بما نسيت) أي
بالذي نسيته أو بنسياني أو بشيء نسيته يعني وصيته بأن لا
يعترض عليه وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن
المؤاخذة مع قيام المانع لها زاد في رواية أبوي ذر والوقت:
ولا ترهقني من أمري عسرًا أي ولا تغشني عسرًا من أمري
بالمضايقة والمؤاخذة على المنسي فإن ذلك يعسر على متابعتك،
(فكانت) المسألة (الأولى من موسى) عليه السلام (نسيانًا)
بالنصب خبر كان، (فانطلقا) بعد خروجهما من السفينة (فإذا
غلام) بالرفع مبتدأ لكونه تخصص بالصفة وهو قوله: (يلعب مع
الغلمان) والخبر محذوف والغلام اسم للمولود إلى أن يبلغ،
وكان الغلمان عشرة وكان الغلام أظرفهم وأوضأهم، واسم
الغلام حيسون أو حيسور. وعن الضحاك يعمل بالفساد ويتأذّى
منه
أبواه، وعن الكلبي يسرق المتاع بالليل فإذا أصبح لجأ إلى
أبويه فيقولان لقد بات عندنا، (فأخذ الخضر برأسه من أعلاه)
أي جرّ الغلام برأسه (فاقتلع رأسه بيده) وعنده في بدء
الخلق فأخذ الخضر برأسه فقطعه هكذا وأومأ سفيان بأطراف
أصابعه كأنه يقطف شيئًا. وعن الكلبي صرعه ثم نزع رأسه من
جسده فقتله، والفاء في اقتلع للدلالة على أنه لما رآه
اقتلع رأسه من غير تروٍّ واستكشاف حال (فقال موسى) للخضر
عليه السلام: (أقتلت نفسًا زكية) بتشديد الياء أي طاهرة من
الذنوب وهي أبلغ من زاكية بالتخفيف. وقال أبو عمرو بن
العلاء: الزاكية التي لم تذنب قطّ. والزكية التي أذنبت ثم
غفرت، ولذا اختار قراءة التخفيف فإنها كانت صغيرة لم تبلغ
الحلم، وزعم قوم أنه كان بالغًا يعمل بالفساد واحتجوا
بقوله: (بغير نفس) والقصاص إنما يكون في حق البالغ ولم
يرها قد أذنبت ذنبًا يقتضي قتلها أو قتلت نفسًا فتقاد به
نبّه به على أن القتل إنما يباح حدًّا أو قصاصًا، وكلا
الأمرين منتفٍ. والهمزة في أقتلت ليست للاستفهام الحقيقي
فهي كهي في قوله تعالى: {ألم يجدك يتيمًا فآوى} وكان قتل
الغلام في أبلة بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام المفتوحة
بعدها هاء مدينة قرب بصرة وعبادان (قال) الخضر لموسى
عليهما السلام: (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا)
بزيادة لك في هذه المرة زيادة في المكافحة بالعتاب على رفض
الوصية والوسم بقلة الثبات والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز
والاستنكار ولم يرعو بالتذكير أوّل مرة حتى زاد في
الاستكثار ثاني مرة (قال ابن عيينة) سفيان (وهذا أوكد)
واستدل عليه بزيادة لك في هذه المرة (فانطلقا حتى أتيا)
وفي رواية غير أبي ذر حتى إذا أتيا موافقة للتنزيل (أهل
قرية) هي أنطاكية أو أبلة أو ناصرة أو برقة أو غيرهن فلما
وافياها بعد غروب الشمس (استطعما أهلها) واستضافوهم
(1/216)
(فأبوا أن يضيفوهما) ولم يجدوا في تلك
القرية قرى ولا مأوى وكانت ليلة باردة (فوجدا فيها) أي في
القرية (جدارًا) على شاطئ الطريق وكان سمكه مائتي ذراع
بذراع تلك القرية وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وعرضه
خمسون ذراعًا (يريد أن ينقض) أي يسقط فاستعيرت الإرادة
للمشارفة وإلا فالجدار لا إرادة له حقيقة. وكان أهل القرية
يمرون تحته على خوف (قال الخضر بيده) أي أشار بها وفي
رواية قال فمسح بيده (فأقامه) وقيل نقضه وبناه وقيل بعمود
عمده به، وفيه إطلاق القول على الفعل. وفي رواية أبي ذر
والمستملي يريد أن ينقض فأقامه (قال موسى) وفي رواية غير
أبي ذر فقال له موسى أي للخضر (لو شئث لاتخذت) بهمزة وصل
وتشديد التاء وفتح الخاء على وزن افتعلت من تخذ كاتبع من
تبع وليس من الأخذ عند البصريين، وفي رواية أبي ذر
والأصيلي وابن عساكر لتخذت أي لأخذت (عليه أجرًا) فيكون
لنا قوتًا وبلغة على سفرنا، قال القاضي: كأنه لما رأى
الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما لا يعنيه لم يتمالك
نفسه. (قال) الخضر لموسى عليه السلام: (هذا فراق بيني
وبينك) بإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف
على الاتّساع والإشارة في قوله هذا إلى الفراق الموعود
بقوله: فلا تصاحبني أو تكون الإشارة إلى السؤال الثالث أي
هذا الاعتراض سبب للفراق أو إلى الوقت أي هذا الوقت وقت
الفراق. (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
يرحم الله موسى) إنشاء بلفظ الخبر (لوددنا) بكسر الدال
الأول وسكون الثانية أي والله لوددنا (لو صبر) أي صبره
لأنه لو صبر لأبصر أعجب الأعاجيب (حتى
يقص) على صيغة المجهول (علينا من أمرهما) مفعول لم يسم
فاعله، وفي هذه القصة حجة على صحة الاعتراض بالشرع على ما
لا يسوغ فيه. ولو كان مستقيمًا في باطن الأمر على أنه ليس
في شيء مما فعله الخضر مناقضة للشرع، فإن نقض لوح السفينة
لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعًا
وعقلاً، ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحسب الظاهر وقد وقع
ذلك صريحًا عند مسلم، ولفظه: فإذا جاء الذي يسخرها وجدها
منخرقة. وأما قتله الغلام فلعله كان تلك الشريعة. وقد حكى
القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى لما قال للخضر:
أقتلت نفسًا زاكية اقتلع الخضر كتف الصبي الأيسر وقشر عنه
اللحم فإذا في عظم كتفه كافر لا يؤمن بالله أبدًا. وفي
مسلم وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرًا لا يؤمن بالله، وأما
إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في أكثر من عشرة مواضع، وفيه
رواية تابعي عن تابعي وصحابي عن صحابي، وفيه التحديث
والإخبار بصيغة الإفراد والسؤال.
45 - باب مَنْ سَأَلَ وَهْوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا
هذا (باب من سأل وهو قائم عالمًا جالسًا) بالنصب صفة
لعالمًا المنصوب على المفعولية بسأل ومن موصول والواو
للحال، والمراد جواز فعل ذلك إذا أمنت النفس فيه من
الإعجاب وليس هو من باب من يتمثل له الناس قيامًا.
123 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ
عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا
الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا
يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. فَرَفَعَ
إِلَيْهِ رَأْسَهُ -قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ
إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا- فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ
لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». [الحديث 123 - أطرافه في:
2810، 3126، 7458].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عثمان) بن أبي شيبة (قال:
أخبرني) بالإفراد وفي رواية حدّثنا (جرير) هو ابن عبد
الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) هو شقيق
بن سلمة (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله
عنه (قال):
(جاء رجل إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله) مبتدأ وخبره
وقع مقول
القول، (فإن أحدنا يقاتل غضبًا) نصب مفعول له والغضب حالة
تحصل عند غليان الدم في القلب لإرادة الانتقام، (ويقاتل
حمية) نصب مفعول له أيضًا وهو بفتح الحاء وكسر الميم
وتشديد المثناة التحتية وهي الأنفة من الشيء أو المحافظة
على الحرم. (فرفع) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (إليه) أي إلى السائل (رأسه) الشريف (قال) أبو
موسى أو من دونه: (وما رفع إليه رأسه إلا أنه) أي السائل
(كان قائمًا) أي ما رفع لأمر من الأمور إلا لقيام الرجل
فإن واسمها وخبرها في تقدير المصدر وفيه جواز وقوف
المستفتي لعذر أو لحاجة (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (من قاتل) بمقتضى القوّة العقلية (لتكون) أي
لأن تكون (كلمة الله) أي دعوته إلى الإسلام
(1/217)
أو كلمة الإخلاص (هي العليا) لا من قاتل عن
مقتضى القوّة الغضبية أو الشهوانية (فهو في سبيل الله عز
وجل) ويدخل فيه من قاتل لطلب الثواب ورضاء الله فإنه من
إعلاء كلمة الله، وقد جمع هذا الجواب معنى السؤال لا بلفظه
لأن الغضب والحمية قد يكونان لله تعالى أو لغرض الدنيا
فأجاب عليه السلام بالمعنى مختصرًا إذ لو ذهب يقسم وجوه
الغضب لطال ذلك ولخشي أن يلبس عليه.
فإن قلت: السؤال عن ماهية القتال والجواب ليس عنها بل عن
المقاتل. أجيب: بأن فيه الجواب وزيادة أوان القتال بمعنى
اسم الفاعل أي المقاتل بقرينة لفظ فإن أحدنا ويكون عبّر
بما عن العاقل.
46 - باب السُّؤَالِ وَالْفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ
الْجِمَارِ
هذا (باب السؤال) من جهة المستفتي (والفتيا) بضم الفاء من
جهة المفتي (عند رمي الجمار) الكائنة بمعنى.
124 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ، فَقَالَ
رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ
أَرْمِيَ. قَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ. قَالَ آخَرُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ. قَالَ:
انْحَرْ وَلاَ حَرَجَ. فَمَا سُئِلَ عَنْ شَىْءٍ قُدِّمَ
وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ».
وبالسند إلى المؤلف رحمه الله قال: (حدّثنا أبو نعيم) بضم
النون وفتح العين الفضل بن دكين (قال: حدّثنا عبد العزيز
بن أبي سلمة) نسبه لجده لشهرته به وإلا فأبوه عبد الله
واسم أبي سلمة الماجشون بفتح الجيم وكسرها (عن الزهري)
محمد بن مسلم (عن عيسى بن طلحة) بن عبيد الله القرشي
التيمي (عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص رضي الله عنهما
(قال):
(رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند
الجمرة) أي جمرة العقبة لأنها المقصودة عند الإطلاق فأل
للعهد (وهو يسأل) بضم أوّله على صيغة المجهول (فقال رجل:
يا رسول الله نحرت) الإبل (قبل أن أرمي قال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي رواية الأصيلي وأبي الوقت
فقال: (ارم ولا حرج) عليك. (قال آخر) وفي رواية الأصيلي
فقال، وفي أخرى وقال وكلاهما للعطف على السابق (يا رسول
الله حلقت) رأسي (قبل أن أنحر قال) عليه الصلاة والسلام:
(انحر ولا حرج) عليك (فما سئل) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (عن شيء) من المناسك (قدّم ولا أخّر إلا قال
افعل ولا حرج) واعترض على الترجمة بأنه ليس في الخبر أن
المسألة وقعت في خلال الرمي بل فيه أنه كان واقفًا عندها
فقط وأجيب بأن المصنف كثيرًا ما يتمسك بالعموم فوقوع
السؤال عند الجمرة أعمّ من أن يكون في حال اشتغاله بالرمي
أو بعد الفراغ منه أو يقال: إن كونه عند الجمرة قرينة أنه
كان يرمي أو في الذكر المقول عندها.
47 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}
هذا (باب قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85] وسقط لفظ باب
للأصيلي.
125 - حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
خَرِبِ الْمَدِينَةِ -وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ
مَعَهُ- فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ، لاَ يَجِيءُ فِيهِ بِشَىْءٍ
تَكْرَهُونَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْأَلَنَّهُ،
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ،
مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى
إِلَيْهِ، فَقُمْتُ. فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
قَالَ الأَعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا. [الحديث 125
- أطرافه في: 4721، 7297، 7456، 7462].
وبالسند إلى المؤلف رحمه الله تعالى قال: (حدّثنا قيس بن
حفص) هو ابن القعقاع الدارمي، المتوفى سنة سبع وعشرين
ومائتين (قال: حدّثنا عبد الواحد) بن زياد البصري (قال:
حدّثنا الأعمش سليمان) زاد في رواية ابن عساكر بن مهران
(عن إبراهيم) بن يزيد النخعي (عن علقمة) بن قيس النخعي (عن
عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه (قال):
(بينا أنا أمشي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في خرب المدينة) بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء
آخره موحدة، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني بكسر ثم فتح
جمع خربة وكلاهما في فرع اليونينية بل الأول في الأصل
والثاني في هامشه مرقوم عليه علامة أبي ذر والكشميهني وعزا
العيني الأول لضبط بعضهم أخذًا عن بعض الشارحين، ورده بأنه
ليس بجمع خربة كما زعموا، وإنما جمع خربة خرب ككلمة وكلم
كما ذكره الصغاني، وعند المؤلف في موضع آخر بالحاء المهملة
المفتوحة وإسكان الراء وبالمثلثة آخره (وهو) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يتوكأ) جملة اسمية وقعت
حالاً أي يعتمد (على عسيب) بفتح الأوّل وكسر الثاني
المهملتين وسكون المثناة التحتية آخره موحدة أي عصا من
جريد النخل (معه) صفة لعسيب (فمر بنفر) بفتح الفاء عدة
رجال من ثلاثة إلى عشرة (من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه)
أي النبي -صلى لله عليه وسلم- (عن الروح. وقال) وفي رواية
أبي الوقت فقال (بعضهم لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء
تكرهونه) برفع يجيء على الاستئناف، وهو الذي في الفرع فقط
والمعنى لا يجيء فيه بشيء تكرهونه وبجزمه على جواب النهي.
قال ابن حجر: وهو الذي في روايتنا والمعنى لا تسألوه لا
يجيء بمكروه وبنصبه على معنى لا تسألوه خشية أن يجيء فيه
بشيء ولا زائدة وهو ماشٍ
(1/218)
على مذهب الكوفيين
(فقال بعضهم) لبعض: والله (لنسألنه) عنها (فقام رجل منهم
فقال: يا أبا القاسم ما الروح)؟ وسؤالهم بقولهم ما الروح
مشكل إذ لا يعلم مرادهم لأن الروح جاء في التنزيل على
معانٍ منها القرآن وجبريل أو ملك غيره وعيسى، لكن الأكثرون
على أنهم سألوه عن حقيقة الروح الذي في الحيوان. وروي أن
اليهود قالوا لقريش: إن فسر الروح فليس بنبي، ولذا قال
بعضهم لا تسألوه لا يجيء بشيء تكرهونه أي إن لم يفسره لأنه
يدل على نبوّته وهم يكرهونها. (فسكت) رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سألوه. قال ابن مسعود
(فقلت إنه يوحى إليه فقمت) حتى لا أكون مشوّشًا عليه أو
فقمت حائلاً بينه وبينهم (فلما انجلى عنه) أي انكشف عنه
عليه الصلاة والسلام الكرب الذي كان يتغشاه حال الوحي
(فقال) وفي رواية الأربعة قال: (ويسألونك) بإثبات الواو
كالتنزيل وفي رواية أبي ذر والأصيلي وابن عساكر: يسألونك
(عن الروح قل الروح من أمر ربي) أي من الإبداعيات الكائنة
بكن من غير مادة وتولد من أصل، واقتصر على هذا الجواب كما
اقتصر موسى عليه السلام في جواب {وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] بذكر بعض صفاته إذ الروح
لدقته لا تمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس،
فلذلك اقتصر على هذا الجواب، ولم يبين الماهية لكونها مما
استأثر الله بعلمها، ولأن في عدم بيانها تصديقًا لنبوّة
نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد كثر
اختلاف العلماء والحكماء قديمًا وحديثًا في الروح وأطلقوا
أعنّة النظر في شرحه وخاضوا في غمرات ماهيته، والذي اعتمد
عليه عامّة المتكلمين من أهل السُّنَّة أنه جسم لطيف في
البدن سار فيه سريان ماء الورد فيه، وعن الأشعري النفس
الداخل الخارج. (وما أُوتوا) بصيغة الغائب في أكثر نسخ
الصحيحين (من العلم إلا) علمًا أو إيتاء (قليلاً) أو إلا
قليلاً منكم أي بالنسبة إلى معلومات الله تعالى التي لا
نهاية لها (قال الأعمش) سليمان بن مهران: (هكذا في) وفي
رواية الحموي والمستملي هكذا هي في (قراءتنا) أي أُوتوا
بصيغة الغائب. قال ابن حجر: وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب
القراءات له من قراءة الأعمش اهـ.
وليست في طرق مجموعي المفرد في فنون القراءات عن الأعمش
وهي مخالفة لخط المصحف وفي رواية وما أُوتيتم بالخطاب
موافقة للمرسوم وهو خطاب عامّ أو خاصّ باليهود، ويأتي
البحث -إن شاء الله تعالى- في الروح في كتاب التفسير،
والله الموفّق والمعين والحمد لله وحده.
48 - باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ
يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي
أَشَدَّ مِنْهُ
(باب من) أي الذي (ترك بعض الاختيار) أي فعل الشيء المختار
أو الإعلام به (مخافة) بغير تنوين أي لأجل خوف (أن يقصر
فهم بعض الناس عنه فيقعوا) نصب بإسقاط النون عطفًا على
المضارع المنصوب بأن (في أشد منه) أي من ترك الاختيار وفي
رواية الأصيلي في أشرّ بالراء، وفي أخرى لأبي ذر عن
الكشميهني في شرّ منه بالراء مع إسقاط الهمزة.
126 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ
إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ:
قَالَ لِي ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُسِرُّ
إِلَيْكَ كَثِيرًا، فَمَا حَدَّثَتْكَ فِي الْكَعْبَةِ؟
قُلْتُ: قَالَتْ لِي: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ قَوْمُكِ
حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ -قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ-
لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ
يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ». فَفَعَلَهُ
ابْنُ الزُّبَيْرِ. [الحديث 126 - أطرافه في: 1583، 1584،
1585، 1586، 3368، 4484، 7243].
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله) بالتصغير (ابن موسى) العبسي
مولاهم الكوفي (عن إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي
بفتح المهملة وكسر الموحدة نسبة إلى سبيع بن سبع، المتوفى
سنة ستين ومائة (عن) جده (أبي إسحاق عن الأسود) بن يزيد بن
قيس النخعي أدرك الزمن النبوي وليست له رؤية، وتوفي
بالكوفة سنة خمس وسبعين أنه (قال):
(قال لي ابن الزبير) عبد الله الصحابي المشهور (كانت
عائشة) رضي الله تعالى عنها (تسرّ إليك) أسرارًا (كثيرًا)
من الإسرار ضد الإعلان، وفي رواية ابن عساكر تسرّ إليك
حديثًا كثيرًا. فإن قلت: قوله كانت للماضي وتسر للمضارع
فكيف اجتمعا؟ أجيب: بأن تسر تفيد الاستمرار وذكر بلفظ
المضارع استحضارًا لصورة الإسرار. (فما حدّثتك في) شأن
(الكعبة)؟ قال الأسود: (قلت) وفي رواية أبي ذر فقلت (قالت
ليس قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا
عائشة لولا قومك حديث عهدهم) بتنوين حديث ورفع عهدهم على
إعمال الصفة (قال) وفي رواية الأصيلي فقال (ابن الزبير
بكفر) كان الأسود نسي قولها بكفر فذكره ابن الزبير، وأما
التالي الخ فيحتمل أن يكون مما نسي أيضًا أو مما ذكر،
ورواه الإسماعيلي من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق
بلفظ قلت حدّثني حديثًا حفظت أوله ونسيت آخره، وللترمذي
كالمؤلف في الحج بجاهلية
(1/219)
بدل قوله بكفر (لنقضت الكعبة) جواب لولا
(فجعلت لها بابين باب يدخل) منه (الناس وباب يخرجون) منه
ولأبي ذر بابًا في الموضعين بالنصب على أنه بدل أو بيان
لبابين وضمير المفعول محذوف من يدخل ويخرجون. وفي رواية
الحموي والمستملي كما في فرع اليونينية إثبات ضمير الثاني
يخرجون منه وهي منازعة الفعلين (ففعله) أي النقص المذكور
والبابين (ابن الزبير) وهذه المرة الرابعة من بناء البيت
ثم بناه الخامسة الحجاج، واستمر. وقد تضمن الحديث معنى ما
ترجم له لأن قريشًا كانت تعظم أمر الكعبة جدًّا فخشي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يظنوا لأجل قرب
عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في
ذلك.
49 - باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ
كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا
وَقَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ،
أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟.
هذا (باب من خص بالعلم قومًا دون قوم) أي سوى قوم لا بمعنى
إلا دون (كراهية) بتخفيف الياء والنصب على التعليل مضاف
لقوله (أن لا يفهموا) وأن مصدرية، والتقدير لأجل كراهية
عدم
فهم القوم الذين هم سوى القوم الذين خصّهم بالعلم. ولفظ
"أن" ساقط للأصيلي، وهذه الترجمة قريبة من السابقة لكنها
في الأفعال وهذه في الأقوال (وقال علي) أي ابن أبي طالب
رضي الله عنه (حدّثوا) بصيغة الأمر أي كلموا (الناس بما
يعرفون) ويدركون بعقولهم ودعوا ما يشتبه عليهم فهمه
(أتحبون) بالخطاب (أن يكذب الله ورسوله) لأن الإنسان إذا
سمع ما لا يفهمه وما لا يتصوّر إمكانه اعتقد استحالته
جهلاً فلا يصدق وجوده، فإذا أسند إلى الله تعالى ورسوله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لزم ذلك المحذور
ويكذب بفتح الذال على صيغة المجهول.
127 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ
مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ
عَلِيٍّ بِذَلِكَ.
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبيد الله) بالتصغير (ابن
موسى) العبسي مولاهم، وللأصيلي وابن عساكر وأبي ذر عن
الكشميهني حدّثنا به (عن معروف بن خربوذ) بفتح الخاء
المعجمة وتشديد الراء المفتوحة وضم الموحدة آخره ذال معجمة
مصروف باليونينية المكي مولى قريش ضعفه ابن معين، وليس له
عند المؤلف سوى هذا الحديث وسقط في رواية أبي ذر وابن
عساكر والأصيلي لفظ ابن خربوذ، (عن أبي الطفيل) بضم الطاء
وفتح الفاء عامر بن واثلة وهو آخر الصحابة موتًا (عن عليّ
بذلك) وللأصيلي زيادة ابن أبي طالب أي بالأثر المذكور،
وهذا الإسناد من عوالي المؤلف لأنه يلتحق بالثلاثيات من
جهة أن الراوي الثالث، وهو أبو الطفيل صحابي، وأخّر المؤلف
هنا السند عن المتن ليميز بين طريقة إسناد الحديث وإسناد
الأثر أو لضعف الإسناد بسبب ابن خربوذ أو للتفنّن وبيان
الجواز، ومن ثم وقع في بعض النسخ مقدمًا وقد سقط هذا الأثر
كله من رواية الكشميهني.
128 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ- قَالَ:
يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: يَا مُعَاذُ. قَالَ:
لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ (ثَلاَثًا).
قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ
قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ. قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ
فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا». وَأَخْبَرَ
بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. [الحديث 128 -
طرفه في: 129].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن
راهويه (قال: حدّثنا) وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي
أخبرنا (معاذ بن هشام) أي ابن أبي عبد الله الدستوائي،
المتوفى بالبصرة سنة مائتين (قال: حدّثني) بالإفراد (أبي)
هشام (عن قتادة) بن دعامة أنه (قال: حدّثنا أنس بن مالك)
رضي الله عنه.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعاذ)
أي ابن جبل (رديفه) أي راكب خلفه (على الرحل) بفتح الراء
سكون الحاء المهملتين وهو للبعير أصغر من القتب، وعند
المؤلف في الجهاد أنه كان على حمار (قال
يا معاذ بن جبل) بضم معاذ منادى مفرد علم، واختاره ابن
مالك لعدم احتياجه إلى تقدير ونصبه على أنه مع ما بعده
كاسم واحد مركب كأنه أضيف، وهذا اختاره ابن الحاجب والنادى
المضاف منصوب فقط (قال) أي معاذ (لبيك يا رسول الله
وسعديك، قال) عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ. قال) معاذ:
(لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثًا) يعني أن نداءه عليه
الصلاة والسلام لمعاذ وإجابة معاذ قيل ثلاثًا (قال: ما من
أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) شهادة
(صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار) والجار والمجرور
الأول وهو من قلبه يتعلق بقوله صدقًا أو بقوله يشهد، فعلى
الأول الشهادة لفظية أي يشهد بلفظه ويصدق بقلبه، وعلى
الثاني قلبية أي يشهد بقلبه ويصدّق بلسانه واحترز به عن
شهادة المنافقين.
فإن قلت: إن ظاهر هذا يقتضي عدم دخول
(1/220)
جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من
التعميم والتأكيد وهو مصادم للأدلة القطعية الدالّة على
دخول طائفة من عصاة الموحدين النار ثم يخرجون بالشفاعة؟
أجيب: بأن هذا مقيد بمن يأتي بالشهادتين تائبًا ثم يموت
على ذلك، أو أن المراد بالتحريم هنا تحريم الخلود لا أصل
الدخول أو أنه خرج مخرج الغالب إذ الغالب أن الموحد يعمل
بالطاعات ويجتنب المعاصي، أو من قال ذلك مؤديًا حقه وفرضه،
أو المراد تحريم النار على اللسان الناطق بالشهادتين
كتحريم مواضع السجود.
(قال) معاذ (يا رسول الله أفلا) بهمزة الاستفهام وفاء
العطف الحذوف معطوفها والتقدير أقلت ذلك فلا (أخبر به
الناس فيستبشروا) نصب بحذف النون والتقدير فأن يستبشروا،
ولأبي ذر فيستبشرون بالنون أي فهم يستبشرون. (قال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذًا) أي إن أخبرتهم
(يتَّكلوا) بتشديد المثناة الفوقية أي يعتمدوا على الشهادة
المجردة، وللكشميهني ينكلوا بنون ساكنة وضم الكاف من
النكول وهو الامتناع أي يمتنعوا عن العمل اعتمادًا على
مجرد التلفّظ بالشهادتين (وأخبر) وفي رواية أخبر بغير واو
(بها معاذ عند موته) أي موت معاذ (تأثمًا) بفتح المثناة
الفوقية والهمزة وتشديد المثلثة نصب على أنه مفعول له أي
تجنبًا عن الإثم إن كتم ما أمر الله بتبليغه حيث قال:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا
تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
فإن قلت: سلمنا أنه تأثم من الكتمان، فكيف لا يتأثم من
مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام في التبشير؟ أجيب بأن
النهي كان مقيدًا بالاتكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك
أو أن النهي إنما كان للتنزيه لا للتحريم، وإلاّ لما كان
يخبر به أصلاً. وقد روى البزار من حديث أبي سعيد الخدري في
هذه القصة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أذن لمعاذ في التبشير فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: لا
تعجل ثم دخل فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأيًا لأن الناس
إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها. قال: فرده فرده. وقد تضمن هذا
الحديث أن يخص بالعلم قوم فيهم الضبط وصحة الفهم ولا يبذل
المعنى اللطيف لمن لا يستأهله ومن يخاف عليه الترخيص،
والاتكال لتقصير فهمه وهو مطابق لما ترجم له المؤلف.
129 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ:
ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ لِمُعَاذٍ: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ
يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ». قَالَ: أَلاَ
أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ. إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يَتَّكِلُوا».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا معتمر)
هو ابن سليمان بن طرخان البصري نزيل بني تميم، المتوفى
بالبصرة سنة سبع وثمانين ومائة (قال: سمعت أبي) سليمان
المتوفى بالبصرة سنة ثلاث وأربعين ومائة (قال: سمعت أنسًا)
وفي رواية الأصيلي وابن عساكر أنس بن مالك (قال ذكر لي)
على صيغة المجهول ولم يسمّ أنس من ذكر له ذلك وهو غير قادح
في صحة الحديث لأن متنه ثابت من طريق أخرى، وأيضًا فأنس لا
يروي إلا عن عدل صحابي أو غيره فلا تضر الجهالة هنا،
ويحتمل أن يكون عمرو بن ميمون أو عبد الرحمن بن سلمة.
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال
لمعاذ): زاد في رواية غير أبوي ذر والوقت ابن جبل ومقول
القول (من لقي الله) أي مات حال كونه (لا يشرك به شيئًا)
حين الموت (دخل الجنة) وإن لم يعمل صالحًاً إما قبل دخوله
النار أو بعده بفضل الله ورحمته، واقتصر على نفي الإشراك
لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ولم يذكر إثبات الرسالة لأن
نفي الإشراك يستدعي إثباتها للزوم أن من كذب رسل الله فقد
كذب الله ومن كذب الله فهو كافر أو هو نحو من توضأ صحت
صلاته أي عند وجود سائر الشروط فالمراد من لقي الله موحدًا
بسائر ما يجب الإيمان به (قال) معاذ وفي رواية أبي ذر
فقال: (ألا أبشر الناس) بذلك (قال) النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا) تبشرهم ثم استأنف فقال (أخاف أن
يتكلوا) بتشديد المثناة الفوقية أي أخاف اتكالهم على مجرد
التوحيد، وفي رواية كريمة وأبي الوقت قال: لا إني أخاف،
وعلى الرواية الأولى ليست كلمة النهي داخلة على أخاف
فافهم.
50 - باب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ
وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ
النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ
الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.
هذا (باب الحياء) بالمد (في) تعلم (العلم) وتعليمه (وقال
مجاهد) أي ابن جبر التابعي الكبير مما وصله أبو نعيم في
الحلية من طريق علي بن المديني عن ابن عيينة من منصور عنه
بإسناد صحيح على شرط المؤلف، (لا يتعلم العلم مستحييٍ)
بإسكان الحاء وبياءين أخيرتهما ساكنة من
(1/221)
استحيا يستحيي على وزن يستفعل، ويجوز فيه
مستحي أي بياء واحدة من استحى يستحي على وزن مستفع، ويجوز
مستح من غير ياء على وزن مستف (ولا مستكبر) يتعاظم ويستنكف
أن يتعلم العلم ويستكثر منه وهو أعظم آفات العلم، فالحياء
هنا مذموم لكونه سببًا لترك أمر شرعي وليست لا ناهية بل
نافية ومن ثم كانت ميم يتعلم مضمومة.
(وقالت عائشة) رضي الله عنها مما وصله مسلم (نعم النساء
نساء الأنصار) برفع نساء في الموضعين، فالأولى على
الفاعلية، والثانية على أنها مخصوصة بالمدح والمراد من
نساء الأنصار نساء أهل المدينة (لم يمنعهن الحياء) عن (أن
يتفقهن) أي عن التفقه (في) أمور (الدين).
130 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ
غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ.
فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ -تَعْنِي وَجْهَهَا- وَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ:
نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا
وَلَدُهَا؟». [الحديث 130 - أطرافه في: 282، 3328، 6091،
6121].
وبالسند إلى المؤلف قال (حدّثنا محمد بن سلام) بتخفيف
اللام على الأشهر واقتصر عليه في فرع اليونينية وهو
البيكندي (قال: أخبرنا أبو معاوية) محمد بن خازم بمعجمتين
الضرير التيمي (قال: حدّثنا هشام) وفي رواية ابن عساكر بن
عروة (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن زينب ابنة)
وفي رواية الأربعة بنت (أم سلمة) وأبوها عبد الله بن عبد
الأسد المخزومي، توفيت سنة ثلاث وسبعين ونسبت لأمها أم
المؤمنين أم سلمة بيانًا لشرفها لأنها ربيبته -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن أم سلمة) هند بنت أبي
أمية زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رضي
الله عنها أنها (قالت): (جاءت أُم سليم) بضم المهملة وفتح
اللام بنت ملحان بكسر الميم وسكون اللام وبالحاء المهملة
والنون النجارية الأنصارية وهي والدة أنس بن مالك (إلى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: يا
رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق) ليس الاستحياء هنا
على بابه، وإنما هو جارٍ على سبيل الاستعارة التبعية
التمثيلية أي أن الله لا يمتنع من بيان الحق، فكذا أنا لا
أمتنع من سؤالي عما أنا محتاجة إليه، وإنما قالت ذلك بسطًا
لعذرها في ذكر ما تستحيي النساء من ذكره عادة بحضرة الرجال
لأن نزول المني منهنّ يدل على قوّة شهوتهنّ للرجال (فهل)
يجب (على المرأة من غُسل) بضم الغين وفي رواية من غسل
بفتحها وهما مصدران عند أكثر أهل اللغة. وقال آخرون بالضم
الاسم وبالفتح المصدر وحرف الجر زائد (إذا) هي (احتلمت) أي
رأت في منامها أنها تجامع (قال) وفي رواية أبي ذر وابن
عساكر فقال (النبي) وفي رواية أبي ذر رسول الله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عليها غسل (إذا) أي حين (رأت
الماء) أي المني إذا استيقظت فإذا ظرفية، ويجوز أن تكون
شرطية أي إذا رأت وجب عليها الغسل، وجعل رؤية المني شرطًا
للغسل يدل على أنها إذا لم ترَ الماء لا غسل عليها. قالت
زينب: (فغطت أم سلمة) رضي الله عنها أو قالته أم سلمة على
سبيل الالتفات من باب التجريد كأنها جرّدت من نفسها شخصًا
فأسندت إليه التغطية إذ الأصل فغطيت قال عروة أو غيره
(تعني وجهها) بالمثناة الفوقية ولابن عساكر بالتحتية وعند
مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة أيضًا فيحتمل حضورهما
معًا في
هذه القصة. (وقالت) أم سلمة (يا رسول الله وتحتلم المرأة)
بحذف همزة الاستفهام وللكشميهني أو تحتلم بإثباتها وهو
معطوف على مقدّر يقتضيه السياق أي أترى المرأة الماء،
وتحتلم؟ (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (نعم)
تحتلم وترى الماء (تربت يمينك) بكسر الراء والكاف أي
افتقرت وصارت على التراب وهي كلمة جارية على ألسنة العرب
لا يريدون بها الدعاء على المخاطب. (فبِمَ) بحذف الألف
(يشبهها ولدها) وفي حديث أنس في الصحيح: فمن أين يكون
الشبه ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيّهما
علا أو سبق يكون منه الشبه. وفي هذا الحديث ترك الاستحياء
لمن عرضت له مسألة.
131 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ
شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ
الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي
شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا
النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ.
فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِهَا. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هِيَ
النَّخْلَةُ».
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي
نَفْسِي، فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ
إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أُويس ابن أُخت إمام دار
الهجرة مالك (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن عبد
الله بن دينار) المشهور (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب
رضي الله عنهما ثبت ابن عمرو الترضي لابن عساكر.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:
إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي) وللأصيلي هي بإسقاط
الواو (مثل المسلم) بفتح الميم والمثلثة وفي رواية مثل
بكسر الميم وسكون المثلثة (حدّثوني ما هي.
فوقع الناس في شجر
(1/222)
البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة. قال
عبد الله: فاستحييت. فقالوا) ولابن عساكر والأصيلي قالوا:
(يا رسول الله أخبرنا بها. فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هي النخلة. قال عبد الله فحدّثت أبي)
عمر (بما) أي بالذي (وقع في نفسي) من أنها النخلة (فقال:
لأن) بفتح اللام (تكون قلتها أحب إلي من أن يكون ليس كذا
وكذا) أي من حمر النعم وغيرها.
فإن قلت: لم قال قلتها بلفظ الماضي مع قوله تكون بلفظ
المضارع وقد كان حقه أن يقول لأن كنت قلت؟ أجيب بأن المعنى
لأن تكون في الحال موصوفًا بهذا القول الصادر في الماضي
انتهى.
وإنما تأسف عمر رضي الله عنه على كون ابنه لم يقل ذلك
لتظهر فضيلته فاستلزم حياؤه تفويت ذلك وقد كان يمكنه إذا
استحيا إجلالاً لمن هو أكبر منه أن يذكر ذلك لغيره سرًّا
ليخبر به عنه فيجمع بين المصلحتين، ومن ثم عقبه المؤلف
بقوله:
51 - باب مَنِ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ
(باب من استحيا) من العالم أن يسأل منه بنفسه (فأمر غيره
بالسؤال) منه ولفظ باب ساقط للأصيلي.
132 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ
الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ
عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ
الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «فِيهِ
الْوُضُوءُ». [الحديث 132 - طرفاه في: 178، 269].
وبالسند إلى المؤلف رحمه الله قال: (حدّثنا مسدد) أي ابن
مسرهد (قال: حدّثنا عبد الله بن داود) بن عامر الخريبي
نسبة إلى خريبة بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وسكون
المثناة التحتيه وفتح الموحدة محلة بالبصرة، المتوفى سنة
ثلاث عشرة ومائتين (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن منذر)
بضم الميم وسكون النون وكسر المعجمة وكنيته أبو يعلى بفتح
المثناة التحتية وسكون المهملة وفتح اللام (الثوري)
بالمثلثة الكوفي (عن محمد ابن الحنفية) المتوفى سنة ثمانين
أو إحدى وثمانين أو أربع عشرة ومائة ودفن بالبقيع والحنفية
أمه وهي خولة بنت جعفر الحنفي اليمامي وكانت من سبي بني
حنيفة (عن) أبيه (علي) رضي الله عنه، وللأصيلي زيادة ابن
أبي طالب (قال):
(كنت رجلاً مذّاء) بالمعجمة المشددة للمبالغة في كثرة الذي
وهو بإسكان المعجمة الماء الذي يخرج من الرجل عند الملاعبة
وهو منصوبة صفة رجلاً المنصوب خبر كان (فأمرت المقداد)
بكسر الميم وسكون القاف ابن عمرو زاد في رواية ابن عساكر
ابن الأسود وليس بأبيه وإنما رباه أو تبناه أو حالفه أو
تزوّج بأمه فنسب إليه، وإنما أبوه عمرو بن ثعلبة البهراني
وهو من السابقين إلى الإسلام، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين في
خلافة عثمان رضي الله عنه (أن يسأل) أي بأن يسأل (النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسأله) عن حكم المذي
(فقال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فيه)
أي في المذي (الوضوء) لا الغسل وقد استدل بعضهم بهذا
الحديث على جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على
المقطوع وهو خطأ ففي النسائي أنّ السؤال وقع وعليّ حاضر
قاله في الفتح.
52 - باب ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا فِي الْمَسْجِد
هذا (باب) جواز (ذكر العلم والفتيا في المسجد) وإن أدّت
المباحثة في ذلك إلى رفع الصوت وسقط لفظ الباب للأصيلي.
133 - حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ
بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ
نُهِلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ
ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ
الشَّأْمِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ
قَرْنٍ». وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
[الحديث 133 - أطرافه في: 1522، 1525، 1527، 1528، 7344].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا) بالجمع وفي رواية
المستملي حدّثني (قتيبة) ولغير أبوي ذر والوقت وابن عساكر
بن سعيد بكسر العين (قال: حدَّثنا الليث بن سعد) إمام
المصريين (قال: حدّثنا نافع) هو ابن سرجس بفتح المهملة
وسكون الراء وكسر الجيم آخره سين مهملة وهو (مولى عبد الله
بن عمر بن الخطاب) المتوفى بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة
وفي رواية ابن عساكر بإسقاط لفظة ابن الخطاب (عن عبد الله
بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما.
(أن رجلاً قام في المسجد) النبوي ولم يعرف اسم الرجل
(فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل)؟ أي بالإهلال
وهو رفع الصوت بالتلبية في الحج والمراد به هنا الإحرام مع
التلبية والسؤال عن موضع الإحرام وهو الميقات المكاني.
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
يهل) بضم الياء أي يحرم (أهل المدينة من ذي الحليفة) بضم
المهملة وفتح اللام، (ويهل أهل الشام من الجحفة) بضم الجيم
وسكون المهملة، (ويهل أهل نجد) وهو ما ارتفع من أرض تهامة
إلى أرض العراق (من قرن) بفتح القاف وسكون الراء وهو جبل
مدوّر أملس كأنه هضبة مطل على عرفات، وقوله ويهل في الكل
على صورة
(1/223)
الخبر في الظاهر، والظاهر أن المراد منه
الأمر فالتقدير ليهل. (وقال ابن عمر) رضي الله عنهما بواو
العطف على لفظ عن عبد الله بن عمر عطفًا من جهة المعنى
كأنه قال: قال نافع، قال ابن عمر وسقط الواو للأصيلي وابن
عساكر. وقال: (ويزعمون) عطف على مقدر وهو قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك ولا بدّ من هذا
التقدير لأن هذه الواو لا تدخل بين القول ومقوله (أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ويهل أهل
اليمن من يلملم) بفتح المثناة التحتية وفتح اللامين جبل من
جبال تهامة على مرحلتين من مكة.
(وكان ابن عمر) رضي الله عنهما (يقول لم أفقه) أي لم أفهم
(هذه) أي الأخيرة (من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وهذا من شدة تحرّيه وورعه، وأطلق الزعم على
القول المحقق لأنه لا يريد من هؤلاء الزاعمين إلا أهل
الحجة والعلم بالسُّنَّة، ومحُال أن يقولوا ذلك بآرائهم
لأن هذا ليس مما يقال بالرأي وتأتي بقية مباحث الحديث إن
شاء الله تعالى في الحج وبالله المستعان.
53 - باب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا
سَأَلَه
(باب من أجاب السائل بأكثر) وفي رواية ابن عساكر أكثر (مما
سأله) فلا يلزم مطابقة الجواب للسؤال بل إذا كان السؤال
خاصًّا والجواب عامًّا جاز وأما ما وقع في كلام كثير من
أهل الأصول أنَّ الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال. فليس
المراد بالمطابقة عدم الزيادة، بل المراد أن الجواب يكون
مفيدًا للحكم المسؤول عنه ولفظ باب سقط عند الأصيلي.
134 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
ذِئْبٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ
عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ: مَا
يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: «لاَ يَلْبَسِ الْقَمِيصَ
وَلاَ الْعِمَامَةَ وَلاَ السَّرَاوِيلَ وَلاَ الْبُرْنُسَ
وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ،
فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ
الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ
الْكَعْبَيْنِ». [الحديث 134 - أطرافه في: 366، 1542،
1838، 1842، 5794، 5803، 5805، 5806، 5847، 5852].
وبالسند إلى المؤلف رحمه الله قال: (حدّثنا آدم) بن أبي
إياس (قال: حدّثنا ابن أبي ذئب) بكسر الذال المعجمة
والهمزة الساكنة واسمه محمد بن عبد الرحمن المدني (عن
نافع) مولى ابن عمر رضي الله عنهما (عن ابن عمر) رضي الله
عنهما، (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وعن الزهري) محمد بن مسلم (عن سالم) هو ابن عبد الله (عن
ابن عمر) بضم العين وهو والد سالم (عن النبي-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفي رواية أبوي ذر والوقت
والأصيلي والزهري بإسقاط حرف الجر وكلاهما عطف على قوله عن
نافع عن ابن عمر فهما إسنادان أحدهما عن آدم عن ابن أبي
ذئب عن نافع عن ابن عمر، والآخر عن آدم عن ابن أبي ذئب عن
الزهري عن سالم عن ابن عمر، وفي بعض النسخ ح للتحويل قبل،
وعن الزهري:
(أن رجلاً) لم أعرف اسمه (سأله) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (ما يلبس المحرم) بفتح المثناة التحتية
والموحدة مضارع لبس بكسر الموحدة (فقال) عليه الصلاة
والسلام: (لا يلبس) بفتح الأوّل والثالث ويجوز ضم السين
على أن لا نافية وكسرها على أنها ناهية، والأوّل لأبي ذر
(القميص ولا العمامة) بكسر العين (ولا السراويل ولا
البرنس) بضم الموحدة والنون (ولا ثوبًا مسّه الورس) بفتح
الواو وسكون الراء آخره مهملة نبت أصفر من اليمن يصبغ به
(أو الزعفران) بفتح الزاي والفاء للأصيلي مسّه الزعفران أو
الورس (فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفّين وليقطعهما) بكسر
اللام وسكونها عطف على فليلبس (حتى) أن (يكونا) أي غاية
قطعهما (تحت الكعبين).
فإن قلت: السؤال قد وقع عما يلبس فكيف أجابه عليه السلام
بما لا يلبس؟ أجيب: بأن هذا من بديع كلامه عليه الصلاة
السلام وفصاحته لأن المتروك منحصر بخلاف الملبوس، لأن
الإباحة هي الأصل فحصر ما يترك ليبيّن أن ما سواه مباح
انتهى.
وفي هذا الحديث السؤال عن حالة الاختيار فأجابه عليه
الصلاة والسلام عنها وزاده حالة الاضطرار في قوله: فإن لم
يجد النعلين وليست أجنبية عن السؤال لأن حالة السفر تقتضي
ذلك، وتأتي مباحث الحديث إن شاء الله تعالى في الحج بعون
الله وقوته وفضله ومنّته. وهذا آخر أحاديث كتاب العلم وعدة
المرفوع منها مائة حديث وثلاثة أحاديث.
ولما فرغ المؤلف من ذكر أحاديث الوحي الذي هو مادة الأحكام
الشرعية وعقبه بالإيمان ثم بالعلم شرع يذكر أقسام العبادات
مرتبًا لذلك على ترتيب حديث الصحيحين "بني الإسلام على
خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله،
وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم
رمضان" قدم الصلاة بعد الشهادتين على غيرها لكونها أفضل
العبادات بعد الإيمان، وابتدأ المؤلف بالطهارة
(1/224)
لأنها مفتاح الصلاة كما في حديث أبي داود بإسناد صحيح
ولأنها أعظم شروطها، والشرط مقدّم على المشروط طبعًا فقدّم
عليه وضعًا فقال: |