شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
32 - كتاب فضل ليلةِ القدر
1 - باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
* تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى
مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ {مَا
أَدْرَاكَ} فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ: {وَمَا
يُدْرِيكَ} فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ.
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(باب فضل ليلة القدر) بفتح القاف وإسكان الدال سميت بذلك
لعظم قدرها أي ذات القدر العظيم لنزول القرآن فيها، ووصفها
بأنها خير من ألف شهر، أو لما يحصل لمحييها بالعبادة من
القدر الجسيم، أو لأن الأشياء تقدر فيها وتقضى لقوله
تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] وتقدير الله
تعالى سابق فهي ليلة إظهار الله تعالى ذلك التقدير
للملائكة ويجوز فتح الدال على أنه مصدر قدر الله الشيء
قدرًا وقدر لغتان كالنهر والنهر، وقال سهل بن عبد الله:
لأن الله تعالى يقدر الرحمة فيها على عباده المؤمنين، وعن
الخليل بن أحمد لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة من قوله:
{ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7] وقد سقطت البسملة لغير
أبي ذر (وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على سابقه أي في
بيان تفسير قول الله تعالى، ولا ذر وابن عساكر: وقال الله
تعالى: ({إنا أنزلناه}) أي القرآن ({في ليلة القدر})
بإسكان الدال من غير خلاف بين القراء وكان إنزاله فيها
جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء
الدنيا ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع ({وما أدراك ما ليلة
القدر}) تفخيم وتعظيم بلفظ الاستفهام ({ليلة القدر خير من
ألف شهر}) أي من ألف شهر ليس فيها تلك الليلة أو العمل في
تلك الليلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر،
وعند ابن أبي
حاتم بسنده إني مجاهد مرسلاً ورواه البيهقي في سننه أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر رجلاً من
بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال: فعجب
المسلمون من ذلك قال فأنزل الله تعالى: ({إنا أنزلناه في
ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف
شهر) [سورة القدر] التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل
الله ألف شهر، وعند ابن أبي حاتم أيضًا بسنده إلى علي بن
عروة ذكر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يومًا أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله مائتي عام لم يعصوه
طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع بن نون، فعجب
أصحاب رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من
ذلك فأتاه جبريل فقال: عجبت أمتك من عبادة ثمانين سنة لم
يعصوه طرفة عين فقد أنزل الله تعالى خيرًا من ذلك فقرأ
عليه: {إنّا أنزلناه في ليلة القدر} هذا أفضل مما عجبت
أمتك قال: فسرّ ذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- والناس معه.
وعن مالك مما في الموطأ أنه قال: سمعت من أثق به يقول: إن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أري أعمار
الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر إليه أعمار
أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول
العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيرًا من ألف
شهر قال: وقد خص الله تعالى بها هذه الأمة فلم تكن لمن
قبلهم على الصحيح المشهور وهل هي باقية أو رفعت؟ حكى
الثاني المتولي في التتمة عن الروافض، وحكى الفاكهاني أنها
خاصة بسنة واحدة ووقعت في زمنه عليه الصلاة والسلام وهل هي
ممكنة في جميع السنة؟ وهو
(3/429)
قول مشهور عن الحنفية أو مختصة برمضان
ممكنة في جميع لياليه. رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر
بإسناد صحيح، ورواه عنه أبو داود مرفوعًا، ورجحه السبكي في
شرح المنهاج، أو هي أول ليلة من رمضان رواه أبو عاصم من
حديث أنس، أو ليلة النصف منه حكاه ابن الملقن في شرح
العمدة. وفي قول حكاه القرطبي في المفهم أنها ليلة نصف
شعبان أو هي ليلة سبع عشرة من رمضان رواه ابن أبي شيبة
والطبراني من حديث زيد بن أرقم، أو مبهمة في العشر الأوسط
حكاه النووي، أو ليلة ثماني عشرة ذكره ابن الجوزي، أو ليلة
تسع عشرة رواه عبد الرزاق عن علي، وأول ليلة من العشر
الأخير وإليه مال الشافعي، أو هي ليلة اثنتين وعشرين أو
ثلاث وعشرين رواه ابن العربي في العارضة، أو سبع وعشرين
ورواه مسلم وغيره، أو تسع وعشرين أو ليلة الثلاثين أو في
أوتار العشر أو تنتقل في العشر الأخير كله قاله أبو قلابة،
وقيل غير ذلك. والحكمة في إخفائها ليحصل الاجتهاد في
التماسها بخلاف ما لو عينت.
({تنزل الملائكة والروح}) أي جبريل أو ضرب من الملائكة أي
يكثر تنزلهم (فيها) لكثرة بركتها ({بإذن ربهم}) فلا يمرون
بمؤمن إلا سلموا عليه ({من كل أمر}) أي تنزل من أجل كل أمر
قدر في تلك السنة ({سلام هي}) أي ليس إلا سلامة لا يقدر
فيها شر وبلاء أو لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو
ما هي إلا سلام لكثرة سلام الملائكة على أهل المساجد ({حتى
مطلع الفجر}) [القدر: 1 - 5] غاية بين تعميم السلامة أو
السلام كل الليلة إلى وقت طلوعه، ولفظ رواية أبي ذر. (ما
ليلة القدر) إلى آخر السورة. ولابن عساكر: الخ.
(قال ابن عيينة) سفيان مما وصله محمد بن يحيى بن أبي عمر
في كتاب الإيمان له (ما كان في القرآن ما) ولأبي ذر وابن
عساكر: {وما (أدراك} فقد أعلمه) الله به (وما قال) ولابن
عساكر: وما كان (وما يدريك فإنّه لم يعلمه) الله به، ولأبي
ذر وابن عساكر: لم يعلم وتعقب هذا الحصر بقوله تعالى: {وما
يدريك لعله يزكى} [عبس: 3] فإنها نزلت في ابن أم مكتوم وقد
علم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحاله وإنه ممن
تزكى ونفعته الذكرى.
2014 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ وَإِنَّمَا حَفِظَ مِنَ
الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ،
وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا
غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». تَابَعَهُ
سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وبالسند قال (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: حفظناه) أي هذا الحديث
(وإنما حفظ) بكسر الهمزة وكلمة إن التي أضيفت إليها كلمة
ما للحصر وحفظ بفتح الحاء وكسر الفاء على صيغة الماضي أي
قال علي بن عبد الله المديني: وإنما حفظ سفيان هذا الحديث
(من الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب، ولأبي ذر: وأيما حفظ
بهمزة مفتوحة ومثناة تحتية مشدّدة وحفظ بكسر الحاء وسكون
الفاء مصدر حفظ يحفظ، وأي مرفوع بالابتداء مضاف إلى حفظ،
وما زائدة والخبر حفظناه مقدرًا بعده أي وأي حفظ حفظناه من
الزهري يدل عليه حفظناه الأول، ومن الزهري متعلق بحفظناه
المذكور قبل، والمراد أنه يصف حفظه بكمال الأخذ وقوة الضبط
لأن أحد معاني أيّ الكمال كما تقول: زيد رجل أيّ رجل أي
كامل في صفات الرجال (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(من صام رمضان) في رواية مالك عن الزهري في الباب الذي قبل
هذا من قام بدل من صام (إيمانًا واحتسابًا) أي تصديقًا
وطلبًا لرضا الله وثوابه لا بقصد رؤية الناس ولا غيرهم مما
ينافي الإخلاص (غفر له ما تقدم من ذنبه) من الصغائر،
ولأحمد عن أبي هريرة مرفوعًا: من صام رمضان إيمانًا
واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، (ومن قام ليلة
القدر) زاد مسلم فيوافقها (إيمانًا واحتسابًا غفر له ما
تقدم من ذنبه) زاد النسائي في سننه الكبرى في رواية "وما
تأخر".
وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني الكبير من حديث عبادة بن
الصامت مرفوعًا: فمن قامها إيمانًا واحتسابًا ثم وقفت له
غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفيه عبد الله بن محمد
بن عقيل وحديثه حسن.
وفي مسلم كما مرّ من يقم ليلة القدر فيوافقها قال النووي:
يعني يعلم أنها ليلة القدر، وقال في شرح التقريب: إنما
معنى توفيقها له
(3/430)
أو موافقته لها أن يكون الواقع أن تلك
الليلة التي قامها
بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم
وذلك، وما ذكره النووي من أن معنى الموافقة العلم بأنها
ليلة القدر مردود وليس في اللفظ ما يقتضي هذا ولا المعنى
يساعده.
وقال في فتح الباري: الذي يترجح في نظري ما قاله النووي
ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر
وإن لم يعلم بها ولم توفق له، وإنما الكلام على حصول
الثواب المعين الموعود به فليأمل، وقد فرعوا على القول
باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص فتكشف لواحد
ولا تكشف لآخر ولو كانا معًا في بيت واحد.
(تابعه) أي تابع سفيان (سليمان بن كثير) العبدي في روايته
(عن الزهري) وهذا مما وصله الذهلي في الزهريات.
2 - باب الْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ
الأَوَاخِرِ
(باب التماس ليلة القدر) ولابن عساكر وأبي ذر عن
الكشميهني: باب بالتنوين التمسوا ليلة القدر (في السبع
الأواخر) من رمضان.
2015 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي
الله عنهما-: "أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرُوا لَيْلَةَ
الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي
السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا
فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال:
(أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله
عنهما- أن رجالاً من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) لم يسم أحد منهم (أُوروا ليلة القدر) بضم
الهمزة من أروا مبنيًا للمفعول تنصب مفعولين أحدهما النائب
عن الفاعل والآخر قوله ليلة القدر أي أراهم الله ليلة
القدر (في المنام في) ليالي (السبع الأواخر) جمع آخر بكسر
الخاء.
قال في المصابيح: ولا يجوز أخر لأنه جمع لأخرى وهي لا
دلالة لها على المقصود وهو التأخير في الوجود، وإنما تقتضي
المغايرة تقول: مررت بامرأة حسنة وامرأة أخرى مغايرة لها
ويصح هذا التركيب سواء كان المرور بهذه المرأة المغايرة
سابقًا أو لاحقًا وهذا عكس العشر الأول فإنه يصح لأنه جمع
أولى ولا يصح الأوائل لأنه جمع أوّل الذي هو للمذكر وواحد
العشر ليلة وهي مؤنثة فلا توصف بمذكر، وقول الكرماني قوله
في السبع الأواخر ليس ظرفًا للإراءة معناه أنه صفة لقوله
في المنام أي في المنام الواقع أو الكائن في السبع
الأواخر، وقول الحافظ ابن حجر أي قيل لهم في المنام إنها
في السبع الأواخر تعقبه العيني بأنه ليس بصحيح لأنه يقتضي
أن ناسًا قالوا لهم إن ليلة القدر في السبع الأواخر وليس
هذا تفسير قوله أروا ليلة القدر في المنام بل تفسيره أن
ناسًا أروهم إياها فرأوا، وعلى تفسير هذا القائل أخبروا
بأنها في السبع الأواخر ولا يستلزم هذا رؤيتهم اهـ.
وظاهر الحديث أن رؤياهم كانت قبل دخول السبع الأواخر
لقوله: فليتحرّها في السبع الأواخر، ثم يحتمل أنهم رأوا
ليلة القدر وعظمتها وأنوارها ونزول الملائكة فيها وأن ذلك
كان في ليلة من السبع الأواخر ويحتمل أن قائلاً قال لهم هي
في كذا وعين ليلة من السبع الأواخر ونسيت أو قال أن ليلة
القدر في السبع فهي ثلاث احتمالات (فقال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أرى) بفتح الهمزة والراء أي أعلم (رؤيكم) بالإفراد
والمراد الجمع أي رؤاكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة فهو مما
عاقب الإفراد فيه الجمع لأمن اللبس، وقول السفاقسي أن
المحدثين يروونه بالتوحيد وهو جائز وأفصح منه رؤاكم جمع
رؤيا ليكون جمعًا في مقابلة جمع فيه نظر لأنه بإضافته إلى
ضمير الجمع علم منه التعدد بالضرورة، وإنما عبّر بأرى
لتجانس رؤياكم ومفعول أرى الأول رؤياكم والثاني قوله (قد
تواطأت) بالهمزة. قال النووي: ولا بد من قراءته مهموزًا
قال الله تعالى: {ليواطئوا عدّة ما حرم الله} [التوبة: 37]
وقال في شرح التقريب: وروي تواطت بترك الهمزة، وقال في
المصابيح: ويجوز تركه أي توافقت (في) رؤيتها في ليالي
(السبع الأواخر فمن كان متحرّيها) أي طالبها وقاصدها
(فليتحرّها في) ليالي (السبع الأواخر) من رمضان من غير
تعيين وهي التي تلي آخره أو السبع بعد العشرين، والحمل على
هذا أولى لتناوله إحدى وعشرين وثلاثًا وعشرين بخلاف الحمل
على الأول فإنهما لا يدخلان ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين
على الثاني وتدخل على الأول.
وفي حديث عليّ مرفوعًا عند أحمد فلا
(3/431)
تغلبوا في السبع البواقي. ولمسلم من طريق
عتبة بن حريث عن ابن عمر: التمسوها في العشر الأواخر فإن
ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي، وهذا
السياق يرجح الاحتمال الأول من تفسير السبع، وظاهر الحديث
أن طلبها في السبع مستنده الرؤيا وهو مشكل لأنه إن كان
المعنى أنه قيل لكل واحد هي في السبع فشرط التحمل التمييز
وهم كانوا نيامًا، وإن كان معناه أن كل واحد رأى الحوادث
التي تكون فيها في منامه في السبع فلا يلزم منه أن تكون في
السبع كما لو رئيت حوادث القيامة في المنام في ليلة، فإنه
لا تكون تلك الليلة محلاً لقيامها.
وأجيب: بأن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث الاستدلال
بها على أمر وجودي غير مخالف لقاعدة الاستدلال، والحاصل أن
الاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقًا وهو
طلب ليلة القدر، وإنما ترجح السبع الأواخر بسبب الرؤى
الدالة على كونها في السبع الأواخر وهو استدلال على أمر
وجودي لزمه استحباب شرعي مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه
الليالي لا أنها ثبت بها حكم، أو أن الاستناد إلى الرؤيا
إنما هو من حيث إقراره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لها كأحد ما قيل في رؤيا الأذان.
وهذا الحديث أحرجه مسلم في الصوم، والنسائي في الرؤيا.
2016 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا
هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ
أَبَا سَعِيدٍ -وَكَانَ لِي صَدِيقًا- فَقَالَ:
"اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ
صَبِيحَةَ
عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ: إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ
الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا -أَوْ نُسِّيتُهَا-
فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي الْوَتْرِ،
وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ،
فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَرْجِعْ. فَرَجَعْنَا،
وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ
فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ
جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَرَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ
الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ".
وبه قال (حدّثنا) بالجمع: ولأبي ذر: وحدثني بواو العطف
والتوحيد (معاذ بن فضالة) بفتح الفاء وتخفيف المعجمة
الزهراني الطفاوي البصري قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي (عن
يحيى) بن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف
(قال: سألت أبا سعيد) سعد بن مالك الخدري -رضي الله عنه-
(وكان لي صديقًا فقال: اعتكفنا) لم يذكر المسؤول عنه هنا،
وفي رواية علي بن المبارك الآتية في باب الاعتكاف سألت أبا
سعيد الخدري -رضي الله عنه- قلت: هل سمعت رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر ليلة القدر؟
قال: نعم اعتكفنا (مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- العشر الأوسط من رمضان) ذكره وكان حقه أن يقول
الوسطى بالتأنيث إما باعتبار لفظ العشر من غير نظر إلى
مفرداته ولفظه مذكر فيصح وصفه بالأوسط، وإما باعتبار الوقت
أو الزمان أي ليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر
(فخرج) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (صبيحة عشرين
فخطبنا) بفاء التعقيب وظاهر رواية مالك الآتية إن شاء الله
تعالى في باب الاعتكاف حيث قال: حتى إذا كان ليلة إحدى
وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه يخالف
ما هنا إذ مقتضاه أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي
والعشرين، وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة
اثنتين وعشرين وهو مغاير لقوله في آخر الحديث: فبصرت عيناي
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى جبهته
أثر الماء والطين من صبح يوم إحدى وعشرين فإنه ظاهر في أن
الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين، ووقوع المطر في ليلة
إحدى وعشرين وهو الموافق لبقية الطرق وعلى هذا فالمراد أي
من الصبح الذي قبلها ويكون في إضافة الصبح إليها تجوّز،
ويؤيده أن في رواية الباب الذي يليه فإذا كان حين يمسي من
عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه وهذا
في غاية الإيضاح قاله في فتح الباري.
(وقال) عليه الصلاة والسلام: (إني أريت ليلة القدر) بضم
الهمزة مبنيًا للمفعول من الرؤيا أي أعلمت بها أو من
الرؤية أي أبصرتها وإنما أرى علامتها وهو السجود في الماء
والطين كما في رواية همام عن يحيى في باب السجود في الماء
والطين من صفة الصلاة بلفظ: حتى رأيت أثر الماء والطين على
جبهة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تصديق
رؤيه (ثم أنسيتها) بضم الهمزة أي أنساه غيره إياها وكذا
قوله (أو نسيتها). على رواية ضم النون وتشديد السين وهو
الذي في اليونينية وغيرها، وفي بعضها بالفتح والتخفيف أن
نسيها هو من غير واسطة والشك من الراوي، والمراد أنه أنسي
علم تعيينها في تلك السنة لا رفع وجودها لأنه أمر
بالتماسها حيث قال: (فالتمسوها) أي ليلة القدر (في العشر
(3/432)
الأواخر في الوتر) أي في أوتار تلك الليالي
وأولها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر ليلة التاسع والعشرين
لا
ليلة إشفاعها، وهذا لا ينافي قوله: التمسوها في السبع
الأواخر لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يحدث
بميقاتها جازمًا به (وإني رأيت) أي في منامي (أني أسجد)
وللكشميهني كما في الفتح: أن أسجد (في ماء وطين فمن كان
اعتكف مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فليرجع) إلى معتكفه وفيه التفات إذ الأصل أن يقول اعتكف
معي (فرجعنا) إلى معتكفنا (وما نرى في السماء قزعة) بفتح
القاف والمعجمة أي قطعة رقيقة من السحاب، (فجاءت سحابة
فمطرت) بفتحات (حتى سأل سقف المسجد) من باب ذكر المحل
وإرادة الحال أي قطر الماء من سقفه، (وكان) السقف (من جريد
النخل) سعفه الذي جرد عنه خوصه (وأقيمت الصلاة) صلاة الصبح
(فرأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته)
الشريفة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زاد في رواية
همام في باب السجود على الأنف في الطين تصديق رؤياه، ومبحث
السجود بأثر الطين قد سبق في الصلاة وحمله الجمهور على
الأثر الخفيف والله أعلم.
3 - باب تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ
الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ. فِيهِ عُبَادَةُ
(باب تحري ليلة القدر في) ليالي (الوتر من العشر الأواخر)
من رمضان ومحصله تعيينها في رمضان ثم في العشر الأخير منه
ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها (فيه) أي في هذا الباب
(عبادة) بن الصامت، ولأبي ذر وابن عساكر عن عبادة وحديثه
يأتي إن شاء الله تعالى في الباب اللاحق.
2017 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَبُو سُهَيْلٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ
الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ». [الحديث 2017 -
طرفاه في: 2019، 2020].
وبالسند قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي البلخي قال:
(حدّثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المؤدب قال: (حدّثنا
أبو سهيل) بضم السين وفتح الهاء مصغرًا نافع عم مالك بن
أنس (عن أبيه) مالك بن أبي عامر الأصبحي (عن عائشة -رضي
الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(تحروا) بفتح المثناة والمهملة والراء وإسكان الواو من
التحري أي اطلبوا بالاجتهاد (ليلة القدر في) ليالي (الوتر
من العشر الأواخر من رمضان).
2018 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ
يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ الْعَشْرَ الَّتِي فِي
وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ
عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ وَرَجَعَ مَنْ كَانَ
يُجَاوِرُ مَعَهُ، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ
فِيهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا،
فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ
قَالَ: كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ، ثُمَّ قَدْ
بَدَا
لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَمَنْ
كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ،
وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا،
فَابْتَغُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا
فِي كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ
وَطِينٍ. فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ
اللَّيْلَةِ فَأَمْطَرَتْ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِي
مُصَلَّى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَبَصُرَتْ عَيْنِي رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَظَرْتُ
إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ
طِينًا وَمَاءً".
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن حمزة) بن محمد بن حمزة بن
مصعب بن الزبير بن العوام الزبيري الأسدي المدني (قال:
حدثني) بالإفراد (ابن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي عبد
العزيز واسم أبي حازم سلمة بن دينار (والدراوردي) بفتح
الدال والراء الأولى وبعد الألف واو مفتوحة فراء ساكنة
فدال مكسورة فياء نسبة إلى قرية من قرى خراسان، واسمه عبد
العزيز أيضًا ابن محمد كلاهما (عن يزيد) من الزيادة، ولأبى
ذر زيادة: ابن الهاد وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن
الهاد الليثي (عن محمد بن إبراهيم) بن الحرث التيمي القرشي
(عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي سعيد الخدري
-رضي الله عنه-) أنه (قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجاور) أي يعتكف في المسجد (في رمضان
العشر التي في وسط الشهر) وللكشميهني: التي وسط الشهر
فأسقط لفظة في (فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي)
بنصب حين على الظرفية ويعربها العيني والبرماوي كالكرماني
حين بالرفع أيضًا اسم كان، والذي في اليونينية وغيرها
الأول، وقوله تمضي بفتح المثناة الفوقية في موضع نصب صفة
لقوله ليلة المنصوب على التمييز، ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي: تمضي بالمثناة التحتية وآخره نون الجمع
(ويستقبل) ليلة (إحدى وعشرين) عطف على قوله يمسي لا على
تمضي (رجع) عليه الصلاة والسلام (إلى مسكنه ورجع من كان
يجاور معه) إلى مساكنهم (وأنه) عليه الصلاة والسلام (أقام
في شهر جاور فيه) في معتكفه (الليلة التي كان يرجع فيها)
إلى مسكنه (فخطب الناس فأمرهم ما شاء الله)، أن يأمرهم (ثم
قال):
(كنت أجاور هذه العشر) بتأنيث هذه (ثم قد بدا لي) ظهر لي
بوحي أو اجتهاد (أن أجاور هذه العشر الأواخر فمن كان اعتكف
معي) في رواية الباب السابق: فمن كان اعتكف مع رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والذي هنا على الأصل
وذاك من باب الالتفات كما سبق (فليثبت في معتكفه) من
الثبوت واللام ساكنة، وفي رواية لمسلم فليبت من المبيت،
وفي أخرى فليلبث من
(3/433)
اللبث وهو في نسخة من البخاري أيضًا وكله
صحيح وكاف معتكفه مفتوحة، (وقد أريت) بضم الهمزة (هذه
الليلة ثم أنسيتها) بضم الهمزة (فابتغوها) بالموحدة
والمعجمة أي اطلبوها (في) ليالي (العشر الأواخر وابتغوها)
اطلبوها (في كل وتر) من أوتار ليالي العشر الأواخر (وقد
رأيتني) بضم التاء للمتكلم وفيه عمل الفعل في ضميري الفاعل
والمفعول وهو المتكلم وهو من خصائص فعال القلوب أي رأيت
نفسي (أسجد في ماء وطين) علامة جعلت له يستدل بها عليها
زاد في رواية الباب السابق: وما نرى في السماء قزعة
(فاستهلت السماء في تلك الليلة) ولابن عساكر: فاستهلت
السماء تلك الليلة بإسقاط
في ونصب الليلة (فأمطرت) تأكيد لسابقه لأن استهلت يتضمن
معنى أمطرت (فوكف المسجد) أي قطر ماء المطر من سقفه (في
مصلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) موضع
صلاته (ليلة إحدى وعشرين فبصرت) بضم الصاد (عيني) بالإفراد
وهو تأكيد مثل قولك: أخذت بيدي، وإنما يقال في أمر يعز
الوصول إليه إظهارًا للتعجب من تلك الحالة الغريبة (نظرت)
بسكون الراء وتاء التكلم في الفرع وغيره وفي نسخة نظرت
بفتح الراء وسكون التاء، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي:
فبصرت عيني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ونظرت بواو العطف (إليه انصرف من الصبح ووجهه) أي والحال
أن وجهه (ممتلئ طيبًا) نصب على التمييز (وماء) عطف عليه.
2019 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْتَمِسُوا ... ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي البصري قال:
(حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن هشام قال: أخبرني)
بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي
الله عنها- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(التمسوا) بحذف المفعول أي ليلة القدر وهو مفسر بما سيأتي
إن شاء الله تعالى، ووقع هنا مختصرًا إحالة على الطريق
الثاني وهي قوله بالسند السابق إليه.
2020 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ
رَمَضَانَ وَيَقُولُ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي
الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ".
(حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر وابن عساكر: وحدثني بواو
العطف، وفي نسخة ح للتحويل وحدثني (محمد) هو ابن سلام
البيكندي كما جزم به أبو نعيم في المستخرج أو هو ابن
المثنى قال: (أخبرنا عبدة) بفتح العين وسكون الموحدة ابن
سليمان الكوفي (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) -رضي
الله عنها- أنها (قالت: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجاور) أي يعتكف (في العشر الأواخر من
رمضان ويقول):
(تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) وقال في
الطريق الأولى: "التمسوا" وكل منهما بمعنى الطلب والقصد،
لكن معنى التحري أبلغ لكونه يقتضي الطلب بالجد والاجتهاد،
ولم يقع في شيء من طرق هشام في هذا الحديث التقييد بالوتر،
وكأن المؤلّف أشار بإدخاله في الترجمة إلى أن مطلقه يحمل
على المقيد في رواية أبي سهيل.
2021 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي
الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ
فِي تَاسِعَةٍ
تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى".
[الحديث 2021 - طرفه في: 2022].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
وهيب) هو ابن خالد قال: (حدّثنا أيوب) السختياني، ولابن
عساكر: عن أيوب (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس
-رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(التمسوها) الضمير المنصوب مبهم يفسره قوله ليلة القدر
كقوله تعالى: {فسوّاهن سبع سماوات} [البقرة: 29] وهو غير
ضمير الشأن إذ مفسره لا بد أن يكون جملة وهذا مفرد (في
العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر) بالنصب على البدل من
الضمير في قوله التمسوها ويجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف أي هي
ليلة القدر (في تاسعة تبقى) بدل من قوله في العشر الأواخر،
وقوله تبقى صفة لتاسعة وهي ليلة إحدى وعشرين لأن المحقق
المقطوع بوجوده بعد العشرين تسعة أيام الإحتمال أن يكون
الشهر تسعة وعشرين وليوافق الأحاديث الدالة على أنها في
الأوتار (في سابعة تبقى) بدل وصفة أيضًا وهي ليلة ثلاث
وعشرين (في خامسة تبقى) وهي ليلة خمس وعشرين، وإنما يصح
معناه ويوافق ليلة القدر وترًا من الليالي على ما ذكر في
الأحاديث إذا كان الشهر ناقصًا فأما إذا كان كاملاً فلا
يكون إلا في شفع لأن الذي يبقى بعدها ثمان فتكون التاسعة
الباقية ليلة اثنتين
(3/434)
وعشرين والسابعة
الباقية بعد ست ليلة أربع وعشرين والخامسة الباقية بعد
أربع بال ليلة السادس والعشرين، وهذا على طريقة العرب في
التاريخ إذا جاوزوا نصف الشهر فإنما يؤرخون بالباقي منه لا
بالماضي منه.
2022 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ
أَبِي مِجْلَزٍ وَعِكْرِمَةَ، قَالاَ: قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هِيَ فِي الْعَشْرِ
الأَوَاخِرِ، فِي تِسْعٍ يَمْضِينَ أَوْ فِي سَبْعٍ
يَبْقَيْنَ».
تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ، وَعَنْ
خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
"الْتَمِسُوا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ". يَعْنِي لَيْلَةَ
الْقَدْرِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود) هو عبد الله بن
محمد بن أبي الأسود واسمه حميد بن الأسود أبو بكر البصري
الحافظ قال: (حدّثنا عبد الواحد) بن زياد قال: (حدّثنا
عاصم) هو ابن سليمان الأحول البصري (عن أبي مجلز) بكسر
الميم وسكون الجيم وفتح اللام آخره زاي واسمه حميد بن سعيد
السدوسي البصري (وعكرمة قال ابن عباس -رضي الله عنهما-)
وفي نسخة: قالا أي أبو مجلز وعكرمة حدّثنا ابن عباس (قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(هي) أي ليلة القدر وفي رواية أحمد عن عفان والإسماعيلي من
طريق محمد بن عقبة كلاهما عن عبد الواحد زيادة في أوله وهي
قال عمر: من يعلم ليلة القدر؟ فقال ابن عباس: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هي (في العشر)
ولأبوي ذر والوقت: زيادة الأواخر (هي في تسع) بتقديم
المثناة
الفوقية على السين (يمضين) بكسر الضاد المعجمة من المضي
وهو بيان للعشر أي هي في ليلة التاسع والعشرين (أو في سبع
يبقين) بفتح التحتية والقاف بينهما موحدة ساكنة من البقاء
أي في ليلة الثالث والعشرين أو مبهمة في ليالي السبع،
وللكشميهني: يمضين فتكون ليلة السابع والعشرين (يعني ليلة
القدر) (تابعه) أي تابع وهيبًا (عبد الوهاب) بن عبد المجيد
الثقفي فيما وصله أحمد وابن أبي عمر في مسنديهما وفي رواية
غير أبي ذر وابن عساكر قال عبد الوهاب (عن أيوب) السختياني
موافقة لوهيب في إسناده ولفظه وزاد محمد بن نصر في قيام
الليل أو آخر ليلة، وهذه المتابعة رقم عليها في الفرع
علامة التقديم عند ابن عساكر عقب طريق وهيب عن أيوب وهي
كذلك عند النسفيّ، والصواب وأصلحها ابن عساكر في نسخته
كذلك وقعت عند الأكثرين من رواية الفربري عقب حديث عبد
الله بن أبي الأسود (وعن خالد) الحذاء بالإسناد الأول، لكن
جزم المزي بأنه معلق (عن عكرمة عن ابن عباس) -رضي الله
عنهما- أنه قال: (التمسوا) أي ليلة القدر (في) ليلة (أربع
وعشرين) من رمضان وهي ليلة إنزال القرآن، واستشكل إيراد
هذا الحديث هنا لأن الترجمة للأوتار وهذا شفع.
وأجيب: بأن أنسًا روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحرى
ليلة ثلاث وعشرين وليلة أربع وعشرين أي يتحراها في ليلة من
السبع البواقي، فإن كان الشهر تامًّا فهي ليلة أربع وعشرين
وإن كان ناقصًا فثلاث، ولعل ابن عباس إنما قصد بالأربع
الاحتياط، وقيل المراد التمسوها في تمام أربعة وعشرين وهي
ليلة الخامس والعشرين على أن البخاري رحمه الله كثيرًا ما
يذكر توجمة ويسوق فيها ما يكون بينه وبين الترجمة أدنى
ملابسة كالإِشعار بأن خلافه قد ثبت أيضًا.
4 - باب رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِتَلاَحِي
النَّاسِ
(باب رفع معرفة) تعيين (ليلة القدر لتلاحي الناس) بالحاء
المهملة أي لأجل مخاصمتهم: وسقطت هذه الترجمة مع الباب
لغير أبوي ذر والوقت وزاد أبو ذر وابن عساكر يعني ملاحاة.
2023 - حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا
أَنَسٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: "خَرَجَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ
بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ
فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ،
فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ
وَالْخَامِسَةِ".
وبالسند قال (حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني (محمد بن المثنى)
العنزي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني بالإفراد (خالد بن
الحرث) الهجيمي قال: (حدّثنا حميد) هو ابن أبي حميد واسم
أبي حميد تير بكسر الفوقية وسكون التحتية آخره راء الخزاعي
البصري ومعناه السهم وقيل تيرويه وقيل ترخان وقيل مهران
وهو مشهور بحميد الصويل قيل: كان قصيرًا طويل اليدين وكان
يقف عند الميت فتصل إحدى يديه إلى رأسه والأخرى إلى رجليه.
وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن بذلك الطول كان في
جيرانه رجل يقال له حميد القصير فقيل له حميد الطويل
للتمييز بينهما قال: (حدّثنا أنس) هو ابن مالك (عن عبادة
بن الصامت) -رضي الله عنه- (قال: خرج النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من حجرته (ليخبرنا بليلة
القدر) أي بتعيينها (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة أي تنازع
وتخاصم (رجلان من المسلمين) قيل هما عبد الله بن حدرد وكعب
بن مالك فيما ذكره ابن دحية لم يذكر له
(3/435)
مستندًا (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(خرجت لأخبركم) بنصب الراء بأن مقدرة بعد لام التعليل
وأخبر يقتضي ثلاثة مفاعيل الأول الكاف وقوله (بليلة القدر)
سدّ مسدّ المفعول الثاني والثالث لأن التقدير أخبركم بأن
ليلة القدر هي الليلة الفلانية (فتلاحى فلان وفلان) في
المسجد وشهر رمضان اللذين هما محلان لذكر الله لا للغو
(فرفعت) أي رفع بيانها أو عملها من قلبي بمعنى نسيتها كما
وقع التصريح به في رواية مسلم، وقيل رفعت بركتها في تلك
السنة، وقيل التاء في رفعت للملائكة لا لليلة. وفي حديث
أبي هريرة عند مسلم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: "أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي
فنسيتها" وهذا يقتضي أن سبب الرفع النسيان لا الملاحاة.
وأجيب: باحتمال أن يكون النسيان وقع مرتين عن سببين أو أن
الرؤيا في حديث أبي هريرة منامًا فيكون سبب النسيان
الإيقاظ والأخرى في اليقظة، فيكون سبب النسيان الملاحاة
وحاصله الحمل على التعدد.
(وعسى أن يكون) رفع تعيينها (خيرًا لكم) وجه الخيرية أن
إخفاءها يستدعي قيام كل الشهر بخلاف ما لو بقيت معرفة
تعيينها. واستنبط منه الشيخ تقي الدين السبكي -رحمه الله
تعالى- استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها قال: وجه
الدلالة أن الله تعالى قدر لنبيه أنه لم يخبر بها والخير
كله فيما قدره له ويستحب اتباعه في ذلك قال: والحكمة فيه
أنها كرامة والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف عند أهل
الطريق من جهة رؤية النفس فلا يأمن السلب، ومن جهة أنه لا
يأمن الرياء، ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر لله
بالنظر إليها وذكرها للناس، وإذا تقرر أن الذي ارتفع علم
تعيينها تلك السنة فهل أعلم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك بتعيينها فيه احتمال وشذ قوم
فقالوا: أنها رفعت أصلاً وهو غلط منهم، ولو كان كذلك لم
يقل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك:
(فالتمسوها) في اطلبوا ليلة القدر (في) الليلة (التاسعة)
والعشرين (و) في الليلة (السابعة) والعشرين (و) في الليلة
(الخامسة) والعشرين من شهر رمضان، وقد استفيد التقدير
بالعشرين والليلة من روايات أخر كما لا يخفى ولو كان
المراد رفع وجودها كما زعم الروافض لم يأمرهم بالتماسها،
وقد أجمع من يعتد بها على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر
وقد وقع الأمر بطلبها في هذه الأحاديث في أوتار العشر
الأواخر وفي السبع الأواخر وبينهما تناف وإن اتفقا على أن
محلها منحصر في العشر الأواخر، والأول وهو انحصارها في
أوتار العشر الأخير قول حكاه القاضي عياض وغيره. قال
الحنابلة: وتطلب في ليالي العشر الأخير وليالي الوتر آكد.
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: الوتر يكون باعتبار الماضي
فتطلب ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين الخ
ويكون باعتبار الباقي لقوله عليه الصلاة والسلام: لتاسعة
تبقى فإن كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الإشفاع فليلة
الثانية تاسعة تبقى وليلة الرابعة سابعة تبقى كما فسره أبو
سعيد، وإن كان الشهر ناقصًا كان التاريخ بالباقي كالتاريخ
بالماضي اهـ.
وأما القول بانحصارها في السبع الأواخر فلا نعرف قائلاً به
وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث
والعشرين لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد
السابق وفيه: فوكف المسجد في مصلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة إحدى وعشرين وحديث عبد الله بن
أنيس عند مسلم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني في صبيحتها أسجد
في ماء وطين قال: فمطرف ليلة ثلاث وعشرين، وعبارة الشافعي
في الأم كما نقله البيهقي في المعرفة وتطلب ليلة القدر في
العشر الأواخر من شهر رمضان قال: وكأني رأيت والله أعلم
أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين.
وقال الحنابلة: وأرجى الأوتار ليلة سبع وعشرين قال في
الإنصاف: وهذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب وهو من
المفردات اهـ.
وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه كما في مسلم وفي حديث ابن
عمر عند أحمد مرفوعًا: ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وحكاه
الشاشي من الشافعية في الحلية عن
(3/436)
أكثر العلماء، واستدلّ ابن عباس على ذلك
بأن الله خلق السماوات سبعًا والأرضين سبعًا والأيام سبعًا
وأن الإنسان خلق من سبع وجعل رزقه في سبع ويسجد على سبعة
أعضاء والطواف سبع والجمار سبع واستحسن ذلك عمر بن الخطاب،
وقال ابن قدامة: إن ابن عباس استنبط ذلك من عدد كلمات
السورة وفد وافقه أن قوله فيها هي سابع كلمة بعد العشرين،
واستنبطه بعضهم من وجه آخر فقال: ليلة القدر تسعة أحرف،
وقد أعيدت في السورة ثلاث مرات وذلك سبع وعشرون، واستدلّ
أبي بن كعب على ذلك بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها
ولفظ رواية مسلم أنه كان يحلف على ذلك ويقول بالآية
والعلامة التي أخبرنا بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها
وقد جاء أن لليلة القدر علامات تظهر فقيل يرى كل شيء
ساجدًا، وقيل ترى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع
الظلمة، وقيل يسمع سلامًا من الملائكة، وقيل علامتها
استجابة دعاء من وقعت له.
وفي كتاب فضائل رمضان لسلمة بن شبيب عن فرقد أن ناسًا من
الصحابة كانوا في المسجد فسمعوا كلامًا من السماء ورأوا
نورًا من السماء وبابًا من السماء وذلك في شهر رمضان
فأخبروا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بما رأوا فزعم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: أما النور فنور رب العزة تعالى، وأما
الباب فباب السماء، والكلام كلام الأنبياء. وهذا مرسل ضعيف
ولا يلزم من تخلف العلامة عدمها فرب قائم فيها لم يحصل له
منها إلا العبادة ولم ير شيئًا من كرامة علاماتها وهو عند
الله أفضل ممن رآها وأي كرامة أفضل من الاستقامة التي هي
عبارة عن اتباع الكتاب والسنّة وإخلاص النية. وعن
مالك أنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وعن أبي حنيفة
أنها في رمضان تتقدم وتتأخر، وعن أبي يوسف ومحمد لا تتقدم
ولا تتأخر لكن غير معينة، وقيل هي عندهما في النصف الأخير
من رمضان. وقال أبو بكر الرازي: هي غير مخصوصة بشهر من
المشهور، وبه قال الحنفية وفي فتاوى قاضي خان المشهور عن
أبي حنيفة أنها تدور في السنة كلها وقد تكون في رمضان وفي
غيره، وصح ذلك عن ابن مسعود لكن في صحيح مسلم وغيره عن زر
بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب فقلت: إن أخاك ابن مسعود
يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال رحمه الله: أراد
أن لا يتكل الناس أما أنه علم أنها في رمضان وأنها في
العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين، وقيل أرجاها ليالي
الجمع في الأوتار، وقيل أنها أول ليلة في رمضان، وقيل آخر
ليلة منه، وقيل أنها تختص بإشفاع العشر الأخير على
الإبهام، وقيل في كل ليلة من إشفاعه على التعيين، وقيل
تكون في ليلة
أربع عشرة، وقيل في سبع عشرة، وقيل ليلة تسع عشرة.
وعن ابن خزيمة من الشافعية أنها تنتقل في كل سنة إلى ليلة
من ليالي العشر الأخير، واختاره النووي في الفتاوى وشرح
المهذّب، وقيل غير ذلك مما يطول استقصاؤه.
وأما قول ابن العربي: الصحيح أنها لا تعلم فأنكره النووي
بأن الأحاديث قد تظاهرت بإمكان العلم بها وأخبر به جماعة
من الصالحين فلا معنى لإنكار ذلك.
وقد جزم ابن حبيب من المالكية ونقله الجمهور وحكاه صاحب
العدة من الشافعية ورجحه أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة
ولم تكن في الأمم قبلهم، وهو معترض بحديث أبي ذر عند
النسائي حيث قال فيه قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء
فإذا ماتوا رفعت؟ قال: بل هي باقية، وعمدتهم قول مالك
السابق بلغني أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- تقاصر أعمال أمته الخ. وهذا محتمل للتأويل فلا
يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن حجر في
فتح الباري، وابن كثير في تفسيره.
5 - باب الْعَمَلِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ
رَمَضَانَ
(باب) الاجتهاد في (العمل في العشر الأواخر من) وللحموي
والمستملي: في (رمضان).
2024 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا
دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ،
وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ".
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن أبي يعفور) بفتح المثناة
التحتية وسكون العين المهملة وضم الفاء آخره راء منصرفًا
عبد الرحمن بن عبيد البكائي العامري (عن أبي الضحى) مسلم
بن صبيح مصغر صبح (عن مسروق) هو ابن
(3/437)
الأجدع (عن عائشة
-رضي الله عنها- قالت): (كان النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا دخل العشر) أي الأخير كما صرح به
حديث علي عند ابن أبي شيبة من رمضان (شد مئزره) بكسر الميم
وسكون الهمزة أي إزاره، ولمسلم جدّ وشد المئزر قيل هو
كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة كما يقال: فلان يشد
وسطه ويسعى في كذا وهذا فيه نظر فإنها قالت: جد وشد المئزر
فعطفت شد المئزر على الجد والعطف يقتضي التغاير، والصحيح
أن المراد به اعتزاله للنساء وبذلك فسره السلف والأئمة
المتقدمون، وجزم به عبد الرزاق عن الثوري واستشهد بقول
الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم ... عن النساء ولو باتت
بأطهار
ويحتمل أن يراد الاعتزال والتشمير معًا فلا ينافي شد
المئزر حقيقة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يصيب من أهله
في العشرين من رمضان، ثم يعتزل النساء ويتفرغ لطلب ليلة
القدر في العشر الأواخر. وعند ابن أبي عاصم بإسناد مقارب
عن عائشة كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شد
المئزر واجتنب النساء. وفي حديث أنس عند الطبراني كان
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا دخل العشر
الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء.
(وأحيا ليله)، استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها أو أحيا
معظمه لقولها في الصحيح: ما علمته قام ليلة حتى الصباح.
وقوله: أحيا ليله من باب الاستعارة شبه القيام فيه بالحياة
في حصول الانتفاع التام أي أحيا ليله بالطاعة أو أحيا نفسه
بالسهر فيه لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعًا
لأن النائم إذا حيى باليقظة حيى ليله بحياته وهو نحو قوله
لا تجعلوا بيوتكم قبورًا أي لا تناموا فتكونوا كالأموات
فتكون بيوتكم كالقبور (وأيقظ أهله) أي للصلاة والعبادة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا في الصوم وأبو داود في
الصلاة وكذا النسائي وأخرجه ابن ماجة في الصوم. |