شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
40 - كتاب الوكالة
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(كتاب الوكالة) بفتح الواو ويجوز كسرها وهي في اللغة
التفويض وفي الشرع تفويض شخص أمره إلى آخر فيما يقبل
النيابة والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى: {فابعثوا
أحدكم بورقكم هذه} [الكهف: 19] وقوله تعالى: {اذهبوا
بقميصي هذا} [يوسف: 93] وهو شرع من قبلنا وورد في شرعنا ما
يقرره كقوله تعالى: {فابعثوا حكمًا من أهله} [النساء: 35]
الآية وفي رواية أبي ذر تقديم كتاب على البسملة.
1 - باب وَكَالَةُ الشَّرِيكِ الشَّرِيكَ فِي الْقِسْمَةِ
وَغَيْرِهَا وَقَدْ أَشْرَكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا فِي هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ
بِقِسْمَتِهَا
هذا (باب) بالتنوين (في وكالة الشريك) ولأبي ذر: سقوط
الباب وحرف الجر ولفظه كتاب الوكالة وكالة الشريك. قال
الحافظ ابن حجر: وللنسفي كتاب الوكالة ووكالة الشريك بواو
العطف ولغيره باب بدل الواو (الشريك في القسمة) بدل من
الشريك الأول، وفي نسخة الشريك بالرفع على الاستئناف وفي
أخرى الشريك بالنصب (وغيرها) أي والشريك في غير القسمة.
(وقد أشرك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عليًّا) هو ابن أبي طالب (في هديه) وهذا وصله المؤلّف في
الشركة من حديث جابر بلفظ أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر عليًّا أن يقيم على إحرامه وأشركه
في الهدي (ثم أمره بقسمتها) أي الهدايا.
وهذا وصله أيضًا في الحج من حديث عليّ بلفظ أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره أن يقوم على
بدنه وأن يقسم بدنه كلها.
2299 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَمَرَنِي
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ
أَتَصَدَّقَ بِجِلاَلِ الْبُدْنِ الَّتِي نُحِرَتْ
وَبِجُلُودِهَا".
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بن عقبة العامري الكوفي السوائي
قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن ابن أبي نجيح) عبد الله
(عن مجاهد) هو ابن جبر الإمام في التفسير (عن عبد الرحمن
بن أبي ليلى) الأنصاري المدني (عن علي -رضي الله عنه-) أنه
(قال):
(أمرني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
أتصدق بجلال البدن) بسكون الدال المهملة بعد الموحدة
المضمومة جمع بدنة والجلال بكسر الجيم جمع جلّ ما تلبسه
الدابة (التي نحرت وبجلودها) بضم النون وكسر الحاء وفتح
الراء وسكون التاء على البناء للمفعول والتاء للتأنيث
ويجوز فتح النون والحاء وسكون الراء وضم التاء مبنيًا
للفاعل والضمير للفاعل، والمراد به عليّ -رضي الله عنه-.
ومطابقته للترجمة من كونه عليه الصلاة والسلام أشركه.
وهذا الحديث قد سبق في الحج وذكر هنا طرفًا منه.
2300 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْطَاهُ غَنَمًا
يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِيَ عَتُودٌ،
فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: ضَحِّ أَنْتَ". [الحديث 2300 - أطرافه
في: 2500، 5547، 5555].
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين ابن فرّوخ
الحرّاني الجزري نزيل مصر قال: (حدّثنا الليث) بن سعد
الإمام (عن يزيد) بن أبي حبيب (عن أبي الخير) مرثد بن عبد
الله بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة وآخره دال
مهملة (عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعطاه غنمًا) للضحايا (يقسمها
على صحابته) بعد أن وهب جملتها لهم (فبقي عتود) بفتح العين
المهملة وضم المثناة الفوقية وبعد الواو الساكنة دال مهملة
الصغير من المعز إذا قوي أو إذا أتى عليه حول (فذكره للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ضحّ أنت) ولأبي
ذر: ضحّ به أنت وعلم منه أنه كان من جملة من كان له نصيب
من هذه القسمة فكأنه كان شريكًا لهم وهو الذي تولى القسمة
بينهم، لكن استشكله ابن المنير باحتمال أن يكون -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهب لكل واحد من المقسوم فيهم
ما صار إليه فلا تتجه الشركة. وأجاب بأنه سيأتي الحديث في
الأضاحي من طريق أخرى بلفظ أنه قسم بينهم ضحايا قال فدلّ
على أنه عيّن تلك الغنم للضحايا فوهب لهم جملتها ثم أمر
عقبة بقسمتها فيصح الاستدلال به لما ترجم له.
قال في المصابيح: ينبغي أن يضاف إلى ذلك أن عقبة كان
وكيلاً على القسم بتوكيل شركائه في تلك الضحايا التي قسمها
حتى يتوجه إدخال حديثه في ترجمة وكالة الشريك
(4/155)
لشريكه في القسم.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الضحايا والشركة،
ومسلم في الضحايا، والترمذي والنسائي وابن ماجة فيها
أيضًا.
2 - باب إِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ
الْحَرْبِ -أَوْ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ- جَازَ
هذا (باب) بالتنوين (إذا وكل المسلم حربيًّا في دار الحرب
أو) وكل المسلم حربيًّا كائنًا (في دار الإسلام) بأمان
(جاز).
2301 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ
صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ
خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي
بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ،
فَلَمَّا ذَكَرْتُ "الرَّحْمَنَ" قَالَ: لاَ أَعْرِفُ
الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ "عَبْدُ عَمْرٍو".
فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ
لأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلاَلٌ،
فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأَنْصَارِ
فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لاَ نَجَوْتُ إِنْ نَجَا
أُمَيَّةُ. فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي
آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ
لَهُمُ ابْنَهُ لأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا
حَتَّى يَتْبَعُونَا -وَكَانَ رَجُلاً ثَقِيلاً- فَلَمَّا
أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ، فَبَرَكَ،
فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لأَمْنَعَهُ،
فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى
قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ.
وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ
الأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ قال أبو عبد الله: سمع يوسف
صالحًا وسمع إبراهيم أباه. [الحديث 2301 - طرفه في: 3971].
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) بن يحيى القرشي
العامري الأويسي المدني الأعرج (قال: حدّثني) بالإفراد
(يوسف بن الماجشون) بكسر الجيم وتفتح وبضم الشين المعجمة
وبعد الواو الساكنة نون مكسورة ومعناه المورّد واسمه يعقوب
بن عبد الله بن أي سلمة المدني (عن صالح بن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف) القرشي (عن أبيه) إبراهيم (عن جدّه عبد
الرحمن بن عوف) أحد العشرة المبشرة بالجنة (-رضي الله
عنه-) أنه (قال: كاتبت أمية بن خلف) بضم الهمزة وتخفيف
الميم المفتوحة وتشديد التحتية أي كتبت إليه (كتابًا بأن
يحفظني في صاغيتي بمكة) بصاد مهملة وغين معجمة مالي أو
حاشيتي أو أهلي ومن يصغي إليه أي يميل (وأحفظه في صاغيته
بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن قال لا أعرف الرحمن) قال ابن
حجر: أي لا أعترف بتوحيده، وتعقبه العيني فقال: هذا لا
يقتضيه قوله لا أعرف الرحمن وإنما معناه أنه لما كتب له
ذكر اسمه بعبد الرحمن فقال: ما أعرف الرحمن الذي جعلت نفسك
عبدًا له ألا ترى أنه قال: (كاتبني بأسمك الذي كان في
الجاهلية فكاتبته عبد عمرو) بفتح العين ورفع عبد كذا في
الفرع وفي غيره عبد بالنصب على المفعولية، (فلما كان في
يوم) غزوة (بدر) في رمضان في السنة الثانية من الهجرة وسقط
الجار لأبي ذر (خرجت إلى جبل لأحرزه) بضم الهمزة أي لأحفظه
والضمير المنصوب لأمية وفي نسخة: لأحذره (حين نام الناس)
أي حين غفلتهم بالنوم لأصون دمه (فأبصره) أي أمية بن خلف
(بلال) المؤذن وكان أمية يعذب بلالاً
بمكة لأجل إسلامه عذابًا شديدًا (فخرج) بلال (حتى وقف على
مجلس من الأنصار) ولأبي ذر: على مجلس الأنصار فأسقط حرف
الجر (فقال): دونكم أو الزموا (أمية بن خلف) وفي الفرع
وأصله تضبيب على أمية، ولأبي ذر: أمية بن خلف بالرفع أي
هذا أمية بن خلف (لا نجوت وإن نجا أمية فخرج معه فريق من
الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه)
عليًّا (لأشغلهم) بفتح الهمزة وقيل بضمها من الإشغال،
ولأبي ذر: لنشغلهم بنون الجمع، وفي نسخة الميدومي: يشغلهم
بإسقاط اللام وبالياء بدل النون أو الهمزة عن أمية بابنه
(فقتلوه) أي الابن والذي قتله قيل هو عمار بن ياسر (ثم
أبوا) بالموحدة أي امتنعوا، وفي نسخة أتوا بالمثناة
الفوقية من الإتيان (حتى يتبعونا وكان) أمية (رجلاً
ثقيلاً) ضخم الجثة (فلما أدركونا قلت له) لأمية (ابرك فبرك
فألقيت عليه نفسي لأمنعه) منهم، وإنما فعل عبد الرحمن ذلك
لأنه كان بينه وبين أمية بمكة صداقة وعهد فقصد أن يفي
بالعهد (فتخللوه) بالخاء المعجمة (بالسيوف) أي أدخلوا
أسيافهم خلاله حتى وصلوا إليه وطعنوا بها (من تحتي) من
قولهم خللته بالرمح وأخللته إذا طعنته به، ولأبي ذر عن
الكشميهني والمستملي: فتحللوه بالحاء المهملة كما في الفرع
وأصله، وفي رواية: فتجللوه بالجيم أي غشوه بالسيوف، ونسب
هذه في فتح الباري، للأصيلي وأبي ذر قال ولغيرهما بالخاء
المعجمة قال: ووقع في رواية المستملي فتخلوه بلام واحدة
مشددة انتهى.
والأولى أظهر من جهة المعنى لقول عبد الرحمن بن عوف فألقيت
عليه نفسي فكأنهم أدخلوا سيوفهم من تحته كما مرّ.
(حتى قتلوه) والذي قتله رجل من الأنصار من بني مازن. وقال
ابن هشام ويقال قتله معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب بن
أساف اشتركوا في قتله. وفي مستخرج الحاكم ما يدل على أن
رفاعة بن رافع الزرقي من جملة المشاركين في قتله، وفي
مختصر الاستيعاب أن قاتله بلال. (وأصاب أحدهم) أي الذين
باشروا قتل أمية (رجلي بسيفه) وكان الذي أصاب رجله الحباب
بن المنذر كما عند
(4/156)
البلاذري (وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا
ذلك الأثر في ظهر قدمه).
(قال أبو عبد الله) البخاري: (سمع يوسف) بن الماجشون
(صالحًا) هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، (و) سمع
(إبراهيم أباه). وفائدة ذلك تحقيق السماع وسقط قوله قال
أبو عبد الله إلى آخره في رواية غير المستملي.
ورجال هذا الحديث مدنيون، وأخرجه أيضًا في المغازي
مختصرًا.
3 - باب الْوَكَالَةِ فِي الصَّرْفِ وَالْمِيزَانِ وَقَدْ
وَكَّلَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ فِي الصَّرْفِ
(باب) حكم (الوكالة في الصرف) يعني في بيع النقد بالنقد
(و) الوكالة في (الميزان) أي في
الموزون، (وقد وكل عمر) بن الخطاب (وابن عمر) فيما وصله
سعيد بن منصور عنهما (في الصرف).
2302 و 2303 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَعْمَلَ رَجُلاً
عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ:
أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّا
لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ
وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ. فَقَالَ: لاَ تَفْعَلْ،
بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ
بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا. وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ
ذَلِكَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال (أخبرنا
مالك) الإمام (عن عبد المجيد) بميم مفتوحة قبل الجيم (ابن
سهيل بن عبد الرحمن بن عوف) الزهري المدني وسهيل مصغر (عن
سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله
عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
استعمل رجلاً) قيل هو سواد بن غزية بفتح السين المهملة
والواو المخففة وغزية بغين مفتوحة وزاي مكسورة معجمتين
وتحتية مشددة، وقيل مالك بن صعصعة (على خيبر فجاءهم بتمر
جنيب) بفتح الجيم وكسر النون وبعد التحتية الساكنة موحدة
الكبيس أو الطيب أو الذي أخرج منه حشفه ورديئه (فقال) له
عليه الصلاة والسلام ولأبي الوقت: قال:
(أكل تمر خيبر هكذا فقال) الرجل (إنّا لنأخذ الصاع من هذا
بالصاعين) سقط في رواية أبي ذر من هذا وفي نسخة بصاعين
منكرًا (والصاعين بالثلاثة، فقال) عليه الصلاة والسلام له
(لا تفعل بع الجمع) أي التمر الذي يقال له الجمع وهو تمر
غير مرغوب فيه لرداءته (وبالدراهم ثم ابتع) أي اشتر
(بالدراهم) تمرًا (جنيبًا وقال) عليه الصلاة والسلام (في
الميزان) أي الموزون (مثل ذلك) أي لا يباع رطل برطلين بل
بع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم.
ومطابقته للترجمة من قوله عليه الصلاة والسلام لعامل خيبر:
بع الجمع بالدراهم إلى آخره لأنه فوّض أمر ما يكال ويوزن
إلى غيره فهو في معنى الوكيل عنه ويلتحق به الصرف.
وهذا الحديث قد سبق في باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه
من كتاب البيوع ويأتي إن شاء الله تعالى في المغازي
والاعتصام.
4 - باب إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِي أَوِ الْوَكِيلُ شَاةً
تَمُوتُ أَوْ شَيْئًا يَفْسُدُ ذَبَحَ وَأَصْلَحَ مَا
يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ
هذا (باب) بالتنوين (إذا أبصر الراعي) للغنم (أو الوكيل)
أي أبصر الوكيل (شاة) من الغنم (تموت) أي أشرفت على الموت
(أو) أبصر الوكيل (شيئًا يفسد) أي أشرف على الفساد (ذبح)
الراعي
الشاة لئلا تذهب مجانًا (أو أصلح) الوكيل (ما يخاف عليه
الفساد) بإبقائه كما إذا كان تحت يده فاكهة مثلاً أو غيرها
مما يخاف عليه الفساد ولأبوي ذر والوقت: أو أصلح ما يخاف
الفساد، وعزاها العيني كابن حجر لأبي ذر والنسفيّ.
قال في الفتح: وعليه جرى الإسماعيلي، ولابن شبويه فأصلح
بدل أو أصلح والفاء عاطفة على أبصر وجواب الشرط محذوف
تقديره جاز ونحو ذلك قال: في شرح ابن التين بحذف أو فصار
الجواب أصلح ما يخاف الفساد وأما الأصيلي فعنده أو شيئًا
يفسد ذبح أو أصلح انتهى.
2304 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ
الْمُعْتَمِرَ أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ
أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ
فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا
مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَقَالَ
لَهُمْ: لاَ تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَوْ أُرْسِلَ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ
يَسْأَلُهُ- وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَاكَ -أَوْ أَرْسَلَ-
فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا".
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ
وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ. تَابَعَهُ عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ. [الحديث 2304 - أطرافه في: 5501، 5502، 5504].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (إسحاق بن
إبراهيم) بن راهويه أنه (سمع المعتمر) بن سليمان يقول
(أنبأنا عبيد الله) بالتصغير ابن عمر العمري واستعمل
الانباء بصيغة الجمع ولا فرق عنده كآخرين بين لفظ أنبأنا
وأخبرنا وحدّثنا وخصّ المتأخرون الأول بالإجازة كما مرّ
تفصيله في أوائل الكتاب (عن نافع) مولى ابن عمر (أنه سمع
ابن كعب بن مالك) عبد الله كما جزم به المزي أو هو أخوه
عبد الرحمن قال ابن حجر كالكرماني أنه الظاهر لأنه روى
طرفًا من هذا الحديث كما عند ابن وهب عن أسامة بن زيد عن
ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك (يحدّث عن أبيه)
كعب بن مالك الأنصاري أحد الثلاثة الذين تِيبَ عليهم (أنه)
أي أن الشأن (كانت لهم) بضمير الجمع ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي له بضمير الإفراد (غنم) شامل للضأن والمعز (ترعى
بسلع) بفتح السين المهملة وبعد اللام الساكنة عين مهملة
جبل بطيبة (فأبصرت جارية لنا) لم يعرف اسمها (بشاة من
غنمنا موتًا)
(4/157)
بنون الجمع، وللكشميهني: من غنمها أي غنم
الجارية التي ترعاها فالإضافة ليست للملك (فكسرت حجرًا)
يجرح كالسكين (فذبحتها به) فيه جواز ذبيحة الحرة والأمة
والذبح بكل جارح إلا السن والظفر فورد استثناؤهما كما
سيأتي إن شاء الله تعالى في بابهما.
(فقال لهم) كعب: (لا تأكلوا) منها شيئًا (حتى أسأل النبي)
ولأبي ذر: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أو) قال حتى (أرسل إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من يسأله) عن ذلك شك الراوي (وأنه سأل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذاك) أي عن ذبح
الشاة وفي نسخة عن ذلك باللام (أو أرسل) إلى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من يسأله فسأله (فأمره) عليه
الصلاة والسلام (بأكلها. قال عبيد الله) بن عمر العمري
راوي الحديث بالإسناد المذكور إليه (فيعجبني أنها أمة
وأنها ذبحت).
(تابعه) أي تابع المعتمر بن سليمان (عبدة) بفتح العين
المهملة وسكون الموحدة ابن سليمان الكوفي في روايته (عن
عبيد الله) المذكور وهذه المتابعة وصلها المؤلّف -رحمه
الله- في كتاب الذبائح.
وفي هذا الحديث تصديق الراعي والوكيل فيما ائتمن عليه حتى
يظهر عليه دليل الخيانة والكذب. قال في عمدة القاري: وهو
قول مالك وجماعة. وقال ابن القاسم: إذا خاف الموت على شاة
فذبحها لم يضمن ويصدق إن جاء بها مذبوحة، وقال غيره: يضمن
حتى يبين ما قال، وقال ابن القاسم: إذا أنزى على إناث
الماشية بغير إذن مالكها فهلكت فلا ضمان عليه لأنه من صلاح
المال ونمائه، وقال أشهب: عليه الضمان.
ومطابقة الترجمة للحديث في مسألة الراعي لأن الجارية كانت
راعية للغنم فلما رأت شاة منها تموت ذبحتها، ولما رفع
أمرها إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر
بأكلها ولم ينكر على من ذبحها، وأما مسألة الوكيل فملحقة
بها لأن يد كل من الراعي والوكيل يد أمانة فلا يعملان إلا
بما فيه مصلحة ظاهرة ولا يمنع من ذلك كون الجارية كانت
ملكًا لصاحب الغنم لأن الكلام في جواز الذبح الذي تضمنته
الترجمة لا في الضمان.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الذبائح وكذا ابن ماجة.
5 - باب وَكَالَةُ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ جَائِزَةٌ
وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى قَهْرَمَانِهِ
وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَهْلِهِ
الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.
هذا (باب) بالتنوين (وكالة الشاهد) أي الحاضر (والغائب
جائزة وكتب عبد الله بن عمرو) هو ابن العاصي (إلى قهرمانه)
بفتح القاف والراء بينهما هاء ساكنة خازنه القائم بقضاء
حوائجه ولم يعرف اسمه (وهو) أي والحال أنه (غائب عنه) أي
عن عبد الله (أن يزكي) بالزاي (عن أهله الصغير والكبير)
زكاة الفطر.
2305 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ،
فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَطَلَبُوا
سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلاَّ سِنًّا فَوْقَهَا،
فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى
اللَّهُ بِكَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً".
[الحديث 2305 - أطرافه في: 2306، 2390، 2392، 2393، 2401،
2606، 2609].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن سلمة) ولأبوي ذر والوقت: زيادة ابن كهيل
بضم الكاف وفتح الهاء (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن أبي
هريرة
-رضي الله عنه-) أنه (قال: كان لرجل على النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمل) له (سن) معين (من الإبل
فجاءه) أي جاء الرجل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (يتقاضاه) أي يطلب أن يقضيه الجمل المذكور
(فقال) عليه الصلاة والسلام:
(أعطوه) بفتح الهمزة زاد في الباب اللاحق سنًّا مثل سنّه،
وفيه جواز توكيل الحاضر بالبلد بغير عذر وهو مذهب الجمهور
ومنعه أبو حنيفة إلا بعذر مرض أو سفر أو برضا الخصم،
واستثنى مالك من بينه وبين الخصم عداوة.
وهذا موضع الترجمة لأن هذا توكيد منه عليه الصلاة والسلام
لمن أمره بالقضاء عنه، ولم يكن عليه الصلاة والسلام مريضًا
ولا غائبًا، وأما قول الحافظ ابن حجر: وموضع الترجمة منه
لوكالة الحاضر واضح وأما لغائب فيستفاد منه بطريق الأولى،
فتعقبه العيني بأنه ليس فيه شيء يدل على حكم الغائب فضلاً
عن الأولوية. وأجاب في انتقاض الاعتراض بأن وجه الأولوية
أن وكالة الحاضر إذا جازت مع إمكان مباشرة الموكل بنفسه
فجوازها للغائب مع الاحتياج إليه أولى فمن لا يدرك هذا
القدر كيف يتصدى للاعتراض.
(فطلبوا سنّه فلم يجدوا له إلا سنًّا فوقها) والمخاطب بذلك
أبو رافع مولى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كما أخرجه مسلم من حديثه (فقال) عليه الصلاة
والسلام: (أعطوه فقال) الرجل له عليه
(4/158)
الصلاة والسلام (أوفيتني) أي أعطيتني
وافيًا (أوفى الله بك) وحرف الجر في المفعول زائد للتوكيد
لأن الأصل أن يقول أوفاك الله (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن خياركم أحسنكم قضاء) نصب على
التمييز وأحسنكم خبر لقوله خياركم. لكن استشكل كون المبتدأ
بلفظ الجمع والخبر بالإفراد والأصل التطابق بين المبتدأ
والخبر في الإفراد وغيره.
وأجيب: باحتمال أن يكون مفردًا بمعنى المختار وحينئذ
فالمطابقة حاصلة أو أن أفعل التفضيل المضاف المقصود به
الزيادة يجوز فيه الإفراد والمطابقة لمن هو له، والمراد
الخيرية في المعاملات أو أن من مقدرة كما في الرواية
الأخرى.
وفي هذا الحديث رواية تابعي عن تابعي عن صحابي، وأخرجه
أيضًا في الاستقراض والوكالة والهبة ومسلم في البيوع وكذا
الترمذي والنسائي، وأخرجه ابن ماجة في الأحكام.
6 - باب الْوَكَالَةِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ
(باب) حكم (الوكالة في قضاء الدّيون).
2306 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ سَمِعْتُ أَبَا
سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه-: "أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ،
فَهَمَّ بِهِ
أَصْحَابُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ
مَقَالاً. ثُمَّ قَالَ: أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَمْثَلَ
مِنْ سِنِّهِ. فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ
خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي البصري قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سلمة بن كهيل) الحضرمي الكوفي
أنه (قال: سمعت أبا سلمة) عبد الله أو إسماعيل (بن عبد
الرحمن) بن عوف الزهري المدني (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- أن رجلاً أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) حال كونه (يتقاضاه) أي يطلب منه قضاء دين وهو
بعير له سنّ معين كما مرّ قريبًا، (فأغلظ) للنبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكونه كان يهوديًا أو كان
مسلمًا وشدّد في المطالبة من غير قدر زائد يقتضي كفرًا بل
جرى على عادة الأعراب من الجفاء في المخاطبة وهذا أولى،
ويدل له ما رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن سفيان جاء
أعرابي يتقاضى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بعيرًا، ووقع في ترجمة بكر بن سهل من المعجم الأوسط
للطبراني عن العرباض بن سارية ما يفهم أنه هو، لكن روى
النسائي والحاكم الحديث المذكور وفيه ما يقتضي أنه غيره
وكأن القصة وقعت للأعرابي ووقع للعرباض نحوها.
(فهمّ به أصحابه) عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم- أي
أرادوا أن يؤذوا الرجل المذكور بالقول أو بالفعل لكنهم لم
يفعلوا ذلك أدبًا معه عليه الصلاة والسلام (فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(دعوه) أي اتركوه ولا تتعرضوا له وهذا من حسن خلقه عليه
الصلاة والسلام وكرمه وقوّة صبره على الجفاة مع قدرته على
الانتقام منهم (فإن لصاحب الحق مقالاً) أي صولة الطلب
وقوّة الحجة لكنه على من يمطله أو يسيء المعاملة لكن مع
رعاية الأدب المشروع (ثم قال) عليه الصلاة والسلام: (أعطوه
سنًّا مثل سنّه قالوا يا رسول الله لا نجد) سنًّا (إلا
أمثل) أي أفضل (من سنّه) وسقط في الفرع وأصله لا نجد فصار
لفظه قالوا: يا رسول الله إلا أمثل من سنّه (فقال) عليه
الصلاة والسلام ولأبي الوقت قال: (أعطوه فإن خيركم) ولأبي
ذر عن الكشميهني: فإن من خيركم (أحسنكم قضاء) ومطابقته
للترجمة ظاهرة.
7 - باب إِذَا وَهَبَ شَيْئًا لِوَكِيلٍ أَوْ شَفِيعِ
قَوْمٍ جَازَ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لِوَفْدِ هَوَازِنَ حِينَ سَأَلُوهُ الْمَغَانِمَ، فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَصِيبِي
لَكُمْ.
هذا (باب) بالتنوين (إذا وهب) أحد (شيئًا لوكيل) بالتنوين
أي لوكيل قوم (أو) وهب شيئًا (شفيع قوم) وجواب الشرط قوله
(جاز لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لوفد
هوازن) قبيلة من قيس والوفد قوم يجتمعون ويردون البلاد
(حين سألوه) أن يردّ إليهم (المغانم) التي أصابها منهم
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نصيبي)
منها (لكم) وهذا طرف من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي
أخرجه ابن إسحاق في المغازي وظاهره كما قال ابن المنير:
يوهم أن الموهبة وقعت للوسائط الذين جاؤوا شفعاء في قومهم
وليس كذلك بل المقصود هبة لكل من غاب منهم ومن حضر فيدل
على أن الألفاظ تنزل على المقاصد
لا على الصور وأن من شفع لغيره في هبة فقال المشفوع عنده
للشفيع: قد وهبتك ذلك فليس للشفيع أن يتعلق بظاهر اللفظ
ويخص بذلك نفسه بل الهبة للمشفوع له.
2307 و 2308 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَزَعَمَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ
بْنَ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ
مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَحَبُّ
الْحَدِيثِ إِلَىَّ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ.
وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ -وَقَدْ كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ
الطَّائِفِ- فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرُ
رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
قَالُوا فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا. فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ
أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ
إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ،
وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ
سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ
بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ
يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ
أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ.
فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُمْ:
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي
ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى
يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ، فَرَجَعَ
النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا
وَأَذِنُوا". [الحديث 2307 - أطرافه في: 2539، 2584، 2607،
3131، 4318، 7176]. [الحديث 2308 - أطرافه في: 2540، 2583،
2608، 3132، 4319، 7177].
وبه قال (حدّثنا سعيد بن عفير) بضم العين المهملة وفتح
الفاء اسم جده واسم أبيه كثير ونسبه لجده لشهرته به (قال:
حدّثني) بالإفراد (الليث) بن سعد الإمام (قال: حدّثني)
بالإفراد أيضًا (عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن خالد (عن
ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه
(4/159)
(قال: وزعم عروة) بن الزبير بن العوّام
والواو عطف على محذوف، وقول الحافظ ابن حجر أنه معطوف على
قصة الحديبية لم أعرف له وجهًا فلينظر، والزعم هنا بمعنى
القول المحقق كما قاله الكرماني، وفي كتاب الأحكام عن موسى
بن عقبة قال ابن شهاب: حدّثني عروة بن الزبير (أن مروان بن
الحكم) بن أبي العاص الأموي ابن عمّ عثمان بن عفان -رضي
الله عنه- ولد بعد الهجرة بسنتين أو بأربع. قال ابن أبي
داود: لا ندري أسمع من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- شيئًا أم لا. قال في الإصابة: ولم ير من جزم
بصحبته فكأنه لم يكن حينئذ مميزًا ولم يثبت له أزيد من
الرؤية، وأرسل عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. (والمسور بن مخرمة) بكسر الميم وسكون السين
المهملة وفتح الواو ومخرمة بفتح الميم والراء بينهما خاء
معجمة ساكنة ابن نوفل الزهري وكان مولده بعد الهجرة بسنتين
فيما قاله يحيى بن بكير وقدم المدينة في ذي الحجة بعد
الفتح سنة ثمان وهو ابن ست سنين. وقال البغوي: حفظ عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحاديث وحديثه
عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبة
عليّ لابنة أبي جهل في الصحيحين وغيرهما (أخبراه أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ظاهره أن
مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة حضرا ذلك، لكن مروان لا
يصح له سماع من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ولا صحبة، وأما المسور فقد صحّ سماعه منه لكنه إنما قدم مع
أبيه وهو صغير بعد الفتح وكانت هذه القصة بعده لكنه كان في
غزوة حنين مميزًا فقد ضبط في ذلك الأوان قصة خطبة عليّ
لابنة أبي جهل (قام حين جاءه وفد هوازن) حال كونهم
(مسلمين) وكان فيهم تسعة نفر من أشرافهم (فسألوه أن يردّ
اليهم أموالهم وسبيهم) وعند الواقدي كان فيهم أبو برقان
السعدي فقال: يا رسول الله إن في هذه الحظائر إلا أمهاتك
وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك فامنن علينا منّ الله عليك (فقال
لهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أحب الحديث إليّ أصدقه) رفع قوله أحب (فاختاروا) أن أردّ
إليكم (احدى الطائفتين إما السبي وإما المال وقد) بالواو
ولأبوي ذر والوقت: فقد (كنت استأنيت) بهمزة ساكنة لكن موضع
الهمزة في الفرع سكون فقط من غير همز أي انتظرت (بكم)
ولأبي ذر: بهم (وقد كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انتظرهم) ليحضروا (بضع عشرة ليلة) لم
يقسم النبي وتركه بالجعرانة (حين قفل) بفتح القاف والفاء
أي رجع (من الطائف) إلى الجعرانة فقسم الغنائم بها وكان
توجه إلى الطائف فحاصرها ثم رجع عنها فجاءه وفد هوازن بعد
ذلك فبيّن أنه أخّر القسم ليحضروا فأبطأوا، (فلما تبين
لهم) ظهر لوفد هوازن (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غير رادّ إليهم إلا إحدى الطائفتين)
المال أو السبي (قالوا: فإنّا نختار سبينا) وفي مغازي ابن
عقبة قالوا: خيّرتنا يا رسول الله بين المال والحسب فالحسب
أحب إلينا ولا نتكلم في شاة ولا بعير، (فقام رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسلمين فأثنى
على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء)
وفد هوازن (قد جاؤونا) حال كونهم (تائبين وإني قد رأيت أن
أردّ إليهم سبيهم) هذا موضع الترجمة، لأن الوفد كانوا
وكلاء شفعاء في ردّ سبيهم (فمن أحب منكم أن يطيب بذلك) بضم
أوله وفتح الطاء وتشديد المثناة التحتية المكسورة مضارع
طيب يطيب تطيبًا من باب التفعيل، ولأبي ذر: يطيب بفتح أوله
وكسر ثانيه وسكون ثالثه من الثلاثي من طاب يطيب، والمعنى
من أحب أن يطيب بدفع السبي إلى هوازن نفسه مجانًا من غير
عوض (فليفعل) جواب من المتضمنة معنى الشرط فلذا دخلت الفاء
فيه (ومن أحب منكم أن يكون على حظه) أي نصيبه من السبي
(حتى نعطيه إياه) أي عوضه (من أول ما يفيء الله علينا
فليفعل) بضم حرف المضارعة من أفاء يفيء والفيء ما يحصل
للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد وأصل الفيء
الرجوع كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم
(4/160)
ومنه قيل للظل الذي بعد الزوال فيء لأنه
يرجع من جانب المغرب إلى جانب الشرق (فقال الناس: قد طيبنا
ذلك) بتشديد التحتية أي جعلناه طيبًا من حيث كونهم رضوا
بذلك وطابت نفوسهم به (لرسول الله) أي لأجله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم) ولأبي الوقت قد طيبنا
ذلك يا رسول الله لهم وسقط لأبي ذر لفظة لهم (فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنّا لا ندري
من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفعوا)
بالواو على لغة أكلوني البراغيث، وللكشميهني: حتى يرفع
(إلينا عرفاؤكم أمركم) جمع عريف وهو الذي يعرف أمور القوم
وهو النقيب ودون الرئيس، وأراد عليه
الصلاة والسلام بذلك التقصي عن أمرهم استطابة لنفوسهم
(فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم) في ذلك فطابت نفوسهم به (ثم
رجعوا) أي العرفاء (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبروه أنهم) أي القوم (قد طيبوا)
ذلك (وأذنوا) لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أن يردّ السبي إليهم، وفيه أنّ إقرار الوكيل عن
موكله مقبول لأن العرفاء بمنزلة الوكلاء فيما أقيموا له من
أمرهم، وبهذا قال أبو يوسف وقيده أبو حنيفة ومحمد بالحاكم،
وقال الشافعية: لا يصح إقرار الوكيل عن موكله بأن يقول:
وكّلتك لتقرّ عني لفلان بكذا فيقول الوكيل أقررت عنه بكذا
أو جعلته مقرًّا بكذا لأنه إخبار عن حق فلا يقبل التوكيل
كالشهادة لكن التوكيل فيه إقرار من الموكل لإشعاره بثبوت
الحق عليه، وقيل ليس بإقرار كما أن التوكيل بالإبراء ليس
بإبراء ومحل الخلاف إذا قال وكّلتك لتقرّ عني لفلان بكذا،
فلو قال أقرّ عني لفلان بألف له علي كان إقرارًا مطلقًا،
ولو قال أقرّ له عليّ بألف لم يكن إقرارًا قطعًا صرّح به
صاحب التعجيز، وليس في الحديث حجة لجواز الإقرار في الوكيل
لأن العرفاء ليسوا وكلاء، وإنما هم كالأمراء عليهم فقبول
قولهم في حقهم بمنزلة قبول قول الحاكم في حق من هو حاكم
عليه.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الخمس والمغازي والعتق والهبة
والأحكام، وأخرجه أبو داود في الجهاد والنسائي في السير
بقصة العرفاء مختصرًا.
8 - باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا
وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِي، فَأَعْطَى عَلَى مَا
يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (إذا وكّل رجل) زاد أبو ذر:
رجلاً (أن يعطي) شخصًا (شيئًا ولم يبين) الموكل (كم يعطي
فأعطى) أي الوكيل ذلك الشخص (على ما يتعارفه الناس) أي في
هذه الصورة فهو جائز.
2309 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ -يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ،
وَلَمْ يُبَلِّغْهُ كُلُّهُمْ، رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ-
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ:
"كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ
إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ الْقَوْمِ، فَمَرَّ بِي
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ:
مَا لَكَ؟ قُلْتُ: إِنِّي عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ. قَالَ:
أَمَعَكَ قَضِيبٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَعْطِنِيهِ،
فَأَعْطَيْتُهُ فَضَرَبَهُ فَزَجَرَهُ، فَكَانَ مِنْ
ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ أَوَّلِ الْقَوْمِ. قَالَ:
بِعْنِيهِ، قُلْتُ: بَلْ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: بِعْنِيهِ قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ
وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا دَنَوْنَا
مِنَ الْمَدِينَةِ أَخَذْتُ أَرْتَحِلُ، قَالَ: أَيْنَ
تُرِيدُ؟ قُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً قَدْ خَلاَ
مِنْهَا. قَالَ: فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا
وَتُلاَعِبُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ أَبِي تُوُفِّيَ وَتَرَكَ
بَنَاتٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْكِحَ امْرَأَةً قَدْ
جَرَّبَتْ خَلاَ مِنْهَا. قَالَ: فَذَلِكَ. فَلَمَّا
قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ: يَا بِلاَلُ اقْضِهِ
وَزِدْهُ. فَأَعْطَاهُ
أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَزَادَهُ قِيرَاطًا. قَالَ
جَابِرٌ: لاَ تُفَارِقُنِي زِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ يَكُنِ
الْقِيرَاطُ يُفَارِقُ جِرَابَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ".
وبه قال: (حدّثنا المكي بن إبراهيم) بن بشير التميمي
البلخي أبو السكن قال: (حدّثنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد
العزيز (عن عطاء بن أبي رباح) بفتح الراء والموحدة وبعد
الألف حاء مهملة (وغيره) بالجر عطفًا على سابقه حال كون
الغير (يزيد بعضهم على بعض) أي ليس جميع الحديث عند واحد
منهم بعينه بل عند بعضهم ما ليس عند الآخر (و) الحال أنه
(لم يبلغه) بضم أوله وفتح ثانيه وكسر ثالثه مشددًا أي لم
يبلغ الحديث (كلهم) بل بلغه (رجل واحد منهم عن جابر بن عبد
الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما-).
قال في الفتح: وقد وقفت من تسمية من روى ابن جريج عنه هذا
الحديث عن جابر على أبي الزبير، وقد تقدم في الحج شيء من
ذلك. وتعقبه العيني بأنه ليس في الحج شيء من ذلك وإنما
الذي تقدم في كتاب البيوع في باب شراء الدواب والحمير،
وأجاب في انتقاض الاعتراض بأن العيني ظن أن المراد قصة جمل
جابر وليس كذلك، وإنما المراد اللفظ الواقع في السند الذي
وقع الاختلاف فيه فإنه قد تقدم في الحج بمتن آخر يتعلق
بالحج قال: ولكن هذا المعترض يهجم بالإنكار قبل أن يتأمل
انتهى.
وكذا قال في المقدمة في كتاب الوكالة أنه أبو الزبير وإنه
تقدم في الحج وقد استوعبت ما ذكره في المقدمة في الحج فلم
أجد لذلك ذكرًا فالله أعلم.
(قال) أي جابر (كنت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في سفر) في غزوة الفتح كما مرّ في البيع (فكنت)
راكبًا (على جمل ثفال) بمثلثة مفتوحة وكسرها هنا خطأ ففاء
خفيفة فألف غلام صفة الجمل أي بطيء السير (إنما هو في آخر
القوم فمرّ بي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال):
(من هذا)؟ المتأخر عن الناس (فقلت: جابر بن عبد الله قال)
عليه الصلاة
(4/161)
والسلام (ما لك) تأخرت (قلت: إني على جمل
ثقال. قال): عليه الصلاة والسلام (أمعك قضيب؟ قلت: نعم،
قال: أعطنيه فأعطيته فضربه) به (فزجره فكان) الجمل (من ذلك
المكان) الذي ضربه عليه الصلاة والسلام فيه (من أول القوم)
ببركته عليه الصلاة والسلام حيث تبدّل ضعفه بالقوة (قال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بعنيه) أي الجمل
(قلت): ولأبي ذر: قال بدل فقلت (بل هو لك يا رسول الله)
عطية من غير ثمن (قال بعنيه) بالثمن ولأبي ذر قال بل بعنيه
(قد أخذته) وللكشميهني قال قد أخذته (بأربعة دنانير) وفي
البيع فاشتراه مني بأوقية فتحمل أربعة الدنانير على أنها
كانت يومئذ أوقية، وقد اختلفت الروايات في قدر الثمن الذي
وقع به البيع واضطربت في ذلك اضطرابًا لا يقبل التلفيق
وتكلف الجمع بينها بعيد عن التحقيق وقد تقدم شيء من مباحث
ذلك في البيع قال العيني: وبل للإضراب عن قول جابر خذه بلا
ثمن (ولك ظهره) أي ركوبه (إلى المدينة) إعارة (فلما دنونا)
قربنا (من المدينة أخذت أرتحل قال)
عليه الصلاة والسلام: (أين تريد؟ قلت تزوجت امرأة) اسمها
سيهلة (قد خلا منها) أي ذهب منها بعض شبابها ومضى من عمرها
ما جربت به الأمور. قال القاضي عياض: ورواه بعضهم بالمدّ
فصحف قاله في المصابيح كالتنقيح وفي نسخة قد خلا منها
زوجها أي مات وعليها شرح العيني كالكرماني. (قال) عليه
الصلاة والسلام: (فهلا) تزوّجت (جارية) بكرًا (تلاعبها
وتلاعبك) وفي رواية: فهلا تزوّجت بكرًا تضاحكك وتضاحكها
وتلاعبك وتلاعبها (قلت: إن أبي) عبد الله (توفي وترك بنات)
كن تسعًا كما في مسلم ولم يسمين (فأردت أن أنكح امرأة)
بفتح الهمزة (قد جربت) حوادث الدهر وصارت ذات تجربة تقدر
على تعهّد أخواتي وتفقّد أحوالهن (قد خلا منها) بعض شبابها
أو مات زوجها كما مرّ (قال) عليه الصلاة والسلام: (فذلك)
مبتدأ حذف خبره تقديره مبارك ونحوه. (فلما قدمنا المدينة
قال)، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يا بلال اقضه)
ثمن جمله (وزده) على ثمنه (فأعطاه) أي أعطى بلال جابرًا
(أربعة دنانير) ثمن الجمل (وزاده قيراطًا). وهذا موضع
الترجمة فإنه لم يذكر قدر ما يعطيه عند أمره بإعطاء
الزيادة فاعتمد بلال على العرف في ذلك فزاده قيراطًا.
(قال جابر: لا تفارقني زيادة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال عطاء: (فلم يكن القيراط يفارق
جراب جابر بن عبد الله) بكسر الجيم من جراب، ولأبي ذر عن
الكشميهني، وعزاها في فتح الباري، لأبي ذر والنسفيّ: قراب
بكسر القاف أي قراب سيفه، وقد زاد مسلم في آخر هذا الحديث
من وجه آخر فأخذه أهل الشام يوم الحرّة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الشروط ومسلم في البيوع.
9 - باب وَكَالَةِ الْمَرْأَةِ الإِمَامَ فِي النِّكَاحِ
(باب وكالة الامرأة) بهمزة مكسورة بعد اللام الساكنة فميم
ساكنة فراء مفتوحة، ولأبي ذر: المرأة أي حكم توكيل المرأة
(الإمام) بالنصب على المفعولية (في) عقد (النكاح).
2310 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ قَالَ: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي.
فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا. قَالَ: قَدْ
زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ". [الحديث
2310 - أطرافه في: 5029، 5030، 5087، 5121، 5126، 5132،
5135، 5141، 5149، 5150، 5871، 7417].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمة بن
دينار الأعرج (عن سهل بن سعد) بسكون الهاء في الأول والعين
في الثاني ابن مالك الأنصاري الساعدي أنه (قال: جاءت
امرأة) لم تسمّ. قال الحافظ ابن حجر: ووهم من زعم أنها أم
شريك (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
وهو في المسجد (فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت لك من
نفسي) بزيادة من للتوكيد. واستشكل بأنهم اشترطوا للزيادة
ثلاثة شروط.
أحدها: تقدم نفي أو نهي أو استفهام بهل نحو: {وما تسقط من
ورقة إلا يعلمها} [الأنعام: 59] ونحو: إلا يقم من أحد ونحو
{فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك: 3].
الثاني: تنكير مجرورها.
الثالث: كونه فاعلاً أو مفعولاً به أو مبتدأ والشرطان
الأولان مفقودان هنا. وأجيب: بأن الأخفش لم يشترطهما
مستدلاً بنحو {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} [الأنعام: 34]
{يغفر لكم من ذنوبكم} [نوح: 4] {يحلون فيها من أساور}
[الكهف: 31] وكذا لم يشترط الكوفيون الأول.
وقال العيني كالكرماني: ويروى وهبت لك نفسي بدون كلمة من
انتهى.
(4/162)
وفي الفرع علامة السقوط لأبوي ذر والوقت
على قولها لك فالله أعلم. وفي قولها: قد وهبت لك نفسي حذف
مضاف تقديره أمر نفسي أو نحوه وإلاّ فالحقيقة غير مرادة
لأن رقبة الحرّ لا تملك فكأنها قالت: أتزوّجك من غير عوض،
(فقال رجل): لم يسمّ نعم في رواية معمر والثوري عند
الطبراني فقام رجل أحسبه من الأنصار وفي رواية زائدة عنده
فقال رجل من الأنصار (زوّجنيها) زاد في باب السلطان ولي من
كتاب النكاح إن لم يكن لك بها حاجة قال: هل عندك من شيء
تصدقها؟ قال: ما عندي إلا إزاري. فقال: إن أعطيتها إياه
جلست لا إزار لك. قال فالتمس شيئًا قال: ما أجد شيئًا؟
فقال التمس ولو خاتمًا من حديد فلم يجد. قال: أمعك من
القرآن شيء؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا السور سماها
(قال) عليه الصلاة والسلام:
(قد زوّجناكها بما معك من القرآن) الباء للتعويض كهي في
نحو بعتك العبد بألف فظاهره جواز كون الصداق تعليم القرآن
وليست هي للسبب أي لأجل ما معك من القرآن، وفي رواية مسلم
اذهب فعلمها من القرآن وفي أخرى له علّمها عشرين آية ويحتج
به من يجيز في الصداق أن يكون منافع، ومنعه أبو حنيفة في
الحر وأجازه في العبد، وذهب الطحاوي وغيره إلى أن الباء
للسبب وأن ذلك جائز له دون غيره لأنه لما جازت له الموهوبة
جاز له أن يهبها ولذلك ملكها له ولم يشاورها وهذا يحتاج
إلى دليل. ولئن سلمنا أنها للسبب فقد يكون الصداق مسكوتًا
عنه لأنه أصدق عنه كما كفر عن الذي وطئ في رمضان إذ لم يكن
عنده شيء أو أنكحه إياها نكاح تفويض وأبقى الصداق في ذمته
حتى يكتسبه ويكون قوله بما معك من القرآن حضًّا له على
تعلمه وتكرمه لأهله، وقد تعقب الداودي المصنف بأنه ليس في
الحديث ما ترجم له فإنه لم يذكر فيه أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استأذنها ولا أنها وكّلته وإنما
زوّجها للرجل بقول الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم} [الأحزاب: 6] انتهى.
قال في فتح الباري: وكأن المصنف أخذ ذلك من قولها قد وهبت
نفسي لك ففوّضت أمرها إليه، وقال الذي خطبها زوّجنيها إن
لم يكن لك بها حاجة فلم تنكر هي ذلك بل استمرّت على الرضا
فكأنها فوّضت أمرها إليه بتزويجها أو يزوّجها لمن رأى.
وفي حديث أبي هريرة عند النسائي وأبي داود أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال للمرأة: "إني
أريد أن أزوجك هذا إن رضيت" فقالت: ما رضيت ليس فقد رضيت.
ولم يرد أن الرجل قال بعد قوله عليه الصلاة والسلام:
"زوّجتكها" قبلت نكاحها.
وأجاب المهلب بأن بساط الكلام في هذه القصة أغنى عن القبول
لما تقدم من الطلب والمعاودة في ذلك فمن كان في مثل حال
هذا الرجل الراغب لم يحتج إلى تصريح منه بالقبول لسبق
العلم برغبته بخلاف غيره ممن لم تقم القرائن على رضاه
انتهى فليتأمل.
ومباحث هذا الحديث تأتي إن شاء الله تعالى في محالها بعون
الله وقوّته.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في التوحيد والنكاح،
وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي في النكاح وابن ماجه فيه
وفي فضائل القرآن.
10 - باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلاً فَتَرَكَ الْوَكِيلُ
شَيْئًا فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ
أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ
هذا (باب) بالتنوين (إذا وكل) رجل (رجلاً) بحذف الفاعل وفي
نسخة إذا وكّل رجل بحذف المفعول (فترك الوكيل شيئًا) مما
وكّل فيه (فأجازه) وفي نسخة: فأجابه (الموكل فهو جائز وإن
أقرضه) أي وإن أقرض الوكيل شيئًا مما وكلّ فيه (إلى أجل
مسمى جاز) أي إذا أجازه الموكل.
2311 - وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو
حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "وَكَّلَنِي
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ
يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ:
وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ،
وَعَلَىَّ عِيَالٌ، وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ. قَالَ:
فَخَلَّيْتُ عَنْهُ. فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً
وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ:
أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ. فَعَرَفْتُ
أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّهُ سَيَعُودُ،
فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ،
فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ:
دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ، لاَ
أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ،
فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا
فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا
حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ
سَبِيلَهُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ
وَسَيَعُودُ. فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو
مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، أَنَّكَ
تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ. قَالَ: دَعْنِي
أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا. قُلْتُ:
مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ
فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى
تَخْتِمَ الآيَةَ فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ
اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى
تُصْبِحَ. فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ
يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ:
مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَالَ لِي إِذَا أَوَيْتَ إِلَى
فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا
حَتَّى تَخْتِمَ {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ
الْقَيُّومُ} وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ
اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى
تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَىْءٍ عَلَى الْخَيْرِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ
مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ". [الحديث
2311 - طرفاه في: 3275، 5010].
(وقال عثمان بن الهيثم) بفتح الهاء والمثلثة بينهما تحتية
ساكنة آخره ميم (أبو عمرو) المؤذن وقد ساقه المؤلّف من غير
أن يصرح بالتحديث، وكذا ذكره في قصة إبليس وفضائل القرآن
لكن مختصرًا ووصله النسائي والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق
إلى عثمان هذا قال: (حدّثنا عوف) بالفاء ابن أبي جميلة
بالجيم المفتوحة الأعرابي العبدي البصري رمي بالقدر
والتشيع لكن احتج به الجماعة وهو من صغار التابعين (عن
محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال:
وكّلني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بحفظ زكاة) الفطر
(4/163)
من (رمضان فأتاني آتٍ) كقاضٍ (فجعل يحثو)
بحاء مهملة ومثلثة أي يأخذ بكفّيه (من الطعام). وفي رواية
أبي المتوكل عن أبي هريرة عند النسائي أنه كان على تمر
الصدقة فوجد أثر كفّ قد أخذ منه، ولابن الضريس من هذا
الوجه فإذا التمر قد أخذ منه ملء كفّ (فأخذته) أي الذي حثا
من الطعام، وزاد في رواية أبي المتوكل أن أبا هريرة شكا
إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوّلاً
فقال له: إن أردت أن تأخذه فقل سبحان من سخرك لمحمد. قال
فقلتها فإذا أنا به قائم بين يدي فأخذته (وقلت والله
لأرفعنّك) من رفع الخصم إلى الحاكم أي لأذهبن بك (إلى رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ليحكم عليك
بقطع اليد لأنك سارق، وسقط قوله: والله في رواية أبي ذر
(قال: إني محتاج) لما آخذه (وعليّ عيال) أي نفقة عيال أو
"عليّ" بمعنى "لي" وفي رواية أبي المتوكل فقال إنما أخذته
لأهل بيت فقراء من الجن (ولي) وللكشميهني وبي بالموحدة بدل
اللام (حاجة شديدة. قال) أبو هريرة (فخلّيت عنه فأصبحت
فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما
أتيته:
(يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة)؟ سمي أسيرًا لأنه كان
ربطه بسير لأن عادة العرب يربطون الأسير بالقدّ. قال
الداودي: وفيه اطّلاعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على المغيبات وفي حديث معاذ بن جبل عند
الطبراني أن جبريل جاء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فأعلمه بذلك (قال) أبو هريرة (قلت: يا رسول
الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله قال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أما) بالتخفيف حرف
استفتاح (إنه) بكسر الهمزة وفتحها في اليونينية والفتح على
جعل أما بمعنى حقًّا (قد كذبك) بتخفيف الذال في قوله إنه
محتاج (وسيعود) إلى الأخذ (فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنه سيعود فرصدته) أي
ترقبته (فجاء) ولأبي ذر عن الحموي فجعل بدل فجاء (يحثو من
الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: دعني فإني محتاج) للأخذ (وعليّ عيال لا أعود فرحمته
فخلّيت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بإثبات لي هنا وإسقاطها في السابق
والتعبير بالنبي بدل الرسول:
(يا أبا هريرة ما فعل أسيرك)؟ سقط هنا قوله في السابق
البارحة (قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته
فخليت سبيله قال) عليه الصلاة والسلام (أما أنه) بالتخفيف
وكسر الهمزة وفتحها (قد كذبك وسيعود) لم يقال هنا فعرفت
أنه سيعود الخ (فرصدته) المرة (الثالثة فجاء) ولأبي ذر عن
الحموي: فجعل (يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا آخر
ثلاث مرات أنك) بفتح الهمزة (تزعم لا تعود) صفة لثلاث مرات
على أن كل مرة موصوفة بهذا القول الباطل ولأبي ذر إنك بكسر
الهمزة وفي نسخة مقروءة على الميدومي إنك تزعم أنك لا تعود
(ثم تعود. قال: دعني) وفي رواية أبي المتوكل: خل عني
(أعلمك) بالجزم (كلمات) نصب بالكسرة (ينفعك الله بها) بجزم
ينفعك. قال الطيبي: وهو مطلق لم يعلم منه أي النفع فيحمل
على المقيد في حديث علي عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قرأها يعني آية الكرسي حين يأخذ
مضجعه آمنه الله تعالى على داره ودار جاره وأهل دويرات
حوله رواه البيهقي في شعب الإيمان انتهى.
وفي رواية أبي المتوكل إذا قلتهن لم يقربك ذكر ولا أنثى من
الجن (قلت: ما هو) أي الكلام وللحموي والمستملي ما هن أي
الكلمات (قال: إذا أويت) أتيت (إلى فراشك) للنوم وأخذت
مضجعك (فاقرأ آية الكرسي (لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم}
حتى تختم الآية) [البقرة: 255] زاد معاذ بن جبل في روايته
عند الطبراني وخاتمة سورة البقرة آمن الرسول إلى آخرها
(فإنك لن يزال عليك من الله) أي من عند الله أو من جهة أمر
الله أو من قدرته أو من بأس الله ونقمته (حافظ) يحفظك (ولا
يقربنك) بفتح الراء والموحدة ونون التوكيد الثقيلة كذا في
اليونينية وفي غيرها ولا يقربك بإسقاط النون ونصب الموحدة
عطفًا على السابق المنصوب بلن (شيطان) وفي
(4/164)
نسخة الشيطان (حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت
فقال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت) ولأبي الوقت: فقلت (يا رسول
الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله
قال) عليه الصلاة والسلام (ما هي) الكلمات (قلت) ولأبي
الوقت قال بدل قلت (قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية
الكرسي من أوّلها حتى تختم) زاد أبو ذر: الآية ({الله لا
إله إلا هو الحيّ القيوم}) [البقرة: 255] (وقال لي لمن
يزال) وللكشميهني: لم يزل (عليك من الله حافظ) وسقط قوله
لي من رواية أبي ذر (ولا يقربك شيطان) بفتح الراء والموحدة
ولأبي ذر: ولا يقربك بضم الموحدة من غير نون فيهما كذا في
الفرع وأصله. قال البرماوي كالكرماني بعد أن ذكرا فتح
الراء والموحدة وأصله يقربنك بالنون المؤكدة. قال في
المصابيح: لا أدري ما دعاه إلى ارتكاب مثل هذا الأمر
الضعيف مع ظهور الصواب في خلافه وذلك أنه قال فإنك لن يزال
عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فعندنا فعل
منصوب بلن وهو قوله يزال والآخر من يقربك منصوب بالعطف على
المنصوب المتقدم ولا زائدة لتأكيد النفي مثلها في قولك:
لمن يقوم زيد ولا
يضحك وأجريناهاعلى طريقتهم في إطلاق الزيادة على لا هذه
وإن كان التحقيق أنها ليست بزائدة دائمًا ألا ترى أنه إذا
قيل ما جاءني زيد وعمرو، احتمل نفي مجيء كلٍّ منهما على كل
حال ونفي اجتماعهما في المجيء فإذا جيء بلا كان الكلام
نصًّا في المعنى الأول. نعم هي زائدة في مثل قولك لا يستوي
زيد ولا عمرو انتهى.
ولأبي ذر: ولا يقربك الشيطان (حتى تصبح وكانوا) أي الصحابة
(أحرص شيء على) تعلم (الخير) وفعله وكان الأصل أن يقول
وكنا لكنه على طريق الالتفات وقيل هو مدرج من كلام بعض
رواته، وبالجملة فهو مسوق للاعتذار عن تخلية سبيله بعد
المرة الثالثة حرصًا على تعلّم ما ينفع (فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أما إنه) بالتخفيف
وفتح الهمزة وكسرها كما مرّ (قد صدقك) بتخفيف الدال في نفع
آية الكرسي، ولما أثبت له الصدق أوهم المدح فاستدركه بصيغة
تفيد المبالغة في الذم بقوله (وهو كذوب) وفي حديث معاذ بن
جبل صدق الخبيث وهو كذوب (تعلم من تخاطب منذ) بالنون،
وللحموي والمستملي: مذ (ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال لا)
أعلم (قال) عليه الصلاة والسلام: (ذاك شيطان) من الشياطين.
قال في شرح المشكاة ونكر لفظ الشيطان بعد سبق ذكره منكرًا
في قوله: لا يقربك شيطان ليؤذن بأن الثاني غير الأوّل، وأن
الأول مطلق شائع في جنسه، والثاني فرد من أفراد ذلك الجنس،
فلو عرف لأوهم المقصود لأنه إما أن يشار إلى السابق أو إلى
المعروف والمشهور بين الناس وكلاهما غير مراد، وكان من
الظاهر أن يقال شيطانًا بالنصب لأن السؤال في قوله من
تخاطب عن المفعول فعدل إلى الجملة الاسمية وشخصه باسم
الإشارة لمزيد التعيين ودوام الاحتراز عن كيده ومكره.
فإن قلت: قد سبق في الصلاة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: "إن شيطانًا تفلت عليّ البارحة" الحديث.
وفيه "ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا بسارية". وفي
حديث الباب أن أبا هريرة أمسك الشيطان الذي رآه. أجيب:
باحتمال أن الذي همّ به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أن يوثقه رأس الشياطين الذي يلزم من التمكن منه
التمكن من الشياطين فيضاهي حينئذٍ سليمان في تسخيرهم،
والمراد بالشيطان في حديث أبي هريرة هذا شيطانه بخصوصه أو
غيره في الجملة فلا يلزم من تمكه منه استتباع غيره من
الشياطين في ذلك التمكّن أو الشيطان الذي همّ به النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبدّى له في صفته
التي خلق عليها، وكذلك كانوا في خدمة سليمان عليه الصلاة
والسلام على هيئتهم، والذي تبدّى لأبي هريرة في حديث الباب
كان على هيئة الآدميين فلم يكن في إمساكه مضاهاة لملك
سليمان، وقد وقع لأُبيّ بن كعب عند النسائي وأبي أيوب
الأنصاري عند الترمذي وأبي أسيد الأنصاري عند الطبراني
وزيد بن
(4/165)
ثابت عند ابن أبي الدنيا قصص في ذلك إلاّ
أنه ليس فيها ما يشبه قصة أبي هريرة إلا قصة معاذ وهو
محمول على التعدّد.
وموضع الترجمة قوله: فخليت سبيله لأن أبا هريرة ترك الرجل
الذي حثا الطعام لما شكا
الحاجة فأخبر بذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فأجازه. قال الزركشي كغيره: وفيه نظر لأن أبا
هريرة لم يكن وكيلاً بالعطاء بل بالحفظ خاصة.
قال في المصابيح: النظر ساقط لأن المقصود انطباق الترجمة
على الحديث وهي كذلك لأن أبا هريرة وإن لم يكن وكيلاً في
الإعطاء فهو وكيل في الجملة ضرورة أنه وكيل بحفظ الزكاة
وقد ترك مما وكل بحفظه شيئًا، وأجاز عليه الصلاة والسلام
فعله فقد طابقته الترجمة قطعًا نعم في أخذ إقراض الوكيل
إلى أجل مسمى من هذا الحديث نظر، وقد قرر بعضهم وجه الأخذ
بأن أبا هريرة لما ترك السارق الذي حثا من الطعام كان ذلك
الأجل ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والضعف.
11 - باب إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَاسِدًا
فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ
هذا (باب) بالتنوين (إذا باع الوكيل شيئًا) مما وكل فيه
بيعًا (فاسدًا فبيعه مردود) يعني يُردّ.
2312 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ - هُوَ ابْنُ سَلاَّمٍ -
عَنْ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ
الْغَافِرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ
-رضي الله عنه- قَالَ: "جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ،
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ
عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ
بِصَاعٍ لِيطْعِمَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ: أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ
الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا
أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ
ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ".
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن راهويه كما جزم به أبو
نعيم أو ابن منصور كما جزم به أبو علي الجياني لأن مسلمًا
أخرج هذا الحديث بعينه عن إسحاق بن منصور، لكن قال في
الفتح وليس ذلك بلازم قال: (حدّثنا يحيى بن صالح) الوحاظي
قال: (حدّثنا معاوية هو ابن سلام) بتشديد اللام (عن يحيى)
بن أبي كثير أنه (قال: سمعت عقبة بن عبد الغافر) العوذي
بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالذال المعجمة (أنه سمع
أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال جاء بلال) المؤذن (إلى
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتمر برنيّ)
بفتح الموحدة وسكون الراء وكسر النون وتشديد التحتية. قال
في الصحاح: ضرب من التمر. قال الراجز:
المطعمان اللحم بالعشج ... وبالغداة فلق البرنجّ
فأبدل من الياء جيمًا، وزاد في المحكم أنه أصفر مدوّر وهو
أجود التمر، وفي مسند أحمد مرفوعًا: خير تمركم البرني يذهب
الداء (فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(من أين هذا) التمر البرني (قال بلال: كان عندنا) وللحموي
والمستملي: عندي (تمر رديّ) بتشديد المثناة التحتية في
الفرع وأصله وفي غيره رديء بالهمزة على وزن فعيل على الأصل
من ردؤ الشيء يردؤ رداءة فهو رديء أي فاسد وأردأته أفسدته
قاله الجوهري فخفف بقلب الهمزة ياء
لانكسار ما قبلها وأدغمت الياء في الياء فصار رديّ بتشديد
الياء كما مرّ (فبعت منه صاعين بصاع ليطعم) بلال (النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) كذا في الفرع وأصله
ليطعم بضم المثناة التحتية وكسر العين، وفي بعض الأصول
لنطعم بالنون بدل التحتية والنبي نصب على الروايتين على
المفعولية. قال العيني كابن حجر: وهذه رواية أبي ذر وغيره
ليطعم بفتح التحتية والعين من طعم يطعم والنبي رفع به،
وقول البرماوي كالكرماني: وفي بعضها المطعم بالميم أي
مفتوحة كالعين والنبي خفض بالإضافة لم أقف عليه في شيء من
نسخ البخاري. نعم هو في صحيح مسلم كذلك. (فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند ذلك) القول
الصادر من بلال (أوّه أوّه) هذا (عين الربا) هذا (عين
الربا لا تفعل) بتكرير كلٍّ من عين الربا وأوّه مرتين
وأوّه بفتح الهمزة وتشديد الواو وسكون الهاء بمعنى
التحزّن. قال السفاقسي: وإنما تأوّه ليكون أبلغ في الزجر
وقاله، إما للتألم من هذا الفعل وإما من سوء الفهم زاد
مسلم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد في نحو هذه القصة
فردّوه، ومعلوم أن بيع الربا مما يجب ردّه (ولكن إذا أردت
أن تشتري) التمر الجيد (فبع التمر) الرديء (ببيع آخر ثم
اشتر) الجيد (به) أي بثمن الرديء حتى لا تقع في الربا،
ولغير أبي ذر: ثم اشتره أي التمر الجيد.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في البيوع وكذا النسائي.
12 - باب الْوَكَالَةِ فِي الْوَقْفِ وَنَفَقَتِهِ، وَأَنْ
يُطْعِمَ صَدِيقًا لَهُ وَيَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ
(باب الوكالة في الوقف ونفقته) أي الوكيل (وأن يطعم صديقًا
له ويأكل بالمعروف) أي وإطعام الوكيل صديقه وأكله بما
يتعارفه الوكلاء فيه لأنه حبس نفسه لتصرف موكله والقيام
بأمره قياسًا على وليّ اليتيم.
(4/166)
2313 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، قَالَ فِي صَدَقَةِ
عُمَرَ -رضي الله عنه-: "لَيْسَ عَلَى الْوَلِيِّ جُنَاحٌ
أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤْكِلَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ
مَالاً. فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ يَلِي صَدَقَةَ عُمَرَ،
يُهْدِي لِلنَّاسِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ يَنْزِلُ
عَلَيْهِمْ". [الحديث 2313 - أطرافه في: 2737، 2764، 2772،
2773، 2777].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) بكسر العين قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو ابن دينار أنه (قال في صدقة
عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه-) لم يدرك ابن دينار عمر
فهو مرسل غير موصول. وقال الحافظ ابن حجر: قوله في صدقة
عمر أي في روايته لها عن ابن عمر كما جزم بذلك المزي في
الأطراف ويوضحه رواية الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن
سفيان عن عمرو بن دينار
عن ابن عمر، وتعقبه العيني: بأن المزي لم يذكر هذا في
الأطراف أصلاً وإنما قال بعد العلامة بحرف الخاء المعجمة
حديث عمرو بن دينار إلى آخر ما ذكره البخاري ثم قال موقوف،
ثم قال العيني: والتقدير الذي قدّره هذا القائل يعني ابن
حجر خلاف الأصل ولا ثمة داعٍ يدعوه إلى ذلك قال: وأما قوله
ويوضحه رواية الإسماعيلي الخ ... فلا يستلزم ما ذكره من
التقدير المذكور بالتعسف انتهى.
- قال في الانتقاض: وما نفاه عن المزي هو المدعى وهو أنه
جزم أن المروي في هذا الأثر بهذا السند كلام ابن عمر فهو
الذي عبّر المزي عنه بقوله موقوف، ومن لا يدري بأن معنى
قول المحدث موقوف أن الصحابيّ لا يصرح بنسبته إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل ما في هذا الطريق
فما باله والاعتراض على أهل الفن بكلام غير أهل الفن.
وصدقة مضاف لعمر في الفرع وغيره مما وقفت عليه من الأصول،
لكن قال الكرماني في صدقة بالتنوين عمر بالرفع فاعل وفي
بعضها بالإضافة وفي بعضها عمرو بالواو فالقائل هو ابن
دينار أي قال ابن دينار في الوقف العمري ذلك (ليس على
الولي) الذي يتولى أمر الوقف (جناح) إثم (أن يأكل) منه
(ويؤكل) منه (صديقًا) زاد أبو ذر له أي للولي وهو في محل
نصب صفة لصديقًا حال كونه (غير متأثل) بميم مضمومة فمثناة
فوقية مفتوحة وبعد الهمزة مثلثة مشددة مكسورة أي غير جامع
(مالاً فكان ابن عمر) -رضي الله عنهما-.
قال ابن حجر: هو موصول بالإسناد المذكور كما هو في رواية
الإسماعيلي. قال العيني: قد صرّح الكرماني بأنه مرسل فكيف
يكون المعطوف على المرسل موصولاً انتهى.
قال في الانتقاض مجيبًا عن هذا الاعتراض ليس بينهما مانعية
جمع (هو يلي صدقة عمر يهدي للناس) بضم أوله من الرباعي من
صدقة عمر ولأبي ذر: لناس (من أهل مكة) هم آل عبد الله بن
خالد بن أسيد بن أبي العاصي (كان) ابن عمر (ينزل عليهم) أي
على الناس، وإنما كان ابن عمر يهدي منه أخذًا بالشرط
المذكور وهو أن يؤكل صديقًا له أو من نصيبه الذي جعل له أن
يأكل منه بالمعروف فكان يوفره ليهدي لأصحابه منه.
13 - باب الْوَكَالَةِ فِي الْحُدُودِ
(باب) جواز (الوكالة في الحدود) كسائر الحقوق بل يتعين
التوكيل في قصاص الطرف وحد القذف كما سيأتي في موضعهما إن
شاء الله تعالى.
2314، 2315 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ أَخْبَرَنَا
اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ
زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا،
فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا». [الحديث 2314 - أطرافه
في: 2649، 2696، 2725، 6634،
6828، 6831، 6843، 6860، 7194، 7259، 7279]. [الحديث 2315
- أطرافه في: 2695، 2724، 6633، 6827، 6833، 6835، 6842،
6859، 7193، 7258، 7260، 7278].
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
قال: (أخبرنا) ولأبي الوقت: حدّثنا (الليث) بن سعد الإمام
(عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عبيد الله)
بالتصغير، ولأبي ذر زيادة ابن عبد الله أي ابن عتبة (عن
زيد بن خالد) الجهني الصحابي (وأبي هريرة -رضي الله عنهما-
عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(واغد يا أنيس) بصيغة التصغير ابن الضحاك الأسلمي واغد أمر
من غدا بالغين المعجمة أي اذهب وهو عطف على شيء سبق وساقه
هنا مقتصرًا على القدر المحتاج إليه، ولفظه كما أخرجه في
باب الاعتراف بالزنا في كتاب المحاربين: كنا عند النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقام رجل فقال أنشدك
الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه
فقال: اقضِ بيننا بكتاب الله وائذن لي قال: قل قال: إن
ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة
شاة وخادم ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على
ابني جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأته الرجم، فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. "والذي نفسي ييده
لأقضيّن بينكما بكتاب الله المائة شاة والخادم ردّ عليك
وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس" (على)
وللكشميهني: إلى (امرأة هذا فإن اعترفت) بالزنا (فارجمها)
وإنما خصّه من بين الصحابة قصدًا إلى
(4/167)
أنه لا يؤمّر في القبيلة إلا رجل منهم
لنفورهم عن حكم غيرهم وكانت المرآة أسلمية.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في النذور والمحاربين والصلح
والأحكام والشروط والاعتصام وخبر الواحد والشهادات، وأخرجه
مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة في الحدود والنسائي في
القضاء والرجم والشروط.
2316 - حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "جِيءَ
بِالنُّعَيْمَانِ -أَوِ ابْنِ النُّعَيْمَانِ- شَارِبًا،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوا،
قَالَ فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ، فَضَرَبْنَاهُ
بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ". [الحديث 2316 - طرفاه في:
6774، 6775].
وبه قال: (حدّثنا ابن سلام) بالتخفيف، ولأبي ذر: سلام
بالتشديد البيكندي قال: (أخبرنا عبد الوهاب الثقفي عن
أيوب) السختياني (عن ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبيد الله
(عن عقبة بن الحرث) بن عامر القرشي النوفلي المكي له صحبة
أسلم يوم الفتح، وله في البخاري ثلاثة أحاديث أنه (قال:
جيء بالنعيمان) بضم النون مصغرًا ولغير أبي ذر النعمان
بالتكبير (أو ابن النعيمان) بالتصغير أيضًا والشّك من
الراوي، ووقع عند الإسماعيلي الشك في تصغيره وتكبيره.
وللإسماعيلي
أيضًا في رواية: جئت بالنعيمان بغير شك فيستفاد منه تسمية
الذي حضر به وهو عقبة والنعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحرث
بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري ممن
شهد بدرًا وكان مزاحًا حال كونه (شاربًا) مسكرًا أي
متّصفًا بالشرب لأنه حين جيء به لم يكن شاربًا حقيقة بل
كان سكران، ويدل له ما في الحدود بلفظ: هو سكران.
(فأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من
كان في البيت أن يضربوا) بحذف الضمير المنصوب وفي نسخة
يضربوه بإثباته (قال) عقبة بن الحرث: (فكنت أنا فيمن ضربه
فضربناه بالنعال والجريد).
وموضع الترجمة منه قوله فيه فأمر من كان في البيت أن
يضربوه فإن الإمام لما لم يتولّ إقامة الحدّ بنفسه وولاّه
غيره كان ذلك بمنزلة توكيله لهم في إقامته، ولا يصح عند
الشافعية التوكيل في إثبات الحدود لبنائها على الدرء. نعم
قد يقع إثباتها بالوكالة تبعًا بأن يقذف شخص آخر فيطالبه
بحد القذف فله أن يدرأه عن نفسه بإثبات زناه بالوكالة،
فإذا ثبت أقيم عليه الحد ويستفاد من الحديث كما قال
الخطابي: إن حدّ الخمر لا يستأنى به الإفاقة كحد الحامل
لتضع حملها.
14 - باب الْوَكَالَةِ فِي الْبُدْنِ وَتَعَاهُدِهَا
(باب) حكم (الوكالة في) أمر (البدن) التي تهدى (و) حكم
(تعاهدها).
2317 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: "قَالَتْ عَائِشَةُ
-رضي الله عنها- أَنَا فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَىَّ،
ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ
أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَىْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ
لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) الأويسي المدني ابن
أخت الإمام مالك (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس
إمام دار الهجرة (عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم) بفتح
الحاء المهملة وسكون الزاي (عن) خالته (عمرة بنت عبد
الرحمن) الأنصارية (أنها أخبرته قالت عائشة) -رضي الله
عنها-: (أنا فتلت قلائد هدي رسول الله-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيدي) بتشديد الياء على التثنية. وهذا
الحديث ساقه هنا مختصرًا، وفي باب من قلد القلائد بيده من
كتاب الحج أطول من هذا ولفظه: عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها
أخبرته أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة -رضي الله
عنها- أن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: من أهدى
هديًا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه. قالت
عمرة فقالت عائشة -رضي الله عنها-: ليس كما قال ابن عباس
أنا فتلت قلائد هدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بيديّ.
(ثم قلدها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بيديه) بالتثنية (ثم بعث) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (بها) أي بالهدي وأنّث الضمير باعتبار البدنة
لأن هديه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي بعث به
كان بدنة (مع أبي) أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- سنة تسع
عام
حج أبو بكر -رضي الله عنه- بالناس (فلم يحرم على رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيء أحلّه الله له
حتى نحر الهدي) بضم النون مبنيًا للمجهول والهدي رفع نائب
عن الفاعل أي حتى نحره أبو بكر -رضي الله عنه-، والحديث
ظاهر فيما ترجم له من الوكالة في البدن وأما تعاهدها
فيحتمل أن يكون من مباشرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إياها بنفسه حتى قلدها بيده.
15 - باب إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: ضَعْهُ
حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ وَقَالَ الْوَكِيلُ: قَدْ سَمِعْتُ
مَا قُلْتَ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (إذا قال الرجل لوكيله) الذي
وكّله (ضعه) أي الشيء الموكل فيه (حيث أراك الله وقال
الوكيل قد سمعت ما قلت) أي فوضعه حيث أراد جاز.
2318 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ
عَلَى مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ
سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ:
"كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ
بِالْمَدِينَةِ مَالاً، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ
إِلَيْهِ بِيْرُ حَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ
الْمَسْجِدَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ
فِيهَا طَيِّبٍ. فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ
أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ
أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَىَّ بِيْرُ حَاءَ، وَإِنَّهَا
صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ
اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ.
فَقَالَ: بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ
رَائِحٌ. . قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَأَرَى أَنْ
تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ. قَالَ: أَفْعَلُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي
أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ".
تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ رَوْحٌ عَنْ
مَالِكٍ "رَابِحٌ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (يحيى بن
(4/168)
يحيى) بن بكر بن زياد التميمي الحنظلي (قال: قرأت على
مالك) الإمام (عن إسحاق بن عبد الله) بن أبي طلحة (أنه
سمع) عمه (أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: كان أبو طلحة)
زيد بن سهل الأنصاري (أكثر الأنصار) ولأبي ذر: أكثر
أنصاريّ قال البرماوي كالكرماني وهو من التفضيل على
التفصيل أي أكثر من كل واحد واحد من الأنصار ولذا لم يقل
أكثر الأنصار (بالمدينة مالاً) نصب على التمييز أي من حيث
المال (وكان أحب أمواله إليه بيرحاء) بكسر الموحدة وسكون
التحتية وضم الراء وبعد الحاء المهملة همزة مفتوحة ممدودًا
ولأبي ذر: بيرحا من غير همز وفيها وجوه أخرى ذكرتها في
الزكاة. (وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدخلها ويشرب من ماء فيها
طيب) بالجر صفة لماء، (فلما نزلت) هذه الآية: ({لن تنالوا
البر حتى تنفقوا مما تحبون}) من الصدقة (قام أبو طلحة)
منتهيًا (إلى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا
رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه: {لن تنالوا البرّ
حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] (وإن أحب أموالي
إليّ بيرحاء) بكسر الموحدة وضمُّ الراء مهموزًا مع الفتح
والمد في الفرع لأبي ذر (وإنها صدقة لله أرجو برّها) خيرها
(وذخرها) بالذال المضمومة والخاء الساكنة المعجمتين أي
أقدمها فأذخرها لأجدها (عند الله فضعها يا رسول الله حيث
شئت فقال) عليه الصلاة والسلام:
(بخ) بفتح الموحدة وسكون الخاء المعجمة وبتنوينها
وبالتخفيف والتشديد فيهما فهي أربعة كلمة تقال عند مدح
الشيء والرضا به (ذلك مال رائح) بالهمز والخاء المهملة في
الفرع وأصله (ذلك مال رائح) بالتكرار مرتين أي ذاهب فإذا
ذهب في الخير فهو أولى (قد) بغير واو قبل القاف (سمعت ما
قلت فيها وأرى أن تجعلها في الأقربيين قال) أبو طلحة (أفعل
يا رسول الله) بهمزة قطع على أنه فعل مستقبل مرفوع (فقسمها
أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) من باب عطف الخاص على
العامّ.
(تابعه) أي تابع يحيى بن يحيى (إسماعيل) بن أبي أويس (عن
مالك) فيما وصله المؤلّف في تفسير سورة آل عمران. (وقال
روح) بفتح الراء وسكون الواو وبالحاء المهملة ابن عبادة في
روايته (عن مالك) أيضًا (رابح) بالموحدة فيما وصله الإمام
أحمد عنه وفي غير الفرع وأصله من الأصول في رواية يحيى
رابح بالموحدة أي يربح فيه صاحبه، وقال العيني: رائج
بالجيم من الرواج فليتأمل.
وموضع الترجمة من الحديث قول أبي طلحة للنبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنها صدقة الخ ... فإنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينكر عليه ذلك وإن
كان ما وضعها بنفسه بل أمره أن يضعها في الأقربين، لكن
الحجة فيه تقريره عليه الصلاة والسلام على ذلك.
وهذا الحديث قد سبق في باب الزكاة على الأقارب من كتاب
الزكاة.
16 - باب وَكَالَةِ الأَمِينِ فِي الْخِزَانَةِ
وَنَحْوِهَا
(باب وكالة الأمين في الخزانة) بكسر الخاء المعجمة اسم
للموضع الذي يخزن فيه (ونحوها).
2319 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«الْخَازِنُ الأَمِينُ الَّذِي يُنْفِقُ -وَرُبَّمَا
قَالَ: الَّذِي يُعْطِي- مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلاً
مُوَفَّرًا طَيِّبًا نَفْسُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ بِهِ
أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن
العلاء) أبو كريب الهمداني قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد
بن أسامة الليثي (عن بريد بن عبد الله) بضم الموحدة وفتح
الراء مصغرًا (عن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء اسمه
عامر أو الحرث (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري
(-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الخازن الأمين الذي ينفق وربما قال الذي يعطي ما أمر به)
بضم الهمزة وكسر الميم مبنيًّا للمفعول أي ما أمره به سيده
من الصدقة حال كونه (كاملاً موفورًا) بفتح الفاء المشددة
(طيب نفسه) مبتدأ وخبره مقدم وفي الزكاة طيب به نفسه،
ولأبي ذر والأصيلي: طيبًا بالنصب على الحال (إلى الذي أمر
به) لا لغيره (أحد المتصدقين) خبر قوله الخازن والمتصدقين
بفتح القاف بلفظ التثنية.
ومطابقته للترجمة من جهة أن الخازن الأمين مفوّض إليه
الإنفاق والإعطاء بحسب أمر الآمر به.
وهذا الحديث سبق في باب أجر الخادم من كتاب الزكاة. |