شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
46 - كتاب في المظالم والغصب
وقول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً
عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ
لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ
مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}: المقنِعُ والمقمِحُ واحد.
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(كتاب في المظالم) جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها حكاه
الجوهري وغيره والكسر أكثر ولم يضبطها ابن سيده في سائر
تصرفها إلا بالكسر وفي القاموس، والمظلمة بكسر اللام
وكثمامة ما يظلمه الرجل فلم يذكر فيه غير الكسر، ونقل أبو
عبيد عن أبي بكر بن القوطية: لا تقول العرب مظلمة بفتح
اللام إنما هي مظلمة بكسرها وهي اسم لما أخذ بغير حق
والظلم بالضم. قال صاحب القاموس وغيره: وضع الشيء في غير
موضعه.
(والغصب) وهو لغة أخذ الشيء ظلمًا، وقيل أخذه جهرًا بغلبة
وشرعًا الاستيلاء على حق الغير عدوانًا، وسقط حرف الجرّ
لأبي ذر وابن عساكر، والمظالم بالرفع والغصب عطف عليه وسقط
لفظ كتاب لغير المستملي وللنسفي كتاب الغصب باب في
المظالم. (وقول الله تعالى) بالجرّ عطفًا على سابقه ({ولا
تحسبن}) يا محمد ({الله غافلاً عما يعمل الظالمون}) أي لا
تحسبه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا
يعاقبهم على صنيعهم بل هو يحصي ذلك عليهم ويعدّه عدًّا،
فالمراد تثبيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو هو
خطاب لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلاً لجهله بصفاته تعالى،
وعن ابن عيينة تسلية للمظلوم وتهديدًا للظالم ({إنما
يؤخرهم}) يؤخر عذابهم ({ليوم تشخص فيه الأبصار}) أي تشخص
فيه أبصارهم فلا تقرّ في أماكنها من شدة الأهوال، ثم ذكر
تعالى كيفية قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى المحشر فقال:
({مهطعين مقنعي رؤوسهم}) [إبراهيم: 43] أي رافعي رؤوسهم
(المقنع) بالنون والعين (والمقمح) بالميم والحاء المهملة
معناهما (واحد) وهو رفع الرأس فيما أخرجه الفريابي عن
مجاهد وهو تفسير أكثر أهل اللغة، وسقط قوله المقنع إلى
آخره في رواية غير المستملي والكشميهني وزاد أبو ذر هنا:
1 - باب قِصَاصِ الْمَظَالِمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مُهْطِعِينَ} مُدِيمِي النَّظَرِ.
وَيُقَالُ مُسْرِعِينَ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ
طَرْفُهُمْ. {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} يَعْنِي جُوفًا
لاَ عُقُولَ لَهُمْ {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ
يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا
رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ
دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ *
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ
وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ
تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
(باب قصاص المظالم) أي يوم القيامة وسقط التبويب والترجمة
هنا لأبي ذر وثبتا عنده بعد قوله المقنع والقمح واحد وسقطت
الواو من قوله وقال مجاهد.
(4/252)
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي أيضًا
(مهطعين) أي (مديمي النظر) لا يطرفون هيبة وخوفًا وسقط
وقال لأبي ذر، ولأبوي ذر والوت: مدمني النظر. (ويقال:
مسرعين) أي إلى الداعي كما قال تعالى: {مهطعين إلى الداع}
[القمر: 8] وهذا تفسير أبي عبيدة في المجاز ({لا يرتد
إليهم طرفهم}) بل تثبت عيونهم شاخصة لا تطرف لكثرة ما هم
فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم ({وأفئدتهم
هواء} يعني جوفًا) بضم الجيم وسكون الواو خاوية خالية (لا
عقول لهم) لفرط الحيرة والدهشة وهو تشبيه محض لأنها ليست
بهواء حقيقة، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فراغ الأفئدة
من الخير والرجاء والطمع في الرحمة ({وأنذر الناس}) يا
محمد ({يوم يأتيهم العذاب}) يعني يوم القيامة أو يوم الموت
فإنه أول يوم عذابهم وهو مفعول ثانٍ لأنذر ولا يجوز أن
يكون ظرفًا لأن القيامة ليست بموطن الإنذار ({فيقول الذين
ظلموا}) بالشر والتكذيب ({ربنا أخّرنا إلى أجل قريب}) أخّر
العذاب وردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان
قريب نتدارك ما فرطنا فيه ({نجب دعوتك ونتبع الرسل}) جواب
للأمر ونظيره قوله تعالى: {لولا أخّرتني إلى أجل قريب
فأصدّق} [المنافقون: 10] ({أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما
لكم من زوال}) على إرادة القول وفيه وجهان أن يقولوا ذلك
بطرًا وأشرًّا ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه وأن
يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديدًا وأمهلوا بعيدًا وقوله
{ما لكم} جواب القسم وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله أقسمتم،
ولو حكي لفظ المقسمين لقيل ما لنا من زوال، والمعنى أقسمتم
أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء وقيل لا
تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرهم بالبعث لقوله تعالى:
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل:
38] قاله الزمخشري.
({وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم}) بالكفر والمعاصي
كعاد وثمود ({وتبين لكم كيف فعلنا بهم}) بما تشاهدون في
منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم
({وضربنا
لكم الأمثال}) من أحوالهم أي بيّنّا لكم أنكم مثلهم في
الكفر واستحقاق العذاب أو صفات ما فعلوا وفعل بهم التي هي
في الغرابة كالأمثال المضروبة ({وقد مكروا مكرهم}) أي
مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير
الباطل ({وعند الله مكرهم}) ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم
عليه بمكر هو أعظم منه أو عنده ما يمكرهم به وهو عذابهم
الذي يستحقونه ({وإن كان مكرهم}) في العظم والشدة ({لتزول
منه الجبال}) مسوّى لإزالة الجبال معدًّا لذلك وقيل إن
نافية واللام مؤكدة لها كقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع
إيمانكم} [البقرة: 143] والمعنى ومحال أن تزول الجبال
بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة
الجبال الراسية ثباتًا وتمكّنًا، وتنصره قراءة ابن مسعود:
وما كان مكرهم وقرئ لتزول بلام الابتداء على معنى وإن كان
مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع عن أماكنها
({فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله}) [إبراهيم: 47] يعني
قوله إنّا لننصر رسلنا كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي وأصله
مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني على الأول إيذانًا
بأنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله: {إن الله لا يخلف
الميعاد} [آل عمران: 9] وإذا لم يخلف وعده أحدًا فكيف يخلف
رسله ({إن الله عزيز}) غالب لا يماكر قادر لا يدافع ({ذو
انتقام}) لأوليائه من أعدائه كما مرّ ولفظ رواية أبي ذر
{ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} إلى قوله: {إن
الله عزيز ذو انتقام} وعنده بعد قوله: {وأنذر الناس}
الآية.
2440 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا
بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ،
فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي
الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ
لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ،
لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ
بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا».
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ
عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ. [الحديث
2440 - طرفه في: 6535].
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) هو ابن راهويه قال:
(أخبرنا معاذ بن هشام) البصري قال: (حدّثني) بالإفراد
(أبي) هشام بن أبي عبد الله الدستوائي (عن قتادة) بن دعامة
بن قتادة الدوسي البصري الأكمه أحد الأعلام (عن أبي
المتوكل) علي بن دؤاد بدال مضمومة بعدها واو بهمزة
(الناجي) بالنون
(4/253)
والجيم (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-
عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(إذا خلص المؤمنون) نجوا (من) الصراط المضروب على (النار
حبسوا بقنطرة) كائنة (بين الجنة و) الصراط الذي على متن
(النار فيتقاصون) بالصاد المهملة المشدّدة المضمومة من
القصاص، والمراد به تتبع ما بينهم من المظالم وإسقاط بعضها
ببعض، وللكشميهني: فيتقاضون بالضاد المعجمة المفتوحة
المخففة (مظالم كانت بينهم في الدنيا) من أنواع المظالم
المتعلقة بالأبدان والأموال فيتقاصون بالحسنات والسيئات،
فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته ولا
يدخل أحد الجنة ولأحد عليه تباعة (حتى إذا نُقوا) بضم
النون والقاف المشددة مبنيًّا للمفعول من التنقية، ولأبي
ذر عن المستملي: تقصوا بفتح المثناة الفوقية والقاف وتشديد
الصاد المهملة المفتوحة أي أكملوا التقاص (وهذبوا) بضم
الهاء وتشديد الذال المعجمة المكسورة أي خلصوا من الآثام
بمقاصصة بعضها ببعض (أذن لهم بدخول الجنة) بضم الهمزة وكسر
المعجمة ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقي لكل واحد من
الحسنات (فو) الله (الذي نفس محمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده) استعارة لنور قدرته (لأحدهم)
بالرفع مبتدأ وفتح اللام للتأكيد (بمسكنه في الجنة) وخبر
المبتدأ قوله (أدل) بالدال المهملة (بمنزله) وللحموي
والمستملي: بمسكنه (كان في الدنيا) وإنما كان أدل لأنهم
عرفوا مساكنهم بتعريضها عليهم بالغداة والعشي.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الرقاق.
(وقال يونس بن محمد) المؤدب البغدادي فيما وصله ابن منده
في كتاب الإيمان قال: (حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن التيمي
مولاهم النحوي البصري نزيل الكوفة يقال إنه منسوب إلى نحوة
بطن من الأزد لا إلى علم النحو (عن قتادة) بن دعامة قال:
(حدّثنا أبو المتوكل) هو الناجي وغرض المؤلّف بسياق هذا
التعليق تصريح قتادة بالتحديث عن أبي المتوكل.
2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ}
(باب قول الله تعالى) في سورة هود: (ألا لعنة الله على
الظالمين) وأولها: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا
أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا
على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18] قال ابن
كثير: بيّن تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار
الآخرة على رؤوس الخلائق من الملائكة والرسل وسائر البشر
والجان، وقال غيره من جوارحهم، وفي قوله: {ألا لعنة الله
على الظالمين} تهويل عظيم بما يحيق بهم حينئذٍ لظلمهم
بالكذب على الله.
2441 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
هَمَّامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ
بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا
أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- آخِذٌ
بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ
يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ
وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا،
أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَىْ رَبِّ.
حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ
أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي
الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ،
فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ
وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاَءِ
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ». [الحديث 2441 - أطرافه في:
4685، 6070، 7514].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري بكسر الميم
وسكون النون وفتح القاف قال: (حدّثنا همام) هو ابن يحيى بن
دينار البصري العوذي بفتح العين المهملة وسكون الواو وكسر
المعجمة (قال: أخبرنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد فيهما
(قتادة) بن دعامة (عن صفوان بن محرز) بضم الميم وسكون
الحاء المهملة وكسر الراء وبالزاي (المازني) وقيل الباهلي
البصري أنه (قال: بينما) بالميم وفي رواية بينا (أنا أمشي
مع ابن عمر -رضي الله عنهما- آخذ بيده) بمد الهمزة مرفوع
بدلاً من أمشي الذي هو خبر لقوله أنا والجملة حالية
والضمير في يده لابن عمر وجواب بينما قوله (إذ عرض) له
(رجل) لم أعرف اسمه (فقال) له: (كيف سمعت رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النجوى)
وللكشميهني: يقول في النجوى أي التي تقع بين الله وعبده
يوم القيامة وهو فضل من الله تعالى حيث يذكر المعاصي للعبد
سرًّا (فقال) ابن عمر -رضي الله عنهما- (سمعت رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يقول):
(إن الله) عز وجل (يدني المؤمن) أي يقربه (فيضع عليه كنفه)
بفتح الكاف والنون والفاء أي حفظه وستره، وفي كتاب خلق
الأفعال في رواية عبد الله بن المبارك عن محمد بن سواء عن
قتادة في آخر الحديث قال عبد الله بن المبارك كنفه ستره
(ويستره) عن أهل الموقف (فيقول) تعالى له (أتعرف ذنب كذا
أتعرف ذنب كذا) مرتين ولأبي ذر ذنبًا بالتنوين في الأخيرة
(فيقول) المؤمن (نعم أي رب) أعرفه (حتى إذا قرره بذنوبه)
جعله مقرًّا بأن أظهر له ذنوبه وألجأه إلى الإقرار
(4/254)
بها حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه
في الدنيا وفي عفوه عنه في الآخرة وسقط في رواية أبي ذر
لفظ إذا (ورأى في نفسه أنه هلك) باستحقاقه العذاب (قال)
تعالى له: (سترتها) أي الذنوب (عليك في الدنيا وأنا أغفرها
لك اليوم فيعطى) حينئذٍ (كتاب حسناته، وأما الكافر)
بالإفراد (والمنافقون) بالجمع في رواية أبي ذر عن
الكشميهني والمستملي وله عن الكشميهني أيضًا والمنافق
بالإفراد (فيقول الأشهاد) جمع شاهد وشهيد من الملائكة
والنبيين وسائر الإنس والجن (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم
ألا لعنة الله على الظالمين).
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير والأدب والتوحيد ومسلم
في التوبة والنسائي في التفسير وفي الرقائق وابن ماجة في
السُّنَّة.
3 - باب لاَ يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلاَ
يُسْلِمُهُ
هذا (باب) بالتنوين (لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه) بضم
الياء وسكون المهملة وكسر اللام مضارع أسلم أي لا يلقيه
إلى هلكة بل يحميه من عدوّه.
2442 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ
سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
-رضي الله عنهما- أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْمُسْلِمُ
أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ،
وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي
حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ
اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً
مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ
مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". [الحديث
2442 - طرفه في: 6951].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير المخزومي مولاهم المصري ونسبه إلى جدّه لشهرته به
قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين
وفتح القاف ابن خالد بن عقيل بالفتح الأيلي (عن ابن شهاب)
محمد بن مسلم الزهري (أن سالمًا أخبره أن) أباه (عبد الله
بن عمر -رضي الله عنهما- أخبره أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(المسلم) سواء كان حرًّا أو عبدًا بالغًا أو لا (أخو
المسلم) في الإسلام (لا يظلمه) خبر بمعنى النهي لأن ظلم
المسلم للمسلم حرام (ولا يسلمه) بضم أوّله وسكون ثانيه
وكسر ثالثه لا يتركه مع من يؤذيه بل يحميه وزاد الطبراني
ولا يسلمه في مصيبة نزلت به (ومن كان في حاجة أخيه) المسلم
(كان الله في حاجته) وعند مسلم من حديث أبي هريرة "والله
في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (ومن فرج عن مسلم
كربة) بضم الكاف وسكون الراء وهي الغم الذي يأخذ النفس أي
من كرب الدنيا (فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة)
بضم الكاف والواء جمع كربة (ومن ستر مسلمًا) رآه على معصية
قد انقضت فلم يظهر ذلك للناس فلو رآه حال تلبسه بها وجب
عليه الإنكار لا سيما إن كان مجاهرًا بها فإن انتهى وإلا
رفعه إلى الحاكم وليس من الغيبة المحرمة بل من النصيحة
الواجبة (ستره الله يوم القيامة) وفي حديث أبي هريرة عند
الترمذي ستره الله في الدنيا والآخرة".
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الإكراه ومسلم وأبو
داود والترمذي في الحدود والنسائي في الرجم.
4 - باب أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا
هذا (باب) بالتنوين (أعن أخاك) المسلم سواء كان (ظالمًا أو
مظلومًا).
2443 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ سَمِعَا
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». [الحديث 2443
- طرفاه في: 2444، 6952].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي الوقت: حدّثني بالإفراد (عثمان بن
أبي شيبة) هو عثمان بن محمد بن أبي شيبة واسمه إبراهيم بن
عثمان أبو الحسن العبسي الكوفي قال: (حدّثنا هشيم) بضم
الهاء وفتح المعجمة بالتصغير ابن بشير بالتصغير أيضًا
الواسطي قال: (أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس) بضم
العين مصغرًا ابن مالك الأنصاري (وحميد الطويل) سقط الطويل
لأبي ذر أن كلاًّ منهما (سمع أنس بن مالك -رضي الله عنه-
يقول) ولأبي ذر سمعا بالتثنية أي عبيد الله وحميد وقول
العيني أن الضمير في سمع بلفظ الإفراد يعود على حميد لا
يخفى ما فيه (قال رسول الله) ولأبي ذر قال النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(انصر أخاك) أي فى الإسلام (ظالمًا) كان (أو مظلومًا) زاد
في الإكراه من طريق أخرى عن هشيم عن عبيد الله وحده فقال
رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا أفرأيت إذا كان
ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره" أي
منعك إياه من الظلم نصرك إياه على شيطانه الذي يغويه وعلى
نفسه التي تأمره بالسوء وتطغيه.
2444 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ
حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «انْصُرْ
أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ
نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) بمهملات وتشديد الدال الأولى ابن
مسرهد بن مسربل الأسدي البصري قال: (حدّثنا معتمر) من
الاعتمار هو ابن سليمان بن طرخان التيمي (عن حميد) الطويل
(عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا قالوا): ولأبي الوقت في نسخة
قال وفي الإكراه فقال رجل (يا رسول الله) ولم يسم هذا
(4/255)
الرجل (هذا) أي الرجل الذي (ننصره) حال
كونه (مظلومًا فكيف ننصره) حال كونه (ظالمًا قال) عليه
الصلاة والسلام (تأخذ فوق يديه) بالتثنية وهو كناية عن
منعه عن الظلم بالفعل إن لم يمتنع بالقول، وعنى بالفوقية
الإشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوّة وقد ترجم المؤلّف
بلفظ الإعانة، وساق الحديث بلفظ النصر فأشار إلى ما ورد في
بعض طرقه وذلك فيما رواه حديج بن معاوية وهو بالمهملة
وآخره جيم مصغرًا عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا "أعن أخاك
ظالمًا" الحديث. أخرجه ابن عدي وأبو نعيم في المستخرج من
الوجه الذي أخرجه منه المؤلّف.
قال ابن بطال: النصر عند العرب الإعانة، وقد فسر -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نصر الظالم منعه من الظلم
لأنك إذا تركته على ظلمه أدّاه ذلك إلى أن يقتص منه فمنعك
له من وجوب القصاص نصرة له، وهذا من باب الحكم للشيء
وتسميته بما يؤول إليه وهو من عجيب الفصاحة ووجيز البلاغة،
وقد ذكر مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر سببًا لحديث
الباب يستفاد منه زمن وقوعه ولفظه: اقتتل رجل من المهاجرين
وغلام من الأنصار فنادى المهاجريّ يا للمهاجرين ونادى
الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "ما هذا أدعوى الجاهلية" قالوا:
لا إن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر فقال: "لا بأس
ولينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا" الحديث.
وذكر المفضل الضبي في كتابه الفاخر: إن أول من قال انصر
أخاك ظالمًا أو مظلومًا جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم
وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية لا على
ما فسره النبي وفي ذلك يقول شاعرهم:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم ... على القوم لم أنصر أخي
حين يظلم
قاله الحافظ ابن حجر.
5 - باب نَصْرِ الْمَظْلُومِ
(باب نصر المظلوم).
2445 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ
مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدٍ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ
عَازِبٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا
عَنْ سَبْعٍ. فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعَ
الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ، وَرَدَّ
السَّلاَمِ، وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةَ
الدَّاعِي، وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ".
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة
وكسر عين سعيد العامري الحرشي قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن الأشعث بن سليم) بضم السين وفتح اللام مصغرًا
والأشعث بالمعجمة والمثلثة أبي الشعثاء الكوفي (قال: سمعت
معاوية بن سويد) بضم السين وفتح الواو ابن مقرّن المزني
الكوفي (قال: سمعت البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال:
أمرنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونهانا
عن سبع فذكر عيادة المريض) وهي سنة إذا كان له متعهد وإلاّ
فواجبة (واتباع الجنائز) فرض على الكفاية (وتشميت العاطس)
إذا حمد الله سنة (ورد السلام) فرض كفاية (ونصر المظلوم)
مسلمًا كان أو ذميًّا واجب على الكفاية ويتعين على السلطان
وقد يكون بالقول أو بالفعل ويكفّه عن الظلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "أمر الله بعبد من عباده أن
يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله تعالى ويدعوه
حتى صارت واحدة فامتلأ قبره عليه نارًا فلما ارتفع عنه
أفاق فقال علام جلدتموني؟ قالوا: إنك صلّيت صلاة بغير
طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره". رواه الطحاوي إن كان
هذا حال من لم ينصره فكيف من ظلمه.
(إجابة الداعي) سُنّة إلا في وليمة النكاح، فعند الشافعية
والحنابلة أنها فرض عين إذا كان الداعي مسلمًا وأن تكون في
اليوم الأول وأن لا يكون هناك منكر كشرب خمر. (وإبرار
المقسم) بميم مضمومة وكسر السين سُنّة أي الحالف إذا أقسم
عليه في مباح يستطيع فعله ولأبي ذر عن الكشميهني وإبرار
القسم.
وهذا الحديث قد سبق في الجنائز تامًّا وساقه هنا مختصرًا
لم يذكر السبع المنهي عنها والمراد منه هنا قوله: "ونصر
المظلوم".
2446 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ
أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْمُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) بن كريب الهمداني الكوفي
قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن بريد) بضم
الموحدة مصغرًا ابن عبد الله بن أبي بردة (عن) جده (أبي
بردة) الحرث أو عامر (عن) أبيه (أبي موسى) عبد الله بن قيس
الأشعري (-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(المؤمن للمؤمن) التعريف فيه للجنس والمراد بعض المؤمن
للبعض (كالبنيان يشد بعضه
(4/256)
بعضًا) بيان لوجه التشبيه وللكشميهنى يشد
بعضهم بعضًا بميم الجمع (وشبك) عليه الصلاة والسلام (بين
أصابعه) كالبيان للوجه أي شدًّا مثل هذا الشد وفيه تعظيم
حقوق المسلمين بعضهم لبعض وحثّهم على التراحم والملاطفة
والتعاضد، والمؤمن إذا شدّ المؤمن فقد نصره والله أعلم.
6 - باب الاِنْتِصَارِ مِنَ الظَّالِم، لِقَوْلِهِ جَلَّ
ذِكْرُهُ: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
عَلِيمًا}. {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ
يَنْتَصِرُونَ}. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ
أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا.
(باب الانتصار من الظالم لقوله جل ذكره) في سورة النساء:
({لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظلم}) أي إلا
جهر من ظلم بالدعاء على الظالم والتظلّم منه، وعن السدي
نزلت في رجل نزل بقوم فلم يضيفوه فرخص له أن يقول فيهم
ونزولها في واقعة عين لا يمنع حملها على عمومها. وعن ابن
عباس -رضي الله عنهما- المراد بالجهر من القول الدعاء فرخص
للمظلوم أن يدعو على من ظلمه ({وكان الله سميعًا) لكلام
المظلوم ({عليمًا}) [النساء: 148] بالظالم ولقوله تعالى في
سورة الشورى: ({والذين إذا أصابهم البغي}) يعني الظلم ({هم
ينتصرون}) [الشورى: 39] ينتقمون ويقتصّون.
(قال إبراهيم) النخعي مما وصله عبد بن حميد وابن عيينة في
تفسيرهما (كانوا) أي السلف (يكرهون أن يستذلوا) بضم الياء
وفتح التاء والمعجمة من الذل (فإذا قَدَروا) بفتح الدال
المهملة (عفوا) عمّن بغى عليهم.
7 - باب عَفْوِ الْمَظْلُومِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ
تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ
وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ
ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ... } {وَتَرَى
الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ
إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}. [الشورى: 40 - 44].
(باب عفو المظلوم) عمن ظلمه (لقوله تعالى) في سورة النساء:
({إن تبدوا خيرًا) طاعةً وبرًّا ({أو تخفوه}) أي تفعلوه
سرًّا ({أو تعفوا عن سوء}) لكم المؤاخذة عليه وهو المقصود
وذكر إبداء الخير وإخفائه تسبيب له ولذلك رتب عليه قوله:
({فإن الله كان عفوًّا قديرًا) [النساء: 149] أي يكثر
العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى
بذلك وهو حثّ للمظلوم على العفو بعدما رخص له في الانتصار
حملاً على مكارم الأخلاق، وقوله تعالى في سورة حم عسق:
({وجزاء سيئة سيئة مثلها}) وسمى الثانية سيئة للازدواج
ولأنها تسوء من تنزل به ({فمن عفا وأصلح}) بينه وبين خصمه
بالعفو والإغضاء ({فأجره على الله}) عدة مبهمة لا يقاس
أمرها في العظم ({إنه لا يحب الظالمين}) المبتدئين بالسيئة
والمتجاوزين في الانتقام ({ولمن انتصر بعد ظلمه}) بعدما
ظلم فهو من إضافة المصدر إلى المفعول ({فأولئك ما عليهم من
سبيل}) من مأثم ({إنما السبيل}) يعني الإثم والحرج ({على
الذين يظلمون الناس}) يبتدئونهم بالإضرار يطلبون ما لا
يستحقونه تجبّرًا عليهم ({ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك
لهم عذاب أليم}) على ظلمهم وبغيهم ({ولمن صبر}) على الأذى
ولم يقتص من صاحبه ({وغفر}) تجاوز عنه وفوّض أمره إلى الله
({إن ذلك}) الصبر والتجاوز ({لمن عزم الأمور}) [الشورى: 40
- 41، 42 - 43] أي إن ذلك منه فحذف للعلم به كما حذف في
قولهم السمن منوان بدرهم.
ويحكى أن رجلاً سبّ رجلاً في مجلس الحسن -رحمه الله- فكان
المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق ثم قام فتلا هذه الآية
فقال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون.
وفي حديث أبي هريرة عند الإمام أحمد وأبي داود أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لأبي بكر: "ما من
عبد ظلم مظلمة فعفا عنها إلا أعز الله بها نصره" وقد
قالوا: العفو مندوب إليه ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال
فيرجع ترك العفو مندوبًا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كف
زيادة البغي وقطع مادة الأذى، وسقط من الفرع قوله تعالى:
{ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده} أي من ناصر يتولاه
من بعد خذلان الله له وثبت فيه قوله تعالى: ({وترى
الظالمين لما رأوا العذاب}) حين يرونه فذكره بلفظ الماضي
تحقيقًا ({يقولون هل إلى مرد من سبيل}) [الشورى: 44] أي
إلى رجعة إلى الدنيا. وفي رواية أبي ذر {فأجره على الله
إنه لا يحب الظالمين} إلى قوله: {مردّ من سبيل} فأسقط ما
ثبت في رواية غيره.
8 - باب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
هذا (باب) بالتنوين (الظلم ظلمات يوم القيامة).
2447 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
-رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن
يونس أبو عبد الله التميمي اليربوعي الكوفي قال: (حدّثنا
عبد العزيز) بن عبد الله بن أبي سلمة واسمه دينار
(الماجشون) بكسر الجيم وبالشين
المعجمة المضمومة قال: (أخبرنا عبد الله بن دينار عن عبد
الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الظلم) بأخذ مال الغير بغير حق أو التناول من عرضه أو نحو
ذلك
(4/257)
(ظلمات) على صاحبه (يوم القيامة). فلا
يهتدي يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا فربما وقع قدمه في
ظلمة ظلمه فهوت في حفرة من حفر النار وإنما ينشأ الظلم من
ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى
المتّقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات
الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئًا. قال عبد الله بن
مسعود -رضي الله عنه-: يؤتى بالظلمة فيوضعون في تابوت من
نار ثم يزجّون فيها.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأدب والترمذي في البر.
9 - باب الاِتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ
الْمَظْلُومِ
(باب الاتّقاء والحذر من دعوة المظلوم).
2448 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ عَنْ
يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي
مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي
الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ:
اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن موسى) بن عبد ربّه البلخي الملقب
بخت بفتح المعجمة وتشديد المثناة الفوقية قال: (حدّثنا
وكيع) هو ابن الجراح الرؤاسي بضم الراء وهمزة ثم مهملة
الكوفي قال: (حدّثنا زكريا بن إسحاق المكي) الثقة (عن يحيى
بن عبد الله بن صيفي) بالصاد المهملة المكي (عن أبي معبد)
نافذ بالفاء والمعجمة أو المهملة (مولى ابن عباس عن ابن
عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بعث معاذًا إلى) أهل (اليمن) واليًا عليهم سنة
عشر يعلمهم الشرائع ويقبض الصدقات (فقال) له:
(اتق دعوة المظلوم) وإن كان عاصيًا (فإنها) أي دعوة
المظلوم وللمستملي فإنه أي الشأن (ليس بينها وبين الله
حجاب) كناية عن الاستجابة وعدم الرد كما صرّح به في حديث
أبي هريرة عند الترمذي مرفوعًا بلفظ ثلاثة لا تردّ دعوتهم
الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها
الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزّتي
لأنصرنّك ولو بعد حين".
وحديث الباب قد سبق في باب أخذ الصدقة من الأغنياء من كتاب
الزكاة بأتم من هذا واقتصر منه هنا على المراد.
10 - باب مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ
فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ؟
(باب من كانت له مظلمة) بكسر اللام وحكي فتحها (عند الرجل)
وفي رواية عند رجل (فحللها له هل يبين مظلمته) حتى يصح
التحليل منها أم لا.
2449 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ
شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ
لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ
عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ،
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ
صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
أُوَيْسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَقْبُرِيَّ لأَنَّهُ كَانَ
نَزَلَ نَاحِيَةَ الْمَقَابِرِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ: وَسَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلَى بَنِي
لَيْثٍ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، وَاسْمُ أَبِي
سَعِيدٍ كَيْسَانُ. [الحديث 2449 - طرفه في: 6534].
وبه قال: (حدّثنا آدم بن أبي إياس) عبد الرحمن العسقلاني
الخراساني الأصل قال: (حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن عبد
الرحمن قال: (حدّثنا سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله
عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(من كانت له مظلمة) بكسر اللام وفي الرقاق من رواية مالك
عن المقبري من كانت عنده مظلمة (لأحد) ولأبي ذر: لأخيه (من
عرضه) بكسر العين المهملة موضع الذم والدح منه سواء كان في
نفسه أو أصله أو فرعه (أو شيء) من الأشياء كالأموال
والجراحات حتى اللطمة وهو من عطف العام على الخاص
(فليتحلله منه اليوم) نصب على الظرفية والمراد من اليوم
أيام الدنيا لمقابلته بقوله (قبل أن لا يكون دينار ولا
درهم) فيؤخذ منه بدل مظلمته وهو يوم القيامة، والمراد
بالتحلل أن يسأله أن يجعله في حلٍّ وليطلبه ببراءة ذمته.
وقال الخطابي: معناه يستوهبه ويقطع دعواه عنه لأن ما حرم
الله من الغيبة لا يمكن تحليله وجاء رجل إلى ابن سيرين
فقال: اجعلني في حِلٍّ فقد اغتبتك. فقال: إني لا أحل ما
حرم الله ولكن ما كان من قبلنا فأنت في حلٍّ ولما قال قبل
أن لا يكون دينار ولا درهم كأنه قيل فما يؤخذ منه بدل
مظلمته؟ فقال: (إن كان له) أي الظالم (عمل صالح أخذ منه)
أي من ثواب عمله الصالح (بقدر مظلمته) التي ظلمها لصاحبه
(وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه) الذي ظلمه (فحمل
عليه) أي على الظالم عقوبة سيئات المظلوم.
قال المازري: زعم بعض المبتدعة أن هذا الحديث معارض لقوله
تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] وهو باطل
وجهالة بيّنة لأنه إنما عوقب بفعله ووزره فتوجه عليه حقوق
لغريمه فدفعت إليه من حسناته فلما فرغت حسناته أخذ من
سيئات خصمه فوضعت عليه فحقيقة العقوبة مسببة عن ظلمه ولم
يعاقب بغير جناية منه.
(قال أبو عبد الله) المؤلّف (قال إسماعيل بن أبي أويس) هو
شيخ المؤلّف (إنما سمي) أي أبو سعيد المذكور في السند
(المقبري لأنّه كان نزل) ولأبي ذر: ينزل (ناحية المقابر)
بالمدينة الشريفة،
وقيل: لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جعله على حفر
القبور بالمدينة وهو تابعي.
(قال
(4/258)
أبو عبد الله) البخاري (وسعيد المقبري هو
مولى بني ليث) كان مكاتبًا لامرأة من أهل المدينة من بني
ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة (وهو سعيد بن أبي سعيد
واسم أبي سعيد كيسان) بفتح الكاف ومات سعيد المقبري في أول
خلافة هشام. وقال ابن سعد مات سنة ثلاث وعشرين ومائة
واتفقوا على توثيقه. قال محمد بن سعد: كان ثقة كثير الحديث
لكنه اختلط قبل موته بأربع سنين، وقد سقط قوله قال أبو عبد
الله قال إسماعيل الخ في غير رواية الكشميهني وثبت فيها
والله أعلم.
11 - باب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ
فِيهِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا حلله من ظلمه فلا رجوع فيه) سواء
كان معلومًا أو مجهولاً عند من يجيزه.
2450 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: " {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ
مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتِ:
الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ
بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا،
فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ". [الحديث 2450 - أطرافه في:
2694، 4601، 5206].
وبه قال: (حدّثنا محمد) هو ابن مقاتل قال: (أخبرنا عبد
الله) بن المبارك قال: (أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه) عروة
بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) زاد الكشميهني في
هذه الآية: ({وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا) تجافيًا
عنها وترفعًا عن صحبتها كراهة لها ومنعًا لحقوقها ({أو
إعراضًا) [النساء: 128] بأن يقل مجالستها ومحادثتها.
(قالت) عائشة (الرجل تكون عنده المرأة) حال كونه (ليس
بمستكثر منها) أي ليس بطالب كثرة الصحبة منها إما لكبرها
أو لسوء خلقها أو لغير ذلك وخبر المبتدأ الذي هو الرجل
قوله (يريد أن يفارقها) أي لما ذكر (فتقول) المرأة (أجعلك
من) أجل (شأني في حلٍّ) أي من حقوق الزوجية وتتركني بغير
طلاق (فنزلت هذه الآية في ذلك).
وعن علي -رضي الله عنه- نزلت في المرأة تكون عند الرجل
تكره مفارقته فيصطلحان على أن يجيئها كل ثلاثة أيام أو
أربعة.
وروى الترمذي من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله
عنهما- قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله لا
تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية وقال: حسن
غريب.
وقد تبين أن مورد الحديث إنما هو في حق من تسقط حقها من
القسمة وحينئذٍ فقول الكرماني أن المطابقة بين الترجمة وما
بعدها من جهة أن الخلع عقد لازم لا يصح الرجوع فيه فيلتحق
به كل عقد لازم وهم كما نبّه عليه في فتح الباري.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير.
12 - باب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ
يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ
هذا (باب) بالتنوين (إذا أذن) رجل (له) أي لرجل آخر في
استيفاء حقه (أو أحلّه) ولأبي ذر عن الكشميهني أو أحلّ له
(ولم يبيّن كم هو) أي مقدار المأذون في استيفائه أو
المحلّل.
2451 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ -وَعَنْ
يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ- فَقَالَ
لِلْغُلاَمِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟
فَقَالَ الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا. قَالَ فَتَلَّهُ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
يَدِهِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن أبي حازم بن دينار) بالحاء المهملة
والزاي سلمة الأعرج (عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-
أن رسول الله) وفي نسخة صحح عليها في اليونينية أن النبي
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتي بشراب) في قدح
والشراب هو اللبن الممزوج بالماء (فشرب منه وعن يمينه
غلام) هو ابن عباس (وعن يساره الأشياخ فقال) عليه الصلاة
والسلام:
(للغلام أتأذن لي أن أعطي) القدح (هؤلاء)؟ أي الأشياخ
(فقال الغلام: لا والله يا رسول الله لا أؤثر بنصيبي منك
أحدًا) إنما قال ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمره به
ولو أمره لأطاع وظاهره أنه لو أذن له لأعطاهم (قال: فتلّه)
بالمثناة الفوقية واللام المشدّدة أي دفعه (رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في يده) ولم يظهر لي
وجه الناسبة بين الترجمة والحديث والله أعلم. وقد قيل إنها
تؤخذ من معنى الحديث لأنه لو أذن الغلام له عليه الصلاة
والسلام بدفع الشراب إلى الأشياخ لكان تحليل الغلام غير
معلموم وكذلك مقدار شربهم وشربه.
13 - باب إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ
(باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض).
2452 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَمْرِو بْنِ
سَهْلٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ -رضي الله
عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ
شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ». [الحديث 2452 -
طرفه في: 3198].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي قال:
(أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم
بن شهاب (قال: حدّثني) بالإفراد (طلحة بن عبد الله) بن عوف
ابن أخي عبد الرحمن بن عوف (أن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل)
القرشي وقيل الأنصاري المدني، وليس له في البخاري إلا هذا
الحديث (أخبره أن سعيد بن زيد) القرشي أحد العشرة المبشرة
بالجنة (-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(من ظلم
(4/259)
من الأرض شيئًا) قليلاً أو كثيرًا وفي
رواية عروة في بدء الخلق: من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا،
ولأحمد من حديث أبي هريرة: من أخذ من الأرض شبرًا بغير حقه
(طوّقه) بضم الطاء المهملة وكسر الواو المشددة وبالقاف
مبنيًّا للمفعول (من سبع أرضين) بفتح الراء وقد تسكن أي
يوم القيامة قيل أراد طوق التكليف وهو أن يطوّق حملها يوم
القيامة. ولأحمد والطبراني من حديث يعلى بن مرّة مرفوعًا:
"من أخذ أرضًا بغير حقها كلّف أن يحمل ترابها إلى المحشر"
وفي رواية للطبراني في الكبير "من ظلم من الأرض شبرًا كلف
أن يحفره حتى يبلغ به الماء ثم يحمله إلى المحشر" وقيل إنه
أراد أنه يخسف به الأرض فتصير الأرض المغصوبة في عنقه
كالطوق ويعظم قدر عنقه حتى يسع ذلك كما جاء في غلظ جلد
الكافر وعظم ضرسه. قال البغوي: وهذا أصح، ويؤيده حديث ابن
عمر المسوق في هذا الباب ولفظه خسف به يوم القيامة إلى سبع
أرضين.
وفي حديث ابن مسعود عند أحمد بإسناد حسن والطبراني في
الكبير قلت: يا رسول الله أيّ الظلم أظلم؟ فقال: "ذراع من
الأرض ينتقصها المرء المسلم من حق أخيه فليس حصاة من الأرض
يأخذها إلا طوّقها يوم القيامة إلى قعر الأرض ولا يعلم
قعرها إلاّ الله الذي خلقها" أو المراد بالتطوّق الإثم
فيكون الظلم لازمًا في عنقه لزوم الإثم عنقه، ومنه قوله
تعالى: {ألزمناه طائره في عنقه} [الإسراء: 13] وفي هذا
تهديد عظيم للغاصب خصوصًا ما يفعله بعضهم من بناء المدارس
والربط ونحوهما مما يظنون به القرب والذكر الجميل من غصب
الأرض لذلك وغصب الآلات واستعمال العمال ظلمًا وعلى تقدير
أن يعطى فإنما يعطى من المال الحرام الذي اكتسبه ظلمًا
الذي لم يقل أحد بجواز أخذه ولا الكفّار على اختلاف مِللهم
فيزداد هذا الظالم بإرادته الخير على زعمه من الله بعدًا
أما سمع هذا الظالم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "من ظلم من الأرض شيئًا طوّقه من سبع أرضين"
وقوله عليه الصلاة والسلام فيما يروي عن ربه: "ثلاثة أنا
خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي العهد ثم غدر، ورجل باع
حرًّا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه عمله ولم
يعطه أجره" رواه البخاري.
2453 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ، فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ -رضي
الله عنها- فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبِ
الأَرْضَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ
الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ». [الحديث 2453
- طرفه في: 3195].
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو بن الحجاج
المقعد البصري قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد قال:
(حدّثنا حسين) المعلم (عن يحيى بن أبي كثير) الطائي
اليمامي (قال: حدّثني) بالإفراد (محمد بن إبراهيم) التيمي
(أن أبا سلمة) عبد الله أو إسماعيل بن عبد الرحمن بن عوف
(حدّثه أنه كانت بينه وبين أناس خصومة) قال الحافظ ابن
حجر: لم أقف على أسمائهم، ووقع لمسلم من طريق حرب بن شداد
عن يحيى وكان بينه وبين قومه خصومة في أرض ففيه نوع تعيين
للخصوم وتعيين التخاصم فيه (فذكر لعائشة -رضي الله عنها-)
أي ذلك كما في بدء الخلق (فقالت له: يا أبا سلمة اجتنب
الأرض) فلا تغصب منها شيئًا (فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) وفي رواية يقول:
(من ظلم قيد شبر) بكسر القاف وسكون المثناة التحتية أي قدر
شبر (من الأرض طوّقه من سبع أرضين) أي يوم القيامة.
وفي حديث أبي مالك الأشعري عند ابن أبي شيبة بإسناد حسن
"أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع أرض يسرقه رجل
فيطوّقه من سبع أرضين".
وعند ابن حبّان من حديث يعلى بن مرة مرفوعًا "أيما رجل ظلم
شبرًا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين
ثم يطوّقه يوم القيامة حتى يقضي بين الناس".
وحديث الباب أخرجه المؤلّف أيضًا في بدء الخلق ومسلم في
البيوع.
2454 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ
خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ».
قَالَ الفربري: قال أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي حَاتَم:
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ
بِخُرَاسَانَ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، أَمْلاَهُ
عَلَيْهِمْ بِالْبَصْرَةِ. [الحديث 2454 - طرفه في: 3196].
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال: (حدّثنا
عبد الله بن المبارك) المروزي قال: (حدّثنا موسى بن عقبة)
الإمام في المغازي (عن سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر (رضي
الله عنه) وعن أبيه أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من أخذ من الأرض شيئًا) قلّ أو أكثر (بغير حقه خسف به) أي
بالآخذ غصبًا تلك الأرض المغصوبة (يوم القيامة إلى سبع
أرضين) فتصير له كالطوق في عنقه بعد أن يطوّله الله تعالى
أو أن هذه الصفات تتنوّع
(4/260)
لصاحب هذه الجناية على حسب قوّة الفسدة
وضعفها فيعذب بعضهم بهذا وبعضهم بهذا. وفي الحديث إمكان
غصب الأرض خلافًا لأبي حنيفة وأبي يوسف حيث قالا: الغصب لا
يتحقق إلا فيما ينقل ويجوّل لأن إزالة اليد بالنقل ولا نقل
في العقار وإذا غصب عقارًا فهلك في يده لم يضمنه. وقال
محمد: يضمنه وهو قول أبي يوسف الأول وبه قال الشافعي لتحقق
إثبات اليد،
ومن ضرورته زوال يد المالك لاستحالة اجتماع اليدين على محل
واحد في حالة واحدة فيتحقق الوصفان وهو الغصب فصار
كالمنقول وجحود الوديعة، ولهما يعني لأبي حنيفة وأبي يوسف
أن الغصب إثبات اليد بإزالة يد المالك بفعل في العين وهذا
لا يتصوّر في العقار لأن يد المالك لا تزول إلا بإخراجه
عنها وهو فعل فيه لا في العقار قاله في الهداية.
واستدلّ لهما في الاختيار شرح المختار بحديث الباب "من ظلم
من الأرض شيئًا طوّقه من سبع أرضين" لأنه عليه الصلاة
والسلام ذكر الجزاء في غصب العقار ولم يذكر الضمان ولو وجب
لذكره وصوّر المسألة بما إذا سكن دار غيره بغير إذنه ثم
خرجت أما إذا هدم البناء وحفر الأرض فيضمن لأنه وجد منه
النقل والتحويل فإنه إتلاف ويضمن بالإتلاف ما لا يضمن
بالغصب، والعقار يضمن بالإتلاف وإن لم يضمن بالغصب ولأنه
تصرف في العين انتهى.
ومن فوائد حديث الباب ما قاله ابن المنير أن فيه دليلاً
على أن الحكم إذا تعلق بظاهر الأرض تعلق بباطنها إلى
التخوم فمن ملك ظاهر الأرض ملك باطنها من حجارة وأبنية
ومعادن، ومن حبس أرضًا مسجدًا أو غيره يتعلق التحبيس
بباطنه حتى لو أراد إمام المسجد أن يحتفر تحت أرض المسجد
ويبني مطامير تكون أبوابها إلى جانب المسجد تحت مصطبة له
أو نحوها أو جعل المطامير حوانيت ومخازن لم يكن له ذلك لأن
باطن الأرض تعلق به الحبس كظاهرها، فكما لا يجوز اتخاذ
قطعة من المسجد حانوتًا كذلك لا يجوز ذلك في باطنه.
(قال الفربري: قال أبو جعفر بن أبي حاتم) واسمه محمد
البخاري ورّاق المؤلّف (قال أبو عبد الله) البخاري: (هذا
حديث) أي حديث الباب (ليس بخراسان في كتاب ابن المبارك)
ولأبي ذر في كتب ابن المبارك التي صنف بها (أملاه) أي
الحديث، وللمستملي والحموي: إنما أملى بزيادة إنما وضم
الهمزة وحذف الضمير المنصوب (عليهم بالبصرة) لكن نعيم بن
حماد المروزي ممن حمل عنه بخراسان وقد حدّث عنه بهذا
الحديث فيحتمل أن يكون حدّث به بخراسان والله أعلم.
وهذا الفائدة التي ذكرها الفربري ثابتة في رواية أبي ذر
ساقطة لغيره.
14 - باب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لآخَرَ شَيْئًا جَازَ
هذا (باب) بالتنوين (إذا أذن إنسان لآخر شيئًا) أي في شيء
(جاز).
2455 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ جَبَلَةَ: "كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَهْلِ
الْعِرَاقِ فَأَصَابَنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
-رضي الله عنهما- يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: "إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنِ
الإِقْرَانِ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ
أَخَاهُ". [الحديث 2455 - أطرافه في: 2489، 2490، 5446].
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحرث الحوضي قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن جبلة) بالجيم والموحدة واللام
المفتوحات ابن سحيم بضم السين وفتح الحاء المهملتين
الشيباني أنه قال: (كنّا بالمدينة في بعض أهل العراق) وعند
الترمذي في بعث أهل العراق (فأصابنا سنة) غلاء وجدب (فكان
ابن الزبير) عبد الله (يرزقنا) أي يطعمنا (التمر فكان ابن
عمر -رضي الله عنهما- يمرّ بنا) أي ونحن نأكله (فيقول إن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن
الإقران) بهمزة مكسورة بين اللام والقاف من الثلاثي المزيد
فيه. قال عياض: والصواب القران بإسقاط الهمزة وهو أن تقرن
تمرة بتمرة عند الأكل لأن فيه إجحافًا برفيقه مع ما فيه من
الشره المزري بصاحبه نعم إذا كان التمر ملكًا له فله أن
يأكل كيف شاء (إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه) فيأذن له
فإنه يجوز لأنه حقه فله إسقاطه، واختلف هل قوله إلا أن
يستأذن الخ ... مدرج من قول ابن عمر أو مرفوع، فذهب الخطيب
إلى الأوّل، وعورض بحديث جبلة عند البخاري سمعت ابن عمر
يقول: "نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أن يقرن بين التمرتين جميعًا حتى يستأذن أصحابه" وهل النهي
للتحريم أو للتنزيه؟ فنقل عياض عن أهل الظاهر أنه للتحريم،
وعن غيرهم أنه للتنزيه. وصوّب النووي التفصيل فإن كان
مشتركًا بينهم حرم إلا برضاهم وإلاّ فلا.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف
(4/261)
أيضًا في الأطعمة والشركة ومسلم وأبو داود
والترمذي وابن ماجة في الأطعمة والنسائي في الوليمة.
2456 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي
مَسْعُودٍ: "أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ
أَبُو شُعَيْبٍ كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ
أَبُو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي
أَدْعُو النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خَامِسَ خَمْسَةٍ -وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجُوعَ! فَدَعَاهُ،
فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ هَذَا قَدِ
اتَّبَعَنَا، أَتَأْذَنُ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ".
وبه قال: (حدثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال:
(حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري (عن
الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن
أبي مسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري البدري (أن رجلاً من
الأنصار يقال له أبو شعيب كان له غلام لحام) يبيع اللحم
ولم يسم (فقال له أبو شعيب: اصنع لي طعام خمسة) لعلمه أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيتبعه غيره
(لعلي أدعو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خامس خمسة) أي أحد خمسة (وأبصر في وجه النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجوع) جملة فعلية حالية يعني
أنه قال لغلامه اصنع لنا في حال رؤيته تلك (فدعاه) أي دعا
أبو شعيب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(فتبعهم رجل) أي سادس لم يسم أيضًا (لم يدع فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن هذا قد اتّبعنا) بتشديد التاء (أتأذن له) في الدخول؟
(قال: نعم).
وهذا الحديث قد مضى في باب ما قيل في اللحام والجزار من
كتاب البيوع.
15 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ
الْخِصَامِ} [البقرة: 204]
(باب قول الله تعالى) في سورة البقرة ({وهو ألد الخصام})
[البقرة: 204] ألد أفعل تفضيل من اللدد وهو شدة الخصومة
والخصام المخاصمة، ويجوز أن يكون جمع خصم كصعب وصعاب بمعنى
أشد الخصوم خصومة أو أن أفعل هنا ليست للتفضيل بل بمعنى
الفاعل أي وهو لديد الخصام أي شديد المخاصمة فهو من إضافة
الصفة المشبهة. وعن ابن عباس أي ذو جدال، وقال السدي فيما
ذكره ابن كثير نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي جاء إلى رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأظهر الإسلام
وفي باطنه خلاف ذلك، وعن ابن عباس في نفر من المنافقين
تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم فأنزل
الله ذم المنافقين ومدح خبيب وأصحابه.
2457 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ
ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ
الأَلَدُّ الْخَصِمُ». [الحديث 2457 - طرفاه في: 4523،
7188].
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) النبيل الضحاك بن مخلد (عن ابن
جريج) عبد الملك بن عبد العزيز المكي (عن ابن أبي مليكة)
عبد الله بن عبيد الله واسم أبي مليكة زهير المكي الأحول
(عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إن أبغض الرجال إلى الله) عز وجل (الألد الخصم) بفتح
الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة المولع بالخصومة الماهر
فيها واللام في الرجال للعهد، فالمراد الأخنس وهو منافق،
أو المراد الألد في الباطل المستحل له أو هو تغليظ في
الزجر.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الأحكام والتفسير ومسلم في
القدر والترمذي والنسائي في التفسير.
16 - باب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهْوَ
يَعْلَمُهُ
(باب إثم من خاصم في) أمر (باطل وهو يعلمه) أي يعلم أنه
باطل.
2458 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ
أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ -رضي الله
عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً
بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ:
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ،
فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ،
فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ،
فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ
قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ
فَلْيَتْرُكْهَا». [الحديث 2458 - أطرافه في: 2680، 6967،
7169، 7181، 7185].
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي (قال:
حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني نزيل بغداد
تكلم قيه بلا قادح (عن صالح) هو ابن كيسان مؤدب ولد عمر بن
عبد العزيز (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال:
أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (أن زينب
بنت أم سلمة) بنت أبي سلمة عبد الله وكان اسمها برة فسماها
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. زينب (أخبرته
أن أمها أم سلمة) هند بنت أبي أمية (-رضي الله عنها- زوج
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرتها عن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه سمع
خصومة بباب حجرته) التي هي سكن أم سلمة (فخرج إليهم) أي
إلى الخصوم ولم يسموا (فقال):
(إنما أنا بشر) من باب الحصر المجازي لأنه حصر خاص أي
باعتبار علم البواطن ويسمى عند علماء البيان قصر القلب
لأنه أتى به على الرد على من زعم أن من كان رسولاً يعلم
الغيب فيطلع على البواطن ولا يخفى عليه المظلوم ونحو ذلك.
فأشار إلى أن الوضع البشري يقتضي أن لا يدرك من الأمور إلا
ظواهرها فإنه خلق خلقًا لا يسلم من قضايا تحجبه عن حقائق
الأشياء فإذا ترك على ما جبل عليه من القضايا البشرية ولم
يؤيد بالوحي السماوي طرأ عليه ما يطرأ على سائر البشر
(وإنه يأتيني الخصم) وفي الأحكام: وإنكم تختصمون إليّ
(فلعل بعضكم أن يكون أبلغ) أي أحسن إيرادًا للكلام (من
بعض) أي وهو
(4/262)
كاذب وفي الأحكام ولعل بعضكم أن يكون ألحن
بحجته من بعض أي ألسن وأفصح وأبين كلامًا وأقدر على الحجة
وفيه اقتران خبر لعل التي اسمها "بعضَ" بأن المصدرية
(فأحسب) بفتح السين وكسرها لغتان والنصب عطفًا على أن يكون
أبلغ وبالرفع أي فأظن لفصاحته ببيان حجته (أنه صدق فأقضي
له بذلك) الذي سمعته منه (فمن قضيت) أي حكمت (له بحق مسلم)
أي أو ذمي أو معاهد فالتعبير بالمسلم لا مفهوم له وإنما
خرج مخرج الغالب كنظائره مما سبق (فإنما هي) أي القصة أو
الحالة (قطعة) طائفة (من النار) أي من قضيت له بظاهر يخالف
الباطن فهو حرام فلا يأخذن ما قضيت له لأنه يأخذ ما يؤول
به إلى قطعة من النار فوضع المسبب وهو قطعة من النار موضع
السبب وهو ما حكم له به (فليأخذها أو فليتركها) ولأبي ذر:
أو ليتركها بإسقاط الفاء.
قال النووي: ليس معناه التخيير بل هو للتهديد والوعيد
كقوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]
وقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} [فصّلت: 40] انتهى. وتعقب
بأنه إن أراد أن كلتا الصيغتين للتهديد فممنوع فإن قوله:
فليتركها للوجوب وإن أراد الأولى وهو فليأخذها فلا تخيير
فيها بمجردها حتى يقول ليس للتخيير ثم إن أو مما يشرك
لفظًا ومعنى والتهديد ضد الوجوب.
وأجيب: بأنه يحتمل إرادة الصيغتين لا على معنى أن كل واحدة
منهما للتهديد بل الأمر للتخيير المستفاد من مجموعهما
بدليل تنظيره بقوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر} وكلاهما نظير خذ من مالي درهمًا أو خذ دينارًا،
وكذلك في معنى ذلك {اعملوا ما شئتم} لأنه ينحل إلى اعملوا
خيرًا إن شئتم واعملوا شرًّا إن شئتم، والتهديد هو
التخويف. ودلالة هذه الصيغ
عليها إنما هي بقرينة خارجة عن اللفظ وهي ما قصد في الكلام
من التخويف بعاقبة ذلك، ويحتمل أن الصيغة الأولى هي التي
للتهديد وهو قريب من نحو "فليتبوّأ مقعده من النار"
وحينئذٍ فأو للإضراب والصيغة الثانية على حقيقتها من
الإيجاب أي بل ليدعها، وقد قال سيبويه: إن أو تأتي للإضراب
بشرطين سبق نفي أو نهي وإعادة العامل والشرطان موجودان فيه
لأنّا إذا حملنا فليأخذها على التهديد كأن معناه فلا
يأخذها بل يدعها قاله في العدّة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الأحكام والشهادات وترك الحيل
ومسلم في القضاء وأبو داود في الأحكام.
17 - باب إِذَا خَاصَمَ فَجَر
هذا (باب) بالتنوين في ذم من (إذا خاصم فجر) وفي نسخة بترك
تنوين باب.
2459 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ
فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ
أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى
يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ
أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ
فَجَرَ».
وبه قال: (حدّثنا بشر بن خالد) بالموحدة المكسورة والمعجمة
الساكنة العسكري قال: (أخبرنا محمد) غير منسوب ولأبي ذر
محمد بن جعفر (عن شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن مهران
الأعمش (عن عبد الله بن مرة) الهمداني الخارفي بخاء معجمة
وراء وفاء الكوفي (عن مسروق) هو ابن الأجدع أبو عائشة
الهمداني (عن عبد الله بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم
ابن العاصي (-رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(أربع) أي أربع خصال (من كنّ فيه كان منافقًا) عمليًّا لا
إيمانيًّا أو منافقًا عرفيًّا لا شرعيًّا وليس المراد
الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار (أو كانت فيه خصلة)
أي خلة بفتح الخاء (من أربعة) ولأبي ذر: أربع (كانت فيه
خصلة من النفاق حتى يدعها) يتركها (إذا حدّث) في كل شيء
(كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) في
الخصومة أي مال عن الحق والمراد به هنا الشتم والرمي
بالأشياء القبيحة والبهتان، وزاد في كتاب الإيمان: "إذا
ائتمن خان" لكنه أسقطه هنا وأسقط "وإذا وعد" الخ ... هناك
لأن المسقط في الموضعين داخل تحت المذكور منهما فحصل من
الروايتين خمس خصال.
وفي حديث أبي هريرة في كتاب الإيمان أيضًا "آية المنافق
ثلاث إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" فأسقط
الغدر في المعاهدة، وفي رواية مسلم لحديث الباب الخلف في
الوعد
بدل الغدر كحديث أبي هريرة هذا فكأن بعض الرواة تصرف في
لفظه لأن معناهما قد يتّحد، وعلى هذا فالمزيد الفجور في
الخصومة وقد يندرج في الخصلة الأولى
(4/263)
وهي الكذب في الحديث، ووجه الاقتصار على
الثلاثة أنها مبنية على ما عداها إذ أصل الديانة ينحصر في
ثلاثة: القول والفعل والنيّة. فنبّه على فساد القول
بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النيّة
بالخلف، لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه
مقارنًا للوعد أما لو كان عازمًا ثم عرض له مانع أو بدا له
رأي فهذا لم توجد منه صورة النفاق.
وعند أبي داود والترمذي من حديث زيد بن أرقم: إذا وعد
الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يفِ فلا إثم عليه.
قال الكرماني: والحق أنها خمسة متغايرة عرفًا وباعتبار
تغاير الأوصاف واللوازم أيضًا، ووجه المحصر فيها أن إظهار
خلاف الباطن أما في الماليات وهو إذا ائتمن خان، وإما في
غيرها فهو إما في حالة الكدورة وهو إذا خاصم فجر، وإما في
حالة الصفاء فهو إما مؤكد باليمين وهو إذا عاهد أو لا فهو
إما بالنظر إلى المستقبل وهو إذا وعد وإما بالنظر إلى
الحال وهو إذا حدّث.
وقال البيضاوي: يحتمل أن يكون هذا مختصًّا بأبناء زمانه
فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم بنور الوحي
بواطن أحوالهم وميز بين من آمن به صدقًا ومن أذعن له
نفاقًا وأراد تعريف أصحابه عن حالهم ليكونوا على حذر منهم
ولم يصرح بأسمائهم لأنه عليه الصلاة والسلام علم أن منهم
من سيتوب فلم يفضحهم بين الناس، ولأنه عدم التعيين أوقع في
النصيحة وأجلب للدعوة إلى الإيمان وأبعد عن النفور، ويحتمل
أن يكون عامًّا لينزجر الكل عن هذه الخصال على آكد وجه
إيذانًا بأنها طلائع النفاق الذي هو أسمج القبائح كأنه كفر
مموّه باستهزاء وخداع مع رب الأرباب ومسبب الأسباب، فعلم
من ذلك أنها منافية لحال المسلمين فينبغي للمسلم أن لا
يرتع حولها فإن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه اهـ.
وسئل الطيبي أيّ الرذائل أقبح؟ فأجاب بأنه الكذب. قال:
ولذلك علّل سبحانه وتعالى عذابهم به في قوله: {ولهم عذاب
أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10] ولم يقل بما كانوا
يصنعون من النفاق ليؤذن بأن الكذب قاعدة مذهبهم وأسه،
فينبغي للمؤمن المصدق أن يجتنب الكذب لأنه مُنافٍ لوصف
الإيمان والتصديق ومنه الفجور في الخصومة.
وقد سبق الحديث في علامة المنافق من كتاب الإيمان.
18 - باب قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ
ظَالِمِهِ
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ: {وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
[النحل: 126].
(باب قصاص المظلوم) الذي أخذ ماله (إذا وجد مال ظالمه)
الذي ظلمه هل يأخذ منه بقدر الذي له ولو بغير حكم حاكم وهي
مسألة الظفر والمفتى به عند المالكية أنه يأخذ بقدر حقه إن
أمن فتنة أو نسبة إلى رذيلة وهذا في الأموال وأما في
العقوبات البدنية فلا يقتصّ فيها لنفسه وإن أمكنه لكثرة
الغوائل. (وقال ابن سيرين) محمد مما وصله عبد بن حميد في
تفسيره (يقاصّه) بتشديد الصاد المهملة أي يأخذ مثل ماله،
(وقرأ) ابن سيرين ({وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم
به}) [النحل: 126] أي من غير زيادة ولا نقص.
2460 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَتْ هِنْدُ
بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ
عَلَىَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ
عِيَالَنَا؟ فَقَالَ: لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ
تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (عروة) بن الزبير بن العوّام
(أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت هند بنت عتبة بن
ربيعة) أم معاوية أسلمت يوم الفتح وتوفيت في خلافة عمر
-رضي الله عنه- (فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان) صخر بن
حرب زوجها والد معاوية (رجل مسيك) بكسر الميم وتشديد السين
المهملة في المشهور عند المحدثين، وفي كتب اللغة الفتح
والتخفيف أي بخيل شديد المسك لما في يده (فهل عليّ حرج)
إثم (أن أطعم) بضم الهمزة وكسر العين (من الذي له عيالنا؟
فقال) عليه الصلاة والسلام:
(لا حرج) لا إثم (عليك أن تطعميهم) أي بإطعامك إياهم
(بالمعروف) أي بقدر ما يتعارف أن يأكل العيال.
ومطابقة هذا الحديث للترجمة من جهة إذنه عليه الصلاة
والسلام لهند بالأخذ من مال زوجها أبي سفيان إذ فيه دلالة
على جواز أخذ صاحب الحق من مال من لم يوفه أو جحده قدر
حقه.
وهذا الحديث قد مرّ ويأتي إن شاء الله تعالى في النفقات
وفيه فوائد، وقوله في شرح السُّنَّة: إن من فوائده أن
القاضي له أن يقضي بعلمه لأنه عليه
(4/264)
الصلاة والسلام لم يكلفها البيّنة فيه نظر
لأنه إنما كان فتوى لا حكمًا، وكذا استدلال جماعة به على
جواز القضاء على الغائب لأن أبا سفيان كان حاضرًا بالبلد.
2461 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْنَا لِلنَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا
فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا، فَمَا تَرَى فِيهِ؟
فَقَالَ لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ
بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ
يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ». [الحديث
2461 - طرفه في: 6137].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام (قال: حدّثني) بالإفراد (يزيد) بن
أبي حبيب (عن أبي الخير) مرثد بالمثلثة ابن عبد الله
اليزني (عن عقبة بن عامر) الجهني أنه (قال: قلنا للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنك تبعثنا فننزل
بقوم لا يقرونا) بفتح أوله وإسقاط نون الجمع للتخفيف،
ولأبي ذر: لا يقروننا أي لا يضيفوننا (فما ترى فيه؟ فقال)
عليه الصلاة والسلام (لنا):
(إن نزلتم بقوم فأمر لكم) بضم الهمزة وكسر الميم (بما
ينبغي للضيف فاقبلوا) ذلك منهم (فإن لم يفعلوا فخذوا منهم)
وللكشميهني: فخذوا منه أي من مالهم (حق الضيف) ظاهره
الوجوب بحيث لو امتنعوا من فعله أخذ منهم قهرًا. وحكي
القول به عن الليث، وقال أحمد بالوجوب على أهل البادية دون
القرى، ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي والجمهور أن ذلك
سُنّة مؤكدة، وأجابوا عن حديث الباب بحمله على المضطرين
فإن ضيافتهم واجبة تؤخذ من مال الممتنع بعوض عند الشافعي
أو هذا كان في أول الإسلام حيث كانت المواساة واجبة، فلما
اتسع الإسلام نسخ ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "جائزته
يوم وليلة" والجائزة تفضل وليست بواجبة، أو المراد العمال
المبعوثون من جهة الإمام بدليل قوله: إنك تبعثنا فكان على
المبعوث إليهم طعامهم ومركبهم وسكناهم يأخذونه على العمل
الذي يتولونه لأنه لا مقام لهم إلا بإقامة هذه الحقوق.
واستدلّ به المؤلّف على مسألة الظفر وبها قال الشافعي فجزم
بالأخذ فيما إذا لم يمكن تحصيل الحق بالقاضي بأن يكون
منكرًا ولا بيّنة لصاحب الحق. قال: ولا يأخذ غير الجنس مع
ظفره بالجنس فإن لم يجد إلا غير الجنس جاز الأخذ وإن أمكن
تحصيل الحق بالقاضي بأن كان مقرًّا مماطلاً أو منكرًا
وعليه بيّنة أو كان يرجو إقراره لو حضر عند القاضي وعرض
عليه اليمين فهل يستقل بالأخذ أم يجب الرفع إلى القاضي؟
فيه للشافعية وجهان أصحهما عند أكثرهم جواز الأخذ، واختلف
المالكية والمفتى به عندهم أنه يأخذ بقدر حقه إن أمن فتنة
أو نسبة إلى رذيلة، وقال أبو حنيفة: يأخذ من الذهب الذهب
ومن الفضة الفضة ومن المكيل المكيل ومن الموزون الموزون
ولا يأخذ غير ذلك.
وفي سنن أبي داود من حديث المقدام بن معد يكرب قال، قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أيما رجل
ضاف قومًا فأصبح الضيف محرومًا فإن نصره حق على كل مسلم
حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله". ورواه ابن ماجة بلفظ
"ليلة الضيف واجبة فمن أصبح بفنائه فهو دين عليه فإن شاء
اقتضى إن شاء ترك" فظاهره أنه يقتضي ويطالب وينصره
المسلمون ليصل إلى حقه لا أنه يأخذ ذلك بيده من غير علم
أحد.
19 - باب مَا جَاءَ فِي السَّقَائِفِ
وَجَلَسَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَأَصْحَابُهُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ.
(باب ما جاء في السقائف) جمع سقيفة وهي المكان المظلل.
(وجلس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه
في سقيفة بني ساعدة) التي وقعت المبايعة فيها بالخلافة
لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وهذا طرف من حديث وصله
المؤلّف في الأشربة من حديث سهل بن سعد ومراد المؤلّف
التنبيه على جواز اتخاذها وهي أن صاحب جانبي الطريق يجوز
له أن يبني سقفًا على الطريق تمر المارّة تحته ولا يقال
إنه تصرف في هواء الطريق وهو تابع لها يستحقه المسلمون لأن
الحديث دالٌّ على جواز اتخاذها، ولولا ذلك لما أقرّها
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا جلس تحتها.
2462 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ ح
وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنهم-
قَالَ حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ الأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِي
سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ:
انْطَلِقْ بِنَا، فَجِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي
سَاعِدَةَ". [الحديث 2462 - أطرافه في: 3445، 3928، 4021،
6829، 6830، 7323].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) أبو سعيد الجعفي الكوفي
(قال: حدّثني) بالإفراد (ابن وهب) عبد الله المصري (قال:
حدّثني) بالإفراد أيضًا (مالك) الإمام قال ابن وهب (ح).
(وأخبرني) بالإفراد أيضًا (يونس) أي ابن يزيد الأيلي
كلاهما (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال:
أخبرني) بالإفراد (عبيد الله بن عبد الله بن عتبة) بضم
العين في الأول مصغرًا وفي الثالث وسكون ثانيه (أن ابن
عباس أخبره عن عمر -رضي الله عنهم- قال حين توفّيَّ الله
نبيّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن الأنصار
اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة)
(4/265)
نسبت إليهم لأنهم كانوا يجتمعون إليها أو
لأنهم بنوها وساعدة هو ابن كعب بن الخزرج قال عمر (فقلت
لأبي بكر) الصدّيق (انطلق بنا) زاد في الحدود إلى إخواننا
هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم (فجئناهم في سقيفة بني
ساعدة) الحديث بطوله في الحدود، وساقه هنا مختصرًا والغرض
منه أن الصحابة استمروا على الجلوس في السقيفة المذكورة
فليس ظلمًا.
والحديث أخرجه أيضًا في الهجرة والحدود، وسيأتي ما فيه من
المباحث إن شاء الله تعالى.
20 - باب لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ
خَشَبةً فِي جِدَارِهِ
هذا (باب) بالتنوين في قوله عليه الصلاة والسلام (لا يمنع
جار جاره أن يغرز خشبة) بالإفراد لأبي ذر ولغيره خشبه
بالهاء بصيغة الجمع (في جداره) ومعنى الجمع والإفراد واحد
لأن المراد بالواحد الجنس كما نقل عن ابن عبد البر. قال في
الفتح: وهذا الذي يتعين للجمع بين الروايتين وإلاّ فالمعنى
قد يختلف باعتبار أن أمر الخشبة الواحدة أخف في مسامحة
الجار بخلاف الخشب الكثيرة، وقول
عبد الغني بن سعيد كل الناس يقولونه بالجمع إلا الطحاوي
فإنه قال عن روح بن الفرج: سألت أن زيد والحرث بن بكير
ويونس بن عبد الأعلى عنه فقالوا كلهم خشية بالتنوين مردود
بموافقة أبي ذر.
2463 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَمْنَعُ جَارٌ
جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ. ثُمَّ
يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا
مُعْرِضِينَ؟ وَاللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ
أَكْتَافِكُمْ». [الحديث 2463 - طرفاه في: 5627، 5628].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب القعنبي
الحارثي البصري المدني الأصل (عن مالك) هو ابن أنس الإمام
(عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن الأعرج) عبد الرحمن
بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا يمنع) بالجزم على أن لا ناهية وبالرفع وعزاها في الفتح
لأبي ذر على أنه خبر بمعنى النهي، ولأحمد: لا يمنعن (جار
جاره) الملاصق له (أن يغرز خشبة) بالإفراد وخشبه بالجمع
كما مرّ، وقال المزني فيما ذكره البيهقي في المعرفة بسنده
حدّثنا الشافعي قال: أخبرنا مالك فذكره وقال: خشبه بغير
تنوين، وقال يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك خشبة
بالتنوين (في جداره) حمله الشافعي في الجديد على الندب
فليس لصاحب الخشب أن يغرزها في جدار جاره إلا برضاه ولا
يجبر مالك الجدار إن امتنع من وضعها، وبه قال المالكية
والحنفية جمعًا بين حديث الباب وحديث خطبة حجة الوداع
المروي عند الحاكم بإسناد على شرط الشيخين في معظمه ولفظه:
لا يحلّ لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس، وفي
القديم على الإيجاب عند الضرورة وعدم تضرر الحائط واحتياج
المالك لحديث الباب فليس له منعه فإن أبى جبره الحاكم، وبه
قال أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث وابن حبيب من المالكية ولا
فرق في ذلك عندهم بين أن يحتاج في وضع الخشب إلى نقب
الجدار أم لا، لأن رأس الخشب يسد المنفتح ويقوّي الجدار،
وجزم الترمذي وابن عبد البر عن الشافعي بالقول القديم وهو
نصه في البويطي، وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار:
وأما حديث الخشب في الجدار فإنه حديث صحيح ثابت لم نجد في
سنن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما
يعارضه ولا تصح معارضته بالعمومات، وقد نص الشافعي في
القديم والجديد على القول به فلا عذر لأحد في مخالفته، وقد
حمله الراوي على ظاهره وهو أعلم بالمراد بما حدّث به يشير
إلى قوله:
(ثم يقول أبو هريرة) بعد روايته لهذا الحديث محافظة على
العمل بظاهره وتحضيضًا على ذلك لما رآهم توقفوا عنه (ما لي
أراكم عنها) أي عن هذه المقالة (معرضين) وعند أبي داود:
إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه
فنكسوا رؤوسهم فقال أبو هريرة: ما لي أراكم قد أعرضتم
(والله لأرمين بها) أي هذه المقالة (بين أكتافكم) بالمثناة
الفوقية جمع كتف، وفي رواية أبي داود لألقينها أي لأصرخن
بالمقالة فيكم ولأوجعنكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان
بالشيء بين
كتفيه ليستيقظ من غفلته أو الضمير للخشبة، والمعنى إن لم
تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلن الخشبة على
رقابكم كارهين وقصد بذلك المبالغة قاله الخطابي. وقال
الطيبي: هو كناية عن إلزامهم
(4/266)
بالحجة القاطعة على ما ادّعاه أي لا أقول
الخشبة ترمى على الجدار بل بين أكتافكم لما وصى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالبرّ والإحسان في
حق الجار وحمل أثقاله.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في البيوع وأبو داود في القضاء
والترمذي في الأحكام وأخرجه ابن ماجة أيضًا.
21 - باب صَبِّ الْخَمْرِ فِي الطَّرِيقِ
(باب صبّ الخمر في الطريق) أي المشتركة بين الناس، وفي
رواية في الطرق بالجمع.
2464 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو
يَحْيَى أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-:
«كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ،
وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ
حُرِّمَتْ. قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ
فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي
سِكَكِ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قَدْ
قُتِلَ قَوْمٌ وَهْيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآيَةَ». [الحديث
2464 - أطرافه في: 4617، 4620، 5580، 5582، 5583، 5584،
5600، 5622، 7253].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن عبد
الرحيم أبو يحيى) المعروف بصاعقة قال: (أخبرنا عفّان) بن
مسلم الصفار وهو من شيوخ المؤلّف روى عنه في الجنائز بغير
واسطة قال: (حدّثنا حماد بن زيد) البصري واسم جده درهم
قال: (حدّثنا ثابت) هو ابن أسلم البناني (عن أنس -رضي الله
عنه-) أنه قال: (كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة) سهل
الأنصاري زوج أم أنس وقد جاءت أسامي القوم مفرّقة في
أحاديث صحيحة في هذه القصة وهم: أُبيّ بن كعب، وأبو عبيدة
بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وأبو دجانة سماك بن خرشة، وسهيل
بن بيضاء، وأبو بكر رجل من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن
كنانة وهو ابن شعوب الشاعر، (وكان خمرهم يومئذ الفضيخ)
بفاء ومعجمتين بوزن عظيم اسم للبسر الذي يحمر أو يصفر قبل
أن يترطب، وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب كما يطلق
على خليط البسر والتمر وكما يطلق على البسر وحده وعلى
التمر وحده (فأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مناديًا) قال الحافظ ابن حجر لم أر التصريح
باسمه (ينادي).
(ألا) بفتح الهمزة والتخفيف (إن الخمر قد حرمت قال) أي أنس
(فقال لي أبو طلحة) ولأبي ذر قال: فجرت في سكك المدينة جمع
سكة بكسر السين في المفرد والجمع أي طرقها وأزقتها وفي
السياق حذف تقديره حرمت فأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإراقتها فأريقت فجرت في سكك المدينة
فقال لي أبو طلحة (اخرج فأهرقها) بقطع الهمزة في الفرع
ووصلها في غيره والجزم على الأمر أي صبها قال أنس: (فخرجت
فهرقتها) بفتح الهاء والراء وسكون القاف والأصل أرقتها
فأبدلت الهمزة هاء وقد يستعمل بالهمزة والهاء معًا كما مرّ
وهو نادر أي صببتها (فجرت) أي سألت الخمر (في سكك المدينة)
وفيه إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على
إراقتها حتى جرت في الأزقة من كثرتها.
قال المهلب: إنما صبت الخمر في الطريق للإعلان برفضها
وليشتهر تركها وذلك أرجح في المصلحة من التأذّي بصبها في
الطريق، ولولا ذلك لم يحسن صبّها فيه لأنها قد تؤذي الناس
في ثيابهم ونحن نمنع من إراقة الماء في الطريق من أجل أذى
الناس في ممشاهم فكيف أذى الخمر؟
قال ابن المنير: إنما أراد البخاري التنبيه على جواز مثل
هذا في الطريق للحاجة فعلى هذا يجوز تفريغ الصهاريج ونحوها
في الطرقات ولا يعدّ ذلك ضررًا ولا يضمن فاعله ما ينشأ عنه
من زلق ونحوه انتهى.
ومذهب الشافعية لو رش الماء في الطريق فزلق به إنسان أو
بهيمة فإن رش لمصلحة عامة كدفع الغبارعن المارّة فليكن
كحفر البئر للمصلحة العامّة وإن كان لمصلحة نفسه وجب
الضمان ولو جاوز القدر المعتاد في الرش. قال المتولي: وجب
الضمان قطعًا كما لو بلّ الطين في الطريق فإنه يضمن ما تلف
به، ويحتمل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث ينصب
إلى الأتربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها، ويؤيده ما
أخرجه ابن مردويه من حديث جابر بسند جيد في قصة صب الخمر
قال: فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي.
(فقال بعض القوم) لم أقف على اسم القائل (قد قتل قوم وهي)
أي الخمر (في بطونهم) وعند البيهقي والنسائي من طريق ابن
عباس قال نزل تحريم الخمر في ناس شربوا فلما ثملوا عبثوا
فلما صحوا جعل بعضهم يرى الأثر بوجه الآخر فنزلت فقال ناس
من المتكلفين هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل بأُحد، وروى
البزار من حديث جابر أن الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود
(فأنزل الله) عز وجل الآية التي في سورة المائدة ({ليس على
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}) الآية
[المائدة: 93] يعني شربوا قبل تحريمها ووقع
(4/267)
في رواية الإسماعيلي عن ابن ناجية عن أحمد
بن عبدة ومحمد بن موسى عن حماد في آخر هذا الحديث قال حماد
فلا أدري هذا في الحديث أي عن أنس أو قاله ثابت أي مرسلاً
يعني قوله فقال بعض القوم إلى آخر الحديث.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في تفسير سورة المائدة
وفي الأشربة ومسلم وأبو داود في الأشربة.
22 - باب أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا،
وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا
بِفِنَاءِ دَارِهِ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ
فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ
وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ.
(باب) جواز تحجير (أفنية الدور) جمع فناء بكسر الفاء والمد
المكان المتسع أمام الدار كبناء مساطب فيها إذا لم يضر
الجار والمار (و) حكم (الجلوس فيها و) حكم (الجلوس على
الصعدات) بضم الصاد والعين المهملتين جمع صعد بضمتين أيضًا
جمع صعيد كطريق وطرق وطرقات وزنًا ومعنى ولأبي ذر الصعدات
بفتح العين وضمها.
(وقالت عائشة) -رضي الله عنها- في حديث الهجرة الطويل
الوصول في بابها (فابتنى أبو بكر مسجدًا بفناء داره يصلي
فيه ويقرأ القرآن فيتقصف) بالقاف والصاد المهملة المشددة
(عليه نساء المشركين وأبناؤهم) أي يزدحمون عليه حتى يسقط
بعضهم على بعض فيكاد ينكسر وأطلق يتقصف مبالغة (يعجبون منه
والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومئذ بمكة)
جملة حالية كقوله يعجبون منه.
2465 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا
أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِيَّاكُمْ
وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ. فَقَالُوا: مَا لَنَا
بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا.
قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا
الطَّرِيقَ حَقَّهَا. قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟
قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ
السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ
الْمُنْكَرِ». [الحديث 2465 - طرفه في: 6229].
وبه قال: (حدّثنا معاذ بن فضالة) بفتح الفاء والمعجمة
الزهري أبو زيد البصري قال: (حدّثنا أبو عمر) بضم العين
(حفص بن ميسرة) العقيلي بضم العين الصنعاني نزيل عسقلان
(عن زيد بن أسلم) العدوي مولى عمر المدني (عن عطاء بن
يسار) بالمثناة التحتية والسين المهملة المخففة الهلالي
المدني (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري -رضي الله عنه-
عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إياكم والجلوس) بالنصب على التحذير (على الطرقات) لأن
الجالس بها لا يسلم غالبًا من رؤية ما يكره وسماع ما لا
يحل إلى غير ذلك وترجم بالصعدات ولفظ المتن الطرقات ليفيد
تساويهما في المعنى. نعم ورد بلفظ الصعدات عند ابن حبان من
حديث أبي هريرة (فقالوا: ما لنا بدٍّ) أي غنى عنها (إنما
هى) أي الطرقات ولأبي ذر: إنما هو (مجالسنا نتحدّث فيها)
وللحموي والمستملي: فيه بالتذكير (قال) عليه الصلاة
والسلام (فإذا أبيتم إلاّ المجالس) من الإباء وتشديد إلاّ
أي إن أبيتم إلا الجلوس فعبّر عن الجلوس بالمجالس، وللحموي
والمستملي: فإذا أتيتم من الإتيان إلى المجالس (فأعطوا
الطريق حقها) بهمزة قطع (قالوا) يا رسول الله (وما حق
الطريق؟ قال) عليه الصلاة والسلام (غضّ البصر) عن الحرام
(وكفّ الأذى) عن الناس فلا تحتقرنهم ولا تغتابنهم إلى غير
ذلك (وردّ
السلام) على من يسلم من المارة (وأمر بالمعروف ونهي عن
المنكر) ونحوهما مما ندب إليه الشارع من المحسنات ونهى عنه
من المقبحات، وزاد أبو داود "وإرشاد السبيل وتشميت
العاطس". والطبري من حديث عمر "وإغاثة الملهوف" وقد تبيّن
من سياق الحديث أن النهي للتنزيه لئلا يضعف الجالس عن أداء
هذه الحقوق المذكورة وفيه حجة لمن يقول إن سدّ الذرائع
بطريق الأولى لا على الحتم لأنه عليه الصلاة والسلام نهى
أولاً عن الجلوس حسمًا للمادة فلما قالوا ما لنا بدٌّ فسح
لهم في الجلوس بها على شريطة أن يعطوا الطريق حقها وفسرها
لهم بذكر المقاصد الأصلية فرجح أولاً عدم الجلوس على
الجلوس وإن كان فيه مصلحة لأن القاعدة تقتضي تقديم درء
المفسدة على جلب المصلحة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الاستئذان ومسلم فيه وفي
اللباس وأبو داود في الأدب.
23 - باب الآبَارِ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ
بِهَا
(باب) حكم (الآبار) التي حفرت (على الطرق) ولأبي ذر: على
الطريق بالإفراد (إذا لم يتأذّ بها) أحد من المارة وفي
اليونينية بضم تحتية يتأذّ والآبار جمع بئر مؤنثة وهو
بهمزة مفتوحة ساكنة ثم همزة مفتوحة. قال في الصحاح: ومن
العرب: يقلب الهمزة فيقول آبار بمد الهمزة وفتح الموحدة،
وبه ضبط في البخاري وهذا جمع قلة كأبؤر وأبور بالهمز وتركه
فإذا كثرت جمعت على بئار والأبّار حافرها.
2466 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ سُمَىٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ
الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ،
ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى
مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا
الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ
مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً فَسَقَى
الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ
لأَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ
أَجْرٌ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك)
الإمام الأعظم (عن سمي) بضم
(4/268)
المهملة وفتح الميم وتشديد التحتية (مولى
أبي بكر) أي ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام (عن أبي
صالح) ذكوان (السمان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن
النبي) ولأبي ذر أن رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(بينا) ولأبي ذر: بينما بالميم (رجل) لم يسم (بطريق) وفي
رواية الدارقطني في الموطآت من طريق ابن وهب عن مالك يمشي
بطريق مكة (اشتد) ولأبي ذر فاشتد بزيادة الفاء (عليه
العطش) والفاء في موضع إذا (فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم
خرج) منها (فإذا كلب يلهث) بالمثلثة أي يرتفع نفسه بين
أضلاعه أو يخرج لسانه من العطش حال كونه (يأكل الثرى)
بالمثلثة المفتوحة الأرض الندية (من العطش) ويجوز أن يكون
قوله يأكل الثرى خبرًا ثانيًا (فقال الرجل: لقد بلغ هذا
الكلب) بالنصب على المفعول به (من العطش مثل الذي كان بلغ
منى) برفع مثل فاعل بلغ (فنزل البئر فملأ
خفّه ماء) ولابن حبان خفّيه بالتثنية (فسقى الكلب) بعد أن
خرج من البئر حتى روي (فشكر الله له) أثنى عليه أو قبل
عمله (فغفر له) الفاء للسببية أي بسبب قبول عمله غفر الله
له (قالوا) أي الصحابة ومنهم سراقة بن مالك بن جعشم كما
عند أحمد وغيره (يا رسول الله) الأمر كما قلت (وإن لنا في)
سقي (البهائم لأجرًا؟ فقال) عليه الصلاة والسلام (في)
إرواء (كل ذات كبد رطبة) برطوبة الحياة من جميع الحيوانات
المحترمة (أجر) أي أجر حاصل في الإرواء المذكور فأجر مبتدأ
قدم خبره.
وفي الحديث جواز حفر الآبار في الصحراء لانتفاع عطشان
وغيره بها.
فإن قلت: كيف ساغ مع مظنة الاستضرار بها بساقط بليل أو
وقوع بهيمة أو نحوها فيها؟ أجيب: بأنه لما كانت المنفعة
أكثر ومتحققة والاستضرار نادرًا ومظنونًا غلب الانتفاع
وسقط الضمان فكانت جبارًا فلو تحققت المضرة لم يجز وضمن
الحافر.
وهذا الحديث قد سبق في باب سقي الماء من كتاب الشرب.
24 - باب إِمَاطَةِ الأَذَى
وَقَالَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«يُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ».
(باب إماطة الأذى) أي إزالته عن المسلمين (وقال همام) بفتح
الهاء وتشديد الميم ابن منبّه أَخو وهب مما وصله المؤلّف
في باب من أخذ بالركاب من الجهاد (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
قال: (يميط الأذى) هو على حدّ قوله تسمع بالمعيدي أي أن
تسمع وأن يميط الأذى فأن مصدرية أي إماطة الرجل الأذى
كتنحية حجر أو شوك (عن الطريق صدقة) على أخيه المسلم لأنه
لما تسبب في سلامته عند المرور بالطريق من ذلك الأذى فكأنه
تصدّق عليه بذلك فحصل له أجر الصدقة.
25 - باب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ
وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا
(باب) جواز سكنى (الغربة) بضم الغين المعجمة وسكون الراء
وفتح الفاء المكان المرتفع في البيت (و) سكنى (العلية) بضم
العين المهملة وكسرها وتشديد اللام المكسورة والمثناة
التحتية. قال الكرماني: وهي مثل الغرفة، وقال الجوهري:
الغرفة العلية فهو من العطف التفسيري (المشرفة) على
المنازل (وغير المشرفة) بالشين المعجمة الساكنة والفاء
وتخفيف الراء فيهما صفتان للسابق (في السطوح وغيرها) ما لم
يطلع منها على حرمة أحد وقد تحصل مما ذكره أربعة:
عليّة مشرفة على مكان على سطح.
مشرفة على مكان على غير سطح.
غير مشرفة على مكان على سطح.
غير مشرفة على مكان غير سطح.
2467 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما-
قَالَ: «أَشْرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ
قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ مَوَاقِعَ الْفِتَنِ
خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ».
وبه قال: (حدّثنا) ولغير أبي ذر: حدّثني بالإفراد (عبد
الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا ابن عيينة) سفيان (عن
الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن عروة) بن الزبير بن
العوّام (عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-) أنه (قال:
أشرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أطم)
بضم الهمزة والطاء (من آطام المدينة) بمد الهمزة جمع أطم
وهو بناء مرتفع كالعلية المشرفة، وقيل الآطام حصون على
المدينة (ثم قال) عليه الصلاة والسلام:
(هل ترون ما أرى) بفتح الهمزة وزاد أبو ذر عن المستملي إني
أرى (مواقع الفتن) بنصب مواقع على المفعولية وعلى رواية
غير المستملي بحذف إني أرى يكون بدلاً من ما أرى (خلال
بيوتكم) بكسر الخاء المعجمة أي وسطها وخلال نصب مفعول
ثانٍ. قال شارح المشكاة: والأقرب إلى الذوق أن
(4/269)
يكون حالاً (كمواقع القطر) أي المطر وهو
كناية عن كثرة وقوع الفتن بالمدينة والرؤية هنا بمعنى
النظر أي كشف لي فأبصرتها عيانًا.
وقد سبق هذا الحديث في أواخر الحج ويأتي إن شاء الله تعالى
بعون الله وقوّته في كتاب الفتن.
2468 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- قَالَ: "أَلَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ
أَسْأَلَ عُمَرَ -رضي الله عنه- عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى
اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، فَحَجَجْتُ مَعَهُ،
فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ،
حَتَّى جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ
فَتَوَضَّأَ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ
الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّتَانِ قَالَ لَهُمَا: {إِنْ
تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} فَقَالَ: وَاعَجَبِي لَكَ يَا
ابْنَ عَبَّاسٍ، عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ
عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ
وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ
زَيْدٍ -وَهْيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ- وَكُنَّا
نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ
يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ
الْيَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ
فَعَلَ مِثْلَهُ. وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ
النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا
هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ
نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ،
فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ
أَنْ تُرَاجِعَنِي. فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ
أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيُرَاجِعْنَهُ،
وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى
اللَّيْلِ. فَأَفْزَعَنِي. فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ
مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ. ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِي
فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ أَىْ حَفْصَةُ،
أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟
فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ،
أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَهْلِكِينَ؟ لاَ
تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَىْءٍ وَلاَ
تَهْجُرِيهِ. وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ. وَلاَ
يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ
وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (يُرِيدُ عَائِشَةَ). وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا
أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ
صَاحِبِي يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ عِشَاءً فَضَرَبَ
بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ: أَنَائِمٌ هُوَ؟
فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ
عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هُوَ، أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ:
لاَ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ، طَلَّقَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءَهُ.
قَالَ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ. كُنْتُ أَظُنُّ
أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ فَجَمَعْتُ عَلَىَّ
ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَخَلَ مَشْرُبَةً
لَهُ فَاعْتَزَلَ فِيهَا. فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ،
فَإِذَا هِيَ تَبْكِي. قُلْتُ مَا يُبْكِيكِ، أَوَ لَمْ
أَكُنْ حَذَّرْتُكِ؟ أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَتْ: لاَ
أَدْرِي، هُوَ ذَا فِي الْمَشْرُبَةِ. فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ
الْمِنْبَرَ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ،
فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلاً. ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ
فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ
لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ
فَكَلَّمَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ
فَصَمَتَ. فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ
الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. ثُمَّ غَلَبَنِي مَا
أَجِدُ، فَجِئْتُ -فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَجَلَسْتُ مَعَ
الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. ثُمَّ غَلَبَنِي
مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلاَمَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ
لِعُمَرَ -فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَلَمَّا وَلَّيْتُ
مُنْصَرِفًا فَإِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِي قَالَ: أَذِنَ
لَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ
عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ، مُتَّكِئٌ
عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ
نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَىَّ فَقَالَ: لاَ. ثُمَّ
قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ
نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ
تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ... فَذَكَرَهُ. فَتَبَسَّمَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ثُمَّ
قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ
فَقُلْتُ لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ
أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يُرِيدُ عَائِشَةَ)،
فَتَبَسَّمَ أُخْرَى. فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ
تَبَسَّمَ. ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ
فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ
غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ
فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ
وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا
وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَكَانَ مُتَّكِئًا
فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟
أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
اسْتَغْفِرْ لِي. فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ
أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ:
مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، مِنْ شِدَّةِ
مَوْجَدَتِهِ
عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ. فَلَمَّا مَضَتْ
تِسْعٌ وَعِشْرُونَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ
بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ
لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا
لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ
تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ
آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ
فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، وَلاَ عَلَيْكِ
أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ.
قَالَتْ: قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا
يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِكَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ
قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ}
-إِلَى قَوْلِهِ- {عَظِيمًا} " قُلْتُ: أَفِي هَذَا
أَسْتَأْمِرُ أَبَوَىَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. ثُمَّ خَيَّرَ
نِسَاءَهُ. فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) نسبه لجده واسم أبيه عبد
الله المخزومى مولاهم المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد
الإمام (عن عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب)
محمد بن مسلم الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد
الله بن عبد الله بن أبي ثور) بالمثلثة وضم العين وفتح
الموحدة في العبد الأول المدني مولى بني نوفل (عن عبد الله
بن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: لم أزل حريصًا على أن
أسأل عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- عن المرأتين من أزواج
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللتين قال
الله) عز وجل (لهما {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما})
[التحريم: 4] (فحججت معه) ولابن مردويه في رواية يزيد بن
رومان عن ابن عباس أردت أن أسأل عمر فكنت أهابه حتى حججنا
معه فلما قضينا حجنا (فعدل) عن الطريق المسلوكة إلى طريق
لا تسلك غالبًا ليقضي حاجته (وعدلت معه بالإداوة) بكسر
الهمزة إناء صغير من جلد يتخذ للماء كالسطيحة (فتبرز) أي
خرج إلى الفضاء لقضاء حاجته (حتى) ولأبي ذر: ثم (جاء) من
البراز (فسكبت على يديه) ماء (من الإداوة فتوضأ فقلت) له
عقب وضوئه (يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللتان قال لهما)
ولأبي ذر قال الله عز وجل لهما: ({إن تتوبا إلى الله}) أي
من التعاون والتظاهر على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال) ولأبي ذر: إن تتوبا إلى الله
فقد صغت قلوبكما. فقال أي عمر: (واعجبي لك يا ابْنَ عباس)
بكسر الموحدة وسكون المثناة التحتية، وللأصيلي وأبي ذر عن
الحموي: واعجبًا بالتنوين نحو: يا رجلاً وفي نسخة مقابلة
على اليونينية أيضًا بالألف في آخره من غير تنوين نحو:
وازيدا.
قال الكرماني: يندب على التعجب وهو إما تعجب من ابن عباس
كيف خفي عليه هذا الأمر مع شهرته بينهم بعلم التفسير وإما
من جهة حرصه على سؤاله عما لا يتنبه له إلا الحريص على
العلم من تفسير ما أبهم في القرآن.
وقال ابن مالك في التوضيح: "وا" في قوله واعجبًا اسم فعل
إذا نوّن عجبًا بمعنى أعجب
ومثله وي وجيء بقوله عجبًا توكيدًا وإذا لم ينوّن فالأصل
فيه واعجبي فأبدلت المثناة التحتية ألفًا وفيه
استعمال "وا" في غير الندبة كما هو رأي المبرد، وقال
الزمخشري قاله تعجبًا كأنه كره ما سأله عنه
(عائشة وحفصة) هما المرأتان اللتان قال الله تعالى لهما:
{إن تتوبا إلى الله}.
(ثم استقبل عمر) -رضي الله عنه- (الحديث) حال كونه (يسوقه
فقال: إني كنت وجار لي من الأنصار) هو عتبان بن مالك بن
عمرو العجلاني الخزرجي كما عن ابن بشكوال، والصحيح أنه أوس
بن خولي بن عبد الله بن الحرث الأنصاري كما سماه ابن سعد
من وجه آخر عن الزهري عن عروة عن عائشة في حديث ولفظه:
فكان عمر مواخيًا أوس بن خولي لا يسمع شيئًا إلا حدّثه ولا
يسمع عمر شيئًا إلا حدّثه فهذا هو المعتمد، ولا يلزم من
كونه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آخى بين عتبان
وعمر أن يتجاوزا. فالأخذ بالنص مقدّم على الأخذ بالاستنباط
وقوله وجار بالرفع عطفًا على الضمير المرفوع المتصل الذي
في كنت بدون فاصل على مذهب الكوفيين وهو قليل.
وفي رواية في باب التناوب في كتاب العلم كنت أنا وجار لي
وهذا مذهب البصريين لأن عندهم لا يصح العطف بدون إظهار أنا
حتى لا يلزم عطف الاسم على الفعل والكوفيون لا يشترطون ذلك
وجوّز الزركشي والبرماوي النصب، وقال الكرماني إنه الصحيح
عطفًا على الضمير في قوله "إني".
قال في المصبيح: لكن الشأن في الرواية وأيضًا فالظاهر أن
قوله (في بني أمية بن زيد) بضم الهمزة خبر كان وجملة كان
ومعموليها خبر إن فإذا جعلت جارًا معطوفًا على اسم إن لم
يصح كون الجملة المذكورة خبرًا لها إلا بتكلف حذف لا داعي
له انتهى.
وقوله في بني أمية في موضع جر صفة لسابقه أي وجار لي من
الأنصار
(4/270)
كائنين في بني أمية بن زيد (وهي) أي
أمكنتهم (من عوالي المدينة) القرى التي بقربها وأدناها
منها على أربعة أميال وأقصاها من جهة نجد ثمانية (وكنا
نتناوب النزول على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فينزل هو يومًا و) أنا (أنزل يومًا) والفاء
تفسيرية للتناوب المذكور (فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم
من الأمر) أي الوحي إذ اللام للأمر المعهود بينهم أو
الأوامر الشرعية (وغيره) من الحوادث الكائنة عنده -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وإذا نزل) أي جاري (فعل
مثله) أي مثل الذي أفعله معه من الأخبار بأمر الوحي وغيره
(وكنا معشر قريش نغلب النساء) أي نحكم عليهن ولا يحكمن
علينا (فلما قدمنا على الأنصار) أي المدينة (إذا هم) أي
فاجأناهم (قوم) ولأبي ذر عن الكشميهني: إذ هم بسكون الذال
قوم (تغلبهم نساؤهم) فليس لهم شدة وطأة عليهن (فطفق
نساؤنا) أي أخذن (يأخذن من أدب نساء الأنصار) بالدال
المهملة أي من سيرتهن وطريقتهن كذا وجدته في جميع ما وقفت
عليه من الأصول المعتمدة، وقال الحافظ ابن حجر: إنه بالراء
قال وهو العقل (فصحت على امرأتي) أي رفعت صوتي عليها
(فراجعتني) ردّت عليّ الجواب (فأنكرت أن تراجعني) أي
تراددني في القول (فقالت: ولم تنكر أن أراجعك فوالله إن
أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ليراجعنه) بسكون العين (وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى
الليل) بجر الليل بحتى، وفي رواية عبيد بن حنين
عند المؤلّف في تفسير سورة التحريم وإن ابنتك لتراجع رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يظل يومه
غضبان، (فأفزعني) كلامها ولأبي ذر عن الكشميهني: فأفزعتني
أي المرأة (فقلت: خابت) بتاء التأنيث الساكنة ولغير
الكشميهني: خاب (من فعلت منهن) ذلك (بعظيم) أي بأمر عظيم
وفي نسخة لعظيم بلام مفتوحة بدل الموحدة، وللكشميهني جاءت
من المجيء من فعل منهن بعظيم (ثم جمعت عليّ ثيابي) أي
لبستها جميعًا (فدخلت على حفصة) يعني ابنته (فقلت أي) أي
يا (حفصة أتغاضب إحداكن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اليوم حتى الليل)؟ بالجر (فقالت: نعم)
إنّا لنراجعه (فقلت: خابت وخسرت) أي من غاضبته (أفتامن)
التي تغاضبه منكنّ (أن يغضب الله) عليها (لغضب رسوله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتهلكين) بكسر اللام
وفي آخره نون. قال أبو علي الصدفي: والصواب أفتأمنين وفي
آخره فتهلكي أي بحذف النون كذا قال وليس بخطأ لإمكان
توجيهه، وقال البرماوي كالكرماني: القياس فيه حذف النون
فتأويله فأنت تهلكين، وقال في المصابيح بكسر اللام وفتح
الكاف وفاعله ضمير الأوّل (لا تستكثري على رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي لا تطلبي منه
الكثير (ولا تراجعيه في شيء) أي، لا ترادديه في الكلام
(ولا تهجريه) ولو هجرك (واسأليني) بسكون السين وبعدها همزة
مفتوحة ولأبي ذر: وسليني بفتح السين وإسقاط الهمزة (ما بدا
لك) أي ظهر لك من الضرورات (ولا يغرّنك) بنون التوكيد
الثقيلة (أن كانت) بفتح الهمزة وتخفيف النون أي بأن كانت
(جارتك) أي ضرتك والعرب تطلق على الضرة جارة لتجاورهما
المعنوي ولكونهما عند شخص واحد وإن لم يكن حسيًّا (هي
أوضأ) بفتح الهمزة وسكون الواو وبعد الضاد المعجمة
المفتوحة همزة من الوضاءة أي ولا يغرنك كون ضرّتك أجمل
وأنظف (منك وأحب إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ولغير أبي ذر أوضأ وأحب بالنصب فيهما خبر كان
ومعطوفًا عليه (يريد) عمر -رضي الله عنه- بجارتها الموصوفة
بالوضاءة (عائشة) -رضي الله عنها-، والمعنى، تغترّي بكون
عائشة تفعل ما نهيتك عنه فلا يؤاخذها بذلك فإنها تدل
بجمالها ومحبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فيها فلا تغتري أنت بذلك لاحتمال أن لا تكوني عنده في تلك
المنزلة فلا يكون لك من الإدلال مثل الذي لها.
(وكنّا تحدّثنا) وفي نسخة عليها علامة السقوط في اليونينية
حدّثنا بإسقاط المثناة الفوقية وضم الحاء وكسر الدال
المهملة المشددة (أن غسان)
(4/271)
بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة
وبعد الألف نون رهطًا من قحطان نزلوا حين تفرقوا من مأرب
بماء يقال له غسان فسموا بذلك وسكنوا بطرف الشام (تنعل)
بضم المثناة الفوقية وبعد النون الساكنة عين مهملة مكسورة
الدواب (النعال) بكسر النون وفيه حذف أحد المفعولين للعلم
به وللحموي والمستملي: تنتعل بمثناتين فوقيتين مفتوحتين
بينهما نون ساكنة وفي باب موعظة الرجل ابنته من النكاح
تنعل الخيل (لغزونا) معشر المسلمين (فنزل صاحبي) الأنصاري
المسمى عتبان بن مالك على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (يوم نوبته) فسمع اعتزال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن زوجاته (فرجع) إلى العوالي
(عشاء) نصب على الظرفية أي في عشاء فجاء إليّ (فضرب بابي
ضربًا شديدًا وقال: أنائم هو) بهمزة الاستفهام على سبيل
الاستخبار ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي: أثم هو بفتح
المثلثة أي في البيت وذلك لبطء إجابتهم له فظن أنه خرج من
البيت قال عمر رضي الله
عنه: (ففزعت) بكسر الزاي أي خفت لأجل الضرب الشديد (فخرجت
إليه وقال: حدث أمر عظيم: قلت: ما هو أجاءت غسان) وفي
رواية عبيد بن حنين جاء الغساني واسمه كما في تاريخ ابن
أبي خيثمة والمعجم الأوسط للطبراني جبلة بن الأيهم. (قال:
لا بل أعظم منه وأطول طلّق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نساءه) وعند ابن سعد من حديث عائشة
فقال الأنصاري: أعظم من ذلك ما أرى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا وقد طلّق نساءه فوقع طلق
مقرونًا بالظن، وفي جميع الطرق عن عبيد الله بن عبد الله
بن أبي ثور طلق بالجزم فيحتمل أن يكون الجزم وقع من إشاعة
بعض أهل النفاق فتناقله الناس وأصله ما وقع من اعتزاله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك ولم تجر عادته
بذلك فظنوا أنه طلقهن (قال): أي عمر (قد خابت حفصة وخسرت)
خصّها بالذكر لمكانتها منه لكونها ابنته ولكونه كان قريب
العهد بتحذيرها من وقوع ذلك (كنت أظن أن هذا يوشك) بكسر
الشين (أن يكون) أي يقرب كونه لأن المراجعة قد تفضي إلى
الغضب المفضي إلى الفرقة (فجمعت عليَ ثيابي) أي لبستها
(فصليت صلاة الفجر مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فدخل مشربة) بفتح الميم وسكون الشين المعجمة
وضم الراء وفتح الموحدة غرفة (له فاعتزل فيها فدخلت على
حفصة فإذا هي تبكي قلت: ما يبكيك أو لم أكن حذّرتك)؟ أي من
أن تغاضبي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أو تراجعيه أو تهجريه زاد في رواية سماك بن الوليد عند
مسلم لقد علمت أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لا يحبك ولولا أنا لطلّقك فبكت أشد البكاء،
وذلك لما اجتمع عندها من الحزن على فراق النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولما تتوقعه من شدة غضب أبيها
وقد قال لها فيما أخرجه ابن مردويه والله إن كان طلّقك لا
أكلمك أبدًا ثم استفهمها عما سمعه فقال: (أطلقكنّ رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قالت: لا أدري
هو ذا في المشربة فخرجت) من بيت حفصة (فجئت المنبر فإذا
حوله رهط) لم يسموا (يبكي بعضهم فجلست معهم قليلاً ثم
غلبنى ما أجد) أي من شغل قلبه بما بلغه من تطليقه عليه
الصلاة والسلام نساءه ومن جملتهن بنته وفي ذلك من المشقّة
ما لا يخفى (فجئت المشربة التي هو) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فيها) وفي نسخة التي فيه وفي الفرع
علامة السقوط على قوله هو فيها ثم كتب بالهامش الذي فيه
بالتذكير وإسقاط هو وصحح على ذلك (فقلت لغلام له أسود)
اسمه رباح بفتح الراء والموحدة المخففة وبعد الألف حاء
مهملة وسقط لفظ له في رواية أبي ذر (استأذن عمر فدخل فكلم
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم خرج فقال:
ذكرتك له) عليه الصلاة والسلام (فصمت) قال عمر -رضي الله
عنه-: (فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ثم
غلبني ما أجد فجئت فذكر مثله) ولأبي ذر فجئت فقلت للغلام
أي استأذن لعمر فذكر مثله (فجلست مع الرهط الذين عند
المنبر ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت: استأذن لعمر
فذكر مثله
(4/272)
فلما وليت) حال كوني (منصرفًا فإذا الغلام)
فاجأني (يدعوني قال: أذن لك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي في الدخول (فدخلت عليه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فإذا هو مضطجع على رمال
حصير) بكسر الراء والإضافة ما رمل أي نسج من حصير وغيره
(ليس بينه) عليه الصلاة والسلام (وبينه) أي الحصير (فراش
قد أثر الرمال بجنبه) الشريف وهو (متكيء على وسادة من أدم)
بفتحتين جلد مدبوغ (حشوها ليف فسلمت عليه ثم قلت وأنا
قائم: طلقت) أي أطلقت (نساءك)؟ فهمزة الاستفهام مقدّرة
(فرفع) عليه الصلاة والسلام (بصره) الشريف (إليّ فقال):
(لا ثم قلت وأنا قائم أستانس) أي أتبصر هل يعود -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الرضا أو هل أقول قولاً
أطيب به قلبه وأسكن غضبه (يا رسول الله لو رأيتني) بفتح
التاء (وكنا معشر قريش) بسكون العين (نغلب النساء فلما
قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم فذكره) أي السابق من القصة
(فتبسم النبي) ولغير أبي ذر وكريمة فتبسم رسول الله
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم قلت: لو رأيتني
ودخلت على حفصة فقلت: لا يغرّنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك
وأحب) بالرفع فيهما لأبي ذر ولغيره أوضأ وأحب بنصبهما خبر
كان ومعطوفًا عليه (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يريد عائشة فتبسم) عليه الصلاة والسلام (أخرى،
فجلست حين رأيته تبسم ثم رفعت بصري) أي نظرت (في بيته
فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر غير أهبة ثلاثة) بفتح
الهمزة والهاء جمع إهاب الجلد قبل أن يدبغ أو مطلقًا،
ولأبي ذر عن الكشميهني: ثلاث بغير هاء (فقلت: ادع الله)
ليوسع (فليوسع على أمتك) فالفاء عطف على محذوف فكرر لفظ
الأمر الذي هو بمعنى الدعاء للتأكيد قاله الكرماني (فإن
فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله
وكان) عليه الصلاة والسلام (متكئًا) فجلس (فقال: أو في شك
أنت يا ابن الخطاب) بفتح الهمزة والواو للإنكار التوبيخي
أي أأنت في شك في أن التوسع في الآخرة خير من التوسع في
الدنيا (أولئك) فارس والروم (قوم عجلت لهم طيباتهم في
الحياة الدنيا فقلت يا رسول الله استغفر لي) أي عن جراءتي
بهذا القول في حضرتك أو عن اعتقادي من التجملات المدنيوية
مرغوب فيها قال عمر -رضي الله عنه-.
(فاعتزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أجل
ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة) وهو أنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خلا بمارية في يوم عائشة
وعلمت حفصة بذلك فقال لها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "اكتمى عليّ
وقد حومت مارية على نفسي"
فأفشت حفصة إلى عائشة فغضبت عائشة حتى حلف النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لا يقربها شهرًا وهو معنى
قوله (وكان قد قال) عليه الصلاة والسلام: (ما أنا بداخل
عليهن) أي نسائه (شهرًا من شدة موجدته) بفتح الميم وسكون
الواو وكسر الجيم وفتحها في الفرع كأصله مصدر ميمي أي غضبه
(عليهن حين عاتبه الله) وللكشميهني حتى عاتبه الله أي
بقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك
تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم: 1].
والذي في الصحيحين أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها
فتواطأت عائشة وحفصة على أن أيتهما دخًا عليها فلتقل له
أكلت مغافير إني أجد منك ريح مغافير فقال: "لا ولكني كنت
أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ولن أعود له وقد حلفت لا
تخبري بذلك أحدًا" فقد اختل فى الذي حرمه على نفسه وعوتب
على تحريمه كما اختلف في سبب حلفه، والأول رواه جماعة يأتي
ذكرهم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة التحريم.
وعند ابن مردويه عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمارية بيت حفصة فجاءت
فوجدتها معه فقالت: يا رسول الله في بيتي تفعل هذا معي دون
نسائك فحلف لها لا يقربها وقال: "هي حرام" فيحتمل أن تكون
الآية نزلت في الشيئين معًا.
ووقع عند ابن مردويه في رواية يزيد بن رومان عن عائشة ما
يجمع القولين وفيه أن حفصة أهديت لها عكة فيها عسل
(4/273)
وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذا دخل عليها حبسته حتى تلعقه أو تسقيه منها
فقالت عائشة لجارية عندها حبشية يقال لها خضراء: إذا دخل
على حفصة فانظري ما تصنع فأخبرتها الجارية بشأن العسل
فأرسلت إلى صواحبها فقالت: إذا دخل عليكن فقلن إنّا نجد
منك ريح مغافير، فقال: هو عسل والله لا أطعمه أبدًا فلما
كان يوم حفصة استأذنته أن تأتي أباها فأذن لها فذهبت فأرسل
إلى جاريته مارية فأدخلها بيت حفصة قالت حفصة: فرجعت فوجدت
الباب مغلقًا فخرج ووجهه يقطر وحفصة تبكي فعاتبته فقال:
"أشهدك أنها حرام انظري لا تخبري بهذا امرأة وهي عندك
أمانة" فلما خرج قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة
فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قد حرم أمته فنزلت أي: {يا أيها النبي لم تحرم
ما أحل الله لك}.
(فلما مضت تسع وعشرون) ليلة (دخل) عليه الصلاة والسلام
(على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة: إنك أقسمت أن لا تدخل
علينا شهرًا وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلة) باللام وللحموي
والمستملي بتسع بالموحدة بدل اللام (أعدها عدًّا فقال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(الشهر) الذي آليت فيه (تسع وعشرون وكان ذلك الشهر) وجد
(تسع وعشرون) وفي رواية تسعًا وعشرين بالنصب خبر كان
الناقصة. (قالت عائشة) -رضي الله عنها- (فأنزلت آية
التخيير) الآتية (فبدأ بي أوَل امرأة فقال) ولأبي الوقت
قال: (إني ذاكر لك أمرًا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري
أبويك) أي لابأس عليك في عدم التعجيل أو لا زائدة أي ليس
عليك التعجيل والاستئمار (قالت قد أعلم أن أبويّ لم يكونا
يأمراني بفراقه) ولأبي ذر بفراقك (ثم قال) عليه الصلاة
والسلام (إن الله) عز وجل (قال: {يا أيها النبي قل
لأزواجك} إلى قوله (عظيمًا}) [الأحزاب: 28، 29] سقط لفظ
قوله لأبي ذر وهذه آية التخيير المذكورة. (قلت أفي هذا
أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم خير)
عليه الصلاة والسلام (نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة) نريد
الله ورسوله والدار الآخرة.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: فدخل مشربة له لأن
المشربة هي الغرفة، وكان البخاري يكفيه أن يكتفي من هذا
الحديث بقوله مثلاً ودخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مشربة له فاعتزل كما هو شأنه وعادته، والظاهر
أنه تأسى بعمر -رضي الله عنه- في سياق الحديث بتمامه، وكان
يكفيه في جواب سؤال ابن عباس أن يكتفي بقوله عائشة وحفصة
لكنه ساق القصة كلها لما في ذلك من زيادة شرح وبيان.
وفي هذا الحديث فوائد جمة يأتي الكلام عليها في محالها إن
شاء الله تعالى بمنّه وعونه.
2469 - : حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا
الْفَزَارِىُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ - رضى
الله عنه - قَالَ: "آلَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَكَانَتِ
انْفَكَّتْ قَدَمُهُ، فَجَلَسَ فِى عِلِّيَّةٍ لَهُ؛
فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ:
أَطَلَّقْتَ نِسَاءَك؟ َ قَالَ: لاَ، وَلَكِنِّي آلَيْتُ
مِنْهُنَّ شَهْرًا. فَمَكُثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ
نَزَلَ فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (ابن سلام)
بتخفيف اللام هو محمد قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا
(الفزاري) بفتح الفاء والزاي المخففة وبالراء هو مروان بن
معاوية بن الحرث بن أسماء الكوفي نزيل مكة ودمشق (عن حميد
الطويل عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال آلى) بهمزة مفتوحة
ممدودة أي حلف (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من نسائه شهرًا وكانت انفكت قدمه) أي انفرجت
والفك انفراج المنكب أو القدم عن مفصله (فجلس في عليّة له
فجاء عمر) -رضي الله عنه- إليه في عليته (فقال: أطلقت
نساءك؟ فقال) عليه الصلاة والسلام:
(لا ولكني آليت منهن شهرًا فمكث) بضم الكاف (تسعًا وعشرين)
يومًا (ثم نزل) من العلية (فدخل على نسائه) وللحموي
والمستملي على عائشة وتأتي إن شاء الله تعالى مباحث هذا
الحديث مستوفاة في كتاب النكاح.
26 - باب مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْبَلاَطِ، أَوْ
بَابِ الْمَسْجِدِ
(باب من عقل) أيَ شدّ (بعيره) بالعقال (على البلاط) بفتح
الموحدة (أو) عقله على (باب المسجد).
2470 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ قَالَ:
أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-
قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الْمَسْجِدَ فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَعَقَلْتُ
الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ فَقُلْتُ: هَذَا
جَمَلُكَ، فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ قَالَ:
الثَّمَنُ وَالْجَمَلُ لَكَ".
وبه قال) (حدّثنا مسلم) هو ابن إبراهيم قال: (حدّثنا أبو
عقيل) بفتح العين وكسر القاف بشير بن عقبة الدورقي قال:
(حدّثنا أبو المتوكل) عليّ (الناجي) بالنون والجيم (قال
أتيت جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- قال:
دخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسجد
فدخلت
(4/274)
إليه وعقلت الجمل) أي الذي اشتراه منه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في السفر (في ناحية
البلاط) الحجارة المفروشة عند باب المسجد (فقلت) يا رسول
الله (هذا جملك) الذي ابتعته مني (فخرج) عليه الصلاة
والسلام من المسجد (فجعل يطيف) أي يلم (بالجمل) ويقاربه
(قال) عليه الصلاة والسلام (الثمن) أي ثمن الجمل (والجمل
لك) ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: وعقلت الجمل في ناحية
البلاط فإنه يستفاد منه جواز ذلك إذا لم يحصل به ضرر،
وقوله أو باب المسجد هو بالاستنباط من ذلك. وقال في
المصابيح: يشير بالترجمة إلى أن مثل هذا الفعل لا يكون
موجبًا للضمان. قال ابن المنير: ولا ضمان على من ربط دابته
بباب المسجد أو السوق لحاجة عارضة إذا رمحت ونحوه بخلاف من
يعتاد ذلك ويجعله مربطًا لها دائمًا وغالبًا فيضمن.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في البيوع.
27 - باب الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْم
(باب) جواز (الوقوف والبول عند سباطة قوم) بضم السين
المهملة الكناسة أو هي المزبلة ومعناهما متقارب لأن
الكناسة الزبل الذي يكنس.
2471 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ شُعْبَةَ
عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ -رضي
الله عنه- قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ قَالَ: لَقَدْ
أَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي بالمعجمة المهملة
البصري قاضي مكة (عن شعبة) بن الحجاج بن الورد الواسطي
البصري (عن منصور) هو ابن المعتمر السلمي الكوفي أحد
الأعلام (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة الكوفي (عن حذيفة -رضي
الله عنه-) أنه (قال: لقد رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو قال لقد أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سباطة قوم) بضم المهملة وبعدها موحدة
مزبلتهم وكناستهم تكون بفناء الدور مرفقًا لأهلها وتكون في
الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل وإضافتها إلى
القوم إضافة اختصاص لا ملك لأنها لا تخلو عن النجاسة (فبال
قائمًا) لبيان الجواز أو لجرح كان في مأبضه أي باطن ركبته
لم يتمكن لأجله من القعود أو يستشفي به من وجع الصلب أو
لغير ذلك مما سبق في كتاب الوضوء والغرض منه هنا جواز
البول في السباطة وإن كانت لقوم معينين لأنها أعدّت لإلقاء
النجاسات المستقذرات والله أعلم.
28 - باب مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ وَمَا يُؤْذِي النَّاسَ
فِي الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ
(باب) ثواب (من أخذ) ولأبي ذر عن الكشميهني: من أخر
(الغصن) الذي يؤذي المارين (و) ثواب من أخذ (ما يؤذي الناس
في الطريق) وفي نسخة في الطرق بلفظ الجمع (فرمى به) في غير
المطريق.
2472 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ
عَنْ سُمَىٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي
بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ
اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي وسقط قوله ابن
يوسف لغير أبي ذر قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن سميّ) بضم
المهملة وفتح الميم وتشديد الياء مولى أبي بكر بن عبد
الرحمن بن الحرث بن هشام (عن أبي صالح) ذكوان الزيات (عن
أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(بينما) بالميم (رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك) زاد أبو ذر
على الطريق (فأخذه) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: فأخره
(فشكر الله له) أي أثنى عليه أو قبل عمله (فغفر له).
29 - باب إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ
-وَهْيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ- ثُمَّ
يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ، فَتُرِكَ مِنْهَا
الطَّرِيقُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ
هذا (باب) بالتنوين (إذا اختلفوا في الطريق الميتاء) بكسر
الميم وسكون المثناة التحتية وبعد الفوقية ألف ممدودة التي
لعامة الناس (وهي الرحبة) الواسعة (وتكون بين الطريق ثم
يريد أهلها) أصحابها (البنيان فترك) ولأبي الوقت في نسخة:
فيترك (منها الطريق سبعة) وفي نسخة سبع (أذرع) بالذال
المعجمة ولأبي ذر فترك منها للطريق سبعة أذرع لتسلكها
الأحمال والأثقال دخولاً وخروجًا وتسع ما لا بدّ لهم من
طرحه عند الأبواب، ويلتحق بأهل البنيان من قعد للبيع في
حافة الطريق فإن كانت طريق أزيد من سبعة أذرع لم يمنع من
القعود في الزائد وإن كان آقل منع منه لئلا يضيق الطريق
على غيره.
2473 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ عَنْ
عِكْرِمَةَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: "قَضَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ
أَذْرُعٍ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
جرير بن حازم) بالجيم في الأول والحاء المهملة والزاي في
الثاني ابن زيد بن عبد الله الأزدي البصري (عن الزبير بن
خرّيت) بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة وبعد التحتية
الساكنة مثناة فوقية البصري (عن عكرمة) مولى ابن عباس أنه
قال (سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: قضى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا تشاجروا) بالشين
المعجمة والجيم أي
(4/275)
تخاصموا (في الطريق الميتاء بسبعة أذرع)
متعلق بقوله قضى وسقط الميتاء في رواية المستملي والحموي
كذا في فرع اليونينية. وقال الحافظ ابن حجر: وتبعه العيني
زاد المستملي في روايته الميتاء ولم يتابع عليه وليست
بمحفوظة في حديث أبي هريرة وإنما ذكرها المؤلّف في الترجمة
مشيرًا بها إلى ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته وذلك فيما
أخرجه عبد الرزاق عن ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إذا اختلفتم في الطريق الميتاء
فاجعلوها سبعة أذرع" أي يجعل قدر الطريق المشتركة سبعة
أذرع ثم يبقى بعد ذلك لكل واحد من الشركاء في الأرض قدر ما
ينتفع به ولا يضر غيره قال الزركشي تبعًا للأذرعي ومذهب
الشافعي اعتبار قدر الحاجة والحديث محمول عليه فإن ذلك عرف
المدينة صرح بذلك الماوردي والروياني.
30 - باب النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ
وَقَالَ عُبَادَةُ بَايَعْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لاَ نَنْتَهِب.
(باب النهبى) بضم النون وسكون الهاء وفتح الموحدة (بغير
إذن صاحبه) أي صاحب الشيء المنهوب. (قال عبادة) بن الصامت
الأنصاري مما وصله المؤلّف في وفود الأنصار: (بايعنا النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن لا ننتهب) لأنه
كان من شأن الجاهلية انتهاب ما يحصل لهم من الغارات فوقعت
البيعة على الزجر عن ذلك.
2474 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ -وَهُوَ جَدُّهُ
أَبُو أُمِّهِ- قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ".
[الحديث 2474 - طرفه في: 5516].
وبه قال: (حدّثنا آدم بن أبي إياس) بكسر الهمزة قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا عدي بن ثابت)
الأنصاري الكوفي قال: (سمعت عبد الله بن يزيد) من الزيادة
الخطمي (الأنصاري) وللكشميهني ابن زيد قال ابن حجر وهو
تصحيف (وهو) يعني عبد الله بن يزيد (جدّه) أي جدّ عدي بن
ثابت (أبو أمه) فاطمة واختلف في سماع عبد الله بن يزيد هذا
من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال
الدارقطني له ولأبيه صحبة وشهد بيعة الرضوان وهو صغير
(قال):
(نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن النهبى
والمثلة) بضم الميم وسكون المثلثة العقوبة الفاحشة في
الأعضاء كجدع الأنف وقطع الأذن ونحوهما.
2475 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي
حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ
حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ
يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً
يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ
يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ». وَعَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ... مِثْلَهُ، إِلاَّ
النُّهْبَةَ. قَالَ الفَرْبَرِيُّ: وَجَدتُ بِخَطِّ أبَيِ
جَعْفَرٍ: "قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: تَفْسِيرُهُ أَنْ
يَنزَعَ مِنهُ، يُرِيدُ الإِيمان" [الحديث 2475 - أطرافه
في: 5578، 6772، 6810].
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن عفير) بضم العين وفتح الفاء
(قال: حدّثني) بالإفراد (الليث) بن سعد الإمام قال:
(حدّثنا عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب)
محمد بن مسلم الزهري (عن أبي بكر بن عبد الرحمن) بن الحرث
بن هشام بن المغيرة المخزومي المدني (عن أبي هريرة رضي
الله عنه) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) كامل (ولا يشرب) هو أي
الشارب (الخمر حين يشرب وهو مؤمن) أي كامل ففي يشرب ضمير
مستتر مرفوع على الفاعلية راجع إلى الشارب الدالّ عليه
يشرب بالالتزام لأن يشرب يستلزم شاربًا وحسن ذلك تقدم
نظيره وهو لا يزني الزاني وليس براجع إلى الزاني لفساد
المعنى، وقول الزركشي فيه حذف الفاعل بعد النفي فإن الضمير
لا يرجع إلى الزاني
بل لفاعل مقدّر دلّ عليه ما قبله أي ولا يشرب الشارب
الخمر، تعقبه العلاّمة البدر الدماميني فقال في كلامه
تدافع فتأمله، ووجه التدافع كونه قال فيه حذف الفاعل ثم
قال فإن الضمير لا يرجع إلى الزاني بل لفاعل مقدّر لأن
الفاعل عمدة فلا يحذف وإنما هو ضمير مستتر في الفعل (ولا
يسرق) أي السارق (حين يسرق وهو مؤمن) كامل (ولا ينتهب)
الناهب (نهبة يرفع الناس إليه) أي إلى المنتهب (فيها) أي
في النهبة (أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) كامل فالمراد
سلب كمال الإيمان دون أصله أو المراد من فعل ذلك مستحلاًّ
له أو هو من باب الإنذار بزوال الإيمان إذا اعتاد هذه
المعاصي واستمر عليها.
وقال في المصابيح: انظر ما الحكمة في تقييد الفعل المنفي
بالظرف في الجميع أي لا يزني الزاني حين يزني ولا يشرب
الخمر حين يشربها ولا يسرق حين يسرق ولا ينتهب نهبة حين
ينتهبها ويظهر لي والله أعلم أن ما أضيف إليه الظرف هو من
باب التعبير عن الفعل بإرادته وهو كثير في كلامهم أي لا
يزني الزاني حين إرادته الزنا وهو مؤمن لتحقّق قصده
وانتفاء ما عداه بالسهو لوقوع الفعل منه في حين إرادته
وكذا البقية فذكر القيد لإفادة كونه متعمدًا لا عذر له
انتهى.
ومطابقة الحديث للترجمة
(4/276)
في قوله ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه
فيها أبصارهم لأنه يستفاد منه التقييد بالإذن في الترجمة
لأن رفع البصر إلى المنتهب في العادة لا يكون إلا عند عدم
الإذن، ومفهوم الترجمة أنه إذن جاز ومحله في المنهوب
المبتاع كالطعام يقدم للقوم فلكلٍّ منهم أن يأكل مما يليه
ولا يجذب من غيره إلا برضاه.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الحدود ومسلم في
الإيمان والنسائي في الأشربة وابن ماجة في الفتن.
(وعن سعيد) هو ابن المسيب (وأبي سلمة) بن عبد الرحمن بن
عوف (عن أبي هريرة) - رضي الله عنه- (عن النبي-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثله) أي مثل حديث أبي بكر بن
عبد الرحمن (إلا النهبة) فلم يذكرها فانفرد أبو بكر بن عبد
الرحمن بزيادتها.
(قال الفربري) محمد بن يوسف (وجدت بخط أبي جعفر) هو ابن
أبي حاتم ورّاق المؤلّف. (قال أبو عبد الله) أي المؤلّف
(تفسيره) أي تفسير قوله: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
(أن ينزع منه يريد الإيمان) كذا في فرعين لليونينية
وروايته فيها عن المستملي بلفظ يريد من الإرادة. وقال في
فتح الباري: نور الإيمان والإيمان هو التصديق بالجنان
والإقرار باللسان ونوره الأعمال الصالحة واجتناب المناهي
فإذا زنى أو شرب الخمر أو سرق ذهب نوره وبقي صاحبه في
الظلمة.
31 - باب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ
(باب كسر الصليب وقتل الخنزير).
2476 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا،
فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ
الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ
أَحَدٌ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) بن جعفر المديني البصري
قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا الزهري) محمد
بن مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب)
أنه (سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا تقوم الساعة) أي القيامة (حتى ينزل فيكم) أي في هذه
الأمة (ابن مريم) عيسى صلوات الله وسلامه عليه (حكمًا)
بفتح الحاء والكاف أي حاكمًا (مقسطًا) عادلاً في حكمه
فيحكم بالشريعة الحميدية (فيكسر الصليب) الذي اتخذه
النصارى زاعمين أن عيسى عيه الصلاة والسلام صلب على خشبة
على تلك الصورة وفي كسره له إشعار بأنهم كانوا على الباطل
في تعظيمه والفاء في قوله فيكسر الصليب تفصيلية لقوله
حكمًا مقسطًا (ويقتل الخنزير) بنصب يقتل عطفًا على فيكسر
المنصوب وكذا قوله (ويضع الجزية) يتركها فلا يقبل من
الكفار إلا الإسلام (ويفيض المال) بفتح الياء وكسر الفاء
والنصب عطفًا على السابق ولأبي ذر ويفيض بالرفع على
الاستئناف أي يكثر (حتى لا يقبله أحد) لعلمهم بقيام الساعة
وأشار المؤلّف بإيراد هذا الحديث هنا إلى أن من كسر صليبًا
أو قتل خنزيرًا لا يضمن لأنه فعل مأمورًا به، لكن محله إذا
كان مع المحاربين أو الذمي إذا جاوز الحد الذي عوهد
عليه فإذا لم يجاوزه وكسره مسلم كان متعديًّا لأنهم على
تقديرهم على ذلك يؤدون الجزية.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في أحاديث الأنبياء وتقدم من وجه
آخر في باب قتل الخنزير في أواخر البيوع، وأخرجه مسلم في
الإيمان وابن ماجة في الفتن.
32 - باب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا
الْخَمْرُ، أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ؟
فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ
مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ. وَأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي
طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَىْء.
هذا (باب) بالتنوين (هل تكسر الدنان) بكسر الدال جمع دن
الحب وهو الخابية فارسي معرّب (التي فيها الخمر) صفة
للدنان ولأبي ذر فيها خمر بالتنكير (أو تخرق الزقاق) بضم
التاء وفتح الخاء المعجمة والراء مبنيًّا للمفعول عطفًا
على هل تكسر الدنان والزقاق بكسر الزاي جمع زق أي التي
فيها الخمر أيضًا فيه تفصيل وإن كانت الأوعية بحيث تراق
وإذا غسلت طهرت وينتفع بها لم يجز إتلافها وإلاّ جاز، وقال
أبو يوسف وأحمد في رواية: إن كان الدن أو الزق لمسلم لم
يضمن، وقال محمد بن
الحسن وأحمد في رواية يضمن لأن الإراقة بغير الكسر ممكنة
وإن كان الدن لذمي، فقال الحنفية يضمن بلا خلاف لأنه مال
متقوّم في حقهم، وقال الشافعي وأحمد: لا يضمن لأنه غير
متقوّم في حق المسلم فكذا في حق الذمي وإن كان الدن لحربي
فلا يضمن بلا خلاف، وعن مالك زق الخمر لا يطهره الماء لأن
الخمر غاص فيه (فإن كسر صنمًا) ما يتخذ إلهًا من دون الله
ويكون من خشب وغيره حديد ونحاس وغيرهما (أو) كسر (صليبًا
أو طنبورًا) بضم الطاء والموحدة بينهما نون ساكنة آلة
(4/277)
مشهورة من آلات الملاهي (أو) كسر (ما لا
ينتفع بخشبه) قبل الكسر كآلات اللاهي المتخذة من الخشب فهو
تعميم بعد تخصيص وجزاء الشرط محذوف أي هل يضمن أو يجوز أو
فما حكمه؟
(وأتي) بضم الهمزة (شريح) هو ابن الحرث الكندي أدرك النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يلقه واستقضاه
عمر بن الخطاب على الكوفة أي أتاه اثنان (في طنبور كسر)
ادّعى أحدهما على الآخر أنه كسر طنبوره (فلم يقضِ فيه
بشيء) أي لم يحكم فيه بغرامة وهذا وصله ابن أبي شيبة.
2477 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ
مَخْلَدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ
بْنِ الأَكْوَعِ -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى نِيرَانًا
تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ: عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ
النِّيرَانُ؟ قَالُوا: عَلَى الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ.
قَالَ: اكْسِرُوهَا وَأَهْرِقُوهَا. قَالُوا: أَلاَ
نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: اغْسِلُوا".
قَالَ أَبُو عَبْدُ اللهِ: كَانَ ابنُ أَبِي أُوَيسٍ
يَقُولُ "الحمرِ الأنسيةِ" بنصبِ الألف والنون. [الحديث
2477 - أطرافه في: 4196، 5497، 6148، 6331، 6891].
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد) بفتح الميم
وسكون الخاء المعجمة النبيل البصري (عن يزيد بن أبي عبيد)
الأسلمي بن الأكوع (عن سلمة بن الأكوع) هو سلمة بن عمرو بن
الأكوع الأسلمي أبو مسلم شهد بيعة الرضوان وتوفي سنة أربع
وسبعين (-رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رأى نيرانًا توقد يوم) غزوة (خيبر) سنة سبع
(قال):
(على ما توقد هذه النيران) بإثبات ألف ما الاستفهامية مع
دخول الجار عليها وهو قليل، والنيران بكسر النون الأولى
جمع نار والياء منقلبة عن واو وللأصيلي قال علام بحذف ألف
ما الاستفهامية، ولأبي ذر فقال: علام بفاء قبل القاف وحذف
ألف ما (قالوا) ولأبي ذر قال (على الحمر) بضم المهملة
والميم (الإنسية) بكسر الهمزة وسكون النون نسبة إلى الإنس
بني آدم وثبت قوله على لأبي ذر وسقطت لغيره (قال) عليه
الصلاة والسلام (اكسروها) أي القدور (وأهرقوها) بسكون
الهاء ولأبي ذر وهريقوها بحذف الهمزة وزيادة مثناة تحتية
قبل القاف والهاء مفتوحة أي صبوها (قالوا) مستفهمين (ألا
نهريقها) بضم النون وفتح الهاء وبعد الراء المكسورة تحتية
ساكنة أي من غير كسر (ونغسلها قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مجيبًا لهم (اغسلوا) بحذف الضمير
المنصوب أي اغسلوها أي القدور وإنما قال ذلك عليه الصلاة
والسلام لاحتمال تغير اجتهاده أو أوحي إليه بذلك. وقال ابن
الجوزي: أراد التغليظ عليهم في طبخهم ما نهي عن أكله فلما
رأى إذعانهم اقتصر على غسل الأواني، وفيه رد على
من زعم أن دنّان الخمر لا سبيل إلى تطهيرها فإن الذي دخل
القدور من الماء الذي طبخت به الحمر نظيره، وقد أذن
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غسلها فدلّ على
إمكان تطهيرها.
وهذا الحديث تاسع ثلاثيات البخاري، وقد أخرجه أيضًا في
المغازي والأدب والذبائح والدعوات ومسلم في المغازي
وبالذبائح (قال أبو عبد الله) البخاري (كان ابن أبي أويس)
إسماعيل وهو شيخ المؤلّف وابن أخت الإمام مالك (يقول:
الحمر الأنسية بنصب الألف والنون) نسبة إلى الأنس بالفتح
ضد الوحشة. قال في فتح الباري: وتعبيره عن الهمزة بالألف
وعن الفتح بالنصب جائز عند المتقدمين وإن كان الاصطلاح
أخيرًا قد استقرّ على خلافه فلا يبادر إلى إنكاره انتهى.
وتعقبه العيني فقال: ليس هذا بمصطلح عند النحاة المتقدمين
والمتأخرين إنهم يعبّرون عن الهمزة بالألف وعن الفتح
بالنصب فمن ادّعى خلاف ذلك فعليه البيان بالهمزة ذات حركة
والألف مادة هوائية لا تقبل الحركة والفتح من ألقاب البناء
والنصب من ألقاب الإعراب وهذا مما لا يخفى على أحد.
2478 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
-رضي الله عنه- قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ وَحَوْلَ البيتِ
ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا
بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الآيَةَ". [الحديث 2478 - طرفاه في:
4287، 4720].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المدني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا ابن أبي نجيح) بفتح النون
وكسر الجيم وبعد التحتية الساكنة حاء مهملة عبد الله بن
يسار بالتحتية والسين المهملة المخففة (عن مجاهد) هو ابن
جبر (عن أبي معمر) بفتح الميمين وسكون المهملة بينهما عبد
الله بن سخبرة الأزدي الكوفي (عن عبد الله بن مسعود -رضي
الله عنه-) أنه (قال دخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مكة) في غزوة الفتح في رمضان سنة ثمان (وحول
البيت) وفي نسخة وهي التي في الفرع وأصله الكعبة (ثلاثمائة
وستون نصبًا) بضم النون والصاد المهملة وبالموحدة حجرًا
كانوا ينصبونه في الجاهلية ويتخذونه صنمًا يعبدونه والجمع
أنصاب والواو في قوله وحول البيت للحال (فجعل) النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(4/278)
(يطعنها) بضم العين في الفرع ويجوز فتحها
أي يطعن الأصنام (بعود في يده) صفة لعود وفيه إذلال
للأصنام وعابديها وإظهار أنها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن
أنفسها (وجع) عليه الصلاة والسلام (يقول):
(جاء الحق وزهق الباطل) أي هلك واضمحل (الآية) إلى آخرها.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في المغازي والتفسير
ومسلم في المغازي والترمذي في التفسير وكذا النسائي.
2479 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ
حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ
الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "أَنَّهَا
كَانَتِ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ
تَمَاثِيلُ. فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ،
فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا".
[الحديث 2479 - أطرافه في: 5954، 5955، 6109].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني (إبراهيم بن المنذر)
الحزامي الأسدي قال: (حدّثنا أنس بن عياض) الليثي أبو ضمرة
المدني (عن عبيد الله) بالتصغير العمري ولأبي ذر زيادة ابن
عمر (عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم) بن محمد بن
أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم- (عن عائشة -رضي الله عنها-
أنها كانت اتخذت على سهوة لها) بفتح السين المهملة كالصفة
تكون بين يدي البيت أو الطاق يوضع فيه الشيء أو خزانة أو
رف (سترًا فيه تماثيل) جمع تمثال وهو ما صوّر من الحيوانات
(فهتكه) أي نزعه أو خرقه (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فاتخذت) عائشة -رضي الله عنها- (منه) أي من
الستر (نمرقتين) تثنية نمرقة بضم النون والراء وسادة صغيرة
وقد تطلق على الطنفسة (فكانتا) يعني النمرقتين (في البيت
يجلس عليهما) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فإن قلت: ما وجه دخول هذا الحديث في المظالم؟ أجيب: بأن
هتك الستر الذي فيه التماثيل من إزالة الظلم لأن الظلم وضع
الشيء في غير موضعه.
وهذا الحديث من أفراده.
33 - باب مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ
(باب من قاتل دون ماله) أي عند ماله فقتل فهو شهيد.
2480 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا
سَعِيدٌ -هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ- قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ
قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يزيد) من الزيادة القرشي
العدوي أبو عبد الرحمن القري مولى آل عمر بن الخطاب قال:
(حدّثنا سعيد هو ابن أبي أيوب) الخزاعي (قال: حدّثني)
بالإفراد (أبو الأسود) محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة (عن
عكرمة) مولى ابن عباس (عن عبد الله بن عمرو) بفتح العين
وسكون الميم ابن العاص (-رضي الله عنهما-) أنه (قال سمعت
النبي) ولأبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(من قتل دون ماله فهو شهيد).
وهذا الحديث أخرجه النسائي بهذا الإسناد بلفظ "من قتل دون
ماله مظلومًا فله الجنة". وفي الترمذي من حديث سعيد بن زيد
مرفوعًا "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو
شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو
شهيد" ثم قال: حديث صحيح.
34 - باب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا كسر) شخص (قصعة) بفتح القاف إناء
من خشب (أو) كسر (شيئًا لغيره) هو من باب عطف العام على
الخاص أي هل يضمن المثل أو القيمة فجواب إذا محذوف.
2481 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-: "أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ
عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ،
فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا
وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ: كُلُوا. وَحَبَسَ
الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ
الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
أَيُّوبَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [الحديث
2481 - طرفه في: 5225].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى بن
سعيد) القطان (عن حميد) الطويل (عن أنس -رضي الله عنه- أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان عند بعض
نسائه) هي عائشة (فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين) هي صفية كما
رواه أبو داود والنسائي أو حفصة رواه الدارقطني وابن ماجة
أو أم سلمة رواه الطبراني في الأوسط وإسناده أصح من إسناد
الدارقطني وساقه بسند صحيح وهو أصح ما ورد في ذلك ويحتمل
التعدد (مع خادم) لم يسم (بقصعة فيها طعام) وفي الأوسط
للطبراني بصحفة فيها خبز ولحم من بيت أم سلمة (فضربت)
عائشة (بيدها فكسرت القصعة) زاد أحمد نصفين وعند النسائي
من حديث أم سلمة فجاءت عائشة ومعها فهر ففلقت الصحفة
(فضمها) عليه الصلاة والسلام أي القصعة، وفي رواية ابن
علية عند المؤلّف في النكاح فجمع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلق الصحفة (وجعل فيها الطعام) الذي
انتثر منها (وقال) عليه الصلاة والسلام لأصحابه الذين
كانوا معه:
(كلوا وحبس الرسول) الذي جاء بالطعام (والقصعة) بالنصب
عطفًا على المنصوب السابق (حتى فرغوا) من الأكل وأتى بقصعة
من عند عائشة (فدفع القصعة الصحيحة) إلى الرسول ليعطيها
للتي كسرت صحفتها (وحبس) القصعة (المكسورة) في بيت التي
كسرت
(4/279)
زاد الثوري وقال إناء كإناء وطعام كطعام.
واستشكل بأنه إنما يحكم في الشيء بمثله إذا كان متشابه
الأجزاء كالدراهم وسائر المثليات والقصعة إنما هي من
المتقوّمات، والجواب ما حكاه البيهقي بأن القصعتين كانتا
للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيت زوجتيه
فعاقب الكاسرة بجعل القصعة المكسورة في بيتها وجعل الصحيحة
في بيت صاحبتها ولم يكن ذلك على سبيل الحكم على الخصم.
(وقال ابن أبي مريم) هو شيخ المؤلّف سعيد (أخبرنا يحيى بن
أيوب) قال: (حدّثنا حميد) الطويل قال: (حدّثنا أنس عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وغرض المؤلّف
بسياق هذا بيان التصريح بتحديث أنس لحميد قاله في الفتح.
35 - باب إِذَا هَدَمَ حَائِطًا فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا هدم) شخص (حائطًا) لشخص آخر
(فليبن مثله) خلافًا لمن قال من المالكية وغيرهم تلزمه
القيمة.
2482 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كَانَ
رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ
يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ
يُجِيبَهَا فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ
أَتَتْهُ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى
تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ. وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي
صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ. لأَفْتِنَنَّ
جُرَيْجًا. فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى.
فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا،
فَوَلَدَتْ غُلاَمًا فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ.
فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، فَأَنْزَلُوهُ
وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ
فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: الرَّاعِي.
قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ لاَ،
إِلاَّ مِنْ طِينٍ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي الأزدي
البصري قال: (حدّثنا جرير) هو (ابن حازم) بالحاء المهملة
والزاي ابن زيد بن عبد الله الأزدي البصري (عن محمد بن
سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كان رجل في بني
إسرائيل يقال له جريج) بضم الجيم الأولى وفتح الراء وسكون
التحتية وفي رواية كريمة جريج الراهب (يصلّي) أي في صومعته
وفي أول حديث أبي سلمة عند (1) كان رجل في بني إسرائيل
تاجرًا وكان ينقص مرة ويزيد أخرى فقال ما في هذه التجارة
خير لألتمسن تجارة هي خير من هذه فبنى صومعة وترهب فيها،
وهذا يدل على أنه كان بعد عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه
كان من أتباعه لأنهم الذين ابتدعوا الترهب وحبس النفس في
الصوامع وهو يرد قول ابن بطال إنه يمكن أن يكون نبيًّا
(فجاءته أمه) لم تسم (فدعته) وفي رواية أبي رافع عند أحمد
فأتته أمه ذات يوم فنادته فقالت ابني جريج أشرف حتى أكلمك
أنا أمك (فأبى أن
يجيبها فقال) في نفسه مناجيًا لله تعالى سرًّا من غير نطق
أو نطق وكان الكلام مباحًا في شريعتهم كما كان عندنا في
صدر الإسلام (أجيبها أو أصلي ثم أتته) أي بعدما رجعت وفي
رواية أبي رافع فصادفته يصلّي فقالت يا جريج فقال: يا رب
أمي وصلاتي فاختار صلاته فرجعت فأتته وصادفته يصلّي فقالت:
يا جريج أنا أمك فكلمني فقال مثله. وفي حديث عمران بن حصين
عند الطبراني في الأوسط أنها جاءته ثلاث مرات تناديه في كل
مرة ثلاث مرات، وقوله: أمي وصلاتي أي اجتمع عليّ
إجابة أمي وإتمام صلاتي فوفقني لأفضلهما (فقال: اللهم لا
تمته حتى تريه المومسات) جمع مومسة بضم الميم وسكون الواو
وكسر الميم بعدها مهملة الزانية. وفي رواية الأعرج في باب:
إذا دعت الأم ولدها في الصلاة من أواخر كتاب الصلاة حتى
ينظر في وجوه المياميس، وفي رواية أبوي ذر والوقت
والأصيلي: حتى تريه وجوه المومسات (وكان جريج في صومعته)
بفتح الصاد المهملة وسكون الواو وهي البناء المرتفع
المحدّد أعلاه وزنها فوعلة من صمعت إذا دققت لأنها دقيقة
الرأس (فقالت امرأة) بغي منهم (لأفتنن جريجًا) ولم تسم.
نعم في حديث عمران بن حصين أنها كانت بنت ملك القرية لكن
يعكر عليه ما في رواية الأعرج وكانت تأوي إلى صومعته راعية
ترعى الغنم. وأجيب: باحتمال أنها خرجت من دارها بغير علم
أهلها متنكرة للفساد إلى أن ادّعت أنها تستطيع أن تفتن
جريجًا فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية ليمكنها أن تأوي
إلى ظل صومعته لتتوصل بذلك إلى فتنته.
(فتعرضت له فكلمته) أن يواقعها (فأبى فأتت راعيًا) قال
القطب القسطلاني في المبهمات له اسمه صهيب، وكذا قال ابن
حجر في المقدمة لكنه قال في فتح الباري في أحاديث
الأنبياء: لم أقف على اسم الراعي وزاد أحمد في رواية وهب
بن جرير بن حازم عن أبيه كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج
(فأمكنته من نفسها) فواقعها وحملت منه (فولدت غلامًا) بعد
انقضاء مدة الحمل فسئلت ممن هذا الغلام (فقالت هو من جريج
فأتوه
_________
(1) بياض بالأصل.
(4/280)
وكسروا صومعته) وفي رواية أبي رافع فأقبلوا بفؤوسهم
ومساحيهم. وفي حديث عمران فما شعر حتى سمع بالفؤوس في أصل
صومعته فجعل يسألهم ويلكم ما لكم فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك
أخذ الحبل فتدلى (فأنزلوه) ولأبي ذر: وأنزلوه بالواو بدل
الفاء (وسبوه) زاد أحمد في رواية وهب بن جرير وضربوه فقال:
ما شأنكم؟ قالوا: إنك زنيت بهذه، وفي رواية أبي رافع عند
أحمد أيضًا فجعلوا في عنقه وعنقها حبلاً فجعلوا يطوفون
بهما
في الناس (فتوضأ) وفيه أن الوضوء ليس من خصائص هذه الأمة
لمن قال ذلك. نعم من خصائصها الغرة والتحجيل في القيامة
(وصلّى) زاد في حديث عمران ركعتين وفي رواية وهب بن جرير
ودعا (ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام) وفي رواية
الأعرج قال يا بابوس من أبوك أي يا صغير وليس هو اسم هذا
الغلام بعينه (قال) الغلام أبي (الراعي) وفيه أن الطفل
يدعى غلامًا وقد تكلم من الأطفال ستة.
شاهد يوسف.
وابن ماشطة بنت فرعون.
وعيسى عليه الصلاة والسلام.
وصاحب جريج هذا.
وصاحب الأخدود.
وولد المرأة التي من بني إسرائيل لما مرّ بها رجل من بني
إسرائيل وقالت: اللهم اجعل ابني مثله فترك ثديها وقال:
اللهم لا تجعلني مثله، وزعم الضحاك في تفسيره أن يحيى تكلم
في المهد أخرجه الثعلبي فإن ثبت صاروا سبعة.
ومبارك اليمامة في الزمن النبوي الحميدي وتأتي دلائل ذلك
إن شاء الله تعالى في أحاديث الأنبياء.
(قالوا نبني صومعتك من ذهب قال) جريج (لا إلا من طين) كما
كانت ففعلوا. قال ابن مالك في التوضيح فيه شاهد على حذف
المجزوم بلا الناهية فإن مراده لا تبنوها إلا من طين. قال
في المصابيح: يحتمل أن يكون التقدير لا أريدها من طين فلا
شاهد فيه.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: نبني صومعتك الخ ... لأن
شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه لكن في
الاستدلال بهذه القصة فيما ترجم به نظر لأن شرعنا أوجب
المثل في المثليات والحائط متقوّم لا مثلي لكن لو التزم
الهادم الإعادة ورضي صاحبه بذلك جاز بلا خلاف.
وفي الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوّع لأن
الاستمرار فيها نافلة وإجابة الأم وبرّها واجب. قال
النووي: وإنما دعت عليه وأجيبت لأنه كان يمكنه أن يخفف
ويجيبها لكن لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود
إلى الدنيا وتعلقاتها انتهى.
وفيه بحث يأتي إن شاء الله تعالى، وعند الحسن بن سفيان من
حديث يزيد بن حوشب عن أبيه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لو كان جريج فقيهًا لعلم أن
إجابة أمه أولى من عبادة ربه.
وحديث الباب أخرجه المؤلّف أيضًا في أحاديث الأنبياء ومسلم
في الأدب. |