شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

45 - كتاب في اللقطة
(بسم الله الرحمن الرحيم كتاب) بالتنوين (في اللقطة) بضم اللام وفتح القاف ويجوز إسكانها والمشهور عند المحدثين فتحها. قال الأزهري: وهو الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث، ويقال: لقاطة بضم اللام ولقط بفتحها بلا هاء وهي في اللغة الشيء الملقوط وشرعًا ما وجد من حق ضائع محترم غير محرز ولا ممتنع بقوّته ولا يعرف الواجد مستحقه، وفي الالتقاط معنى الأمانة والولاية من حيث أن الملتقط أمين فيما التقطه والشرع ولاّه حفظه كالولي في مال الطفل وفيه معنى الاكتساب من حيث أن له التملك بعد التعريف. (وإذا أخبر رب اللقطة) أي مالكها (بالعلامة) التي بها (دفع) الملتقط (إليه) اللقطة وفي النسخة القروءة على الميدومي دفع إليه بضم الدال ولأبي ذر:
باب بالتنوين إذا أخبره بالضمير المنصوب، ولغير المستملي والنسفيّ:

1 - باب إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلاَمَةِ دَفَعَ إِلَيْهِ
بسم الله الرحمن الرحيم باب في اللقطة وإذا أخبره ربّ اللقطة الخ.
2426 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: لَقِيتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ -رضي الله عنه- فَقَالَ: "أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلَهَا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا، فَاسْتَمْتَعْتُ. فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي ثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلاً وَاحِدًا".
[الحديث 2426 - طرفه في: 2437].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال المؤلّف:

(وحدّثني) بالإفراد والواو في الفرع مرقومًا عليها علامة أبي ذر وفي غير الفرع ح للتحويل حدّثني (محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة بندار العبدي قال: (حدّثنا غندر) هو محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سلمة) بن كهيل أنه قال: (سمعت سويد بن غفلة) بفتح المعجمة والفاء واللام وسويد بضم السين مصغرًا الجعفي الكوفي التابعي المخضرم قدم المدينة يوم دفن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان مسلمًا في حياته وتوفي سنة ثمانين وله مائة وثلاثون سنة (قال: لقيت أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه- فقال: أخذت) وللكشميهني: وجدت، وللمستملي: أصبت (صرة مائة دينار) بنصب مائة بدلاً من صرة. قال العيني: ويجوز الرفع على تقدير فيها مائة دينار اهـ.
قلت: كذا في النسخة المقروءة على الميدومي وجدت صرة فيها مائة دينار. (فأتيت) بها (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) لي:
(عرفها حولاً) أمر من التعريف كان ينادي من ضاع له شيء فليطلبه عندي ويكون في الأسواق ومجامع الناس وأبواب المساجد عند خروجهم من الجماعات ونحوها لأن ذلك أقرب إلى وجود صاحبها إلا في المساجد كما لا تطلب اللقطة فيها، نعم يجوز تعريفها في المسجد الحرام اعتبارًا بالعرف ولأنه مجمع الناس وقضية التعليل أن مسجد المدينة والأقصى كذلك، وقضية كلام النووي في الروضة تحريم التعريف في بقية المساجد قال في المهمات: وليس كذلك فالمنقول الكراهة، وقد جزم به في شرح المهذّب قال الأذرعي وغيره: بل المنقول والصواب التحريم للأحاديث الظاهرة فيه، وبه صرح الماوردي وغيره، ولعل النووي لم يرد بإطلاق الكراهة كراهة التنزيه ويجب أن يكون محل التحريم أو الكراهة إذا وقع ذلك برفع الصوت كما أشارت إليه الأحاديث. أما لو سأل الجماعة في المسجد بدون ذلك فلا تحريم ولا كراهة ويجب التعريف في محل اللقطة ولو التقط في الصحراء
وهناك قافلة تبعها وعرف فيها وإلاّ ففي بلد يقصدها قربت أم بعدت ويجب التعريف حولاً كاملاً إن أخذها للتملك بعد التعريف وتكون أمانة ولو بعد السنة حتى يتملكها، والمعنى في كون التعريف سُنّة أنها لا تتأخر فيها القوافل وتمضي فيها الأزمنة الأربعة، ولو التقط اثنان لقطة عرّف كلٌّ منهما سنة، قال ابن الرفعة: وهو الأشبه لأنه

(4/240)


في النصف كملتقط واحد، وقال السبكي: بل الأشبه أن كلاًّ منهما يعرفها نصف سنة لأنها لقطة واحدة والتعريف من كلٍّ منهما لكلها إلا لنصفها وإنما تقسم بينهما عند التملك ولا يشترط الفور للتعريف بل المعتبر تعريف سنة متى كان ولا الموالاة، فلو فرق السنة كأن عرف شهرين وترك شهرين وهكذا لأنه عرف سنة ولا يجب الاستيعاب للسنة بل يعرف على العادة فينادي في كل يوم مرتين في طرفيه في الابتداء ثم في كل يوم مرة ثم في كل أسبوع مرتين أو مرة ثم في كل شهر.
قال أُبيّ بن كعب: (فعرفتها) أي الصرة (حولها) بالهاء والنصب على الظرفية وسقط لأبي ذر قوله حولها وثبت في بعض الأصول قوله حولاً بإسقاط الهاء بدل حولها (فلم أجد من يعرفها) بالتخفيف (ثم أتيته) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال عرفها حولاً فعرفتها فلم أجد) أي من يعرفها (ثم أتيته) عليه

الصلاة والسلام (ثلاثًا) أي مجموع إتيانه ثلاث مرات لا أنه أتى بعد المرتين الأوليين ثلاثًا، وإن كان ظاهر اللفظ يقتضيه لأن ثم إذا تخلفت عن معنى التشريك في الحكم والترتيب والمهلة تكون زائدة لا عاطفة البتّة قاله الأخفش والكوفيون، (فقال) عليه الصلاة والسلام، ولأبي الوقت: قال (احفظ وعاءها) الذي تكون فيه اللقطة من جلد أو خرقة أو غيرهما وهو بكسر الواو وبالهمزة ممدودًا (وعددها ووكاءها) بكسر الواو والثانية وبالهمزة ممدودًا الخيط الذي يشدّ به رأس الصرة أو الكيس أو نحوهما، والمعنى فيه ليعرف صدق مدّعيها ولئلا تختلط بما له وليتنبّه على حفظ الوعاء وغيره لأن العادة جارية بإلقائه إذا أخذت النفقة وهل الأمر للوجوب أو الندب؟ قال ابن الرفعة بالأول، وقال الأذرعي وغيره للندب وكذا يندب كتب الأوصاف المذكورة. قال الماوردي: وأنه التقطها من موضع كذا في وقت كذا (فإن جاء صاحبها) أي فارددها إليه فحذف جزاء الشرط للعلم به، وفي رواية
أحمد والترمذي والنسائي من طريق الثوري وأحمد وأبي داود من طريق حماد كلهم عن سلمة بن كهيل في هذا الحديث فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه أي على الوصف من غير بيّنة، وبه قال المالكية والحنابلة. وقال الحنفية والشافعية: يجوز للملتقط دفعها إليه على الوصف ولا يحبر على الدفع لأنه يدّعي مالاً في يد غيره فيحتاج إلى البيّنة لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البيّنة على المدّعي فيحمل الأمر بالدفع في الحديث على الإباحة جمعًا بين الحديثين، فإن أقام شاهدين بها وجب الدفع وإلاّ لم يجب ولو أقام مع الوصف شاهدًا بها ولم يحلف معه لم يجب الدفع إليه، فإن قال له: يلزمك تسليمها إليّ فله إذا لم يعلم صدقة الحلف أنه لا يلزمه ذلك، ولو قال: تعلم أنها ملكي فله الحلف أنه لا يعلم لأن الوصف لا يفيد العلم كما صرّح به في الروضة، لكن يجوز له بل يستحب كما نقل عن النص الدفع إليه إن ظن صدقه في وصف لها عملاً بظنه ولا يجب لأنه مدّع فيحتاج إلى حجة فإن لم يظن صدقه لم يجز ذلك ويجب الدفع إليه إن علم صدقه ويلزمه الضمان لا إن ألزمه بتسليمها إليه بالوصف حاكم يرى ذلك كمالكي وحنبلي فلا تلزمه العهدة لعدم تقصيره في التسليم، وإن سلمها إلى الواصف باختياره من غير إلزام حاكم له ثم تلفت عند الواصف وأثبت بها آخر حجة وغرم الملتقط بدلها رجع الملتقط بما غرمه على الواصف إن سلم اللقطة له ولم يقرّ له الملتقط بالملك لحصول التلف عنده ولأن الملتقط سلمه بناء على الظاهر وقد بان خلافه فإن أقرّ له بالملك لم يرجع عليه مؤاخذة له بإقراره.
(وإلا) بأن لم يجيء صاحبها (فاستمتع بها) أي بعد التملك باللفظ كتملكت وتكفي إشارة الأخرس كسائر العقود وكذا الكتابة مع النية قال أبي: (فاستمتعت) أي البصرة. قال شعبة: (فلقيته) أي لقيت سلمة بن كهيل (بعد) بالبناء على الضم حال كونه (بمكة فقال) أي سلمة (لا أدري) قال سويد بن غفلة (ثلاثة أحوال أو) قال (حولاً واحدًا) ولم يقل أحد بأن اللقطة تعرّف ثلاثة أحوال والشك يوجب سقوط المشكوك فيه وهو الثلاثة فوجب العمل

(4/241)


بالجزم وهو رواية العام الواحد، لكن قد روى الحديث غير شعبة عن سلمة بن كهيل وجماعة بغير شك وفيه هذه الزيادة أخرجها مسلم من

طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة كلهم عن سلمة وقال قالوا في حديثهم جميعًا ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه عامين أو ثلاثة، وجمع بعضهم بين حديث أبي هذا وحديث زيد بن خالد الآتي إن شاء الله تعالى في الباب اللاحق فإنه لم يختلف عليه في الاقتصار على سنة واحدة فقال: يحمل حديث أُبيّ بن كعب على مزيد التورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفّف عنها، وحديث زيد على ما لا بدّ منه أو لاحتياج الأعرابي واستغناء أبي.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف هنا من طريقين والمتن للطريق النازلة، وقد أخرجه مسلم في اللقطة وكذا أبو داود والترمذي في الأحكام والنسائي في اللقطة وابن ماجة في الأحكام.

2 - باب ضَالَّةِ الإِبِلِ
(باب) حكم التقاط (ضالة الأبل) هل يجوز التقاطها أم لا.
2427 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَبِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْهَا. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. قَالَ: ضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عمرو بن عباس) بفتح العين وسكون الميم وعباس بالموحدة وبعد الألف مهملة الباهلي البصري قال: (حدّثنا عبد الرحمن) بن مهدي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن ربيعة) الرأي بسكون الهمزة أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (يزيد) من الزيادة (مولى المنبعث) بضم الميم وسكون النون وفتح الموحدة وكسر المهملة بعدها مثلثة المدني (عن زيد بن خالد الجهني) المدني (-رضي الله عنه-) أنه (قال: جاء أعرابي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسأله عما يلتقطه) سواء كان ذهبًا أو فضةً أو لؤلؤًا أو غير ذلك مما عدا الحيوان، وقد زعم ابن بشكوال أن السائل بلال، وعورض بأنه لا يقال له أعرابي، ورجح الحافظ ابن حجر أنه سويد والد عقبة بن سويد الجهني لما في معجم البغوي بسند جيد أنه قال سألت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن اللقطة قال: وهو أولى ما فسر به المبهم الذي في الصحيح لكونه من رهط زيد بن خالد، وتعقبه العيني بأنه لا يلزم من كون سويد من رهط زيد أن يكون حديثهما واحدًا بحسب الصورة وإن كانا في المعنى من باب واحد، (فقال) عليه الصلاة والسلام للسائل ولأبي الوقت: قال:
(عرفها سنة ثم احفظ) ولأبوي ذر والوقت: ثم اعرف (عفاصها) بكسر العين المهملة وبعد الفاء المخففة ألف ثم صاد مهملة أي وعاءها الذي تكون فيه من العفص وهو الثني لأن الوعاء ينثني

على ما فيه (ووكاءها) الخيط الذي يشدّ به رأس الصرّة أو الكيس ونحوهما ولم يقل في هذه وعددها فيقاس بمعرفة خارجها معرفة داخلها كالجنس هل هي ذهب أم غيره؟ والنوع أهروية أم غيرها؟ والقدر بوزن أو كيل أو عدد (فإن جاء أحد يخبرك بها) أي باللقطة فأدّها إليه فحذف جواب الشرط للعلم به (وإلا) بأن لم يجيء أحد (فاستنفقها) أي بعد أن تعرفها سنة فإن جاء ربها فأدّها إليه.
(قال) أي السائل (يا رسول الله فضالة الغنم)؟ أي ما حكمها والأكثرون على أن الضالة مختصة بالحيوان وأما غيره فيقال فيه لقطة، وسوّى الطحاوي بين الضالة واللقطة، ولأبوي ذر والوقت: ضالة الغنم بغير فاء قبل الضاد (قال) عليه الصلاة والسلام ولأبي الوقت: فقال (لك) إن أخذتها وعرفتها سنة ولم تجد صاحبها (أو لأخيك) في الدين ملتقط آخر (أو للذئب) إن تركتها ولم يأخذها غيرك لأنها لا تحمي نفسها، وهذا على سبيل السبر والتقسيم، وأشار إلى إبطال قسمين فتعين الثالث فكأنه قال: ينحصر الأمر في ثلاثة أقسام: أن تأخذها لنفسك، أو تتركها فيأخذها مثلك، أو يأكلها الذئب ولا سبيل إلى تركها للذئب فإنه إضاعة مال ولا معنى لتركها لملتقط آخر مثل الأول بحيث يكون الثاني أحق لأنهما استويا، وسبق الأول فلا معنى لترك السابق واستحقاق المسبوق، وإذا بطل هذان القسمان تعين الثالث وهو أن تكون لهذا الملتقط والتعبير بالذئب ليس بقيد فالمراد جنس ما يأكل الشاة ويفترسها من السباع.
(قال) السائل ولأبي الوقت: فقال (ضالة الأبل)؟ ما حكمها (فتمعر) بتشديد العين المهملة أي تغير (وجه النبي -صَلَّى

(4/242)


اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من الغضب (فقال) عليه الصلاة والسلام (ما لك ولها) استفهام إنكاري (معها حذاؤها) بكسر الحاء المهملة وبالذال المعجمة ممدودًا أخفافها فتقوى بها على السير وقطع البلاد الشاسعة وورود المياه النائية (وسقاؤها) بكسر السين المهملة والمدّ جوفها أي حيث وردت الماء شربت ما يكفيها حتى ترد ماء آخر أو السقاء العنق أي ترد الماء وتشرب من غير ساق يسقيها. قال ابن دقيق العيد: لما كانت مستغنية عن الحافظ والمتعهد وعن النفقة عليها بما ركب في طبعها من الجلادة على العطش والحفاء عبّر عن ذلك بالحذاء والسقاء مجازًا، وبالجملة فالمراد بهذا النهي عن التعرّض لها لأن الأخذ إنما هو للحفظ على صاحبها إما بحفظ العين أو بحفظ القيمة، وهذه لا تحتاج إلى حفظ لأنها محفوظة بما خلق الله فيها من القوّة والمنعة وما يسر لها من الأكل والشرب كما قال: (ترد الماء وتأكل الشجر) ويلحق بالإبل ما يمتنع بقوّته من صغار السباع كالبقر والفرس، أو بعدوه كالأرنب والظبي، أو بطيرانه كالحمام. فهذا ونحوه لا يحل التقاطه بمفازة لأنه مصون بالامتناع عن أكثر السباع مستغنٍ بالرعي إلى أن يجده مالكه إذا كان التقاطه له للتملك ويجوز للحفظ صيانة له من الخونة، أما إذا وجده في العمارة فيجوز له التقاطه للتملك ويجوز للحفظ صيانة له من الخونة، أما إذا وجده في العمارة فيجوز له التقاطه للتملك كما يجوز للحفظ، وقيل لا يجوز كالمفازة، وفرّق الأول بأنه في العمارة يضيع بامتداد الخائنة إليه بخلاف المفازة فإن طروّ الناس بها لا يعمّ، ولو وجد في زمن نهب جاز التقاطه للتملك والحفظ قطعًا في المفازة وغيرها، والمراد بالعمارة الشارع والمسجد ونحوهما لأنها

مع الموات محال اللقطة ولو التقط الممتنع من صغار السباع للتملك في مفازة آمنة ضمنه ولا يبرأ بردّه إلى مكانه فإن سلمه إلى الحاكم برئ كما في الغصب، وبالجملة فأخذ الجمهور بظاهر الحديث أن ضالة الإبل ونحوها لا تلتقط، وقال الحنفية: الأولى أن تلتقط.
وهذا الحديث سبق في كتاب العلم في باب الغضب في الموعظة.

3 - باب ضَالَّةِ الْغَنَمِ
(باب) حكم التقاط (ضالة الغنم).
2428 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: «سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اللُّقَطَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً (يَقُولُ يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُعْتَرَفِ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا، وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ. قَالَ يَحْيَى: فَهَذَا الَّذِي لاَ أَدْرِي أَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ أَمْ شَىْءٌ مِنْ عِنْدِهِ). ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ (قَالَ يَزِيدُ: وَهْيَ تُعَرَّفُ أَيْضًا). ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الإِبِلِ؟ قَالَ: فَقَالَ: دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) بن أبي أويس (قال: حدّثني) بالإفراد (سليمان) التيمي مولاهم المدني ولأبوي ذر والوقت: سليمان بن بلال (عن يحيى) بن سعيد الأنصاري (عن يزيد مولى المنبعث) المدني (أنه سمع زيد بن خالد) الجهني (-رضي الله عنه- يقول: سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن اللقطة) ما حكمها؟ وفي الباب السابق أن السائل أعرابي وقيل هو بلال وقيل غيره، (فزعم) أي زيد بن خالد والزعم يستعمل في القول المحقق كثيرًا (أنه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال):
(اعرف عفاصها) وعاءها الذي تكون فيه (ووكاءها) الخيط الذي يربط به الوعاء (ثم عرّفها سنة) أي متوالية فلو عرفها سنة متفرقة كأن عرفها في كل سنة شهرًا لم يكف، ولو فرق السنة كأن عرف شهرين وترك شهرين وهكذا جاز لأنه عرف سنة. ولا يشترط أن يعرفها بنفسه بل يجوز أن يوكل فإن قصد التملك ولو بعد التقاطه للحفظ أو مطلقًا فمؤنة التعريف الواقع بعد قصده عليه تملك أم لا؟ لأن التعريف سبب لتملكه ولأن الحظ له، وإن قصد الحفظ ولو بعد التقاطه للتملك أو مطلقًا فمؤنة التعريف على بيت المال إن كان فيه سعة وإلاّ فعلى المالك بأن يقترض عليه الحاكم منه أو من غيره أو يأمره بصرفها ليرجع كما في هرب الجمال: وإنما لم تجب على الملتقط لأن الحظ للمالك فقط.

قال يحيى بن سعد الأنصاري بالإسناد السابق: (يقول يزيد) مولى المنبعث (إن لم تعترف) بضم المثناة الفوقية وسكون المهملة وفتح الفوقية والراء، ولأبي ذر عن الكشميهني: إن لم تعرف بإسقاط الفوقية الثانية أي اللقطة (استنفق بها) بفتح الفاء والقاف (صاحبها) أي ملتقطها (وكانت وديعة عنده).
قال سليمان بن بلال: (قال يحيى) بن سعيد الأنصاري بالإسناد السابق: (فهذا الذي لا أدري) أي لا أعلم (أفي حديث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو) أي قوله وكانت وديعة عنده (أم شيء من عنده) أي من عند يزيد من قوله: وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المؤلّف باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردّها عليه لأنها وديعة عنده

(4/243)


وفيه إشارة إلى ترجيح رفعها، وقد جزم يحيى بن سعيد برفعها مرة أخرى فيما أخرجه مسلم عن القعنبي والإسماعيلي من طريق يحيى بن حسان كلاهما عن سليمان بن بلال عن يحيى بلفظ: فإن لم تعرف فاستنفقها أو لتكن وديعة عندك.
(ثم قال) السائل يا رسول الله (كيف ترى في ضالة الغنم؟ قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) أي إنها ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك مرددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك. قيل: والمراد بالأخ ما هو أعم من صاحبها أو ملتقط آخر، وعورض بأن البلاغة لا تقتضي أن يقرن صاحبها المستحق لها بالذئب العادي فالمراد ملتقط آخر والمراد جنس ما يأكل الشاة، وفي قوله: "خذها" تصريح بالأمر بالأخذ ففيه ردّ إحدى الروايتين عن أحمد في قوله يترك التقاط الشاة، واستدلّ به المالكية على أنه إذا وجدها في فلاة تملكها بالأخذ ولا يلزمه بدلها ولو جاء صاحبها واحتجّ لهم بالتسوية بين الذئب والملتقط والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط كذا نقله في الفتح.
والظاهر أنهم تمسكوا بقوله في الشاة هي لك واللام للتمليك بخلاف قوله في غيرها فاستمتع بها إذ ظاهره أنه ليس على وجه التمليك لها إذ لو كان المراد التمليك التام لم يقتصر به على الاستمتاع الذي ظاهره الانتفاع لا أصل الملك بخلاف قوله فهي لك.
وأجيب: بأن اللام ليست للتمليك ومذهب الشافعية أن ما لا يمتنع من صغار السباع كالعجل والفصيل يجوز التقاطه للتملك مطلقًا سواء وجده بمفازة أم لا صيانة له عن السباع والخونة، ويتخير آخذه من المفازة فإن شاء عرفه وتملكه بعد التعريف وإن شاء باعه استقلالاً إن لم يجد حاكمًا أو بإذنه في الأصح إن وجده وتملك ثمنه بعد التعريف وله أكله إن كان مأكولاً في الحال متملكًا له بقيمة فيغرمها إن ظهر مالكه ولا يجب بعد أكله تعريفه فإن أخذه من العمران فله الخصلتان الأوليان لا الثالثة وهي الأكل على الأصح في المنهاج والأظهر في الروضة لسهولة البيع فيه بخلافه في المفازة فقد لا يجد فيها من يشتري ويشق النقل إلى العمران.
(قال يزيد) مولى المنبعث بالإسناد المذكور (وهي) أي ضالة الغنم (تعرف أيضًا) أي على سبيل

الوجوب كذا عند الجمهور، لكن قال الشافعية: لا يجب تعريفها بعد الأكل إذا وجدت في الفلاة وأما في القرية فيجب على الأصح.
(ثم قال) السائل يا رسول الله (كيف ترى في ضالة الأبل؟ قال) زيد (فقال) عليه الصلاة والسلام: (دعها فإن معها حذاءها) بكسر الحاء المهملة وبالذال المعجمة أي خفها (وسقاءها) بكسر السين جوفها أو عنقها (ترد الماء وتأكل الشجر) فهي مستغنية عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول لطول عنقها ومصونة بالامتناع عن أكثر السباع (حتى يجدها ربها) أي مالكها فمن أخذها للتملك ضمنها ولا يبرأ من الضمان بردّها إلى موضعها كما مرّ.

4 - باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهْيَ لِمَنْ وَجَدَهَا
هذا (باب) بالتنوين (إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة) أي بعد التعريف سنة (فهي لمن وجدها) اكتفاء بقصده عند الأخذ للتملك وهذا أحد الوجوه الثلاثة عند الشافعية، وقيل يملكها بمضي الحول والتصرف والأظهر التملك باللفظ كما مر وسواء كان المتملك غنيًّا أو فقيرًا وخصّها الحنفية بالفقير دون الغني لأن تناول مال الغير بغير إذنه غير جائز بلا ضرورة بإطلاق النصوص.
2429 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا. قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) هو ابن أنس الإمام (عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن) المشهور بالرأي المدني واسم أبيه فروخ (عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد) الجهني (-رضي الله عنه-) أنه (قال: جاء رجل) أي أعرابي كما في السابقة، أو هو بلال كما قال ابن بشكوال، أو سويد والد عقبة كما رجحه ابن حجر وقد مرّ (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسأله عن اللقطة) أي عن حكمها (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(اعرف عفاصها) وعاءها الذي هي فيه (ووكاءها) الخيط الذي يشد به رأس الوعاء لتعرف صدق مدعيها عند طلبها (ثم

(4/244)


عرفها سنة فإن جاء صاحبها) أي فأدّها إليه (وإلا) بأن لم يجيء صاحبها (فشأنك بها) بالنصب أي الزم شأنك بها والشأن الحال أي تصرف فيها، وسبق في حديث أبي بلفظ فاستمتع بها، ولمسلم من طريق ابن وهب فإن لم يأت لها طالب فاستنفقها. واستدلّ به على أن اللاقط يملكها بعد انقضاء مدة التعريف وهو ظاهر نص الشافعي، لكن المشهور عند الشافعية

اشتراط التلفظ بالتملك كما مرّ قريبًا فإذا تصرّف فيها بعد التعريف سنة ثم جاء صاحبها فالجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة أو البدل إن كانت استهلكت لقوله في الرواية السابقة: ولتكن وديعة عندك وقوله أيضًا عند مسلم ثم كلها فإن جاء صاحبها فادّها إليه فإنه يقتضي وجوب ردّها بعد أكلها فيحمل على رد البدل وحيئنذٍ فيحمل قول المصنف في الترجمة فهي لمن وجدها أي في إباحة التصرف إذ ذاك وأما أمر ضمانها بعد ذلك فهو ساكت عنه.
(قال) السائل يا رسول الله (فضالة الغنم)؟ قال: (هي لك أو لأخيك أو للذئب قال) السائل يا رسول الله (فضالة الإبل) ما حكمها؟ (قال) عليه الصلاة والسلام: (ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر) أي ما لك وأخذها والحال أنها مستقلة بأسباب تعيشها (حتى يلقاها ربها) مالكها.

5 - باب إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي الْبَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا وجد) شخص (خشبة في البحر أو) وجد (سوطًا أو) وجد شيئًا (نحوه) كعصًا ماذا يصنع به هل يأخذه أو يتركه وإذا أخذه هل يتملكه أو يكون سبيله سبيل اللقطة.
2430 - وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ -وَسَاقَ الْحَدِيثَ- فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا هُوَ بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ".
(وقال الليث) بن سعد الإمام مما هو موصول عند المؤلّف في باب التجارة في البحر في رواية أبوي ذر والوقت حيث قال في آخر الحديث: حدّثني عبد الله بن صالح قال: حدّثني الليث بهذا (حدّثنى) بالإفراد (جعفر بن ربيعة) بن شرحبيل بن حسنة القرشي المصري (عن عبد الرحمن بن هرمز) الأعرج (عن أبي هريرة رضي السُّنَّة عنه عن رسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل) لم يسم (وساق الحديث) هنا مختصرًا وبأتم منه في الكفالة ولفظه: وسأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار وقال: ائتني بالشهداء أشهدهم. فقال: كفى بالله شهيدًا. قال: ائتني بالكفيل قال: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى، وزاد في الزكاة فخرج. في البحر فلم يجد مركبًا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار فرمى بها في البحر، (فخرج) أي الرجل الذي أسلفه وهو فيما قيل النجاشي كما مر في الزكاة والبيع والكفالة (ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله) الذي أسلفه (فإذا بالخشبة) التي أرسلها المستلف، ولغير أبوي ذر والوقت: فإذا هو بالخشبة (فأخذها لأهله حطبًا فلما نشرها وجد المال) الذي بعثه المستلف إليه (والصحيفة) التي كتبها ببعث المال المذكور.

وموضع الترجمة قوله: فأخذها وهو مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لمن يأت في شرعنا ما يخالفه لا سيما إذا ورد بصورة الثناء على فاعله ولم يقع للسوط ونحوه في الحديث ذكر، وأجيب: بأنه استنبطه بطريق الإلحاق.

6 - باب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا وجد) شخص (تمرة) بالمثناة الفوقية وسكون الميم أو غيرها من المحقرات (في الطريق) جاز له أخذ ذلك كله.
2431 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن طلحة) بن مصرف (عن أنس) هو ابن مالك (-رضي الله عنه-) أنه (قال: مرّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتمرة) ملقاة (في الطريق قال) ولأبوي ذر والوقت: فقال بالفاء قبل القاف.
(لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة) المحرمة عليّ (لأكلتها) ظاهره أنه تركها تورعًا خشية أن تكون من الصدقة فلو لم يخش ذلك لأكلها ولم يذكر تعريفًا فدلّ على أن مثل ذلك من المحقرات يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف، لكن هل يقال إنها لقطة رخص في ترك تعريفها أو ليست لقطة لأن اللقطة ما من شأنه أن يتملك دون ما لا قيمة له.
2432 - وَقَالَ يَحْيَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ. وَقَالَ زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْفِيَهَا».
(وقال يحيى) بن سعيد القطان مما وصله مسدد في مسنده عنه وأخرجه الطحاوي من طريق مسدد: (حدّثنا

(4/245)


سفيان) الثوري قال: (حدّثني) بالإفراد (منصور) هو ابن المعتمر.
(وقال زائدة) هو ابن قدامة مما وصله مسلم من طريق أبي أسامة عن زائدة (عن منصور) أيضًا (عن طلحة) بن مصرف أنه قال (حدّثنا أنس).
قال المؤلّف: (وحدّثنا) وفي بعض الأصول للتحويل، وحدّثنا (محمد بن مقاتل) المروزي المجاور بمكة قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن همام بن منبه)

بكسر الموحدة المشددة وتشديد ميم همام الصنعاني أخي وهب (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال: إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة) بسكون الميم وقال أجد بلفظ المضارع استحضارًا للصورة الماضية (ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها) بالنصب (ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها) بضم الهمزة وسكون اللام وكسر القاف والرفع قال الكرماني لا غير. قال العيني: يعني لا يجوز نصب الياء لأنه معطوف على فأرفعها فإذا نصب فربما يظن أنه معطوف على قوله أن تكون فيفسد المعنى انتهى.
نعم في فروع اليونينية فألقيها بالنصب وكذا في كثير من الأصول التي وقفت عليها، وفي الفرع التنكزي فألفيها بالفاء بدل القاف والنصب وعليها علامة أبي ذر مصححًا عليها، وخرج بعض علماء العصر النصب على أنه عطف على تكون بمعنى ألقيها في جوفي أي أخشى أن أطرحها في جوفي، وأما رواية الفاء والنصب فعلى معنى ثم أخشى أن أجدها من الصدقة أي أن يظهر لي أنها من الصدقة اهـ فليتأمل.
ويحتمل تخريجه على نحو خذ اللص قبل يأخذك بالنصب على تقدير قبل أن يأخذك كقوله:
سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا
وقرئ شاذًّا فيدمغه بالأنبياء بالنصب. قال في الكشاف: وهو في ضعف والذي في اليونينية فألفيها بالفاء وسكون الياء لا غير مصحّحًا عليها.

7 - باب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ؟
وَقَالَ طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا».
وَقَالَ خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ».
هذا (باب) بالتنوين (كيف تعرف) بفتح العين والراء المشددة مبنيًّا للمفعول (لقطة أهل مكة. وقال طاوس) اليماني فيما وصله المؤلّف في حديث في باب لا يحل القتال بمكة من الحج (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال: لا يلتقط لقطتها) أي مكة وحرمها (إلا من عرفها) للحفظ لصاحبها.
(وقال خالد) الحذاء مما وصله في باب ما قيل في الصوّاغ من أوائل البيوع في حديث (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال (لا تلتقط) بضم أوله وفتح ثالثه (لقطتها) يعني مكة (إلا لمعرف) يحفظها لمالكها، ولأبوي ذر والوقت: لا يلتقط بفتح أوّله وكسر ثالثه لقطتها بالنصب على المفعولية إلا معرّف.

2433 - وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يُعْضَدُ عِضَاهُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا. فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِذْخِرَ. فَقَالَ: إِلاَّ الإِذْخِرَ».
(وقال أحمد بن سعد) بسكون العين مضببًا عليه ولأبوي ذر والوقت: سعيد بكسرها وهو فيما حكاه ابن طاهر الرباطي وفيما ذكره أبو نعيم الدارمي (حدّثنا روح) بفتح الراء وسكون الواو ثم حاء مهملة هو ابن عبادة وقد وصله الإسماعيلي من طريق العباس بن عبد العظيم وأبو نعيم من طريق خلف بن سالم عن روح بن عبادة قال: (حدّثنا زكريا) بن إسحاق المكي قال: (حدّثنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال): أي عن مكة.
(لا يعضد) بضم التحتية وفتح الضاد المعجمة والرفع في الفرع على النفي وجوّز الكرماني الجزم على النهي أي لا يقطع (عضاهها) بكسر العين المهملة وفتح الضاد المعجمة وبعد الألف هاءان مرفوع نائب عن الفاعل شجر أم غيلان أو كل شجر له شوك عظيم (ولا ينفر صيدها) بالرفع (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) أي لمعرف على الدوام يحفظها وإلاّ فسائر البلاد كذلك فلا تظهر فائدة التخصيص فأما من يريد أن يعرفها ثم يتملكها فلا. قال النووي في الروضة، قال أصحابنا: ويلزم الملتقط بها الإقامة للتعريف أو دفعها إلى الحاكم ولا يجيء الخلاف فيمن التقط للحفظ هل يلزمه التعرف بل يجزم هنا بوجوبه للحديث والله أعلم.
وإنما اختصت مكة بأن لقطتها

(4/246)


لا تملك لإمكان إيصالها إلى ربها لأنها إن كانت للمكي فظاهر وإن كانت للآفاقي فلا تخلو غالبًا من وارد إليها فإذا عرفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها ولا تلحق لقطة المدينة الشريفة بلقطة مكة كما صرّح به الدارمي والروياني.
وقضية كلام صاحب الانتصار أن حرمها كحرم مكة كما في حرمة الصيد وجرى عليه البلقيني لما روى أبو داود بإسناد صحيح في حديث المدينة ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها وهو بالشين المعجمة ثم الدال المهملة أي رفع صوته. وقال جمهور المالكية وبعض الشافعية: لقطة مكة كغيرها من البلاد، ووافق جمهور الشافعية من المالكية الباجي وابن العربي تمسكًا بحديث الباب، لكن قال ابن عرفة منتصر المشهور مذهب المالكية والانفصال عن التمسك به على قاعدة مالك في تقديمه العمل على الحديث الصحيح حسبما ذكره ابن يونس في كتاب الأقضية ودلَّ عليه استقراء المذهب.
وقال ابن المنير: مذهب مالك التمسك بظاهر الاستثناء لأنه نفى الحل واستثنى المنشد والاستثناء من النفي إثبات فيكون الحل ثابتًا للمنشد أي المعرف يريد بعد قيامه بوظيفة التعريف، وإنما يريد على هذا أن مكة وغيرها بهذا الاعتبار في تحريم اللقطة قبل التعريف وتحليلها بعد التعريف واحد، والسياق يقتضي اختصاصها عن غيرها. والجواب أن الذي أشكل على غير مالك إنما هو

تعطيل المفهوم إذ مفهوم اختصاص مكة بحل اللقطة بعد التحريم وتحريمها قبله أن غير مكة ليس كذلك بل تحل لقطته مطلقًا أو تحرم مطلقًا وهذا لا قائل به فإذا آل الأمر إلى هذا فالخطب سهل يسير، وذلك أنّا اتفقنا على أن التخصيص إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وكذلك نقول هنا الغالب أن لقطة مكة ييأس ملتقطها من صاحبها لتفرق الخلق عنها إلى الآفاق البعيدة فربما داخله الطمع فيها من أوّل وهلة فاستحلها قبل التعريف فخصّها الشارع بالنهي عن استحلال لقطتها قبل التعريف لاختصاصها بما ذكرناه، فقد ظهر للتخصيص فائدة سوى المفهوم فسقط الاحتجاج به وانتظم الاختصاص حينئذٍ وتناسب السياق، وذلك أن المأيوس من معرفة صاحبه لا يعرف كالموجود بالسواحل لكن مكة تختص بأن تعرف لقطتها وقد نص بعضهم على أن لقطة العسكر بدار الحرب إذا تفرق العسكر لا تعرف سنة لأنها إما لكافر فهي مباحة واما لأهل العسكر فلا معنى لتعريفها في غيرهم فظهر حينئذٍ اختصاص مكة بالتعريف، وإن تفرق أهل الموسم مع أن الغالب كونها لهم وإنهم لا يرجعون لأجلها فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: ولا تحل لقطتها إلا بعد الإنشاد والتعريف سنة بخلاف ما هو من جنسها كمجتمعات العساكر ونحوها، فإن تلك تحل بنفس افتراق العسكر، ويكون المذهب حينئذٍ أقعد بظاهر الحديث من مذهب المخالف لأنهم يحتاجون إلى تأويل اللام وإخراجها عن التمليك ويجعلون المراد ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فيحل له إنشادها لا أخذها فيخالفون ظاهر اللام وظاهر الاستثناء، ويحقق ما قلناه من أن الغالب على مكة أن لقطتها لا يعود لها صاحبها أنا لم نسمع أحدًا ضاعت له نفيقة بمكة فرجع إليها ليطلبها ولا بعث في ذلك بل ييأس منها بنفس التفرق والله أعلم.
(ولا يختلى) بضم التحتية وسكون المعجمة مقصورًا أي لا يقطع (خلاها) بفتح المعجمة مقصورًا كلؤها الرطب. (فقال عباس) بدون أل عمه عليه الصلاة والسلام (يا رسول الله إلا الإذخر) بكسر الهمزة وبالذال والخاء المكسورة المعجمتين نبت معروف طيب الرائحة (فقال) عليه الصلاة والسلام ولأبي الوقت قال: (إلا الإذخر) بالنصب على الاستثناء كالأوّل قال ابن مالك وهو المختار على الرفع إما لكون الاستثناء متراخيًا عن المستثنى منه فتفوت المشاكلة بالبدلية وإما لكون الاستثناء عرض في آخر الكلام ولم يكن مقصودًا أولاً.
2434 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ، قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ. وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلاَّ

الإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِلاَّ الإِذْخِرَ. فَقَامَ أَبُو شَاهٍ -رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ- فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ. قُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن موسى) بن عبد ربه السختياني البلخي المعروف بخت قال: (حدّثنا الوليد بن مسلم) القرشي

(4/247)


أبو العباس الدمشقي قال: (حدّثنا الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو (قال: حدّثني) بالإفراد (يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة واسمه صالح (قال: حدّثني) بالإفراد أيضًا (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (قال: حدّثني) بالإفراد أيضًا (أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: لما فتح الله على رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة قام في الناس) عقب ما قتل رجل من خزاعة رجلاً من بني ليث راكبًا على راحلته
فخطب (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال):
(إن الله حبس عن مكة الفيل) بالفاء المكسورة والمثناة التحتية الساكنة وهو المذكور في التنزيل في قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1] ولغير الكشميهني كما في الفتح القتل بالقاف المفتوحة والفوقية الساكنة والصواب الأول والذي في الفرع كأصله القتل بالوجهين لأبي ذر عن الكشميهني (وسلّط عليها) على مكة (رسوله والمؤمنين فإنها لا تحل) أي لم تحل (لأحد كان قبلي وإنها أحلت لي) بضم الهمزة وكسر الحاء المهملة أي أن أقاتل فيها (ساعة من نهار) هي ساعة الفتح (وإنها لا تحل) ولأبي ذر: لن تحل (لأحد بعدي) ولأبي ذر: من بعدي (فلا ينفر صيدها) بالرفع نائبًا عن الفاعل أي لا يجوز لمحرم ولا لحلال (ولا يختلى) أي لا يقطع (شوكها) بالرفع أيضًا كسابقه (ولا تحل ساقطتها) لقطتها (إلا لمنشد) معرّف يعرّفها ويحفظها لمالكها ولا يتملكها كسائر اللقطات في غيرها من البلاد (ومن قتل) بضم القاف وكسر التاء (له قتيل) بالرفع نائبًا عن الفاعل (فهو بخير النظرين إما أن يفدى) بضم أوّله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول أي يعطى الدّية (وإما أن يقيد) بضم أوّله وكسر ثانيه أي يقتصّ.
(فقال العباس) بن عبد المطلب -رضي الله عنه- (إلا الإذخر فإنا) وللحموي والمستملي: فإنما (نجعله لقبورنا) نمهدها به ونسدّ به فرج اللحد المتخللة بين اللبنات (و) سقف (بيوتنا) نجعله فوق الخشب والمعنى ليكن الإذخر استثناء من كلامك يا رسول الله فيتمسك به من يرى انتظام الكلام من متكلمين، لكن التحقيق في المسألة أن كلاًّ من المتكلمين إذا كان ناويًا لما يلفظ به الآخر كان كل متكلمًا بكلام تام ولهذا لم يكتفِ في هذا الحديث بقول العباس إلا الإذخر (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: إلا الإذخر) وذلك إما بوحي أو إلهام أو اجتهاد على الخلاف المشهور في مثله.
(فقام أبو شاه) بالهاء الأصلية منوّنة وهو مصروف. قال عياض: كذا ضبطه بعضهم وقرأته أنا معرفة ونكرة، ونقل ابن الملقن عن ابن دحية أنه بالتاء منصوبًا. قال في المصابيح: لا يتصور نصبه لأنه مضاف إليه في مثل هذا العلم دائمًا وإنما مراده أنه معرب بالفتحة في حال الجر لكونه غير

منصرف وذلك لأن القاعدة في العلم ذي الإضافة اعتبار حال المضاف إليه بالنسبة إلى الصرف وعدمه وامتناع دخول اللام ووجوبها، فيمتنع مثل هذا ومثل أبي هريرة من الصرف ومن دخول الألف واللام، وينصرف مثل أبي بكر، وتجب اللام في مثل امرئ القيس، وتجوز في مثل ابن العباس اهـ.
وأبو شاه (رجل من أهل اليمن) ويقال إنه كلبي ويقال فارسي من الأبناء الذين قدموا اليمن في نصرة سيف بن ذي يزن. قال في الإصابة: كذا رأيته بخط السلفي وقال إن هاءه أصلية وهو بالفارسي ومعناه الملك. قال: ومن ظن أنه باسم أحد الشاه فقد وهم انتهى.
(فقال) أي أبو شاه (اكتبوا لي يا رسول الله) يعني الخطبة المذكورة (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (اكتبوا لأبي شاه) قال الوليد بن مسلم (قلت للأوزاعي) عبد الرحمن (ما قوله) أي أبي شاه (اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة) بالنصب على المفعولية ولأبي ذر قال هذه الخطبة بالرفع (التي سمعها من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
وفي هذا الحديث ثلاثة من المدلسين على نسق واحد لكن قد صرح كل واحد من رواته بالتحديث فزالت التهمة، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن الصحابي، وأخرجه مسلم في الحج وكذا أبو داود وفي العلم والدّيات والنسائي في العلم والترمذي وابن ماجة في الدّيات.

8 - باب لاَ تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ
هذا (باب) بالتنوين (لا تحتلب ماشية أحد بغير إذن) بالتنوين

(4/248)


ولأبي ذر عن الكشميهني: بغير إذنه بالهاء والماشية فيما قاله في النهاية تقع على الإبل والبقر والغنم لكنها في الغنم أكثر.
2435 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) هو ابن أنس الإمام (عن نافع) وهي موطأ محمد بن الحسن عن مالك أخبرنا نافع (عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله) وفي رواية يزيد بن الهاد عن مالك عند الدارقطني في الموطآت له أنه سمع رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا يحلبن) بضم اللام وفي رواية يزيد بن الهاد المذكورة لا يحتلبن بكسرها وزيادة مثناة فوقية قبلها (أحد ماشية امرئ) وكذا امرأة مسلمين أو ذميين (بغير إذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته) بضم الراء وفتحها في الفرع وأصله وغيرهما أي موضعه المصون لما يخزن فيه كالغرفة (فتكسر) بضم

التاء وفتح السين والنصب عطفًا على أن تؤتى (خزانته) بكسر الخاء وبالرفع نائبًا عن الفاعل مكانه أو وعاؤه الذي يخزن فيه ما يريد حفظه (فينتقل طعامه) بضم الياء وسكون النون وفتح التاء والقاف من فينتقل منصوب عطفًا على المنصوب السابق (فإنما تخزن) بضم الزاي وللكشميهني تحرز بضم أوّله وإهمال الحاء وكسر الراء بعدها زاي (لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم) نصب بالكسرة على المفعولية لضروع والمراد وإن فشبّه عليه الصلاة والسلام ضروع الواشي في ضبطها الألبان على أربابها بالخزانة التي تحفظ ما أودعت من متاع وغيره (فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه) وفيه النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئًا بغير إذنه وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبّه به على ما هو أعلى منه.
وقال النووي في شرح المهذّب: اختلف العلماء فيمن مرّ ببستان أو زرع أو ماشية فقال الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئًا إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي والجمهور، وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء وقال أحمد: إذا لم يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج إلى ذلك وفي الرواية الأخرى إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالتين، وعلّق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث. قال البيهقي: يعني حديث ابن عمر مرفوعًا: إذا أمر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة أخرجه الترمذي واستغربه. قال البيهقي: لم يصح وجاء من أوجه أُخر غير قوية. قال الحافظ ابن حجر: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها انتهى.
وحديث الباب أخرجه مسلم في القضاء وأبو داود في الجهاد.

9 - باب إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ، لأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردّها عليه لأنها وديعة عنده).
2436 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رضي الله عنه-: «أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اللُّقَطَةِ قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ -أَوِ احْمَرَّ وَجْهُهُ- ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي مولاهم البغلاني البلخي قال: (حدّثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المدني (عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن) التميمي مولاهم المدني المعروف بربيعة الرأي (عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن رجلاً) وفي السابقة أنه

أعرابي وهو يرد على ابن بشكوال حيث فسره ببلال، وفسره الحافظ ابن حجر بسويد والد عقبة بن سويد الجهني لحديث أخرجه الحميديّ وابن السكن وغيرهما كما مرّ (سأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن اللقطة) ما حكمها؟ (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(عرّفها سنة) وجوبًا ولا يجب الاستيعاب للسنة بل تعرّف على العادة (ثم اعرف وكاءها) بكسر الواو الخيط الذي يربط بها وعاؤها (وعفاصها) بكسر العين وعاءها، وهذا يقتضي أن التعريف يكون قبل معرفة علاماتها وفي باب ضالة الغنم اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة وهي رواية الأكثر وهي تقتضي أن يكون التعريف متأخرًا عن العلامات، فجمع بينهما النووي بأن يكون مأمورًا بمعرفة العلامات أوّل ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما مرّ ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها تعرفها مرة أخرى تعرفًا وافيًا محقّقًا ليعلم قدرها وصفتها قبل التصرف فيها (ثم استنفق بها فإن جاء ربها) أي مالكها (فأدّها إليه) إن كانت موجودة وإلاّ فردّ

(4/249)


مثلها إن كانت مثلية أو قيمتها يوم التملك إن كانت متقوّمة لأنه يوم دخولها في ضمانه وضمانها ثابت في ذمته من يوم التلف، ولا ريب أن المأذون في استنفاقه إذا أنفق لا تبقى عينه وإن جاء المالك وقد بيعت اللقطة فله الفسخ في زمن الخيار لاستحقاقه الرجوع لعين ماله مع بقائه، وقيل ليس له الفسخ لأن خيار العقد إنما يستحقه العاقد دون غيره لأن شرط الخيار للمشتري وحده فليس للمالك الخيار، ولو كانت موجودة لكنها نقصت بعد التملك لزم الملتقط ردّها مع غرم الأرش لأن جميعها مضمون عليه فكذا بعضها وزاد المؤلّف في الحديث المسوق في ضالة الغنم وكانت وديعة عنده.
(قالوا) ولأبوي ذر والوقت: فقال أي الرجل (يا رسول الله فضالة الغنم) ما حكمها؟ (قال) عليه الصلاة والسلام: (خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) أي إن تركتها ولم يأخذها غيرك يأكلها الذئب غالبًا فنبّه على جواز التقاطها وتملكها وعلى ما هو العلة وهو كونها معرّضة للضياع ليدل على اطّراد هذا الحكم في كل حيوان يعجز عن الرعية بغير راعٍ والتحفّظ عن صغار السباع.
(قال) السائل (يا رسول الله فضالة الإبل) ما حكمها؟ (قال) زيد بن خالد (فغضب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى احمرّت وجنتاه) ما ارتفع من وجهه الكريم (أو احمر وجهه) شك الراوي (ثم قال) عليه الصلاة والسلام: (ما لك ولها معها حذاؤها وسقاؤها) خفّها وجوفها زاد في الرواية الأخرى ترد الماء وتأكل الشجر (حتى يلقاها ربّها) وأشار بالتقييد بقوله معها سقاؤها إلى أن المانع والفارق بينها وبين الغنم ونحوها استقلالها بالتعيش.

10 - باب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا تَضِيعُ حَتَّى لاَ يَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ؟
هذا (باب) بالتنوين (هل يأخذ) الشخص (اللقطة ولا يدعها) حال كونها (تضيع) بتركه إياها

(حتى لا يأخذها من لا يستحق). قال الحافظ ابن حجر: سقطت "لا" بعد حتى في رواية ابن شبويه وأظن الواو سقطت من قبل حتى، والمعنى لا يدعها تضيع ولا يدعها حتى يأخذها من لا يستحق، وتعقبه العيني فقال: لا يحتاج إلى هذا الظن ولا إلى تقدير الواو لأن المعنى صحيح والمعنى لا يتركها ضائعة ينتهي إلى أخذها من لا يستحق، وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره اللقطة مستدلاًّ بحديث الجارود مرفوعًا عند النسائي بإسناد صحيح: ضالة المسلم حرق النار بفتح الحاء المهملة والراء وقد تسكن الراء، والمعنى أن ضالة المسلم إذا أخذها إنسان ليتملكها أدّته إلى النار وهو تشبيه بليغ حذف منه حرف التشبيه للمبالغة وهو من تشبيه المحسوس بالمحسوس، ومذهب الشافعية استحبابها لأمين وثّق بنفسه وتكره لفاسق لئلا تدعوه نفسه إلى الخيانة ولا تجب، وإن غلب على ظنه ضياع اللقطة وأمانة نفسه كما لا يجب قبول الوديعة. وحملوا حديث الجارود على من لا يعرفها لحديث زيد بن خالد عند مسلم من آوى الضالة فهو ضال ما لم يعرفها.
2437 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِي غَزَاةٍ، فَوَجَدْتُ سَوْطًا، فَقَالَ لِي: أَلْقِهِ، قُلْتُ: لاَ، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ وَإِلاَّ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ. فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا، فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ -رضي الله عنه- فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً. ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً. ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً. ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا».
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ بِهَذَا، قَالَ: "فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي أَثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلاً وَاحِدًا".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي بمعجمة ثم مهملة قال: (حدّثنا شعبة) ابن الحجاج (عن سلمة بن كهيل) بالتصغير الحضرمي أبي يحيى الكوفي أنه (قال: سمعت سويد بن غفلة) بتصغير سويد وفتح الغين المعجمة والفاء واللام من غفلة الجعفي المخضرم التابعي الكبير (قال: كنت مع سلمان بن ربيعة) بفتح السين وسكون اللام ابن يزيد بن عمرو الباهلي يقال له صحبة وكان يلي الخيول أيام عمر وهو أول من استقضي على الكوفة (وزيد بن صوحان) بضم الصاد المهملة وسكون الواو وبالحاء المهملة العبدي التابعي الكبير المخضرم (في غزاة) زاد أحمد من طريق سفيان عن سلمة حتى إذا كنّا بالعذيب وهو بضم العين المهملة وفتح الذال المعجمة آخره موحدة موضع أو هو بين الجار وينبع أو وادٍ بظاهر الكوفة (فوجدت سوطًا فقال لي) أحدهما ولأبي ذر: فقالا لي أي سلمان وزيد (ألقه) قال ابن غفلة (قلت لا) ألقيه (ولكن) ولأبي ذر: ولكني (إن وجدت صاحبه) دفعته إليه (وإلا استمتعت به، فلما رجعنا حججنا فمررت بالمدينة فسألت أُبي بن كعب رضي الله تعالى عنه) عن

حكم التقاط السوط. (فقال: وجدت صرة على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها مائة دينار) استدلّ به لأبي حنيفة

(4/250)


في تفرقته بين قليل اللقطة وكثيرها فيعرّف الكثير سنة والقليل أيامًا، وحدّ القليل عنده ما لا يوجب القطع وهو ما دون العشرة (فأتيت بها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(عرّفها حولاً فعرفتها حولاً) أي فلم أجد من يعرفها (ثم أتيت) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال) عليه الصلاة والسلام (عرفها حولاً فعرفتها حولاً) أي فلم أجد من يعرفها (ثم أتيته) عليه الصلاة والسلام (فقال) عليه الصلاة والسلام (عرفها حولاً فعرفتها حولاً) أي فلم أجد من يعرفها (ثم أتيته الرابعة) أي بعد أن عرفتها ثلاثًا (فقال اعرف عدتها ووكاءها ووعاءها فإن جاء صاحبها) فأدّها إليه (وإلا) بأن لم يجيء (استمتع بها) بدون فاء. قال ابن مالك: في هذه الرواية حذف جواب إن الأولى وحذف شرط إن الثانية وحذف الفاء من جوابها، والأصل فإن جاء صاحبها أخذها أو نحو ذلك وإن لا يجيء فاستمتع بها.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) واسمه عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عثمان بن جبلة بفتح الجيم والموحدة الأزدي البصري (عن شعبة) بن الحجاج (عن سلمة) هو ابن كهيل (بهذا) الحديث المذكور.
(قال) شعبة بن الحجاج (فلقيته) أي سلمة بن كهيل كما صرّح به مسلم (بعد) بالبناء على الضم حال كونه (بمكة فقال) سلمة (لا أدري) قال سويد (أثلاثة أحوال أو) قال (حولاً واحدًا) وقد مرّ ما في هذه المسألة من البحث وأن الشك يوجب سقوط المشكوك فيه وهو الثلاثة فيجب العمل بالجزم وهو التعريف سنة واحدة في أول اللقطة.

11 - باب مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ
(باب من عرف اللقطة ولم يدفعها) بالدال المهملة ولأبي ذر عن الكشميهني: ولم يرفعها بالراء (إلى السلطان).
2438 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ -رضي الله عنه-: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اللُّقَطَةِ، قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْ بِهَا. وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، دَعْهَا حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا. وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ. فَقَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي بكسر الفاء قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن ربيعة) الرأي (عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد) الجهني (-رضي الله عنه- أن أعرابيًّا) مرّ الخلاف
في اسمه (سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن اللقطة) ما حكمها؟ (قال) عليه الصلاة والسلام:
(عرفها سنة فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها) وعائها (ووكائها) فادفعها إليه (وإلاّ) بأن لم يجيء أحد أو جاء ولم يخبر بعلاماتها (فاستنفق بها) فإن جاء صاحبها فردّ بدلها.
(وسأله) الأعرابيّ (عن) حكم (ضالة الأبل فتمعر) بتشديد العين المهملة أي تغير (وجهه) عليه الصلاة والسلام من الغضب (وقال ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها) بالذال المعجمة (ترد الماء وتأكل الشجر) فهي مستغنية بذلك عن الحفظ (دعها) اتركها (حتى يجدها ربها) مالكها. نعم إذا وجد الإبل أو نحوها في العمارة فيجوز له التقاطها للتملك كما مرّ مع غيره في ضالة الإبل.
(وسأله) الأعرابيّ أيضًا (عن) حكم (ضالة الغنم. فقال) عليه الصلاة والسلام (هي لك) إن أخذتها (أو لأخيك) ملتقط آخر (أو للذئب) يأكلها إن تركتها ولم يأخذها غيرك لأنها لا تحمي نفسها.

12 - باب
هذا (باب) بالتنوين بغير ترجمة وسقط لأبي ذر فهو كالفصل من سابقه.
2439 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْبَرَاءُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- ح. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "انْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ -فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ- فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا -ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى- فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِدَاوَةً، عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ". [الحديث 2439 - أطرافه 3615، 3652، 3908، 3917، 5607]
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه قال: (أخبرنا النضر) بسكون الضاد المعجمة ابن شميل مصغرًا قال: (أخبرنا إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق (عن) جده (أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (قال: أخبرني) بالإفراد (البراء) بن عازب (عن أبي بكر) الصديق (-رضي الله عنهما-).
وبه قال: (ح حدّثنا عبد الله بن رجاء) الغداني بضم الغين المعجمة والتخفيف البصري وثّقه غير واحد قال: (حدّثنا إسرائيل) بن يونس (عن) جدّه (أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن

البراء) بن عازب (عن أبي بكر) الصديق (-رضي الله عنهما-) أنه (قال: انطلقت) وفي علامات النبوّة من طريق زهير بن معاوية أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق لا يمرّ فيه أحد فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس فنزلنا عنده وسويت للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكانًا بيدي ينام عليه وبسطت فيه فروة وقلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام وخرجت أنفض ما حوله (فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه فقلت) وسقطت الفاء لغير

(4/251)


أبي ذر وثبتت له في نسخة (لمن) ولأبي ذر ممن بالميم بدل اللام (أنت؟ قال: لرجل من قريش فسماه فعرفته) ولم يعرف اسم الراعي ولا صاحب الغنم؟ وذكر الحاكم في الإكليل ما يدل على أنه ابن مسعود. قال الحافظ ابن حجر: وهو وهم (فقلت: هل في غنمك من لبن) بفتح اللام والموحدة وحكى عياض أن في رواية لبن بضم اللام وتشديد الموحدة جمع لابن أبي ذوات لبن (فقال: نعم) فيها (فقلت: هل أنت حالب لي)؟ قال في الفتح: الظاهر أن مراده بهذا الاستفهام أي أمعك إذن في الحلب لمن يمرّ بك على سبيل الضيافة، وبهذا يندفع الإشكال وهو كيف استجار أبو بكر أخذ اللبن من الراعي بغير إذن مالك الغنم، ويحتمل أن يكون أبو بكر لما عرفه عرف رضاه بذلك لصداقته له أو إذنه العام بذلك (قال): الراعي (نعم) أحلب لك. قال أبو بكر -رضي الله عنه- (فأمرته فاعتقل شاة من غنمه) أي حبسها والاعتقال أن يضع رجله بين فخذي الشاة ويحلبها (ثم أمرته أن ينفض ضرعها) أي ثديها (من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفّيه) من الغبار أيضًا (فقال) ولأبي الوقت: قال (هكذا ضرب إحدى كفّيه بالأخرى فحلب كثبة) بضم الكاف وسكون المثلثة وفتح الموحدة أي قدر قدح أو شيئًا قليلاً أو قدر حلبة (من لبن وقد جعلت لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إداوة) ركوة (على فمها) بالميم، ولأبي ذر والأصيلي عن الحموي والمستملي: على فيها (خرقة) بالرفع (فصببت على اللبن) من الماء الذي في الإداوة (حتى برد أسفله) بفتح الموحدة والراء (فانتهيت إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في العلامات فوافقته حين استيقظ (فقلت اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت) الحديث في شأن الهجرة، وقد ساقه بأتم من هذا السياق في العلامات.
قال ابن المنير: أدخل البخاري هذا الحديث في أبواب اللقطة لأن اللبن إذ ذاك في حكم الضائع المستهلك فهو كالسوط الذي اغتفر التقاطه، وأعلى أحواله أن يكون كالشاة الملتقطة في المضيعة، وقد قال فيها: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" وكذا هذا اللبن إن لم يحلب ضاع، وتعقبه في المصابيح بأنه قد يمنع ضياعه مع وجود الراعي بحفظه وهذا يقدح في تشبيهه بالشاة لأنها بمحل مضيعة بخلاف هذا اللبن والله الموفّق والمعين على إتمام هذا الكتاب والنفع به والإخلاص فيه.