شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
52 - كتاب الشهادات
(بسم الله الرحمن الرحيم).
جمع شهادة وهي كما في القاموس خبر قاطع وقد شهد كعلم وكرم
وقد تسكن هاؤه وشهده كسمعه شهودًا حضره فهو شاهد الجمع
شهود وشهد ولزيد بكذا شهادة أدّى ما عنده من الشهادة فهو
شاهد الجمع شهد بالفتح وجمع الجمع شهود وأشهاد واستشهده
سأله أن يشهد له والشهيد وتكسر شينه الشاهد والأمين في
شهادته انتهى.
والفرق بين الشهادة والرواية مع أنهما خبر إن كما في شرح
البرهان للمازري أن المخبر عنه في الرواية أمر عام لا يختص
بمعين نحو الأعمال بالنيات والشفعة فيما لم يقسم فإنه لا
يختص بمعين بل عام في كل الخلق والأعصار والأمصار بخلاف
قول العدل لهذا عند هذا دينار فإنه إلزام لمعين لا يتعداه،
وتعقبه الإمام ابن عرفة بأن الرواية تتعلق بالجزئي كثيرًا
كحديث: يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة انتهى.
وقد تكون مركبة من الرواية والشهادة كالإخبار عن رؤية هلال
رمضان فإنه من جهة أن الصوم لا يختص بشخص معين بل عام على
من دون مسافة القصر رواية، ومن جهة أنه مختص بأهل المسافة
ولهذا العام شهادة قاله: الكرماني. وقد ثبتت البسملة قبل
كتاب في الفرع ونسب ذلك فى الفتح لرواية النسفيّ وابن
شبويه وفي بعض النسخ سقوطها.
1 - باب مَا جَاءَ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ
وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ
اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ
مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ
هُوَ
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا
مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا
أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ
اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَنْ لاَ
تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ لاَ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ
وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ
عَلِيمٌ} [البقرة: 282] وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا
أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ
تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا
أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا} [النساء: 135].
(باب ما جاء في البينة على المدعي) بكسر العين (لقوله) زاد
أبو ذر تعالى ولأبي ذر أيضًا عز وجل ({يا أيها الذين آمنوا
إذا تداينتم بدين}) أي إذا داين بعضكم بعضًا تقول داينته
إذا عاملته نسيئة معطيًا أو آخذًا ({إلى أجل مسمى}) معلوم
بالأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج ({فاكتبوه}) قال
ابن كثير: هذا إرشاد من الله تعالى لعباده المؤمنين إذا
تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ
لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد، ويقال مما ذكره السمرقندي
مَن ادّان دينًا وا يكتب فإذا نسي دينه ويدعو الله تعالى
بأن يظهره يقول الله تعالى: أمرتك بالكتابة فعصيت أمري،
والجمهور على أن الأمر هنا للاستحباب ({وليكتب بينكم كاتب
بالعدل}) أي بالقسط من غير زيادة ولا نقصان ({ولا يأب
كاتب}) ولا يمتنع أحد من الكتاب ({أن يكتب كما علمه الله})
مثل ما علمه الله من كتب الوثائق ما لم يكن يعلم
({فليكتب}) نلك الكتابة المعلمة ({وليملل الذي عليه الحق})
وليكن المملل من عليه الحق لأنه المقرّ المشهود عليه
({وليتق الله ربه}) أي المملي أو الكاتب ({ولا يبخس}) ولا
ينقص ({منه شيئًا}) أي من الحق أو الكاتب لا ينجس مما أمل
عليه ({فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا}) ناقص العقل
مبذرًّا ({أو ضعيفًا}) صبيًّا أو ضعيفًا مختلاًّ ({أو لا
يستطيع أن يمل هو}) أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لخرس أو
جهل باللغة ({فليملل وليه بالعدل}) أي الذي يلي أمره ويقوم
مقامه من قيم إن كان صبيًّا أو مختل عقل أو وكيل أو مترجم
إن كان غير مستطيع وهو دليل جريان النيابة في الإقرار
ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل ({واستشهدوا}) على
حقكم ({شهيدين من رجالكم}) المسلمين الأحرار البالغين
وقال: ابن كثير أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة
({فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}) وهو مخصوص بالأموال
عندنا ومما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة ({ممن ترضون
من الشهداء}) لعلمكم بعد التهم ({أن تضل إحداهما فتذكر
إحداهما الأخرى}) أي لأجل أن إحداهما إن ضلّت الشهادة بأن
نسيتها ذكرتها الأخرى وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن
({ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا}) لأداء الشهادة عند
الحاكم فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت،
(4/371)
وإلاّ فهو فرض كفاية أو التحمل وسموا شهداء
تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع وما مزيدة ({ولا تسأموا})
ولا تملوا من كثرة مدايناتكم ({أن تكتبوه}) أي الدين أو
الكتاب ({صغيرًا أو كبيرًا}) صغيرًا كان الحق أو كبيرًا أو
مختصرًا كان الكتاب أو مشبعًا ({إلى أجلها}) أي إلى وقت
حلوله الذي أقرّ به المديون ({ذلكم}) الذي أمرناكم به من
الكتابة ({أقسط عند الله}) أعدل ({وأقوم للشهادة}) وأثبت
لها وأعون على إقامتها إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة
لاحتمال أنه لولا الكتابة لنسيه كما هو الواقع غالبًا
({وأدنى أن لا ترتابوا}) وأقرب في أن لا تشكوا في جنس
الدين وقدره وأجله والمشهور ونحو ذلك ثم استثنى من الأمر
بالكتابة فقال: ({إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم
فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها}) أي إلا أن تتبايعوا يدًا
بيد فلا بأس أن لا تكتبوا لبعده عن التنازع والنسيان
({وأشهدوا إذا تبايعتم}) هذا التبايع أو مطلقًا لأنه أحوط
({ولا يضارّ كاتب ولا شهيد}) فيكتب هذا خلاف ما علم ويشهد
هذا بخلاف ما سمع أو الضرار بهما مثل أن يعجلا عن أمر مهم
ويكلفا الخروج عما حدّ لهما ولا يعطي الكاتب جعله والشاهد
مؤونة مجيئه حيث كانت ({وإن تفعلوا}) الضرار بالكاتب
والشاهد ({فإنه فسوق بكم}) خروج عن الطاعة لاحق بكم
({واتقوا الله}) في مخالفة أمره ونهيه ({ويعلمكم الله})
أحكامه المتضمنة لمصالحكم ({والله بكل شيء عليم}) [البقرة:
282] عالم بحقائق الأمور ومصالحها لا يخفى عليه شيء بل
علمه محيط بجميع الكائنات ولفظ رواية أبي ذر بعد قوله:
({فاكتبوه}) إلى قوله: ({واتقوا الله ويعلمكم الله والله
بكل شيء عليم}) وكذا لابن شبويه، وساق في رواية الأصيلي
وكريمة الآية كلها قاله الحافظ ابن حجر.
(وقوله تعالى) في سورة النساء ولأبوي ذر والوقت وقول الله
عز وجل: ({يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط})
مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته ({شهداء لله}) بالحق
تقيمون شهاداتكم لوجه الله تعالى ({ولو}) كانت الشهادة
({على أنفسكم}) بأن تقرّوا عليها لأن الشهادة بيان الحق
سواء كان الحق عليه أو على غيره ({أو الوالدين والأقربين})
ولو على أقاربكم ({إن يكن}) أي المشهود عليه أو كل واحد
منه ومن المشهود له ({غنيًّا أو فقيرًا}) فلا تمتنعوا عن
إقامة الشهادة فلا تراعوا الغني لغناه ولا الفقير لفقره
({فالله أولى بهما}) بالغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم
تكن الشهادة لهما أو عليهما صلاحًا لما شرعها ({فلا تتبعوا
الهوى أن تعدلوا}) لأن تعدلوا عن الحق ({وإن تلووا})
ألسنتكم عن شهادة الحق أو عن حكومة العدل ({أو تعرضوا}) عن
أدائها ({فإن الله كان بما تعملون خبيرا}) [النساء: 135]
تهديد للشاهد لكيلا يقصر في أداء الشهادة ولا يكتمها،
ولأبي ذر وابن شبويه بعد قوله: {بالقسط} إلى قوله: {بما
تعملون خبيرًا}.
ووجه الاستدلال بما ذكره على الترجمة كما قاله ابن المنير
أن المدعي لو كان مصدقًا بلا بيّنة لم يحتج إلى الإشهاد
ولا إلى كتابة الحقوق املائها فالإرشاد إلى ذلك يدل على
الحاجة إليه وفي ضمن ذلك أن البينة على المدّعي، ولأن الله
تعالى حين أمر الذي عليه الحق بالإملاء اقتضى تصديقه فيما
أقرّ به، وإذا كان مصدّفًا فالبينة على مَن ادّعى تكذيبه،
ولم يسق المؤلّف -رحمه الله- حديثًا اكتفاء بالآيتين.
2 - باب إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ أَحَدًا فَقَالَ: لاَ
نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا، أَو مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا
وساق حديث الإفك فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لأسامة حين استشاره، فقال: أهلك ولا نعلم إلا
خيرًا
هذا (باب) بالتنوين (إذا عدّل) بتشديد الدال (رجل أحدًا)
ولأبي ذر عن المستملي: رجلاً بدل أحدًا (فقال) المعدل (لا
نعلم إلا خيرًا أو قال ما) ولأبوي ذر والوقت أو ما (علمت
إلا خيرًا) ما الحكم في ذلك زاد أبو ذر وساق حديث الإفك
فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأسامة
حين عدّله قال أهلك ولا نعلم إلا خيرًا. قال في الفتح: ولم
يقع هذا كله في رواية الباقين وهو اللائق لأن حديث الإفك
قد ذكر في الباب موصولاً وإن كان اختصره.
2637 - حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا ثوبانُ، وَقَالَ
اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بن الزبير وَابْنُ الْمُسَيَّبِ
وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بن عبد
الله عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-وَبَعْضُ
حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا- حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ
الإِفْكِ ما قَالُوا: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا وَأُسَامَةَ حِينَ
اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ
أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَقَالَ: أَهْلُكَ وَلاَ
نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا. وَقَالَتْ بَرِيرَةُ: إِنْ
رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ
أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ
عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «مَنْ يَعْذِرُنَا مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي
أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ
مِنْ أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً
مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا».
وبه قال: (حدّثنا حجاج) هو ابن منهال قال: (حدّثنا عبد
الله بن عمر) بضم العين وفتح الميم ابن غانم (النميري) بضم
النون وفتح الميم قال: (حدّثنا ثَوبان) كتب في اليونينية
وفرعها على ثوبان علامة السقوط من غير
(4/372)
رقم ولأبي ذر: حدّثنا يونس بن يزيد الأيلي.
(وقال الليث) بن سعد الإمام مما وصله في تفسير سورة النور
(حدّثني) بالإفراد (يونس) الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه
(قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام وسقط
لغير أبي ذر ابن الزبير (وابن المسيب) سعيد (وعلقمة بن
وقاص) بتشديد القاف الليثي (وعبيد الله بن عبد الله) بضم
العين في الأول ابن عتبة بن مسعود وسقط ابن عبد الله لغير
أبي ذر (عن حديث عائشة رضي الله عنها وبعض حديثهم يصدق
بعضًا) أي وحديث بعضهم يصدّق بعضًا فيكون من باب المقلوب
أو المراد أن حديث كلٍّ منهم يدل على صدق الراوي في بقية
حديثه لحسن سياقه وجودة حفظه (حين قال لها أهل الإفك) أسوأ
الكذب (ما قالوا) مما رموها به وبرّأها الله وسقط لغير
الكشميهني قوله ما قالوا: (فدعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليًا) هو ابن أبي طالب (وأسامة)
الفاء في فدعا عاطفة على محذوف
تقديره، وكان رسول الله قبل ذلك قد سمع ما قيل فدعا عليًّا
وأسامة (حين استلبث الوحي) استفعل من اللبث وهو الإبطاء
والتأخير والوحي بالرفع أي أبطأ نزوله (يستأمرما) يشاورهما
(في فراق أهله) عدلت عن قولها في فراقي إلى قولها في فراق
أهله لكراهتها التصريح بإضافة الفراق إليها (فأما أسامة
فقال: أهلك) بالرفع أي هم أهلك، ولأبي ذر: أهل بالنصب على
الإغراء أي الزم أهلك أي العفائف المعروفات بالصيانة (ولا
نعلم إلاّ خيرًا).
وهذا موضع الترجمة على ما لا يخفى، لكن اعترضه ابن المنير:
بأن التعديل إنما هو تنفيذ للشهادة وعائشة -رضي الله عنها-
لم تكن شهدت ولا كانت محتاجة إلى التعديل لأن الأصل
البراءة، وإنما كانت محتاجة إلى نفي التهمة عنها حتى تكون
الدعوى عليها بذلك غير مقبولة ولا مشبهة فيكفي في هذا
القدر هذا اللفظ فلا يكون فيه لمن اكتفى في التعديل بقوله
لا أعلم إلا خيرًا حجة انتهى.
ولا يلزم من أنه لا يعلم منه إلا خيرًا أن لا يكون فيه
شيء، وعند الشافعية لا يقبل التعديل ممن عدل غيره حتى يقول
هو عدل، وقيل: عدل علي ولي. قال الإمام: وهو أبلغ عبارات
التزكية ويشترط أن تكون معرفته به باطنة متقادمة بصحبة أو
جوار أو معاملة، وقال مالك: لا يكون قوله لا نعلم إلاّ
خيرًا تزكية حتى يقول رضًا ونقل الطحاوي عن أبي يوسف إنه
إذا قال: لا نعلم إلا خيرًا قبلت شهادته، والصحيح عند
الحنفية أن يقول هو عدل جائز الشهادة قال ابن فرشتاه:
وإنما أضاف إلى قوله هو عدل كونه جائز الشهادة لأن العبد
والمحدود في قذف يكونان عدلين إذا تابا ولا تقبل شهادتهما
انتهى.
(وقالت بريرة) خادمتها حين سألها عليه السلام هل رأيت
شيئًا يريبك (إن رأيت عليها أمرًا) بكسر همزة إن النافية
أي ما رأيت عليها شيئًا (أغمصه) بفتح الهمزة وسكون الغين
المعجمة وكسر الميم وبصاد مهملة أي أعيبها به (أكثر من
أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها) لرطوبة بدنها
وسقط لأبي ذر قوله جارية (فتأتي الداجن) بدال مهملة وبعد
الألف جيم الشاة تألف البيوت ولا تخرج إلى المرعى (فتأكله
فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من يعذرنا) أي من ينصرنا أو من يقوم بعذره فيما رمى به
أهلي من المكروه أو من يقوم بعذري إذا عاقبته على سوء ما
صدر منه، ورجح النووي هذا الثاني (في) وللكشميهني من (رجل)
هو عبد الله بن أبي (بلغني أذاه في أهل بيتي) فيما رمى به
من المكروه (فوالله ما علمت من أهلي إلاّ خيرًا ولقد ذكروا
رجلاً) هو صفوان بن معطل (ما علمت عليه) ولأبي ذر عن
الكشميهني فيه (إلاّ خيرًا).
وهذا الحديث أخرجه هنا مختصرًا، وأخرجه أيضًا في الشهادات
والمغازي والتفسير والإيمان والنذور والتوحيد ومسلم في
التوبة والنسائي في عشرة النساء والتفسير.
3 - باب شَهَادَةِ الْمُخْتَبِئ، وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ
حُرَيْثٍ
قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْكَاذِبِ الْفَاجِرِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ
وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ
يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَىْءٍ، وَإِنِّي
سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا.
(باب) حكم (شهادة المختبئ) بالخاء المعجمة والموحدة أي
الذي يختفي عند تحمل الشهادة (وأجازه) أي الاختباء عند
تحملها (عمرو بن حريث) بفتح العين وسكون الميم وحريث بضم
الحاء المهملة وبالمثلثة آخره مصغرًا المخزومي من
(4/373)
صغار الصحابة -رضي الله عنهم- ولأبيه صحبة
أيضًا وليس له في البخاري ذكر إلا هذا، ورواه البيهقي
(وقال) أي عمرو بن حريث (وكذلك يفعل) ما ذكر من الاختباء
عند التحمل (بالكاذب الفاجر) بسبب المديون الذي لا يعترف
بالدين ظاهرًا بل إذا خلا به صاحب الدين يعترف به فيسمع
إقراره به من هو مختف عمل بذلك، وبه قال الشافعي في الجديد
ومالك وأحمد، قال أبو حنيفة: لا.
(وقال الشعبي) بفتح المعجمة وسكون المهملة عامر فيما وصله
ابن أبي شيبة (وابن سيرين) محمد (وعطاء) هو ابن أبي رباح
(وقتادة) بن دعامة (السمع شهادة) وإن لم يشهد المقر،
(وقال) ولأبي ذر كان (الحسن) البصري (يقول) الذي سمع من
قوم شيئًا للقاضي (لم يشهدوني على شيء وإني) ولأبي ذر:
ولكن (سمعت) هم يقولون (كذا وكذا) وهذا وصله ابن أبي شيبة.
2638 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: "انْطَلَقَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُبَىُّ
بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ وَهْوَ
يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا
قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى
فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ، لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ أَوْ
زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ يَتَّقِي
بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادِ: أَىْ
صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ. فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ. قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ".
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه قال: (قال سالم سمعت) أبي (عبد الله بن عمر) بن الخطاب
(-رضي الله عنهما- يقول: انطلق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأُبيّ بن كعب الأنصاري يؤمان النخل)
أي يقصدانه ولأبي ذر عن الحموي والمستملي إلى النخل (التي
فيها ابن صياد) واسمه صافي (حتى إذا دخل رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في النخل (طفق) بكسر الفاء
جعل (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وخبر
طفق قوله (يتقي بجذوع النخل وهو يختل) بفتح المثناة
التحتية وسكون الخاء المعجمة وكسر الفوقية آخره لام أي حال
كونه يطلب (أن يسمع من ابن صياد شيئًا) من كلامه الذي
يقوله في خلوته ليعلم هو وأصحابه أكاهن هو أو ساحر (قبل أن
يراه) أي ابن صياد كما صرّح به في الجنائز (وابن صياد
مضطجع) الواو للحال (على فراشه في قطيفة) كساء له حمل (له)
أي لابن صياد (فيها) في القطيفة (رمرمة) براءين مهملتين
بينهما
ميم ساكنة وبعد الراء الثانية ميم أخرى أي صوت خفي (أو
زمزمة) بزاءين معجمتين ومعناها كالأولى والشك من الراوي
(فرأت أم ابن صياد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهو) أي والحال أنه (يتقي) يخفي نفسه (بجذوع
النخل) حتى لا تراه أم صياد (فقالت لابن صياد) أمه (أي
صافٍ) كقاضٍ أي يا صافٍ (هذا محمد) صلوات الله وسلامه عليه
(فتناهى ابن صياد) أي رجع إليه عقله وتنبّه من غفلته أو
انتهى عن زمزمته (قال رسول الله) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لو تركته) أمه ولم تعلمه بمجيئنا (بين) لنا من حاله ما
نعرف به حقيقة أمره. وهذا يقتضي الاعتماد على سماع الكلام
وإن كان السامع محتجبًا عن المتكلم إذا عرف صوته.
وهذا الحديث سبق في الجنائز في باب إذا أسلم الصبي فمات هل
يصلّى عليه وأخرجه أيضًا في بدء الخلق وغيره.
2639 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "جَاءَتِ امْرَأَةُ
رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ
فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلاَقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ
هُدْبَةِ الثَّوْبِ. فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي
إِلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ
وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ. وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ،
وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ
يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ. فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ
أَلاَ تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". [الحديث
2639 - أطرافه في: 5260، 5261، 5265، 5317، 5792، 5825،
6084].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عبد الله بن
محمد) المسندي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب (عن عروة) بن الزبير بن العوّام (عن
عائشة رضي الله عنها) أنها (قالت: جاءت امرأة رفاعة) بكسر
الراء (القرظي النبي) بالنصب والقرظي بضم القاف وفتح الراء
وبالظاء المعجمة من بني قريظة وهو أحد العشرة الذين نزل
فيهم ولقد وصلنا لهم القول الآية كما رواه الطبراني عنه
قال البغوي: ولا أعلم له حديثًا غيره واسم زوجته سهيمة،
وقيل غير ذلك مما يأتي إن شاء الله تعالى في النكاح ولأبي
ذر: جاءت إلى النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقالت) له عليه الصلاة والسلام: (كنت عند رفاعة فطلقني
فأبتَّ طلاقي) بهمزة مفتوحة وتشديد المثناة الفوقية كذا في
جميع ما وقفت عليه من النسخ في الأصول المعتمدة فأبتَّ
بالهمز من الثلاثي المزيد فيه، وقال العيني: فبتَّ من غير
همز من الثلاثي المجرّد قال وفي النسائي فأبتَّ من المزيد
انتهى.
نعم رأيت في النسخة المقروءة على الميدومي فطلّقني فأبتَّ
فزاد فطلّقني ولم يقل بعد أبت طلاقي، وفي الطلاق عند
المؤلّف طلّقني فبتَّ طلاقي أي قطع قطعًا كليًّا بتحصيل
البينونة الكبرى بالطلاق الثلاث متفرقات.
(فتزوّجت)
(4/374)
بعد انقضاء العدّة (عبد الرحمن بن الزبير)
بفتح الزاي وكسر الموحدة ابن باطا القرظي (إنما) أي إن
الذي (معه مثل هدبة الثوب) بضم الهاء وسكون الدال المهملة
طرفه الذي لم ينسج شبهوه بهدب العين وهو شعر جفنها ومرادها
ذكره وشبهته بذلك لصغره أو استرخائه وعدم انتشاره. قال في
العدة: والثاني أظهر، وجزم به ابن الجوزي لأنه يبعد أن
يبلغ في الصغر إلى حدّ لا تغيب منه الحشفة التي يحصل بها
التحلل (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة) سبب هذا الاستفهام قول زوجها
عبد الرحمن بن الزبير كما في مسلم أنها ناشز تريد رفاعة.
قال الكرماني: وفي بعضها ترجعين بالنون على لغة من يرفع
الفعل بعد أن حملاً على ما أختها (لا) رجوع لك إلى رفاعة
(حتى تذوقي عسيلته) أي عسيلة عبد الرحمن (ويذوق) هو أيضًا
(عسيلتك) بضم العين وفتح السين المهملتين مصغرًا فيهما
كناية عن الجماع فشبّه لذته بلذة العسل وحلاوته واستعار
لها ذوقًا. وقد روى عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة
مرفوعًا إن العسيلة هي الجماع. رواه الدارقطني فهو مجاز عن
اللذة وقيل العسيلة ماء الرجل والنطفة تسمى العسيلة،
وحينئذٍ فلا مجاز لكن ضعف بأن الإنزال لا يشترط، وإن قال
به الحسن البصري، وأنّث العسيلة لأنه شبّهها بالقطعة من
العسل أو أن العسل في الأصل يذكّر ويؤنّث، وإنما صغره
إشارة إلى القدر القليل الذي يحصل به الحلّ قال: النووي
واتفقوا على أن تغيب الحشفة في قبلها كافٍ من غير إنزال
وقال ابن المنذر: في الحديث دلالة على أن الزوج الثاني إن
واقعها وهي نائمة أو مغمى عليها لا تحسّ باللذة أنها لا
تحلّ للأوّل لأن الذوق أن تحسّ باللذة وعامّة أهل العلم
أنها تحلّ.
(وأبو بكر) الصديق رضي الله عنه (جالس عنده) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وخالد بن سعيد بن العاص)
الأموي (بالباب) الشريف النبوي (ينتظر أن يؤذن له فقال) أي
خالد وهو بالباب: (يا أبا بكر ألا) بفتح الهمزة وتخفيف
اللام (تسمع إلى هذه ما تجهر به عند النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من قولها: إنما معه مثل الهدبة وكأنه
استعظم تلفظها بذلك بحضرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وهذا موضع الترجمة لأن خالد بن سعيد أنكر على امرأة رفاعة
ما كانت تتكلم به عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مع كونه محجوبًا عنها خارج الباب، ولم ينكر
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك فاعتماد
خالد على سماع صوتها حتى أنكر عليها هو حاصل ما يقع من
شهادة السمع ولا معنى للإشهاد إلا الإسماع، فإذا أسمعه فقد
أشهده قصد ذلك أم لا؟ وقد قال الله تعالى: {ولا تكتموا
الشهادة} [البقرة: 283] ولم يقل الإشهاد والسماع شهادة
ولكن إذا صرّح المقرّ بالإشهاد فالأحسن أن يكتب الشاهد
أشهدني بذلك فشهدت عليه حتى يخلص من الخلاف.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه في النكاح
والنسائي فيه وفي الطلاق.
4 - باب إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَىْءٍ
وَقَالَ آخَرُونَ مَا عَلِمْنَا بذَلِكَ يُحْكَمُ بِقَوْلِ
مَنْ شَهِدَ
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلاَلٌ أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى
فِي الْكَعْبَةِ، وَقَالَ الْفَضْلُ: لَمْ يُصَلِّ،
فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ بِلاَلٍ. كَذَلِكَ إِنْ
شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفَ
دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ،
يُقْضَى بِالزِّيَادِةَ.
هذا (باب) بالتنوين (إذا شهد شاهد) بقضية (أو) شهد (شهود
بشيء فقال) بالفاء ولأبي ذر قال: جماعة (آخرون ما علمنا
ذلك) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: بذلك (يحكم بقول من
شهد) لأنه مثبت فيقدم على النافي (قال الحميدي) عبد الله
بن الزبير المكي فيما وصله في الحج (هذا) أي الحكم (كما
أخبر بلال) المؤذن (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- صلّى في) جوف (الكعبة) عام الفتح، (وقال الفضل)
بن العباس (لم يصلّ) عليه الصلاة والسلام فيها (فأخذ الناس
بشهادة بلال) فرجحوها على رواية الفضل لأن فيها زيادة علم
وإطلاق الشهادة على إخبار بلال تجوّز.
وقال الكرماني فإن قلت: ليس هذا من باب ما علمنا بل هما
متنافيان لأن أحدهما قال: صلّى، والآخر قال: لم يصلّ؟
وأجاب: بأن قوله لم يصلِّ معناه أنه ما علم أنه صلّى قال
ولعلّ الفضل كان مشتغلاً بالدعاء ونحوه فلم يره صلّى فنفاه
عملاً بظنه.
(كذلك) الحكم (إن شهد شاهدان أن لفلان على فلان ألف درهم
وشهد آخران بألف وخمسمائة) مثلاً (يقضي بالزيادة) لأن عدم
علم الغير لا يعارض علم من علمه، ولأبي
(4/375)
ذر يعطي بدل يقضي فالباء في بالزيادة على
هذا ساقطة أو زائدة.
2640 - حَدَّثَنَا حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ
قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:
"عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً
لأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ
فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ.
فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ
أَرْضَعْتِنِي، وَلاَ أَخْبَرْتِنِي. فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ
أَبِي إِهَابٍ يَسْأَلُهُمْ فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَاه
أَرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا. فَرَكِبَ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ
فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ فَفَارَقَهَا
وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ".
وبه قال: (حدّثنا حبّان) بكسر الحاء المهملة وتشديد
الموحدة ابن موسى السلمي المروزي قال: (أخبرنا عبد الله)
بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا عمر بن سعيد بن أبي حسين)
بضم العين في الأول وكسرها في الثاني وضم حاء حسين النوفلي
المكي: (قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الله بن أبي مليكة) هو
عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة بالتصغير
واسمه زهير التيمي المدني (عن عقبة بن الحرث) بن عامر بن
نوفل المكي صحابي من مسلمة الفتح بقي إلى بعد الخمسين (أنه
تزوّج
ابنة لأبي إهاب بن عزيز) بكسر همزة إهاب وعزيز بفتح العين
المهملة وزايين معجمتين بوزن عظيم، ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي: عزيز بضم العين وفتح الزاي الأولى، لكن قال في
الفتح وتبعه العيني آخره راء فالله أعلم واسم المرأة غنية
وهي أم يحيى (فأتته امرأة) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على
اسمها (فقالت: قد أرضعت) وعند المؤلّف في باب الرحلة في
المسألة النازلة من العلم فقالت إني قد أرضعت (عقبة) بن
الحرث (و) المرأة (التي تزوّج) بحذف بها الثابتة في رواية
عنده في باب الرحلة (فقال لها عقبة: مما أعلم أنك أرضعتني
ولا أخبرتني) بغير مثناة تحتية بعد الفوقية فيهما، وفي
رواية بباب الرحلة بإثباتها فيهما وعبر بأعلم المضارع
وأخرت الماضي لأن نفي العلم حاصل في الحال بخلاف نفي
الإخبار فإنه كان في الماضي لا غير (فأرسل) عقبة (إلى آل
أبي إهاب يسألهم) أي عن مقالة المرأة، ولأبوي ذر والوقت:
فيسألهم (فقالوا ما علمنا) بحذف الضمير المنصوب ولأبي ذر:
ما علمناه (أرضعت صاحبتنا فركب) عقبة (إلى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (بالمدينة) أي فيها
(فسأله) أي سأل عقبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن الحكم في هذه الواقعة (فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(كيف) تباشرها وتفضي إليها (وقد قيل) إنك أخوها من الرضاعة
إن ذلك بعيد من ذي المروءة والورع (ففارقها) زاد في الرحلة
ففارقها عقبة أي طلّقها احتياطًا وورعًا لا حكمًا بثبوت
الرضاع قال ابن بطال: ويدل عليه الاتفاق على أنه لا يجوز
شهادة امرأة واحدة في الرضاع إذا شهدت بذلك بعد النكاح،
لكن تعقب في دعوى الاتفاق بأن شهادتها وحدها فيه قول جماعة
من السلف ونقل عن أحمد حتى المالكية فإن عندهم رواية أنها
تقبل وحدها لكن بشرط فشوّ ذلك في الجيران.
(ونكحت) غنية بعد فراق عقبة (زوجًا غيره) هو ظريب بمعجمة
مضمومة وراء مفتوحة آخره موحدة ابن الحرث.
ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أمره -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمفارقة تورعًا فجعل كالحكم
وإخبارها كالشهادة وعقبة نفى العلم.
وسبق هذا الحديث في باب الرحلة من كتاب العلم.
5 - باب الشُّهَدَاءِ الْعُدُولِ، وَقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} -و-
{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [الطلاق: 2،
والبقرة: 282]
(باب) بيان (الشهداء العدول) جمع عدل وهو مسلم فلا تقبل
شهادة كافر ولو على مثله لقوله تعالى: {شهيدين من رجالكم}
[البقرة: 282] والكافر ليس من رجالنا بالغ عاقل فلا تقبل
شهادة
صبي ومجنون حرّ فلا تقبل شهادة من فيه رقٌّ لنقصه غير فاسق
لقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا} [الحجرات: 6] نعم إن كان فسقه بتأويل كذي بدعة
قبلت شهادته بصير فلا تقبل من أعمى
لانسداد طريق المعرفة عليه مع اشتباه الأصوات إلا في مواضع
غير مغفل إذ المغفل لا يضبط ولا
يوثق بقوله نعم لا يقدح الغلط اليسير لأن أحدًا لا يسلم
منه ذو مروءة وهو المتخلق بخلق أمثاله في
زمانه ومكانه فالأكل والشرب في السوق لغير سوقيّ والمشي
فيه مكشوف الرأس وقبلته زوجته أو
أمته بحضرة الناس وإكثار حكايات مضحكة بينهم مسقط لإشعاره
بالخسة.
(وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على السابق ({وأشهدوا ذوي
عدل منكم}) [الطلاق: 2] فالعدالة في الشاهد شرط ({و}) قوله
تعالى: ({ممن ترضون من الشهداء}) [البقرة: 282] فإذا لم
يرض بهم لمانع عن الشهادة لا تقبل شهادتهم كشهادة أصل لفرع
أو هو لأصله.
2641 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُتْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
-رضي الله عنه- يَقُولُ: "إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا
يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنَّ الْوَحْيَ
قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا
ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا
خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا
مِنْ سَرِيرَتِهِ شَىْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُ سَرِيرَتِهِ.
وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ
نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ".
وبه قال: (حدّثنا الحكم بن نافع) أبو اليمان البرهاني
الحمصي قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب أنه
(4/376)
(قال: حدّثني) بالإفراد (حميد بن عبد
الرحمن بن عوف) بضم حاء حميد مصغرًا (أن عبد الله بن عتبة)
أي ابن مسعود وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي
المتوفى زمن عبد الملك بن مروان (قال: سمعت عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه- يقول: إن إناسًا كانوا يؤخدون بالوحي) يعني
كان الوحي يكشف عن سرائر الناس في بعض الأوقات (في عهد
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن الوحي
قد انقطع) بوفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم
يأت الملك به عن الله لبشر لختم النبوة (وإنما نأخذكم الآن
بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرًا أمناه) بهمزة
مقصورة وميم مكسورة ونون مشددة من الأمان أي جعلناه آمنًا
من الشرّ أو صيّرناه عندنا أمينًا (وقرّبناه) أي أكرمناه
وعظمناه إذ نحن إنما نحكم بالظاهر (وليس إلينا من سريرته
شيء الله يحاسبه) بمثناة تحتية مضمومة وإثبات ضمير النصب
في الفرع. وقال ابن حجر: محاسبه بميم أوّله وهاء آخره،
ولأبي ذر عن الكشميهني: يحاسب بحذف ضمير المفعول ومثناة
مضمومة أوّله (في سريرته ومن أظهر لنا سوءًا) ولأبي ذر عن
الكشميهني: شرًّا (لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال وإن سريرته
حسنة) ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه ريبة.
وهذا الحديث من إفراده.
6 - باب تَعْدِيلِ كَمْ يَجُوزُ؟
(باب) بيان (تعديل كم) نفس (يجوز) قال مالك والشافعي وأبو
يوسف ومحمد: لا يقبل أقل من رجلين، وقال أبو حنيفة: يكفي
الواحد.
2642 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله
عنه- قَالَ: "مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا
خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى
فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا -أَوْ قَالَ: غَيْرَ ذَلِكَ-
فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ
لِهَذَا وَجَبَتْ وَلِهَذَا وَجَبَتْ. قَالَ: شَهَادَةُ
الْقَوْمِ. الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي
الأَرْضِ".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
حماد بن زيد) هو ابن درهم الجهضمي البصري (عن ثابت)
البناني (عن أنس) هو ابن مالك (-رضي الله عنه-) أنه (قال:
مرّ) بضم الميم مبنيًّا للمفعول (على النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بجنازة فأثنوا عليها خيرًا
فقال) عليه الصلاة والسلام:
(وجبت ثم مرّ بأخرى فأثنوا عليها شرًّا) واستعمل الثناء في
الشر على اللغة الشاذة للمشاكلة لقوله فأثنوا عليها خيرًا
(أو قال غير ذلك) شك الراوي (فقال) عليه الصلاة والسلام
(وجبت فقيل) القائل عمر كما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى
(يا رسول الله قلت لهذا) المثني عليه خيرًا (وجبت ولهذا)
المثني عليه شرًّا (وجبت) (قال) عليه الصلاة والسلام:
(شهادة القوم المؤمنين) مقبولة فشهادة مبتدأ والمؤمنين صفة
القوم المجرور بالإضافة والخبر محذوف تقديره مقبولة كما مر
(شهداء الله في الأرض) خبر مبتدأ محذوف أي هم شهداء الله،
ولأبي ذر عن الكشميهني: شهادة القوم المؤمنين بالرفع مبتدأ
وشهداء الله خبره وشهادة القوم مبتدأ حذف خبره أي شهادة
القوم مقبولة، وقال الحافظ ابن حجر: ووقع في رواية الأصيلي
شهادة بالنصب، ووجهه في المصابيح بأن يكون النائب عن
الفاعل ضمير المصدر مستكنًّا في الفعل وخيرًا حال منه أي
فأثنى هو أي الثناء حالة كونه خيرًا.
2643 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: "أَتَيْتُ
الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ وَهُمْ
يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ
-رضي الله عنه-، فَمَرَّتْ جِنَازَةٌ فَأُثْنِيَ خَيْرًا،
فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى
فَأُثْنِيَ خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ. ثُمَّ
مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ شَرًّا، فَقَالَ:
وَجَبَتْ. فَقُلْتُ: مَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّمَا مُسْلِمٍ
شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ
الْجَنَّةَ. قُلْنَا: وَثَلاَثَةٌ؟ قَالَ: وَثَلاَثَةٌ.
قُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ. ثُمَّ لَمْ
نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
داود بن أبي الفرات) بلفظ النهر واسمه عمرو الكندي قال:
(حدّثنا عبد الله بن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء آخره
هاء تأنيث (عن أبي الأسود) ظالم بن عمرو بن سفيان الديلي
أنه (قال: أتيت المدينة) يثرب (وقد وقع بها مرض) جملة
حالية كقوله (وهم يموتون موتًا ذريعًا) بفتح المعجمة
سريعًا (فجلست إلى عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- فمرّت
جنازة فأُثني خير) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ورفع خير
نائبًا عن الفاعل وحذف عليها، ولأبي ذر والأصيلي: فأثني
بضم الهمزة أيضًا خيرًا بالنصب صفة لمصدر محذوف أي ثناء
خيرًا أو بنزع الخافض أي بخير (فقال عمر: وجبت. ثم مرّ)
بضم الميم (بأخرى فأُثني خيرًا) بضم الهمزة ونصب خيرًا كما
مرّ (فقال) أي عمر (وجبت، ثم مر بالثالثة) ولأبي ذر
بالثالث بحذف هاء التأنيث (فأُثني شرّا) بضم الهمزة ونصب
شرًّا أيضًا أي ثناء شرًّا أو بشر (فقال) أي عمر (وجبت)
قال أبو الأسود. (فقلت ما) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
وما أي وما معنى قولك (وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت
كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أيما مسلم شهد له أربعة)
(4/377)
من المسلمين (بخير أدخله الله الجنة. قلنا:
وثلاثة؟ قال) عليه الصلاة والسلام: (وثلاثة. قلنا. واثنان؟
قال) عليه الصلاة والسلام: (واثنان ثم لم نسأله عن الواحد)
استبعادًا أن يكتفى به في مثل هذا المقام العظيم.
وسبق هذا الحديث في الجنائز.
7 - باب الشَّهَادَةِ عَلَى الأَنْسَابِ، وَالرَّضَاعِ
الْمُسْتَفِيضِ، وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ».
وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ.
(باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض) الشائع الذائع
(والموت القديم) الذي تطاول عليه الزمان (وقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أرضعتني وأبا سلمة،
بالنصب عطفًا على المفعول وفتح اللام ابن عبد الأسد
المخزومي زوج أم سلمة أم المؤمنين وتوفي سنة أربع فتزوج
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم سلمة
(ثويبة) بالمثلثة والموحدة مصغرًا مولاة أبي لهب.
وهذا طرف من حديث وصله في الرضاع (والتثبيت فيه) أي في أمر
الرضاع وهذا من بقية الترجمة.
2644 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا
الْحَكَمُ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتِ:
"اسْتَأْذَنَ عَلَىَّ أَفْلَحُ فَلَمْ آذَنْ لَهُ،
فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ؟
فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرْضَعَتْكِ
امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي. فَقَالَتْ: سَأَلْتُ عَنْ
ذَلِكَ رسول
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَنِي لَهُ". [الحديث 2644 - أطرافه
في: 4796، 5103، 5111، 5229، 6156].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (أخبرنا الحكم) بفتحتين ابن عتيبة مصغرًا (عن
عراك بن مالك) بكسر العين المهملة وتخفيف الراء (عن عروة
بن الزبير) بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها
(قالت استأذن علي أفلح) بتشديد الياء أي طلب الإذن في
الدخول عليّ بعد نزول الحجاب، وأفلح هو أبو الجعد أخو أبي
القعيس بضم القاف وفتح العين المهملة واسم أبي القيس ما
قال الدارقطني وائل الأشعري (فلم آذن له) بالمد في الدخول
عليّ (فقال) أي أفلح (أتحتجبين منّي وأنا عمك: فقلت وكيف
ذلك قال): ولأبي ذر فقال: (أرضعتك امرأة أخي) وائل (بلبن
أخي فقالت) عائشة (سألت عن ذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط لغير الكشميهني قوله عن ذلك
(فقال):
(صدق أفلح ائذني له) زاد مسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب عن
عراك عن عروة لا تحتجبي منه فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم
من النسب، واستشكل كونه عليه الصلاة والسلام عمل بمجرد
دعوى أفلح من غير بيّنة. وأجيب: باحتمال اطلاعه عليه
الصلاة والسلام على ذلك، وفيه أن لبن الفحل يحرّم وأن زوج
المرضعة بمنزلة الوالد للرضيع وأخاه بمنزلة العم له.
ومباحث ذلك تأتي إن شاء الله تعالى في محالها.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في النكاح والتفسير وكذا مسلم
وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
2645 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
بِنْتِ حَمْزَةَ: لاَ تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ
الرَّضَاعِة مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِيَ ابِنةُ
أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ". [الحديث 2645 - طرفه في: 5100].
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي بالفاء
البصري قال: (حدّثنا همام) هو ابن يحيى العوذي بفتح
المهملة وسكون الواو وكسر المعجمة البصري قال: (حدّثنا
قتادة) بن دعامة (عن جابر بن زيد) التابعي الأزدي ثم
الجوفي بفتح الجيم وسكون الواو بعدها فاء أبو الشعثاء
البصري (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي لما قال
عليّ -رضي الله عنه- (في بنت حمزة) بن عبد المطلب عمه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخيه من الرضاعة
أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب ألا تتزوجها (لا تحل لي)
وكان اسمها أمامة أو عمارة أو غير ذلك.
(يحرم من الرضاع) ولأبي ذر: من الرضاعة (ما يحرم من النسب)
يستثنى من هذا العموم أربع نسوة يحرمن في النسب مطلقًا وفي
الرضاع قد لا يحرمن، ويأتي ذكرهنّ إن شاء الله في النكاح،
وكما أن الرضاع يحرّم ما يحرم من النسب يبيح ما يبيحه
بالإجماع فيما يتعلق بالنكاح وتوابعه وانتشار
الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة وتنزيلهم منزلة الأقارب
في جواز النظر والخلوة والمسافرة لا باقي الأحكام من
التوارث وغيره مما يأتي إن شاء الله تعالى في محله (هي) أي
بنت حمزة أمامة (بنت) ولأبي ذر: ابنة (أخي) حمزة (من
الرضاعة).
وهذا الحديث أخرجه أيضًا المؤلّف ومسلم والنسائي وابن ماجه
في النكاح.
2646 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهَا أَنَّ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ
عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ
يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ:
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرَاهُ فُلاَنًا، لِعَمِّ
حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ -فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ.
قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أُرَاهُ فُلاَنًا، لِعَمِّ حَفْصَةَ
مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ
فُلاَنٌ حَيًّا -لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ- دَخَلَ
عَلَىَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ يَحْرُمُ
مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلاَدَةِ". [الحديث 2646 - طرفاه
في: 3105، 5099].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن عبد الله بن أبي بكر) اسم جده محمد بن
عمرو بن حزم الأنصاري المدني (عن عمرة بنت عبد الرحمن) بن
سعد بن زرارة الأنصارية المدنية (أن عائشة -رضي الله عنها-
زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرتها أن
رسول الله) ولأبي ذر أن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان عندها) في بيتها (وأنها سمعت صوت رجل) قال
ابن حجر:
(4/378)
لم أعرف اسمه (يستأذن في بيت حفصة) بنت عمر
بن الخطاب أم المؤمنين والجملة في موضع جر صفة لرجل (قالت
عائشة -رضي الله عنها-: فقلت يا رسول الله أراه) بضم
الهمزة أي أظنه (فلانًا لعم حفصة) أم المؤمنين (من الرضاعة
فقالت عائشة: يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك) الذي
فيه حفصة (قالت) عائشة (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أراه) بضم الهمزة أظنه (فلانًا لعم) أي عم (حفصة من
الرضاعة) لم يسم عم حفصة هذا وسقط قوله قالت عائشة فقلت يا
رسول الله أراه إلخ في الأصل المقروء على الميدومي، وثبت
في عدة من الفروع المقابلة بأصل اليونينية وكذا رأيته فيها
وسقوطه أولى كما لا يخفى (فقالت عائشة) له عليه الصلاة
والسلام (لو كان فلان حيًّا لعمها) اللام بمعنى عن أبي عن
عمها (من الرضاعة دخل عليّ) بتشديد الياء أي هل كان يجوز
أن يدخل عليّ؟ قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم عم حفصة
ووهم من فسره بأفلح أخي أبي القعيس لأن أبا القعيس والد
عائشة من الرضاعة، وأما أفلح فهو أخوه وهو عمها من الرضاعة
وقد عاش حتى جاء يستأذن على عائشة فأمرها عليه الصلاة
والسلام أن تأذن له بعد أن امتنعت فالمذكور هنا عم آخر أخو
أبيها أبي بكر من الرضاع أرضعتهما امرأة واحدة، وقيل هما
واحد. وغلطه النووي بأن عمها في حديث أبي القعيس كان حيًّا
والآخر كان ميتًا وإنما ذكرت عائشة ذلك في العم الثاني
لأنها جوّزت تبدل الحكم فسألت مرة أخرى.
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في
جوابها (نعم) أي يجوز دخوله عليك ثم علّل جواز ذلك بقوله
(إن الرضاعة تحرم) بتشديد الراء المكسورة مع ضم أوله ولأبي
ذر عن الكشميهني يحرم منها بفتح المثناة التحتية وضم الراء
مخفّفًا (ما يحرم) بفتح أوله مخفّفًا (من الولادة) أي مثل
ما يحرم من الولادة فهو على حذف مضاف وتعبيره بقوله ما
يحرم من الولادة وفي الرواية الأخرى من النسب. قال
القرطبي: دليل على جواز الرواية بالمعنى أو قال عليه
الصلاة والسلام اللفظين في وقتين وقطع بالأخير في الفتح
معلّلاً بأن الحديثين مختلفان في القصة والسبب والراوي.
وهذا الحديث أخرجه في الخمس أيضًا والنكاح ومسلم والنسائي
في النكاح.
2647 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-
قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا
عَائِشَةُ مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ
قَالَ: يَا عَائِشَةُ انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ،
فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ". تَابَعَهُ
ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ. [الحديث 2647 - طرفه في:
5102].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة أبو عبد الله
العبدي البصري وثقه أحمد، وروى له المؤلّف ثلاثة أحاديث في
العلم والبيوع والتفسير توبع عليها قال: (أخبرنا سفيان)
الثوري (عن أشعث بن أبي الشعثاء) بالشين المعجمة والمثلثة
والعين المهملة فيهما والأخير ممدود (عن أبيه) أبي الشعثاء
سليم بن الأسود (عن مسروق) هو ابن الأجدع (أن عائشة -رضي
الله عنها- قالت: دخل عليّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وعندي رجل) الواو للحال وأخو عائشة هذا لا أعرف
اسمه، وقول الجلال البلقيني فيما نقله عنه في المصابيح أنه
وجد بخط مغلطاي على حاشية أسد الغابة ما يدل على أنه عبد
الله بن يزيد تعقبه في مقدمة فتح الباري بأنه غلط لأنه
تابعي انتهى.
يعني وهذا صحابي لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رآه بلا ريب عند عائشة، نعم عبد الله التابعي هذا المذكور
أخوها من الرضاعة كما صرّح به في رواية مسلم في الجنائز
وكثير بن عبد الله الكوفي أخوها أيضًا كما عند المؤلّف في
الأدب المفرد وسنن أبي داود وسبق التنبيه على ذلك في باب
الغسل بالصاع.
(قال) عليه الصلاة والسلام ولأبي ذر: فقال (يا عائشة من
هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة. قال: يا عائشة انظرن) بهمزة وصل
وضم الظاء المعجمة من النظر بمعنى التفكّر والتأمّل (من
إخوانكن) استفهام (فإنما الرضاعة) الفاء تعليلية لقوله
انظرن من إخوانكن أي ليس كل من أرضع لبن أمهاتكنّ يصير
أخاكن بل شرطه أن يكون (من المجاعة) بفتح الميم من الجوع
أي أن الرضاعة المعتبرة في المحرمية شرعًا ما كان فيه
تقوية للبدن واستقلال بسد الجوع، وذلك إنما يكون في حال
الطفولية قبل الحولين كما سيأتي إن شاء الله تعالى تقريره
في بابه بعون الله وقوّته.
(4/379)
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في النكاح وكذا
مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. (تابعه) أي تابع محمد
بن كثير (ابن مهدي) عبد الرحمن بفتح الميم في روايته
الحديث فيما وصله مسلم وأبو يعلى (عن سفيان) الثوري ثم إن
المطابقة بين الترجمة والأحاديث المسوقة في بابها مستفادة
منها فأما النسب فمن أحاديث الرضاعة فإنه من لازمه وأما
الرضاعة فبالاستفاضة وأما الموت القديم فبالإحقاق قاله ابن
المنير والله أعلم.
8 - باب شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي
وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ
الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 - 5].
وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ
وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ
وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ.
وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ
وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ
وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ وَشُرَيْحٌ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ
قُرَّةَ.
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الأَمْرُ عِنْدَنَا
بِالْمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَكْذَبَ
نَفْسَهُ جُلِدَ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ ثُمَّ
أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اسْتُقْضِيَ
الْمَحْدُودُ فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ. ثُمَّ قَالَ: لاَ يَجُوزُ
نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ
بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ
بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ. وَأَجَازَ شَهَادَةَ
الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالأَمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلاَلِ
رَمَضَانَ. وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ. وَقَدْ نَفَى
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الزَّانِيَ سَنَةً، وَنَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ كَلاَمِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً.
(باب) حكم (شهادة القاذف) بالذال المعجمة الذي يقذف أحدًا
بالزنا (والسارق والزاني) هل تقبل بعد توبتهم أم لا (وقول
الله تعالى) بالجر عطفًا على سابقه ولأبي ذر عز وجل ({ولا
تقبلوا لهم شهادة}) قال القاضي أيّ شهادة كانت لأنه مصرٌّ
وقيل شهادتهم في القذف ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد
({أبدًا}) ما لم يتب وعند أبي حنيفة إلى آخر عمره ({وأولئك
هم الفاسقون}) المحكوم بفسقهم ({إلا الذين تابوا}) عن
القذف ({من بعد ذلك وأصلحوا}) [النور: 4 - 5] أي أعمالهم
بالتدارك ومنه الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف فإن
شهادتهم مقبولة لأن الله استثنى التائبين عقب النهي عن
قبول شهادتهم، وقال الحنفية: ذكره بالتأبيد يدل على أنها
لا تقبل بعد استيفاء الحد بكل حال والاستثناء منصرف إلى ما
يليه وهو قوله: {وأولئك هم الفاسقون} وقال الحنفية:
الاستثناء منقطع لأن التائبين غير داخلين في صدر الكلام
وهو قوله: {وأولئك هم الفاسقون} إذ التوبة تجب ما قبلها من
الذنوب فلا يكون التائب فاسقًا، وأما شهادته فلا تقبل
أبدًا لأن ردّها من تتمة الحد لأنه يصلح جزاء فيكون مشار
كالأول في كونه حدًّا وقوله: وأولئك هم الفاسقون لا يصلح
أن يكون جزاء لأنه ليس بخطاب للأئمة بل إخبار عن صفة قائمة
بالقاذفين فلا يصلح أن يكون من تمام الحد لأنه كلام مبتدأ
على سبيل الاستئناف منقطع عما قبله لعدم صحته على ما سبق
لأن قوله: وأولئك هم الفاسقون جملة خبرية ليس بخطاب للأئمة
وما قبله إنشائية خطاب لهم، وقوله: {ولا تقبلوا} إنشائية
يصح عطفها على فاجلدوا فإذا شهد قبل الحد أو قبل تمام
استيفائه قبلت شهادته فإذا استوفى لم تقبل وإن تاب وكان من
الأتقياء الأبرار لتعلقها باستيفاء الحد وتعقبه الشافعي
بأن الحدود كفّارات لأهلها فهو بعد الحدّ خير منه قبله
فكيف ترد في خير حالتيه وتقبل في شرهما ولأن أبدًا في كل
شيء على ما يليق به كما لو قيل لا تقبل شهادة الكافر أبدًا
أي ما دام كافرًا.
(وجلد عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- فيما وصله الشافعي
(أبا بكرة) نفيع بن الحرث بن كلدة بالكاف واللام والدال
المهملة المفتوحات الصحابيّ (وشبل بن معبد) بكسر الشين
وسكون الموحدة ومعبد بفتح الميم وسكون المهملة وفتح
الموحدة ابن عبيد بن الحرث البجلي أخا أي بكرة لأمه سميّة
وهو معدود في المخضرمين (ونافعًا) هو ابن الحرث أخو أبي
بكرة لأمه أيضًا (بقذف المغيرة) بن شعبة وكان أمير البصرة
لعمر -رضي الله عنه- لما رأوه وكان معهم أخوهم لأمهم زياد
بن أبي سفيان متبطن الرقطاء أم جميل بنت عمرو بن الأفقم
الهلالية زوج الحجاج بن عتيك بن الحرث بن عوف الجشمي
فرحلوا إلى عمر فشكوه فعزله وولى أبا موسى الأشعري وأحضر
المغيرة فشهد عليه الثلاثة بالزنا ولم يثبت زياد الشهادة
وقال: رأيت منظرًا قبيحًا وما أدري أخالطها أم لا. وعند
الحاكم فقال زياد: رأيتهما في لحاف واحد وسمعت نفسًا
عاليًا وما أدري ما وراء ذلك فأمر عمر بجلد الثلاثة حذ
القذف (ثم استتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته) نصب مفعول
قبلت.
(وأجازه) أي الحكم المذكور وهو قبول شهادة المحدود في
القذف (عبد الله بن عتبة) بضم العين وسكون المثناة الفوقية
ابن مسعود فيما وصله الطبري من طريق عمران بن عمير عنه،
(وعمر بن عبد العزيز) الخليفة المشهور فيما وصله الطبري
أيضًا والخلال من طريق ابن جريج عن عمران بن موسى عنه،
(وسعيد بن جبير) التابعي المشهور فيما
(4/380)
وصله الطبري من طريقه، (وطاوس) هو ابن
كيسان اليماني، (ومجاهد) هو ابن جبر المكي فيما وصله عنهما
سعيد بن منصور والشافعي والطبري من طريق ابن أبي نجيح،
(والشعبي) عامر بن شراحيل فيما وصله الطبري من طريق ابن
أبي خالد عنه، (وعكرمة) مولى ابن عباس فيما وصله البغوي في
الجعديات عن شعبة عن يونس هو ابن عبيد عنه، (والزهري) محمد
بن مسلم بن شهاب فيما وصله ابن جرير عنه، (ومحارب بن دثار)
بكسر الدال وبالمثلثة ومحارب بضم الميم وبعد الحاء المهملة
ألف فراء مكسورة آخره موحدة الكوفي قاضيها (وشريح) القاضي
(ومعاوية بن قرة) ابن إياس البصري فيما قاله العيني، لكن
قال ابن حجر: لم أرَ عن واحد من الثلاثة أي الأخيرة
التصريح بالقبول.
(وقال أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان فيما وصله سعيد بن
منصور (الأمر عندنا بالمدينة) طيبة (إذا رجع القاذف عن
قوله فاستغفر ربه قبلت شهادته) وهذا بخلاف الحنفية كما مرّ
(وقال الشعبي) عامر بن شراحيل (وقتادة) فيما وصله الطبري
عنهما مفرقًا (إذا أكذب) القاذف (نفسه جلد) حد القذف
(وقبلت شهادته) لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا} [النور: 4]
وقد سأل ابن المنير فقال: إن كان صادقًا في قذفه فمِمَّ
يتوب إذا؟ وأجاب: بأنه يتوب من الهتك ومن التحدّث بما رآه،
ويحتمل أن يقال إن المعاين للفاحشة مأمور بأن لا يكشف
صاحبها إلا إذا تحقق كمال النصاب معه فإذا كشف قبل ذلك عصى
فيتوب من المعصية في الإعلان لأمن الصدق في علمه، وتعقبه
في الفتح بأن أبا بكرة لم يكشف حتى تحقق كمال النصاب ومع
ذلك أمره عمر بالتوبة لتقبل شهادته قال: ويجاب عن ذلك بأن
عمر لعله لم يطلع على ذلك فأمره بالتوبة ولذلك لم يقبل منه
أبو بكرة ما أمره به لعلمه بصدقه عند نفسه انتهى.
(وقال الثوري) سفيان مما هو في جامعه برواية عبد الله بن
الوليد العدني عنه (إذا جلد العبد) بالرفع نائبًا عن
الفاعل (ثم أعتق) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (جازت شهادته
وإن استقضي المحدود) بسكون السين وضم الفوقية وسكون القاف
وكسر الضاد المعجمة أي طلب منه أن يحكم بين خصمين (فقضاياه
جائزة، وقال بعض الناس) يعني أبا حنيفة -رحمه الله- (لا
تجوز شهادة القاف وإن تاب) عن جريمة القذف لقوله تعالى:
{ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} [النور: 4] كما مرّ (ثم قال)
أي أبو حنيفة (لا يجوز نكاح بغير شاهدين فإن تزوج بشهادة
محدودين) في قذف (جاز) النكاح لأنهما أهل للشهادة تحملاً
وعدم قبولها عند الأداء لا يمنع تحققها إذ الأداء من
ثمراتها وفوت الثمرة لا يدل على فوت الأصل وانعقاد النكاح
موقوف على حضور الشاهدين لا على أدائهما الشهادة كذا عللوه
وفي الحقائق من كتبهم أن محل الخلاف في المحدودين قبل ظهور
التوبة إذ بعده ينعقد إجماعًا (وإن تزوج بشهادة عبدين لم
يجز) لأن الشهادة من باب الولاية لكونها نافذة على الغير
رضي والعبد ليس من أهل الولاية.
(وأجاز) بعض الناس المذكور (شهادة المحدود) أي في قذف بعد
التوبة (والعبد والأمة لرؤية هلال رمضان) لجريانه مجرى
الخبر وهو مخالف للشهادة في المعنى قال البخاري: (وكيف
تعرف توبته) أي القاذف وهذا من كلام المصنف من تمام
الترجمة، وقد قال: الشافعي كأكثر السلف: لا بدّ أن يكذب
نفسه، وعن مالك إذا ازداد خيرًا كفى ولا يتوقف على تكذيبه
نفسه لجواز أن يكون صادقًا في
نفس الأمر، وإلى هذا مال المؤلّف -رحمه الله- ثم استدلّ
لذلك بقوله: (وقد نفى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الزاني سنة) فيما يأتي موصولاً قريبًا وسقط
(قد) لأبي ذر، (ونهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن) ولأبي ذر: ونهي عن (كلام كعب بن مالك
وصاحبيه) وهما هلال بن أمية ومرارة بن الربيع (حتى مضى
خمسون ليلة) كما يأتي إن شاء الله تعالى موصولاً في غزوة
تبوك وتفسير براءة ووجه الدلالة من ذلك أنه لم ينقل أنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلفهما بعد التوبة
بقدر زائد على النفي والهجران.
2648 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ
وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ.
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: "أَنَّ امْرَأَةً
سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ أَمَرَ
بها فَقُطِعَتْ يَدُهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ
تَوْبَتُهَا وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ
ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". [الحديث 2648 -
أطرافه في: 3475، 3732، 3733، 4304، 6787، 6788، 6800].
وبه قال: (حدّثنا
(4/381)
إسماعيل) بن أبي أُويس (قال: حدّثني)
بالإفراد (ابن وهب) عبد الله (عن يونس) بن يزيد الأيلي
(وقال الليث) بن سعد الإمام مما وصله أبو داود لكن بغير
هذا اللفظ فظهر أن اللفظ لابن وهب (حدّثني) بالإفراد
(يونس) الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه قال: (أخبرني)
بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (أن امرأة) هي فاطمة
بنت الأسود عبد الأسد المخزومية على الراجح كما سيأتي إن
شاء الله تعالى في كتاب الحدود (سرقت في غزوة الفتح) وزاد
ابن ماجه، وصحّحه الحاكم أن الذي سرقته كان قطيفة من بيت
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويأتي في
الحدود إن شاء الله تعالى الجمع بينه وبين ما رواه ابن سعد
أن الذي سرقته كان حليًّا (فأُتي) بضم الهمزة مبنيًّا
للمفعول (بها) أي بالمرأة السارقة (رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم أمر) عليه الصلاة والسلام
وزاد أبو ذر عن الكشميهني:
بها (فقطعت يدها) أي اليمنى وعند النسائي من حديث ابن عمر
قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها بعدما ثبت عنده عليه الصلاة
والسلام المقتضي للقطع وعند أبي داود تعليقًا عن صفية بنت
أبي عبيد نحو حديث المخزومية وزاد فيه قال: فشهد عليها.
(قالت عائشة) -رضي الله عنها- زاد في الحدود فتابت (فحسنت
توبتها) وهذا موضع الترجمة.
وقد نقل الطحاوي الإجماع على قبول شهادة السارق إذا تاب
وكان المؤلّف أراد إلحاق القاذف بالسارق لعدم الفارق عنده
(وتزوجت) وللإسماعيلي في الشهادات فنكحت رجلاً من بني سليم
(وكانت تأتي بعد ذلك) أي عندي (فأرفع حاجتها إلى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وعند الحاكم في آخر
حديث مسعود بن الحكم قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الله بن
أبي بكر أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان
بعد ذلك يرحمها ويصلها.
وهذا الحديث تأتي إن شاء الله تعالى بقية مباحثه في غزوة
الفتح وكتاب الحدود.
2649 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
-رضي الله عنه-: "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ
يُحْصِنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة مصغرًا قال
(حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين مصغرًا
ابن خالد بن عقيل بفتح العين الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري
(عن عبيد الله) بضم العين مصغرًا (ابن عبد الله) بن عتبة
بن مسعود (عن زيد بن خالد) الجهني المدني المتوفى بالكوفة
سنة ثمان وستين أو وسبعين وله ثمانون سنة (-رضي الله عنه-
عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (أنه
أمر فيمن زنى ولم يحصن) بكسر الصاد ولأبي ذر ولم يحصن
بفتحها بمعنى الفاعل وهو الذي اجتمع فيه العقل والبلوغ
والحرية والإصابة في النكاح الصحيح والواو للحال (بجلد
مائة) الباء تتعلق بأمر (وتغريب عام). واستشكل الداودي
إيراد هذا الحديث في هذا الباب يعني فإنه ليس مجرد الغربة
عامًّا توبة توجب قبول الشهادة باتفاق فكيف يتوجه قول
البخاري؟ وأجاب ابن المنير: بأنه أراد أن الحال يتغير في
العام وينتقل إلى حال لا يحتاج معها إلى تغريب وكأنها مظنة
لكسر سورة النفس وهيجان الشهودة.
9 - باب لاَ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا
أُشْهِدَ
هذا (باب) بالتنوين (لا يشهد) الرجل وفي بعض الأصول لا
يشهد بالجزم على النص (على شهادة جور) ظلم أو حيف أو ميل
عن الحق (إذا أشهد) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول.
2650 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنِ
الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله
عنهما- قَالَ: "سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ
الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ
فَوَهَبَهَا لِي، فَقَالَتْ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَأَخَذَ
بِيَدِي وَأَنَا غُلاَمٌ فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ
بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ
لِهَذَا. قَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟. قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأُرَاهُ قَالَ: لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ".
وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: «لاَ أَشْهَدُ
عَلَى جَوْرٍ».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عتمان المروزي
قال: (حدّثنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا
أبو حيان) بالحاء المهملة والمثناة التحتية المشددة وبعد
الألف نون يحيى بن سعيد (التيمي) الكوفي (عن الشعبي) عامر
بن شراحيل (عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-) أنه
(قال: سألت أمي) عمرة بنت رواحة بفتح الراء والواو المخففة
وبالحاء المهملة (أبي) بشيرًا (بعض الموهبة لي) مصدر ميمي
بمعنى الهبة (من ماله) والموهبة عبد أو أمة كما صرّح به في
رواية أبي ذر
وفي رواية غلام من غير شك ولم يسمّ وفي رواية حديقة
وحملهما ابن حبان على حالتين (ثم بدا له) بعد أن امتنع
أوّلاً (فوهبها لي) الأمة أو الحديقة (فقالت) أمي (لا أرضى
حتى تشهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنك
أعطيته (فأخذ) أبي (بيدي وأنا غلام فأتى
(4/382)
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا قال) عليه
الصلاة والسلام ولأبي الوقت فقال:
(ألك ولد سواه؟ قال: نعم قال) أي النعمان (فأراه) بضم
الهمزة أظنه عليه الصلاة والسلام (قال) لبشير (لا تشهدني
على جور) بفتح الجيم وبعد الواو الساكنة راء.
(وقال أبو حريز) بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وبعد
التحتية الساكنة زاي بوزن سعيد عبد الله بن الحسين الأزدي
قاضي سجستان مما وصله ابن حبان في صحيحه والطبراني (عن
الشعبي) عامر بن شراحيل أي عن النعمان في هذا الحديث (لا
أشهد على جور) واستدلّ به الحنابلة على وجوب العدل في عطية
الأولاد. وأجاب الجمهور: بأن الجور هو الميل عن الاعتدال
والمكروه أيضًا جور، وسبق في الهبة مزيد لذلك ووقع في
اليونينية أنه أثبت قوله، وقال: أبو حريز إلخ هنا بعد ما
قدّمه على قوله حدّثنا عبدان وضبب عليه والأولى تأخيره لما
لا يخفى.
2651 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ
قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ -رضي الله عنهما-
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ -قَالَ
عِمْرَانُ: لاَ أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ
ثَلاَثَةً- قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ
يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ،
وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ
السِّمَنُ". [الحديث 2651 - أطرافه في: 3650، 6428، 6695].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (حدّثنا أبو جمرة) بالجيم والراء نصر بن عمران
الضبعي (قال: سمعت زهدم بن مضرب) بفتح الزاي وسكون الهاء
وفتح الدال المهملة ابن مضرب بضم الميم وفتح الضاد المعجمة
وتشديد الراء المكسورة الجرمي البصري (قال: سمعت عمران بن
حصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين (-رضي الله عنهما-
قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(خيركم) أي خير الناس أهل (قرني) أي عصري مأخوذ من
الاقتران في الأمر الذي يجمعهم، والمراد هنا الصحابة قيل
والقرن ثمانون سنة أو أربعون أو مائة أو غير ذلك (ثم الذين
يلونهم) أي يقربون منهم وهم التابعون (ثم الذين يلونهم)
وهم أتباع التابعين (قال عمران) بن حصين مما هو موصول
بالإسناد السابق (لا أدري أذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد) بالبناء على الضم لنيّة الإضافة
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بعد قرنه (قرنين أو ثلاثة
قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (إن بعدكم
قومًا) بالنصب اسم إن قال العيني وهي رواية النسفيّ. وقال
الحافظ ابن حجر: ولبعضهم قوم بالرفع فيحتمل أن يكون من
الناسخ على طريقة من لا يكتب الألف في المنصوب، وقال
العيني: مرفوع بفعل محذوف أي إن بعدكم يجيء له قوم
(يخونون) بالخاء المعجمة من الخيانة (ولا يؤتمنون)
لخيانتهم الظاهرة بحيث لا يعتمد عليهم (ويشهدون ولا
يستشهدون) أي يتحملون الشهادة من غير تحميل أو يؤدّونها من
غير طلب الأداء، وهذا لا يعارضه حديث زيد بن خالد المروي
في مسلم مرفوعًا: "ألا أخبرم بخير الشهداء الذي يأتي
بالشهادة قبل أن يسألها لأن المراد بحديث زيد من عنده
شهادة لإنسان بحق لا يعلم بها صاحبها فيأتي إليه فيخبره
بها أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد
إليهم أو إلى من يتحدث عنهم فيعلمهم بذلك أو أن الأول في
حقوق الآدمين، وهذا في حقوق الله تعالى التي لا طالب لها
أو المراد بها الشهادة على المغيب من أمر الناس يشهد على
قوم أنهم من أهل الجنة بغير دليل كما يصنع ذلك أهل الأهواء
وهذا حكاه الطحاوي وتبعه جماعة منهم الزركشي، وتعقبه في
المصابيح فقال: هذا مشكل لأن الذم ورد في الشهادة بدون
استشهاد والشهادة على الغيب مذمومة مطلقًا سواء كانت
باستشهاد أو بدونه (ويندرون) بفتح حرف المضارعة وبكسر
الذال المعجمة ولأبي ذر وينذرون بضم الذال (ولا يفون) من
الوفاء (ويظهر فيهم السمن) بكسر السين المهملة وفتح الميم
أي يعظم حرصهم على الدنيا والتمتع بلذاتها وإيثار شهواتها
والترفّه في نعيمها حتى تسمن أجسادهم أو المراد تكثرهم بما
ليس فيهم وادّعاؤهم الشرف أو المراد جمعهم المال، وعند
الترمذي من طريق هلال بن يساف عن عمران بن حصين: ثم يجيء
قوم يتسمنون ويحبون السمن.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: يشهدون ولا يستشهدون لأن
الشهادة قبل الاستشهاد فيها معنى الجور، وقد أخرجه المؤلّف
أيضًا في فضل الصحابة وفي الرقاق والنذور، ومسلم في
الفضائل، والنسائي في النذور.
2652 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ
«خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ
تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ
شَهَادَتَهُ». قَالَ إِبْرَاهِيمُ: "وَكَانُوا
يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ". [الحديث
2652 - أطرافه في: 3651، 6429، 6658].
وبه
(4/383)
قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة
العبدي البصري قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن منصور) هو
ابن المعتمر (عن إبراهيم) النخعي (عن عبيدة) بفتح العين
السلماني (عن عبد الله) ابن مسعود (رضي الله عنه عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(خير الناس) أهل (قرني) يعني أصحابه (ثم الذين يلونهم)
يعني أتباعهم (ثم الذين يلونهم) يعني أتباع التابعين وهذا
يقتضي أن الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من
أتباع التابعين لكن هل الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو
الأفراد محل بحث، وإلى الثاني ذهب الجمهور والأول قول ابن
عبد البرّ، وفي كتاب بالمواهب اللدنية بالمنح المحمدية
مباحث ذلك، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد
لذلك في فضائل الصحابة بعون الله تعالى وقوّته (ثم يجيء
أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) أي في حالين
لا في حالة واحدة لأنه دور قال البيضاوي وتبعه الكرماني:
هم الذين يحرصون على الشهادة مشغوفين بترويجها يحلفون على
ما يشهدون به فتارة يحلفون قبل أن يأتوا بالشهادة وتارة
يعكسون، ويحتمل أن يكون مثلاً في سرعة الشهادة واليمين
وحرص الرجل عليهما والتسرّع فيهما حتى لا يدري بأيهما
يبتدئ فكأنه يسبق أحدهما الآخر من قلة مبالاته بالدين. قال
النووي: واحتج به المالكية في ردّ شهادة من حلف معها
والجمهور على أنها لا ترد.
(قال إبراهيم) النخعي بالأسناد السابق (وكانوا يضربوننا)
زاد المؤلّف في الفضائل ونحن صغار (على الشهادة والعهد) أي
قول الرجل أشهد بالله وعلّي عهد الله ما كان كذا على معنى
الحلف حتى لا يصير لهم عادة فيحلفون في كل ما يصلح وما لا
يصلح والله أعلم.
10 - باب مَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ
لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ لاَ
يَشْهَدُونَ الزُّورَ}، وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ {وَلاَ
تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ
آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ.
(باب ما قيل في شهادة الزور) أي من التغليظ والوعيد (لقول
الله) أي لأجل قول الله ولأبي ذر لقوله عز وجل: ({والذين
لا يشهدون الزور}) [الفرقان: 72] أي لا يقيمون الشهادة
الباطلة أو لا يحضرون محاضر الكذب والفسق والكفر أو اللهو
والغناء. وقال ابن حجر: أشار أي المؤلّف إلى أن الآية سيقت
في ذم متعاطي شهادة الزور وهو اختيار منه لأحد ما قيل في
تفسيرها، وتعقبه العيني فقال: ما سيقت الآية إلا في مدح
تاركي شهادة الزور وقوله: وهو اختيار لأحد ما قيل في
تفسيرها لم يقل به أحد من المفسرين وحينئذ فإيراد المؤلّف
للآية في معرض التعليل لما قيل في شهادة الزور من الوعيد
لا وجه له لأنها ما سيقت إلا في مدح الذين لا يشهدون الزور
انتهى.
وما قاله ابن حجر أقعد ليكون ما قاله المؤلّف مطابقًا لما
استدلّ له ولعله وقف على ذلك من قول بعض المفسرين، وجزم
العيني بأنه لم يقل به أحد من المفسرين ودعواه الحصر فيه
نظر ولا يخفى، ونقل في الفتح عن الطبري أنه قال: وأولى
الأقوال عندنا أن المراد به مدح من لا يشهد شيئًا من
الباطل (و) ما قيل في (كتمان الشهادة) بكسر الكاف (لقوله)
تعالى ({ولا تكتموا الشهادة}) أيها الشهود إذا دعيتم
لتأديتها عند الحاكم ({ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبه) أي يأثم
قلبه وإسناد الأثم إلى القلب لأن الكتمان يتعلق به لأنه
مضمر فيه ({والله بما تعملون}) من كتمان الشهادة وإقامتها
({عليم}) [البقرة: 283] فيجازي على كتمان الشهادة وأدائها
وسقط لغير أبي ذر لقوله الثابتة قبل قوله: ({ولا تكتموا
الشهادة} وقوله تعالى في سورة النساء وأن ({تلووا})
[النساء: 135] يعني {ألسنتكم بالشهادة) كذا فسره ابن عباس
فيما روي عنه من طريق عليّ بن أبي طلحة كما عند الطبري
وروي
عنه من طريق العوفي قال: تلوي لسانك بغير الحق وهي
اللجلجلة فلا تقيم الشهادة على وجهها
واللّي هو التحريف وتعمد الكذب، وأتى المؤلّف -رحمه الله-
بكلمة مفردة من التنزيل في معرض
الاحتجاج ولم يقل، وقوله (وإن) ولم يفصل بين الكلمة
القرآنية وتفسيرها.
2653 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ
وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ
قَالاَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: "سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَنِ الْكَبَائِرِ قَالَ: الإِشْرَاكُ
بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ،
وَشَهَادَةُ الزُّورِ". تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَأَبُو
عَامِرٍ وَبَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ.
[الحديث 2653 - طرفاه في: 5977، 6871].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن منير) بضم الميم وكسر النون
آخره راء أبو عبد الرحمن المروزي
الزاهد أنه (سمع وهب بن جرير) هو ابن حازم الأزدي (وعبد
الملك بن إبراهيم) مولى بني
عبد الدار القرشي (قالا: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبيد
الله بن أبي بكر بن أنس) بتصغير عبد
(عن) جده (أنس) هو ابن
(4/384)
مالك (-رضي الله عنه-) أنه (قال: سئل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الكبائر) جمع
كبيرة
واختلف فيها والأقرب أنها كل ذنب رتب الشارع عليه حدًّا أو
صرّح بالوعيد فيه (قال) عليه الصلاة
والسلام الكبائر:
(الإشراك بالله) رفع خبرًا عن المبتدأ المقدّر (وعقوق
الوالدين) بأن يفعل الولد ما يتأذى به تأذّيًا
ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة (وقتل النفس)
أي بغير حق قال تعالى {ومن يقتل
مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها} [النساء: 93]
الآية (وشهادة الزور) الواو في الثلاثة
للعطف على السابق وليس المراد حصر الكبائر فيما ذكر بل
اقتصر على أكبرها والشرك أعظمها.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الأدب والدّيات ومسلم في
الإيمان والترمذي في البيوع
والتفسير والنسائي في القضاء والقصاص والتفسير.
(تابعه) أي تابع وهب بن جرير في روايته عن شعبة (غندر) وهو
محمد بن جعفر (وأبو عامر)
عبد الملك العقدي فيما وصله أبو سعيد النقاش في كتاب
الشهود وابن مندة في كتاب الإيمان
(وبهز) بفتح الموحدة وبعد الهاء الساكنة زاي ابن أسد
العميّ فيما وصله أحمد (وعبد الصمد) بن
عبد الوارث فيما وصله المؤلّف في الدّيات الأربعة (عن
شعبة) أي ابن الحجاج المذكور.
2654 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله
عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ
(ثَلاَثًا)؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ
-وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ-: أَلاَ وَقَوْلُ
الزُّورِ. قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى
قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ". وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ ... [الحديث 2654 - أطرافه في: 5976،
6273، 6274، 6919].
وبه قال: (حدّثنا مسدّد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا بشر بن
المفضل) بن لاحق الرقاشي بقاف ومعجمة البصري قال: (حدّثنا
الجريري) بضم الجيم وفتح الراء الأولى سعيد بن إياس الأزدي
(عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه) أبي بكرة نفيع بضم
النون الثقفي (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقط لأبي ذر قال
الأولى:
(ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام للتنبيه لتدل على تحقق ما
بعدها (أنبئكم) بالتشديد والذي في اليونينية بالتخفيف أي
أخبركم (بأكبر الكبائر) قال ذلك (ثلاثًا) تأكيدًا لتنبيه
السامع على إحضار فهمه (قالوا: بلى يا رسول الله) أي
أخبرنا (قال) عليه الصلاة والسلام: أكبر الكبائر (الإشراك
بالله وعقوق الوالدين) وهذا يدل على انقسام الكبائر في
عظمها إلى كبير وأكبر ويؤخذ منه ثبوت الصغائر لأن الكبيرة
بالنسبة إليها أكبر منها وأما ما وقع للأستاذ أبي إسحاق
الإسفرايني والقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام وابن
القشيري من أنس كل ذنب كبيرة ونفيهم الصغائر نظرًا إلى
عظمة من عصى بالذنب، فقد قالوا كما صرّح به الزركشي إن
الخلاف بينهم وبين الجمهور لفظي. قال القرافي: وكأنهم
كرهوا تسمية معصية الله صغيرة إجلالاً له عز وجل مع أنهم
وافقوا في الجرح على أنه لا يكون بمطلق المعصية وأن من
الذنوب ما يكون قادحًا في العدالة وما لا يقدح هذا مجمع
عليه، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق والصحيح التغاير
لورود القرآن والأحاديث به ولأن ما عظم مفسدته أحقّ باسم
الكبيرة بل قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه}
[النساء: 31] صريح في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر،
ولذا قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بينهما وقد عرفا من
مدارك الشرع انتهى.
ولا يلزم من كون هذه المذكورات أكبر الكبائر سواء رتبتها
في نفسها كما إذا قلت زيد وعمرو أفضل من بكر فإنه لا يقتضي
استواء زيد وعمرو في الفضيلة، بل يحتمل أن يكونا متفاوتين
فيها وكذلك هنا فإن الإشراك أكبر الذنوب المذكورة (وجلس
وكان متكئًا) تأكيدًا للحرمة (فقال) (ألا وقول الزور)
ولأبي ذر: وكان متكئًا ألا وقول الزور فأسقط فقال: وفصل
بين المتعاطفين بحرف التنبيه والاستفتاح تعظيمًا لشأن
الزور لما يترتب عليه من المفاسد وإضافة القول إلى الزور
من إضافة الموصوف إلى صفته، وفي رواية خالد عن الجريري ألا
وقول الزور وشهادة الزور. قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن
يكون من الخاص بعد العام، لكن ينبغي أن يحمل على التأكيد
فإنّا لو حملنا القول على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة
الواحدة مطلقًا كبيرة وليس كذلك ومراتب الكذب متفاوتة بحسب
تفاوت مفاسده.
(قال) أنس (فما زال) عليه الصلاة والسلام (يكررها حتى
قلنا: ليته) عليه
(4/385)
الصلاة والسلام (سكت) قال في الفتح: أي
شفقة عليه وكراهية لما يزعجه، وفيه ما كانوا عليه من كثرة
الأدب معه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمحبة له
والشفقة عليه، وقال في جمع العمدة: هو تعظيم لما حصل
لمرتكب هذا الذنب من غضب الله ورسوله ولما حصل للسامعين من
الرعب والخوف من هذا المجلس.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في استتابة المرتدين والاستئذان
والأدب ومسلم في الإيمان والترمذي في البر والشهادات
والتفسير.
(وقال إسماعيل بن إبراهيم) ابن علية وهي أمه مما وصله
المؤلّف في كتاب استتابة المرتدّين (حدّثنا الجريري) سعيد
بن إياس الأزدي منسوب إلى جرير بن عبادة قال: (حدّثنا عبد
الرحمن) هو ابن أبي بكرة.
11 - باب
شَهَادَةِ الأَعْمَى وَأَمْرِهِ وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ
وَمُبَايَعَتِهِ وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ.
وَمَا يُعْرَفُ بِالأَصْوَاتِ. وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ
قَاسِمٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ
وَعَطَاءٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ
إِذَا كَانَ عَاقِلاً. وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَىْءٍ
تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ
عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ؟
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلاً، إِذَا غَابَتِ
الشَّمْسُ أَفْطَرَ. وَيَسْأَلُ عَنِ الْفَجْرِ فَإِذَا
قِيلَ لَهُ طَلَعَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ
سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ
فَعَرَفَتْ صَوْلتى، قَالَتْ: سُلَيْمَانُ؟ ادْخُلْ
فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَىْءٌ.
وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ
مُنْتَقِبَةٍ.
(باب) بيان حكم (شهادة الأعمى و) بيان (أمره) في تصرفاته
(ونكاحه) بامرأة (وإنكاحه) غيره (ومبايعته) بيعه وشرائه
(وقبوله في التأذين وغيره) كإقامته الصلاة إذا توقّى
النجاسة (وما يعرف بالأصوات) عند تحققها أما عند الاشتباه
فلا اتفاقًا (وأجاز شهادته قاسم) هو ابن محمد بن أبي بكر
الصديق أحد الفقهاء السبعة مما وصله سعيد بن منصور
(والحسن) البصري (وابن سيرين) محمد فيما وصله ابن أبي شيبة
عنهما (والزهري) محمد بن مسلم بن شهاب فيما وصله ابن أبي
شيبة أيضًا عنه (وعطاء) هو ابن أبي رباح فيما وصله الأثرم
وهذا مذهب المالكية وعبارة المختصر وإن أعمى في قول أو أصم
في فعل يعني فلا يشترط في الشاهد أن يكون سميعًا بصيرًا
وعند الشافعية كالجمهور لا تقبل شهادة الأعمى لانسداد طريق
المعرفة عليه مع اشتباه الأصوات إلا في أربعة مواضع في
ترجمته لكلام الخصوم أو الشهود للقاضي لأنها تفسير للفظ
فلا تحتاج إلى معاينة وإشارة والنسب ونحوه مما يثبت
بالاستفاضة كالموت والملك إن كان المشهود له معروف الاسم
والنسب وما تحمله قبل العمى إن كان المشهود له وعليه معروف
الاسم والنسب بخلاف مجهوليه أو أحدهما وأن يقبض على المقر
حتى يشهد عليه عند القاضي بما سمعه من نحو طلاق أو عتق أو
مال لشخص معروف الاسم والنسب.
(وقال الشعبي) عامر بن شراحيل مما وصله ابن أبي شيبة (تجوز
شهادته إذا كان عاقلاً) أي فطنًا
مدركًا لدقائق الأمور بالقرائن وليس احترازًا عن الجنون إذ
العقل شرط في البصير والأعمى. (وقال
الحكم) بفتحتين ابن عتيبة فيما وصله ابن أبي شيبة أيضًا
(ربّ شيء تجوز فيه) شهادته. (وقال الزهري). محمد بن مسلم
مما وصله الكرابيسي في أدب القضاء (أرأيت ابن عباس لو شهد
على شهادة كنت تردّه) مع كونه كان أعمى.
(وكان ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله عبد الرزاق
بمعناه (يبعث رجلاً) لم يسمِّ (إذا غابت الشمس) يفحص عن
غروب الشمس للإفطار فإذا أخبره أنها غربت (أفطر) من صومه
(ويسأل عن الفجر، فإذا قيل) زاد في رواية غير أبي ذر له
(طلع صلّى ركعتين) ولا يرى شخص المخبر له وإنما يسمع صوته.
(وقال سليمان بن يسار) ضدّ اليمين أبو أيوب (استأذنت) في
الدخول (على عائشة -رضي الله عنها- فعرفت صوتي قالت) ولأبي
ذر فقالت (سليمان) بحذف حرف النداء (ادخل فإنك مملوك ما
بقي عليك شيء) أي من مال الكتابة وكان مكاتبًا لأم
المؤمنين وفيه أن عائشة كانت لا ترى الاحتجاب من العبد
سواء كان في ملكها أوفي ملك غيرها.
(وأجاز سمرة بن جندب شهادة امرأة منتقبة) بسكون النون وفتح
المثناة الفوقية بعدها قاف مكسورة من الانتقاب ولأبي ذر
منتقبة بتقديم المثناة على النون وتشديد القاف من التنقيب
التي على وجهها نقاب. قال الحافظ ابن حجر: ولم أعرف اسم
هذه المرأة.
2655 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "سَمِعَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلاً
يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ،
لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ
مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا". وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ: "تَهَجَّدَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِي فَسَمِعَ
صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا
عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا". [الحديث 2655 -
أطرافه في: 5037، 5042، 6335].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبيد بن ميمون) بضم عين عبيد
مصغرًا من غير إضافة القرشي التيمي مولاهم المدني وقيل
كوفي التبان قال: (أخبرنا عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق
السبيعي (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة رضي
الله عنها) أنها (قالت: سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(4/386)
رجلاً) هو عبد الله بن يزيد الأنصاري
القاري وزعم عبد الغني أنه الخطمي. قال ابن حجر: وليس في
روايته التي ساقها نسبته كذلك وقد فرق ابن منده بينه وبين
الخطمي فأصاب، والمعنى هنا سمع صوت رجل (يقرأ في المسجد
فقال) عليه الصلاة والسلام:
(رحمه الله) أي القارئ (لقد أذكرني كذا وكذا آية) وسقط
لأبي ذر قوله وكذا الثانية (أسقطتهن) اي نسيتهن (من سورة
كذا وكذا) كلمة مبهمة وهي في الأصل مركبة من كاف التشبيه
واسم الإشارة ثم نقلت فصارت يكنى بها عن العدد وغيره. قال
في الفتح: ولم أقف على تعيين الآيات المذكورة
وأغرب من زعم أن المراد بذلك إحدى وعشرون آية لأن ابن عبد
الحكم قال فيمن أقرأن عليه: كذا وكذا درهمًا أنه يلزمه أحد
وعشرون درهمًا، وقال الداودي يكون مقرًّا بدرهمين لأنه أول
ما يقع عليه ذلك انتهى.
وقال المالكية: واللفظ للشيخ خليل وكذا درهمًا وعشرون وكذا
وكذا أحد وعشرون وكذا كذا أحد عشر وقال الشافعية ويجب عليه
بقوله كذا درهم بالرفع درهم لكون الدرهم تفسيرًا لما أبهمه
بقوله: كذا وكذا لو نصب الدرهم أو خفض أو أسكن أو كرر كذا
بلا عاطف في الأحوال الأربعة لذلك ولاحتمال التوكيد في
الأخيرة وإن اقتضى النصب لزوم عشرين لكونه أوّل عدد مفرد
ينصب الدرهم عقبه إذ لا نظر في تفسير المبهم إلى الإعراب
ومتى كررها وعطف بالواو أو بثم ونصب الدرهم كقوله له: في
كذا وكذا درهمًا أو كذا ثم كذا درهمًا تكرر الدرهم بعدد
كذا فيلزمه في كلٍّ من المثالين درهمان لأنه أقرّ بمبهمين
وعقبهما بالدرهم منصوبًا فالظاهر أنه تفسير لكل منهما
بمقتضى العطف غير أنا نقدّره في صناعة الإعراب تمييزًا
لأحدهما ونقدّر مثله للآخر فلو خفض الدرهم أو رفعه أو سكنه
لا يتكرر لأنه لا يصلح تمييِزًا لما قبله.
(وزاد عباد بن عبد الله) بفتح العين وتشديد الموحدة في
الأول ابن الزبير ابن العوّام التابعي فيما وصله أبو يعلى
(عن عائشة) -رضي الله عنها- (تهجد) أي صلّى (النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيتي فسمع صوت عباد) هو
ابن بشر الأنصاري الأشهلي الصحابي (يصلّى في المسجد فقال):
(يا عائشة أصوت عباد هذا) بهمزة الاستفهام (قلت: نعم قال):
(اللهمَّ ارحم عبادًا) وظاهره أن المبهم في الرواية
السابقة هو هذا المفسر في هذه إذ مقتضى قوله زاد أن يكون
المزيد فيه والمزيد عليه حديثًا واحدًا فتتّحد القصة، لكن
جزم عبد الغني بن سعيد في مبهماته بأن المبهم في الأولى هو
عبد الله بن يزيد كما مرّ، فيحتمل أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمع صوت رجلين فعرف أحدهما فقال: هذا
صوت عباد ولم يعرف الآخر فسأل عنه، والذي لم يعرفه هو الذي
تذكر بقراءته الآيات التي نسيها وفيه جواز النسيان عليه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما ليس طريقه
البلاغ.
وبقية مباحثه تأتي إن شاء الله تعالى في فضائل القرآن
ومطابقته لما ترجم له هنا من كونه عليه الصلاة والسلام
اعتمد على صوت الرجل من غير رؤية شخصه.
2656 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ
شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ
بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يُؤَذِّنَ -أَوْ قَالَ حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ- ابْنِ
أُمِّ مَكْتُومٍ». وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلاً
أَعْمَى لاَ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ:
أَصْبَحْتَ.
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) بن زياد بن درهم النهدي
قال: (حدّثنا عبد العزيز بن أبي سلمة) هو عبد العزيز بن
عبد الله بن أبي سلمة بفتح اللام واسمه الماجشون بكسر
الجيم وبعدها
معجمة مضمومة المدني نزيل بغداد قال: (أخبرنا ابن شهاب)
الزهري (عن سالم بن عبد الله عن) أبيه
(عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن بلالاً يؤذن) للصبح (بليل) أي في ليل (فكلوا واشربوا
حتى) أي إلى أن (يؤذن أو قال حتى تسمعوا أذان ابن أُم
مكتوم) عمرو أو عبد الله بن قيس القرشي والشك من الراوي
(وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقول له الناس
أصبحت) في الأذان أصبحت أصبحت مرتين.
ومطابقته لما ترجم له الاعتماد على صوت الأعمى، وقد سبق في
أذان الأعمى من كتاب الأذان.
2657 - حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا
حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ
مَخْرَمَةَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "قَدِمَتْ عَلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ
بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا.
فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَوْتَهُ،
خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَهُوَ
يَقُولَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ".
وبه قال: (حدّثنا زياد بن يحيى) بن زياد أبو الخطاب البصري
قال: (حدّثنا حاتم بن وردان) أبو صالح البصري قال: (حدّثنا
أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختياني (عن
(4/387)
عبد الله بن أبي مليكة) نسبه لجده لشهرته
به. واسم أبيه عبيد الله بالتصغير واسم أبي مليكة زهير (عن
المسور بن مخرمة) الزهري (-رضي الله عنهما-) أنه (قال:
قدمت على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أقبية) وفي الهبة قسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أقبية ولم يعط مخرمة منها شيئًا (فقال لي أي
مخرمة انطلق بنا إليه) صلوات الله وسلامه عليه (عسى أن
يعطينا منها شيئًا فقام أبي على الباب فتكلم فعرف النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صوته فخرج) بالفاء
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي خرج (النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه قباء) وفي الهبة فخرج إليه وعليه
قباء منها (وهو يريه محاسنه وهو يقول):
(خبأت هذا لك خبأت هذا لك) مرتين.
ومطابقة الحديث للترجمة كالذي قبله كما لا يخفى.
12 - باب شَهَادَةِ النِّسَاءِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282].
(باب) جواز (شهادة النساء. وقوله تعالى) بالجر عطفًا على
سابقه ({فإن لم يكونا}) أي فإن لم يكن الشهيدان ({رجلين
فرجل وامرأتان}) [البقرة: 282] فليشهد أو فالمستشهد رجل
وامرأتان كذا قاله البيضاوي كالزمخشري قال في المصابيح:
الأنسب فإن لم يكن الشهيدان رجلين فالشهيدان رجل
وامرأتان أو فليشهد رجل وامرأتان لأن المأمور هم المخاطبون
لا الشهداء انتهى. وهذا مخصوص بالأموال عندنا وبما عدا
الحدود والقصاص عند الحنفية.
2658 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ
عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «أَلَيْسَ
شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟
قُلْنَا بَلَى. قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ
عَقْلِهَا".
وبه قال: (حدّثنا ابن أبي مريم) سعيد الجمحي قال: (أخبرنا
محمد بن جعفر) هو ابن أبي كثير (قال: أخبرني) بالإفراد
(زيد) هو ابن أسلم (عن عياض بن عبد الله) بن سعد بن أبي
سرح بفتح المهملة وسكون الراء بعدها حاء مهملة القرشي
العامري المكي (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-) وسقط
لأبي ذر الخدري (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه قال):
(أليس) ولأبي ذر: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أليس (شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل) لقوله
تعالى فرجل وامرأتان (قلنا) بالألف بعد النون، ولأبي ذر:
قلن (بلى قال): (فذلك) بكسر الكاف (من نقصان عقلها) لأن
الاستظهار بأخرى يؤذن بقلة ضبطها وهو يُشعِر بقلة عقلها
وهذا موضع الترجمة.
وأنواع الشهادات سبعة.
ما يقبل فيه شاهد واحد وهو رؤية هلال رمضان لحديث ابن عمر
أخبرت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصام
وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود وابن حبان.
وما يقبل فيه شاهد ويمين في الأموال خاصة لحديث مسلم وغيره
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وما يقبل فيه شاهد وامرأتان في الأموال وعيوب النساء خاصة.
وما يقبل فيه شاهدان في الحدود والنكاح والقصاص لما روى
مالك عن الزهري مضت السُّنَّة أنه لا يجوز شهادة النساء في
الحدود ولا في النكاح والطلاق وقيس بالثلاثة ما في معناها
كقصاص ورجعة وإسلام وردّة وجرح وتعديل وموت وإعسار.
وما يقبل فيه شاهدان ويمين وهو في مسائل: دعوى ردّ المبيع
بالعيب، ودعوى البكر أو الثيّب العنة على الزوج ودعوى
الجراحة في عضو باطن ادّعى الخصم أنه غير سليم، ودعوى
إعسار نفسه إذا عهد له مال، وعلى الغائب والميت ووليّ
الصغير والمجنون، وفيما إذا قال لامرأته: أنت طالق أمس، ثم
قال: أردت أنها طالق من غيري فيقيم في هذه الصورة البينة
بما ادّعاه، ويحلف معها طلبًا للاستظهار والمراد بالمحلوف
في الأولى قدم العيب وفي الثانية عدم الوطء.
وما يقبل فيه أربعة من الرجال في الشهادة على الزنا. نعم
يكفي في الشهادة على الإقرار به اثنان. وأجاز الكوفيون
شهادة النساء في النكاح والطلاق والنسب والولاء، واختلف
فيما لا يطّلع عليه الرجال هل يكفي فيه امرأة واحدة؟ فعند
الجمهور لا بدّ من أربع وعن مالك تكفي شهادة البعض، وقال
الحنفية، تجوز شهادتها وحدها.
وهذا الحديث قد مرّ بأتمّ من هذا في كتاب الحيض.
13 - باب شَهَادَةِ الإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ
وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إِذَا
كَانَ عَدْلاً. وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ
أَوْفَى.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلاَّ
الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ. وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ
وَإِبْرَاهِيمُ فِي الشَّىْءِ التَّافِهِ.
وَقَالَ شُرَيْحٌ: كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ.
(باب) حكم (شهادة الإماء والعبيد) أي في حال الرقّ. (وقال
أنس) فيما وصله ابن أبي شيبة من رواية المختار بن فلفل
(شهادة العبد) الرقيق (جائز إذا كان عدلاً، وأجازه) أي حكم
شهادة العبد (شريح)
(4/388)
القاضي فيما وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن
منصور في الشيء اليسير إذا كان مرضيًّا وعنه جوازها إلا
لسيده (و) أجازه أيضًا (زرارة بن أوفى) قاضي البصرة. (وقال
ابن سيرين) محمد مما وصله عبد الله بن الإمام أحمد
(شهادته) يعني العبد (جائزة إلا العبد لسيده، وأجازه) أي
حكم شهادة العبد (الحسن) البصري (وإبراهيم) النخعي فيما
وصله ابن أبي شيبة عنهما من طريقين (في الشيء التافه)
بالمثناة الفوقية وكسر الفاء الحقير، (وقال شريح) القاضي
مما وصله ابن أبي شيبة أيضًا (كلكم بنو عبيد وإماء) ولابن
السكن كلكم عبيد وإماء فأسقط بنو وهذا قاله: لما شهد عنده
عبد وأجاز شهادته فقيل: إنه عبد واتفق الأئمة الثلاثة على
عدم قبول شهادة العبد مطلقًا لأنه ناقص الحال قليل
المبالاة فلا يصلح لهذه الأمانة، وقال الحنابلة واللفظ
للمرداوي في تنقيحه: وتقبل شهادة عبد حتى في حدّ وقود
نصًّا وعنه لا تقبل فيهما وهي أشهر.
2659 - حدثنا أبو عاصم عن ابن جُريج عن ابن أبي مُلَيكةَ
عن عُقبةَ بن الحارثِ ح.
وحَدَّثَنَا علي بن عبد الله حدثنا يحيى بن سعيد عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ
قَالَ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ أَوْ
سَمِعْتُهُ مِنْهُ: "أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى
بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، قَالَ: فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ
فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ
ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنها قَدْ
أَرْضَعَتْكُمَا. فَنَهَاهُ عَنْهَا".
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد (عن ابن جربج)
عبد الملك بن عبد العزيز (عن ابن أبي مليكة) عبد الله (عن
عقبة بن الحرث) بن عامر بن نوفل بن عبد مناف النوفلي المكي
الصحابي من مسلمة الفتح وبقي إلى بعد الخمسين (ح) للتحويل.
قال المؤلّف بالسند: (وحدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني
قال: (حدّثنا يحيى بن سعيد) القطان (عن ابن جريج) عبد
الملك أنه (قال سمعت ابن أبي مليكة) عبد الله (قال:
حدّثني) بالإفراد (عقبة بن الحرث) وسقط في بعض النسخ من
قوله وحدّثنا علي إلى آخر قوله عقبة بن الحرث (أو سمعته
منه أنه تزوّج أم يحيى) غنية أو زينب (بنت أبي إهاب) بكسر
الهمزة (قال: فجاءت أمة سوداء) لم تسم (فقالت قد أرضعتكما)
تعني عقبة والتي تزوجها قال عقبة (فذكرت ذلك) الذي قالته
الأمة (للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأعرض
عني، قال: فتنحيت) أي من تلك الناحية إلى قبل وجهه (فذكرت
ذلك) الذي قالته (له) عليه الصلاة والسلام (قال):
(وكيف) خبر مبتدأ محذوف أي كيف ذلك أو كيف بقاء الزوجية
(و) الحال أن (قد زعمت) أي قالت الأمة (أنها) وللحموي
والمستملي: أن (قد أرضعتكما فنهاه عنها) وهو يقتضي فراقها
بقول الأمة المذكورة فلو لم تكن شهادتها مقبولة ما عمل
بها. وأجيب: بأن في بعض طرق الحديث فجاءت مولاة لأهل مكة
وهو لفظ يطلق على الحرة التي عليها الولاء فلا دلالة على
أنه كانت رقيقة، وتعقب بأن رواية حديث الباب فيها التصريح
بأنها أمة فتعين أنها ليست بحرّة وقد قال ابن دقيق العيد:
إن أخذنا بظاهر حديث الباب فلا بدّ من القول بشهادة الأمة،
وتعقبه بعضهم فيما ادّعاه من لزوم شهادة الأمة بأنه ورد في
النكاح عند البخاري بلفظ: فجاءتنا امرأة سوداء، وفي الباب
اللاحق فجاءت امرأة فلم يقيد بالأمة. وأجيب: بأن مجيء
رواية بوصف يجب أن يكون بيانًا لرواية الإطلاق فتبين أن
المراد الأمة اللهمَّ إلا أن يدّعي أنه أطلق عليها أمة
مجازًا باعتبار ما كانت عليه، وإنما هي حرة بدليل قوله في
الحديث: مولاة لأهل مكة فإذن ليس هذا من شهادة الإماء في
شيء على أنه لم يعمل بشهادتها في حديث البخاري، وإنما دله
عليه الصلاة والسلام على طريق الورع.
14 - باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
(باب شهادة المرضعة).
2660 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ
عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
الْحَارِثِ قَالَ: "تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً, فَجَاءَتِ
امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا،
فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ دَعْهَا
عَنْكَ. أَوْ نَحْوَهُ".
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد (عن عمر بن
سعيد) بكسر العين وعمر بضم العين ابن حسين النوفلي القرشي
المكي (عن ابن أبي مليكة) عبد الله (عن عقبة بن الحرث)
النوفلي أنه
(قال: تزوجت امرأة) هي أم يحيى بنت أبي إهاب كما في الأخرى
(فجاءت امرأة) لم يقل أمة فالأولى مقيدة لهذه وقد مرّ ما
في ذلك قريبًا (فقالت: إني قد أرضعتكما) زاد المؤلّف في
العلم من طريق عمر بن سعيد عن أبي حسين عن ابن أبي مليكة
ما أرضعتني ولا أخبرتني يعني بذلك قبل التزوج (فأتيت النبى
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفي العلم فركب إلى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة
فسأله (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(وكيف وقد قيل دعها) اتركها (عنك أو نحوه)
(4/389)
احتج به من قبل شهادة المرضعة وحدها، وأجاب
الجمهور بحمل النهي في قوله في السابقة فنهاه عنها على
التنزيه والأمر في قوله في هذا دعها عنك على الإرشاد.
(حديث الإفك) هذا ساقط عند أبي الوقت.
15 - باب تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا
(باب تعديل النساء بعضهن بعضًا).
2661 - حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ
دَاوُدَ -وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ- حَدَّثَنَا
فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ
اللَّيْثِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ
قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا
اللَّهُ مِنْهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكُلُّهُمْ
حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا -وَبَعْضُهُمْ
أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا- وَقَدْ
وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي
حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ
يُصَدِّقُ بَعْضًا. زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ
بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا
خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ
فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ
الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ وَأُنْزَلُ
فِيهِ. فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَزْوَتِهِ
تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ آذَنَ
لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا
بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ،
فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ
فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ
أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ
عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، فَأَقْبَلَ الَّذِينَ
يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ
عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ
يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ
خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ،
وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ،
فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ
الْهَوْدَجِ فَاحْتَمَلُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ
السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ
عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ
مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي
الَّذِي كُنْتُ بِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَني
فَيَرْجِعُونَ إِلَىَّ. فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ
غَلَبَتْنِي عَيْنَاىَ فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ
الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ
مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي،
فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي، وَكَانَ
يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ
بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ
يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي
الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا
نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ
مَنْ هَلَكَ. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا، والناس
يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي
فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَرَى مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ
أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ
فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ لاَ أَشْعُرُ
بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ أَنَا
وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ مُتَبَرَّزُنَا، لاَ
نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ
أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا،
وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي الْبَرِّيَّةِ
أَوْ فِي التَّنَزُّهِ. فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ
مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي، فَعَثُرَتْ فِي
مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا:
بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْرًا؟
فَقَالَتْ: يَا هَنْتَاهْ أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا؟
فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ
مَرَضًا على مَرَضِي. فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي
دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَقُلْتُ:
ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَىَّ -قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ
أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا-
فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فَأَتَيْتُ أَبَوَىَّ, فَقُلْتُ لأُمِّي: مَا
يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ،
هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللَّهِ
لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ
رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ أَكْثَرْنَ
عَلَيْهَا. فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ
يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبِتُّ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ
وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. ثُمَّ أَصْبَحْتُ، فَدَعَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ
اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ
أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ
بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوُدِّ لَهُمْ،
فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ
نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلاَّ خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ
يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا
كَثِيرٌ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. فَدَعَا رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَرِيرَةَ
فَقَالَ: يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا
يَرِيبُكِ؟ فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ
عَلَيْهَا قط أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ
السِّنِّ تَنَامُ عَنِ الْعَجِينَ فَتَأْتِي الدَّاجِنُ
فَتَأْكُلُهُ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي
أَهْلِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ
خَيْرًا، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ
إِلاَّ خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي
إِلاَّ مَعِي. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ
مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ
إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا
فِيهِ أَمْرَكَ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ
سَيِّدُ الْخَزْرَجِ -وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً
صَالِحًا، وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ- فَقَالَ:
كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، والله لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ
تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ
فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَاللَّهِ
لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ
الْمُنَافِقِينَ. فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ
وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ. فَنَزَلَ
فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ. وَبَكَيْتُ
يَوْمِي لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلاَ أَكْتَحِلُ
بِنَوْمٍ، فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَاىَ وقَدْ بَكَيْتُ
لَيْلَتي وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ
فَالِقٌ كَبِدِي. قَالَتْ: فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ
عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي إِذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ
مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي
مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَلَسَ
وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا
قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكُثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى
إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَىْءٌ. قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ ثُمَّ
قَالَ: يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا
وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ
اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ
وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ
بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا
قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ
مِنْهُ قَطْرَةً، وَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ:
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقُلْتُ لأُمِّي:
أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِيمَا قَالَ. قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي
مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. قَالَتْ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ
لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَقُلْتُ: إِنِّي
وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا
يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ
وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي
بَرِيئَةٌ -وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي بَرِيئَةٌ- لاَ
تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ
بِأَمْرٍ -وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ-
لَتُصَدِّقُنِّي. وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ
مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ: {فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ
يُبَرِّئَنِي اللَّهُ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ
أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلأَنَا أَحْقَرُ فِي
نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي،
وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ
رُؤْيَا تُبَرِّئُنِي، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ
وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى
أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحيُ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ
يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ
لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ
فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَضْحَكُ
فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِي:
يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ
اللَّهُ. قَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقُلْتُ
لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ
إِلاَّ اللَّهَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:
11] الآيَاتِ. فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي
بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي الله
عنه-وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ
لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ- وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى
مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو
الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ -إِلَى قَوْلِهِ- غَفُورٌ
رَحِيمٌ} [النور: 22] فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى
وَاللَّهِ، إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي،
فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي،
فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ مَا عَلِمْتِ؟ مَا رَأَيْتِ؟
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي
وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ
خَيْرًا. قَالَتْ: وَهْيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي،
فَعَصَمَهَا اللَّهُ
بِالْوَرَعِ" قَالَ: وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ.
وبه قال: (حدّثنا أبو الربيع سليمان بن داود) الزهراني
العتكي بفتح العين المهملة والمثناة الفوقية بصري دخل
بغداد (وأفهمني بعضه) بعض معاني الحديث ومقاصد لفظه (أحمد)
مجردًا عن النسب ولم يبينه أبو علي الجياني وفي الأطراف
لخلف أنه ابن يونس وجزم به الدمياطي، وكذا ثبت في حاشية
الفرع كأصله ورقم عليه علامة ق. وقال ابن حجر أنه رآه كذلك
في نسخة الحافظ أبي الحسن اليونيني. قلت: وكذا رأيته وقد
أهمله في جميع الروايات التي وقعت له إلا هذه. وقال ابن
عساكر والمزي: إنه وهم، وفي طبقات القراء للذهبي أنه ابن
النضر، وزعم ابن خلفون أنه ابن حنبل، وأحمد بن يونس هذا هو
أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي المعروف بشيخ الإسلام،
وهل أحمد المذكور هنا رفيق لأبي الربيع في الرواية عن فليح
فيكون المؤلّف حمله عنهما معًا على الصفة المذكورة أو رفيق
للمؤلّف في الرواية عن أبي الربيع؟ قال: (حدّثنا فليح بن
سليمان) الخزاعي أو الأسلمي أبو يحيى (عن ابن شهاب الزهري
عن عروة بن الزبير) بن العوّام (وسعيد بن المسيب) بفتح
المثناة التحتية المشددة وكسرها (وعلقمة بن وقاص الليثي)
العتواري (وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة) بن مسعود
الأربعة (عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال لها أهل الأفك) بكسر
الهمزة أبلغ ما يكون من الافتراء والكذب (ما قالوا فبرأها
الله منه).
(قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (وكلهم) أي عروة فمن
بعده (حدّثنا طائفة) قطعة (من حديثها) وقد انتقد على
الزهري روايته لهذا الحديث ملفقًا عن هؤلاء الأربعة
وقالوا: كان ينبغي له أن يفرد حديث كل واحد عن الآخر حكاه
عياض فيما ذكره في الفتح (وبعضهم أوعى) أحفظ لأكثر هذا
الحديث (من بعض وأثبت له اقتصاصًا) أي سياقًا (وقد وعيت)
بفتح العين أي حفظت (عن كل واحد منهم الحديث) أي بعض
الحديث (الذي حدّثني) به منه (عن) حديث (عائشة) فأطلق الكل
على البعض فلا تنافي بين قوله: وكلهم حدّثني طائفة من
الحديث، وبين قوله: وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث كما
نبّه عليه الكرماني. والحاصل أن جميع الحديث عن مجموعهم لا
أن مجموعة عن كل واحد منهم (وبعض حديثهم يصدق بعضًا زعموا
أن عائشة) أي قالوا أنها (قالت):
(كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا
أراد أن يخرج سفرًا) أي إلى سفر فهو نصب بنزع الخافض أو
ضمن يخرج معنى ينشئ فالنصب على المفعولية (أقرع بين
أزواجه) تطييبًا لقلوبهن (فأيتهنّ) بتاء التأنيث.
قال الزركشي فيما نقله عنه في المصابيح: ولم أره في النسخة
التي وقفت عليها من التنقيح أنه الوجه، ويروى: فأيهنّ بدون
تاء تأنيث، وتعقبه الدماميني فقال: دعواه أن الرواية
الثانية ليست على الوجه خطأ إذ المنصوص أنه إذا أريد بأيّ
المؤنث جاز إلحاق التاء به موصولاً كان أو استفهامًا أو
غيرهما انتهى.
ولم أقف على الرواية الثانية هنا. نعم هي في تفسير سورة
النور لغير أبي ذر والمعنى فأيّ أزواجه (خرج سهمها خرج بها
معه) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أخرج بزيادة همزة قال:
في الفتح والأوّل هو الصواب، ولعل ذا الهمزة أخرج بضم
الهمزة مبنيًا للمفعول (فأقرع) عليه الصلاة والسلام (بيننا
في غزاة غزاها) هي غزوة بني المصطلق من خزاعة (فخرج سهمي)
فيه إشعار بأنها كانت في تلك الغزاة وحدها، ويؤيده ما في
رواية ابن إسحاق بلفظ: فخرج سهمي عليهنّ فخرج بي معه، وأما
ما ذكره الواقدي من خروج أم سلمة معه أيضًا في هذه الغزوة
فضعيف.
قالت عائشة: (فخرجت معه) عليه الصلاة والسلام (بعدما أنزل
الحجاب) أي الأمر به (فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه) بضم
الهمزة فيهما
(4/390)
مبنيين للمفعول والهودج بهاء ودال مهملة
مفتوحتين بينهما واو ساكنة آخره جيم محمل له قبلة تستر
بالثياب ونحوها يوضع على ظهر البعير يركب فيه النساء ليكون
أستر لهنّ (فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غزوته تلك وقفل) بقاف ففاء أي رجع
من غزوته (ودنونا) أي قربنا (من المدينة آذن) بالمدّ
والتخفيف ويجوز القصر والتشديد أي أعلم (ليلة بالرحيل) وفي
رواية ابن إسحاق عند أبي عوانة: فنزل منزلاً فبات به بعض
الليل ثم آذن بالرحيل (فقمت حين آذنوا بالرحيل) بالمد
والقصر كما مرّ (فمشيت) أي لقضاء حاجتي منفردة (حتى جاوزت
الجيش فلما قضيت شأني) أي الذي توجهت له (أقبلت إلى الرحل)
إلى المنزل (فلمست صدري فإذا عقد لي) بكسر العين قلادة (من
جزع أظفار) بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها عين مهملة مضاف
لقوله أظفار بهمزة مفتوحة ومعجمة ساكنة والجزع خرز معروف
في سواده بياض كالعروق، وقد قال التيفاشي: لا يتيمن بلبسه
ومن تقلده كثرت همومه ورأى منامات رديئة، وإذا علق على طفل
سال لعابه، وإذا لفّ على شعر المطلقة سهلت ولادتها، ولأبي
ذر عن الكشميهني: ظفار بإسقاط الهمزة وفتح الظاء وتنوين
الراء فيهما كما في الفرع وغيره. قال ابن بطال: الرواية
أظفار بألف وأهل اللغة لا يقرؤونه بألف ويقولون ظفار وقال
الخطابي الصواب الحذف وكسر الراء مبني كحضار مدينة باليمن
قالوا فدلّ على أن رواية زيادة الهمزة وهم وعلى تقدير صحة
الرواية فيحتمل أنه كان من الظفر أحد أنواع القسط وهو طيب
الرائحة يتبخر به فلعله عمل مثل الخرز فأطلقت عليه جزعًا
تشبيهًا به ونظمته قلادة إما لحسن لونه أو لطيب ريحه، وفي
رواية الواقدي كما في الفتح: فكان في عنقي عقد من جزع ظفار
كانت أمي قد أدخلتني به على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قد انقطع) وفي رواية ابن اسحاق عند
أبي عوانة قد انسلّ من عنقي وأنا لا أدري (فرجعت) أي إلى
المكان الذي ذهبت إليه (فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه) أي
طلبه، وعند الواقدي وكنت أظن أن القوم لو لبثوا شهرًا لم
يبعثوا بعيري حتى أكون في هودجي (فأقبل الذين يرحلون لي)
بفتح أوّله وسكون الراء مخففًا أي يشدون الرحل على بعيري
ولم يسم أحد منهم نعم ذكر منهم الواقدي أبا مويهيبة، وقال
البلاذري: إنه شهد غزوة المريسيع وكان يخدم بعير عائشة
ولأبي ذر يرحلون بضم أوّله وفتح الراء مشددًا (فاحتملوا
هودجي فرحلوه) بالتخفيف، ولأبي ذر: فرحّلوه بالتشديد أي
وضعوا هودجي (على بعيري
الذي كنت أركب) أي عليه، وفي قوله فرحلوه على بعيري تجوّز
لأن الرجل هو الذي يوضع على ظهر البعير ثم يوضع الهودج
فوقه (وهم يحسبون أني فيه) في الهودج، (وكان النساء إذ ذاك
خفافًا لم يثقلن) بكثرة الأكل (ولم يغشهن اللحم) لم يكثر
عليهن (وإنما يأكلن العلقة) بضم العين وسكون اللام وبالقاف
أي القليل (من الطعام فلم يستنكر القوم) بالرفع على
الفاعلية (حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه) وثقل بكسر
المثلثة وفتح القاف الذي اعتادوه منه الحاصل فيه بسبب ما
ركب منه من خشب وحبال وستور وغيرها، ولشدة نحافة عائشة لا
يظهر بوجودها فيه زيادة ثقل، وفي تفسير سورة النور من طريق
يونس خفّة الهودج وهذه أوضح لأن مرادها إقامة عذرهم في
تحميل هودجها وهي ليست فيه فكأنها لخفّة جسمها بحيث إن
الذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجدها فيه وعدمها،
ولهذا أردفت ذلك بقولها: (وكنت جارية حديثة السن) لم تكمل
إذ ذاك خمس عشرة سنة (فبعثوا الجمل) أي أثاروه (وساروا
فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش) أي ذهب ماضيًا وهو استفعل
من مرّ (فجئت منزلهم وليس فيه أحد) وفي التفسير فجئت
منازلهم وليس بها داع ولا مجُيب (فأممت) بالتخفيف فقصدت
(منزلي الذي كنت فيه فظننت) أي علمت (أنهم سيفقدوني) بكسر
القاف وحذف النون تخفيفًا، ولأبوي
(4/391)
ذر والوقت: سيفقدونني (فيرجعون إليّ فبينا)
بغير ميم (أنا جالسة) وجواب بينا قوله (غلبتني عيناي فنمت)
أي من شدة الغم الذي اعتراها، أو أن الله تعالى لطف بها
فألقى عليها النوم لتستريح من وحشة الانفراد في البرية
بالليل (وكان صفوان بن المعطل) بفتح الطاء المشددة
(السلمي) بضم السين وفتح اللام (ثم الذكواني) بالذال
المعجمة منسوب إلى ذكوان بن ثعلبة وكان صحابيًّا فاضلاً
(من وراء الجيش). وفي حديث ابن عمر عند الطبراني أن صفوان
كان سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
يجعله على الساقة، فكان إذا رحل الناس قام يصلّي ثم اتبعهم
فمن سقط له شيء أتاه به، وفي حديث أبي هريرة عند البزار:
وكان صفوان يتخلّف عن الناس فيصيب القدح والجراب والإداوة،
وفي مرسل مقاتل بن حيان في الإكليل: فيحمله فيقدم به
فيعرّفه في أصحابه (فأصبح عند منزلي) كأنه تأخر في مكانه
حتى قرب الصبح فركب ليظهر له ما يسقط من الجيش مما يخفيه
الليل أو كان تأخره مما جرت به عادته من غلبة النوم عليه
(فرأى سواد إنسان) أي شخص إنسان (نائم) لا يدري أرجل أو
امرأة (فأتاني) زاد في التفسير فعرفني حين رآني (وكان
يراني قبل الحجاب) أي قبل نزوله (فاستيقظت) من نومي
(باسترجاعه) أي بقوله: إنّا لله وإنّا إليه راجعون (حين
أناخ راحلته) وكأنه شق عليه ما جرى لعائشة فلذا استرجع،
ولأبي ذر عن الكشميهني: حتى أناخ راحلته (فوطئ يدها) أي
وطئ صفوان يد الراحلة ليسهل الركوب عليها فلا تحتاج إلى
مساعد (فركبتها فانطلق) صفوان حال كونه (يقود بي الراحلة
حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا) حال كونهم (معرسين) بفتح
العين المهملة وكسر الراء المشددة بعدها سين مهملة نازلين
(في نحر الظهيرة) حين بلغت الشمس منتهاها من الارتفاع
وكأنها وصلت إلى النحر وهو أعلى المصدر أو أولها وهو وقت
شدة الحر (فهلك من هلك) زاد أبو صالح في شأني، وفي رواية
أبي أويس عند الطبراني: فهنالك قال أهل الإفك فيّ وفيه ما
قالوا (وكان الذي تولى الإفك) أي تصدّى له وتقلده رأس
المنافقين (عبد الله بن أُبي بن سلول)
بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد المثناة وابن سلول يكتب
بالألف والرفع لأن سلول بفتح السين غير منصرف علم لأم عبد
الله فهو صفة لعبد الله لا لأبي وأتباعه مسطح بن أثاثة،
وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. وفي حديث ابن عمر فقال عبد
الله بن أُبي: فجرَّبها وربّ الكعبة وأعانه على ذلك جماعة
وشاع ذلك في العسكر (فقدمنا المدينة فاشتكيت) مرضت (بها
شهرًا) زاد في التفسير حين قدمتها وزاد هنا بدل لها بها
(والناس يفيضون) بضم أوّله يشيعون (من قول أصحاب الإفك)
وسقط للحموي والمستملي قوله والناس (ويريبني) بفتح أوّله
من رابه ويجوز ضمه من أرابه أي يشككني ويوهمني (في وجعي
أني لا أرى من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
اللطف) بضم اللام وسكون الطاء عند ابن الخطيئة عن أبي ذر
كذا في حاشية فرع اليونينية كهي وفي متنهما زيادة فتح
اللام والطاء أي الرفق (الذي كنت أرى منه حين أمرض) بفتح
الهمزة والراء (إنما يدخل) عليه الصلاة والسلام (فيسلم ثم
يقول) وللحموي والمستملي فيقول:
(كيف تيكم)؟ بكسر المثناة الفوقية وهي في الإشارة للمؤنث
مثل ذاكم في المذكر قال في التنقيح: وهي تدل على لطف من
حيث سؤاله عنها وعلى نوع جفاء من قوله: "تيكم" (لا أشعر
بشيء من ذلك) الذي يقوله أهل الإفك (حتى نقهت) بفتح النون
والقاف وقد تكسر أي أفقت من مرضي ولم تتكامل لي الصحة
(فخرجت أنا وأم مسطح) بكسر الميم وسكون السين وفتح الطاء
المهملتين آخره حاء مهملة (قبل المناصع) بكسر القاف وفتح
الموحدة والمناصع بالصاد والعين المهملتين موضع خارج
المدينة (متبرزنا) بفتح الراء المشددة وبالرفع أي وهو
متبرزنا أي موضع قضاء حاجتنا، ولغير أبي ذر: متبرزنا بالجر
بدلاً من المناصع (لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن
نتخذ الكنف) بضم الكاف والنون جمع كنيف وهو الساتر
(4/392)
والمراد به هنا المكان المتخذ لقضاء الحاجة
(قريبًا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول) بضم الهمزة
وتخفيف الواو وكسر اللام في الفرع وغيره نعت للعرب، وفي
نسخة الأوّل بفتح الهمزة وتشديد الواو وضم اللام نعت
للأمر. قال النووي: وكلاهما صحيح، وقد ضبطه ابن الحاجب
بفتح الهمزة، وصرّح بمنع وصف الجمع بالضم ثم خرّجه على
تقدير ثبوته على أن العرب اسم جمع تحته جموع فيصير مفردًا
بهذا التقرير قال: والرواية الأولى أشهر وأقعد انتهى.
أي: لم يتخلقوا بأخلاق أهل الحاضرة والعجم في التبرّز (في
البرية) بفتح الموحدة وتشديد الراء والمثناة التحتية خارج
المدينة (أو في التنزه) بمثناة فوقية فنون ثم زاي مشددة
طلب النزاهة والمراد البعد عن البيوت والشك من الراوي
(فأقبلت أنا وأم مسطح) سلمى (بنت أبي رهم) حال كوننا
(نمشي) أي ماشين، ورهم بضم الراء وسكون الهاء واسمه أنيس
(فعثرت) بالعين المهملة والمثلثة والراء المفتوحات أي أم
مسطح (في مرطها) بكسر الميم كساء من صوف أو خرز أو كتان
قاله الخليل (فقالت: تعس مسطح) بكسر العين المهملة وفتح
الفوقية قبلها آخره سين مهملة وقد تفتح العين وبه قيد
الجوهري أي كب لوجهه أو هلك أو لزمه الشر (فقلت لها: بئسما
قلت أتسبين رجلاً شهد بدرًا). وعند الطبراني: أتسبين ابنك
وهو من المهاجرين الأوّلين؟ (فقالت: يا هنتاه) بفتح الهاء
وسكون النون وقد تفتح وبعد المثناة الفوقية ألف ثم هاء
ساكنة في الفرع كأصله وقد تضم أي يا هذه نداء للبعيد
فخاطبتها خطاب البعيد لكونها نسبتها للبله وقلة المعرفة
بمكائد النساء (ألم تسمعي ما قالوا فأخبرتني بقول الإفك)
وللكشميهني أهل الإفك (فازددت مرضًا إلى) أي مع ولأبوي ذر
والوقت: على (مرضي) قال في الفتح: وعند سعيد بن منصور من
مرسل أبي صالح فقالت: وما تدرين ما قال؟ قالت: لا والله
فأخبرتها بما خاض فيه الناس فأخذتها الحمى، وعند الطبراني
بإسناد صحيح عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: لما
بلغني ما تكلموا به هممت أن آتي قليبًا فأطرح نفسي فيه.
(فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسلم فقال): (كيف تيكم)؟ (فقلت ائذن
لي) أن آتي (إلى أبوي قالت وأنا حيينذٍ أريد أن أستيقن
الخبر من قبلهما) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهتهما
(فأذن لي رسول الله) في ذلك (فأتيت أبوي فقلت لأمي) أم
رومان زاد في التفسير يا أمتاه (ما يتحدّث به الناس) بفتح
المثناة التحتية من يتحدث، ولأبي ذر: ما يتحدث الناس به
بتقديم الناس على الجار والمجرور. (فقالت: يا بنية هوّني
على نفسك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة قطّ وضيئة) بالرفع
صفة لامرأة أو بالنصب على الحال واللام في لقل للتأكيد،
وقلَّ: فعل ماضي دخلت عليه ما للتأكيد والوضيئة المعجمة
والهمزة والمد على وزن عظيمة من الوضاءة وهي الحسن
والجمال، وكانت عائشة -رضي الله عنها- كذلك. ولمسلم من
رواية ابن ماهان حظية من الحظوة أي وجيهة رفيعة المنزلة
(عند رجل يحبها ولها ضرائر) جمع ضرّة وزوّجات الرجل ضرائر
لأن كل واحدة يحصل لها الضرر من الأخرى بالغيرة (إلاّ
أكثرن) أي نساء ذلك الزمان (عليها) القول في عيبها ونقصها
فالاستثناء منقطع أو بعض أتباع ضرائرها كحمنة بنت جحش أخت
زينب أم المؤمنين فالاستثناء متصل والأول هو الراجح لأن
أمهات المؤمنين لم يعبنها.
سلمنا أنه متصل لكن المراد بعض أتباع الضرائر كقوله تعالى:
{حتى إذا استيأس الرسل} [يوسف: 110] فأطلق الأياس على
الرسل، والمراد بعض أتباعهم وأرادت أمها بذلك أن تهوّن
عليها بعض ما سمعت فإن الإنسان يتأسى بغيره فيما يقع له،
وطيبت خاطرها بإشارتها بما يشعر بأنها فائقة الجمال
والحظوة عنده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(فقلت: سبحان الله!) تعجبًّا من وقوع مثل ذلك في حقها مع
براءتها المحققة عندها وقد نطق القرآن الكريم بما تلفظت به
فقال تعالى عند ذكر ذلك: {سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور:
16] (ولقد يتحدّث الناس
(4/393)
بهذا) بالمضارع المفتوح الأول، ولأبي ذر:
تحدّث الناس بالماضي، وفي رواية هشام بن عروة عند البخاري
فاستعبرت فبكيت فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فقال
لأمي: ما شأنها؟ قالت بلغها الذي ذكر من شأنها ففاضت
عيناه، فقال: أقسمت عليك يا بنية إلا رجعت إلى بيتك فرجعت.
(قالت) أي عائشة (فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي
دمع) بالقاف والهمزة أي لا ينقطع (ولا أكتحل بنوم) لأن
الهموم موجبة للسهر وسيلان الدموع.
وفي المغازي عن مسروق عن أم رومان قالت عائشة: سمع رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قالت: نعم.
قالت: وأبو بكر؟ قالت: نعم فخرّت مغشيًا عليها فما أفاقت
إلاّ وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطتها.
(ثم أصبحت فدعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- علي بن أبي طالب) رضي الله تعالى عنه (وأسامة
بن زيد حين استلبث الوحي) حال كونه (يستشيرها) لعلمه
بأهليتهما للمشورة (في فراق أهله) لم تقل في فراقي
لكراهتها التصريح بإضافة الفراق إليها والوحي بالرفع في
الفرع أي طال لبث نزوله. وقال ابن العراقي: ضبطناه بالنصب
على أنه مفعول لقوله استلبث أي استبطأ النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوحي، وكلام النووي يدل على
الرفع (فأما أسامة فأشار عليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (بالذي يعلم في نفسه من الودّ لهم فقال أسامة):
هم (أهلك) العفائف اللائقات بك وعبر بالجمع إشارة إلى
تعميم أمهات المؤمنين بالوصف المذكور أو أراد تعظيم عائشة
وليس المراد أنه تبرأ من الإشارة، ووكل الأمر في ذلك إلى
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإنما أشار
وبرّأها. وجوّز بعضهم النصب أي أمسك أهلك لكن الأولى الرفع
لرواية معمر حيث قال: هم أهلك (يا رسول الله ولا نعلم
والله إلاّ خيرًا) إنما حلف ليقوي عنده عليه الصلاة
والسلام براءتها ولا يشك وسقط لفظ والله لأبي ذر (وأما علي
بن أبي طالب) -رضي الله عنه- (فقال: بل رسول الله لم يضيق
الله عليك) وللحموي والمستملي: لم يضيق عليك بحذف الفاعل
للعلم به وبناء الفعل للمفعول (والنساء سواها كثير) بصيغة
التذكير للكل على إرادة الجنس، وللواقدي قد أحلّ الله لك
وأطاب طلّقها وانكح غيرها، وإنما قال لما رأى عنده عليه
الصلاة والسلام من القلق والغمّ لأجل ذلك، وكان شديد
الغيرة صلوات الله وسلامه عليه فرأى عليّ أن بفراقها يسكن
ما عنده بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيراجعها فبذل
النصيحة لإراحته لا عداوة لعائشة. وقال في بهجة النفوس مما
قرأته فيها لم يجزم عليّ بالإشارة بفراقها لأنه عقب ذلك
بقوله (وسل الجارية) بريرة (تصدقك) بالجزم على الجزاء
ففوّض في الأمر في ذلك إلى نظره عليه الصلاة والسلام فكأنه
قال: إن أردت تعجيل الراحة ففارقها، وإن أردت خلاف ذلك
فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطلع على براءتها لأنه كان
يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته وهي لم تعلم من
عائشة إلا البراءة المحضة. (فدعا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بريرة).
قال الزركشي: قيل إن هذا وهم فإن بريرة إنما اشترتها عائشة
وأعتقتها قبل ذلك ثم قال: والمخلص من هذا الإشكال أن تفسير
الجارية ببريرة مدرج في الحديث من بعض الرواة ظنًّا منه
أنها هي. قال في المصابيح: وهذا أي الذي قاله الزركشي ضيق
عطن فإنه لم يرفع الإشكال إلا بنسبة الوهم إلى الراوي قال:
والمخلص عندي من الإشكال الرافع لتوهيم الرواة وغيرهم أن
يكون إطلاق
الجارية على بريرة وإن كانت معتقة إطلاقًا مجازيًّا
باعتبار ما كانت عليه فاندفع الإشكال ولله الحمد انتهى.
وهذا الذي قاله: في المصابيح بناء على سبقية عتق بريرة
وفيه نظر لأن قصتها إنما كانت بعد فتح مكة لأنها لما خيرت
فاختارت نفسها كان زوجها يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها
فقال: رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
للعباس: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة"؟ ففيه دلالة
على أن قصة بريرة كانت متأخرة في السنة التاسعة أو العاشرة
لأن العباس إنما سكن المدينة بعد رجوعهم من غزوة الطائف
(4/394)
وكان ذلك في أواخر سنة ثمانٍ، ويؤيد ذلك
قول ابن عباس أنه شاهد ذلك وهو إنما قدم المدينة مع أبويه،
وأيضًا فقول عائشة إن شاء مواليك أن أعدّها لهم عدة واحدة
فيه إشارة إلى وقوع ذلك في آخر الأمر لأنهم كانوا في أول
الأمر في غاية الضيق ثم حصل لهم التوسع بعد الفتح، وقصة
الإفك في المريسيع سنة ست أو سنة أربع وفي ذلك ردّ على من
زعم قصتها كانت متقدمة قبل قصة الإفك، وحمله على ذلك قوله
هنا فدعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بريرة.
وأجيب: باحتمال أنها كانت تخدم عائشة قبل شراءها أو
اشترتها وأخرت عتقها إلى بعد الفتح أو دام حزن زوجها عليها
مدة طويلة أو كان حصل لها الفسخ وطلب أن يردّه بعقد جديد
أو كانت لعائشة ثم باعتها ثم استعادتها بعد الكتابة (فقال)
عليه الصلاة والسلام: (يا بريرة هل رأيت فيها شيئًا
يريبك)؟ بفتح أوّله يعني من جنس ما قيل فيها فأجابت على
العموم ونفت عنها كل ما كان من النقائص من جنس ما أراد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السؤال عليه وغيره
(فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت) بكسر الهمزة
أي ما رأيت (منها أمرًا أغمصه) بهمزة مفتوحة فغين معجمة
ساكنة فميم مكسورة فصاد مهملة أعيبه (عليها) في كل أمورها،
ولأبي ذر عن المستملي: قطّ (أكثر من أنها جارية حديثة السن
تنام عن العجين) لأن الحديث السن يغلبه النوم ويكثر عليه
(فتأتي الداجن فتأكله) بدال مهملة ثم جيم الشاة التي تألف
البيوت ولا تخرج إلى المرعى، وفي رواية مقسم مولى ابن عباس
عن عائشة عند الطبراني: ما رأيت منها شيئًا منذ كنت عندها
إلا أني عجنت عجينًا لي فقلت: احفظي هذه العجينة حتى أقتبس
نارًا لأخبزها فغفلت فجاءت الشاة فأكلتها وهو تفسير المراد
بقولها فتأتي الداجن وهذا موضع الترجمة لأنه عليه الصلاة
والسلام سأل بريرة عن حال عائشة وأجابت ببراءتها، واعتمد
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على قولها حين
خطب فاستعذر من ابن أُبي، لكن قال القاضي عياض: وهذا ليس
ببيّن إذ لم تكن شهادة والمسألة المختلف فيها إنما هي في
تعديلهن للشهادة فمنع من ذلك مالك والشافعي ومحمد بن الحسن
وأجازه أبو حنيفة في المرأتين والرجل لشهادتهما في المال،
واحتج الطحاوي لذلك بقول زينب في عائشة وقول عائشة في زينب
فعصمها الله بالورع قال: ومن كانت بهذه الصفة جازت
شهادتها، وتعقب بأن إمامه أبا حنيفة لا يجيز شهادة النساء
إلاّ في مواضع مخصوصة فكيف يطلق جواز تزكيتهنّ.
(فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من
يومه) على المنبر خطيبًا (فاستعذر) بالذال المعجمة (من عبد
الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من يعذرني) بفتح حرف المضارعة وكسر
الذال المعجمة من يقوم بعذري إن كافأته على قبيح فعله ولا
يلومني أو من ينصرني (من رجل بلغني أذاه في أهلى فوالله ما
علمت في أهلي إلا خيرًا وقد ذكروا رجلاً) زاد الطبراني في
روايته صالحًا (ما علمت عليه إلا خيرًا وما كان يدخل على
أهلي إلاّ معي) (فقام سعد بن معاذ) وهو سيد الأوس، وسقط
لأبوي ذر والوقت ابن معاذ.
واستشكل ذكر سعد بن معاذ هنا بأن حديث الإفك كان سنة ست في
غزوة المريسيع كما ذكره ابن إسحاق وسعد بن معاذ مات سنة
أربع من الرمية التي رميها بالخندق. وأجيب: بأنه اختلف في
المريسيع، وقد حكى البخاري عن موسى بن عقبة أنها كانت سنة
أربع وكذلك الخندق فتكون المريسيع قبلها لأن ابن إسحاق جزم
بأنها كانت في شعبان وأن الخندق كانت في شوّال فإن كانا في
سنة استقام ذلك، لكن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن
المريسيع سنة خمس فما في البخاري عنه من أنها سنة أربع سبق
قلم والراجح أن الخندق أيضًا في سنة خمس خلافًا لابن إسحاق
فيصح الجواب.
(فقال يا رسول الله أنا والله) ولأبي ذر عن المستملي:
والله أنا (أعذرك منه) بكسر الذال (إن كان من الأوس)
قبيلتنا (ضربنا عنقه) وإنما قال ذلك لأنه كان سيدهم كما
مرّ فجزم بأن حكمه فيهم نافذ
(4/395)
ومن آذاه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وجب قتله (وإن كان من إخواننا من الخزرج) من
الأولى تبعيضية والثانية بيانية، ولأبي ذر: من إخواننا
الخزرج بإسقاط من البيانية (أمرتنا ففعلنا فيه أمرك) وإنما
قال ذلك لما كان بينهم من قبل فبقيت فيهم بعض أنفة أن يحكم
بعضهم في بعض فإذا أمرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بأمر امتثلوا أمره.
(فقام سعد بن عبادة) شهد العقبة وكان أحد النقباء ودعا له
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "اللهمَّ اجعل
صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" رواه أبو داود (وهو
سيد الخزرج) بعد أن فرغ سعد بن معاذ من مقالته (وكان قبل
ذلك رجلاً صالحًا) أي كاملاً في الصلاح، (ولكن) لأبوي ذر
والوقت: وكان (احتملته) من مقالة سعد بن معاذ (الحمية) أي
أغضبته (فقال) لابن معاذ (كذبت) زاد في رواية أبي أسامة في
التفسير أما والله لو كان من الأوس ما أحببت أن تضرب
أعناقهم (لعمر الله) بفتح العين أي وبقاء الله (لا تقتله)
ولأبي ذر عن المستملي والله لا تقتله قال في الفتح وفسر
قوله بقوله (ولا تقدر على ذلك) لأنّا نمنعك منه ولم يرد
سعد بن عبادة الرضا بما نقل عن عبد الله بن أُبي ولم ترد
عائشة -رضي الله عنها- أنه ناضل عن المنافقين، وأما قولها:
وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا أي لم يتقدم منه ما بتعلق
بالوقوف مع أنفة الحمية ولم تغمصه في دينه، لكن كان بين
الحيّين مشاحنة قبل الإسلام ثم زالت بالإسلام وبقي بعضها
بحكم الأنفة فتكلم سعد بن عبادة بحكم الأنفة ونفى أن يحكم
فيهم سعد بن معاذ.
وقد وقع في بعض الروايات بيان السبب الحامل لسعد بن عبادة
على مقالته هذه لابن معاذ.
ففي رواية ابن إسحاق فقال: سعد بن عبادة: ما قلت هذه
المقالة إلا أنك علمت أنه من الخزرج، وفي رواية يحيى بن
عبد الرحمن بن حاطب عند الطبراني فقال سعد بن عبادة: يا
ابن معاذ والله ما بك نصرة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنها قد كانت بيننا ضغائن في
الجاهلية وإحَن لم تحلل لنا من صدوركم فقال ابن معاذ: الله
أعلم بما أردت.
وقال في بهجة النفوس: إنما قال سعد بن عبادة لابن معاذ
كذبت لا تقتله أي لا تجد لقتله من سبيل لمبادرتنا قبلك
لقتله ولا تقدر على ذلك أي لو امتنعنا من النصرة فأنت لا
تستطيع أن تأخذه من بين أيدينا لقوّتنا. قال: وهذا في غاية
النصرة إذ أنه يخبر أنه في القوة والتمكين بحيث لا يقدر له
الأوس مع قوتهم وكثرتهم، ثم هم مع ذلك تحت السمع والطاعة
للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحملته الحمية
مثل ما حملت الأول أو أكثر فلم يستطع أن يرى غيره قام في
نصرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو قادر عليها
فقال لابن معاذ ما قال، وإنما قالت عائشة: ولكن احتملته
الحميّة لتبين شدّة نصرته في القضية مع إخبارها بأنه صالح
لأن الرجل الصالح أبدًا يعرف منه السكون والناموس لكنه زال
عنه ذلك من شدة ما توالى عليه من الحمية لنبيّه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انتهى. وهو محمل حسن ينفي ما
في ظاهر اللفظ مما لا يخفى.
(فقام أسيد بن الحضير) بضم الهمزة من أسيد والحاء المهملة
من الحضير مصغرين ولأبي ذر:
ابن حضير زاد في التفسير وهو ابن عمّ سعد بن معاذ أي من
رهطه (فقال) لابن عبادة: (كذبت لعمر الله والله لنقتلنّه)
أي ولو كان من الخزرج إذا أمرنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك وليست لكم قدرة على منعنا قابل
قوله لابن معاذ كذبت لا تقتله بقوله كذبت لنقتلنّه (فإنك
منافق) قال له ذلك مبالغة في زجره عن القول الذي قاله أي
إنك تصنع صنيع المنافقين وفسّره بقوله: (تجادل عن
المنافقين). قال المازري: لم يرد نفاق الكفر وإنما أراد أن
يظهر الودّ للأوس ثم ظهر منه في هذه القضية ضدّ ذلك فأشبه
حال المنافقين لأن حقيقته إظهار شيء وإخفاء غيره، وقال ابن
أبي جمرة: وإنما صدر ذلك منهم لأجل قوة حال الحمية التي
غطت على قلوبهم حين سمعوا ما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فلم يتمالك أحد منهم إلاّ قام في نصرته لأن
الحال إذا ورد على القلب ملكه فلا يرى غير ما هو لسبيله،
فلما غلبهم حال الحمية لم يراعوا الألفاظ فوقع منهم السباب
(4/396)
والتشاجر لغيبتهم لشدة انزعاجهم في النصرة.
(فثار الحيّان الأوس والخزرج) بمثلثة والحيّان بمهملة
فتحتية مشددة تثنية حيّ أي نهض بعضهم إلى بعض من الغضب
(حتى هموا) زاد في المغازي والتفسير: أن يقتتلوا (ورسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المنبر فنزل
فخفضهم حتى سكتوا وسكت) عليه الصلاة والسلام. (وبكيت يومي)
بكسر الميم وتخفيف الياء (لا يرقأ) بالهمزة لا يسكن ولا
ينقطع (لي دمع أكتحل بنوم) لأن الهم يوجب السهر وسيلان
الدمع (فأصبح عندي أبواي) أبو بكر الصديق وأم رومان أي
جاءا إلى المكان الذي هي فيه من بيتهما (قد) ولأبوي ذر
والوقت: وقد (بكيت ليلتين) بالتثنية ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي ليلتي بالإفراد
(ويومًا) ولأبي الوقت عن الكشميهني ويومي بكسر الميم
وتخفيف الياء ونسبتهما إلى نفسها لما وقع لها فيهما. وقال
الحافظ ابن حجر في رواية الكشميهني: ليلتين ويومًا أي
الليلة التي أخبرتها فيها أم مسطح الخبر واليوم الذي خطب
فيه عليه الصلاة والسلام الناس والتي تليه (حتى أظن أن
البكاء فالق كبدي. قالت: فبينما هما) أي أبواها (جالسان
عندي وأنا أبكي) جملة حالية (إذ استأذنت امرأة من الأنصار)
لم تسم (فأذنت لها فجلست تبكي معي) تفجّعًا لما نزل بعائشة
وتحزّنًا عليها (فبينا) بغير ميم (نحن كذلك إذ دخل رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي أسامة عن
هشام في التفسير فأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل عليّ
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد صلّى
العصر ثم دخل وقد اكتنفني أبواي عن يميني وشمالي (فجلس)
عليه الصلاة والسلام (ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ)
بتشديد الياء ولأبي ذر يوم بالتنوين ولأبوي ذر والوقت لي
(ما قيل قبلها وقد مكث شهرًاً لا يوحى إليه في شأني) أمري
وحالي (شيء) ليعلم المتكلم من غيره ولأبوي ذر والوقت عن
الكشميهني بشيء.
(قالت) عائشة: (فتشهد) عليه الصلاة والسلام وفي رواية هشام
بن عروة فحمد الله وأثنى عليه (ثم قال): (يا عائشة فإنه
بلغني عنك كذا وكذا) كناية عمّا رميت به من الإفك (فإن كنت
بريئة فسيبرئك الله) بوحي ينزله (وإن كنت ألممت) زاد في
رواية أبوي ذر والوقت عن الكشميهني بذنب أي وقع منك على
خلاف العادة (فاستنغري الله وتوبي إليه) وفي رواية أبي
أويس عند الطبراني: "إنما أنت من بنات آدم إن كنت أخطأت
فتوبي" (فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب) أي منه إلى
الله (تاب الله عليه) (فلما قضى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقالته قلص دمعي) بفتح القاف واللام
آخره صاد مهملة أي انقطع لأن الحزن والغضب إذا أخذا حدّهما
فقد الدمع لفرط حرارة المصيبة (حتى ما أحس) بضم الهمزة
وكسر المهملة أي ما أجد (منه قطرة وقلت لأبي: أجب عني رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال: والله ما
أدري ما أقول لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. فقلت لأمي: أجيبي عنّي رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما قال. قالت: والله ما
أدري ما أقول لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. قالت) عائشة (وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ
كثيرًا في القرآن فقلت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما
يتحدّث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم
إنّي بريئة والله يعلم إنّي بريئة) بكسر إني (لا تصدقوني)
ولأبي ذر لا تصدقونني (بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله
يعلم أني بريئة لتصدقني) بضم القاف وإدغام إحدى النونين في
الأخرى (والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف) يعقوب
عليهما السلام (إذ) أي حين (قال: {فصبر جميل}) أي فأمري
صبر جميل لا جزع فيه على هذا الأمر وفي مرسل حبان بن أبي
جبلة قال سئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن قوله فصبر جميل فقال صبر لا شكوى فيه أي إلى
الخلق قال صاحب المصابيح إنه رأى في بعض النسخ صبر بغير
فاء مصححًا عليه كرواية ابن إسحاق في سيرته ({والله
المستعان على ما تصفون}) [يوسف: 18] أي على ما تذكرون عني
مما يعلم الله براءتي منه.
(ثم تحوّلت على فراشي) زاد ابن جرير في روايته ووليت
(4/397)
وجهي نحو الجدار (وأنا أرجو أن يبرئني
الله، ولكن) بتخفيف النون (والله ما ظننت أن ينزل) الله
بضم أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه
وحذف الفاعل للعلم به (في شأني وحيًا) زاد في رواية يونس
يتلى (ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري)
بضم ياء يتكلم. وعند ابن إسحاق يقرأ في المساجد ويصلّى به،
(ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النوم رؤيا يبرئني الله) بها،
ولأبوي ذر والوقت: تبرئني بالمثناة الفوقية وحذف الفاعل
(فوالله ما رام) أي ما فارق -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت) أي الذين
كانوا إذ ذاك حضورًا (حتى أنزل عليه) زاده الله شرفًا
لديه، ولأبي ذر عن الكشميهني حتى أنزل عليه الوحي (فأخده)
عليه الصلاة والسلام (ما كان يأخذ من البرحاء) بضم الموحدة
وفتح الراء ثم مهملة ممدودًا العرق من شدة ثقل الوحي (حتى
أنه ليتحدر) بتشديد الدال واللام للتأكيد أي ينزل ويقطر
(منه مثل الجمان) بكسر الميم وسكون المثلثة مرفوعًا
والجمان بضم الجيم وتخفيف الميم أي مثل اللؤلؤ (من العرق
في يوم شاتٍ، فلما سري) بضم المهملة وتشديد الراء المكسورة
أي كشف (عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وهو يضحك) سرورًا (فكان أول كلمة تكلم بها) بنصب أول (أن
قال لي): (يا عائشة احمدي الله) وعند الترمذي البشرى يا
عائشة احمدي الله (فقد برأك الله) أي مما نسبه أهل الإفك
إليك بما أنزل من القرآن: (فقالت) ولأبي ذر: قالت (لي أمي
قومي إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
لأجل ما بشّرك به (فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد
إلا الله) الذي أنزل براءتي وأنعم عليّ بما لم أكن أتوقعه
من أن يتكلم الله فيّ بقرآن يُتلى وقالت ذلك إدلالاً عليهم
وعتبًا لكونهم شكّوا في حالها مع علمهم بحسن طرائقها وجميل
أحوالها وارتفاعها عما نسب إليها مما لا حجة فيه ولا شبهة،
(فأنزل الله تعالى {إن الذين جاءوا بالأفك}) بأبلغ ما يكون
من الكذب ({عصبة منكم}) [النور: 11] جماعة من العشرة إلى
الأربعين، والمراد عبد الله بن أبي وزيد بن رفاعة، وحسان
بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم
(الأيات) في براءتها وتعظيم شأنها وتهويل الوعيد لمن تكلم
فيها والثناء على من ظن فيها خيرًا.
(فلما أنزل الله) عز وجل (هذا في براءتي) وطابت النفوس
المؤمنة وتاب إلى الله تعالى من كان تكلم من المؤمنين في
ذلك وأقيم الحدّ على من أقيم عليه (قال أبو بكر الصديق
-رضي الله عنه-، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة) بكسر الميم
وسكون المهملة وأثاثة بضم الهمزة ومثلثتين بينهما ألف
(لقرابته) أي لأجل قرابته (منه) وكان ابن خالة الصديق وكان
مسكينًا لا مال له: (والله لا أنفق على مسطح شيئًا) ولأبي
ذر عن الكشميهني: بشيء (أبدًا بعد ما قال لعائشة) أي عنها
من الإفك (فأنزل الله تعالى) يعطف الصديق عليه: ({ولا
يأتل}) أي لا يحلف ({أولو الفضل منكم}) أي من الطول
والإحسان والصدقة ({والسعة}) في المال (إلى قوله: {غفور
رحيم}) [النور: 22] ولأبوي ذر والوقت {والسعة أن يؤتوا}
إلى قوله: {غفور رحيم} أي فإن الجزاء من جنس العمل فكما
تغفر لك وكما تصفح يصفح عنك. (فقال أبو بكر الصديق) عند
ذلك: (بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع) بتخفيف
الجيم (إلى مسطح الذي كان يُجري عليه) من النفقة، ويجري
بضم أوله.
(وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يسأل) ولأبي ذر وأبي الوقت سأل بلفظ الماضي (زينب بنت جحش)
أم
المؤمنين (عن أمري فقال): (يا زينب ما علمت) على عائشة (ما
رأيت) منها؟ (فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي) من أن أقول
سمعت ولم أسمع (وبصري) من أن أقول أبصرت ولم أبصر (والله
ما علمت عليها إلاّ خيرًا. قالت) أي عائشة (وهي) أي زينب
(التي كانت تساميني) بضم التاء بالسين المهملة أي تضاهيني
وتفاخرني بجمالها ومكانتها عند النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مفاعلة من السموّ وهو الارتفاع
(فعصمها الله) أي
(4/398)
حفظها الله ومنعها (بالورع) أي بالمحافظة
على دينها أن تقول بقول أهل الإفك.
(قال) أبو الربيع سليمان بن داود شيخ المؤلّف: (وحدّثنا
فليح) هو ابن سليمان المذكور (عن هشام بن عروة) بن الزبير
(عن) أبيه (عروة عن عائشة) -رضي الله عنها- (وعبد الله بن
الزبير مثله) أي مثل حديث فليح عن الزهري عن عروة. (نال)
أي أبو الربيع أيضًا (وحدّثنا فليح) المذكور (عن ربيعة بن
أبي عبد الرحمن) شيخ مالك الإمام (ويحيى بن سعيد) الأنصاري
(عن القاسم بن محمد بن أبي بكر) الصديق (مثله): والحاصل أن
فليحًا روى الحديث عن هؤلاء الأربعة.
(لطيفة).
قال الصلاح الصفدي: رأيت بخط ابن خلكان أن مسلمًا ناظر
نصرانيًّا فقال له النصراني في خلال كلامه محتقنًا في
خطابه بقبيح آثامه: يا مسلم كيف كان وجه زوجة نبيّكم عائشة
في تخلّفها عن الركب عند نبيّكم معتذرة بضياع عقدها؟ فقال
له المسلم: يا نصراني كان وجهها كوجه بنت عمران لما أتت
بعيسى تحمله من غير زوج فمهما اعتقدت في دينك من براءة
مريم أعتقدنا مثله في ديننا من براءة زوج نبيّنا، فانقطع
النصراني ولم يحِرْ جوابًا.
وقد أخرج المؤلّف الحديث في المغازي والتفسير والأيمان
والنذور والجهاد والتوحيد والشهادات أيضًا ومسلم في التوبة
والنسائي في عشرة النساء والتفسير وبقية ما فيه من المباحث
والفوائد تأتي إن شاء الله تعالى والله الموفق والمعين.
16 - باب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلاً كَفَاهُ
وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا فَلَمَّا
رَآنِي عُمَرُ قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا،
كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي. قَالَ عَرِيفِي: إِنَّهُ رَجُلٌ
صَالِحٌ. قَالَ: كَذَاكَ، اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ.
هذا (باب) بالتنوين (إذا زكّى رجل) واحد (رجلاً كفاه) فلا
يحتاج إلى آخر معه والذي ذهب إليه الشافعية والمالكية وهو
قول محمد بن الحسن اشتراط اثنين. (وقال أبو جميلة) بفتح
الجيم وكسر الميم واسمه سنين بضم السين المهملة وفتح النون
الأولى مصغرًا فيما رواه البخاري (وجدت منبوذًا) بالذال
المعجمة أي لقيطًا ولم يسم (فلما رآني عمر) بن الخطاب -رضي
الله عنه- (قال: عسى الغوير) بضم الغين المعجمة تصغير غار
(أبؤسًا) بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها همزة مضمومة
فسين
مهملة جمع بؤس وانتصب على أنه خبر ليكون محذوفة أي: عسى
الغوير أن يكون أبؤسًا وهو مثل مشهور يقال فيما ظاهره
السلامة ويخشى منه العطب، وأصله كما قال الأصمعي: أن ناسًا
دخلوا يبيتون في غار فانهار عليهم فقتلهم، وقيل أول من
تكلم به الزبّاء بفتح الزاي وتشديد الموحدة ممدودًا لما
عدل قصير بالأحمال عن الطريق المألوفة وأخذ على الغوير
أبؤسًا أي عساه أن يأتي بالبأس والشر، وأراد عمر بالمثل
لعلك زنيت بأمه وادّعيته لقيطًا قاله ابن الأثير، وقد سقط
قوله قال عسى الغوير أبؤسًا لغير الأصيلي وأبي ذر عن
الكشميهني (كأنه يتهمني) أي كان عمر يتّهم أبا جميلة. قال
ابن بطال: أن يكون ولده أتى به ليفرض له في بيت المال (قال
عريفي): القيّم بأمور القبيلة والجماعة من الناس يلي
أمورهم ويعرّف الأمير أحوالهم واسمه سنان فيما ذكره الشيخ
أبو حامد الإسفرايني في تعليقه (أنه رجل صالح قال) عمر
لعريفه (كذاك) هو صالح مثل ما تقول؟ قال: نعم. فقال:
(اذهب) به زاد مالك فهو حر ولك ولاؤه أي تربيته وحضانته
(وعلينا نفقته) أي في بيت المال بدليل رواية البيهقي
ونفقته في بيت المال.
وهذا موضع الترجمة فإن عمر اكتفى بقول العريف على ما يفهمه
قوله كذاك، ولذا قال: اذهب وعلينا نفقته.
2662 - حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ ابْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: "أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: وَيْلَكَ،
قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ
(مِرَارًا). ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا
أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا.
وَاللَّهُ حَسِيبُهُ. وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ
أَحَدًا. أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا. إِنْ كَانَ يَعْلَمُ
ذَلِكَ مِنْهُ". [الحديث 2662 - طرفاه في: 6061، 6162].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبوي ذر والوقت: حدّثني بالإفراد (ابن
سلام) بتخفيف اللام ولأبي ذر محمد بن سلام قال: (أخبرنا)
ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي
البصري قال: (حدّثنا خالد الحذاء) بالمهملة والمعجمة
ممدودًا ابن مهران البصري (عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن
أبيه) أبي بكرة نفيع بن الحرث الثقفي أنه (قال: أثنى رجل
على رجل) لم يسميا ويحتمل كما قال في المقدمة والفتح أن
يسمى المثني بمحجن ابن الأذرع والمثنى عليه بعبد الله ذي
البجادين كما سيأتي في الأدب إن شاء الله تعالى (عند النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(ويلك) نصب بعامل مقدّر من غير لفظه (قطعت عنق صاحبك قطعت
عنق صاحبك) مرتين وهو
(4/399)
استعارة من قطع العنق الذي هو القتل
لاشتراكهما في الهلاك قالها (مرارًا ثم قال) عليه الصلاة
والسلام (من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة) بفتح الميم لا
بدّ (فليقل أحسب) بكسر عين الفعل وفتحه أي أظن (فلانًا
والله حسبه) أي كافيه فعيل بمعنى فاعل (ولا أزكّي على الله
أحدًا) أي لا أقطع
له على عاقبته ولا على ما في ضميره لأن ذلك مغيب عنّا
(أحسبه) أي أظنه (كذا وكذا إن كان يعلم ذلك) أي يظنه (منه)
فلا يقطع بتزكيته لأنه لا يطلع على باطنه إلاّ الله تعالى.
ووجه المطابقة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
اعتبر تزكي الرجل إذا اقتصد لأنه لم يعب عليه إلاّ الإسراف
والتغالي في المدح.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الأدب، ومسلم في آخر
الكتاب، وأبو داود وابن ماجه في الأدب.
17 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الإِطْنَابِ فِي الْمَدْحِ،
وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ
(باب ما يكره من الإطناب) بكسر الهمزة أي المبالغة (في
المدح وليقل) أي المادح في الممدوح (ما يعلم) ولا يتجاوزه.
2663 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
-رضي الله عنه- قَالَ: "سَمِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ
وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ -أَوْ
قَطَعْتُمْ- ظَهْرَ الرَّجُلِ". [الحديث 2663 - طرفه في:
6060].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن الصباح) بالصاد والحاء المهملتين
بينهما موحدة مشددة فألف البزار أبو جعفر البغدادي الثقة
الحافظ قال: (حدّثنا إسماعيل بن زكريا) بن مرّة الخلقاني
بضم الخاء المعجمة وسكون اللام بعدها قاف الكوفي الملقب
بشقوصا بفتح الشين المعجمة وضم القاف المخففة وبالصاد
المهملة قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (بريد بن
عبد الله) بضم الموحدة وفتح الراء مصغرًا (عن) جدّه (أبي
بردة) الحرث أو عامر أو اسمه كنيته (عن) أبيه (أبي موسى)
عبد الله بن قيس (رضي الله عنه) أنه (قال: سمع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلاً يثني على رجل)
لم يسميا أو هما محجن وذو البجادين السابقان في الباب
السابق (ويطريه) بضم أوله من الإطراء أي يبالغ (في مدحه)
ولأبوي ذر والوقت في المدح (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(أهلكتم أو) قال (قطعتم ظهر الرجل) خاف عليه العجب والشك
من الراوي، ولم يأتِ المؤلّف بما يدل لجزء الترجمة الأخير،
ويحتمل أن يقال: إن الذي يطنب لا بدّ أن يقول ما لا يعلم
أو أن حديثي أبي بكرة وأبي موسى متّحدان، وقد قال في حديث
أبي بكرة: إن كان يعلم ذلك منه ولا كراهة في مدح الرجل
الرجل في وجهه إنما المكروه الإطناب.
18 - باب بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ
مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}. [النور: 59].
وَقَالَ مُغِيرَة:
احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَبُلُوغُ النِّسَاءِ فِي الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ
نِسَاءِكُم -إِلَى قَوْلِهِ- أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
[الطلاق: 4]. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: أَدْرَكْتُ
جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَة.
(باب) حدّ (بلوغ الصبيان و) حكم (شهادتهم) هل هي معتبرة أم
لا؟ (وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على المجرور السابق
ولأبي ذر: عز وجل بدل قوله تعالى. ({وإذا بلغ الأطفال})
الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث ({منكم الحلم
فليستأذنوا}) [النور: 59] على كل حال يعني بالنسبة إلى
أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل مع أهله وإن لم يكن
في الأحوال الثلاث قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير إذا
كان الغلام رباعيًّا فإنه يستأذن في العورات الثلاث على
أبويه فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال.
(وقال مغيرة) بن مقسم الضبي الفقيه الأعمى الكوفي: (احتلمت
وأنا ابن اثنتي عشرة سنة) وقد قالوا إن عمرو بن العاص لم
يكن بينه وبين ابنه عبد الله في السن سوى اثنتي عشرة سنة.
(وبلوغ النساء) بجر بلوغ عطفًا على قوله بلوغ الصبيان فهو
من الترجمة والذي في الفرع مبتدأ وخبره قوله (في الحيض)
ولأبوي ذر والوقت: إلى الحيض (لقوله عز وجل: {واللائي يئسن
من المحيض} [الطلاق: 4] إلى قوله) ولأبوي ذر والوقت {من
نسائكم} إلى قوله: {أن يضعن حملهم} [الطلاق: 4] فعلق الحكم
في العدة بالإقراء على حصول الحيض وأما قبله وبعده
فبالأشهر فدلّ على أن وجود الحيض ينقل الحكم وقد أجمعوا
على أن الحيض بلوغ في حق النساء قاله في الفتح.
(وقال الحسن بن صالح) الهمداني الكوفي العابد مما وصله
الدينوري في المجالسة من طريق يحيى بن آدم عنه (أدركت جارة
لنا جدّة) نصب بدلاً من جارة (بنت إحدى وعشرين) زاد أبو ذر
في روايته عن الكشميهني سنة وبنت نصب صفة لجدة وزاد في
المجالسة وأقل أوقات الحمل تسع سنين انتهى.
وقال الشافعي: أعجل ما سمعت من النساء يحضن نساء تهامة
يحضن لتسع سنين، وقال
(4/400)
أيضًا إنه رأى جدّة بنت إحدى وعشرين سنة
وأنها حاضت لاستكمال تسع سنين ووضعت بنتًا لاستكمال عشر
ووقع لبنتها مثل ذلك.
2664 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ: حَدَّثَنِي
ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-:" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَضَهُ يَوْمَ
أُحُدٍ وَهْوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ
يُجِزْنِي، ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا
ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي" قَالَ نَافِعٌ:
فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهْوَ
خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: إِنَّ
هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَتَبَ
إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ
عَشْرَةَ. [الحديث 2664 - طرفه في: 4097].
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله) بضم العين مصغرًا (ابن سعيد)
بكسر العين أبو قدامة السرخسي وجزم البيهقي في الخلافيات
بأنه عبيد بن إسماعيل بالتصغير أيضًا من غير إضافة وهو
الهباري القرشي الكوفي أحد مشايخ البخاري قال: (حدّثنا أبو
أسامة) حماد بن أسامة (قال: حدّثني) بالإفراد (عبيد الله)
بضم العين مصغرًا ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب
(قال: حدّثني) بالإفراد (نافع) مول ابن عمر (قال: حدّثني)
بالإفراد (ابن عمر) عبد الله (-رضي الله عنهما-) (أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرضه يوم أُحُد)
في شوّال سنة ثلاث (وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني) بضم
أوله من الإجازة. وقال الكرماني: فلم يثبتني في ديوان
المقاتلين ولم يقدر لي رزقًا مثل أرزاق الأجناد وكان مقتضى
السياق أن يقول عرضه فلم يجزه بدل قوله فلم يجزني وأن يقول
ثم عرضه بدل قوله عرضني كالأولى، لكنه على طريق الالتفات
أو التجريد وقد وقع في رواية يحيى القطان عن عبيد الله بن
عمر في المغازي فلم يجزه، ولمسلم عن ابن نمير عن أبيه عن
عبد الله عرضني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يوم أُحُد في القتال فلم يجزني، وله أيضًا من
رواية إدريس وغيره عن عبد الله فاستصغرني (ثم عرضني يوم
الخندق) سنة خمس، وجنح المؤلّف إلى قول موسى بن عقبة أن
الخندق في شوّال سنة أربع، والمرجح قول ابن إسحاق وأكثر
أهل السير: إن الخندق سنة خمس كما سيأتي إن شاء الله تعالى
(وأنا ابن خمس عشرة) زاد أبو الوقت وأبو ذر عن الحموي:
سنة، واستشكل هذا على قول ابن إسحاق إذ مقتضاه أن يكون سنّ
ابن عمر في الخندق ست عشرة سنة. وأجاب البيهقي: بأنه كان
في أُحُد دخل في أربع عشرة سنة وفي الخندق تجاوزها فألغى
الكسر في الأولى وجبره في الثانية (فأجازني) استدلّ بذلك
على أن من استكمل خمس عشرة سنة قمرية تحديدية ابتداؤها من
انفصال جميع الولد يكون بالغًا بالسن فتجري عليه أحكام
البالغين وإن لم يحتلم فيكلف بالعبادات وإقامة الحدود
ويستحق سهم الغنيمة وغير ذلك من الأحكام، وقال المالكية:
ببلوغه ثمان عشرة وبه قال أبو حنيفة لقوله تعالى: {ولا
تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده}
[الأنعام: 152] فسره ابن عباس بثمان عشرة سنة والجارية سبع
عشرة لأن نشوء الإناث وبلوغهن أسرع فنقص عن ذلك سنة. وقال
أبو يوسف ومحمد: بخمس عشر في الغلام والجارية وهي رواية عن
أبي حنيفة. قال ابن فرشتاه: وعليه الفتوى لأن العادة جارية
على أن البلوغ لا يتأخر عن هذه المدة. وأجاب بعض المالكية
عن قصة ابن عمر بأنها واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل أن
يكون صادف أنه كان عند ذلك السنّ قد احتلم فأجازه، وقال
آخر: الإجازة المذكورة حكم منوط بإطاقة القتال والقدرة
عليه فإجازته عليه الصلاة والسلام ابن عمر في الخمس عشرة
لأنه رآه مطيقًا للقتال في هذا السن ولما عرضه وهو ابن
أربع عشرة لم يره مطيقًا للقتال فرده قال: فليس فيه دليل
على أنه رأى عدم البلوغ في الأول ورآه في الثاني انتهى.
وهذا مردود بما أخرجه أبو عوانة وابن حبّان في صحيحيهما
وعبد الرزاق من وجه آخر من ابن جريج أخبرني نافع بلفظ:
عرضت على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم
أُحُد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم
يرني بلغت, وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة
فأجازني ورآني بلغت. قال الحافظ ابن حجر: وهذه زيادة صحيحة
لا مطعن فيها لجلالة ابن جريج وتقدمه على غيره في حديث
نافع، وقد صرّح بالتحديث فانتفى ما يخشى من تدليسه وقد نص
ابن عمر بقوله ولم يرني بلغت وابن عمر أعلم بما روى من
غيره لا سيما في قصة تتعلق به.
(قال نافع) مولى ابن عمر بالإسناد السابق: (فقدمت على عمر
بن عبد العزيز وهو خليفة فحدّثته هذا الحديث) الذي حدّثه
به ابن عمر (فقال: إن هذ) السن وهو خمس عشرة سنة (لحدّ بين
(4/401)
الصغير والكبير، وكتب إلى عماله أن يفرضوا)
أي يقدّروا (لمن بلغ خمس عشرة) سنة رزقًا في ديوان الجند.
وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة في الحدود.
2665 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
-رضي الله عنه- يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد
(صفوان بن سليم) بضم السين المهملة وفتح اللام المدني
الزهري مولاهم (عن عطاء بن يسار) بالمثناة التحتية
والمهملة المخففة أبي محمد الهلالي المدني مولى ميمونة (عن
أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- يبلغ به النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال): (غسل يوم الجمعة)
لصلاتها (واجب) أي كالواجب (على كل محتلم) أي بالغ وفيه
الإشارة إلى أن البلوغ يحصل بالإنزال فيستفاد مقصود
الترجمة بالقياس على سائر الأحكام من جهة تعلق الوجوب
بالاحتلام.
وقد تقدم هذا الحديث مع شرحه في كتاب الجمعة.
19 - باب سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِيَ: هَلْ لَكَ
بَيِّنَةٌ؟ قَبْلَ الْيَمِينِ
(باب سؤال الحاكم المدّعي) بكسر العين وسكون التحتية وفي
اليونينية بفتحها (هل لك بينة) تشهد بما تدّعي (قبل) عرض
(اليمين) على المدّعى عليه والمدّعي هو من يخالف قوله
الظاهر والمدّعى عليه من يوافقه، ولذلك جعلت البيّنة على
المدّعي لأنها أقوى من اليمين التي جعلت على المنكر لينجبر
ضعف جانب المدّعي بقوة حجته وضعف حجة المنكر بقوّة جانبه،
وقيل: المدّعي من لو سكت خلي ولم يطالب بشيء والمدّعى عليه
من لا يخلى ولا يكفيه السكوت فإذا طالب زيد عمرًا بحق
فأنكر فزيد يخالف قوله الظاهر من براءة عمرو، ولو سكت ترك
وعمرو يوافق قوله الظاهر ولو
سكت لم يترك فهو مدّعى عليه وزيد مدّعٍ على القولين ولا
يختلف موجبهما غالبًا، وقد يختلف مثل أن يقول الزوج وقد
أسلم هو وزوجته قبل الوطء أسلمنا معًا فالنكاح باقٍ وقالت
بل أسلمنا مرتبًا فالنكاح مرتفع، فالزوج على الأصح مدّعٍ
لأن وقوع الإسلامين معًا خلاف الظاهر وهي مدّعى عليها،
وعلى الثاني هي مدّعية لأنها لو سكتت تركت وهو مدّعى عليه
لأنه لا يترك لو سكت لزعمها انفساخ النكاح، فعلى الأول
تحلف الزوجة ويرتفع النكاح، وعلى الثاني يحلف الزوج ويستمر
النكاح ولو قال لها: أسلمت قبلي فلا نكاح بيننا ولا مهر
لك. وقالت: بل أسلمنا معًا صدق في الفرقة بلا يمين وفي
المهر بيمينه على الأصح لأن الظاهر معه وصدقت بيمينها على
الثاني لأنها لا تترك بالسكوت لأن الزوج يزعم سقوط المهر،
فإذا سكتت ولا بيّنة جعلت ناكلة وحلف هو سقط المهر والأمين
في دعوى الرد مدّعٍ لأنه يزعم الردّ الذي هو خلاف الظاهر
لكنه يصدق بيمينه لأنه أثبت يده لغرض المالك وقد ائتمنه
فلا يحسن تكليفه ببيّنة الردّ، وأما على القول الثاني فهو
مدّعى عليه لأن المالك هو الذي لو سكت ترك وفي التحالف
كلٌّ من الخصمين مدَّعٍ ومدّعى عليه لاستوائهما.
2666، 2667 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَلَفَ عَلَى
يَمِينٍ -وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ- لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ
امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ
غَضْبَانُ. قَالَ: فَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِيَّ
وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ
مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَقَالَ
لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي. قَالَ:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلاً} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ".
وبه قال: (حدّثنا محمد) قال في مقدمة الفتح: جزم ابن السكن
بأنه محمد بن سلام ونسبه الأصيلي في بعضها كذلك، وقد صرّح
البخاري بالرواية عن محمد بن سلام بن أبي معاوية في النكاح
وغيره قال: (أخبرنا أبو معاوية) محمد بن خازم بمعجمتين
الضرير الكوفي (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن شقيق) أبي
وائل (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من حلف على) محلوف (يمين) سماه يمينًا مجازًا للملابسة
بينهما، والمراد ما شأنه أن يكون محلوفًا عليه وإلاّ فهو
قبل اليمين ليس محلوفًا عليه فيكون من مجاز الاستعارة (وهو
فيها فاجر) كاذب والواو للحال (ليقتطع بها) باليمين (مال
امرئ مسلم) أو ذمي أو معاهد بأن يأخذه بغير حق بل بمجرّد
يمينه المحكوم بها في ظاهر الشرع والتقييد بالمسلم جرى على
الغالب. وفي مسلم من حديث إياس بن ثعلبة الحارثي: "من
اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له
النار". قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: "وإن كان
قضيبًا من أراك" ففيه أنه لا فرق بين المال وغيره (لقي
الله وهو عليه غضبان) اسم فاعل من غضب يقال رجل غضبان
وامرأة غضبى والغضب من المخلوقين شيء يداخل قلوبهم، وأما
غضب الخالق تعالى فهو
(4/402)
إنكاره على من عصاه وسخطه عليه ومعاقبته له
قاله في النهاية. والحاصل: أن الصفات التي لا يليق وصفه
تعالى بها على الحقيقة تؤوّل بما يليق به تعالى فتحمل على
آثارها ولوازمها كحمل الغضب على العذاب، والرحمة على
الإحسان فيكون ذلك من صفات الأفعال أو يحمل عن أن المراد
بالغضب مثلاً إرادة الانتقام وبالرحمة إرادة الإنعام
والإفضال فيكون من صفات الذات.
(قال) أي ابن مسعود (فقال الأشعث بن قيس) الكندي (فيّ
والله كان ذلك. كان بيني) ولأبوي الوقت وذر عن الحموي
والكشميهني: كان ذلك بيني (وبين رجل من اليهود) اسمه
الجفشيش بجيم مفتوحة ففاء ساكنة فشينين معجمتين بينهما
تحتية ساكنة وسقط لأبي ذر: من اليهود (أرض) زاد مسلم
باليمين (فجحد لي فقدمته إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فقال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (ألك بينة) تشهد لك باستحقاقك ما
ادّعيته (قال) الأشعث: (قلت لا) بيّنة لي (قال فقال) عليه
الصلاة والسلام (لليهودي) (احلف) ولأبي ذر عن المستملي قال
احلف (قال) الأشعث (قلت يا رسول الله إذًا يحلف) بالنصب
بإذا (ويذهب بمالي) بنصب يذهب عطفًا على سابقه وفي الفرع
كأصله يحلف ويذهب برفعهما أيضًا على لغة من لا ينصب بإذا
ولو وجدت شرائط عملها التي هي التصدّر والاستقبال وعدم
الفصل كما حكاه سيبويه. (قال فأنزل الله تعالى) ولأبي ذر
عز وجل ({إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنًا
قليلاًْ}) [آل عمران: 77] (إلى آخر الأية) من سورة آل
عمران.
فإن قلت: كيف يطابق نزول هذه الآية قوله إذًا يحلف ويذهب
بمالي؟ أجيب: باحتمال كأنه قيل للأشعث ليس لك عليه إلا
الحلف فإن كذب فعليه وباله وفيه دليل على أن الكافر يحلف
في الخصومات كما يحلف المسلم.
وهذا الحديث سبق في الخصومات.
20 - باب الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي
الأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» وَقَالَ قُتَيْبَةُ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ كَلَّمَنِي
أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ
الْمُدَّعِي، فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ
لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282].
قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ
وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ
هَذِهِ الأُخْرَى؟.
هذا (باب) بالتنوين (اليمين على المدّعي عليه) دون المدّعي
(في الأموال والحدود). وقال الكوفيون: تختص اليمين
بالمدّعى عليه في الأموال دون الحدود. (وقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما وصله قريبًا
(شاهداك أو يمينه) برفع شاهداك خبر مبتدأ محذوف أي المثبت
لدعواك أو الحجة لك شاهداك أو مبتدأ خبره محذوف أي شاهداك
هما المطلوبان في دعواك أو شاهداك هما المثبتان لدعواك
ويمينه عطف عليه.
(قال قتيبة) أي ابن سعيد، وفي بعض النسخ كما نقل عن الشيخ
قطب الدين الحلبي حدّثنا قتيبة قال: (حدّثنا سفيان) هو ابن
عيينة (عن ابن شبرمة) بضم المعجمة والراء بينهما موحدة
ساكنة هو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان الضبي قاضي
الكوفة المتوفى سنة أربع وأربعين ومائة أنه قال: (كلمني
أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان قاضي المدينة (في) القول
بجواز (شهادة الشاهد ويمين المدّعي) وكان مذهب أبي الزناد
القضاء بذلك كأهل بلده لأنه عليه الصلاة والسلام قضى بشاهد
ويمين. رواه مسلم من حديث ابن عباس، وأصحاب السنن من حديث
أبي هريرة، والترمذي وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة وأبو
عوانة من حديث جابر ومذهب ابن شبرمة خلافه كأهل بلده فلا
يعمل بالشاهد واليمين وهو مذهب الحنفية. قال ابن شبرمة:
(فقلت) أي لأبي الزناد محتجًّا عليه (قال الله تعالى:
{واستشهدوا}) على حقكم ({شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا
رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء}) العدول ({إن
تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}) [البقرة: 282]
الشهادة. قال ابن شبرمة (قلت: إذا كان يكتفى) بضم أوله
وفتح الفاء (بشهادة شاهد ويمين المدّعي) وجواب الشرط (فما
يحتاح أن تذكر إحداهما الأخرى) وما نافية في قوله: فما
يحتاج واستفهامية في قوله (ما كان يصنع بذكر) بموحدة
ومعجمة مكسورتين وسكون الكاف وفي نسخة تذكر بفوقية ومعجمة
مفتوحتين وضم الكاف مشددة (هذه الأخرى) وفي نسخة تذكر بضم
الفوقية وسكون المعجمة وكسر الكاف والمعنى إذا جاز أن
يكتفى بالشاهد واليمين فلا احتياج إلى تذكير إحداهما
الأخرى
(4/403)
إذ اليمين تقوم مقامهما فما فائدة ذكر
التذكير في القرآن؟
وأجيب: بأنه لا يلزم من التنصيص على الشيء نفيه عما عداه
وغاية ما في ذلك عدم التعرّض له لا التعرّض لعدمه، والحديث
قد تضمن زيادة مستقلة على ما في القرآن بحكم مستقل، وقد
أجاب إمامنا الشافعي عن الآية كما في المعرفة: بأن اليمين
مع الشاهد لا تخالف من ظاهر القرآن شيئًا لأنّا نحكم
بشاهدين وشاهد وامرأتين ولا يمين، فإذا كان شاهد حكمنا
بشاهدين ويمين بالسُّنّة وليس هذا مما يخالف ظاهر القرآن
لم يحرم أن يجوز أقل مما نص عليه في كتابه ورسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعلم بما أراد الله
عز وجل، وقد أمرنا الله تعالى أن نأخذ ما أتانا به وننتهي
عما نهانا عنه، ونسأل الله العصمة والتوفيق انتهى.
2668 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ
عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: "كَتَبَ ابْنُ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- إليّ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى
الْمُدَّعَى عَلَيْه".
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
نافع بن عمر) بن عبد الله بن جميل الجمحي القرشي المكي
المتوفى سنة تسع وستين ومائة (عن ابن أبي مليكة) هو عبد
الله بن عبد الرحمن بن أبي مليكة بضم الميم وفتح اللام
مصغرًا أنه (قال: كتب ابن عباس -رضي الله عنهما-) أي بعد
أن كتبت إليه أسأله عن قصة المرأتين اللتين ادّعت إحداهما
على الأخرى أنها جرحتها كما في تفسير سورة آل عمران وزاد
أبو ذر: إليّ (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قضى باليمين على المدّعي عليه).
وعند البيهقي من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن جريج
وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة بلفظ: كنت قاضيًا لابن
الزبير على الطائف وذكر قصة المرأتين فكتبت إلى ابن عباس
فكتب إليّ: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجال أموال
قوم ودماءهم ولكن البيّنة على المدّعي واليمين على من
أنكر" وإسناده حسن وإنما كانت البيّنة على المدّعي لأن
حجته قوية لانتفاء التهمة وجانبه ضعيف لأنه خلاف الظاهر
فكلّف الحجة القوية وهي البيّنة ليقوى بها ضعفه وعكسه
المدّعى عليه فاكتفى بالحجة الضعيفة وهي اليمين. نعم قد
تجعل اليمين في جانب المدّعي في مواضع مستثناة كأيمان
القسامة لحديث الصحيحين المخصص لحديث الباب وفي البيهقي عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "البيّنة على من ادّعى
واليمين على من أنكر إلا في القسامة ودعوى بالقيمة في
المتلفات".
وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن اليمين
متوجهة على المدّعى عليه سواء كان بينه وبين المدّعي
اختلاط أم لا؟ وقال مالك وأصحابه: إن اليمين لا تتوجه إلا
على من بينه وبينه خلطة لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل
بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد فاشترطت الخلطة لهذه
المفسدة.
وهذا الحديث قد سبق في الرهن ويأتي إن شاء الله تعالى في
تفسير سورة آل عمران.
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة وهو ساقط عند أبوي ذر
والوقت.
2669 , 2670 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ
غَضْبَانُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ:
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ -إِلَى- عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا
فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟
فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: صَدَقَ، لَفِيَّ
أُنْزِلَتْ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي
شَىْءٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: شَاهِدَاكَ أَوْ
يَمِينُهُ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ إِذن يَحْلِفُ وَلاَ
يُبَالِي: فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا
مَالاً -وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ- لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ.
ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني (عثمان بن أبي شيبة)
هو عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي
مولاهم الكوفي الحافظ قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد
الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق بن
سلمة أنه (قال: قال عبد الله) هو ابن مسعود: (من حلف على)
محلوف (يمين يستحق بها) باليمين (مالاً) لغيره (لقي الله)
أي يوم القيامة (وهو عليه غضبان) غير مصروف للصفة وزيادة
الألف والنون مع وجود الشرط وهو أن لا يكون المؤنث فيه
بتاء التأنيث فلا تقول فيه امرأة غضبانة بل غضبى، والمراد
من الغضب لازمه أي فيعذبه أو ينتقم منه (ثم أنزل الله عز
وجل تصديق ذلك {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} إلى
{عذاب أليم}) [آل عمران: 77] برفعهما على الحكاية، ولأبوي
ذر والوقت: {وأيمانهم ثمنًا قليلاً} إلى {أليم}.
(ثم إن الأشعث بن قيس) الكندي (خرج إلينا) من الموضع الذي
كان فيه (فقال: ما يحدّثكم أبو عبد الرحمن) بن مسعود؟
(فحدّثاه بما) حدّثنا به (قال، فقال: صدق) ابن مسعود
(لفيّ) بلام مفتوحة ففاء مكسورة فتحتية مشددة (أنزلت) بضم
الهمزة زاد في الرهن والله أنزلت هذه الآية ولأبي ذر: نزلت
بإسقاط الهمزة
(4/404)
وفتح النون والزاي ولأبي الوقت نزلت بضم
النون وكسر الزاي مشددة (كان بيني وبين رجل) اسمه معدان بن
الأسود بن معد يكرب الكندي ولقبه الجفشيش بجيم مفتوحة ففاء
ساكنة فشين معجمتين بينهما تحتية ساكنة (خصومة في شيء) في
الرهن في بئر وفي رواية في أرض، وزاد مسلم. أرض باليمن.
ولا يمتنع أن تكون المخاصمة في الكل فمرة ذكر الأرض لأن
البئر داخلة فيها ومرة ذكر البئر لأنها المقصودة لسقي
الأرض (فاختصمنا إلى رسول الله) ولأبوي ذر والوقت إلى
النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(شاهداك أو يمينه) قال القاضي عياض: كذا الرواية بالرفع
فيهما تقديره عليك شاهداك أو عليه يمينه أو يقدر لك شاهداك
أو يمينه أي لك إقامة شاهديك أو طلب يمينه فحذف المضاف من
كل من المتعاطفين وأقيم المضاف إليه مقامه. قال الأشعث:
(فقلت له) عليه الصلاة والسلام (أنه) أي معدان (إذًا يحلف)
بالرفع على لغة من لا ينصب بإذا (ولا يبالي) أي لا يكترث
وربما حذفت ألفه فقيل: لم أبل، وزاد مسلم وأصحاب السنن
الأربعة في نحو هذه القصة من حديث وائل بن حجر.
"ليس لك إلا ذلك". واستدلّ بهذا الحصر على ردّ القضاء
بالشاهد واليمين وهو مردود بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قضى بذلك، وبأن المراد بقوله: "شاهداك" أي
بيّنتك سواء كانت رجلين أو رجلاً وامرأتين أو رجلاً ويمين
الطالب فالمعنى شاهداك أو ما يقوم مقامهما (فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (من حلف على يمين)
الحلف هو اليمين فخالف بين اللفظين تأكيدًا لعقده وسماه
يمينًا مجازًا للملابسة بينهما والمراد ما شأنه أن يكون
محلوفًا عليه وإلا فهو قبل اليمين ليس محلوفًا عليه (يستحق
بها) باليمين (مالاً) ليس له والجملة صفة ليمين أو حال
(وهو فيها) في اليمين (فاجر) كاذب (لقي الله) زاد أبو ذر
عز وجل (وهو عليه غضبان) اسم فاعل من غضب يقال رجل غضبان
وامرأة غضبى وهو من باب المجازاة أي يعامله معاملة المغضوب
عليه فيعذبه والواو في وهو في الموضعين للحال (فأنزل الله
تعالى تصديق ذلك ثم
اقترأ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (هذه الآية)
أي السابقة وهي {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} إلى
{عذاب أليم}
[آل عمران: 77].
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله "شاهداك أو يمينه".
21 - باب إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ
يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ
الْبَيِّنَةِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا ادّعى) رجل بشيء على آخر (أو قذف)
رجل رجلاً أو قذف اâرآته
بأن رماها بالزنا (فله) للمدعي أو للقاذف (أن يلتمس
البيّنة وينطلق) بالنصب عطفًا على أن يلتمس أي يمهل (لطلب
البيّنة) ونحوها كالنظر في الحساب ثلاثة أيام فقط وهل هذا
الإمهال واجب أو مستحب؟ قال الروياني: وإذا أمهلناه ثلاثًا
فأحضر بعدها وطلب الإنظار ليأتي بالشاهد الثاني أمهلناه
ثلاثة أخرى.
2671 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ هِلاَلَ
بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَرِيكِ بْنِ
سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: الْبَيِّنَةُ، أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا
عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ
الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ يَقُولُ: الْبَيِّنَةَ وَإِلاَّ
حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ. فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ".
[الحديث 2671 - طرفاه في: 4747، 5307].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة
ابن عثمان العبدي البصري أبو بكر بندار قال: (حدّثنا ابن
أبي عدي) هو مجمخ وازم أبي عخيّ ؤبذاني
â ( عن هشام) هو
ابن حسان القردوسي البصري أنه قال: (حدّثنا عكرمة) مولى
ابن عباس ولأبي ذر عن الحموي والمستملي عن عكرمة (عن ابن
عباس -رضي الله عنهما- أن هلال بن أمية) الأنصاري الواقفي
(قدف امرأته) قيل اسمها خولة بنت عاصم رواه ابن منده أي
رماها بالزنا (عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بشريك بن سحماء) بفتح السين وسكون الحاء
المهملتين اسم أمه وأما أبوه فعبدة بفتح العين المهملة
والموحدة ابن معتب بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد
الفوقية آخره موحدة كذا ضبطه النووي وضبطه الدارقطنى مغيث
بالغين المعجمة وسكون التحتية آخره مثلثة (فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(البيّنة) نصب أي أحضر البيّنة ويجوز الرفع أي الواجب عليك
البيّنة (أو حدًّا) بالنصب بفعل مقدر والرفع أي الواجب عند
عدم البيّنة حدّ (في ظهرك) أي على ظهرك كقوله: {ولأصلبنكم
في جذوع النخل} [طه: 71] (فقال): هلال ولأبي ذر قال: (يا
رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق) حال كونه
(يلتمس) يطلب (البيّنة
(4/405)
فجعل عليه الصلاة والسلام يقول): (البيّنة
وإلاّ حدّ)
بنصب البيّنة ورفع حدّ أي تحضر البيّنة وإن لم تحضرها
فجزاؤك حدّ (في ظهرك) فحذف ناصب البيّنة وفعل الشرط
والجزاء الأول من الجملة الجزائية والفاء. قال ابن مالك:
وحذف مثل هذا لم يذكر النحاة أنه يجوز إلا في الشعر، لكنه
يردّ عليهم وروده في هذا الحديث الصحيح، ولأبوي الوقت وذر:
أو حدّ أي تحضر البيّنة أو يقع حدّ في ظهرك. قال في
المصابيح: وفي هذا التقدير محافظة على تشاكل الجملتين
لفظًا، وفي نسخة البيّنة بالرفع والتقدير: إما البيّنة
وإما حدّ في ظهرك.
(فذكر) أي ابن عباس (حديث اللعان) الآتي تمامه في تفسير
سورة النور مع ما فيه من المباحث إن شاء الله تعالى،
والغرض منه هنا تمكين القاذف من إقامة البيّنة على زنا
المقذوف لدفع الحدّ عنه ولا يرد عليه إن الحديث ورد في
الزوجين والزوج له مخرج عن الحدّ باللعان إن عجز عن
البيّنة بخلاف الأجنبي لأنّا نقول: إنما كانت ذلك قبل نزول
آية اللعان حيث كان الزوج والأجنبي سواء، وإذا ثبت ذلك
للقاذف ثبت لكل مُدّعٍ من باب أولى قاله في الفتح، ومن
قبله الزركشي في تنقيحه. وقال في المصابيح: إنه كلام ابن
المنير بعينه.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف في التفسير والطلاق.
22 - باب الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ
(باب اليمين بعد العصر) أي بيان ما جاء في فعلها بعد
العصر.
2672 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ
أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ يَمْنَعُ
مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ. وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً لاَ
يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا
يُرِيدُ وَفَى وَإِلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ. وَرَجُلٌ سَاوَمَ
رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ
لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَأَخَذَهَا".
وبه قال: (حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
جرير بن عبد الحميد) بن قرط بضم القاف وسكون الراء وبالطاء
المهملة الضبي الكوفي نزيل الريّ وقاضيها (عن الأعمش)
سليمان بن مهران (عن أبي صالح) ذكوان السمان (عن أبي هريرة
رضي الله عنه) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ثلاثة) من الناس (لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم) فإن من
سخط على غيره أعرض عنه زاد في المساقاة يوم القيامة (ولا
يزكيهم) ولا يطهرهم (ولهم عذاب أليم) مؤلم على ما فعلوه
(رجل على فضل ماء) فضل عن كفايته (بطريق يمنع منه) أي من
الفاضل من الماء (ابن السبيل) المسافر، (ورجل بايع رجلاً)
وفي المساقاة بايع إمامًا والمراد الإمام الأعظم (لا
يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفى له) بتخفيف الفاء
ويقال وفى بعهده وفاء بالمد وأما بالتشديد فيستعمل في
توفية الحق وإعطائه (وإلا) بأن
لم يعطه ما يريد (لم يفِ له) بما عاقده عليه (ورجل ساوم
رجلاً بسلعة) جار ومجرور، ولأبوي ذر والوقت: سلعة: بالنصب
على المفعولية (بعد العصر فحلف بالله لقد أعطى) بفتح
الهمزة بائعها الذي اشتراها منه، ولأبي ذر أُعطي بضم
الهمزة أي أعطاه من يريد شراءها (بها) أي بسببها ولغير
الكشميهني به أي بالمتاع الذي يدل عليه السلعة (كذا وكذا)
ثمنًا عنها (فأخذها) أي السلعة الرجل الثاني بالثمن الذي
حلف عليه المالك اعتمادًا على حلفه وتخصيص هذا الوقت
بتعظيم الإثم على من حلف فيه كاذبًا. قال المهلب: لشهود
ملائكة الليل والنهار ذلك الوقت: قال في الفتح: وفيه نظر
لأن بعد صلاة الصبح مشاركة له في شهود الملائكة ولم يأتِ
فيه ما أتي في وقت العصر ويمكن أن يكون اختصّ بذلك لكونه
وقت ارتفاع الأعمال.
وهذا الحديث قد سبق في باب: إثم من منع ابن السبيل من
الماء.
23 - باب يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا
وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَلاَ يُصْرَفُ مِنْ
مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ قَضَى مَرْوَانُ بِالْيَمِينِ
عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي، فَجَعَلَ زَيْدٌ
يَحْلِفُ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ،
فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ.
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» وَلَمْ يَخُصَّ مَكَانًا
دُونَ مَكَانٍ.
هذا (باب) بالتنوين (يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه
اليمين ولا يصرف من موضع الى غيره) للتغليظ وجوبًا، وهذا
قول الحنفية فلا يغلظ عندهم بمكان كالتحليف في المسجد ولا
بزمان كالتحليف في يوم الجمعة قالوا لأن ذلك زيادة على
النص. وقال الحنابلة واللفظ للمرداوي في تنقيحه: ولا تغلظ
إلا فيما له خطر كجناية وطلاق إن قلنا يحلف فيهما. وقال
الشافعية: تغلظ ندبًا ولو لم يطلب الخصم تغليظها لا بتكرير
الأيمان لاختصاصه باللعان والقسامة ووجوبه فيهما ولا
بالجمع لاختصاصه باللعان بل بتعديد أسماء الله تعالى
وصفاته وبالزمان والمكان سواء كان المحلوف عليه مالاً أم
غيره كالقود والعتق والحدّ والولاء والوكالة والوصاية
والولادة، لكن استثنى
(4/406)
من المال أقل من عشرين دينارًا أو مائتي
درهم فلا تغليظ في ذلك إلا أن يراه القاضي لجراءة في
الحالف فله ذلك بناء على الأصح أن التغليظ لا يتوقف على
طلب الخصم.
(قضى مروان) بن الحكم الأموي وكان وإلي المدينة من جهة
معاوية بن أبي سفيان فيما وصله في الموطأ (باليمين على زيد
بن ثابت على المنبر) لما اختصم هو وعبد الله بن مطيع إليه
في دار (فقال) أي زيد: (أحلف له مكاني) زاد في الموطأ فقال
مروان: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق (فجعل زيد
يحلف) أن حقه لحق (وأبى أن يحلف على المنبر، فجعل مروان
يعجب منه) أي من زيد. قال الشافعي: لو لم يعرف زيد أن
اليمين عند المنبر سنّة لأنكر ذلك على مروان كما أنكر عليه
مبايعة الصكوك وهو احترز منه تهيبًا وتعظيمًا للمنبر. قال
الشافعي: ورأيت مطرفًا بصنعاء يحلف على المصحف وذلك عندي
حسن.
(وقال النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): فيما
تقدم موصولاً في حديث الأشعث (شاهداك أو يمينه) قال
المؤلّف: تفقهًا منه (فلم) بالفاء ولأبوي الوقت وذر ولم
(يخص) عليه الصلاة والسلام (مكانًا دون مكان) واعترض عليه
بأنه ترجم لليمين بعد العصر فأثبت التغليظ بالزمان ونفاه
هنا بالمكان. وأجيب: بأنه لا يلزم من ترجمته اليمين بعد
العصر تغليظ اليمين بالزمان ولم يصرح هناك بشيء من النفي
والإثبات.
2673 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالاً لَقِيَ اللَّهَ
وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري بكسر الميم
وسكون النون وفتح القاف قال:
(حدّثنا عبد الواحد) بن زياد العبدي مولاهم البصري (عن
الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن
ابن مسعود) عبد الله (-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(من حلف على يمين) أي على شيء مما يحلف عليه سمي المحلوف
عليه يمينًا لتلبسه باليمين (ليقتطع بها) أي باليمين
(مالاً) ليس له (لقي الله) عز وجل يوم القيامة (وهو عليه
غضبان) أي يعامله معاملة المغضوب عليه.
وهذا الحديث قد سبق قريبًا ولم تظهر لي المطابقة بينه وبين
ما ترجم له فالله يوفق للصواب.
نعم، قال شيخ الإسلام زكريا: مطابقته من حيث أنه لم يقيد
الحكم بمكان.
24 - باب إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِي الْيَمِينِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا تسارع قوم في اليمين) حيث وجبت
عليهم جميعًا أيهم يبدأ أولاً.
2674 - حَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ
الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ
بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبوي ذر والوقت: حدّثني بالإفراد
(إسحاق بن نصر) هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي البخاري
قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام الصنعاني قال: (أخبرنا
معمر) بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة ابن راشد
الأزدي مولاهم البصري (عن همام) هو ابن منبّه الصنعاني (عن
أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرض على قوم) تنازعوا عينًا ليست في
يد واحد منهم ولا بيّنة (اليمين فأسرعوا) أي إلى اليمين
(فأمر) عليه الصلاة والسلام (أن يسهم) أي يقرع (بينهم في
اليمين أيهم يحلف) قبل الآخر.
وعند النسائي وأبي داود من طريق أبي رافع أن رجلين اختصما
في متاع ليس لواحد منهما بيّنة فقال النبي-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "استهما على اليمين" الحديث.
ورواه أحمد عن عبد الرزاق وقال: إذا كره الاثنان اليمين أو
استحباها فيستهمان عليها فإذا ادّعى اثنان في يد ثالث
وأقام كلٌّ منهما بينة مطلقتي التاريخ أو متفقتيه أو
إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة ولم يقرّ لواحد منهما تعارضتا
وتساقطتا وكأنه لا بيّنة.
وأما حديث الحاكم أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعير فأقام كلٌّ منهما
بيّنة أنه له فجعله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بينهما. فأجيب عنه: بأنه يحتمل أن البعير كان
بيدهما فابطل البيّنتين وقسمه بينهما.
وأما حديث أبي داود أن خصمين أتيا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأتى كل واحد منهما بشهود
فأسهم بينهما وقضى لمن خرج له السهم. فأجيب عنه: بأنه
يحتمل أن التنازع كان في قسمة أو عتق.
25 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ
وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِمْ يَوْمَ
القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(باب قول الله تعالى) ولأبي ذر عز وجل ({إن الذين يشترون
بعهد الله}) يعتاضون عما عاهدوا الله عليه ({وأيمانهم})
الكاذبة ({ثمنًا قليلاً}) من حطام
(4/407)
الدنيا ({أولئك لا خلاق}) لا نصيب ({لهم في
الآخرة ولا يكلمهم الله}) بكلام يسرّهم ({ولا ينظر إليهم})
نظر رحمة ({ولا يزكّيهم}) ولا يطهرهم من الذنوب ({ولهم
عذاب أليم}) [آل عمران: 77] مؤلم موجع. قال في الروضة:
واستحب الشافعي -رحمه الله- أن يقرأ على الحالف هذه الآية.
2675 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ قَالَ حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّكْسَكِيُّ سَمِعَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنهما-
يَقُولُ: "أَقَامَ رَجُلٌ سِلْعَتَهُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ
لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهَا. فَنَزَلَتْ:
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} [آل عمران: 77].
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا
خَائِنٌ".
وبه قال (حدّثنا) بالإفراد (إسحاق) هو ابن منصور كما جزم
به أبو علي الغساني أو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم
الأصبهاني قال: (أخبرنا يزيد بن هارون) بن زاذان أبو خالد
الواسطي قال: (أخبرنا العوّام) بتشديد الواو ابن حوشب قال:
(حدّثني) بالإفراد (إبراهيم) بن عبد الرحمن (أبو إسماعيل
السكسكي) بسينين مهملتين مفتوحتين بينهما كاف ساكنة وأخرى
بعد الثانية مكسورة نسبة إلى السكاسك ابن أشرس ابن كندة
الكوفي أنه (سمع عبد الله بن أبي أوفى) الصحابي ابن
الصحابي (-رضي الله عنهما-) حال كونه (يقول: أقام رجل) لم
يسم (سلعته) أي روّجها (فحلف بالله لقد أعطى) بفتح الهمزة
والطاء (بها) أي بدل سلعته (ما لم يعطها) بكسر الطاء وضم
الأول أي يحلف أنه دفع فيها من ماله ما لم يكن دفعه،
ولأبوي ذر والوقت: أعطي بها ما لم يعطها بضم الهمزة وكسر
الطاء وفتحها في الأخرى، وفي باب ما يكره من الحلف في
البيع ما لم يعط بحذف الضمير (فنزلت {إن الذين يشترون بعهد
الله وأيمانهم ثمنًا قليلاًً}) [آل عمران: 77] الآية إلى
آخرها وهي متضمنة لذمّهم بما ارتكبوه من الأيمان الكاذبة
الفاجرة (وقال) ولأبي ذر قال بحذف الواو (ابن أبي أوفى)
عبد الله بالسند السابق (الناجش آكل ربا) أي كآكل ربا
(خائن) لكونه غاشًّا وهو خبر بعد خبر.
2676 , 2677 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ
عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه-
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَ
مَالَ رَجُلٍ -أَوْ قَالَ أَخِيهِ- لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ
فِي الْقُرْآنِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً -إلى قوله-
عَذَابٌ أَلِيمٌ}. فَلَقِيَنِي الأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا
حَدَّثَكُمْ عَبْدُ اللَّهِ الْيَوْمَ؟ قُلْتُ: كَذَا
وَكَذَا. قَالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ".
وبه قال؛ (حدّثنا بشر بن خالد) العسكري أبو محمد الفرائضي
نزيل البصرة قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا (محمد بن
جعفر) غندر البصري (عن شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن
مهران الأعمش (عن أبي وائل) شقيق (عن عبد الله) بن مسعود
(-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(من حلف على يمين) أي على شيء مما يحلف عليه (كاذبًا
ليقتطع) بيمينه (مال رجل) ولأبوي ذر والوقت مال الرجل
بالتعريف (أو قال) عليه الصلاة والسلام: (أخيه) بدل رجل شك
الراوي (لقي الله) أي يوم القيامة (وهو عليه غضبان) بغير
صرف والمراد من الغضب لازمه أي يعامله معاملة المغضوب عليه
فيعذبه (وأنزل الله) زاد أبو ذر عز وجل (تصديق ذلك في
القرآن) في سورة آل عمران ({إن الذين يشترون بعهد الله
وأيمانهم ثمنًا قليلاً}) عوضًا يسيرًا (الآية) زاد أبوا ذر
والوقت إلى قوله: {عذابٌ أليمٌ} بالرفع فيهما على الحكاية
وزاد أبو الوقت: ولهم، (فلقيني الأشعث) بن قيس الكندي
(فقال: ما حدّثكم عبد الله) يعني ابن مسعود (اليوم؟ قلت:
كذا وكذا. قال): أي الأشعث (فيّ أنزلت) أي آية آل عمران
{إن الذين يشترون بعهد الله} إلى آخرها.
26 - باب كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ، قَالَ تَعَالَى:
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}
وَقَوْل اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا
وَتَوْفِيقًا}. يُقَالُ: بِاللَّهِ وَتَاللَّهِ
وَوَاللَّهِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ»
وَلاَ يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ.
هذا (باب) بالتنوين (كيف يستحلف) بضم أوله مبنيًّا للمفعول
أي كيف يستحلف الحاكم من تتوجه عليه اليمين (قال تعالى)
{يحلفون بالله لكم} [التوبة: 62] على معاذيرهم فيما قالوا،
وسقط (لكم) عند أبي ذر (وقوله عز وجل) ولأبي ذر: وقول الله
عز وجل: ({ثم جاؤوك}) حين يصابون للاعتذار ({يحلفون
بالله}) حال ({إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا) [النساء:
62] أي يحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك وتحاكمنا إلى من
عداك إلاّ الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة
اعتقادًا منّا صحة تلك الحكومة، وزاد في رواية أبي ذر عن
الكشميهني قوله: {ويحلفون بالله أنهم لمنكم} [التوبة: 56]
أي من جملة المسلمين وقوله: {يحلفون بالله لكم} ليرضوكم أي
بحلفهم، وقوله: فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما
أي أصدق منها وأولى أن تقبل، وغرض المؤلّف من سياق هذه
الآية كما قال في الفتح أنه لا يجب التغليظ بالقول. وقال
في العمدة: بل غرضها الإشارة إلى أن أصل اليمين أن تكون
بالله (يقال بالله) بالموحدة (وتالله) بالمثناة الفوقية
(ووالله) بالواو.
(وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مما
وصله عن أبي هريرة في باب اليمين بعد العصر بالمعنى (ورجل
حلف بالله
(4/408)
كاذبًا بعد العصر) وهو أحد الثلاثة الذين
لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم
(ولا يحلف بغير الله) هذا من كلام المؤلّف على سبيل
التكميل للترجمة ويحلف بفتح الياء وكسر اللام ويجوز ضمها
وفتح اللام وكلاهما في الفرع والذي في الأصل هو الأول فقط.
2678 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلٍ بن
مالكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ -رضي الله عنه- يَقُولُ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ:
هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنْ
تَطَّوَّعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَصِيَامُ شهر رَمَضَانَ، فَقَالَ:
هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنْ
تَطَّوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزَّكَاةَ. قَالَ: هَلْ
عَلَىَّ غَيْرُه؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ.
قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهْوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ
لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ. قَالَ: قال
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) الأويسي (قال:
حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن عمه أبي سهيل) نافع
ولأبوي ذر والوقت زيادة ابن مالك (عن أبيه) مالك بن أبي
عامر الأصبحي
(أنه سمع طلحة بن عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن عثمان
التميمي أبا محمد المدني أحد العشرة استشهد يوم الجمل
(-رضي الله عنه- يقول: جاء رجل) هو ضمام بن ثعلبة أو غيره
(إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد
في باب الزكاة من الإسلام من كتاب الإيمان من أهل نجد ثائر
الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا (فإذا هو
يسأله) أي الرجل يسأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (عن الإسلام) أي عن أركانه وشرائعه (فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
هو (خمس صلوات في اليوم والليلة) (فقال) الرجل: (هل عليّ
غيرها) بالرفع على الخبرية لهل الاستفهامية ولأبوي الوقت
وذر عن المستملي غيره بتذكير الضمير أي غير المذكور (قال)
عليه الصلاة والسلام (لا) شيء عليك غيرها أي الصلوات الخمس
(إلا أن تطوّع) أي لكن التطوع مستحب لك أو الاستثناء متصل
فيستدل به على أن من شرع في تطوع يلزمه إتمامه (فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (وصيام رمضان)
ولأبي ذر شهر رمضان (قال) أي الرجل ولأبي ذر فقال: (هل
عليّ غيره) أي صيام رمضان ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني
غيرها بالتأنيث أي باعتبار الأيام المقدّرة في صيام رمضان
(قال) عليه الصلاة والسلام: (لا إلاّ أن تطوّع) لكن التطوع
مستحب ولا يلزمك إتمامه أو إلا إذا تطوعت فيلزمك إتمامه
(قال) طلحة (وذكر له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الزكاة. قال) الرجل: (هل عليّ غيرها) ولأبي ذر
عن المستملي غيره أي غير ما ذكر من حكمها (قال) عليه
الصلاة والسلام: (لا إلا أن تطوع) (قال) طلحة -رضي الله
عنه-: (فأدبر الرجل) ولّى (وهو يقول والله لا أزيد) في
التصديق والقبول (على هذا ولا أنقص) أي منه (قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (أفلح) أي فاز
الرجل (إن صدق) في قوله هذا زاد في الصيام فأخبره رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشرائع الإسلام،
ويدخل فيها جميع الواجبات والمنهيات والمندوبات ومطابقة
الحديث لما ترجم به في قوله: والله لا أزيد لأنه يستفاد
منه الاقتصار على الحلف بالله دون زيادة قاله في الفتح.
وقال: في العمدة: لأن فيه صورة الحلف بلفظ اسم الله
وبالباء الموحدة والحديث سبق في كتاب الإيمان.
2679 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ قَالَ: ذَكَرَ نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
-رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ
بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ». [الحديث 2679 - أطرافه في:
3836، 6108، 6646، 6648].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) أبو سلمة المنقري
البصري قال: (حدّثنا جويرية) بن أسماء (قال: ذكر نافع)
مولى ابن عمر (عن عبد الله) أي ابن عمر بن الخطاب (-رضي
الله عنه-) وعن أبيه (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(من كان حالفًا) أي من أراد أن يحلف (فليحلف بالله) أي
باسم الله أو صفة من صفاته (أو ليصمت) بضم الميم وزاد في
التنقيح وكسرها.
قال في المصابيح: يعني أنه مضارع ثلاثي أو رباعي يقال صمت
يصمت صمتًا وصموتًا وصماتًا سكت وأصمت مثله كذا في الصحاح،
ولكن الشأن في الضبط من جهة الرواية اهـ.
ولم أره في الأصول التي وقفت عليها إلا بالضم أي أو ليسكت
كما في بعض الروايات، والمعنى فلا يحلف أصلاً، وفيه أن
الحلف المخلوق لا لسبق لسان مكروه كالنبي والكعبة وجبريل
والصحابة، وفي الصحيحين: إن الله ينهاكم أن تحلفوا
بآبائكم، وعند النسائي وصححه ابن حبان: لا تحلفوا بآبائكم
ولا بأمهاتكم ولا تحلفوا إلا بالله. قال الإمام وقول
الشافعي أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية محمول على
المبالغة في التنفير من ذلك فلو حلف به لم ينعقد يمنًا كما
صرّح به في الروضة، فإن اعتقد في المحلوف بغير الله ما
يعتقده في الله كفر أما إذا سبق لسانه إليه بلا
(4/409)
قصد فلا كراهة بل هو لغو يمين وعليه يحمل
حديث الصحيحين في قصة الأعرابي الذي قال لا أزيد على هذا
ولا أنقص أفلح وأبيه إن صدق أو هو على حذف مضاف أي وربّ
أبيه أو هو قبل النهي وضعف لأنه يحتاج إلى تاريخ.
فإن قلت: قد أقسم الله تعالى ببعض مخلوقاته كالليل والشمس؟
أجيب: بأن الله تعالى له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته
تنبيهًا على شرفها. وبقية مباحث هذا الحديث تأتي إن شاء
الله تعالى في كتاب الأيمان والنذور.
27 - باب مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ».
وَقَالَ طَاوُسٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَشُرَيْحٌ: الْبَيِّنَةُ
الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.
(باب من أقام البينة بعد اليمين) الصادرة من المدّعى عليه
تقبل بيّنته وهو مذهب الكوفيين والشافعي وأحمد وقال مالك
في المدوّنة إن استحلفه ولا علم له بالبيّنة ثم علمها قبلت
وقضي له بها وإن علم بها وتركها فلا حق له. (وقال النبى
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:) فيما وصله في باب
إثم من خاصم في كتاب المظالم وذكره في هذا الباب (لعل
بعضكم ألحن) أعرف (بحجته من بعض) (وقال طاوس) هو ابن كيسان
(وإبراهيم) هو النخعي (وشريح) القاضي (البيّنة العادلة)
المرضية (أحق من اليمين الفاجرة) وأحق ليس على بابه من
الأفضلية إذ اليمين الفاجرة لا حق فيها وصورة ذلك ما إذا
شهدت على الحالف بأنه أقرّ بخلاف ما حلف عليه فإنه يظهر
بذلك أن يمينه فاجرة. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على قول
طاوس وإبراهيم موصولين، وأما شريح فوصله البغوي في
الجعديات من طريق ابن سيرين عن شريح لكن بلفظ من ادّعى
قضائي فهو عليه حتى تأتي بيّنة الحق أحق من قضائي الحق أحق
من يمين فاجرة.
2680 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ
بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ
قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ
فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلاَ
يَأْخُذْهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب القعنبي (عن
مالك) الإمام (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن
العوّام (عن زينب عن أُم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته) أي ألسن وأفصح
وأبين كلامًا وأقدر على الحجة (من بعض) وفيه حذف أي وهو
كاذب بدليل قوله في الرواية السابقة في المظالم فأحسب أنه
صدق (فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله) الظاهر المخالف
للباطن وفي المظالم بحق مسلم ولا مفهوم له لأنه خرج مخرج
الغالب وإلاّ فالذميّ والمعاهد كذلك (فإنما أقطع له قطعة
من النار فلا يأخذها) أطلق عليه ذلك لأنه سبب في حصول
النار له فهو من مجاز التشبيه قوله: {إنما يأكلون في
بطونهم نارًا} [النساء: 10] وفيه دلالة لمذهب مالك
والشافعي وأحمد والجمهور من علماء الإسلام وفقهاء الأمصار
أن حكم القاضي الصادر منه فيما باطن الأمر فيه بخلاف ظاهره
بأن ترتب على أصل كاذب ينفذ ظاهرًا لا باطنًا فلا يحل
حرامًا ولا عكسه فإذا شهد شاهدًا زور لإنسان بمال فحكم به
بظاهر العدالة لم يحلّ للمحكوم له ذلك المال ولو شهدا عليه
بقتل لم يحلّ للوالي قتله مع علمه بكذبهما وإن شهدًا عليه
أنه طلّق امرأته لم يحلّ لمن علم بكذبهما أن يتزوجها بعد
حكم القاضي بالطلاق. وقال أبو حنيفة ينفذ القضاء بشهادة
الزور ظاهرًا فيما بيننا وباطنًا في ثبوت الحلّ فيما بينه
وبين الله تعالى في العقود كالنكاح والطلاق والبيع
والشراء، فإذا ادّعت على رجل أنه تزوّجها وأقامت عليه
شاهدي زور حلّ له وطؤها عند أبي حنيفة وكذا ادّعى عليها
نكاحًا وهي تجحد وهذا عنده بخلاف الأموال بخلاف صاحبيه.
قال النووي: وهذا مخالف لهذا الحديث الصحيح والإجماع من
قبله ومخالف لقاعدة وافق هو غيره عليها وهو أن الإبضاع
أولى بالاحتياط من الأموال.
فإن قلت: ظاهر الحديث أنه يقع منه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكم في الظاهر مخالف للباطن وقد اتفق
الأصوليون على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا
يقرّ على الخطأ في الأحكام؟ أجيب بأنه لا معارضة بين
الحديث وقاعدة الأصول لأن مرادهم فيما حكم فيه باجتهاده هل
يجوز أن يقع فيه خطأ فيه خلاف أكثرون على جوازه، وأما الذي
في الحديث فليس من الاجتهاد في شيء لأنه حكم بالبيّنة فلو
وقع منه ما يخالف الباطن لا يسمى الحكم خطأ بل هو صحيح على
ما استقر عليه التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلاً فإن
كانا شاهدي
(4/410)
زور أو نحو ذلك فالتقصير منهما وأما الحكم
فلا حيلة له فيه ولا عتب عليه بسببه قاله النووي وموضع
استنباط الترجمة على إقامة البيّنة بعد اليمين من هذا
الحديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يجعل
اليمين
الكاذبة لحق المحقّ بل نهي الكاذب بعد يمينه عن الأخذ،
فإذا ظفر صاحب الحق ببيّنة فهو باقٍ على القيام بها وقد
سبق الحديث في باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه من
المظالم.
28 - باب مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ. وَفَعَلَهُ
الْحَسَنُ
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ
صَادِقَ الْوَعْدِ}. وَقَضَى ابْنُ الأَشْوَعِ
بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بن جندب.
وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: «سَمِعْتُ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَكَرَ
صِهْرًا لَهُ فَقَالَ: وَعَدَنِي فَوَفَى لِي».
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: رَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ
إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ.
(باب من أمر بإنجاز الوعد) أي الوفاء به. (وفعله) أي إنجاز
الوعد (الحسن) البصري (وذكر) الله عز وجل (إسماعيل) في
كتابه فقال: ({إنه كان صادق الوعد}) [مريم: 54] ولغير
النسفيّ: {واذكر في الكتاب} إلخ. وهذا ثناء من الله تعالى
عليه. قال ابن جريج فيما نقله عنه ابن كثير وغيره: لم يعد
ربه عدة إلا أنجزها. وعند ابن جريج أنه وعد رجلاً مكانًا
أن يأتيه فجاء ونسي الرجل فظل به إسماعيل وبات حتى جاء
الرجل من الغد فقال ما برحت من هاهنا. قال: لا. قال: إني
نسيت. قال: لم أكن لأبرح حتى تأتيني فلذلك كان صادق الوعد،
وقال سفيان الثوري: بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره
حولاً حتى جاءه، وقال ابن شوذب: بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع
مسكنًا فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من
الصفات الذميمة.
(وقضى ابن الأشوع) بهمزة مفتوحة فشين معجمة ساكنة فواو
مفتوحة فعين مهملة غير منصرف وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع
الهمداني الكوفي قاضيها في زمان إمارة خالد القسري على
العراق بعد المائة ولأبوي ذر والوقت ابن أشوع (بالوعد) أي
بإنجازه. (وذكر) ابن أشوع (ذلك عن سمرة) ولأبوي ذر والوقت
زيادة ابن جندب، وقد وقع ذلك في تفسير إسحاق بن راهويه.
(وقال المسور بن مخرمة) -رضي الله عنه- (سمعت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذكر صهرًا له) يعني
أبا العاص بن الربيع زوج زينب بنته -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال) ولأبي ذر فقال: (وعدني فوفى لي)
بتخفيف الفاء الثانية ولأبوي ذر والوقت فوعدني فوفاني
ولأبي الوقت وحده فأوفاني، وكان أبو العاص مصافيًا لرسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسأله المشركون
أن يطلق زينب فأبى فشكر له عليه الصلاة والسلام ذلك، ولما
أطلقه من الأسر شرط عليه أن يرسل زينب إلى المدينة فعاد
إلى مكة وأرسلها، فلذا قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "حدّثني فصدقني ووعدني فوفى لي" (قال أبو عبد
الله) البخاري (ورأيت إسحاق بن إبراهيم) أي ابن راهويه
وسقطت الواو من قوله ورأيت عند أبي ذر (يحتج بحديث ابن
أشوع) الذي ذكره عن سمرة بن جندب في وجوب إنجاز
الوعد، وفي حاشية الفرع كأصله ما نصه عند أبي ذر مخطوط على
قال أبو عبد الله رأيت إسحاق إلى
ابن أشوع بحاء هكذا حـ فيعلم بذلك أنه ثابت عند أبي ذر عن
الحموي وحده.
2681 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَخْبَرَهُ قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ:
"سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ
يأَمُرُ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ
وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قَالَ:
وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (إبراهيم بن
حمزة) بالحاء المهملة والزاي المعجمة أبو إسحاق الزبيري
المدني قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي (عن صالح) هو
ابن كيسان (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبيد الله بن عبد
الله) بضم العين في الأول ابن عتبة بن مسعود (أن عبد الله
بن عباس -رضي الله عنهما- أخبره قال: أخبرني أبو سفيان)
صخر بن حرب (أن هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف
ملك الروم (قال له) أي لأبي سفيان (سألتك ماذا يأمركم)
عليه الصلاة والسلام به (فزعمت أنه أمركم) ولأبي ذر يأمر
(بالصلاة) المعهودة (والصدق) وهو القول المطابق للواقع
(والعفاف) أي الكف عن المحارم وخوارم المروءة (والوفاء
بالعهد وأداء الأمانة قال) أي هرقل: (وهذه صفة نبي) وقد
كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صادق
الوعد لا يعد أحدًا شيئًا إلا وفى له به.
هذا (باب) بالتنوينَ وسقط من غير الفرع كأصله.
2682 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ
ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا ائتُمِنَ خَانَ،
وَإِذَا وَعَدَ أَخَلَفَ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البغلاني قال:
(حدّثنا إسماعيل بن جعفر) الزرقي الأنصاري أبو إسحاق (عن
أبي سهيل) بضم السين مصغرًا (نافع
(4/411)
بن مالك بن أبي عامر) الأصبحي التميمي
المدني (عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(آية المنافق) أي علامته (ثلاث) اسم جمع ولفظه مفرد
والتقدير آية المنافق معدودة بالثلاث (إذا حدّث كذب)
بتخفيف الذال المعجمة أي أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به
(وإذا ائتمن) بضم التاء (خان) في أمانته بأن تصرف فيها على
خلاف الشرع (وإذا وعد) أحدًا خيرًا (أحلف) فلم يفِ لكن لو
كان عازمًا على الوفاء فعرض له مانع فلا إثم عليه ولو وجدت
الثلاثة في مسلم فهل يكون منافقًا. قال الخطابي: هذا القول
إنما خرج على سبيل الإنذار للمسلم والتحذير له أن يعتاد
هذه الخصال فيفضي به إلى النفاق لا أن من ندرت منه أو فعل
شيئًا منها من غير اعتياد أنه منافق.
وقد سبق هذا الحديث في باب علامات المنافق من كتاب
الإيمان.
2683 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم قَالَ: "لَمَّا مَاتَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ
أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلاَءِ بْنِ
الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ
عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا:
قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ وَعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُعْطِيَنِي
هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا -فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ- قَالَ جَابِرٌ: فَعَدَّ فِي يَدِي خَمْسَمِائَةٍ
ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ".
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) بن يزيد الفرّاء أبو
إسحاق الرازي المعروف بالصغير قال:
(أخبرنا هشام) هو ابن يوسف أبو عبد الرحمن اليماني قاضيها
(عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز أنه (قال أخبرني)
بالإفراد (عمرو بن دينار عن محمد بن عليّ) أي ابن الحسين
بن علي بن أبي طالب (عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-)
أنه (قال: لما مات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- جاء أبا بكر) الصديق -رضي الله عنه- (مال من
قبل العلاء بن الحضرمي) بكسر القاف وفتح الموحدة وكان
عاملاً لرسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على
البحرين وأقرّه الشيخان عليها إلى أن مات سنة أربع عشرة
(فقال أبو بكر) رضي الله عنه: (من كان له على النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دين أو كانت له قبله)
بكسر القاف وفتح الموحدة جهته (عدة) بتخفيف الدال أي وعد
(فليأتينا) نَفِ له بذلك (قال جابر فقلت) له بعد أن أتيته
(وعدني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه) بالتثنية (ثلاث مرات
قال جابر فعدّ) أبو بكر -رضي الله عنه- (في يدي خمسمائة ثم
خمسمائة ثم خمسمائة) ثلاثًا كما وعده -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاثًا ولما كان من خلقه الوفاء
بالوعد نفذه أبو بكر بعد وفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وقد سبق هذا الحديث في باب من تكفل عن الميت دينًا من
الكفالة ويأتي إن شاء الله تعالى في فرض الخمس بعون الله
وقوّته.
2684 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ
أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا
مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ
أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَىَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟
قُلْتُ: لاَ أَدْرِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ
الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ. فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا،
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذَا قَالَ فَعَلَ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبوي ذر والوقت: حدّثني بالإفراد
(محمد بن عبد الرحيم) أبو يحيى صاعقة قال: (أخبرنا سعيد بن
سليمان) بكسر العين سعدويه البغدادي قال: (حدّثنا مروان بن
شجاع) مولى مروان بن محمد بن الحكم القرشي الأموي الجزري
(عن سالم الأفطس) بن عجلان (عن سعيد بن جبير) الأسدي
مولاهم الكوفي أنه (قال: سألني يهودي من أهل الحيرة) بكسر
الحاء المهملة بلد معروف بالعراق. قال الحافظ ابن حجر: ولم
أقف على اسم اليهودي (أي الأجلين قضى
موسى) أطولهما أو أقصرهما لما قال له صهره إني أريد أن
أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني أي أن تأجر نفسك مني
ثماني حجج أي سنين فإن أتممت عشرًا فمن عندك أي فإتمامه من
عندك تفضلاً لا من عندي إلزامًا عليك فتحصل البراءة من
العهدة بفعل الأقل، ولذا قال: أيما الأجلين قضيت فلا عدوان
عليّ أي فلا حرج عليّ قال سعيد بن جبير: (قلت) لليهودي:
(لا أدري حتى أقدم) أي مكة (على حبر العرب) بفتح الحاء
المهملة وسكون الموحدة ابن عباس، وعند أبي نعيم من حديث
ابن عباس مرفوعًا: أن جبريل سمّاه بذلك (فاسأله) عن ذلك
(فقدمت) مكة (فسألت ابن عباس) -رضي الله عنهما- (فقال قضى
أكثرهما وأطيبهما) في نفس شعيب (إن رسول الله) موسى
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أو من اتّصف
بالرسالة ولم يرد نبيًّا بعينه (إذا قال فعل) لأن محاسن
الأخلاق النبوية مقتضية لذلك، وهذا رواه سعيد موقوفًا وهو
في الحكم مرفوع لأن ابن عباس كان لا يعتمد على أهل الكتاب،
وقد صرّح برفعه عكرمة عن ابن عباس كما عند ابن جرير عنه أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "سألت
جبريل أيّ
(4/412)
الأجلين قضي موسى"؟ قال: أتمهما وأكملهما.
وعند ابن أبي حاتم من مرسل يوسف بن مرح أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل أيّ الأجلين قضى
موسى؟ قال: لا علم لي فسأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جبريل فقال: لا علم لي، فسأل جبريل
ملكًا فوقه فقال لا علم لي فسأل ذلك الملك ربه فقال الرب
عز وجل: أبرّهما وأتقاهما أو قال أرجاهما. وزاد الإسماعيلي
من الطريق التي أخرجها البخاري قال سعيد: فلقيني اليهودي
فأعلمته ذلك فقال: صاحبك والله عالم.
29 - باب لاَ يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنِ الشَّهَادَةِ
وَغَيْرِهَا
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ
الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 14]. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ،
وَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ} الآيَةَ".
هذا (باب) بالتنوين (لا يسأل) بضم أوّله مبنيًّا للمفعول
(أهل الشرك) بالرفع نائبًا عن الفاعل (عن الشهادة و) لا
(غيرها) إذ لا تقبل شهادتهم خلافًا للحنفية حيث قالوا
بقبولها من أهل الذمة على بعضهم وإن اختلفت مِلَلهم لأنه
عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين زنيا بشهادة أربعة منهم.
(وقال الشعبي) عامر بن شراحيل فيما وصله سعيد بن منصور (لا
تجوز شهادة أهل المِلل) بكسر الميم أي مِلل الكفر (بعضهم
على بعض) زاد سعيد بن منصور إلاّ المسلمين (لقوله تعالى)
ولأبي ذر عز وجل ({فأغرينا}) فألزمنا من غري بالشيء إذا
ألصق به ({بينهم العداوة والبغضاء}) [المائدة: 14] ولا
يزالون كذلك إلى قيام الساعة وكذلك طوائف النصارى على
اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكره بعضهم
بعضًا فالمالكية تكفر اليعقوبية وكذلك الآخرون كل طائفة
تلعن الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
(وقال أبو هريرة) فيما وصله في تفسير سورة البقرة (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا تصدقوا أهل
الكتاب) أي فيما لا تعرفون صدقه من قبل غيرهم (ولا تكذبوهم
وقولوا آمنّا بالله وما أنزل الآية) وفيه دليل لرد شهادتهم
وعدم قبولها وسقط قوله الآية عند أبوي ذر والوقت.
2685 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ
-رضي الله عنهما- قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ،
كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمُ
الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّهِ
تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ؟ وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ
وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ فَقَالُوا: {هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً}
[البقرة: 79] أَفَلاَ يَنْهَاكُمْ بمَا جَاءَكُمْ مِنَ
الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ؟ لاَ وَاللَّهِ مَا
رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلاً قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ
الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ". [الحديث 2685 - أطرافه في:
7363، 7522، 7523].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير المخزومي مولاهم المصري وسقط قوله يحيى عند أبوي ذر
والوقت قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن يونس) بن
زيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة) بن مسعود (عن ابن عباس) ولأبوي ذر والوقت:
عن عبد الله بن عباس (-رضي الله عنهما- قال): (يا معشر
المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب) من اليهود والنصارى
والاستفهام للإنكار (وكتابكم) القرآن (الذي أنزل) بضم
الهمزة ولأبي ذر: أنزل بفتحها (على نبيّه) محمد (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحدث الأخبار بالله) بفتح
الهمزة أي أقربها نزولاً إليكم من عند الله عز وجل فالحدوث
بالنسبة إلى المنزل إليهم وهو في نفسه قديم وأحدث رفع خبر
كتابكم وأنزل صفته (تقرؤونه لم يشب) بضم أوّله وفتح ثانيه
لم يخلط ولم يغير ولم يبدل (وقد حدّثكم الله) في كتابه (إن
أهل الكتاب) صنف من اليهود وعن ابن عباس هم أحبار اليهود
وعنه أيضًا هم المشركون وأهل الكتاب (بدّلوا ما كتب الله
وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا هو) ولأبي ذر عن الكشميهني
فقالوا هذا (من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً) قال
الحسن: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها (أفلا ينهاكم ما)
ولأبوي ذر والوقت عن المستملي بما (جاءكم من العلم عن
مسايلتهم) بميم مضمومة فسين مهملة وبعد الألف مثناة تحتية
مفتوحة، ولأبي ذر عن مساءلتهم بهمزة بعد الألف بدل التحتية
ممدودًا (ولا والله ما رأينا رجلاً منهم قطّ يسألكم عن
الذي أنزل عليكم) فأنتم بالطريق الأولى أن لا تسألوهم ولا
في قوله ولا والله لتأكيد النفي.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التوحيد والاعتصام.
30 - باب الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلاَتِ
وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44].
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اقْتَرَعُوا فَجَرَتِ الأَقْلاَمُ
مَعَ الْجِرْيَةِ، وَعَال قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ
الْجِرْيَةَ، فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ.
وَقَوْلِهِ: {فَسَاهَمَ} [الصافات: 141] أَقْرَعَ {فَكَانَ
مِنَ الْمُدْحَضِينَ} مِنَ الْمَسْهُومِينَ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "عَرَضَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ
فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ:
أَيُّهُمْ يَحْلِفُ".
(باب) مشروعية (القرعة في) الأشياء (المشكلات) التي يقع
النزاع فيها بين اثنين أو أكثر ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي من بدل في أي لأجل المشكلات كقوله تعالى: {من
خطاياهم} [العنكبوت: 12] أي لأجل خطاياهم (وقوله) زاد أبو
ذر عز وجل أي في قصة مريم {إذ يلقون} أي حين يلقون
{أقلامهم} أقداحهم للاقتراع وقيل اقترعوا بأقلامهم التي
كانوا يكتبون بها التوراة تبركًا {أيّهم يكفل مريم} [آل
عمران: 44] متعلق بمحذوف دلّ عليه يلقون أقلامهم أي
يلقونها ليعلموا أيهم
(4/413)
يكفلها أي يضمها إلى نفسه ويربيها رغبة في
الأجر وذلك لما وضعتها أمها حنّة وأخرجتها في خرقتها إلى
بني الكاهن بن هارون أخي موسى بن عمران وهم يومئذٍ يلون من
بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه
النذيرة فإني حرّرتها وهي ابنتي وأنا لا أردّها إلى بيتي
فقالوا: هذه ابنة إمامنا، وكان عمران يؤمهم في الصلاة فقال
زكريا: ادفعوها إليّ فإن خالتها تحتي فقالوا: لا تطيب
نفوسنا هي ابنة إمامنا فعند ذلك اقترعوا عليها.
(وقال ابن عباس: اقترعوا فجرت الأقلام) التي ألقوها في نهر
الأردن (مع الجرية) بكسر الجيم أي جرية الماء إلى الجهة
السفلى (وعال) بعين مهملة وبعد الألف لام أي ارتفع (قلم
زكريا الجرية) فأخذها وضمها إلى نفسه وللأصيلي: وعالا بألف
بعد اللام، ولأبي ذر عن الكشميهني: وعدا بالدال بدل اللام
كذا في الفرع وأصله. وقال في فتح الباري وفي رواية
الكشميهني: وعلا أي بعين فلام فألف من العلوّ قال وفي نسخة
وعدا بالدال وهذا وصله ابن جرير بمعناه (فكفلها زكريا
وقوله) تعالى بالجر عطفًا على قوله الأول في قضية يونس
(فساهم) قال ابن عباس فيما أخرجه ابن جرير أي (أقرع) {فكان
من المدحضين} [الصافات: 141] قال ابن عباس أيضًا فيما
أخرجه ابن جرير أي (من المسهومين) وأشار المؤلّف بما ذكره
من قصة مريم ويونس عليهما الصلاة والسلام إلى الاحتجاج
بصحة الحكم بالقرعة وهو مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا
إذا لم يرد ما يخالفه.
(وقال أبو هريرة) -رضي الله عنه- مما وصله قريبًا في باب:
إذا تسارع قوم في اليمين (عرض النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على قوم اليمين فأسرعوا) إلى اليمين
(فأمر) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أن يسهم
بينهم) بكسر هاء يسهم أي يقرع (في اليمين أيّهم يحلف) قبل
الآخر وفيه دلالة لمشروعية القرعة على ما لا يخفى.
2686 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي
الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ
-رضي الله عنهما- يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي
حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ
فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً فَصَارَ
بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي
أَعْلاَهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ
بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلاَهَا، فَتَأَذَّوْا
بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ
السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ:
تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلاَ بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ
أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا
أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا
أَنْفُسَهُمْ".
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) بكسر الغين المعجمة
آخره مثلثة ابن طلق بفتح الطاء وسكون اللام الكوفي قال:
(حدّثنا أبي) حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران
(قال: حدّثني) بالإفراد (الشعبي) عامر بن شراحيل (أنه سمع
النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- يقول: قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(مثل المدهن) بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر الهاء
آخره نون أي الذي يرائي (في حدود الله) المضيع لها
(والواقع فيها) المرتكبها (مثل قوم استهموا) اقترعوا
(سفينة) مشتركة بينهم تنازعوا في المقام بها علوًّا أو
سفلاً فأخذ كل واحد منهم نصيبًا من السفينة بالقرعة (فصار
بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذين في
أسفلها يمرّون بالماء على الذين) وللأصيلي وأبي ذر عن
الحموي والمستملي على الذي (في أعلاها فتأذّوا) أي الذين
أعلاها (به) بالماء عليهم بالماء حالة السقي أو بالماء
الذي مع المار (فأخذ) الذي مرّ بالماء (فأسًا) بهمزة ساكنة
وقد تبدل ألفًا (فجعل ينقر) بضم القاف أي يحفر (أسفل
السفينة) ليخرقها (فأتوه) الذين أعلاها (فقالوا: ما لك)
تحفر السفينة (قال: تأذيتم بي ولا بدّ لي من الماء فإن
أخذوا على يديه) بالتثنية أي منعوه من الحفر ولأبي ذر على
يده بالإفراد (أنجوه) أي الحافر (ونجوا أنفسهم) بتشديد
الجيم من الغرق (وإن تركوه) يحفر (أهلكوه وأهلكوا أنفسهم).
ومن فوائد هذا الحديث: تبيين الحكم بضرب المثل ووقع في
الشركة من وجه آخر عن عامر وهو الشعبي: مثل القائم على
حدود الله والواقع فيها. قال في فتح الباري: وهو أصوب لأن
المدهن والواقع في الحكم واحد والقائم مقابله، وعند
الإسماعيلي في الشركة: مثل القائم على حدود الله والواقع
فيها والمرائي في ذلك، ووقع عنده هنا أيضًا مثل الواقع في
حدود الله والناهي عنها وهو المطابق للمثل المضروب فإنه لم
يقع فيه إلا ذكر فرقتين فقط، لكن إذا كان المدهن مشتركًا
في الذم مع الواقع فيها صار بمنزلة فرقة واحدة وبيان وجود
الفرق الثلاث في المثل المضروب أن الذين أرادوا خرق
السفينة بمنزلة الواقع في حدود الله ثم من عداهم إما منكر
وهو
(4/414)
القائم وإما ساكت وهو المدهن.
وهذا الحديث قد سبق في باب: هل يقرع في القسمة في الشركة؟.
2687 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ
زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ
أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ قَدْ
بَايَعَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَخْبَرَتْهُ: "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُ
سَهْمُهُ فِي السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتِ الأَنْصَارُ
سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ، قَالَتْ أُمُّ الْعَلاَءِ:
فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَاشْتَكَى
فَمَرَّضاهُ، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي
ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ
أَكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ
اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْتُ: لاَ أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَّا عُثْمَانُ
فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ، وَإِنِّي لأَرْجُو
لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي -وَأَنَا رَسُولُ
اللَّهِ- مَا يُفْعَلُ بِهِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لاَ
أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ.
قَالَتْ: فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي،
فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ذَلِكَ عَمَلُهُ".
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة الأموي مولاهم واسم أبيه دينار (عن
الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: حدّثني) بالإفراد،
ولأبي ذر: حدّثنا (خارجة بن زيد الأنصاري) أحد الفقهاء
السبعة التابعي الثقة (أن أم العلاء) بفتح العين ممدودًا
بنت الحرث بن ثابت يقال إنها أم خارجة الراوي عنها (امرأة)
بالنصب صفة للسابق (من نسائهم قد بايعت النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي عاقدته (أخبرته) في موضع
رفع خبر إن (أن عثمان بن مظعون) بفتح الميم وسكون الظاء
المعجمة وضم العين المهملة الجمحي القرشي (طار) أي وقع
(له) ولأبوي ذر والوقت: لهم (سهمه في السكنى حين اقترعت
الأنصار) وفي الفرع أقرعت الأنصار (سكنى المهاجرين) لما
دخلوا المدينة ولم يكن لهم مساكن (قالت أم العلاء: فسكن
عندنا عثمان بن مظعون فاشتكى) أي مرض (فمرضناه) بتشديد
الراء أي قمنا بأمره (حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه) أي
أكفانه بعد أن غسلناه (دخل علينا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت رحمة الله عليك) يا (أبا
السائب) بالسين المهملة كنية عثمان (فشهادتي عليك) أي لك
(لقد أكرمك الله فقال لي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(وما يدريك) بكسر الكاف أي من أين علمت (أن الله أكرمه)؟
(فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (أما عثمان
فقد جاءه والله اليقين) أي الموت (وإني لأرجو له الخير
والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به) أي بعثمان بن
مظعون وفي الجنائز في رواية غير الكشميهني ما يفعل بي وهو
موافق لقوله تعالى في سورة الأحقاف: {وما أدري ما يفعل بي
ولا بكم} [الأحقاف: 9] وسبق ما فيه ثم (قالت) أم العلاء:
(فوالله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا وأحزنني) بالواو ولأبي
ذر فأحزنني (ذلك) الذي قاله عليه الصلاة والسلام (قالت:
فنمت فأريت) بهمزة مضمومة فراء مكسورة، ولأبي ذر عن
الكشميهني: فرأيت (لعثمان عينًا لمجري فجئت إلى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرته) بما رأيت
لعثمان (فقال) عليه الصلاة والسلام (ذلك) بلام وكسر الكاف،
ولأبي الوقت بفتحها ولأبي ذر ذاك (عمله) قال الكرماني وقيل
إنما عبّر بالماء بالعمل وجريانه بجريانه لأن كل ميت يختم
على عمله إلا الذي مات مرابطًا فإن عمله ينمو إلى يوم
القيامة.
وهذا الحديث سبق في الجنائز ويأتي وإن شاء الله تعالى في
الهجرة والتفسير والتعبير.
2688 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله
عنها- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ
بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ
بِهَا مَعَهُ. وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ
مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا. غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ
بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا
لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) بكسر التاء المروزيّ
المجاور بمكة قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال:
(أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن
شهاب أنه (قال أخبرني) بالإفراد (عروة) بن الزبير بن
العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت): (كان
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أراد
سفرًا أقرع بين نسائه) تطييبًا لقلوبهنّ (فأيتهنّ خرج
سهمها) الذي باسمها منهن (خرج بها معه) في سفره (وكان يقسم
لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة) أم
المؤمنين -رضي الله عنها- (وهبت يومها وليلتها لعائشة)
-رضي الله عنها- (زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) حال كونها (تبتغي بذلك رضا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
وهذا الحديث قد سبق في الهبة.
2689 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنْ سُمَىٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَوْ
يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ
الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا
عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي
التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ
مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ
حَبْوًا».
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبي ذر: حدّثني (إسماعيل) بن
أبي أُويس عبد الله الأصبحي (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك)
الإمام الأعظم (عن سمي) بضم أوله وفتح الميم آخره تحتية
مشددة (مولى أبي بكر) أي ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام
(عن أبي صالح) ذكوان الزيات (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لو يعلم الناس ما في النداء) أي الأذان (و) ما في (الصف
الأول) الذي يلي الإمام من الخير والبركة (ثم لم يجدوا)
شيئًا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي (إلا أن يستهموا)
أي يقترعوا (عليه) أي على المذكور من الأذان
(4/415)
والصف الأول (لاستهموا) أي لاقترعوا عليه (ولو يعلمون ما
في التهجير) أي التبكير إلى الصلوات (لاستبقوا إليه ولو
يعلمون ما في) ثواب أداء صلاة (العتمة) أي العشاء في جماعة
(و) ثواب أداء صلاة (الصبح لأتوهما ولو حبوًا) على اليدين
والركبتين.
وقد سبق هذا الحديث في الأذان، وقد وقع في رواية أبوي ذر
والوقت حديث عمر بن حفص بن غياث المسوق هذا في هذا الباب
مؤخرًا هنا بعد قوله: "ولو حبوًا".
وغرض المؤلّف -رحمه الله- بسياق هذه الأحاديث الإشارة إلى
مشروعية القرعة لفصل النزاع عند التشاحح في حق ثبت لاثنين
فأكثر وتكون في الحقوق المتساوية وفي تعيين الملك، فمن
الأول الإمامة الكبرى إذا استووا في صفاتها، وفي الأذان
والصف الأول كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وفي
إمامة الصلاة، وكذا إذا تنازع أخوان وزوجتان في غسل الميت
ولا مرجح لأحدهما أقرع بينهما وكذا لو اجتمع اثنان في
الصلاة على الميت واستوت خصالهما المعروفة وتشاحًا، وكذا
لو سبق اثنان إلى مقعد من شارع وتنازعا فيه ولو جاءا إلى
معدن الظاهر ككبريت معًا أقرع ولو التقط لقيطًا معًا
واستويا في الخصال، ولو اجتمع أولياء في درجة واحدة
وتساووا في الصفات وتشاحوا وأراد كلٌّ منهم أن يزوج أقرع
أيضًا، وفي ابتداء القسم بين الزوجات والسفر ببعضهن كما في
حديث عائشة والحاضنات إذا كن في درجة واحدة وولاة القصاص
عند الاستواء، وكذا إذا ازدحم خصوم عند القاضي وجهل الأسبق
أو جاؤوا معًا، وكذا عند تعارض البيّنتين فيما إذا شهدت
بيّنة أنه أعتق في مرضه سالمًا وأخرى أنه أعتق غانمًا وكل
واحد منهما ثلث ماله واتحد تاريخ البيّنتين وإن أطلقتا قيل
يقرع والمذهب يعتق من كل نصفه ولو أعتق ثلاثة أو قسمة ما
لا يعظم ضرره بالأجزاء كمثلي من حبوب ودراهم وأدهان وغيرها
ودار متفقة أبنية وأرض مشتبهة الأجزاء فيجبر الممتنع عليها
فتعدل السهام كيلاً في المكيل أو وزنًا في الموزون أو
ذرعًا في المذروع بعدد الأنصباء إن استوت كالأثلاث لزيد
وعمرو وبكر، ويكتب في كل رقعة اسم شريك أو جزء مميز بحد أو
جهة وتدرّج في بنادق مستوية وزنًا وشكلاً من طين مجفّف أو
شمع ثم يخرج من لم يحضرها رقعة على الجزء الأول إن كتب
الأسماء فيعطى من خرج اسمه أو على اسم زيد إن كتب الأجزاء
فيعطى ذلك الجزء ويفعل كذلك في الرقعة الثانية فيخرجها على
الجزء الثاني أو على اسم عمرو وتتعين الثالثة للباقي إن
كانت ثلاثًا وتعين من يبتدأ به من الشركاء فإن اختلفت
الأنصباء كنصف وثلث وسدس في أرض جزّئت الأرض على أقل
السهام وهو السدس فتكون ستة أجزاء وقسمت كما سبق والله
أعلم. |