شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
56 - كتاب الجهاد والسير
بكسر السين المهملة وفتح التحتية وجاء في الفرع بفتح السين
وسكون التحتية جمع سيرة وهي
الطريقة، وأطلق ذلك على أبواب الجهاد لأنها متلقاة من
أحوال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي
غزواته. والجهاد:
بكسر الجيم مصدر جاهدت العدوّ مجاهدة وجهادًا وأصله جيهاد
كقيتال فخفف بحذف الياء وهو مشتق من الجهد بفتح الجيم وهو
التعب والمشقّة لما فيه من ارتكابها أو من الجهد بالضم وهو
الطاقة لأن كل واحد منهما بذل طاقته في دفع صاحبه، وهو في
الاصطلاح قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله،
ويطلق أيضًا على جهاد النفس والشيطان وهو من أعظم الجهاد،
والمراد بالترجمة الأول والأصل فيه قبل الإجماع آيات كقوله
تعالى: {كتب عليكم القتال} [البقرة: 216] {وقاتلوا
المشركين كافة} [التوبة: 36] وكان قبل الهجرة محرمًا ثم
أمر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعدها بقتال من
قاتله ثم أبيح الابتداء به في غير الأشهر الحرم ثم أمر به
مطلقًا.
ثم أن الجهاد قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية لأن
الكفار إن دخلوا بلادنا أو أسروا مسلمًا يتوقع فكّه ففرض
عين. وإن كان
(5/31)
ببلادهم ففرض كفاية، ويأتي البحث في ذلك إن
شاء الله تعالى في باب: وجوب النفير.
1 - باب فَضْلُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ
لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ, وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ
الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ -إِلَى قَوْلِهِ- وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْحُدُودُ الطَّاعَةُ.
(بسم الله الرحمن الرحيم). قدم النسفيّ البسملة وسقط كتاب
الترجمة لأبي ذر كما في الفرع وأصله.
(باب فضل الجهاد والسير). سقط لفظ باب لأبي ذر وحينئذ
فقوله فضل رفع بالابتداء.
(وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على المجرور أو بالرفع
ولأبي ذر عز وجل بدل قوله تعالى: ({إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}) أي طلب من
المؤمنين أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل
الله ليثيبهم الجنة، وذكر الشراء على وجه المثل لأن الأنفس
والأموال كلها لله وهي عندنا عارية، ولكنه قال أراد
التحريض والترغيب في الجهاد وهذا كقوله تعالى: {من ذا الذي
يقرض الله قرضًا حسنا} [البقرة: 245]. والباء في بأن
للمعاوضة وهذا من فضله تعالى وكرمه وإحسانه فإنه قبل العوض
عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له، ولذا قال
الحسن البصري: بايعهم الله فأغلى ثمنهم، وقال عبد الله بن
رواحة لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ليلة العقبة: أشترط لربك ولنفيك ما شئت. فقال: "أشترط لربي
أن تصدقوه ولا تشركوا به شيئًا وأشترط لنفسي أن تمنعوني
مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا: فما لنا إذا فعلنا
ذلك؟ قال: "الجنة" قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
فنزلت: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن
لهم الجنة}.
({يقاتلون في سبيل الله}) أي في طاعته مع العدوّ وهذا كما
قال الزمخشري في معنى الأمر أو هو بيان ما لأجله الشراء
({فيَقْتلون ويُقْتلون}) أي يقتلون العدوّ ويقتلهم ({وعدًا
عليه حقًّا}) مصدر مؤكد أي أن هذا الوعد الذي وعده
للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته ({في التوراة
والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله}) مبالغة في
الإنجاز وتقرير لكونه حقًّا. ({فاستبشروا ببيعكم الذي
بايعتم به}) [التوبة: 111، 112]. أي فافرحوا به غاية الفرح
فإنه أوجب لكم عظائم المطالب وذلك هو الثواب الوافر، (-إلى
قوله- {وبشر المؤمنين}) [التوبة: 112] أي الموصوفين بتلك
الفضائل من التوبة والعبادة والصوم وغير ذلك مما في الآية،
وساق في رواية أبي ذر إلى قوله: {وعدًا عليه حقًّا} ثم قال
إلى قوله: {والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} وللنسفي
وابن شبويه: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة} الآيتين إلى قوله: {وبشر المؤمنين} وساق في
رواية الأصيلي وكريمة الآيتين جميعًا قاله في فتح الباري.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله ابن أبي حاتم
في تفسير قوله تعالى: {تلك حدود الله} [البقرة: 187].
(الحدود الطاعة). وكأنه تفسير باللازم لأن من أطاع الله
وقف عند امتثال أمره واجتناب نهيه.
2782 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ
قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْعَيْزَارِ ذَكَرَ عَنْ
أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: "سَأَلْتُ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:
الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟
قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟
قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَسَكَتُّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (الحسن بن
صباح) بتشديد الموحدة البزار آخره راء أبو علي الواسطي
قال: (حدّثنا محمد بن سابق) التميمي البزار الكوفي نزيل
بغداد قال: (حدّثنا مالك بن مغول) بكسر الميم وسكون الغين
المعجمة وفتح الواو الكوفي (قال: سمعت الوليد بن العيزار)
بفتح العين المهملة وسكون التحتية وبالزاي وبعد الألف راء
ابن حريث العبدي الكوفي (ذكر عن أبي عمرو) بفتح العين سعد
بن أياس (الشيباني) بالشين المعجمة المفتوحة أنه (قال: قال
عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: سألت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلت يا رسول الله أي العمل
أفضل؟ قال:
(الصلاة على ميقاتها) على بمعنى في لأن الوقت ظرف لها
(قلت: ثم أيّ)؟ بالتشديد منوّنًا.
قال ابن الخشاب: لا يجوز غيره لأنه اسم معرب غير مضاف وسبق
زيادة بحث في هذا في المواقيت (قال): عليه الصلاة والسلام
(ثم برّ الوالدين) أي بالإحسان إليهما وترك عقوقهما (قلت:
ثم أيّ؟ قال): (الجهاد في سبيل الله) بالنفس والمال، وإنما
خصّ هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان على ما سواها من
الطاعات لأن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها
كان لما سواها أضيع.
قال ابن مسعود (فسكت عن) سؤال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حينئذ (ولو استزدته) أي طلبت منه
الزيادة في السؤال (لزادني) في الجواب.
وهذا الحديث
(5/32)
قد سبق في المواقيت من كتاب الصلاة.
2783 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ:
حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ هِجْرَةَ
بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا
اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".
وبه قال: (حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
يحيى بن سعيد) القطان قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (قال:
حدّثني) بالإفراد (منصور) هو ابن المعتمر (عن مجاهد) هو
ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة المخزومي مولاهم المكي
الإمام في التفسير (عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما-)
أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أي يوم فتح مكة سنة ثمان.
(لا هجرة) واجبة من مكة إلى المدينة (بعد الفتح) أي فتح
مكة للاستغناء عن ذلك إذ كان معظم الخوف من أهلها فأمر
المسلمون أن يقيموا في أوطانهم، والمراد لا هجرة بعد الفتح
لمن لم يكن هاجر بدليل الحديث الآخر يقيم المهاجر ثلاثًا
بعد قضاء الحج (ولكن جهاد) في الكفار (ونيّة)، في الخير
يحصلون بهما الفضائل التي في معنى الهجرة، وقال النووي:
معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة لكن
حصلوه بالجهاد والنية الصالحة قال: وفيه حثّ على نيّة
الخير وأنه
يثاب عليها (إذا) بالواو. ولأبي ذر عن الحموي والمستملي:
فإذا (استنفرتم) بضم التاء وكسر الفاء (فانفروا) بهمزة وصل
وكسر الفاء أيضًا أي إذا طلبكم الإمام إلى الخروج إلى
الغزو فاخرجوا إليه.
وهذا دليل على أن الجهاد ليس فرض عين بل فرض كفاية.
وهذا الحديث سبق في كتاب الحج في باب: لا يحل القتال بمكة.
2784 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ
حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ
بِنْتِ طَلْحَةَ "عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ
الْعَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَكِنَّ أَفْضَلَ
الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) بالسين وتشديد الدال الأولى
المهملات ابن مسرهد قال: (حدّثنا خالد) هو ابن عبد الله
الطحان قال: (حدّثنا حبيب بن أبي عمرة) بفتح العين وسكون
الميم الأسدي القصاب (عن عائشة بنت طلحة) التيمية القرشية
(عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله نرى)
بضم النون وفي نسخة بفتحها وفي أخرى بمثناة فوقية مضمومة
وهي التي في الفرع وأصله أي نظن أو نعتقد (الجهاد أفضل
العمل)، وللنسائي من رواية جرير عن حبيب: فإني لا أرى في
القرآن أفضل من الجهاد (أفلا نجاهد؟ قال):
(لكن أفضل الجهاد) بضم الكاف وتشديد النون لأبي ذر ولغيره
لكن بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها أفضل الجهاد بنصب أفضل
بلكن (حج مبرور) خبر مبتدأ محذوف أي هو حج.
وهذا الحديث قد سبق في الحج.
2785 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا
عَفَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
جُحَادَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَصِينٍ أَنَّ
ذَكْوَانَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله
عنه- حَدَّثَهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ. قَالَ: لاَ
أَجِدُهُ. قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ
الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ
تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ؟ قَالَ: وَمَنْ
يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ
الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ، فَيُكْتَبُ لَهُ
حَسَنَاتٍ".
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن منصور) وسقط لأبي ذر ابن منصور
قال: (أخبرنا عفان) بن مسلم الصفار قال: (حدّثنا همام)
بتشديد الميم الأولى ابن يحيى بن دينار العوذي الشيباني
قال: (حدّثنا محمد بن جحادة) بجيم مضمومة فحاء مهملة مخففة
الأيامى (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو حصين) بفتح الحاء
وكسر الصاد المهملتين عثمان بن عاصم الأسدي (أن ذكوان)
الزيات (حدّثه أن أبا هريرة رضي الله عنه حدّثه قال: جاء
رجل) قال ابن حجر: لم أقف على اسمه (إلى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: دلّني) بفتح اللام (على
عمل يعدل الجهاد) أي يساويه ويماثله. (قال): عليه الصلاة
والسلام:
(لا أجده) أي لا أجد العمل الذي يعدل الجهاد ثم (قال) عليه
الصلاة والسلام مستأنفًا: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن
تدخل مسجدك فتقوم) بالنصب عطفًا على أن تدخل (ولا تفتر
وتصوم ولا تفطر) بنصبهن عطفًا على السابق (قال): الرجل
(ومن يستطيع ذلك)؟
(قال أبو هريرة): موقوفًا عليه، وسيأتي إن شاء الله تعالى
في باب الخيل ثلاثة من طريق زيد بن أسلم عن أبي صالح
مرفوعًا: (إن فرس المجاهد ليستنّ) من الاستنان وهو العدو،
وقال الجوهري هو أن يرفع يديه ويطرحهما معًا (في طوله)،
بكسر الطاء المهملة وفتح الواو وحبله المشدود به المطوّل
له ليرعى وهو بيد صاحبه (فيكتب له حسنات). أي فيكتب له
استنانه حسنات فالضمير راجع إلى المصدر الذي دل عليه
ليستنّ فهو مثل: اعدلوا هو أقرب للتقوى وحسنات نصب على أنه
مفعول ثانٍ.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في الجهاد أيضًا.
2 - باب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ
وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12].
هذا (باب) بالتنوين (أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في
سبيل الله) ولغير الكشميهني مجاهد بالميم صفة لمؤمن.
(وقوله تعالى): بالرفع عطفًا
(5/33)
على أفضل ({يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم
على تجارة}) استفهام في اللفظ إيجاب في المعنى ({تنجيكم})
تخلصكم ({من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في
سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}) استئناف مبين للتجارة وهو
الأجمع بين الإيمان والجهاد والمراد به الأمر وإنما جيء به
بلفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال كأنها وجدت وحصلت
({ذلكم}) أي ما ذر من الإيمان والجهاد ({خير لكم}) في
أنفسكم وأموالكم ({إن كنتم تعلمون}) العلم ({يغفر لكم
ذنوبكم}) جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر قال القاضي:
ويبعد جعله جوابًا لهل أدلكم لأن مجرد دلالته لا يوجب
المغفرة ({ويدخلكم}) عطف على يغفر لكم ({جنات تجري من
تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك}) ما ذكر من
المغفرة وإدخال الجنة ({الفوز العظيم}) [الصف: 10 - 12].
وفي نسخة بعد قوله من {عذاب أليم} إلى {الفوز العظيم}.
2786 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ
اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رضي الله
عنه- حَدَّثَهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ
النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مُؤْمِنٌ
يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ.
قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ
الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ
شَرِّهِ". [الحديث 2786 - طرفه في: 6494].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (عطاء بن يزيد) من الزيادة
(الليثي) بالمثلثة (أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه-
حدّثه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل)؟ قال في
الفتح: لم أقف على اسم السائل، وقد سبق أن أبا ذر سأل عن
نحو ذلك، وللحاكم: أي الناس أكمل إيمانًا؟ (فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(مؤمن) أي أفضل الناس مؤمن (يجاهد في سبيل الله بنفسه
وماله). لما فيه من بذلهما لله مع
النفع المتعدي، وعند النسائي: إن من خير الناس رجلاً عمل
في سبيل الله على ظهر فرسه بمن
التبعيضية وذلك يقوي قول من قال أن قوله مؤمن يجاهد
المقدّر بقوله أفضل الناس مؤمن يجاهد عام
مخصوص وتقديره من أفضل الناس لأن العلماء الذين حملوا
الناس على الشرائع والسُّنن وقادوهم إلى
الخير أفضل وكذا الصديقون. (قالوا: ثم من)؟ يلي المؤمن
المجاهد في الفضل (قال): عليه الصلاة
والسلام (مؤمن) أي ثم يليه مؤمن (في شعب من الشعاب) بكسر
الشين المعجمة وسكون العين
المهملة في الأول وفتحها في الثاني آخره موحدة هو ما انفرج
بين الجبلين وليس بقيد بل على سبيل
المثال. والغالب على الشعاب الخلوّ عن الناس فلذا مثل بها
للعزلة والانفراد فكل مكان يبعد عن
الناس فهو داخل في هذا المعنى كالمساجد والبيوت ولمسلم من
طريق معمر عن الزهري: رجل
معتزل (يتقي الله ويدع الناس من شره) وفيه فضل العزلة لما
فيها من السلامة من الغيبة واللغو
ونحوهما وهو مقيد بوقوع الفتنة.
وفي حديث بعجة بفتح الموحدة والجيم بينهما عين مهملة ساكنة
ابن عبد الله عن أبي هريرة مرفوعًا: "يأتي على الناس زمان
يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله
يطلب الموت في مظانه ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم
الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويدع الناس إلا من خير". رواه مسلم
وابن حبان.
وروى البيهقي في الزهد عن أبي هريرة مرفوعًا: "يأتي على
الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من هرب بدينه من شاهق
إلى شاهق ومن حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا
بسخط الله فإذا كان ذلك كذلك كان هلاك الرجل على يد زوجته
وولده فإن لم يكن له زوجة ولا ولد كان هلاكه على يد أبويه
فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يد قرابته أو الجيران".
قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "يعيرونه بضيق المعيشة
فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها نفسه". أما عند
عدم الفتنة فمذهب الجمهور أن الاختلاط أفضل لحديث الترمذي:
المؤمن الذي يخال الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من
الذي لا يخال الناس ولا يصبر على أذاهم.
وحديث الباب أخرجه البخاري أيضًا في الرقاق، ومسلم وأبو
داود في الجهاد، وابن ماجه في الفتن.
2787 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: "سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
-وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ-
كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ. وَتَوَكَّلَ اللَّهُ
لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ
يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ
أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي هريرة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه
(قال: أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب أن أبا هريرة)
-رضي الله عنه- (قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(5/34)
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي قال:
(مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله)
أي الله أعلم بعقد نيّته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك
المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا
واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا والجملة
معترضة بين قوله مثل المجاهد في سبيل الله وبين قوله:
(-كمثل الصائم) نهاره (القائم-) ليله، وزاد مسلم من طريق
أبي صالح عن أبي هريرة: "كمثل الصائم القائم القانت بآيات
الله لا يفتر من صيام ولا صلاة" وزاد النسائي من هذا
الوجه: "الخاشع الراكع الساجد" ومثله بالصائم لأن الصائم
ممسك لنفسه عن الأكل والشرب واللذات، وكذلك المجاهد ممسلك
لنفسه على محاربة العدوّ وحابس نفسه على من يقاتله وكما أن
الصائم القائم الذي لا يفتر ساعة من العبادة مستمرًّا
الأجر كذلك المجاهد لا يضيع ساعة من ساعاته بغير أجر. قال
تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة} إلى
قوله: {إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر
المحسنين} [التوبة: 120].
(وتوكل الله) أي تكفل الله تعالى على وجه الفضل منه
(للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة) أي بتوفيه
بدخوله الجنة في الحال بغير حساب ولا عذاب كما ورد: إن
أرواح الشهداء تسرح في الجنة (أو يرجعه) بفتح أوّله أي أو
أن يرجعه إلى مسكنه حال كونه (سالمًا مع أجر) وحده (أو
غنيمة) مع أجر وحذف الأجر من الثاني للعلم به إذ لا يخلو
المجاهد عنه فالقضية مانعة الخلو لا مانعة الجمع أو لنقصه
بالنسبة إلى الأجر الذي بدون الغنيمة إذ القواعد تقتضي
بأنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرًا عند وجودها. وقد
روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "ما
من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلاّ تعجلوا
ثلثي أجرهم ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم
أجرهم" فهذا صريح ببقاء بعض الأجر مع حصول الغنيمة فتكون
الغنيمة في مقابلة جزء من ثواب الغزو.
وفي التعبير بثلثي الأجر حكمة لطيفة، وذلك أن الله تعالى
أعدّ للمجاهد ثلاث كرامات:
دنيويتان وأُخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة،
والأخروية دخول الجنة، فإذا رجع سالمًا غانمًا فقد حصل له
ثلثا ما أعدّ الله له وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع
بغير غنيمة عوّضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته،
وليس المراد ظاهر حديث الباب أنه إذا غنم لا يحصل له أجر،
وقيل إن أو بمعنى الواو وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي
ورجحه التوربشتي في شرحه للمصابيح والتقدير بأجر وغنيمة،
وكذا رواه مسلم بالواو وفي بعض رواياته، ورواه الفريابي
وجماعة عن يحيى بن يحيى بصيغة أو، وكذا مالك في موطئه ولم
يختلف عليه إلا في رواية يحيى بن بكير عنه بالواو، ولكن في
رواية ابن بكير عن مالك مقال وكذا وقع عند النسائي وأبي
داود بإسناد صحيح، فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين
القول بأن "أو" في هذا الحديث بمعنى "الواو" كما هو مذهب
نحاة الكوفة، لكن استشكله ابن دقيق العيد من حيث أنه إذا
كان المعنى يقتضي اجتماع الأمرين كان ذلك داخلاً في الضمان
فيقتضي أنه لا بدّ من حصول الأمرين لهذا المجاهد وقد لا
يتفق له ذلك فما فرّ منه الذي ادّعى أن "أو" بمعنى الواو
وقع في نظيره لأنه يلزم على ظاهرها أن من رجع بغنيمة رجع
بغير أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو وأن كل غاز يجمع
له بين الأجر والغنيمة معًا.
وأجاب في المصابيح: بأنه إنما يرد الإشكال إذا كان القائل
بأنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله
الأجر إن فاتته الغنيمة إلى آخره، وأما إن سكت عن هذا
التفسير فلا يتجه الإشكال إذ يحتمل أن يكون التقدير أو
يرجعه سالمًا مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مرّ والتقسيم
بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل
بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة،
وإن حصلت فلا لم يرد الإشكال المذكور عليه لاحتمال أن يكون
تنكير الأجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى
قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت
(5/35)
فلا يحصل له ذلك الأجر المخصوص وهو الكامل
فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه اهـ.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في الجهاد أيضًا.
3 - باب الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ
لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي
بَلَدِ رَسُولِكَ.
(باب الدعاء بالجهاد) كأن يقول: اللهم اجعلني من المجاهدين
في سبيلك (والشهادة) أي والدعاء بالشهادة (للرجال والنساء)
كأن يقول: اللهمّ ارزقنا الشهادة في سبيلك. (وقال عمر): بن
الخطاب -رضي الله عنه- مما سبق موصولاً بأتم منه في آخر
كتاب الحج (ارزقني) ولأبي ذر عن الكشميهني: اللهم ارزقني
قتلاً في سبيلك ووفاة في بلد نبيك. الحديث.
2788 و 2789 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-
أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ
بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ
تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَأَطْعَمَتْهُ وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ. قَالَتْ: فَقُلْتُ:
وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ
أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى
الأَسِرَّةِ -أَوْ مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ،
شَكَّ إِسْحَاقُ- قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ , فَدَعَا لَهَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ
يَضْحَكُ. فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِي
سَبِيلِ اللَّهِ -كَمَا قَالَ فِي الأَوَّلِ- قَالَتْ:
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ
يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ.
فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ
مِنَ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ". [الحديث 2788 - أطرافه في:
2799، 2877، 2894، 6282، 7001]. [الحديث 2789 - أطرافه في:
2800، 2878، 2895، 2924 , 6283، 7002].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (عن مالك)
الإمام الأعظم (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس
بن مالك -رضي الله عنه- أنه سمعه يقول: كان رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدخل على أم حرام)
بفتح الحاء والراء المهملتين (بنت ملحان) بكسر الميم وسكون
اللام وبالحاء المهملة وبعد الألف نون وهي أخت أم سليم
وخالة أنس بن مالك (فتطعمه) مما في بيتها من الطعام (وكانت
أم حرام تحت عبادة بن الصامت)، الأنصاري أي زوجًا له.
(فدخل عليها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) يومًا (فأطعمته وجعلت تفلي رأسه)، بفتح
المثناة الفوقية وإسكان الفاء وكسر اللام من فلى يفلي من
باب ضرب يضرب يعني تفتش شعر رأسه لتستخرج هوامه، وإنما
كانت تفلي رأسه لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاته لأن
أم عبد المطلب كانت من بني النجار، وقيل: كانت إحدى خالاته
عليه الصلاة والسلام من الرضاعة. قال ابن عبد البر: فأيّ
ذلك كان فأم حرام محرم منه. ونقل النووي الإجماع على ذلك
قال: وإنما اختلفوا هل ذلك من النسب أو الرضاع وصوّب بعضهم
أنه لا محرمية بينهما كما بيّنه الحافظ الدمياطي في جزء
أفرده لذلك قال: وليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها
فلعل ذلك كان مع ولد أو زوج أو خادم أو تابع والعادة تقتضي
المخالطة بين المخدوم وأهل الخادم لا سيما إذا كنّ مُسنّات
مع ما ثبت له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من
العصمة أو هو من خصائصه عليه الصلاة والسلام (فنام رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عندها (ثم
استيقظ وهو يضحك) فرحًا وسرورًا لكون أمته تبقى بعده
متظاهرة أمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر والجملة
حالية (قالت) أم حرام (فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟
قال):
(ناس من أمتي عرضوا عليّ) حال
(5/36)
كونهم (غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا
البحر) بمثلثة فموحدة مفتوحتين فجيم وسطه أو معظمه أو هوله
أقوال (ملوكًا) نصب بنزع الخافض أي مثل ملوك (على الأسرّة)
أي في الجنة كما قاله ابن عبد البر. قال النووي: والأصح
أنه صفة لهم في الدنيا أي يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم
واستقامة أمرهم (أو) قال (مثل الملوك على الأسرّة) (شك
إسحاق) بن عبد الله بن أبي طلحة (قالت فقلت: يا رسول الله،
ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). وهذا ظاهر فيما ترجم له
المؤلّف في حق النساء ويؤخذ منه حكم الرجال بطريق الأولى،
ولا يقال لا مطابقة بينهما لأنه ليس في الحديث تمني
الشهادة وإنما فيه تمني الغزو ولأن الشهادة هي الثمرة
العظمى المطلوبة في الغزو.
واستشكل الدعاء بالشهادة إذ حاصله أن يدعو الله تعالى أن
يمكن منه كافرًا يعصي الله بقتله فيقل عدد المسلمين ويدخل
السرور على قلوب المشركين، ومقتضى القواعد الفقهية أن لا
يتمنى معصية الله لنفسه ولا لغيره. وأجاب ابن المنير: بأن
المدعو به قصدًا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المعدة
للشهداء وأما قتل الكافر للمسلم فليس بمقصود للداعي وإنما
هو من ضرورات الوجود لأن الله قد أجرى حكمه أن لا ينال تلك
الدرجة إلا شهيدًا.
(ثم وضع) عليه الصلاة والسلام (رأسه) الشريف ثانيًا فنام
(ثم استيقظ وهو يضحك فقلت: وما يضحكك يا رسول الله)؟ وسقطت
الواو من قوله وما لأبي ذر (قال): (ناس من أمتي عرضوا
عليّ) حال كونهم (غزاة في سبيل الله) قيل أي يركبون البرّ
(كما قال في الأول) ملوكًا على الأسرّة، ولأبي ذر: في
الأولى بالتأنيث. (قالت فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن
يجعلني منهم، قال: (أنت من الأولين) الذين يركبون ثبج
البحر (فركبت البحر زمن معاوية ابن أبي سفيان) مع زوجها في
أول غزوة كانت إلى الروم مع معاوية زمن عثمان بن عفان سنة
ثمان وعشرين وهذا قول أكثر أهل السِّيَر. وقال البخاري
ومسلم في زمان معاوية فعلى الأول يكون المراد زمان غزو
معاوية في البحر لا زمان خلافته (فصرعت عن دابتها حين خرجت
من البحر فهلكت). في الطريق لما رجعوا من غزوهم بغير
مباشرة للقتال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من قتل في
سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد". رواه
مسلم، وروى أبو داود من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعًا:
"من رقصته فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه
فهو شهيد". وقال تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى
الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}
[النساء: 100].
وحديث الباب أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد وكذا أبو داود
والترمذي والنسائي والله أعلم.
4 - باب دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
يُقَالُ هَذِهِ سَبِيلِي، وَهَذَا سَبِيلِي
قَالَ أَبُو عَبْدُ اللهِ: غُزًّا وَاحِدُهَا غَازٍ. هُمْ
دَرَجَاتٌ: لَهُمْ دَرَجَات.
(باب درجات المجاهدين في سبيل الله. يقال هذه سبيلي، وهذا
سبيلي) يريد المؤلّف أن السبيل يؤنث ويذكر وبذلك جزم
الفرّاء (قال أبو عبد الله): البخاري (غُزًّا) بضم المعجمة
وتشديد الزاي (وأحدها غازٍ هم درجات) أي (لهم درجات) أي
منازل قاله أبو عبيدة، وقال غيره أي وهم ذوو درجات وثبت
قوله قال أبو عبد الله: إلى آخره. في رواية أبي ذر عن
الحموي والمستملي.
2790 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:
قَالَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ
وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ
يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ
جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ:
إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ
لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ
الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ
فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ
-أُرَاهُ قَالَ: وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ- وَمِنْهُ
تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ «وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ».
[الحديث 2790 - طرفه في: 7423].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن صالح) الوحاظي الشامي قال:
(حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام وبعد التحتية الساكنة
حاء مهملة عبد الملك بن سليمان (عن هلال بن عليّ) الفهري
المدني (من عطاء بن يسار) بالتحتية والمهملة المخففة
الهلالي المدني (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال:
قال رسول الله) ولأبي ذر: قال النبي (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة
وصام رمضان) لم يذكر الزكاة والحج ولعله سقط من أحد رواته،
وقد ثبت الحج في الترمذي في حديث معاذ بن جبل وقال فيه:
ولا أدري أذكر الزكاة أم لا. وأيضًا فإن الحديث لم يذكر
لبيان الأركان فكأن الاقتصار على ما ذكر إن كان محفوظًا
لأنه هو المتكرر غالبًا وأما الزكاة فلا تجب إلا على من له
مال بشرطه والحج لا يجب إلا مرة على التراخي.
(كان حقًّا على الله) بطريق الفضل والكرم لا بطريق الوجوب
(أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي
ولد فيها). وفي نسخة: في بيته الذي ولد فيه وفيه تأنيس لمن
حرم الجهاد وأنه ليس محرومًا من الأجر بل له من الإيمان
والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة وإن قصر عن درجة
المجاهدين. (فقالوا: يا رسول الله) في الترمذي أن الذي
خاطبه بذلك هو معاذ بن جبل، وعند الطبراني: وأبو الدرداء
(أفلا نبشر الناس)؟ بذلك (قال): (إن في الجنة مائة درجة
أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما
بين السماء والأرض) قال الطيبي وتبعه الكرماني: لما سوى
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين الجهاد
وبين عدمه وهو المراد بالجلوس في أرضه التي ولد فيها في
دخول المؤمن
بالله ورسوله المقيم للصلاة الصائم لرمضان في الجنة استدرك
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قوله الأول بقوله
الثاني: إن في الجنة مائة درجة إلى آخره، وتعقب بأن
التسوية ليست على عمومها وإنما هي في أصل دخول الجنة لا في
تفاوت الدرجات كما مرّ.
وقال الطيبي في شرح المشكاة: هذا الجواب من الأسلوب الحكيم
أي بشرهم بدخول الجنة بالإيمان والصوم والصلاة ولا تكتف
بذلك بل زد على تلك البشارة بشارة أخرى وهي الفوز بدرجات
الشهداء فضلاً من الله ولا تقنع بذلك أيضًا بل بشّرهم
بالفردوس الذي هو أعلى، وتعقبه في فتح الباري فقال: لو لم
يرد الحديث إلا كما وقع هنا (كان) ما قال متجهًا، لكن ورد
في الحديث زيادة دلّت على أن قوله إن في الجنة مائة درجة
تعليل لتلك
(5/37)
البشارة المذكورة فعند الترمذي من رواية
معاذ قلت: يا رسول الله ألا أخبر الناس؟ قال: "ذر الناس
يعملوا فإن في الجنة مائة درجة" فظهر أن المراد لا تبشر
الناس بما ذكرته من دخول الجنة لمن آمن وعمل الأعمال
المفروضة عليه فيقفوا عند ذلك ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل
منه من الدرجات التي تحصل في الجهاد، وهذه هي النكتة في
قوله: أعدها الله للمجاهدين، وتعقبه العيني بأن قوله: لكن
وردت في الحديث زيادة على آخره غير مسلم لأن الزيادة
المذكورة في حديث معاذ بن جبل وكلام الطيبي وغيره في حديث
أبي هريرة وكل واحد من الحديثين مستقل بذاته، والراوي
مختلف فكيف يكون ما في حديث معاذ تعليلاً لما في حديث أبي
هريرة على أن حديث معاذ لا يعادل حديث أبي هريرة ولا
يدانيه فإن عطاء بن يسار لم يدرك معاذًا اهـ.
وهذا الذي قاله العيني ليس مانعًا مما ذكره الحافظ ابن حجر
فالحديث يبيّن بعضه بعضًا وإن تباينت طرقه واختلفت مخارجه
ورواته على ما لا يخفى.
(فإن سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة) أي
أفضلها (وأعلى الجنة). يعني أرفعها.
وقال ابن حيان: المراد بالأوسط السعة، وبالأعلى الفوقية.
قال يحيى بن صالح شيخ البخاري (أراه) بضم الهمزة أي أظنه
(قال: وفوقه عرش الرحمن) بفتح القاف قيل وقيده الأصيلي
بضمها، ولم يصححه ابن قرقول بل قال: إنه وهم عليه. قال في
المصابيح: ووجهه أن فوق من الظروف الملازمة للظرفية فلا
تستعمل غير منصوبة أصلاً والضمير المضاف إليه فوق ظاهر
التركيب عوده إلى الفردوس، وقال السفاقسي: راجع إلى الجنة
كلها. قال في المصابيح: والتذكير حينئذ باعتبار كون الجنة
مكانًا وإلاّ فمقتضى الظاهر على ذلك أن يقال وفوقها.
(ومنه) أي من الفردوس (تفجر أنهار الجنة) الأربعة المذكورة
في قوله تعالى: {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن
أبي يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل
مصفى} [محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 15].
وأصل تفجر تتفجر فحذفت إحدى التائين تخفيفًا وقيل الفردوس
مستنزه أهل الجنة، وفي الترمذي هو ربوة الجنة.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في التوحيد والترمذي.
(قال محمد بن فليح) فيما وصله في التوحيد (عن أبيه) فليح
(وفوقه عرش الرحمن) فلم يشك كما شك يحيى بن صالح حيث قال:
أراه.
2791 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا
أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: "قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: رَأَيْتُ
اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي
الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ
وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَال
أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ".
وبه قال: (حدّثنا موسى) بن إسماعيل التبوذكي قال: (حدّثنا
جرير) هو ابن حازم قال: (حدّثنا أبو رجاء) عمران بن ملحان
العطاردي البصري (عن سمرة) أي ابن جندب -رضي الله عنه- أنه
(قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(رأيت الليلة رجلين) أي ملكين وهما جبريل وميكائيل (أتيا
فصعدا بي الشجرة فأدخلاني) بالفاء ولأبي ذر وأدخلاني
(دارًا هي أحسن وأفضل) أي من الأولى المذكورة في هذا
الحديث المسوق مطوّلاً في الجنائز حيث قال: وأدخلاني دارًا
لم أرَ قط أحسن منها فيها رجال وشيوخ وشباب ونساء وصبيان،
ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة وأدخلاني دارًا هي أحسن
وأفضل (لم أرَ قطّ أحسن منها، قالا) أي الملكان ولأبي ذر
عن المستملي قال: (أما هذه الدار فدار الشهداء) وهو يدل
على أن منازل الشهداء أرفع المنازل.
5 - باب الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
(باب الغدوة والروحة في سبيل الله)، بفتح الغين المعجمة
المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أي وقت كان من أوّل
النهار إلى انتصافه والروحة بفتح الراء المرة الواحدة من
الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها
(وقاب قوس أحدكم من الجنة) بجر قاب عطفًا على الغدوة
المجرورة بالإضافة وبالرفع على الاستئناف ما بين الوتر
والقوس، أو قدر طولها، أو ما بين السية والمقبض، أو قدر
ذراع أو ذراع يقاس به فكأن المعنى بيان فضل قدر الذراع من
الجنة، ولأبي ذر عن الكشمميهني: في الجنة.
2792 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
-رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ
رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». [الحديث
2792 - طرفاه في: 2796، 6568].
وبه قال: (حدّثنا معلى بن أسد) العمي البصري قال: (حدّثنا
وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد البصري قال: (حدّثنا
حميد) هو الطويل (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ
(5/38)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه (قال):
(لغدوة في سبيل الله) مبتدأ تخصص بالصفة وهي قوله في سبيل
الله والتقدير لغدوة كائنة في سبيل الله واللام في لغدوة
للتأكيد. وقال ابن حجر: للقسم، ولأبي ذر عن الكشميهني:
الغدوة في سبيل الله (أو روحة) عطف عليه وأو للتقسيم أي
لخرجة واحدة في الجهاد من أوّل النهار أو آخره (خير من
الدنيا وما فيها). أي ثواب ذلك الزمن القليل في الجنة خير
من الدنيا وما اشتملت عليه، وكذا قوله: لقاب قوس أحدكم أي
ما صغر في الجنة من الموضع كلها بساتينها وأرضها فأخبر أن
قصير الزمان وصغير المكان في الجنة خير من طويل الزمان
وكبير المكان في الدنيا تزهيدًا وتصغيرًا لها وترغيبًا في
الجهاد، فينبغي أن يغتبط صاحب الغدوة والروحة بغدوته
وروحته أكثر مما يغتبط أن لو حصلت له الدنيا بحذافيرها
نعيمًا محضًا غير محاسب عليه مع أن هذا لا يتصور.
وهذا الحديث من هذا الوجه من أفراد البخاري.
2793 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: "لَقَابُ قَوْسٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا
تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ. وَقَالَ:
لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ
مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ». [الحديث
2793 - طرفه في: 3253].
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) الحزامي بالحاء
المهملة والزاي الأسدي قال: (حدّثنا محمد ابن فليح قال:
حدّثني) بالإفراد (أبي) فليح اسمه عبد الملك بن سليمان (عن
هلال بن علي) الفهري المدني (عن عبد الرحمن بن أبي عمرة)
بفتح العين وسكون الميم الأنصاري واسم أبي عمرو بن محصن
(عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لقاب قوس) مبتدأ واللام للتأكيد (في الجنة) صفة لقاب قوس
(خير مما عليه تطلع الشمس وتغرب) لا تدخل الجنة مع الدنيا
تحت أفضل إلا كما يقال: العسل أحلى من الخل، والغدوة أو
الروحة في سبيل الله وثوابها خير من نعيم الدنيا كلها لو
ملكها وتصور تنعمه بها كلها لأنه زائل ونعيم الآخرة باقٍ
(وقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لغدوة)
ولأبي ذر: الغدوة (أو روحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه
الشمس وتغرب).
2794 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه-
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَفْضَلُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». [الحديث 2794 -
أطرافه في: 2892، 3250، 6415].
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بن عقبة قال: (حدّثنا سفيان)
الثوري (عن أبي حازم) سلمة بن دينار المدني (عن سهل بن
سعد) الساعدي (-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الروحة والغدوة) ولمسلم من طريق وكيع عن سفيان غدوة أو
روحة (في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها) وهو معنى
تطلع عليه الشمس وتغرب، وقد يقال: إن بينهما تفاوتًا فإن
حديث: وما فيها يشمل ما تحت طباقها مما أودعه الله تعالى
فيها من الكنوز وغيرها، وحديث: ما طلعت عليه الشمس وغربت
يشمل ما تطلع وتغرب عليه من بعض السماوات لأنها في الرابعة
أو السابعة على الخلاف وللمتكلمين قولان في حقيقة الدنيا
أحدهما: أنها ما على الأرض من الهواء والجوّ، والثاني:
أنها كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار
الآخرة، والحاصل من أحاديث هذا الباب أن المراد تسهيل أمر
الدنيا وتعظيم أمر الجهاد وأن من حصل له من الجنة قدر سوط
يصير كأنه حصل له أعظم من جميع ما في الدنيا فكيف بمن حصل
له منها أعلى الدرجات.
6 - باب الْحُورُ الْعِينُ وَصِفَتُهُنَّ
يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ. شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ،
شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ. وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ:
أَنْكَحْنَاهُمْ.
(باب) بيان (الحور العين و) بيان (صفتهن) وسقط لفظ: باب في
رواية أبي ذر وحينئذٍ فالثلاثة بالرفع فالحور مبتدأ والعين
وصف له وصفتهن عطف على المبتدأ والخبر محذوف أي صفتهن ما
نذكره والحور بضم الحاء وسكون الواو وتحرك. قال في
القاموس: أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها وتستدير
حدقتها وترقّ جفونها ويبيض ما حواليها أو شدة بياضها
وسوادها في شدة بياض الجسد أو اسوداد العين كلها مثل
الظباء ولا يكون في بني آدم بل يستعار لها والعين بكسر
العين جمع عيناء (يحار فيها الطرف) أي يتحير فيها البصر
لحسنها (شديدة سواد العين، شديدة بياض العين) كأنه يريد
تفسير العين بالكسر، وبه قال أبو عبيدة. وقال في القاموس:
وعين كفرح عينًا وعينة بالكسر عظم سواد عينه في سعة فهو
أعين (وزوجناهم بحور) أي: (أنكحناهم). قاله أبو عبيدة وسقط
لغير أبي ذر بحور.
2795 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى
الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلاَّ
الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ،
فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجَعَ إِلَى الدُّنْيَا
فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى». [الحديث 2795 - طرفه في:
2817].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) الجعفي المسندي قال:
(حدّثنا معاوية بن عمرو) بفتح العين الأزدي البغدادي
(5/39)
قال: (حدّثنا أبو إسحاق) إبراهيم بن محمد
الفزاري (عن حميد) الطويل أنه (قال: سمعت أنس بن مالك -رضي
الله عنه- عن النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(ما من عبد يموت) صفة لعبد (له عند الله خير) أي ثواب
والجملة صفة أخرى (يسره أن يرجع إلى الدنيا) أي رجوعه، فأن
مصدرية والجملة وقعت صفة لقوله خير (وأن له الدنيا وما
فيها)، بفتح الهمزة عطفًا على أن يرجع، ويجوز الكسر على أن
تكون جملة حالية (إلا الشهيد) مستثنى من قوله يسره أن يرجع
(لما يرى من فضل الشهادة) بكسر اللام التعليلية (فإنه يسره
أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى) فيقتل بضم التحتية
وفتح الفوقية مبنيًّا للمفعول منصوب عطفًا على أن يرجع.
2796 - قَالَ: وَسَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه
قَالَ: «لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ
خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ
أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ -يَعْنِي
سَوْطَهُ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَلَوْ
أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى
أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ
رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
(وسمعت) ولأبي ذر عن المستملي قال أي حميد الطويل وسمعت
(أنس بن مالك عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لروحة في سبيل الله أو غدوة) بفتح الراء والغين (خير من
الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو) قال: والشك
من الراوي (موضع قيد) بكسر القاف وسكون التحتية دون إضافة
مع التنوين الذي هو عوض عن المضاف إليه (يعني سوطه) تفسير
للقيد غير معروف، ومن ثم جزم بعضهم بأن الصواب (قِدّ) بكسر
القاف وتشديد الدال وهو السوط المتخذ من البلد، وأن زيادة
الياء تصحيف. وأما قول الكرماني: إنه لا تصحيف فيه وإن
المعنى صحيح وإن غاية ما فيه أن يقال قلب إحدى الدالين ياء
وذلك كثير، فتعقبه العيني فقال: نفيه التصحيف غير صحيح
وتعليله لما ادّعاه تعليل من ليس له وقوف على علم الصرف،
وذلك أن قلب أحد الحرفين المتماثلين ياء إنما يجوز إذا أمن
اللبس ولا لبس أشد من ذلك إذ القيد بالياء المقدار والقد
بالتشديد السوط المتخذ من الجلد وبينهما بون عظيم وعبر
بموضع سوط لأنه الذي يسوق به الفرس للزحف فهو أقل آلات
المجاهد ومع كونه تافهًا في الدنيا فمحله في الجنة أو ثواب
العمل به أو نحوه عظيم بحيث أنه "خير من الدنيا وما فيها".
وهو من تنزيل المغيب منزلة المحسوس وإلاّ فليس شيء من
الآخرة بينه وبين الدنيا توازن حتى يقع فيه التفاضل، أو
المراد أن إنفاق الدنيا وما فيها لا يوازن ثوابه ثواب هذا
فيكون التوازن بين ثوابي عملين فليس فيه تمثيل الباقي
بالفاني، (ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت) بتشديد الطاء
المفتوحة وفتح اللام "إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما" أي
بين السماء والأرض "ولملأته ريحًا"، وعن ابن عباس فيما
ذكره ابن الملقن في شرحه: خلقت الحوراء من أصابع رجليها
إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثديها من المسك
الأذفر، ومن ثديها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها
من الكافور الأبيض. "ولنصيفها" بفتح لام التأكيد والنون
وكسر الصاد المهملة وسكون التحتية وبالفاء أي خمارها (على
رأسها خير من الدنيا وما فيها).
وعند الطبراني من حديث أنس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن جبريل (لو أن بعض بنانها بدا لغلب
ضوءه الشمس والقمر ولو أن طاقة من شعرها بدت لملأت ما بين
المشرق والمغرب من طيب ريحها) الحديث.
7 - باب تَمَنِّي الشَّهَادَةِ
2797 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ
أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ
أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا
أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ
تَغْدو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ
أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ
ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ».
(باب تمني الشهادة).
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب أن أبا هريرة
-رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول): "والذي نفسي بيده" بسكون الفاء قال عياض
واليد هنا الملك والقدرة (لولا أن رجالاً من المؤمنين لا
تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه ما
تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله) بالزاي، ولأبي ذر: تغدو
بالدال المهملة بدل الزاي من الغدو، وفي رواية أبي زرعة بن
عمرو في باب الجهاد من الإيمان: لولا أن أشق على أمتي،
ورواية الباب تفسر المراد بالمشقّة المذكورة وهي أن نفوسهم
لا تطيب بالتخلف ولا يقدرون على التأهب لعجزهم عن آلة
السفر من مركوب وغيره تعذّر وجوده عند النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصرح بذلك في رواية همام عند
مسلم
(5/40)
ولفظه: ولكن لا أجد سعة أحملهم ولا يجدون
سعة فيتبعوني ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي. قاله في
الفتح:
(والذي نفسي بيده لوددت) بفتى اللام والواو وكسر الدال
الأولى وتسكين الثانية (أني أقتل في سبيل الله ثم أحيى)
بضم الهمزة على البناء للمفعول (ثم أقتل ثم أحيى ثم أقتل
ثم أحيى، ثم أقتل) بتكرير ثم ست مرات. قال الطيبي: ثم وإن
دلّ على التراخي في الزمان لكن الحمل على التراخي في
الرتبة هو الوجه لأن المتمنى حصول درجات بعد القتل
والإحياء لم تحصل قبل ومن ثم كررها لنيل مرتبة بعد مرتبة
إلى أن ينتهي إلى الفردوس الأعلى، ولأبي ذر: فأقتل بالفاء
في الثلاثة عوض "ثم" وقال في الفتح: ثم إن النكتة إيراد
هذه عقب تلك إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته
لهم فكأنه قال الوجه الذي تسيرون إليه فيه من الفضل ما
أتمنى لأجله أن أقتل مرات
فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم
مثله أو فوقه من فضل الجهاد فراعى خواطر الجميع.
واستشكل هذا التمني منه عليه الصلاة والسلام مع علمه بأنه
لا يقتل. وأجيب بأن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع
فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد المبالغة في بيان فضل
الجهاد وتحريض المؤمنين عليه.
2798 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي
الله عنه- قَالَ: "خَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ
فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ
أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ
أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ
فَفُتِحَ لَهُ. وَقَالَ: مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ
عِنْدَنَا". قَالَ أَيُّوبُ: أَوْ قَالَ: "مَا يَسُرُّهُمْ
أَنَّهُمْ عِنْدَنَا، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ".
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن يعقوب الصفار) بفتح الصاد
المهملة وتشديد الفاء وبعد الألف راء الكوفي وليس له في
البخاري سوى هذا الحديث قال (حدّثنا إسماعيل بن علية) بضم
العين المهملة وفتح اللام وتشديد التحتية (عن أيوب)
السختياني (عن حميد بن هلال) العدوي البصري (عن أنس بن
مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: خطب النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بعد أن أرسل سرية إلى مؤتة في جمادي
الأولى سنة ثمان واستعمل عليهم زيدًا وقال "إن أصيب زيد
فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن
رواحة" فاقتتلوا مع الكفار فأصيب زيد (فقال) عليه الصلاة
والسلام:
(أخذ الراية زيد فأصيب)، أي قتل (ثم أخذها جعفر فأصيب. ثم
أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد
عن غير إمرة) بكسر الهمزة وسكون الميم أي من غير أن يؤمره
أحد لكنه لما رأى المصلحة في ذلك فعله (ففتح له) بضم الفاء
الثانية (وقال) عليه الصلاة والسلام (ما يسرنا أنهم) أي
الذين أصيبوا (عندنا). وإنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك
لعلمه بما صاروا إليه من الكرامة (قال أيوب) السختياني:
(أو قال) عليه الصلاة والسلام: (ما يسرهم أنهم عندنا)،
لتحققهم خيرية ما حصلوا عليه من السعادة العظمى والدرجة
العليا قال ذلك (وعيناه تذرفان) بفتح الفوقية وسكون الذال
المعجمة وكسر الراء تسيلان دمعًا على فراقهم أو رحمة لما
خلفوه من عيال وأطفال يحزنون لفراقهم ولا يعرفون مقدار
عاقبتهم وما لهم عند الله تعالى والجملة حالية.
8 - باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ
فَهُوَ مِنْهُمْ
وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ} [النساء: 100] وَقَعَ: وَجَبَ.
(باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات) عطف على يصرع وعطف
الماضي على المضارع قليل، وكان الأصل أن يقول: من صرع فمات
أو من يصرع فيمت، وسقط للنسفي لفظ فمات وجواب الشرط قوله:
(فهو منهم) أي من المجاهدين، (وقول الله تعالى): بالجر
عطفًا على فضل، ولأبي ذر: عز وجل بدل قوله تعالى: ({ومن
يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت})
بقتل أو وقوع من دابة أو غير ذلك ({فقد وقع أجره على
الله}) [النساء: 100] (وقع) أي: (وجب) هذا تفسير أبي عبيدة
في المجاز، وسقط قوله وقع وجب للمستملي، وروى الطبري أن
الآية نزلت في رجل مسلم كان مقيمًا بمكة فلما سمع قوله
تعالى: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} [النساء:
97] قال لأهله وهو مريض: أخرجوني إلى جهة المدينة فأخرجوه
فمات في الطريق فنزلت، واسمه ضمرة على الصحيح.
2799 و 2800 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ
قَالَتْ: "نَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ
يَتَبَسَّمُ , فَقُلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ؟ قَالَ: أُنَاسٌ
مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَىَّ يَرْكَبُونَ هَذَا
الْبَحْرَ الأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ،
قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ ,
فَدَعَا لَهَا. ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ، فَفَعَلَ
مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: مِثْلَ قَوْلِهَا، فَأَجَابَهَا
مِثْلَهَا، فَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي
مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ. فَخَرَجَتْ
مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا
أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ
مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزوَتهِمْ
قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا
دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: حدّثني)
بالإفراد (الليث) بن سعد الإمام قال: (حدّثنا بحيى) بن
سعيد الأنصاري (عن محمد بن يحيي بن حبان) بفتح الحاء
المهملة وتشديد الموحدة (عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام)
بفتح الحاء والراء المهملتين (بنت ملحان)
(5/41)
بكسر الميم وسكون اللام بعدها حاء مهملة
أنها (قالت: نام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يومًا قريبًا مني، ثم استيقظ) حال كونه
(يتبسم)، وفي رواية مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة
عن أنس في باب: الدعاء بالجهاد وهو يضحك (فقلت: ما أضحكك؟
قال):
(أناس من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر) قال
الزركشي وتبعه الدماميني قيل المراد الأسود، وقال الكرماني
الأخضر صفة لازمة للبحر لا مخصصة إذ كل البحار خضر.
فإن قلت: الماء بسيط لا لون له. قلت: تتوهم الخضرة من
انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه اهـ.
(كالملوك على الأسرّة) في الدنيا أو في الجنة (قالت: فادع
الله أن يجعلني منهم فدعا لها. ثم نام) عليه الصلاة
والسلام (الثانية. ففعل مثلها)، أي من التبسم (فقالت مثل
قولها). أي ما
أضحكك (فأجابها مثلها) أي مثل الأولى من العرض، لكن قيل:
إن المعروضين راكبو البر (فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم،
فقال): (أنت من الأوّلين). أي الذين يركبون البحر الأخضر
(فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت) حال كونه (غازيًا أول ما
ركب المسلمون البحر مع معاوية) بن أبي سفيان في خلافة
عثمان -رضي الله عنهم- (فلما انصرفوا من غزوهم) ولأبي ذر:
من غزوتهم بزيادة تاء التأنيث (قافلين) أي راجعين (فنزلوا
الشام فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت) والفاء في
فصرعتها فصيحة أي فركبتها فصرعتها.
وهذا الحديث قد سبق في باب الدعاء بالجهاد.
9 - باب مَنْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2801 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ
عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "بَعَثَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي
سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي:
أَتَقَدَّمُكُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَإِلاَّ كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا. فَتَقَدَّمَ
فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أَوْمَؤوا إِلَى
رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ:
اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. ثُمَّ
مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ إِلاَّ
رَجُلاً أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ، قَالَ هَمَّامٌ:
وَأرَاهُ آخَرَ مَعَهُ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ
السَّلاَمُ - النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ
عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ؛ فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا
قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا
وَأَرْضَانَا، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ
أَرْبَعِينَ صَبَاحًا؛ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي
لِحْيَانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
(باب) فضل (من ينكب في سبيل الله) بضم أوله وفتح ثالثه
وآخره موحدة أي من أدمي عضو منه أو أعم وفي بعض النسخ تنكب
على وزن تفعل.
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر الحوضي) بفتح الحاء المهملة
وسكون الواو وبالضاد المعجمة نسبة إلى حوض داود محلة
ببغداد وسقط الحوضي لأبي ذر قال: (حدّثنا همام) بفتح الهاء
وتشديد الميم الأولى ابن يحيى البصري (عن إسحاق) بن عبد
الله بن أبي طلحة (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: بعث
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقوامًا من بني
سليم إلى بني عامر في سبعين) وهم المشهورون بالقرّاء لأنهم
كانوا أكثر قراءة من غيرهم، وسليم: بضم السين المهملة وفتح
اللام وسكون التحتية وقد وهم الدمياطي هذه الرواية بأن بني
سليم مبعوث إليهم والمبعوث هم القرّاء وهم من الأنصار،
وقال ابن حجر: التحقيق أن المبعوث إليهم بنو عامر وأما بنو
سليم فغدروا بالقرّاء المذكورين، والوهم في هذا السياق من
حفص بن عمر شيخ البخاري، فقد أخرجه هو في المغازي عن موسى
بن إسماعيل عن
همام فقال: بعث أخًا لأم سليم في سبعين راكب وكان رئيس
المشركين عامر بن الطفيل الحديث.
فلعل الأصل بعث أقوامًا معهم أخو أم سليم إلى بني عامر
فصارت من بني سليم. (فلما قدموا) بئر معونة (قال لهم
خالي): حرام بن ملحان (أتقدمكم)، أي إلى بني سليم (فإن
أمنوني) بتشديد الميم (حتى أبلّغهم) بضم الهمزة وفتح
الموحدة وتشديد اللام المكسورة (عن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه يدعوهم إلى الإيمان
(وإلاّ) أي وإن لم يؤمنوني (كنتم مني قريبًا، فتقدم) إليهم
(فأمنوه فبينما) بالميم هو (يحدّثهم) أي يحدّث بني سليم
(عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ أومؤوا)
جواب بينما أي أشاروا وفي رواية أومئ بضم الهمزة وكسر
الميم أي أشير (إلى رجل منهم) هو عامر بن الطفيل (فطعنه)
برمح (فأنفذه) بالفاء والذال المعجمة في جنبه حتى خرج من
الشق الآخر (فقال): أي حرام المطعون (الله أكبر فزت)
بالشهادة (ورب الكعبة ثم مالوا على بقية أصحابه) أي أصحاب
حرام (فقتلوهم إلا رجلاً أعرج) بالنصب، وهذا الرجل هو كعب
بن يزيد الأنصاري وهو من بني أمية كما عند الإسماعيلي،
ولأبي ذر: رجل أعرج بالرفع، وقال الكرماني: وفي بعضها يكتب
بدون ألف على اللغة الربيعية (صعد الجبل. قال همام):
الراوي (فأراه) بضم الهمزة بعد الفاء ولأبي ذر وأراه
بالواو أي أظنه (آخر معه) هو عمرو بن أمية الضمري (فأخبر
جبريل عليه الصلاة والسلام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم
(5/42)
وأرضاهم فكنا نقرأ) أي في جملة القرآن (أن
بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ)
لفظه (بعد) من التلاوة.
وهاهنا تنبيه وهو: هل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية أن يمسها
المحدّث ويقرأها الجنب؟ قال الآمدي: تردد فيه الأصوليون
والأشبه المنع من ذلك، وكلام السهيلي يقتضي خلاف ذلك فإنه
قال: إن هذا المذكور ليس عليه رونق الإعجاز، إنه لم ينزل
بهذا النظم ولكن بنظم معجز كنظم القرآن، فإن قيل: إنه خبر
فلا ينسخ؟ قلنا: لم ينسخ منه الخبر وإنما نسخ منه الحكم
فإن حكم القرآن أن يتلى في الصلاة وأن لا يمسه إلا طاهر
وأن يكتب بين الدفتين وأن يكون تعلمه فرض كفاية وكل ما نسخ
رفعت منه هذه الأحكام وإن بقي محفوظًا فهو منسوخ، فإن تضمن
حكمًا جاز أن يبقى ذلك الحكم معمولاً به اهـ.
وزاد ابن جرير من طريق عمر بن يونس عن عكرمة عن إسحاق بن
أبي طلحة عن أنس وأنزل الله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في
سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران:
169] (فدعا عليهم) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(أربعين صباحًا) في القنوت (على رعل) بكسر الراء وسكون
العين المهملة آخره لام مجرور بدل من عليهم بإعادة العامل
ورعل هم بطن من بني سليم (وذكوان) بفتح المعجمة وسكون
الكاف (وبني لحيان) بكسر اللام وسكون الحاء المهملة (وبني
عصية) بضم العين وفتح الصاد المهملتين وتشديد الياء
التحتية (الذين عصوا الله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وسيأتي في أواخر الجهاد إن شاء الله تعالى أنه
دعا على أحياء من بني سليم حيث قتلوا القراء. قال في
الفتح: وهو أصرح في المقصود.
2802 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ
جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ فِي بَعْضِ
الْمَشَاهِدِ قَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ: هَلْ
أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
مَا لَقِيتِ". [الحديث 2802 - طرفه في: 6146].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن الأسود بن قيس) ولأبي ذر هو
ابن قيس (عن جندب بن سفيان) بضم الجيم وسكون النون وفتح
الدال وضمها ابن عبد الله بن سفيان -رضي الله عنه- (أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في بعض
المشاهد) أي أمكنة الشهادة قيل كان في غزوة أُحُد (وقد
دميت أصبعه) بفتح الدال أي جرحت أصبعه فظهر منها الدم
(فقال): مخاطبًا لها لما توجعت على سبيل الاستعارة أو
حقيقة على سبيل المعجزة تسلية لها:
(هل أنتِ إلا أصبع دميت) بفتح الدال وسكون التحتية وكسر
الفوقية صفة للأصبع والمستثنى فيه أعم عام الصفة لم ما أنت
بأصبع موصوفة بشيء إلا بأن دميت فتثبتي فإنك ما ابتليت
بشيء من الهلاك أو القطع إلا أنك دميت ولم يكن ذلك هدرًا
(و) لكنه (في سبيل الله) ورضاه (ما لقيت).
بسكون التحتية وكسر الفوقية، ولغير أبي ذر: دميت لقيت
بسكون الفوقية، وهذا مما تعلق به الملحدون في الطعن
فقالوا: هذا شعر نطق به، والقرآن ينفي عنه أن يكون شاعرًا
وأجيب بأنه رجز والرجز ليس بشعر على مذهب الأخفش وإنما
يقال لصاحبه فلان الراجز لا الشاعر إذ الشعر لا يكون إلا
بيتًا تامًّا مقفى على أحد أنواع العروض المشهورة وبأن
الشعر لا بدّ فيه من قصد ذلك فما لم يكن مصدره عن نيّة له
وروية فيه وإنما هو اتفاق كلام يقع موزونًا ليس منه
فالمنفي صنعة الشاعرية لا غير.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الأدب ومسلم في
المغازي والترمذي في التفسير والنسائي في اليوم والليلة.
10 - باب مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
(باب) فضل (من يجرح في سبيل الله عز وجل) بضم التحتية
وسكون الجيم.
2803 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ
فِي سَبِيلِهِ- إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ, وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن
الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(و) الله (الذي نفسي بيده) بقدرته أو في ملكه (لا يكلم)
بضم التحتية وسكون الكاف وفتح اللام أي لا يجرح (أحد) مسلم
(في سبيل الله) أي في الجهاد ويشمل من جرح في ذات الله وكل
ما دافع فيه المرء بحق فأصيب فهو مجاهد كقتال البغاة وقطاع
الطريق وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعند مسلم
من طريق همام عن أبي هريرة: كل كلم يكلمه المسلم (-والله
أعلم بمن يكلم) يجرح (في سبيله-) جملة
(5/43)
معترضة بين المستثنى منه والمستثنى مؤكدة
مقررة لمعنى المعترض فيه وتفخيم شأن من يكلم في سبيل الله،
ومعناه والله أعلم تعظيم شأن من يكلم في سبيل الله ونظيره
قوله تعالى: {قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت
وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران: 36] أي والله أعلم بالشيء
الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، ويجوز أن يكون
تتميمًا للصيانة عن الرياء والسمعة وتنبيهًا على الإخلاص
في الغزو وأن الثواب المذكور إنما هو لمن أخلص فيه وقاتل
لتكون كلمة الله هي العليا (إلا جاء يوم القيامة و) جرحه
يثعب بالمثلثة والعين المهملة يجري دمًا (اللون لون الدم
والريح ريح المسك). أي كريح المسك إذ ليس هو مسكًا حقيقة
بخلاف اللون لون الدم فلا حاجة فيه لتقدير ذلك لأنه دم
حقيقة فليس له من أحكام الدنيا والصفات فيها إلا اللون
فقط، وظاهر قوله في رواية مسلم: كل كلم يكلمه المسلم أنه
لا فرق في ذلك بين أن يستشهد أو تبرأ جراحته، لكن الظاهر
أن الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا من فارق الدنيا
وجرحه كذلك، ويؤيده ما رواه ابن حبان في حديث معاذ: عليه
طابع الشهداء، والحكمة في بعثته كذلك أن يكون معه شاهد
فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله عز وجل، ولأصحاب السُّنن
وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث معاذ بن جبل: من
جرح جرحًا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم
القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك.
قال الحافظ ابن حجر: وعرف بهذه الزيادة أن الصفة المذكورة
لا تختص بالشهيد بل هي حاصلة لكل من جرح كذا قال فليتأمل.
وقال النووي: قالوا وهذا الفضل وإن كان ظاهره أنه في قتال
الكفار فيدخل فيه من جرح في سبيل الله في قتال البغاة
وقطاع الطريق وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ونحو ذلك، وكذا قال ابن عبد البرّ واستشهد على ذلك بقوله
عليه الصلاة والسلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد". لكن قال
الولي بن العراقي: قد يتوقف في دخول المقاتل دون ماله في
هذا الفصل لإشارة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إلى اعتبار الإخلاص في ذلك بقوله: والله أعلم
بمن يكلم في سبيله والمقاتل دون ماله لا يقصد بذلك وجه
الله وإنما يقصد صون ماله وحفظه فهو يفعل ذلك بداعية الطبع
لا بداعية الشرع، ولا يلزم من كونه شهيدًا أن يكون دمه يوم
القيامة كريح المسك وأيّ بذل بذل نفسه فيه لله حتى يستحق
هذا الفضل.
وهذا الحديث أورده المؤلّف في باب ما يقع من النجاسات في
السمن والماء من كتاب الطهارة وسبق البحث في وجه ذكره
ثَمَّ.
11 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}
[التوبة: 52] وَالْحَرْبُ سِجَالٌ
(باب) ذكر (قول الله تعالى) ولأبي ذر: عز وجل ({قل هل
تربصون بنا}) تنتظرون بنا ({إلا إحدى الحسنيين}) [التوبة:
52] إلا إحدى العاقبتين اللتيَن كلٌّ منهما حسنى العواقب
الفتح أو الشهادة وسقط قوله قل لغير أبي الوقت (والحرب
سجال) بكسر السين المهملة وتخفيف الجيم أي تارة وتارة ففي
غلبة المسلمين يكون لهم الفتح وفي غلبة المشركين يكون
للمسلمين الشهادة.
2804 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ
أَخْبَرَهُ "أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ
كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ، فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ
سِجَالٌ وَدُوَلٌ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ
تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) نسبة إلى جده واسم أبيه
عبد الله المخزومي مولاهم المصري قال: (حدّثنا الليث) بن
سعد الإمام (قال: حدّثني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي
(عن ابن شهاب) الزهري (عن عبيد الله بن عبد الله) بضم
العين من الأول مصغرًا ابن عتبة بن مسعود (أن عبد الله بن
عباس أخبره أن أبا سفيان) زاد أبو ذر ابن حرب (أخبره أن
هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف آخره لام ملك
الروم الملقب بقيصر (قال له) أي لأبي سفيان (سألتك كيف كان
قتالكم إياه) عليه الصلاة والسلام بفصل ثاني الضميرين قيل:
هو أصوب من وصله ونص عليه الزمخشري (فزعمت أن الحرب سجال
ودول)، بكسر الدال ولأبي ذر ودول بضمها قال القزاز: العرب
تقول الأيام دول ودول ثلاث لغات فقيل بالضم الاسم وبالفتح
المصدر، وفي بدء الوحي من طريق شعيب عن الزهري: الحرب
بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه،
(5/44)
(فكذلك الرسل تبتلى) أي تختبر (ثم تكون لهم
العاقبة).
وهذه قطعة من حديث سبق في أوائل الكتاب.
12 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}
[الأحزاب: 23].
(باب قول الله تعالى) ولأبي ذر: عز وجل: ({من المؤمنين
رجال}) مبتدأ وخبره مقدّم ({صدقوا ما عاهدوا الله عليه})
أوّل ما خرجوا إلى أحد لا يولون الأدبار وقال مقاتل ليلة
العقبة: من الثبات مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- والمقاتلة لإعلاء الدين من صدقني إذ قال لي
الصدق فإن المعاهد إذا أوفى بعهده
فقد صدق فيه ({فمنهم من قضى نحبه}) أي نذره بأن قاتل حتى
استشهد كأنس بن النضر وطلحة والنحب النذر استعير للموت
لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان ({ومنهم من ينتظر})
الشهادة كعثمان ({وما بدلوا}) العهد ولا غيروه ({تبديلاً})
[الأحزاب: 23] بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه وما
نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا إن بيوتنا عورة وما هي
بعورة إن يريدون إلاّ فرارًا وقد كانوا عاهدوا الله من قبل
لا يولون الأدبار.
2805 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُزَاعِيُّ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ:
سَأَلْتُ أَنَسًا ح. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ
حَدَّثَنَا زِيَادٌ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ
عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "غَابَ عَمِّي أَنَسُ
بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ
الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ
الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ
قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا
صَنَعَ هَؤُلاَءِ، يَعْنِي أَصْحَابَهُ، وَأَبْرَأُ
إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ، يَعْنِي
الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ
بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ،
الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا
مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا
بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ
طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ
قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا
عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ
أَنَسٌ: كُنَّا نَرَى -أَوْ نَظُنُّ- أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ
نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إِلَى
آخِرِ الآيَةِ". [الحديث 2805 - طرفاه في: 4048، 4783].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سعيد) بكسر العين (الخزاعي) بضم
الخاء المعجمة وتخفيف الزاي وبالعين المهملة البصري الملقب
بمردويه قال: (حدّثنا عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي
بالسين المهملة (عن حميد) الطويل (قال: سألت أنسًا).
(حدّثنا) ولأبي ذر قال: وحدّثني بالإفراد، وفي نسخة ح
لتحويل السند: وحدّثنا (عمرو بن زرارة) بفتح العين وسكون
الميم وزرارة بضم الزاي وتخفيف الراءين بينهما ألف ابن
واقد الهلالي قال: (حدّثنا زياد) بكسر الزاي وتخفيف
التحتية ابن عبد الله العامري البكائي (قال: حدّثني)
بالإفراد (حميد الطويل عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال:
غاب عمي أنس بن النضر) بالنون والضاد المعجمة (عن قتال بدر
فقال: يا رسول الله: غبت عن أوّل قتال قاتلت المشركين) لأن
غزوة بدر هي أولى غزوة غرّاها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكانت في السنة الثانية من الهجرة
(لئن الله أشهدني) أي أحضرني (قتال المشركين ليرين الله)
بنون التوكيد الثقيلة واللام جواب القسم المقدّر ولأبي ذر
عن المستملي ليراني الله بألف بعد الراء وتحتية بعد النون
المكسورة المخففة (ما أصنع فلما كان يوم أُحُد) برفع يوم
على أنه فاعل بكان التامة وفي الفرع وأصله يوم بالنصب
أيضًا على الظرفية أي يوم قتال أُحُد أو أطلق اليوم
وأراد الواقعة فهو إضمار أو مجاز قاله الكرماني (وانكشف
المسلمون)، وفي رواية الإسماعيلي: وانهزم الناس وهو معنى
انكشف (قال) أنس بن النضر: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع
هؤلاء يعني أصحابه) المسلمين من الفرار (وأبرأ إليك مما
صنع هؤلاء يعني المشركين) من القتال فاعتذر عن الأولياء
وتبرأ عن الأعداء مع أنه لم يرض الأمرين جميعًا (ثم تقدم)
نحو المشركين (فاستقبله) أي استقبل أنس بن النضر (سعد بن
معاذ) بضم الميم آخره ذال معجمة وزاد في مسند الطيالسي من
طريق ثابت عن أنس منهزمًا (فقال: يا سعد بن معاذ) أريد
(الجنة ورب النضر) أي والده (إني أجد ريحها) أي ريح الجنة
حقيقة أو وجد ريحًا طيبة ذكره طيبها بطيب ريح الجنة (من
دون أحد) أي عنده (قال سعد): هو ابن معاذ (فما استطعت يا
رسول الله ما صنع) من إقدامه ولا صنيعه في المشركين من
القتل مع أني شجاع كامل القوّة، ولا ما وقع له من الصبر
بحيث وجد في جسده ما يزيد على الثمانين من ضربة وطعنة
ورمية، كما (قال أنس) هو ابن مالك (فوجدنا به) أي بابن
النضر (بضعًا) بكسر الموحدة وقد تفتح (وثمانين ضربة بالسيف
أو طعنة برمح أو رمية بسهم) قال العيني: وكلمة أو في
الموضعين للتنويع وفي رواية عبد الله بن بكر عن حميد عند
الحرث بن أبي أسامة. قال أنس: فوجدناه بين القتلى (ووجدناه
قد قتل وقد مثّل به المشركون) بفتح الميم وتشديد المثلثة
من المثلة أي قطعوا أعضاءه من أنف وأُذن وغيرهما (فما عرفه
أحد إلا أخته ببنانه) بإصبعه أو بطرف إصبعه (قال أنس): هو
ابن مالك (كنا نرى) بضم النون (أو نظن) شك من الراوي وهما
بمعنى واحد (أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {من
المؤمنين
(5/45)
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب:
23] إلى آخر الأية).
2806 - وَقَالَ: "إِنَّ أُخْتَهُ -وَهْيَ تُسَمَّى
الرُّبَيِّعَ- كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا.
فَرَضُوا بِالأَرْشِ وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى
اللَّهِ لأَبَرَّهُ".
(وقال: إن أخته-) أي أخت أنس بن النضر وهي عمة أنس بن مالك
(وهي تسمى الربيع-) بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية
(كسرت ثنية امرأة) زاد في الصلح فطلبوا الأرش وطلبوا العفو
فأبو فأتوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(فأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بالقصاص، فقال أنس): هو ابن النضر المستشهد يوم أُحُد (يا
رسول الله، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنينها)، قاله توقعًا
ورجاءً من فضله تعالى أن يرضى خصمها ليعفو عنها ابتغاء
مرضاته (فرضوا بالأرش) عوضًا عن القصاص (وتركوا القصاص،
فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه) في قسمه وهو
ضد الحنث وقصة الربيع هذه سبقت في باب الصلح في الدّية من
كتاب الصلح.
2807 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ ح. وحَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ أُرَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ
بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: "نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَفَقَدْتُ
آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ
بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ
ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهَادَتَهُ
شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، وَهْوَ قَوْلُهُ: {مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ} " [الحديث 2807 - أطرافه في: 4049، 4679، 4784،
4986، 4988، 4989، 7191، 7425].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب.
(وحدّثنا) ولغير أبي ذر حدّثني بالإفراد وإسقاط واو العطف،
وفي نسخة ح للتحويل وحدّثني بالإفراد والواو (إسماعيل) بن
أبي أويس (قال: حدّثني) بالإفراد (أخي) أبو بكر عبد الحميد
(عن سليمان) بن بلال (أراه) بضم الهمزة أي أظنه (عن محمد
بن أبي عتيق عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن خارجة
بن زيد) الأنصاري (أن زيد بن ثابت) الأنصاري (-رضي الله
عنه-) واللفظ لابن أبي عتيق ويأتي لفظ شعيب إن شاء الله
تعالى في سورة الأحزاب (قال: نسخت الصحف في المصاحف ففقدت)
بفتح القاف (آية من سورة الأحزاب) وسقط لأبي ذر سورة (كنت
أسمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ
بها فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهادته
شهادة رجلين) خصوصية له -رضي الله عنه- لما كلم عليه
الصلاة والسلام رجلاً في شيء فأنكره فقال خزيمة: أنا أشهد
فقال عليه الصلاة والسلام: "أتشهد ولم تستشهد" فقال: نحن
نصدقك على خبر السماء فكيف بهذا فأمضى شهادته وجعلها
بشهادتين وقال لا تعد (وهو قوله) تعالى: ({من المؤمنين
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}) [الأحزاب: 23].
واستشكل كونه أثبتها في المصحف بقول واحد أو اثنين إذ شرط
كونه قرآنًا التواتر. وأجيب: بأنه كان متواترًا عندهم ولذا
قال: كنت أسمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقرأ بها، وقد روي أن عمر - رضي الله عنه- قال:
أشهد لسمعتها من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وكذا عن أُبي بن كعب وهلال بن أمية فهؤلاء
جماعة.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في التفسير وفي فضائل
القرآن والترمذي والنسائي في التفسير هذا.
13 - باب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ
بِأَعْمَالِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ * إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ
صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 2 - 4].
(باب) بالتنوين يذكر فيه (عمل صالح قبل القتال): وفي نسخة
باب عمل صالح بالإضافة.
(وقال أبو الدرداء): عويمر بن مالك الأنصاري مما ذكره
الدينوري في المجالسة (إنما تقاتلون بأعمالكم) أي متلبسين
بأعمالكم، (وقوله عز وجل) بالرفع عطفًا على المرفوع السابق
({يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}). كان
المؤمنون يقولون لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه
فأنزل الله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون} [الصف: 4]
فكرهوا القتال فوعظهم الله وأدّبهم فقال: لِمَ تقولون ما
لا تفعلون ({كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون})
أي عظم ذلك في البغض وهذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه
قصد في كبر التعجب من غير لفظه، ومعنى التعجب بتعظيم الأمر
في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن
نظائره وأشكاله، وأسند كُبر إلى أن تقولوا ونصب مقتًا على
تفسيره دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب
فيه لفرط تمكن المقت منه واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض
وأبلغه ({إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله}) أي في
طاعته ({صفًّا}) صافين أنفسهم ({كأنهم بنيان مرصوص})
[الصف: 3، 4] أي كأنهم في تراصّهم بنيان رصّ بعضه إلى بعض
والمراد أنهم لا يزولون عن أماكنهم، ولفظ رواية أبي ذر بعد
قوله: {ما لا تفعلون} إلى قوله: {كأنهم بنيان مرصوص} فلم
يذكر ما بينهما.
قال ابن المنير: ومناسبة الآية
(5/46)
للترجمة فيها خفاء وكأنه من جهة أن الله
تعالى عاتب من قال أنه يفعل الخير ولم يفعله وأثنى على من
وفى وثبت عند القتال أو من جهة أنه أنكر على من قدّم على
القتال قولاّ غير مرضي، ومفهومه ثبوت الفضل في تقديم الصدق
والعزم الصحيح على الوفاء وذلك من أصلح الأعمال. وقال
الكرماني: والمقصود من ذكر هذه الآية ذكره {صفًّا} إذ هو
عمل صالح قبل القتال.
2808 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ
حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ
حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ:
سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: "أَتَى
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ
مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ.
فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَمِلَ
قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن عبد
الرحيم) المعروف بصاعقة قال: (حدّثنا شبابة بن سوار) بفتح
الشين المعجمة وتخفيف الموحدة وبعد الألف موحدة ثانية
وسوار بفتح السين المهملة وتشديد الواو وبعد الألف راء
(الفزاري) بفتح الفاء وتخفيف الزاي قال: (حدّثنا إسرائيل)
بن يونس بن أبي إسحاق (عن) جده (أبي إسحاق) عمرو بن عبد
الله السبيعي أنه (قال: سمعت البراء) بن عازب (رضي الله
عنه يقول: أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم
أعرف اسمه لكنه أنصاري أوسي من بني النبيت بنون مفتوحة
فموحدة مكسورة فتحتية ساكنة ففوقية كما في مسلم، ولولا ذلك
لأمكن تفسيره بعمرو بن ثابت بن وقش بفتح الواو والقاف
بعدها معجمة وهو المعروف بأصيرم بني عبد الأشهل فإن بني
عبد الأشهل بطن من الأنصار من الأوس وهم غير بني النبيت،
ويمكن أن يحمل على أن له في بني النبيت نسبة فإنهم إخوة
بني عبد الأشهل يجمعهم الانتساب إلى الأوس (مقنع) بفتح
القاف والنون المشددة أي غطى وجهه (بالحديد فقال: يا رسول
الله أقاتل وأسلم)؟ ولأبي ذر عن المستملي: أو أسلم (قال)
عليه الصلاة والسلام:
(أسلم ثم قاتل) (فأسلم ثم قاتل فقتل فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (عمل قليلاً وأجر)
بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول أجرًا (كثيرًا) بالمثلثة.
وأخرج ابن إسحاق في المغازي بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي
الله عنه أنه كان يقول: "أخبروني عن رجل دخل الجنة لم
يصلِّ صلاة ثم يقول هو عمرو بن ثابت".
14 - باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ
(باب من أتاه سهم غرب فقتله) بفتح الغين المعجمة وسكون
الراء آخره موحدة منوّنًا كسهم صفة له قال أبو عبيد وغيره
أي لا يعرف راميه أو لا يعرف من أين أتى أو جاء على غير
قصد من راميه وعن أبي زيد فيما حكاه الهروي إن جاء من حيث
لا يعرف فهو بالتنوين والإسكان وإن عرف راميه لكن أصاب من
لم يقصد فهو بالإضافة وفتح الراء، وأنكر ابن قتيبة السكون
ونسبه لقول العامة وجوّز الفتح إضافة سهم لغرب.
2809 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو أَحْمَدَ
حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ
وَهْيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ أَلاَ تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ
-وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ-
فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ
غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ.
قَالَ: يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي
الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ
الأَعْلَى". [الحديث 2809 - أطرافه في: 3982، 6550، 6567].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله) هو محمد بن يحيى بن
عبد الله الذهلي كما جزم به الكلاباذي وتبعه غيره وقد نسبه
المؤلّف إلى جده قال: (حدّثنا حسين بن محمد) بضم الحاء
وفتح السين (أبو أحمد) بن بهرام التميمي المروذي سكن بغداد
قال: (حدّثنا شيبان) بفتح المعجمة أبو معاوية النحوي (عن
قتادة) بن دعامة أنه قال: (حدّثنا أنس بن مالك أن أم
الربيع) بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة
(بنت البراء) بنصب بنت وتخفيف راء البراء وهذا وهم والصواب
المعروف أن الربيع بنت النضر بن ضمضم عمة أنس بن مالك بن
النضر بن ضمضم، وقال ابن الأثير في جامعه: إنه الذي وقع في
كتب النسب والمغازي وأسماء الصحابة. قال ابن حجر: وليس
هذا بقادح في صحة الحديث ولا في ضبط رواته. (وهي أم حارثة
بن سراقة) بضم السين المهملة وتخفيف الراء والقاف وحارثة
بالحاء المهملة والمثلثة الأنصاري (أتت النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا نبي الله ألا
تحدّثني عن حارثة)؟ بضم المثلثة من تحدّثني (وكان قتل يوم)
وقعة (بدر أصابه سهم غرب) بتنوين سهم وغرب مع سكون الراء،
ولأبي ذر: غرب بفتح الراء. قال ابن قتيبة: وهو الأجود لكنه
ذكره مع إضافة سهم لغرب وقد مرّ مع غيره أوّلاً، (فإن كان
في الجنة صبرت) قال ابن المنير: إنما شكت فيه لأن العدوّ
لم يقتله قصدًّا وكأنها فهمت أن الشهيد هو الذي يقتل قصدًا
لأنه الأغلب، فنزلت الكلام على الغالب حتى بيّن لها الرسول
العموم (وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء).
نقل الحافظ ابن حجر وتبعه العيني عن الخطابي ما نصه:
(5/47)
أقرّها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على هذا فيؤخذ منه الجواز ثم تعقباه بأن ذلك
كان قبل تحريم النوح فلا دلالة فيه فإن تحريمه كان في غزوة
أُحُد، وهذه القصة كانت عقب غزوة بدر وفي هذا نظر لا يخفى
فإنها لم تقل اجتهدت عليه في النوح ولا يلزم من الاجتهاد
في البكاء النوح وليس فيما نقلاه عن الخطابي ما يفهم ذلك،
بل قوله أقرّها على هذا إشارة إلى البكاء المذكور في
الحديث، ولا ريب أن البكاء على الميت قبل الدفن وبعده جائز
اتفاقًا فليتأمل.
(قال) عليه الصلاة والسلام (يا أم حارثة، إنها جنان) أي
درجات (في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى) فرجعت وهي
تضحك وتقول: بخ بخ لك يا حارثة والضمير في قوله إنها مبهم
يفسره ما بعده كقولهم: هي العرب تقول ما تشاء، ويجوز أن
يكون الضمير للشأن، وجنان مبتدأ والتنكير فيه للتعظيم
والمراد بذلك التفخيم والتعظيم.
(بسم الله الرحمن الرحيم) وسقطت البسملة لأبي ذر.
15 - باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا
(باب) فضل (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا).
2810 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي
مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ
لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ،
فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ
لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن عمرو) بفتح العين وسكون الميم هو ابن
مرة (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن أبي موسى) عبد الله بن
قيس (رضي الله عنه) أنه (قال: جاء رجل) هو لاحق بن ضميرة
الباهلي كما عند أبي موسى المديني
في الصحابة (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر)
بين الناس ويشتهر بالشجاعة (والرجل يقاتل ليُرَى) بضم
الياء وفتح الراء مبنيًّا للمفعول (مكانه) بالرفع نائب عن
الفاعل أي مرتبته في الشجاعة، وفي رواية الأعمش عن أبي
وائل الآتية إن شاء الله تعالى في التوحيد ويقاتل رياء،
وزاد في رواية منصور عن أبي وائل السابقة في العلم والأعمش
ويقاتل حمية وفي رواية منصور ويقاتل غضبًا فتحصل أن أسباب
القتال خمسة طلب المغنم وإظهار الشجاعة والرياء والحمية،
والغضب (فمن في سبيل الله؟ قال) عليه الصلاة والسلام:
(من قاتل لتكون كلمة الله) أي كلمة التوحيد (هي العليا)
بضم العين المهملة (فهو) المقاتل (في سبيل الله) عز وجل لا
طالب الغنيمة والشهرة ولا مُظهِر الشجاعة ولا للحميّة ولا
للغضب فلو أضاف إلى الأوّل غيره أخلّ بذلك. نعم لو حصل
ضمنًا لا أصلاً ومقصودًا لا يخل وقد روى أبو داود والنسائي
من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال: جاء رجل فقال يا رسول
الله أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال: لا
شيء له. فأعادها ثلاثًا كل ذلك يقول لا شيء له. ثم قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الله
تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به
وجهه". وقال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان
الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه
اهـ.
وفي جوابه عليه الصلاة والسلام بما ذكر غاية البلاغة
والإيجاز فهو من جوامع كلمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل
الله احتمل أن يكون ما عداه في سبيل الله وليس كذلك فعدل
إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حالة
المقاتل فتضمن الجواب وزيادة، وقد يفسر القتال للحمية بدفع
المضرّة والقتال غضبًا بجلب المنفعة والذي يرى منزلته أي
في سبيل الله فتناول ذلك المدح والذمّ فلذا لم يحصل الجواب
بالإثبات ولا بالنفي قاله في فتح الباري.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الخمس والتوحيد، وسبق في العلم
في باب: من سأل وهو قائم عالمًا جالسًا.
16 - باب مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لأَهْلِ
الْمَدِينَةِ مِنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن
رَسُولِ اللهِ -إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
(باب) فضل (من اغبرت قدماه في سبيل الله) عند الاقتحام في
المعارك لقتال الكفار وخص القدمين لكونهما العمدة في سائر
الحركات. (وقول الله تعالى): بالجر عطفًا على السابق ولأبي
ذر: عز وجل: ({ما كان لأهل المدينة}) ظاهره خبر ومعناه نهي
({ومن حولهم من الأعراب}) سكان البوادي مزينة وجهينة وأشجع
وأسلم وغفار ({أن يتخلفوا عن رسول الله}) إذا غزا (إلى
قوله: {وإن الله لا
يضيع أجر المحسنين}) [التوبة: 120] ولغير أبي ذر: {ما كان
لأهل المدينة} إلى قوله: {إن الله لا يضيع أجر المحسنين}
ومناسبة الآية للترجمة كما قال ابن
(5/48)
بطال: إن الله تعالى قال في الآية {ولا
يطؤون موطئًا} أي أرضًا يغيظ الكفار وطؤهم إياها ولا
ينالون من عدوّ نيلاً أي لا يصيبون من عدوهم قتلاً أو
أسرًا أو غنيمة إلا كتب لهم به عمل صالح قال: ففسر -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العمل الصالح بأن النار لا
تمس من عمل بذلك قال: والمراد بسبيل الله جميع طاعاته اهـ.
وعن عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى
الجمعة فقال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
يقول: "من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرمه الله على
النار".
رواه البخاري وفيه استعمال اللفظ في عمومه لكن المتبادر
عند الاطلاق من لفظ سبيل الله الجهاد.
2811 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ:
حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا
عَبَايَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي
أَبُو عَبْسٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن منصور كما نسبه الأصيلي
فيما ذكره الجياني قال: (أخبرنا) بالخاء المعجمة (محمد بن
المبارك) الصوري قال: (حدّثنا يحيى بن حمزة) بالحاء
المهملة والزاي الحميري قاضي دمشق (قال: حدّثني) بالإفراد
(يزيد بن أبي مريم) يزيد من الزيادة أبو عبد الله قال:
(أخبرنا عباية بن رفاعة) بفتح عين عباية وتخفيف الموحدة
والتحتية ورفاعة بكسر الراء وبالفاء وبعد الألف عين مهملة
(ابن رافع بن خديج) بالفاء والعين المهملة وخديج بفتح
الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وبعد التحتية الساكنة
جيم وسقط لغير أبي ذر ابن رفاعة، وسقط لأبي ذر ابن خديج
(قال: أخبرني) بالإفراد (أبو عبس) بفتع العين وسكون
الموحدة آخره سين مهملة (هو عبد الرحمن بن جبر) بفتح الجيم
وسكون الموحدة آخره راء وسقط هو عبد الرحمن ابن جبر لأبي
ذر (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(ما اغبرّت قدما عبد) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: ما
اغبرتا بالتثنية وهي لغة والأولى أفصح، وزاد أحمد من حديث
أبي هريرة: "ساعة من نهار" (في سبيل الله فتمسه النار)
بنصب تمسه أي أن المس ينتفي بوجود الغبار المذكور وإذا كان
مسَّ الغبار قدميه دافعًا لمس النار إياه فكيف إذا سعى
بهما واستفرغ جهده فقاتل حتى قتل وقتل؟ وفي الأوسط
للطبراني عن أبي الدرداء مرفوعًا من اغبرت قدماه في سبيل
الله حرم الله سائر جسده على النار وحديث الباب قد سبق في
باب: المشي إلى الجمعة في كتاب الجمعة.
17 - باب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنِ الرأسِ فِي سَبِيلِ الله
(باب) عدم كراهة (مسح الغبار عن الناس في السبيل) كذا في
عدة نسخ مقابلة على اليونينية وفي بعض الأصول عن الرأس في
سبيل الله، وقيل: إن التعبير بالناس تصحيف. قال العيني.
ولا وجه لدعوى التصحيف لأنه إذا لم يكره مسح الغبار عن رأس
من هو فى سبيل الله فكذلك مسح غيرها.
2812 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ وَلِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ: ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ
حَدِيثِهِ. فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ
لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ، فَلَمَّا رَآنَا جَاءَ فَاحْتَبَى
وَجَلَسَ فَقَالَ: "كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ
لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ
لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَسَحَ عَنْ
رَأْسِهِ الْغُبَارَ وَقَالَ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ
الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى
اللَّهِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ».
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) الرازي الصغير قال:
(أخبرنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي قال: (حدّثنا
خالد) الحذاء (عن عكرمة أن ابن عباس) -رضي الله عنهما-
(قال له) أي لعكرمة (ولعلي) أي ولابنه عليّ (بن عبد الله)
بن عباس أبي الحسن العابد (ائتيا أبا سعيد) الخدري -رضي
الله عنه- (فاسمعا من حديثه فأتيناه) ولأبي ذر عن
الكشميهني فأتيا (وهو وأخوه) أي من الرضاعة وليس لأبي سعيد
أخ شقيق ولا أخ من أبيه ولا من أمه إلا قتادة بن النعمان،
ولا يصح أن يكون هو فإن عليّ بن عبد الله بن عباس ولد في
آخر خلافة عليّ ومات قتادة بن النعمان، قبل ذلك في أواخر
خلافة عمر. (في حائط) أي بستان (لهما يسقيانه، فلما رآنا)
أبو سعيد (جاء) فأخذ رداءه (فاحتبى وجلس فقال: كنا ننقل
لبن المسجد) بفتح اللام وكسر الموحدة طوبه النيء المتخذ
لعمارته (لبنة لبنة) مرتين (وكان عمار) هو ابن ياسر (ينقل
لبنتين لبنتين) ذرهما مرتين كلبنة (فمرّ به النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومسح عن رأسه الغبار وقال):
(ويح عمار تقتله الفئة الباغية)، هم أهل الشام، وسقط لأبي
ذر قوله تقتله الفئة الباغية، وفي البزار أن أبا سعيد هذا
الساقط عند أبي ذر من أصحابه لا من النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عمار يدعوهم) أي يدعو عمار الفئة
الباغية وهم أصحاب معاوية الذين قتلوه في وقعة صفين (إلى)
طاعة (الله) إذ طاعة عليّ الإمام إذ ذاك من طاعة الله وقال
ابن بطال: يريد والله أعلم أهل مكة الذين أخرجوا عمارًا من
دياره وعذبوه في ذات الله
(5/49)
قال: ولا يمكن أن يتأوّل ذلك على المسلمين
لأنهم أجابوا دعوة الله تعالى، وإنما يدعى إلى الله من كان
خارجًا عن الإسلام (ويدعونه) أي الفئة الباغية أو أهل مكة
(إلى) سبب (النار) لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم
لأنهم كانوا مجتهدين ظانين أنهم يدعونه إلى الجنة وإن كان
في نفس الأمر بخلاف ذلك فلا لوم عليهم في اتباع ظنونهم
الناشئة عن الاجتهاد، وإذ قلنا المراد
أهل مكة وأنهم دعوه إلى الرجوع إلى الكفر، وأن هذا كان أول
الإسلام فلم قال: يدعوهم بلفظ المستقبل فيكون قد عبّر
بالمستقبل موضع الماضي كما يقع التعبير بالماضي موضع
المستقبل فمعنى يدعوهم دعاهم إلى الله فأشار عليه الصلاة
والسلام إلى ذكر هذا لما طابقت شدّته في نقله لبنتين شدّته
في صبره بمكة على العذاب تنبيهًا على فضيلته وثباته في أمر
الله قاله ابن بطال.
والأول هو ظاهر السياق لا سيما مع قوله: تقتله الفئة
الباغية، ولا يصح أن يقال: إن مراده الخوارج الذين بعث
عليّ عمارًا يدعوهم إلى الجماعة لأن الخوارج إنما خرجوا
على عليّ بعد قتل عمار بلا خلاف، فإن ابتداء أمر الخوارج
كان عقب التحكيم، وكان عقب انتهاء القتال بصفّين، وكان قتل
عمار قبل ذلك قطعًا، لكن ابن بطال تأدب حيث لم يتعرض لذكر
صفين إبعادًا لأهلها عن نسبة البغي إليهم وفيما تقدم من
الاعتذار عنهم بكونهم مجتهدين والمجتهد إذا أخطأ له أجر ما
يكفي عن هذا التأويل البعيد.
وهذا الحديث قد مرّ في باب التعاون في بناء المسجد من كتاب
الصلاة.
18 - باب الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ
2813 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رضي
الله عنها-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ
وَوَضَعَ السِّلاَحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ
وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ فَقَالَ: وَضَعْتَ
السِّلاَحَ؟ فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَأَيْنَ؟
قَالَ: هَاهُنَا -وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ-
قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
(باب) جواز (الغسل بعد الحرب والغبار).
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد) بغير
نسبه ونسبة أبو ذر عن الكشميهني فقال محمد بن سلام بتخفيف
اللام ابن الفرج السلمي البيكندي قال: (أخبرنا عبدة) بفتح
العين وسكون الموحدة ابن سليمان (عن هشام بن عروة عن أبيه)
عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رجع يوم الخندق)
الذي حفره الصحابة لما تحزبت عليهم الأحزاب بالمدينة سنة
أربع أو سنة خمس (ووضع السلاح) وسقط لأبي ذر لفظ السلاح
(واغتسل، فأتاه جبريل) عليهما السلام (و) الحال أنه (قد
عصب رأسه الغبار) بتخفيف الصاد المهملة أي ركب على رأسه
الغبار وعلق به كالعصابة تحيط بالرأس (فقال) له: (وضعت
السلاح فوالله ما وضعته. فقال) له (رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(فأين)؟ وفي المغازي من طريق عبد الله بن أبي شيبة عن ابن
نمير عن هشام والله ما وضعناه فأخرج إليهم قال: "فإلى
أين"؟ (قال: هاهنا وأومأ إلى بني قريظة) بضم القاف وفتح
الراء وسكون
التحتية وفتح الظاء المعجمة قبيلة من اليهود (قالت) عائشة
-رضي الله عنها- (فخرج إليهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
وهذا الحديث أخرجه في المغازي أيضًا.
19 - باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ
تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ
مِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 179 - 181].
(باب فضل قول الله تعالى): أي فضل من ورد فيه قول الله
تعالى، ولأبي ذر: عز وجل ({ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله أمواتًا بل أحياء) أي بل هم أحياء ({عند ربهم}) ذوو
زلفى منه ({يرزقون}) من الجنة ({فرحين}) حال من الضمير في
يرزقون ({بما آتاهم الله من فضله}) وهو شرف الشهادة والفوز
بالحياة الأبدية والقرب من الله تعالى والتمتع بنعيم الجنة
({ويستبشرون}) عطف على فرحين أي يسرون بالبشارة ({بالذين
لم يلحقوا بهم}) أي بإخوانهم المؤمنين الذين فارقوهم أحياء
فيلحقوا بهم ({من خلفهم ألاّ خوف عليهم}) فيمن خلفوهم من
ذريتهم ({ولا هم يحزنون}) على ما خلفوا من أموالهم
({يستبشرون}) قال القاضي كرره للتوكيد، أو ليعلق به ما هو
بيان لقوله (أن لا خوف عليهم) ويجوز أن يكون الأول بحال
إخوانهم وهذا بحال أنفسهم ({بنعمة من الله}) ثواب لأعمالهم
({وفضل}) زيادة عليه كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى
وزيادة} [يونس: 26] وتنكيرهما للتعظيم ({وأن الله لا يضيع
أجر المؤمنين}) [آل عمران: 169 - 170 - 171] من جملة
المستبشر به عطف على فضل.
وفي حديث ابن عباس عند الإمام أحمد مرفوعًا: الشهداء على
بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم
(5/50)
رزقهم بكرةً وعشيًّا. وقال سعيد بن جبير:
لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة بالشهداء قالوا:
يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من
الكرامة فإذا شهدوا القتال باشروه بأنفسهم حتى يستشهدوا
فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأخبر الله رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأمرهم وما هم فيه من الكرامة
وأخبرهم أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم
فيه فاستبشروا فذلك قوله تعالى: {ويستبشرون بالذين لم
يلحقوا بهم من خلفهم} [آل عمران: 170] الآية.
وسياق الآيتين الكريمتين ثابت في رواية الأصيلي وكريمة،
وقال في رواية أبي ذر: يرزقون -إلى- وإن الله لا يضيع أجر
المؤمنين.
2814 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
-رضي الله عنه- قَالَ: "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا
أَصْحَابَ بِئْرِ
مَعُونَةَ. ثَلاَثِينَ غَدَاةً، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ
وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ أَنَسٌ:
أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ
قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ: بَلِّغُوا
قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا
وَرَضِينَا عَنْهُ".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) بن أبي أويس
الأصبحي (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن إسحاق
بن عبد الله بن أبي طلحة عن) عمه (أنس بن مالك -رضي الله
عنه-) أنه (قال): (دعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة) بفتح الميم
وضم العين المهملة وبعد الواو الساكنة نون موضع من جهة نجد
(ثلاثين غداة على رعل) بكسر الراء وسكون العين المهملة بدل
من الذين قتلوا بإعادة العامل (وذكوان) بالذال المعجمة
(وعصية) بضم العين وفتح الصاد المهملة وتشديد التحتية (عصت
الله ورسوله) (قال أنس: أنزل في الذين قتلوا ببئر معونة
قرآن قرأناه ثم نسخ)، لفظه (بعد بلغوا قومنا أن قد لقينا
ربنا فرضي عنا ورضينا عنه). زاد عمر بن يونس عن عكرمة عن
إسحاق بن أبي طلحة عند ابن جرير {ولا تحسبن الذين قتلوا في
سبيل الله} [آل عمران: 169] وبهذه الزيادة تحصل المطابقة
بين الحديث والآية.
وحديث الباب أخرجه المؤلّف أيضًا في المغازي بأتم من هذا
وأخرجه مسلم في الصلاة.
2815 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: "اصْطَبَحَ نَاسٌ
الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ.
فَقِيلَ لِسُفْيَانَ: مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ:
لَيْسَ هَذَا فِيهِ". [الحديث 2815 - طرفاه في: 4044،
4618].
وبه قال: (حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو) بفتح العين ابن دينار المكي أنه
(سمع جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- يقول:
اصطبح ناس) منهم والد جابر (الخمر) أي شربوها بالغداة (يوم
أُحُد) وكانت إذ ذاك مباحة (ثم قتلوا شهداء)، والخمر في
بطونهم فلم يمنعهم ما كان في علم الله من تحريمها ولا
كونها في بطونهم من حكم الشهادة وفضلها، لأن التحريم إنما
يلزم بالنهي وما كان قبل النهي فغير مخاطب به، (فقيل
لسفيان) بن عيينة: (من آخر ذلك اليوم) أي في هذا الحديث
هذا اللفظ موجود (قال) سفيان: (ليس هذا فيه).
وأما مطابقة الحديث للترجمة فقال ابن المنير: عسر جدًّا
إلا أن يكون مراده التنبيه على أن الخمر التي شربوها لم
تضرهم لأن الله أثنى عليهم بعد موتهم ورفع عنهم الخوف
والحزن، وما ذاك أن الخمر كانت يومئذٍ مباحة، ولا يتعلق
التكليف بفعل المكلف باعتبار ما في علم الله تعالى حتى
يبلغه رسوله اهـ.
قال في المصابيح بعد ذكره لهذا: لم تحصل النفس على شفاء من
مطابقة الحديث للترجمة لأن هؤلاء الذين اصطبحوا ثم ماتوا
وهي في بطونهم لم يفعلوا ما يتوقع عليه عتاب ولا عقاب
ضرورة
أنها كانت مباحة حينئذٍ فهي كغيرها من مباحات صدرت منهم
ذلك اليوم فما الحكمة في تخصيص هذا المباح دون غيره اهـ.
وأجاب في فتح الباري: بإمكان أن يكون أورد الحديث للإشارة
إلى أحد الأقوال في سبب نزول الآية المترجم بها، فقد روى
الترمذي من حديث جابر أيضًا: إن الله تعالى لما كلم والد
جابر وتمنى أنه يرجع إلى الدنيا ثم قال: يا رب بلغ من
ورائي فأنزل الله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله أمواتًا} الآية [آل عمران: 169].
وحديث الباب قد أخرجه المؤلّف أيضًا فى المغازي والتفسير.
20 - باب ظِلِّ الْمَلاَئِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
2816 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ
بْنَ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ:
"جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَنَهَانِي قَوْمِي،
فَسَمِعَ صَوْتَ نَائِحَةٍ، فَقِيلَ: ابْنَةُ عَمْرٍو
-أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو- فَقَالَ: لِمَ تَبْكِي، أَوْ لاَ
تَبْكِي، مَا زَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ
بِأَجْنِحَتِهَا. قُلْتُ لِصَدَقَةَ: أَفِيهِ حَتَّى
رُفِعَ؟ قَالَ: رُبَّمَا قَالَهُ".
(باب ظل الملائكة على الشهيد).
وبه قال: (حدّثنا صدقة بن الفضل) المروزي (قال: أخبرنا ابن
عيينة) سفيان (قال: سمعت محمد بن المنكدر) وسقط لأبي ذر
لفظ محمد (أنه سمع جابرًا) الأنصاري (يقول: جيء بأبي) عبد
الله أي يوم وقعة أُحُد (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد مثل به) بضم الميم وتشديد المثلثة
المكسورة أي جدع أنفه وأُذنه أو شيء من أطرافه (ووضع بين
يديه فذهبت أكشف عن وجهه) الثوب (فنهاني قومي فسمع) عليه
الصلاة والسلام (صوت) امرأة (صائحة) ولأبي ذر عن
(5/51)
الكشميهني: صوت نائحة زاد في الجنائز فقال
من هذه (فقيل: ابنة عمرو) فاطمة أخت المقتول عمة جابر
(-أخت عمرو-) عمة المقتول عبد الله والشك من الراوي (فقال)
عليه الصلاة والسلام:
(لِمَ تبكي) بكسر اللام وفتح الميم أي لم تبكي هي فالخطاب
لغيرها، وإلاّ فلو كان مخاطبًا لها لقال: لم تبكين؟ (أو لا
تبكي)، شك الراوي هل استفهم أو نهى (ما زالت الملائكة تظله
بأجنحتها) فكيف تبكي عليه مع حصول هذه المنزلة له؟ قال
البخاري -رحمه الله تعالى- (قلت: لصدقة): أي ابن الفضل
شيخه (أفيه) أي في الحديث (حتى رفع؟ قال) أبي سفيان بن
عيينة (ربما قاله) أي جابر ولم يجزم وقد جزم به في الجنائز
من طريق علي بن عبد الله المديني، وكذا رواه الحميدي
وجماعة عن سفيان كما أفاده في فتح الباري.
وهذا الحديث قد سبق في الجنائز وأخرجه أيضًا في المغازي.
21 - باب تَمَنِّي الْمُجَاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى
الدُّنْيَا
2817 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ
قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ
إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَىْءٍ،
إِلاَّ الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى
الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ
الْكَرَامَةِ».
(باب تمني المجاهد) الذي قتل في سبيل الله (أن يرجع إلى
الدنيا) لما يرى من الكرامة.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة وتشديد
المعجمة بندار العبدي البصري قال: (حدّثنا غندر) بضم الغين
المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة آخره راء منوّنة
محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: سمعت
قتادة) بن دعامة (قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا و) الحال أن
(له ما على الأرض من شيء) وفي رواية مسلم من طريق أبي خالد
الأحمر: وأن له الدنيا وما فيها (إلا الشهيد) بالرفع ولأبي
ذر: إلا الشهيد بالنصب "يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل"
بالنصب (عشر مرات) أي في سبيل الله (لما) باللام أي لأجل
ما (يرى من الكرامة). ولأبي ذر بما بالموحدة أي بسبب ما
يرى.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي في الجهاد.
22 - باب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَخْبَرَنَا
نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ
رِسَالَةِ رَبِّنَا: مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى
الْجَنَّةِ.
وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ
وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى.
هذا (باب) بالتنوين (الجنة تحت بارقة السيوف) من إضافة
الصفة إلى الموصوف والبارقة اللمعان. (وقال المغيرة بن
شعبة): مما وصله المؤلّف تامًّا في الجزية (أخبرنا نبينا)
وللأصيلي وأبي الوقت: نبينا محمد، وليس في اليونينية لفظ
محمد نعم هو في فرعها (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن رسالة ربنا) (من قتل منا) أي في سبيل الله
"صار إلى الجنة" وثبت قوله عن رسالة ربنا للحموي
والمستملي. (وقال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- مما وصله
المؤلّف في قصة عمرة الحديبية (للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في
النار؟ (قال): (بلى).
2818 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي
النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ -وَكَانَ
كَاتِبَهُ- قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي
أَوْفَى -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ
الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ».
تَابَعَهُ الأُوَيْسِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ
مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ. [الحديث 2818 - أطرافه في: 2833،
2966، 3024، 7237].
وبه قال: (حدّثنا) وفي نسخة بالإفراد (عبد الله بن محمد)
المسندي قال: (حدّثنا معاوية بن عمرو) بفتح العين بن
المهلب الأزدي قال: (حدّثنا أبو إسحاق) إبراهيم بن محمد
الفزاري لا السبيعي وسها الكرماني (عن موسى بن عقبة) بضم
العين وسكون القاف الإمام في المغازي (عن سالم أبي النضر)
بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن أبي أمية (مولى عمر بن
عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن معمر التميمي (-وكان) أي
سالم (كاتبًا-) أي لعمر بن عبيد الله وفي الفرع كان كاتبه
قاله الكرماني وتبعه البرماوي، وقد وقع التصريح بذلك في
باب: لا تمنوا لقاء العدوّ من رواية يوسف بن موسى عن عاصم
بن يوسف اليربوعي عن أبي إسحاق الفزاري حيث قال فيها:
حدّثني سالم أبو النضر كنت كاتبًا لعمر بن عبيد الله وحين
فقول الحافظ ابن حجر قوله وكان كاتبه أي أن سالمًا كان
كاتب عبد الله بن تأبى أوفى سهو، وتبعه فيه العلامة العيني
وزاد فقال: وقد سهى الكرماني سهوا فاحشًا حيث قال: وكان
سالم كاتب عمر بن عبيد الله، وليس كذلك بل الصواب ما
ذكرناه أي من كونه كاتب عبد الله بن أبي أوفى. (قال) أي
سالم (كتب إليه) أي إلى عمر بن عبيد الله (عبد الله بن أبي
أوفى) فاعل كتب (-رضي الله عنهما-). زاد في رواية يوسف بن
موسى فقرأته قال الدارقطني: لم يسمع أبو النضر من ابن أبي
أوفى فهو حجة في رواية المكاتبة، وتعقب كما في فتح الباري
بأن شرط الرواية بالمكاتبة عند أهل الحديث أن تكون الرواية
صادرة إلى المكتوب إليه، وابن أبي أوفى لم يكتب إلى سالم
إنما كتب إلى عمر بن عبد الله
(5/52)
وحينئذٍ فتكون رواية سالم له عن عبد الله
بن أبي أوفى من صور الوجادة.
قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يقال الظاهر أنه من رواية
سالم عن مولاه عن عبد الله بقراءته عليه لأنه كان كاتبه عن
عبد الله بن أبي أوفى أنه كتب إليه فيصير حينئذٍ من صور
المكاتبة اهـ.
وفيه التصريح بأن سالمًا كاتب عمر بن عبيد الله فترجح أن
قوله الأوّل سهو أو سبق قلم، ويستأنس له بقول الدارقطني لم
يسمع أبو النضر من ابن أبي أوفى فليتأمل. (أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف). أي أن ثواب الله
والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله
وهو من المجاز البليغ لأن ظل الشيء لما كان ملازمًا له ولا
شك أن ثواب الجهاد الجنة، فكأن ظلال السيوف المشهورة في
الجهاد تحتها الجنة أي ملازمها استحقاق ذلك، وخص السيوف
لأنها أعظم آلات القتال وأنفعها لأنها أسرع إلى الزهوق،
وفي حديث عمار بن ياسر عند الطبراني بإسناد صحيح أنه قال
يوم صفين: الجنة تحت الأبارقة، وفي ترجمة عمار بن ياسر من
طبقات ابن سعد: تحت البارقة بغير همز. قال ابن حجر: وهو
الصواب. والبارقة: اللمعان. وقد
تطلق البارقة ويراد بها نفس السيوف، وقيل الأبريق السيف
ودخلت الهاء عوضًا عن الياء، ولم يذكر المؤلّف من الحديث
ما يوافق لفظ الترجمة وكأنه أشار بها إلى حديث عمار
المذكور ولم يسقه لكونه ليس على شرطه، واستنبط معناها مما
هو على شرطه فإنه إذا ثبت لها ظلال ثبت لها بارقة ولمعان
قاله ابن المنير.
(تابعه) أي تابع معاوية بن عمرو (الأويسي) عبد العزيز بن
عبد الله مما رواه المؤلّف في غير كتابه هذا (عن ابن أبي
الزناد) عبد الرحمن مفتي بغداد واسم أبي الزناد عبد الله
بن ذكوان المدني (عن موسى بن عقبة). قال في الفتح: وقد
رواه عمر بن شبة عن الأويسي فبين أن ذلك كان يوم الخندق.
وهذا الحديث ذكره هنا مختصرًا، وفي باب الصبر عند القتال،
وباب تأخير القتال حتى تزول الشمس مطوّلاً، وفي باب النهي
عن تمني لقاء العدو، وأخرجه مسلم في المغازي، وأبو داود في
الجهاد.
23 - باب مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ
(باب من طلب الولد للجهاد) أي في سبيل الله بأن ينوي ذلك
عند المجامعة.
2819 - حَدَّثَنَا وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ
بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا
السَّلاَمُ -: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ
امْرَأَةٍ -أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ- كُلُّهُنَّ يَأْتِي
بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ
صَاحِبُهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ , فَلَمْ يَقُلْ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ تَحْملْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ
وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ. وَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ».
[الحديث 2819 - أطرافه في: 3424، 5242، 6639، 6720، 7469].
(وقال الليث) بن سعد الإمام الأعظم مما وصله أبو نعيم في
مستخرجه من طريق يحيى بن بكير عنه وكذا مسلم (حدّثني)
بالإفراد (جعفر بن ربيعة) بن شرحبيل الكندي (عن عبد الرحمن
بن هرمز) الأعرج أنه (قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه-
عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على مائة
امرأة أو تسع وتسعين) بالشك من الراوي. أي: والله لأجامعن
مائة أو تسعًا وتسعين، وفي رواية ستين وليس في ذكر القليل
ما ينفي الكثير (كلهن يأتي) بالتحتية، ولأبي ذر: تأتي
بالفوقية (بفارس يجاهد في سبيل الله) صفة لفارس (فقال له
صاحبه) وهو الملك، وفي مسلم فقال له صاحبه أو الملك بالشك
من أحد الرواة (قل إن شاء الله) لنسيانه (فلم يقل) عليه
السلام (إن شاء الله). بلسانه والذي في الفرع وأصله حذف قل
ولم
يكن غفل عن التفويض إلى الله بقلبه حاشى منصب النبوة عن
ذلك (فلم يحمل) بالتحتية، ولأبي ذر: فلم تحمل بالفوقية
(منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل) أي بنصف رجل كما في
رواية أخرى (والذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله
لجاهدوا في سبيل الله) عز وجل حال كونهم (فرسانًا) جمع
فارس (أجمعون). رفع تأكيد لضمير الجمع في قوله لجاهدوا.
قال شيخ مشايخنا السراج بن الملقن هذا الحديث أخرجه هنا
البخاري معلقًا وأسنده في ستة مواضع منها في الأيمان
والنذور.
24 - باب الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ وَالْجُبْنِ
2820 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
وَاقِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ
وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ. وَلَقَدْ فَزِعَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ، وَقَالَ:
وَجَدْنَاهُ بَحْرًا".
(باب) مدح (الشجاعة في الحرب و) ذم (الجبن) بضم الجيم
وسكون الموحدة أي فيه.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن عبد الملك بن واقد) بالقاف
الحراني بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء بالنون. قال:
(حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم الأزدي الجهضمي البصري
(عن ثابت) البناني (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال):
(كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(5/53)
أحسن الناس) لأن الله تعالى قد أعطاه كل
الحسن (وأشجع الناس) إذ هو أكملهم (وأجود الناس) لتخلّقه
بصفات الله تعالى التي منها الجود والكرم (ولقد فزع) بكسر
الزاي أي خاف (أهل المدينة) أي ليلاً وزاد أبو داود في
رواية فانطلق الناس قبل الصوت (فكان النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبقهم على فرس) عرى استعاره من أبي
طلحة يقال له: المندوب وكان يقطف أي بطيء المشي. (وقال):
حين رجع (وجدناه) أي الفرس (بحرًا). أي جوادًا واسع الجري
وفيه استعمال المجاز حيث شبّه الفرس بالبحر لأن الجري منه
لا ينقطع كما لا ينقطع ماء البحر وسقطت واو وقال لأبي ذر.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الجهاد والأدب والترمذي في
الجهاد والنسائي في السير.
2821 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ مُحَمَّدَ
بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: "أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ
أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ النَّاسُ
مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَهُ النَّاسُ
يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ
فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَعْطُونِي رِدَائِي، لَوْ
كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ
بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلاَ كَذُوبًا
وَلاَ جَبَانًا". [الحديث 2821 - طرفه في: 3148].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عمر بن محمد بن جبير بن مطعم)
عمر بضم العين ومطعم بكسرها وضم الميم النوفلي القرشي (أن)
أباه (محمد بن جبير قال: أخبرني) بالإفراد أبي (جبير بن
مطعم) -رضي الله عنه- (أنه بينما) بالميم (هو يسير مع رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه) أي والحال
أنه عليه الصلاة والسلام معه (الناس مقفلة) بفتح الميم
وسكون القاف وفتح الفاء واللام مصدر ميمي أو اسم زمان أي
زمان رجوعه (من حنين) وادٍ بين مكة والطائف سنة ثمان
(فعلقه الناس) بفتح العين وكسر اللام المخففة وبالقاف ثم
الهاء أي تعلقوا به ولأبي ذر: فعلقت بتاء التأنيث بدل
الهاء الأعراب بدل الناس، وله عن الكشميهني: فطفقت الناس
حال كونهم (يسألونه حتى اضطروه) أي ألجؤوه (إلى سمرة) بفتح
السين المهملة وضم الميم وهي شجرة من شجر البادية ذات شوك
(فخطفت رداءه) بكسر الطاء أي علق شوكها بردائه الشريف
فجبذه فهو مجاز لأنه استعير لها الخطف أو المراد خطفته
الأعراب، (فوقف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال):
(أعطوني ردائي) بهمزة قطع (لو كان لي عدد هذه العضاه
نعمًا) بكسر العين وفتح الضاد المعجمة وبعد الألف هاء وقفا
ووصلاً شجر كثير الشوك ونعمًا نصب على التمييز ولي خبر
كان، ويجوز أن يكون نعمًا خبر كان والنعم الإبل أو والبقر
والغنم، ولأبي ذر عدد بالنصب خبر كان مقدمًا نعم بالرفع
اسمها مؤخرًا (لقسمته بينكم) ولأبي ذر من غير اليونينية:
عليكم (ثم لا تجدوني) بنون واحدة ولأبي ذر: لا تجدونني
(بخيلاً ولا كذوبًا ولا جبانًا) أي إذا جربتموني لا تجدوني
ذا بخل ولا ذا كذب ولا ذا جبن، فالمراد نفي الوصف من أصله
لا نفي المبالغة التي تدل عليها الثلاثة لأن كذوبًا من صيغ
المبالغة وجبانًا صفة مشبهة وبخيلاً يحتمل الأمرين.
قال ابن المنير -رحمه الله تعالى-: وفي جمعه عليه الصلاة
والسلام بين هذه الصفات لطيفة وذلك لأنها متلازمة وكذا
أضدادها الصدق والكرم والشجاعة، وأصل المعنى هنا الشجاعة
فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسب سيفه فبالضرورة لا
يبخل، وإذا سهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد لأن
الخلف إنما ينشأ من البخل، وقوله: لو كان لي عدد هذه
العضاه تنبيه بطريق الأولى لأنه إذا سمح بمال نفسه فلأن
يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى واستعمال ثم هنا بعد ما تقدم
ذكره ليس مخالفًا لمقتضاها وإن كان الكرم يتقدم العطاء،
لكن علم الناس بكرم الكريم إنما يكون بعد العطاء، وليس
المراد بثم هنا الدلالة على تراخي العلم بالكرم عن العطاء
وإنما التراخي هنا لعلوّ رتبة الوصف كأنه قال: وأعلى من
العطاء بما لا يتقارب أن يكون العطاء عن كرم فقد يكون عطاء
بلا كرم كعطاء البخيل ونحو ذلك اهـ.
وفيه دليل على جواز تعريف الإنسان نفسه بالأوصاف الحميدة
لمن لا يعرفه ليعتمد عليه.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الخمس.
25 - باب مَا يُتَعَوَّذُ مِنَ الْجُبْنِ
2822 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
عُمَيْرٍ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ الأَوْدِيَّ
قَالَ: "كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ
الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ
الْكِتَابَةَ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ
دُبُرَ الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ
الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا،
وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَحَدَّثْتُ بِهِ
مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ". [الحديث 2822 - أطرافه في: 6365،
6370، 6374، 6390].
(باب ما يتعوذ) بضم أوله مبنيًّا للمفعول أي بيان التعوّذ
(من الجبن) وهو ضد الشجاعة.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
أبو عوانة) الوضاح اليشكري قال: (حدّثنا عبد الملك بن
عمير) بضم
(5/54)
العين مصغرًا ابن سويد الكوفي القرشي بفتح
الفاء والراء ثم مهملة نسبة إلى فرس له سابق (قال: سمعت
عمرو بن ميمون الأودي) بفتح الهمزة وسكون الواو وبالدال
المهملة نسبة إلى أود بن معن في باهلة (قال: كان سعيد) هو
ابن أبي وقاص أحد العشرة (يُعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما
يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول: إن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتعوذ منهن) بالميم وفي
بعض الأصول بهم (دبر الصلاة): بعد السلام منها.
(اللهم إني أعوذ بك من الجبن) وهو ضد الشجاعة (وأعوذ بك أن
أردّ إلى أرذل العمر)، هو الخرف أي يعود كهيئته الأولى في
زمن الطفولية سخيف العقل قليل الفهم أو هو أردؤه وهو حال
الهرم والضعف عن أداء الفرائض وعن خدمة نفسه فيكون كلاًّ
على أهله مستثقلاً بينهم يتمنون موته وإن لم يكن له أهل
فالمصيبة أعظم. (وأعوذ بك من فتنة الدنيا)، زاد في باب:
التعوذ من البخل من رواية آم عن شعبة عن عبد الملك عن مصعب
عن سعد "وأعوذ بك من فتنة الدنيا" يعني فتنة الدجال، وحكى
الكرماني أن هذا من زيادات شعبة بن الحجاج. قال ابن حجر:
وليس كما قال فقد بيّن يحيى بن بكير عن شعبة أنه من كلام
عبد الملك بن عمير راوي الخبر أخرجه الإسماعيلي من طريقه،
وفي إطلاق الدنيا على الدجال إشارة إلى أن فتنته أعظم
الفتن الكائنة في الدنيا (وأعوذ بك من عذاب القبر) الواقع
أن الكفار ومن شاء الله من الموحدين بمطارق من حديد يسمعه
خلق الله كلهم إلا الجن والإنس أعاذنا الله من ذلك ومن
سائر المهالك بمنّه وكرمه، والإضافة هنا من إضافة المظروف
إلى ظرفه فهو على تقدير في أيٍّ من عذاب القبر. قال عبد
الملك بن عمير: (فحدّثت به) أي بهذا الحديث (مصعبًا) بضم
الميم وسكون الصاد المهملة وفتح العين بعدها موحدة ابن سعد
بن أبي وقاص (فصدقه).
ومطابقة الحديث للترجمة واضحة وإنما استعاذ من الجبن لأنه
يؤدي إلى عذاب الآخرة كما قاله المهلب لأنه يفر من قرنه في
الزحف فيدخل تحت الوعيد فمن ولى فقد باء بغضب من الله،
وربما
يفتن في دينه فيرتد بجبن أدركه وخوف على مهجته من الأسر
والعبودية. ثبتنا الله على دينه القويم.
وهذا الحديث أخرجه الترمذي في الدعوات، والنسائي في
الاستعاذة.
2823 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي
الله عنه- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ
بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ, وَالْجُبْنِ
وَالْهَرَمِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا
وَالْمَمَاتِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
[الحديث 2823 - أطرافه في: 6367، 6371].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: حدّثنا معتمر)
بكسر الميم الثانية (قال: سمعت أبي) سليمان بن طرخان
التيمي (قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه). يقول: (كان
النبي) ولأبي ذر: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(اللهم إني أعوذ بك من العجز) هو ذهاب القدرة (والكسل)
بفتح السين وفي اليونينية بسكونها وهو القعود عن الشيء مع
القدرة على عمله إيثارًا لراحة البدن على التعب (والجبن)
وهو الخور من تعاطي الحرب ونحوها خوفًا على المهجة
(والهرم) هو الزيادة في كبر السن المؤدي إلى ضعف الأعضاء
وتساقط القوة. قال ابن المنير: فيه دليل على أن الغرائز قد
تتبدال من خير إلى شر ومن شر إلى خير، ولولا ذلك لما صح
تعوذ الجبان من الجبن (وأعوذ بك من فتنة المحيا) أن نفتتن
بالدنيا ونشتغل بها عن الآخرة وأعظمها والعياذ بالله تعالى
أمر الخاتمة عند الموت أو هي فتنة الدجال كما مرّ في تفسير
عبد الملك بن عمير (والممات) قيل المراد فتنة القبر كسؤال
الملكين ونحو ذلك، والمراد من شر ذلك وإلاّ فأصل السؤال
واقع لا محالة فلا يدعى برفعه. وفي الحديث إنكم تفتنون في
قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال فيكون عذاب القبر
مسببًا عن ذلك والسبب غير المسبب، وقيل: المراد الفتنة
قبيل الموت وأضيفت إلى الموت لقربها منه فعلى هذا تكون
فتنة المحيا قبل ذلك. (وأعوذ بك من عذاب القبر) فيه دليل
لأهل السُّنّة على إثبات عذاب القبر، وقد قال -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعوذ من جميع ما ذكر تشريعًا
لأمته ليبيّن لهم المهم من الأدعية.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الدعوات، وكذا مسلم، وأخرجه
النسائي في الاستعاذة وأبو داود في الصلاة.
26 - باب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الْحَرْبِ
قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ.
(باب من حدّث بمشاهده في الحرب). ليتأسى بذلك
(5/55)
ويرغب فيه لا للرياء والسمعة (قاله أبو
عثمان) عبد الرحمن النهدي (عن سعد) هو ابن أبي وقاص فيما
وصله في المغازي.
2824 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
حَاتِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ
يَزِيدَ قَالَ: "صَحِبْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ
وَسَعْدًا وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ وَعَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ -رضي الله عنهم-، فَمَا سَمِعْتُ
أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ
طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ". [الحديث 2824 -
طرفه في: 4062].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي أبو رجاء البغلاني
قال: (حدّثنا حاتم) هو ابن إسماعيل الكوفي (عن محمد بن
يوسف) الكندي (عن السائب بن يزيد) الصحابي ابن الصحابيين
وهو جد محمد بن يوسف لأمه أنه (قال: صحبت طلحة بن عبيد
الله) بضم العين (و) صحبت (سعدًا) هو ابن أبي وقاص (و)
صحبت (المقداد بن الأسود و) صحبت (عبد الرحمن بن عوف رضي
الله عنهم، فما سمعت أحدًا منهم) أي من هؤلاء الصحابة
الأربعة وسقط لفظ منهم للمستملي (يحدّث عن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) خشية التزايد
والنقصان والدخول في الوعيد (إلا أني سمعت طلحة) بن عبيد
الله (يحدّث عن يوم أُحُد) أي بما وقع له فيه من ثبات
القدم أو نحو ذلك. وقد كان من أهل النجدة، وذكر المؤلّف في
المغازي عن قيس قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أُحُد. وعن أبي
عثمان النهدي أنه لم يبق مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلك الأيام غير طلحة وسعد، فلهذا حدّث
طلحة عن مشاهده يوم أُحُد ليقتدي به الناس في مثل فعله.
وقال الحافظ ابن حجر: لم يبين في هذا الحديث ما حدّث به
طلحة من ذلك، وقد أخرجه أبو يعلى من طريق يزيد بن خصيفة عن
السائب بن يزيد عمن حدّثه عن طلحة أنه ظاهر بين درعين يوم
أُحُد.
27 - باب وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ
وَالنِّيَّةِ وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا
قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ
بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ} [التوبة: 41] الآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ
انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الأَرْضِ؟ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ
الآخِرَةِ -إِلَى قَوْلِهِ- عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ}
[التوبة: 38]
يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "انْفِرُوا ثُبَاتٍ:
سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ"، وَيُقَالُ: أَحَدُ الثُّبَاتِ
ثُبَةٌ.
(باب وجوب النفير)، بفتح النون وكسر الفاء أي الخروج إلى
قتال الكفار (وما يجب) أي وبيان القدر الواجب (من الجهاد)
مشروعية (النيّة) في ذلك، (وقوله) بالجر عطفًا على المجرور
السابق، ولأبي ذر وقول الله عز وجل آمرًا بالنفير العام مع
الرسول عليه الصلاة والسلام عام غزوة تبوك لقتال
أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على
المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره
والعسر واليسر فقال تعالى: ({انفروا خفافًا}) لنشاطكم له
({وثقالاً}) عنه لمشقة عليكم أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو
ركبانًا ومشاة أو خفافًا وثقالا من السلاح أو صحاحًا
ومراضًا، ولما فهم بعض الصحابة من هذا الأمر العموم لم
يتخلفوا عن الغزو حتى ماتوا منهم أبو أيوب الأنصاري
والمقداد بن الأسود، ثم رغب تعالى في بذل المهج في مرضاته
والنفقة في سبيله فقال ({وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل
الله}) أي بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما ({ذلكم خير
لكم}) من تركه ({إن كنتم تعلمون}) الخير ({لو كان عَرَضًا
قريبًا}) أي لو كان ما دعوا إليه نفعًا دنيويًا قريبًا سهل
المأخذ ({وسفرًا قاصدًا}) متوسطًا ({لاتبعوك}) طمعًا في
ذلك النفع ({ولكن بعدت عليهم الشقّة}) أي المسافة التي
تقطع بمشقة ({وسيحلفون بالله}) [التوبة: 41، 42]. لكم إذا
رجعتم إليهم لو استطعنا لخرجنا معكم (الآية) إلى آخرها.
وساقها إلى آخر قوله: {بالله} وقال في رواية أبي ذر بعد
قوله: {بأموالكم وأنفسكم} إلى {إنهم لكاذبون} وحذف ما عدا
ذلك، وقد ذكر سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى أن هذه
الآية {انفروا خفافًا} أوّل ما نزل من سورة براءة نقله ابن
كثير الحافظ.
(وقوله) تعالى بالجر أو بالرفع على الاستئناف: ({يا أيها
الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله
اثّاقلتم}) تباطأتم ({إلى الأرض}) متعلق به كأنه ضمن معنى
الإخلاد والميل فعدى بإلى، وكان هذا في غزوة تبوك حيث
أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف حين طاب الثمار والظلال في
شدة الحر مع بعد المشقّة وكثرة العدوّ فشق عليهم ({أرضيتم
بالحياة الدنيا}) وغرورها ({من الآخرة}) بدل الآخرة
ونعيمها (إلى قوله) ({على كل شيء قدير}) [التوبة: 38، 39].
وقال في رواية أبي ذر قوله: {إلى الأرض} إلى قوله: {والله
على كل شيء قدير}.
(يذكر) بضم أوّله مبنيًّا للمفعول بغير واو، ولأبي ذر:
ويذكر (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما وصله الطبري من
طريق علي بن أبي طلحة عنه (انفروا) حال كونكم (ثبات) بضم
المثلثة وتخفيف الموحدة نصب بالكسرة كهندات جمع ثبة، ولأبي
ذر والقابسي: ثباتًا بالألف. قال ابن حجر: وهو غلط
(5/56)
لا وجه له. وقال العيني: وهو صحيح لأنه جمع
المؤنث السالم، وكذا قال ابن الملقن والزركشي، وتعقبه
العلاّمة ابن الدماميني: بأن مذهب الكوفيين جواز إعرابه في
حالة النصب بالفتح مطلقًا، وجوّزه قوم في محذوف اللام وعلى
كلٍّ من الرأيين يكون لهذه الرواية وجهة، ومن ذا الذي أوجب
اتباع المذهب البصري وألغى المذهب الكوفي حتى يقال بأن هذه
الرواية لا وجه لها اهـ.
والمعنى انفروا جماعات متفرقة حال كونكم (سرايا) جمع سرية
ممن يدخل دار الحرب مستخفيًا حال كونكم (متفرقين. يقال أحد
الثبات) ولأبي ذر: واحد الثبات (ثبة). بضم المثلثة فيهما
وهذا قول أبي عبيدة في المجاز.
2825 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا
يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ
عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي
الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ، لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ
الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا
اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم أبو
حفص الباهلي البصري قال: (حدّثنا يحيى) القطان. ولأبي ذر:
يحيى بن سعيد قال: (حدّثنا سفيان) هو الثوري (قال: حدّثني)
بالإفراد (منصور) هو ابن المعتمر (عن مجاهد) هو ابن جبر
المفسر (عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال يوم الفتح) فتح
مكة:
(لا هجرة) واجبة من مكة إلى المدينة (بعد الفتح، ولكن
جهاد) في الكفار (ونيّة، فإذا استنفرتم فانفروا) بهمزة وصل
وكسر الفاء أي إذا طلبكم الإمام إلى الغزو فأخرجوا إليه
وجوبًا فيتعيّن على من عيّنه الإمام، وكذا إذا وطئ الكفار
بلدة للمسلمين وأظلوا عليها ونزلوا أمامها قاصدين ولم
يدخلوا صار الجهاد فرض عين، فإن لم يكن في أهل البلدة قوة
وجب على من يليهم وهل كان في الزمن النبوي فرض عين أو
كفاية؟ قال الماوردي: كان عينًا على المهاجرين فقط. وقال
السهيلي: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم لمبايعتهم النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة العقبة على أن
يؤوه وينصروه، وقيل: كان عينًا في الغزوة التي يخرج فيها
عليه الصلاة والسلام دون غيرها، والتحقيق أنه كان عينًا
على من عينه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حقه
ولو لم يخرج عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث قد سبق في باب فضل الجهاد.
28 - باب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ، ثُمَّ يُسْلِمُ
فَيُسَدِّدُ بَعْدُ وَيُقْتَلُ
(باب) حكم (الكافر يقتل المسلم ثم يسلم) القاتل (فيسدد)
بالسين المهملة وكسر الدال المهملة المشددة ولأبي ذر:
فيسدد بفتح الدال المهملة (بعد) بالضم أي بعد قتله المسلم
(ويقتل) بضم أوّله وفتح ثانيه.
2826 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ
أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلاَنِ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ
هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ
اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن
الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(يضحك الله) عز وجل أي بقبل بالرضا (إلى رجلين) أي مسلم
وكافر، وللنسائي: إن الله ليعجب من رجلين (يقتل أحدهما
الآخر يدخلان الجنة) زاد مسلم من طريق همام قالوا: كيف يا
رسول الله؟ قال: (يقاتل هذا) أي المسلم (في سبيل الله) عز
وجل (فيُقتل) أي فيقتله الكافر. زاد همام عند مسلم فيلج
الجنة (ثم يتوب الله على القاتل) زاد همام أيضًا فيهديه
إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله (فيستشهد). ولأحمد من
طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- قيل: كيف يا رسول الله؟ قال: "يكون أحدهما كافرًا
فيقتل الآخر ثم يسلم فيغزو فيقتل". قال ابن عبد البر:
يستفاد من الحديث أن كل من قتل في سبيل الله فهو في الجنة
اهـ.
ومطابقة الحديث للترجمة على ما سبق ظاهرة فلو قتل مسلم
مسلمًا عمدًا بلا شبهة ثم تاب القاتل واستشهد في سبيل الله
فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لا تقبل توبته أخذًا
بظاهر قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم
خالدًا فيها وغَضِب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا
عظيمًا} [النساء: 93]. وفي رواية النسائي وأحمد وابن ماجه
عن سالم بن أبي الجعد عنه أنه قال: إن الآية نزلت في آخر
ما نزل ولم ينسخها شيء حتى قبض رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وقد روى الإمام أحمد والنسائي من طريق إدريس الخولاني عن
معاوية سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل
يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا". لكن ورد عن
ابن عباس خلاف ذلك
(5/57)
فالظاهر أنه أراد بقوله الأوّل التشديد
والتغليظ، وعليه جمهور السلف وجميع أهل السُّنَّة وصححوا
توبة القاتل كغيره وقالوا: المراد بالخلود المكث الطويل
فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم،
ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد بحث في هذا بعون الله في
تفسير سورة النساء والفرقان.
2827 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ
بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:
"أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَهْوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْهِمْ لِي , فَقَالَ
بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لاَ تُسْهِمْ لَهُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا
قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ: وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ
قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَىَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ
أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَىَّ وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى
يَدَيْهِ. قَالَ: فَلاَ أَدْرِي أَسْهَمَ لَهُ أَمْ لَمْ
يُسْهِمْ لَهُ".
قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ عَنْ
جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: السَّعِيدِيُّ عَمْرُو بْنُ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ.
[الحديث 2827 - أطرافه في: 4237، 4238، 4239].
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير المكي قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا الزهري) محمد بن
مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (عنبسة بن سعيد) بفتح
العين
المهملة وسكون النون وفتح الموحدة وبالسين المهملة وسعيد
بكسر العين ابن العاص الأموي (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه-) أنه (قال: أتيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهو بخيبر) سنة سبع والجملة حالية (بعدما
افتتحوها فقلت: يا رسول الله أسهم لي)؟ من غنائم خيبر
وهمزة أسهم قطع (فقال بعض بني سعيد بن العاص) هو أبان بن
سعيد بكسر العين (لا تسهم له يا رسول الله. فقال أبو
هريرة: هذا) أي أبان بن سعيد (قاتل ابن قوقل) بقافين
مفتوحتين بينهما واو ساكنة آخره لام بوزن جعفر واسمه
النعمان بن مالك بن ثعلبة بن أصرم بصاد مهملة بوزن أحمد بن
فهر بن غنم بفتح المعجمة وسكون النون بعدها ميم ابن عمرو
بن عوف بفتح العين فيهما الأوسي الأنصاري، وقوقل لقب أو
لقب أصوم، وعند البغوي في الصحابة أن النعمان بن قوقل قال
يوم أُحُد أقسمت عليك يا رب أن لا تغيب الشمس حتى أطأ
بعرجتي في الجنة فاستشهد ذلك اليوم، فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لقد رأيته في الجنة وما به
عرج".
(فقال) ولأبي ذر: قال (ابن سعيد بن العاص): أبان (وعجبًا)
بالتنوين اسم فعل بمعنى أعجب ووا مثل واهًا وعجبًا للتوكيد
وإذا لم ينوّن فأصله وأعجبي فأبدلت كسرة الباء فتحة والياء
ألفًا كما فعل في يا أسفى ويا حسرتى، وفيه شاهد على
استعمال وا في منادى غير مندوب كما هو رأي المبرد واختيار
ابن مالك ونصب عجبًا بوا.
وفي رواية علي بن عبد الله المديني: واعجباه (لوبر) بلام
مكسورة فواو مفتوحة فموحدة ساكنة فراء. قال الكمال الدميري
في كتابه حياة الحيوان: دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون
لا ذنب لها أي طويل يحل أكلها والناس يسمونها غنم بني
إسرائيل ويزعمون أنها مسخت (تدلى) أي انحدر (علينا من قدوم
ضأن) بفتح القاف وضم الدال المخففة وضأن بالضاد المعجمة
وبعد الهمزة نون اسم جبل في أرض دوس قوم أبي هريرة، وقيل:
هو رأس الجبل لأنه في الغالب مرعى الغنم. قال الخطابي:
أراد أبان تحقير أبي هريرة وأنه ليس في قدر من يشير بعطاء
ولا منع وأنه قليل القدرة على القتال (ينعى) بفتح أوّله
وسكون النون وفتح العين المهملة أي يعيب (عليّ قتل رجل
مسلم أكرمه الله) عز وجلّ بالشهادة (على يدي) بتشديد
التحتية تثنية يد (ولم يهمني) بأن لم يقدّر موتي كافرًا
(على يديه) بالتثنية فأدخل النار وقد عاش أبان حتى تاب
وأسلم قبل خيبر وبعد الحديبية (قال): أي عنبسة أو من دونه
(فلا أدري أسهم) عليه الصلاة والسلام (له) أي لأبي هريرة
(أم) ولأبي ذر: أو (لم يسهم له) ورواه أبو داود فقال: ولم
يقسم له.
(قال سفيان) بن عيينة بالإسناد السابق (وحدّثنيه السعيدي)
بفتح السين المهملة وكسر العين (عن جده عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه-.
(قال أبو عبد الله): أي البخاري وسقط ذلك لأبي ذر (السعيدي
هو عمرو بن يحيى) بفتح
العين وسكون الميم كالآتي (ابن سعيد بن عمرو بن سعيد بن
العاص) بكسر عين سعيد فيهما وسقط لغير أبي ذر لفظ هو.
29 - باب مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ
2828 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لاَ
يَصُومُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قُبِضَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ
أَرَهُ مُفْطِرًا إِلاَّ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى".
(باب من اختار الغزو على الصوم).
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي أياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (حدّثنا ثابت البناني) بضم الموحدة وتخفيف
النون (قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان أبو
طلحة) زيد بن سهل (لا يصوم على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أجل) التقوّي على (الغزو فلما قبض
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وكثر الإسلام
واشتدت وطأة أهله على عدوّهم ورأى أن يأخذ بحظه من الصوم
(لم أره مفطرًا إلا يوم فطر
(5/58)
أو أضحى) منوّنًا أي فكان لا يصومهما،
والمراد بيوم الأضحى ما تشرع فيه الأضحية فتدخل فيه أيام
التشريق.
30 - باب الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ
2829 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَىٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الشُّهَدَاءُ
خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ
وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
هذا (باب) بالتنوين (الشهادة سبع سوى القتل).
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) هو ابن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة (عن سمي) بضم
السين المهملة وفتح الميم وتشديد التحتية أبي عبد الله
مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة
القرشي المدني (عن أبي صالح) ذكوان الزيات (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(الشهداء خمسة) وعند مالك في الموطأ من حديث جابر بن عتيك:
"الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله" وهو موافق لما ترجم
به لكنه ليس على شرطه فلم يورده بل نبّه عليه في الترجمة
إيذانًا بأن الوارد في عدّها من الخمسة والسبعة ليس على
معنى التحديد الذي لا يزيد ولا ينقص أشار إليه ابن المنير.
(المطعون) الذي يموت بالطاعون وهو غدّة كغدّة البعير تخرج
في الآباط والمراق (والمبطون)
المريض بالبطن (والغرق) بفتح الغين المعجمة وبعد الراء
المكسورة قاف الذي يموت بالغرق (وصاحب الهدم) بفتح الهاء
وسكون الدال الذي يموت تحته (والشهيد) الذي قتل (في سبيل
الله) عز وجل، وزاد جابر بن عتيك في حديثه: الحريق وصاحب
ذات الجنب والمرأة تموت بجمع بضم الجيم وفتحها وكسرها التي
تموت حاملاً جامعة ولدها في بطنها أو هي البكر أو هي
النفساء، وزاد مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة: ومن
مات في سبيل الله فهو شهيد. ولأحمد من حديث راشد بن حبيش
والسل بكسر السين المهملة وباللام، وفي السنن وصححه
الترمذي من حديث سعيد بن زيد مرفوعًا: "من قتل دون ماله
فهو شهيد" وقال في الدين والدم والأهل مثل ذلك، وللنسائي
من حديث سويد بن مقرن مرفوعًا: "من قتل دون مظلمته فهو
شهيد". وعند الدارقطني وصححه من حديث ابن عمر: موت الغريب.
وفي حديث أبي هريرة عند ابن حبان: المرابط. وللطبراني من
حديث ابن عباس: اللديغ والذي يفترسه السبع، ولأبي داود في
حديث أم حرام المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر
شهيد.
ومن قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر فإن مات
من يومه مات شهيدًا. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وعند أبي
نعيم عن ابن عمر: من صلّى الضحى وصام ثلاثة أيام من كل شهر
ولم يترك الوتر كتب له أجر شهيد.
وعن أبي ذر وأبي هريرة: إذا جاء الموت طالب العلم وهو على
حاله مات شهيدًا. رواه ابن عبد البر في كتاب العلم.
وعند الخطيب في تاريخه في ترجمة محمد بن داود الأصبهاني من
حديث ابن عباس مرفوعًا: "من عشق فعف وكتم فمات فهو شهيد".
ورواه السراج في مصارع العشاق من عشق فظفر فعف فمات مات
شهيدًا، والمراد بشهادة هؤلاء كلهم غير المقتول في سبيل
الله أن يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء فضلاً منه سبحانه
وتعالى.
وقد قسم العلماء الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا
والآخرة وهو المقتول في حرب الكفار، وشهيد في الآخرة دون
أحكام الدنيا وهم المذكورون هنا، وشهيد في الدنيا دون
الآخرة وهو من غل في الغنيمة أو قتل مدبرًا. والشهيد: فعيل
من الشهود بمعنى مفعول لأن الملائكة تحضره وتبشره بالفوز
والكرامة أو بمعنى فاعل لأنه يلقى ربه ويحضر عنده كما قال
تعالى: {والشهداء عند ربهم} [الحديد: 19]. أو من الشهادة
فإنه بين صدقه في الإيمان والإخلاص في الطاعة ببذل النفس
في سبيل الله أو يكون تلو الرسل في الشهادة على الأمم يوم
القيامة، ومن مات بالطاعون أو بوجع البطن أو نحوهما مما
مرّ يلحق بمن قتل في سبيل الله لمشاركته إياه في بعض ما
ينال من الكرامة بسبب ما كابده من الشدة لا في جملة
الأحكام والفضائل.
وهذا الحديث قد سبق في الصلاة، وأخرجه الترمذي في الجنائز
والنسائي في الطب.
2830 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ
سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ». [الحديث 2830 -
طرفه في: 5732].
وبه قال: (حدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة
(5/59)
وسكون الشين المعجمة السختياني المروزي
قال: (أخبرنا عبد الله) هو ابن المبارك المروزي قال:
(أخبرنا عاصم) هو ابن سليمان الأحول (عن حفصة بنت سيرين)
أخت محمد بن سيرين (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الطاعون شهادة لكل مسلم) وفي حديث أبي عسيب عند أحمد
مرفوعًا: "ورجز على الكافر".
وفي حديث عتبة بن عبد عند الطبراني في الكبير بإسناد لا
بأس به مرفوعًا: "يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون فيقول
أصحاب الطاعون نحن شهداء. فيقال انظروا فإن كان جراحتهم
كجراح الشهداء تسيل دمًا كريح المسك فهم شهداء فيجدونهم
كذلك".
وحديث الباب أخرجه المؤلّف أيضًا في الطب ومسلم في الجهاد.
31 - باب
قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى
الْقَاعِدِينَ -إِلَى قَوْلِهِ- غَفُورًا رَحِيمًا}
[النساء: 95].
(باب قول الله تعالى) ولأبي ذر: عز وجل: ({لا يستوي
القاعدون}) عن الجهاد ({من المؤمنين}) في موضع الحال من
القاعدين أو من الضمير الذي فيه ومن للبيان، والمراد
بالجهاد غزوة بدر قاله ابن عباس. وقال مقاتل: غزوة تبوك.
({غير أُولي الضرر}) برفع غير صفة للقاعدين والضرر كالعمى
والعرج والمرض، ({والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم}) عطف على قوله: (القاعدون) أي لا مساواة بينهم
وبين من قعد عن الجهاد من غير علة، وفائدته تذكير ما
بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعًا لرتبته
وأنفة عن انحطاط منزلته ({فضل الله المجاهدين بأموالهم
وأنفسهم على القاعدين درجة}) نصب بنزع الخافض أي بدرجة
والجملة موضحة للجملة الأولى التي فيها عدم استواء
القاعدين والمجاهدين كأنه قيل: ما بالهم لا يستوون؟ فأجيب
بقوله: فضل الله المجاهدين ({وكلاًّ}) من القاعدين
والمجاهدين ({وعد الله الحسنى}) المثوبة الحسنى وهي الجنة
لحسن عقيدتهم
وخلوص نيتهم وإنما التفاوت في زياد العمل المقتضي لمزيد
الثواب ({وفضل الله المجاهدين على القاعدين}) كأنه قيل
وأعطاهم زيادة على القاعدين ({أجرًا عظيمًا}) وأراد بقوله
(إلى قوله: ({غفورًا رحيمًا}) [النساء: 95، 96]. تمام
الآية أي غفورًا لما عسى أن يفرط منهم رحيمًا بهم، وقال في
رواية أبي ذر بعد قوله: {غير أولي الضرر} إلى قوله:
{غفورًا رحيمًا}.
2831 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي
الله عنه- يَقُولُ: "لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدًا فَجَاءَهُ
بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا. وَشَكَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
ضَرَارَتَهُ فَنَزَلَتْ: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}. [الحديث
2831 - طرفاه في: 4593، 4594، 4990].
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد
الله السبيعي الكوفي (قال: سمعت البراء) بن عازب (-رضي
الله عنه- يقول: لما نزلت) أي كادت أن تنزل ({لا يستوي
القاعدون من المؤمنين} دعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيدًا) هو ابن ثابت الأنصاري (فجاء)
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فجاءه (بكتف) بفتح الكاف
وكسر المثناة الفوقية عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان
كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس (فكتبها) فيه. وفي رواية
خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه عند أحمد وأبي داود إني
لقاعد إلى جنب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إذ أوحي إليه وغشيته السكينة فوضع فخذه على فخذي. قال زيد:
فلا والله ما وجدت شيئًا قطّ أثقل منها، فصرح خارجة بأن
نزولها كان بحضرة زيد فيحتمل قوله في رواية الباب: دعا
زيدًا فكتبها على أنه لما كادت أن تنزل كما مرّ.
(وشكا ابن أم مكتوم) عمرو أو عبد الله بن زائدة العامري
وأم مكتوم أمه واسمها عاتكة (ضرارته). بفتح الضاد المعجمة
أي ذهاب بصره (فنزلت) {لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير
أُولي الضرر}.
فإن قلت: لِمَ كرر الراوي {لا يستوي القاعدون من المؤمنين}
وهلا اقتصر على قوله: {غير أولي الضرر}؟ أجاب ابن المنير:
بأن الاستثناء والنعت لا يجوز فصلهما عن أصل الكلام فلا
بدّ أن تعاد الآية الأولى حتى يتصل بها الاستثناء والنعت.
وقال السفاقسي: إن كان الوحي نزل بقوله: (غير أولي الضرر)
فقط فكأن الراوي رأى إعادة الآية من أولها حتى يتصل
الاستثناء بالمستثنى منه، وإن كان الوحي نزل بإعادة الآية
بالزيادة بعد أن نزل بدونها فقد حكى الراوي صورة الحال.
قال ابن حجر: والأول أظهر لرواية سهل بن سعد فأنزل الله
تعالى: {غير أولي الضرر} وقال ابن الدماميني متعقبًا لابن
المنير في قوله إن
(5/60)
الاستثناء والوصف لا يجوز فصلهما إلخ ...
ليس هذا فصلاً ولا يضر ذكره مجردًا عما قبله لأن المراد
حكاية الزائد على ما نزل أوّلاً فيقتصر عليه لأنه الذي
تعلق به الغرض، ولذا قال في الطريق الثانية عن زيد فأنزل
الله تعالى {غير أولي الضرر} فماذا يعتذر به عن
زيد بن ثابت مع كونه لم يصل الاستثناء أو النعت بما قبله؟
والحق أن كلاً الأمرين سائغ ثم إن اسثناء أولي الضرر يفهم
التسوية بين القاعدين للعذر وبين المجاهدين، إذ الحكم
المتقدم عدم الاستواء فيلزم ثبوت الاستواء لمن استثنى
ضرورة أنه لا واسطة بين الاستواء وعدمه.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في التفسير ومسلم في الجهاد.
2832 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
"رَأَيْتُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ جَالِسًا فِي
الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ
, فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَمْلَى عَلَيْهِ: {لاَ يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَىَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ -وَكَانَ رَجُلاً
أَعْمَى- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى
رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَخِذُهُ
عَلَى فَخِذِي. فَثَقُلَتْ عَلَىَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ
تَرُضَّ فَخِذِي. ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}.
[الحديث 2832 - طرفه في: 4592].
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين (الزهري قال: حدّثني)
بالإفراد (صالح بن كيسان) بفتح الكاف وسكون التحتية (عن
ابن شهاب) الزهري (عن سهل بن سعد الساعدي) الصحابي -رضي
الله عنه-. وقال الترمذي: لم يسمع منه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو من التابعين. قال ابن حجر: لا
يلزم من عدم السماع عدم الصحبة (أنه قال: رأيت مروان بن
الحكم) التابعي أمير المدينة زمن معاوية ثم صار خليفة بعد
(جالسًا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن
زيد بن ثابت) الأنصاري -رضي الله عنه- (أخبره) (أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أملى عليه)
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: أملى عليّ ({ولا يستوي
القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله}) [النساء:
95]. (قال: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ) بضم
المثناة التحتية وكسر الميم وضم اللام مشددة وهو مثل
يمليها عليّ ويملي ويملل بمعنى ولعل الياء منقلبة عن إحدى
اللامين (فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت)؟ أي
لو استطعت وعبر بالمضارع إشارة إلى الاستمرار أو استحضارًا
لصورة الحال، (وكان رجلاً أعمى) وهذا يفسر قوله في الرواية
السابقة وشكا ضرارته (فأنزل الله تعالى على رسوله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفخذه على فخذي) بالذال
المعجمة والواو للحال (فثقلت عليّ) فخذه الشريفة ثقل الوحي
(حتى خفت أن ترض) بضم المثناة الفوقية وبعد الراء المفتوحة
ضاد معجمة مثقلة أي تدق (فخذي) ولغير أبي ذر أن ترض بفتح
أوله (ثم سري) بضم المهملة وتشديد الراء أي كشف (عنه فأنزل
الله عز وجل: {غير أولي الضرر}) وفي رواية خارجة بن زيد
عند أحمد وأبي داود قال زيد بن ثابت، فوالله لكأني أنظر
إلى ملحقها عند صدع كان بالكتف.
وحديث الباب من أفراد البخاري، ومسلم.
32 - باب الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ
2833 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي
النَّضْرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى كَتَبَ
فَقَرَأْتُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ
فَاصْبِرُوا».
(باب) فضل (الصبر عند القتال) مع الكفار.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الله
بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا معاوية بن عمرو) بفتح العين
الأزدي البغدادي قال: (حدّثنا أبو إسحاق) إبراهيم بن محمد
الفزاري (عن موسى بن عقبة) الإمام في المغازي (عن سالم أبي
النضر) مولى عمر بن عبيد الله (أن عبد الله بن أبي أوفى
كتب) أي إلى عمر بن عبيد الله (فقرأته أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا لقيتموهم) أي الكفار عند الحرب والتصاف (فاصبروا) ولا
تنصرفوا عن الصف وجوبًا إذا لم يزد عدد الكفار على مثليكم
بخلاف ما إذا زاد لقوله تعالى: {فإن يكن منكم مائة صابرة
يغلبوا مائتين} [الأنفال: 66]. الآية. وهو أمر بلفظ الخبر
إذ لو كان خبرًا لم يقع بخلاف المخبر عنه (إلاّ متحرفًا
لقتالٍ} كمن ينصرف ليكمن في موضع فيهجم أو ينصرف من مضيق
ليتبعه العدوّ إلى متّسع سهل للقتال {أو متحيزًا إلى فئة}
يستنجد بها ولو بعيدة فلا يحرم انصرافه قال تعالى: (إلاّ
متحرفًا} [الأنفال: 16] الآية. وخرج بالتصاف ما لو لقي
مسلم كافرين فله الانصراف وإن كان هو الذي طلبهما لأن فرض
الجهاد، والثبات إنما هو في الجماعة.
وقد مضى هذا الحديث في باب الجنة تحت بارقة السيوف؛ لكنه
لم يذكر فيه قوله: إذا لقيتموهم فاصبروا وإنما قال:
واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. فقول بعض الشراح هنا
ذكر فيه المؤلّف طرفًا من حديث ابن أبي أوفى، وقد تقدّم
التنبيه عليه قريبًا في باب:
(5/61)
الجنة تحت بارقة السيوف لا يخفى ما فيه من
التجوّز إذ لم يقع ذلك لا في المتن ولا في الشرح والله
أعلم.
33 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ، وَقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}
[الأنفال: 65]
2834 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -رضي
الله عنه- يَقُولُ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا
الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ
بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ
ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ
وَالْجُوعِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ
الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ.
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا ... عَلَى
الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
[الحديث 2834 - أطرافه في: 2835، 2961، 3795، 3796، 4099،
4100، 6413، 7201].
(باب التحريض على القتال، وقول الله تعالى): بالجر عطفًا
على المجرور السابق ولأبي ذر وقول الله عز وجل {حرض
المؤمنين على القتال} [الأنفال: 65]، أي حثهم عليه.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
معاوية بن عمرو) البغدادي قال: (حدّثنا أبو إسحاق) إبراهيم
الفزاري (عن حميد) بضم الحاء المهملة وفتح الميم مصغرًا
الطويل أنه (قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- يقول: خرج
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى
الخندق) في شوّال سنة خمس من الهجرة (فإذا المهاجرون
والأنصار يحفرون) فيه بكسر الفاء حال كونهم (في غداة باردة
فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك) الحفر (لهم، فلما رأى) عليه
الصلاة والسلام (ما بهم) أي الأمر المتلبس بهم (من النصب)
أي التعب (والجوع قال): عليه الصلاة والسلام محرّضًا لهم
على عملهم الذي هو بسبب الجهاد.
(اللهم إن العيش) المعتبر أو الباقي المستمر (عيش الآخرة)
لا عيش الدنيا (فاغفر للأنصار والمهاجرة) بضم الميم وكسر
الجيم وللأنصار بلام الجر ويخرج به عن الوزن، وفي نسخة:
فاغفر الأنصار بالألف بدل اللام وهذا من قول ابن رواحة
تمثل به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال
الداودي: وإنما قال ابن رواحة لاهمّ بلا ألف ولا لام فأتى
به بعض الرواة على المعنى وإنما يتزن هكذا، وتعقبه في
المصابيح فقال: هذا توهيم للرواة من غير داعٍ إليه فلا
يمتنع أن يكون ابن رواحة قال: اللهمَّ بألف ولام على جهة
الخزم يعني بالخاء المعجمة والزاي وهو الزياة على أول
البيت حرفًا فصاعدًا إلى أربعة، وكذا على أول النصف الثاني
حرفًا أو اثنين على الصحيح هذا أمر لا نزاع فيه بين
العروضين ولم يقل أحد منهم بامتناعه وإن لم يستحسنوه، ولا
قال أحد إن الخرْم يقتضي إلغاء ما هو فيه حتى أنه لا يعدّ
شعراء نعم الزيادة لا يعتدّ بها في الوزن ويكون ابتداء
النظم ما بعدها فكذا ما نحن فيه اهـ.
(فقالوا) الأنصار والمهاجرة حال كونهم (مجيبين له) عليه
الصلاة والسلام.
(نحن الذين بايعوا) ولأبي ذر: عن الحموي والمستملي بايعنا
(محمدًا) على الجهاد ما بقينا أبدًا.
وقال ابن بطال: ليس هو من قوله عليه الصلاة والسلام، ولو
كان لم يكن به شاعرًا وإنما يسمى به من قصد صناعته وعلم
السبب والوتد وجميع معايبه من الزحاف والخزم والقبض ونحو
ذلك اهـ.
وفي نظر لأن شعراء العرب لم يكونوا يعلمون ما ذكره من ذلك.
34 - باب حَفْرِ الْخَنْدَقِ
2835 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ -رضي
الله عنه- قَالَ: "جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ
يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ
وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ وَيَقُولُونَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا ... عَلَى
الإِسْلاَمِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يُجِيبُهُمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ خَيْرَ
إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَهْ، فَبَارِكْ فِي الأَنْصَارِ
وَالْمُهَاجِرَهْ.
(باب) ذكر (حفر الخندق) حول المدينة.
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بفتح الميمين بينهما عين مهملة
ساكنة عبد الله بن عمرو المقعد قال: (حدّثنا عبد الوارث)
بن سعيد قال: (حدّثنا عبد العزيز) بن صهيب البصريون (عن
أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: جعل المهاجرون والأنصار) في
غزوة الأحزاب (يحفرون الخندق حول المدينة) وكان الذي أشار
بحفره سلمان الفارسي -رضي الله عنه- (وينقلون التراب على
متونهم) جمع متن ومتنًا مكتنفًا الصلب عن يمين وشمال من
عصب ولحم يذكّر ويؤنّث (ويقولون):
نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الإسلام ما بقينا أبدًا
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي على الجهاد ويتّزن البيت
بهذه الرواية. وقال الزركشي: هو الصواب، وتعقبه الدماميني
بأن كونه غير موزونه لا يعدّ خطأ فلم لا يجوز أن يكون هذا
الكلام نثرًا مسجعًا وإن وقع بعضه موزونًا بحيث إذا روى
أحد فيها شيئًا لا يدخل في الوزن حكم بخطئه؟ (والنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجيبهم ويقول):
(اللهم إنه لا خير) مستمر (إلا خير الآخرة، فبارك في
الأنصار والمهاجرة).
وفي الحديث السابق أنهم كانوا يجيبونه عليه الصلاة والسلام
فقد كان تارة يجيبهم وتارة يجيبونه.
2836 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي الله عنه-
يَقُول: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَنْقُلُ وَيَقُولُ: لَوْلاَ أَنْتَ مَا
اهْتَدَيْنَا". [الحديث 2836 - أطرافه في: 2837، 3034،
4104، 4106، 6620، 7236].
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد
الله السبيعي أنه (قال: سمعت البراء) بن عازب (-رضي الله
عنه- يقول: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) يوم حفر الخندق
(5/62)
(ينقل) أي التراب (ويقول):
(لولا أنت ما اهتدينا).
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الجهاد والمغازي ومسلم في
المغازي والنسائي في السير.
2837 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ -رضي الله عنه-
قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الأَحْزَابِ يَنْقُلُ
التُّرَابَ -وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ-
وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلاَ
تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلِ السَّكِينَةَ
عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا، إِنَّ
الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا , إِذَا أَرَادُوا
فِتْنَةً أَبَيْنَا".
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) الحوضي قال: (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج (عن أبي إسحاق) السبيعي (عن البراء) بن عازب
(-رضي الله عنه-) أنه (قال: رأيت رسول الله) ولأبي ذر:
النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الأحزاب)
سمي به لاجتماع القبائل واتفاقهم على محاربته -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يوم الخندق (ينقل التراب)
من الخندق (وقد وارى) أي ستر (التراب بياض بطنه وهو يقول):
(لولا أنت ما اهتدينا) قال الزركشي: هكذا روى لولا وصوابه
في الوزن لا همّ أو تالله لولا أنت ما اهتدينا. قال في
المصابيح: وهذا عجيب فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- هو المتمثل بهذا الكلام والوزن لا يجري على
لسانه الشريف غالبًا. (ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزل
السكينة) أي الوقار (علينا) وللأصيلي وأبوي الوقت وذر عن
الكشميهني: فأنزلن بنون التوكيد الخفيفة سكينة بالتنكير،
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فأنزل بحذف النون والجزم
سكينة بالتنكير (وثبت الأقدام إن لاقينا) الكفار (إن
الألى) هو من الألفاظ الموصولات لا من أسماء الإشارة جمعًا
للمذكر (قد بغوا علينا) من البغي وهو الظلم وهذا أيضًا غير
متزن فيتزن بزيادة هم فيصير إن الألى هم قد بغوا علينا
(إذا أرادوا فتنة أبينا) من الإباء.
35 - باب مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْغَزْوِ
2838 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ
قَالَ: "رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". [الحديث 2838 -
طرفاه في: 2839، 4423].
(باب من حبسه العذر) بالذال المعجمة وهو الوصف الطارئ على
المكلف المناسب للتسهيل عليه (عن الغزو) فله أجر المغازي.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) اليربوعي ونسبه لجدّه
لشهرته به واسم أبيه عبد الله قال: (حدّثنا زهير) هو ابن
معاوية الجعفي قال: (حدّثنا حميد) الطويل (أن أنسًا) هو
ابن مالك (حدّثهم قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
قال المؤلّف: (حدّثنا) وفي بعض الأصول ح للتحويل. وحدّثنا
(سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا حماد هو ابن زيد عن
حميد) الطويل (عن أنس رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في غزاة) هي غزوة تبوك
كما هو في رواية زهير (فقال):
2839 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ
-رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: إِنَّ
أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا
شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ،
حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ".
وَقَالَ مُوسَى: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ
مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الأَوَّلُ أَصَحُّ.
(إن أقوامًا بالمدينة خلفنا) بسكون اللام أي وراءنا (ما
سلكنا شعبًا) بكسر الشين المعجمة وسكون العين المهملة
بعدها موحدة طريقًا في الجبل (ولا واديًا إلاّ وهم معنا
فيه) أي في ثوابه، ولابن حبان وأبي عوانة من حديث جابر:
إلاّ شركوكم في الأجر بدل قوله إلا وهم معكم. وللإسماعيلي
من طريق أخرى عن حماد بن زيد: إلاّ وهم معكم فيه بالنيّة،
ولأبي داود عن حماد: لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سرتم
من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديًا إلاّ وهم
معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم
بالمدينة؟ قال: (حبسهم العذر) هو أعم من المرض فيشمل عدم
القدرة على السفر وغيره. وفي مسلم من حديث جابر: حبسهم
المرض وهو محمول على الغالب.
(وقال موسى) بن إسماعيل شيخ المؤلّف: (حدّثنا حماد) هو ابن
سلمة (عن حميد) الطويل (عن موسى بن أنس عن أبيه) أنس بن
مالك (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(قال أبو عبد الله): البخاري السند (الأول) المحذوف منه
موسى بين حميد وأنس (أصح) من الثاني المثبت فيه موسى،
ولأبي ذر: الأول عندي أصح، واعترضه الإسماعيلي بأن حمادًا
عالم بحديث حميد مقدّم فيه على غيره. قال في الفتح: وإنما
قال ذلك لتصريح حميد بتحديث أنس له كما تراه ولا مانع أن
يكون حميد سمع هذا من موسى عن أبيه، ثم لقي أنسًا فحدّثه
به أو سمع من أنس فثبته فيه ابنه موسى اهـ.
وفيه: أن المؤمن يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن
العمل كمن غلبه النوم عن صلاة الليل فإنه يكتب له أجر
صلاته ويكون نومه صدقة عليه من ربه. رواه ابن حبان في
صحيحه من حديث أبي ذر أو أبي الدرداء شك شعبة مرفوعًا.
ورواه ابن خزيمة موقوفًا.
36 - باب فَضْلِ الصَّوْمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
(باب فضل الصوم) في الجهاد (في سبيل الله) أو المراد
ابتغاء وجه الله لئلا يعارض أولوية
الفطر في الجهاد عن الصوم لأنه يضعف عن اللقاء، لكن يؤيد
الأول ما في حديث أبي هريرة المروي في فوائد أبي الطاهر
(5/63)
الذهلي ما من مرابط يرابط في سبيل الله
فيصوم يومًا في سبيل الله الحديث.
وحينئذ فالأولوية المذكورة محمولة على من يضعفه الصوم عن
الجهاد، أما من لم يضعفه فالصوم في حقه أفضل لأنه يجمع بين
الفضيلتين.
2840 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي
صَالِحٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي
عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ
اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن نصر) هو إسحاق بن إبراهيم بن
نصر فنسبه إلى جده ويعرف بالسعدي لأنه نزل بباب بني سعد
قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا ابن جريج)
عبد الملك بن عبد العزيز (قال: أخبرنا) بالإفراد (يحيى بن
سعيد) الأنصاري (وسهيل بن أبي صالح أنهما سمعا النعمان بن
أبي عياش) بتشديد التحتية وبعد الألف شين معجمة واسمه زيد
بن الصلت وقيل زيد بن النعمان الزرقي الأنصاري (عن أبي
سعيد) سعد بن مالك (الخدري) بالدال المهملة (-رضي الله
عنه-) أنه (قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(من صام يومًا في سبيل الله) عز وجل (بعّد الله) بتشديد
العين (وجهه) أي ذاته كلها (عن النار سبعين خريفًا) أي
سنة.
وعند أبي يعلى من طريق زياد بن فائد عن معاذ بن أنس: بعّد
من النار مائة عام سير المضمر الجواد.
وعند الطبراني في الصغير والأوسط بإسناد حسن عن أبي
الدرداء: "جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء
والأرض". وفي كامل ابن عدي عن أنس تباعدت منه جهنم خمسمائة
عام قيل ظاهرها التعارض.
وأجيب: بالاعتماد على رواية سبعين للاتفاق عليها في الصحيح
أولى أو أن الله أعلم نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بالأدنى ثم ما بعده على التدريج أو أن ذلك بحسب
اختلاف أحوال الصائمين في كمال الصوم ونقصانه.
37 - باب فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
(باب فضل النفقة) أي الإنفاق في الجهاد (في سبيل الله) أو
في الجهاد وغيره مما يقصد به وجه الله تعالى.
2841 - حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا
شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ
أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ
الْجَنَّةِ -كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ-: أَىْ فُلُ، هَلُمَّ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَاكَ الَّذِي
لاَ تَوَى عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ
مِنْهُمْ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (سعد بن حفص)
أبو محمد الطلحي الكوفي قال: (حدّثنا شيبان) بفتح الشين
المعجمة وسكون التحتية وفتح الموحدة ابن عبد الرحمن أبو
معاوية النحوي (عن يحيى) بن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد
الرحمن (أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(من أنفق زوجين) أي صنفين مقترنين شكلين كانا أو نقيضين
وكل واحد منهما زوج، ومراده أن يشفع المنفق ما ينفقه من
دينار أو درهم أو سلاح أو غيره. وقال الداودي: ويقع الزوج
على الواحد والاثنين وهو هنا على الواحد جزمًا. وفي رواية
إسماعيل القاضي: من أنفق زوجين من ماله (في سبيل الله) عام
في جميع أنواع الخير أو خاص بالجهاد (دعاه خزنة الجنة كل
خزنة باب) أي خزنة كل باب فهو من المقلوب (أي فل)، بضم
اللام وإسكانها وليس ترخيمًا لأنه لا يقال إلا بسكون اللام
ولو كان ترخيمًا لفتحوها أو ضموها. قال سيبويه؛ ليس
ترخيمًا إنما هي صيغة ارتجلت في باب النداء، وقد جاء في
غير النداء في لجة أمسك فلانًا عن فل.
فكسر اللام للقافية. وقال الأزهري: ليس بترخيم فلان ولكنها
كلمة على حدة فبنو أسد يوقعونها على الواحد والاثنين
والجمع والمؤنث بلفظ واحد وغيرهم يثني ويجمع ويؤنث فيقول:
يا فلان ويا فلان ويا فلة ويا فلتان ويا فلات، وفلان
وفلانة كناية عن الذكر والأنثى من الناس، فإن كنيت بهما عن
غير الناس قلت الفلان والفلانة. وقال قوم: إنه ترخيم فلان
فحذف النون للترخيم والألف لسكونها وتفتح اللام وتضم على
مذهبي الترخيم قاله ابن الأثير أي فلان. (هلم) بفتح الهاء
وضم اللام وتشديد الميم أي تعال.
(قال أبو بكر): الصديق -رضي الله عنه- (يا رسول الله ذاك
الذي) يدعوه خزنة كل باب (لا توى عليه) بفتح المثناة
الفوقية والواو مقصورًا أي لا بأس عليه أن يدخل بابًا
ويترك آخرًا (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): (إني لأرجو أن تكون منهم) أي ممن يدعى من تلك
الأبواب كلها.
وهذا الحديث سبق في الصيام وأخرجه أيضًا في فضل أبي بكر
ومسلم في الزكاة.
2842 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنَّمَا أَخْشَى
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ
بَرَكَاتِ الأَرْضِ. ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا
فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالأُخْرَى. فَقَامَ
رَجُلٌ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ
بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قُلْنَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَسَكَتَ
النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمِ الطَّيْرَ. ثُمَّ
إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ:
أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا؟ أَوَخَيْرٌ هُوَ- ثَلاَثًا.
إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ.
وَإِنَّهُ كُلُّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ
حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، أكلَتْ حَتَّى امْتَلأَتْ
خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ
وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ. وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ
خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ
أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ
بِحَقِّهِ فَهْوَ كَالآكِلِ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ،
وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سنان) بكسر السين المهملة وتخفيف
النون العوفي الباهلي الأعمى قال: (حدّثنا فليح) هو ابن
سليمان قال: (حدّثنا هلال) هو ابن أبي ميمونة الفهري (عن
عطاء بن يسار)
(5/64)
بالمهملة المخففة (عن أبي سعيد الخدري -رضي
الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قام على المنبر) وفي طريق معاذ بن فضالة عن
هشام عن هلال في باب الصدقة على اليتامى جلس ذات يوم على
المنبر وجلسنا حوله (فقال):
(إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض).
(ثم ذكر زهرة الدنيا) أي حسنها وبهجتها الفانية (فبدأ
بإحداهما) أي ببركات الأرض (وثنى بالأخرى) أي بزهرة الدنيا
(فقام رجل) لم أعرف اسمه (فقال: يا رسول الله، أو يأتي
الخير بالشر)؟ بفتح الواو أي تصير النعمة عقوبة؟ (فسكت عنه
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قلنا يوحى
إليه وسكت الناس كأن على رؤوسهم الطير) كأنهم يريدون صيده
فلا يتحركون مخافة أن يطير (ثم إنه) عليه الصلاة والسلام
(مسح عن وجهه الرحضاء) بضم الراء وفتح الحاء المهملة
والضاد المعجمة ممدودًا العرق الذي أدره عند نزول الوحي
عليه (فقال): (أين السائل آنفًا)؟ بمدّ الهمزة وكسر النون
الآن (أو خير هو) بفتح الواو والهمزة استفهام على سبيل
الإنكار أي المال هو خير قالها (ثلاثًا): (إن الخير)
الحقيقي (لا يأتي إلا بالخير) وهذا ليس بخير حقيقي لما فيه
من الفتنة والاشتغال عن كمال الإقبال إلى الآخرة. (وإنه
كلما) بفتح اللام ولأبي ذر كل ما بضمها (ينبت الربيع) بضم
التحتية من الإنبات والربيع رفع على الفاعلية وهو الجدول
الذي يستقى به (ما يقتل) قتلاً (حبطًا) بفتح الحاء المهملة
والموحدة والطاء المهملة منصوب على التمييز وهو انتفاخ
البطن من كثرة الأكل وسقط قوله ما لأبي ذر وحده وقوله
حبطًا له ولأبي الوقت والأصيلي (أو يلم) بضم أوله وكسر
ثانيه وتشديد ثالثه أي يقرب أن يقتل (كلما أكلت) ضبب على
كلما في اليونينية وكتب في الحاشية صوابه إلا آكلة الخضر
بضم الخاء وفتح الضاد المعجمتين وآكلة بمدّ الهمزة
والاستثناء مفرغ والأصل كلما ينبت الربيع ما يقتل آكلة إلا
الدابة التي تأكل الخضر فقط أكلت أي آكلة الخضر (حتى إذا
امتلأت) ولأبي ذر: حتى إذا امتدّت (خاصرتاها) شبعًا
(استقبلت الشمس فثلطت) بفتح المثلثة واللام المخففة والطاء
المهملة آخره فوقية أي ألقت بعرها سهلاً رقيقًا (وبالت)
فزال عنها الحبط وإنما تحبط الماشية لأنها تمتلئ بطونها
ولا تثلط ولا تبول فتنتفخ بطونها
فيعرض لها المرض فتهلك (ثم رتعت) وهذا مثل ضربه للمقتصد في
جمع الدنيا المؤدي حقها الناجي من وبالها كما نجت آكلة
الخضر (وإن هذا المال خضرة) بفتح الخاء وكسر الضاد
المعجمتين أي من حيث المنظر وأنّثه مع أن المال مذكّر
باعتبار أنه زهرة الدنيا فالتأنيث وقع على التشبيه أو
التاء للمبالغة كراوية وعلامة (حلوة) أي من حيث الذوق
(ونعم) أي المال (صاحب المسلم لمن أخذه بحقه) بأن جمعه من
حلال (فجعله في سبيل الله) جميع أنواع الخير ومنها الجهاد
وهو موضع الترجمة.
وقد روى النسائي والترمذي وقال: حسن، وابن حبان في صحيحه
وصححه الحاكم من حديث خريم بن فاتك بالراء مصغرًا ابن فاتك
بالفاء الفوقية المكسورة رفعه: "من أنفق نفقة في سبيل الله
كتبت له بسبعمائة ضعف". وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة
وغيره مرفوعًا: "من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته
فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا في سبيل الله بنفسه
وأنفق في وجه ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا
هذه الآية: {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261].
(واليتامى والمساكين) ولأبي ذر عن الكشميهني زيادة: وابن
السبيل (ومن لم يأخذه) أي المال (بحقه) ولأبي ذر: يأخذها
أي زهرة الدنيا (فهو كالأكل الذي لا يشبع) لأنه كلما نال
منه شيئًا ازدادت رغبته واستقل ما عنده ونظر إلى ما فوقه،
وسقط لأبي ذر لفظ الذي (ويكون) ماله (عليه شهيدًا يوم
القيامة) بأن ينطق الله الصامت منه بما فعل أو يمثل مثاله.
وهذا الحديث قد سبق في باب الصدقة على اليتامى من كتاب
الزكاة ويأتي إن شاء الله تعالى بمنّه وعونه في الرقاق.
38 - باب فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ
بِخَيْرٍ
(باب فضل من جهز غازيًا أو خلفه) بتخفيف اللام أي قام بعده
في أهله من يتركه (بخير) بأن قام عنه بما كان
(5/65)
يفعله.
2843 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي
يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ:
حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ
بْنُ خَالِدٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ
غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ
غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا».
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو المقعد قال:
(حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد قال: (حدّثنا الحسين) بضم
الحاء وفتح السين ابن ذكوان المعلم البصريون قال: (حدّثني)
بالإفراد (يحيى) هو ابن كثير اليمامي الطائي (قال: حدّثني)
بالإفراد أيضًا (أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف قال:
(حدّثني) بالإفراد كذلك (بسر بن سعيد) بضم الموحدة وسكون
المهملة وكسر عين سعيد
مولى الحضرمي من أهل المدينة (قال: حدّثني) بالإفراد أيضًا
(زيد بن خالد) أبو عبد الرحمن الجهني (-رضي الله عنه- أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(من جهز غازيًا في سبيل الله بخير) بأن هيأ له أسباب سفره
من ماله أو من مال المغازي (فقد غزا) أي فله مثل أجر
المغازي وإن لم يغز حقيقة من غير أن ينقص من أجر المغازي
شيء لأن المغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفى ذلك
العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو ولكنه يضاعف الأجر لمن
جهز من ماله ما لا يضاعف لمن دلّه أو أعانه إعانة مجردة عن
بذل المال. نعم من تحقق عجزه عن الغزو وصدقت نيّته ينبغي
أن لا يختلف أن أجره يضاعف كأجر العامل المباشر لما مرّ
فيمن نام عن حزبه.
(ومن خلّف غازيًا في سبيل الله بخير) في أهله ومن يتركه
بأن ناب عنه في مراعاتهم وقضاء مآربهم زمان غيبته (فقد
غزا) أي شاركه في الأجر من غير أن ينقص من أجره شيء لأن
فراغ المغازي له واشتغاله به بسبب قيامه بأمر عياله فكأنه
مسبب من فعله.
وفي حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "من جهز غازيًا حتى يستقل
كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع" رواه ابن ماجة.
وفي الطبراني الأوسط برجال الصحيح مرفوعًا: "من جهز غازيًا
في سبيل الله فله مثل أجره ومن خلف غازيًا في أهله بخير
وأنفق على أهله فله مثل أجره".
وفي حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في صحيح ابن حبان
مرفوعًا: "من أظل رأس غازٍ أظله الله يوم القيامة" الحديث.
فإن قلت: هل من جهز غازيًا على الكمال ويخلفه بخير في أهله
أجر غازيين أو غازٍ واحد؟
أجاب ابن جمرة: بأن ظاهر اللفظ يفيد أن له أجر غازيين لأنه
عليه الصلاة والسلام جعل كل فعل مستقلاً بنفسه غير مرتبط
بغيره.
وحديث الباب أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في
الجهاد.
2844 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ
إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله
عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ
غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِ،
فَقِيلَ لَهُ: فَقَالَ: إِنِّي أَرْحَمُهَا، قُتِلَ
أَخُوهَا مَعِي".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري وسقط ابن
إسماعيل لغير أبي ذر قال: (حدّثنا همام) بتشديد الميم ابن
يحيى الشيباني (عن إسحاق بن عبد الله) بن أبي طلحة (عن
أنس- رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لم يكن يدخل بيتًا) يكثر دخوله (بالمدينة غير
بيت أم سليم) سهلة أو اسمها رميلة
أو الغميصاء وهي أم أنس (إلا على أزواجه) أمهات المؤمنين
-رضي الله عنهن- (فقيل له): أي لِمَ تخص أم سليم بكثرة
الدخول إليها؟ ولم يسمّ القائل (فقال): عليه الصلاة
والسلام:
(إني أرحمها، قتل أخوها) حرام بن ملحان يوم بئر معونة
(معي) أي في عسكري أو على أمري وفي طاعتي لأنه عليه الصلاة
والسلام لم يشهد بئر معونة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في
المغازي، وتعليل الكرماني دخوله عليه الصلاة والسلام على
أم سليم بأنها كانت خالته من الرضاعة أو النسب وأن
المحرمية سبب لجواز الدخول لا يحتاج إليه لأن من خصائصه
عليه الصلاة والسلام جواز الخلوة بالأجنبية لثبوت عصمته.
وقد ظهرت مطابقة الحديث للترجمة من حيث أنه عليه الصلاة
والسلام خلف أخاها في أهله بخير بعد وفاته وحسن العهد من
الإيمان وكفى بجبر الخاطر والتودّد خيرًا لا سيما من سيد
الخلق -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الفضائل.
39 - باب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ
(باب التحنط) أي استعمال الحنوط وهو ما يطيب به الميت (عند
القتال).
2845 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا ابْنُ
عَوْنٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَالَ: وَذَكَرَ يَوْمَ
الْيَمَامَةِ قَالَ: "أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ
وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ وَهْوَ يَتَحَنَّطُ
فَقَالَ: يَا عَمِّ مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لاَ تَجِيءَ؟
قَالَ: الآنَ يَا ابْنَ أَخِي، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ
-يَعْنِي مِنَ الْحَنُوطِ- ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَذَكَرَ
فِي الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنَ النَّاسِ فَقَالَ:
هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ، مَا
هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ
أَقْرَانَكُمْ". رَوَاهُ حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ
أَنَسٍ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب) أبو محمد الحجبي
البصري قال: (حدّثنا خالد) بن الحرث الهجيمي بضم الهاء
وفتح الجيم قال (حدّثنا ابن عون) عبد الله (عن موسى بن
أنس) أي ابن مالك أنه (قال: وذكر) بواو الحال ولأبي ذر عن
الحموي ذكر بإسقاطها (يوم) وقعة (اليمامة)
(5/66)
التي كانت بين المسلمين وبين بني حنيفة
أصحاب مسيلمة في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة في خلافة أبي
بكر واليمامة بتخفيف الميم مدينة من اليمن على مرحلتين من
الطائف سميت بامرأة زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة
أيام (قال: أتى) أبي (أنس) بالرفع على الفاعلية (ثابت بن
قيس) هو ابن شماس بفتح الشين المعجمة وتشديد الميم آخره
سين مهملة الخزرجي خطيب الأنصار (وقد حسر) بمهملتين
مفتوحتين أي كشف (عن فخذيه) بالذال المعجمة واستدلّ به على
أن الفخذ ليس بعورة
(وهو يتحنط) يستعمل الحنوط في بدنه والواو للحال (فقال) أي
أنس لثابت (يا عم) دعاه بذلك لأنه
كان أسنّ منه ولأنه من قبيلته الخزرج (ما يحبسك) أي ما
يؤخرك (ألا تجيء) بتشديد اللام وتجيء
بالنصب (قال: الآن يا ابن أخي) أجيء (وجعل يتحنط يعني من
الحنوط) بفتح الحاء، (ثم جاء) زاد
الطبراني وقد تحنط ونشر أكفانه (فجلس فذكر) أنس (في الحديث
انكشافًا) أي نوع انهزام (من الناس)
وعند ابن أبي زائدة عن ابن عون عند الطبراني فجاء حتى جلس
في الصف والثاني ينكشفون (فقال:
هكذا عن وجوهنا) أي افسحوا لنا (حتى نضارب القوم)، ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي بالقوم
بزيادة حرف الجر (ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بل كان الصف لا ينحرف عن
موضعه
(بئسما عوّدتم أقرانكم) من الفرار من عدوّكم حتى طمعوا
فيكم. وزاد ابن أبي زائدة فتقدم فقاتل حتى قتل. وأقرانكم
بالنصب على المفعولية جمع قرن بكر القاف وهو الذي يعادل
الآخر في الشّدة، ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني: بئسما
عوّدكم أقرانكم بالرفع فاعل عوّدكم.
(رواه) أي الحديث (حماد) هو ابن سلمة (عن ثابت) هو البناني
(عن أنس) هو ابن مالك ولفظه فيما رواه الطبراني: أن ثابت
بن قيس بن شماس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ولبس ثوبين
أبيضين تكفن فيهما وقد انهزم القوم فقال: اللهم إني أبرأ
إليك مما جاء به هؤلاء وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء ثم قال:
بئسما عوّدتم أقرانكم منذ اليوم خلوا بيننا وبينهم ساعة
فحمل فقاتل حتى قتل، وكانت درعه قد سرقت فرآه رجل فيما يرى
النائم فقال: إنها في قدر تحت أكاف بمكان كذا وكذا فأوصاه
بوصايا فوجدوا الدرع وأنفذوا وصاياه، وعند الحاكم أنه أوصى
بعتق بعض رقيقه.
40 - باب فَضْلِ الطَّلِيعَةِ
(باب فضل الطليعة) بفتح الطاء المهملة وكسر اللام اسم جنس
يشمل الواحد فأكثر وهو من يبعث إلى العدوّ ليطلع على
أحوالهم.
2846 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله
عنه- قَالَ: "قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ
الأَحْزَابِ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. ثُمَّ قَالَ: مَنْ
يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ
الزُّبَيْرُ". [الحديث 2846 - أطرافه في: 2847، 2997،
3719، 4113، 7261].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهدير
بالتصغير التيمي المدني (عن جابر) هو ابن عبد الله
الأنصاري (رضي الله عنه) عن أبيه أنه (قال: قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من يأتيني بخبر القوم) بني قريظة (يوم الأحزاب) لما اشتد
الأمر وذلك أن الأحزاب من قريش وغيرهم لما جاؤوا إلى
المدينة وحفر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الخندق بلغ المسلمين أن بني قريظة من اليهود
نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين ووافقوا قريشًا
على حرب المسلمين (قال) ولأبي ذر: فقال (الزبير): بن
العوّام القرشي أحد العشرة (أنا) آتيك بخبرهم (ثم قال):
عليه الصلاة والسلام (من يأتيني بخبر القوم) (قال) ولأبي
ذر: فقال (الزبير: أنا) مرتين، وعند النسائي من رواية وهب
بن كيسان أشهد لسمعت جابرًا يقول لما اشتد الأمر يوم بني
قريظة قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"من يأتينا بخبرهم" فلم يذهب أحد فذهب الزبير فجاء بخبرهم،
ثم اشتد الأمر أيضًا فقال عليه الصلاة والسلام: "من يأتينا
بخبرهم" فلم يذهب أحد فذهب الزبير وفيه أن الزبير توجه
إليهم ثلاث مرات.
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (إن
لكل نبي حواريًّا) بفتح الحاء المهملة والواو وبعد الألف
راء مكسورة فتحتية مشددة أي خاصة من أصحابه. وقال الترمذي:
الناصر، ومنه الحواريون أصحاب عيسى ابن مريم عليهما الصلاة
والسلام
(5/67)
أي خلصاؤه وأنصاره، وقال قتادة فيما رواه
عبد الرزاق: الوزير (وحواري الزبير) إضافة إلى ياء المتكلم
فحذف الياء وقد ضبطه جماعة بفتح الياء وهو الذي في الفرع
وغيره وآخرون بالكسر وهو القياس، لكنهم حين استثقلوا ثلاث
ياءات حذفوا ياء المتكلم وأبدلوا من الكسرة فتحة.
وقد استشكل ذكر الزبير هنا فقال ابن الملقن في التوضيح
المشهور كما قاله شيخنا فتح الدين اليعمري: إن الذي توجه
ليأتي بخبر القوم حذيفة بن اليمان. قال الحافظ ابن حجر
رحمه الله: وهذا الحصر مردود فإن القصة التي ذهب لكشفها
غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف
خبر بني قريظة هل نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين
المسلمين ووافقوا قريشًا على محاربة المسلمين. وقصة حذيفة
كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق وتمالأت عليهم
الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف وحذرت كل طائفة من
الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة
فانتدب عليه الصلاة والسلام من يأتيه بخبر قريش فانتدب له
حذيفة بعد تكراره طلب ذلك.
وحديث الباب أخرجه البخاري أيضًا في المغازي ومسلم في
الفضائل والترمذي في المناقب والنسائي فيه وفي السير وابن
ماجه في السُّنّة.
41 - باب هَلْ يُبْعَثُ الطَّلِيعَةُ وَحْدَهُ
هذا (باب) بالتنوين (هل يبعث الطليعة) بالرفع مفعول ناب عن
الفاعل، ولأبي ذر: يبعث بفتح أوله الطليعة بالنصب على
المفعولية أي هل يبعثه الإمام إلى كشف العدوّ (وحده)؟
2847 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: "نَدَبَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّاسَ
-قَالَ صَدَقَةُ أَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ-
فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَ
النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ
فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ
حَوَارِيًّا، وحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ"».
وبه قال: (حدّثنا صدقة) بن الفضل قال: (أخبرنا ابن عيينة)
سفيان قال: (حدّثنا ابن المنكدر) محمد (أنه سمع جابر بن
عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- قال: ندب) أي دعا
(النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال صدقة):
شيخ المؤلّف (أظنه) أي الندب (يوم الخندق) وقد رواه
الحميدي عن ابن عيينة فقال فيه يوم الخندق من غير شك
(فانتدب الزبير) أي أجاب (ثم ندب الناس فانتدب الزبير)
وسقط لفظ الناس لغير أبي ذر (ثم ندب الناس فانتدب الزبير،
فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): بعد
الثالثة وسقط لأبي ذر لفظ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
(إن لكل نبيّ حواريًّا) بتخفيف الواو ناصرًا أو وزيرًا
(وإن حواري) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: وحواري (الزبير
بن العوّام) فيه منقبة للزبير وقوة قلبه وشجاعته.
42 - باب سَفَرِ الاِثْنَيْنِ
2848 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو
شِهَابٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ
عَنْ مَالِكِ بْنِ الْجُوَيْرِثِ قَالَ: "انْصَرَفْتُ مِنْ
عِنْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ لَنَا -أَنَا وَصَاحِبٍ لِي-: أَذِّنَا وَأَقِيمَا
وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا".
(باب) جواز (سفر) الشخصين (الاثنين) معًا.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) اليربوعي الكوفي قال:
(حدّثنا أبو شهاب) موسى بن نافع الأسدي الحناط بالحاء
المهملة والنون مشهور بكنيته وهو أكبر (عن خالد الحذاء)
بفتح الحاء المهملة والذال المعجمة المشددة ممدودًا (عن
أبي قلابة) بكسر القاف وتخفيف اللام عبد الله بن زيد
البصري (عن مالك بن الحويرث) بضم الحاء المهملة وفتح الواو
آخره مثلثة مصغرًا أنه (قال: انصرفت من عند النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لنا أنا) تأكيد أو بيان
أو بدل من المجرور أو خبر مبتدأ محذوف (وصاحب لي) هو ابن
عمه وهو ليثي وصاحب بالجر أو بالرفع عطفًا على سابقه أي
لما أردنا السفر إلى أهلينا إذ أنتما خرجتما:
(أذنا وأقيما) بكسر المعجمة أي من أحب منكما أن يؤذن
فليؤذن أو المراد أن أحدهما يؤذن والآخر يجيب لا أنهما
يؤذنان معًا (وليؤمكما) بسكون اللام وفتح الميم (أكبركما).
ومطابقة الحديث للترجمة من كونهما لما أرادا السفر قال
لهما عليه الصلاة والسلام أذنا فأقرّهما على ذلك، وحديث
(الراكبان شيطانان) المروي بإسناد حسن وصححه ابن خزيمة قال
الطبري: إنه
زجر أدب وإرشاد حسمًا للمادة فلا يتناول ما إذا وقعت
الحاجة له ويأتي إن شاء الله تعالى البحث في ذلك في محله،
وقد سبق الحديث في باب: الأذان للمسافر من كتاب مواقيت
الصلاة.
43 - باب الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
2849 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْخَيْلُ فِي
نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
[الحديث 2849 - طرفه في: 3644].
هذا (باب) بالتنوين (الخيل معقود في نواصيها الخير) أي
لازم لها (إلى يوم القيامة).
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا
مالك) الإمام (عن رافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر
-رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال
(5/68)
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) لفظ عام والمراد
به الخصوص أي الخيل الغازية في سبيل الله لقوله في الحديث
الآخر: الخيل لثلاثة أو المراد جنس الخيل أي أنها بصدد أن
يكون فيها الخير فأما من ارتبطها لعمل غير صالح فحصول
الوزر لطريان ذلك الأمر العارض. ولأبي ذر: معقود في
نواصيها الخير فأثبت لفظة معقود كالإسماعيلي من رواية عبد
الله عن مالك عن نافع وسقطت في الموطأ كرواية غير أبي ذر
وكذا في مسلم من رواية مالك أيضًا. ومعنى معقود ملازم لها
كأنه معقود فيها. قال في شرح المشكاة: ويجوز أن يكون الخير
المفسر بالأجر والغنيمة أي في الحديث الآتي في الباب
اللاحق استعارة مكنية لأن الخير ليس بشيء محسوس حتى تعقد
عليه الناصية لكنه شبّهه لظهوره وملازمته بشيء محسوس معقود
يحل على مكان مرتفع فنسب الخير إلى لازم المشبه به وذكر
الناصية تجريد للاستعارة، والحاصل أنهم يدخلون المعقول في
المحسوس ويحكمون عليه بما يحكم به المحسوس مبالغة في
اللزوم والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل من مقدم
الفرس، وقد يكنى بالناصية عن جميع ذات الفرس. قال الولي
ابن العراقي: ويمكن أنه أشير بذكر الناصية إلى أن الخير
إنما هو في مقدمها للإقدام به على العدوّ دون مؤخرها لما
فيه من الإشارة إلى الإدبار.
وفي الحديث كما قاله القاضي عياض مع وجيز لفظه من البلاغة
والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن مع الجناس الذي بين
الخيل والخير، وقال ابن عبد البر: فيه تفضيل الخيل على
سائر الدواب لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأتِ عنه في
غيرها مثل هذا القول.
وروى النسائي عن أنس لم يكن أحب إلى رسول الله-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد النساء من الخيل، وفي
طبقات ابن سعد عن عريب بضم المهملة المليكي أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئل عن قوله تعالى:
{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانيةً فلهم
أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
[البقرة: 274]. من هم؟ قال عليه الصلاة والسلام: "هم أصحاب
الخيل" ثم قال: "إن المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا
يقبضها وأبوالها وأرواثها كذكي المسك يوم القيامة". ويروى
أن الفرس إذا التقت الفئتان تقول: سبوح قدوس ربّ الملائكة
والروح، وهو أشد الدواب عدوا وفي طبعه الخيلاء في مشيه
والسرور بنفسه والمحب لصاحبه، وربما عمر الفرس إلى تسعين
سنة.
وحديث الباب أخرجه مسلم أيضًا في المغازي.
2850 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ حُصَيْنٍ وَابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ
فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ: "عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
أَبِي الْجَعْدِ". تَابَعَهُ مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ
حُصَيْنٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: "عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ". [الحديث 2850 - أطرافه في: 2852، 3119، 3643].
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحرث الحوضي قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن حصين) بضم الحاء وفتح الصاد
المهملتين ابن عبد الرحمن السلمي (وابن أبي السفر) بفتح
السين المهملة والفاء سعيد كلاهما (عن الشعبي) عامر بن
شراحيل (عن عروة بن الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة
البارقي الأزدي (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الخيل) أي المعدّة للجهاد في سبيل الله أو جنس الخيل
(معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الجهاد والخُمس وعلامات النبوة
ومسلم في المغازي والترمذي في الجهاد والنسائي في الخيل
وابن ماجه في الجهاد.
(قال سليمان) أي ابن حرب شيخ المؤلّف مما رواه أبو نعيم في
مستخرجه موصولاً مخالفًا لحفص بن عمر شيخ المؤلّف أيضًا
(عن شعبة) بن الحجاج أنه قال في روايته أي عن حصين وابن
أبي السفر عن الشعبي (عن عروة بن أبي الجعد) فزاد لفظ أبي
بين ابن والجعد على رواية حفص وليس مراده أن شعبة يروي عن
عروة كيف وشعبة لم يدركه وإنما مراده أن شعبة قال في
روايته عروة بن أبي الجعد كما مرّ.
(تابعه) أي تابع سليمان بن حرب على زيادة أبي (مسدد) هو
ابن مسرهد أحد شيوخ المؤلّف أيضًا مما هو موصول في مسند
مسدّد (عن هشيم) بالتصغير هو ابن بشير بوزن عظيم السلمي
الواسطي (عن حصين) هو ابن عبد الرحمن السابق (عن الشعبي عن
عروة بن أبي الجعد). فأثبت لفظ أبي وصوّبه
(5/69)
ابن المديني. وذكر ابن أبي حاتم أن اسم أبي
الجعد سعد، وسيكون لي عودة إلى زيادة كلام في هذا في
علامات النبوّة إن شاء الله تعالى بعون الله ومنّه وقوّته.
2851 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي
الْخَيْلِ». [الحديث 2851 - طرفه في: 3645].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد البصري قال: (حدّثنا
يحيى بن سعيد) القطان (عن شعبة) بن الحجاج (عن أبي التياح)
بفتح الفوقية والتحتية المشددة وبعد الألف حاء مهملة يزيد
بن حميد الضبعي (عن أنس بن مالك) -رضي الله عنه- أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(البركة) حاصلة (في نواصي الخيل) وعند الإسماعيلي: البركة
تنزل في نواصي الخيل فصرّح فيه بما يتعلق به الجار
والمجرور ولم يقل في هذا الحديث إلى يوم القيامة، وقد يراد
بالبركة هنا الزيادة بما يكون من نسلها والكسب عليها
والمغانم والأجر.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في علامات النبوّة ومسلم في
المغازي والنسائي في الخيل.
44 - باب الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
هذا (باب) بالتنوين (الجهاد ماضٍ) أي مستمر (مع) الإمام
(البر) أي العادل (و) مع الإمام (الفاجر) أي الجائر (لقول
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الخيل معقود
في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) الموصول في السابق
واللاحق.
2852 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ
عَنْ عَامِرٍ حَدَّثَنَا عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
زكريا) بن أبي زائدة (عن عامر) هو الشعبي أنه قال: (حدّثنا
عروة) هو ابن الجعد أو ابن أبي الجعد السابق قريبًا
(البارقي) بالموحدة والراء بعد الألف فالقاف نسبة إلى بارق
جبل باليمن أو قبيلة من ذي رعين (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) والخير هو
(الأجر) أي الثواب في الآخرة (والمغنم) أي الغنيمة في
الدنيا فهما بدلان من الخير أو خبر مبتدأ محذوف أي هو
الأجر والمغنم كما مرّ. وذكر بقاء الخير في نواصي الخيل
إلى يوم القيامة وفسره بالأجر والمغنم والمغنم المقترن
بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد ولم يقيد ذلك بما إذا
كان الإمام عدلاً فدلّ على أنه لا فرق في حصول هذا الفضل
بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر، وأن
الإسلام باقٍ وأهله إلى يوم القيامة لأن من لازم بقاء
الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون. وفي حديث أبي داود عن
مكحول عن أبي
هريرة مرفوعًا: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برًّا كان
أو فاجرًا وإن عمل الكبائر" وإسناده لا بأس به إلا أن
مكحول لم يسمع من أبي هريرة. وفي حديث أنس عنده أيضًا
مرفوعًا: "والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر
أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل". وفي حديث
جابر عند الإمام أحمد من الزيادة على حديث الباب في
نواصيها الخير والنيل بفتح النون وسكون التحتية بعدها لام
وأهلها معانون عليها فخذوا بنواصيها وادعوا بالبركة، وزاد
ابن سعد في الطبقات وابن مندة في الصحابة والمنفق عليها
كباسط كفه في الصدقة.
45 - باب مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
[الأنفال: 60]
(باب) فضل (من احتبس فرسًا) زاد الكشميهني (في سبيل الله)
(لقوله تعالى: {من رباط الخيل} [الأنفال: 60]). أي للغزو.
2853 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا ابْنُ
الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ
قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ يُحَدِّثُ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ:
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , إِيمَانًا
بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ
وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن حفص) المروزي وقيل حفص اسم جده.
قال ابن أبي حاتم والصواب أنه علي بن الحسن بن نشيط بفتح
النون وكسر المعجمة بوزن عظيم قال: (حدّثنا ابن المبارك)
عبد الله قال: (أخبرنا طلحة بن أبي سعيد) المصري نزيل
الإسكندرية المدني الأصل (قال: سمعت سعيدًا المقبري يحدّث
أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من احتبس فرسًا في سبيل الله) بنية جهاد العدوّ لا لقصد
الزينة والترفه والتفاخر (إيمانًا بالله) بالنصب على أنه
مفعول له أي ربطه خالصًا لله تعالى امتثالاً لأمره
(وتصديقًا بوعده) الذي وعد به من الثواب على ذلك (فإن
شبعه) بكسر المعجمة أي ما يشبع به (وريه) بكسر الراء
وتشديد التحتية أي ما يرويه من الماء (وروثه) بالمثلثة
(وبوله) ثواب (في ميزانه يوم القيامة). وعند ابن أبي عاصم
في الجهاد عن يزيد بن عبد الله بن عريب بفتح العين المهملة
وكسر الراء بعدها تحتية ساكنة ثم موحدة المليكي عن أبيه عن
جده مرفوعًا: "في الخليل وأبوالها وأرواثها كف مسك الجنة".
ورواه ابن سعد في
(5/70)
الطبقات بلفظ: "المنفق على الخيل كباسط يده
بالصدقة لا يقبضها وأبوالها وأرواثها عند الله يوم القيامة
كذكي المسك". وعند ابن ماجه من حديث تميم الداري -رضي الله
عنه- مرفوعًا: "من ارتبط فرسًا في سبيل الله ثم عالج علقه
بيده كان له بكل حبة حسنة". ورواه ابن أبي عاصم أيضًا في
حديث شرحبيل بن مسلم أن روح بن زنباع الجذامي زار تميمًا
الداري فوجده ينقي لفرسه شعيرًا ثم يعلقه عليه وحوله أصله،
فقال له روح: أما كان لك من هؤلاء من يكفيك؟ قال تميم: بلى
ولكني
سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول:
"ما من امرئ مسلم ينقي لفرسه شعيرًا ثم يعلقه عليه إلاّ
كتب الله له بكل حبة حسنة". ورواه الإمام أحمد في مسنده.
46 - باب اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ
(باب اسم الفرس والحمار) أي مشروعية تسميتها كغيرهما من
الدواب بأسماء تخصها لتميزها عن غيرها من جنسها.
2854 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا
فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّهُ
خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَتَخَلَّفَ أَبُو قَتَادَةَ مَعَ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَهْوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ،
فَرَأَوْا حِمَارًا وَحْشِيًّا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ،
فَلَمَّا رَأَوْهُ تَرَكُوهُ حَتَّى رَآهُ أَبُو
قَتَادَةَ، فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ يُقَالُ لَهُ
الْجَرَادَةُ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ
فَأَبَوْا، فَتَنَاوَلَهُ، فَحَمَلَ فَعَقَرَهُ، ثُمَّ
أَكَلَ فَأَكَلُوا، فَنَدِمُوا، فَلَمَّا أَدْرَكُوهُ
قَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَىْءٌ؟ قَالَ: مَعَنَا
رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَكَلَهَا".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن أبي بكر) المقدمي (قال: حدّثنا
فضيل بن سليمان عن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمة
بن دينار (عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه) أبي قتادة
الحرث بن ربعي الأنصاري (أنه خرج مع النبي) ولأبي ذر: مع
رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عام
الحديبية (فتخلف أبو قتادة مع بعض أصحابه وهم محرمون)
بالعمرة (وهو غير محرم) لأنه عليه الصلاة والسلام بعثه
لكشف حال عدوّ لهم بجهة الساحل (فرأوا حمارًا وحشيًّا)
ولأبي ذر: حمار وحش (قبل أن يراه) أبو قتادة (فلما رأوه
تركوه حتى رآه أبو قتادة، فركب فرسًا له يقال له) بالتذكير
ولأبي ذر: لها (الجرادة) بفتح الجيم والراء المخففة والفرس
واحد الخيل والجمع أفراس الذكر والأنثى فيه سواء وأصله
التأنيث.
وروى أبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يسمي الأنثى من الخيل
فرسة.
قالوا: ولا يقال لها فرسة. نعم حكى ابن جني والفراء فرسة
وتصغير الفرس فريس، وإن أردت الأنثى خاصة لم تقل إلا فريسة
بالهاء والجمع أفراس وفروس ولفظها مشتق من الأفراس كأنها
تفترس الأرض لسرعة مشيها، وللفرس كنى منها: أبو شجاع وأبو
مدرك والحجر الأنثى من الخيل. قال في القاموس: وبالهاء
لحن، وقال بعضهم: لم يدخلوا فيه الهاء لأنه اسم لا يشركها
فيه الذكر والجمع أحجار وحجور، لكن روى ابن عدي في الكامل
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "ليس في
حجرة ولا بغلة زكاة". وهذا يدل على أنه يقال حجرة بالهاء.
(فسألهم) أي سأل أبو قتادة أصحابه المحرمين (أن يناولوه
سوطه فأبوا) أن يناولوه (فتناوله فحمل) أبو قتادة على
الحمار (فعقره، ثم أكل) منه (فأكلوا، فقدموا) بالقاف،
ولأبي ذر في نسخة
وأبي الوقت والأصيلي: فندموا النون بدل القاف من الندامة
أي ندموا على أكله لكونهم محرمين (فلما أدركوه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان قد سبقهم وسألوه عن حكم
أكله (قال):
(هل معكم منه شيء؟ قال: معنا رجله فأخذها النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأكلها).
وهذا الحديث قد سبق بمعناه في الحج بدون تسمية فرس أبي
قتادة، ووقع في سيرة ابن هشام أن اسمها الحزوة بفتح الحاء
المهملة وسكون الزاي بعدها واو، والذي في الصحيح هو الصحيح
أو يكون لها اسمان.
2855 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا
أُبَىُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ قَالَ: "كَانَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَائِطِنَا فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ
اللُّحَيْفُ" قَالَ أَبُو عَبْدُ اللهِ: وَقَالَ
بَعَضُهُمْ "اللُّخَيْفِ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله بن جعفر) المديني قال:
(حدّثنا معن بن عيسى) بفتح الميم وسكون العين المهملة آخره
نون القزاز بالقاف وتشديد الزاي الأولى المدني (حدّثنا)
ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (أُبي بن عباس بن سهل) بضم
الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية وعباس بالموحدة آخره
سين مهملة وسهل بفتح السين المهملة وسكون الهاء ابن سعد
الساعدي (عن أبيه عن جده) أنه (قال: كان للنبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حائطنا) بستاننا (فرس يقال
له اللحيف) بضم اللام وفتح الحاء المهملة وسكون التحتية
بعدها فاء مصغرًا وضبطه بعضهم بفتح أوله وكسر ثانيه على
وزن رغيف ورجحه الدمياطي وجزم به الهروي وقال: سمي به لطول
ذنبه فعيل بمعنى فاعل كأنه يلحف الأرض بذنبه، وزاد أبو ذر
والوقت والأصيلي هنا قال أبو عبد الله: أي
(5/71)
البخاري. وقال بعضهم: اللخيف أي بضم اللام
وفتح الخاء المعجمة قال عياض: وبالأول ضبطناه عن عامة
شيوخنا، وبالثاني عن أبي الحسين اللغوي، وقيل لا وجه لضبطه
بالخاء المعجمة. وفي النهاية أنه روي بالجيم بدل الخاء
المعجمة، وعند ابن الجوزي بالنون بدل اللام من النحافة.
وهذا الحديث من إفراد المؤلّف.
2856 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ
يَحْيَى بْنَ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ مُعَاذٍ
-رضي الله عنه- قَالَ: "كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ
عُفَيْرٌ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ
اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى
اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:
فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ
وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى
اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ
شَيْئًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ
بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا".
[الحديث 2856 - أطرافه في: 5967، 6267، 6500، 7373].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إسحاق بن
إبراهيم) بن راهويه المروزي (أنه سمع يحيى بن آدم) بن
سليمان القرشي الكوفيّ قال: (حدّثنا أبو الأحوص) هو سلام
بتشديد اللام ابن سليم الحنفيّ الكوفيّ وعليه يدل كلام
المزي أو هو عمار بن زريق وبه جزم ابن حجر لإخراج النسائي
الحديث وصرح فيه به، وجزم الكرماني بالأول وتبعه العيني
وقال: لا يصلح أن يكون هو عمارًا لأنه مما انفرد به مسلم
ولم يخرج له البخاري (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله
السبيعي الكوفي (عن عمرو بن ميمون) بفتح العين وسكون الميم
الأودي بفتح الهمزة وسكون الواو وبالدال المهملة (عن معاذ)
هو ابن جبل الأنصاري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كنت ردف
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بكسر الراء
وسكون الدال أي راكبًا خلفه (على حمار) له عليه الصلاة
والسلام (يقال له: عفير)، بضم العين المهملة وفتح الفاء
وبعد التحتية الساكنة راء تصغير أعفر أخرجوه عن بناء أصله
كما قالوا سويد في تصغير أسود مأخوذ من العفرة وهي حمرة
يخالطها بياض، ووهم عياض في ضبطه له بالغين المعجمة وهو
غير الحمار الآخر الذي يقال له يعفور، وابن عبدوس حيث قال:
إنهما واحد فإن عفيرًا أهداه المقوقس له -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويعفورًا أهداه فروة بن عمرو، وقيل
بالعكس (فقال):
(يا معاذ هل) ولأبي ذر: وهل (تدري حق الله) كذا بإسقاط ما
في الفرع وغيره في نسخة ما حق الله (على عباده وما حق
العباد على الله) (قلت الله ورسوله أعلم. قال): عليه
الصلاة والسلام (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه)
وللكشميهني أن يعبدوا بحذف المفعول (ولا يشركوا به شيئًا،
وحق العباد) بالنصب عطفًا على فإن حق الله ولأبي ذر: حق
العباد (على الله) بالرفع على الاستئناف فضلاً منه (أن لا
يعذب من لا يشرك به شيئًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فقلت يا رسول الله أفلا) أي قلت ذلك فلا (أبشر
به الناس)؟ فالمعطوف عليه مقدر بعد الهمزة (قال: لا
تبشرهم) بذلك (فيتكلوا) بتشديد المثناة الفوقية من
الاتكال، وللكشميهني: فينكلوا بالنون الساكنة وكسر الكاف
من النكول. وفي اليونينية بضم الكاف لا غير.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله على حمار يقال له: عفير،
لأن الحمار اسم جنس سمي ليتميز به عن غيره، والحديث أخرجه
أيضًا في الرقاق، لكنه لم يسم فيه الحمار.
2857 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ فَزَعٌ
بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَسًا لَنَا يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ
فَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ
لَبَحْرًا".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بموحدة فمعجمة مشددة قال:
(حدّثنا غندر) هو محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (سمعت قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك) -رضي
الله عنه- أنه (قال: كان فزع) أي خوف (بالمدينة) أي ليلاً
(فاستعار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرسًا
لنا) لا ينافي قوله فيما سبق أنه لأبي طلحة لأنه زوج أمه
(يقال له: مندوب) بغير ألف ولام وكان بطيء المشي (فقال):
حين استبرأ الخبر ورجع (ما رأينا من فزع وإن وجدناه أي
الفرس (لبحرًا) شبه جريه لما كان كثيرًا بالبحر لكثرة مائه
وعدم انقطاعه، وقال الخطابي: إن هنا نافية واللام في
لبحرًا بمعنى إلا أي ما وجدناه إلا بحرًا والعرب تقول: إن
زيد لعاقل أي ما بزيد إلاّ عاقل.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وقد كان للنبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعة وعشرون فرسًا لكل واحدة
منها اسم مخصوص بعينه ويميزه عن غيره من جنسه وكان له بغلة
تسمى: دلدل، وناقة تسمى القصواء، وأخرى تسمى العضباء. وغير
ذلك.
47 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الْفَرَسِ
(باب) (ما يذكر) في الحديث (من شؤم الفرس) بالهمزة وتخفف
واوًا وهو ضد اليمن.
2858 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله
عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي
ثَلاَثَةٍ: فِي الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال:
أخبرني) بالإفراد (سالم بن عبد الله أن) أباه (عبد الله بن
عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت
(5/72)
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يقول):
(إنما الشؤم) كائن (في ثلاثة: في الفرس) أي إذا لم يغز
عليه أو كان شموسًا (والمرأة) إذا كانت غير ولود أو غير
قانعة أو سليطة (والدار) ذات الجار السوء أو الضيقة أو
البعيدة من المسجد لا تسمع الأذان، وقد يكون الشؤم في غير
هذه الثلاثة فالحصر فيها كما قاله ابن العربي بالنسبة إلى
العادة لا بالنسبة إلى الخلقة. وقال الخطابي: اليمن والشؤم
علامتان لما يصيب الإنسان من الخير والشر ولا يكون شيء من
ذلك إلا بقضاء الله، وهذه الأشياء الثلاثة ظروف جعلت مواقع
لأقضية ليس لها بأنفسها وطبائعها فعل ولا تأثير في شيء إلا
أنها لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الإنسان، وكان في
غالب أحواله لا يستغني عن دار يسكنها وزوجة يعاشرها وفرس
مرتبطة ولا يخلو عن عارض مكروه في زمانه أضيف اليمن والشؤم
إليها إضافة مكان وهما صادران عن مشيئة الله عز وجل انتهى.
وقد روى الحديث مالك وسفيان وسائر الرواة بدون "إنما"
واتفقت الطرق كلها على الاقتصار على الثلاثة المذكورة. نعم
زادت أم سلمة في حديثها المروي في ابن ماجة "السيف".
ولمسلم من طريق يونس عن ابن شهاب "لا عدوى ولا طيرة وإنما
الشؤم في ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار". وظاهره أن الشؤم
والطيرة في هذه الثلاثة. وعند أبي داود من حديث سعد بن
مالك مرفوعًا: "لا
هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي الدار
والفرس والمرأة" قال الخطابي وكثيرون: هو في معنى
الاستثناء من الطيرة أي الطيرة نهي عنها إلا في هذه
الثلاثة.
وقال الطيبي في شرح المشكاة يحتمل أن يكون معنى الاستثناء
على حقيقته وتكون هذه الثلاثة خارجة من حكم المستثنى منه
أي الشؤم ليس في شيء من الأشياء إلا في هذه الثلاثة قال:
ويحتمل أن ينزل على قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: لو كان شيء سابق القدر سبقه العين، والمعنى أن
لو فرض شيء له قوة وتأثير عظيم يسبق القدر لكان عينًا
والعين لا تسبق فكيف بغيرها. وعليه كلام القاضي عياض حيث
قال: وجه تعقيب قوله: ولا طيرة بهذه الشريطة يدل على أن
الشؤم أيضًا منفي عنها، والمعنى أن الشؤم لو كان له وجود
في شيء لكان في هذه الأشياء فإنها أقبل الأشياء له، لكن لا
وجود له فيها فلا وجود له أصلاً انتهى.
قال الطيبي: فعلى هذا الشؤم في الأحاديث المستشهد بها
محمول على الكراهة التي سببها ما في الأشياء من مخالفة
الشرع أو الطبع كما قيل: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها،
وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها ونحوهما، وشؤم
الفرس أن لا يغزى عليها، فالشؤم فيها عدم موافقتها له
شرعًا أو طبعًا. ويؤيده ما ذكره في شرح السُّنَّة كأنه
يقول: إن كان لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها
أو فرس لا تعجبه فليفارقها بأن ينتقل عن الدار ويطلّق
المرأة ويبيع الفرس حتى يزول عنه ما يجده في نفسه من
الكراهة كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، في
جواب من قال: يا رسول الله إنّا كنا في دار كثير فيها
عددنا وأموالنا فتحوّلنا إلى أخرى فقلّ فيها ذلك، ذروها
ذميمة. رواه أبو داود وصححه الحاكم فأمرهم بالتحوّل عنها
لأنهم كانوا فيها على استقتال واستيحاش فأمرهم -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالانتقال عنها ليزول عنهم ما
يجدون من الكراهة لأنها سبب في ذلك، وقيل: يحمل الشؤم هنا
على معنى قلة الموافقة وسوء الطباع كما في حديث سعد بن أبي
وقاص عند أحمد مرفوعًا: "من سعادة المرء المرأة الصالحة
والمسكن الصالح والمركب الهنيء، ومن شقاوة المرء المرأة
السوء والمسكن السوء والمركب السوء".
وقد جاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها أنكرت على أبي
هريرة تحديثه بذلك. فعند أبي داود الطيالسي في مسنده عن
مكحول قال قيل لعائشة إن أبا هريرة قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الشؤم في ثلاثة"،
فقالت: لم يحفظ أنه دخل وهو يقول: "قاتل الله اليهود
يقولون الشؤم في ثلاثة" فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله
لكنه منقطع لأن مكحولاً لم يسمع من عائشة. نعم روى أحمد
وابن خزيمة وصححه الحاكم من طريق قتادة عن أبي حسان أن
رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة
قال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: "الطيرة في الفرس
(5/73)
والمرأة والدار" فغضبت غضبًا شديدًا وقالت:
ما قاله، وإنما قال: "إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من
ذلك" فأخبرت أنه عليه الصلاة والسلام إنما قال ذلك حكاية
عن أهل الجاهلية فقط لكن لا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة
مع موافقة من ذكر من الصحابة له في ذلك.
وهذا الحديث أخرجه والنسائي في عشرة النساء.
2859 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنْ
كَانَ فِي شَىْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ
وَالْمَسْكَنِ». [الحديث 2859 - طرفه في: 5095].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك)
الإمام (عن أبي حازم بن دينار) اسمه سلمة (عن سهل بن سعد
الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إن كان في شيء) أي إن كان الشؤم في شيء حاصلاً (ففي
المرأة والفرس والمسكن) إخبار أنه ليس فيهن شؤم فإذا لم
يكن في هذه الثلاثة فلا يكون في شيء واتفقت النسخ على
إسقاط قوله الشؤم وكذا هو في الموطأ. نعم زاد في آخره يعني
الشؤم، وكذا رواه مسلم ورواه الدارقطني عن إسماعيل بن عمر
عن مالك ومحمد بن سليمان الحراني عن مالك بلفظ: إن كان
الشؤم في شيء ففي المرأة إلخ ... إلا أن إسماعيل لم يقل في
شيء.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في النكاح والطب ومسلم في الطب
وابن ماجه في النكاح.
48 - باب الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ، وَقَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
[النحل: 8]
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (الخيل لثلاثة. وقوله تعالى)
ولأبي ذر: وقول الله عز وجل ({والخيل}) أي وخلق الخيل
({والبغال والحمير لتركبوها وزينة}) مفعول له عطف على محل
لتركبوها واستدلّ به على حرمة لحومها ولا دليل فيه إذ لا
يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبًا أن لا يقصد منه
غيره أصلاً، ويدل له أن الآية مكية وعامة المفسرين
والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر وزاد أبو ذر
({ويخلق ما لا تعلمون}) [النحل: 8].
2860 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ
السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ،
وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. فَأَمَّا
الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَأَطَالَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا
أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ أَوِ
الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا
قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ
كَانَتْ أَرْوَاثُهَا وَآثَارُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ
أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ
يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ.
فَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْر فَهُو
رَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً لأَهْلِ
الإِسْلاَمِ فَهْيَ
وِزْرٌ عَلَى ذَلِكَ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْحُمُرِ فَقَالَ: مَا
أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الآيَةُ
الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) هو
إمام دار الهجرة ابن أنس (عن زيد بن أسلم) العدوي المدني
(عن أبي صالح) ذكوان (السمان عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(الخيل لثلاثة) جار ومجرور، ولأبي ذر عن الكشميهني: ثلاثة
بإسقاط حرف الجر والرفع الرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل
وِزر فأما) الرجل (الذي) هي (له أجر فرجل ربطها) للجهاد
(في سبيل الله) عز وجل (فأطال) في الحبل الذي ربطها به حتى
تسرح للرعي (في مرج) بفتح الميم وبعد الراء الساكنة جيم
موضع كلأ (أو روضة) بالشك من الراوي كالآتي (فما أصابت) أي
ما أكلت وشربت ومشت (في طيلها ذلك) بكسر الطاء المهملة
وفتح التحتية حبلها المربوطة فيه (من المرج أو الروضة كانت
له) أي لصاحبها (حسنات) يوم القيامة يجدها موفورة (ولو
أنها قطعت طيلها) حبلها المذكور (فاستنت) بفتح الفوقية
وتشديد النون عدت بمرح ونشاط (شرفًا أو شرفين) بفتح الشين
المعجمة والراء والفاء فيهما شوطًا أو شوطين فبعدت عن
الموضع الذي ربطها صاحبها فيه ترعى ورعت في غيره (كانت
أرواثها) بالمثلثة (وآثارها) بالمثلثة في الأرض بحوافرها
عند خطواتها (حسنات له) أي لصاحبها يوم القيامة (ولو أنها
مرّت بنهر) بفتح الهاء وسكونها (فشربت منه) بغير قصد
صاحبها (ولم يرد أن يسقيها كان ذلك) أي شربها وعدم إرادته
أن يسقيها (حسنات له). (و) أما الرجل الذي هي عليه وزر فهو
(رجل ربطها فخرًا) بالنصب للتعليل أي لأجل الفخر أي
تعاظمًا (ورياءً) أي إظهارًا للطاعة والباطن بخلافه
(ونواء) بكسر النون وفتح الواو والمد عداوة (لأهل الإسلام
فهي وزر) أي إثم (على ذلك) الرجل، وقيل: الواو في رياء
ونواء بمعنى (أو) لأن هذه الثلاثة قد تفترق في الأشخاص وكل
واحد منها مذموم على حدته وحذف من هذه الرواية أحد هذه
الثلاثة اختصارًا وهو كما ثبت في آخر كتاب الشرب رجل ربطها
تغنيًا وتعففًا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها
فهي لذلك ستر وسيأتي في علامات النبوّة.
(وسُئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
السائل صعصعة بن ناجية جد الفرزدق (عن الحمر) أي عن صدقتها
(فقال) عليه الصلاة والسلام (ما أنزل عليّ فيها) شيء مخصوص
(5/74)
(إلا هذه الآية الجامعة) العامة الشاملة
(الفاذة) بالفاء والذال المعجمة المشددة القليلة مثل
المنفردة في معناها ({فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن
يعمل مثقال ذرة شرًّا يره}) [الزلزلة: 7، 8]. وفي هذه
الآية كما قال ابن بطال: تعليم الاستنباط والقياس لأنه
شبّه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهي الحمر بما ذكره.
وتعقبه ابن المنير بأن هذا ليس من القياس في شيء وإنما هو
استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافًا لمن أنكر أو وقف
وسيكون لنا عودة إلى الكلام على هذا الحديث في علامات
النبوّة إن شاء الله تعالى.
49 - باب مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْغَزْوِ
(باب من ضرب دابة غيره) لما عيت (في الغزو) إعانة له.
2861 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ قَالَ:
"أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ
فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنِي بِمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ:
سَافَرْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ -قَالَ أَبُو
عَقِيلٍ: لاَ أَدْرِي غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً- فَلَمَّا
أَنْ أَقْبَلْنَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَى
أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ. قَالَ جَابِرٌ: فَأَقْبَلْنَا
وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِي أَرْمَكَ لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ
وَالنَّاسُ خَلْفِي، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ
عَلَىَّ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: يَا جَابِرُ اسْتَمْسِكْ، فَضَرَبَهُ
بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً، فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ،
فَقَالَ: أَتَبِيعُ الْجَمَلَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَلَمَّا
قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَدَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَسْجِدَ فِي طَوَائِفِ
أَصْحَابِهِ، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ
فِي نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا جَمَلُكَ.
فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ وَيَقُولُ:
الْجَمَلُ جَمَلُنَا. فَبَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوَاقٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ:
أَعْطُوهَا جَابِرًا. ثُمَّ قَالَ: اسْتَوْفَيْتَ
الثَّمَنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: الثَّمَنُ وَالْجَمَلُ
لَكَ".
وبه قال: (حدّثنا مسلم) هو ابن إبراهيم الفراهيدي بالفاء
قال: (حدّثنا أبو عقيل) بفتح العين وكسر القاف بشير بن
عقبة الدورقي البصري قال: (حدّثنا أبو المتوكل) علي بن
داود (الناجي) بالنون والجيم نسبة إلى بني ناجية بن سامة
قبيلة كبيرة منهم (قال: أتيت جابر بن عبد الله الأنصاري)
-رضي الله عنه- (فقلت له: حدّثني بما سمعت من رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: سافرت معه في
بعض أسفاره -قال أبو عقيل) بشير المذكور (لا أدري) قال أبو
المتوكل (غزوة أو عمرة-) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: أم
عمرة بالميم بدل الواو، وقال داود بن قيس يعني الفراء
الدباغ فيما علقه المؤلّف في الشرط عن عبيد الله بن مقسم
عن جابر اشتراه بطريق تبوك فبين الغزوة جازمًا بها، ووافقه
على ذلك عليّ بن زيد بن جدعان عن أبي المتوكل، لكن جزم ابن
إسحاق بأنه كان في غزوة ذات الرقاع ورجح بأن أهل المغازي
أضبط. (فلما أن أقبلنا) بزيادة أن (قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من أحب أن يتعجل إلى أهله فليعجل) بسكون اللام وضم
التحتية بعدها عين مهملة وتشديد الجيم المكسورة، ولأبي ذر
عن الكشميهني: فليتعجل بمثناة فوقية بعد التحتية من باب
التفعل (قال جابر: فأقبلنا وأنا على جمل لي أرمك) بهمزة
مفتوحة فراء ساكنة فميم مفتوحة فكاف يخالط حمرته سواد (ليس
فيه) أي في الجمل ولأبي ذر فيها أي في الراحلة لأن الجمل
راحلة (شية) بكسر الشين المعجمة وفتح التحتية المخففة
علامة أي ليس فيه لمعة من غير لونه أو لا عيب فيه (والناس
خلفي) جملة حالية من قوله: وأنا على جمل لي أي أن جمله كان
يسبق جمال غيره (فبينا) بغير ميم (أنا كذلك إذ قام علي) أي
وقف جملي من الإعياء والكلال كقوله تعالى: {وإذا أظلم
عليهم قاموا} [البقرة: 20]. أي وقفوا (فقال لي النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا جابر استمسك،
فضربه بسوطه ضربة فوثب البعير مكانه) ولأحمد
قلت: يا رسول الله أبطأ جملي هذا. قال: "أنخه" وأناخ رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم قال: "أعطني
هذه العصا" ففعلت فأخذها فنسخه بها نخسات ثم قال: "اركب"
(فقال) (أتبيع الجمل)؟ (قلت: نعم) وفي باب إذا اشترط
البائع ظهر الدابة من كتاب الشروط من طريق عامر الشعبي عن
جابر قلت: لا. ثم قال: بعنيه بوقية فبعته، وفي رواية داود
بن قيس أحسبه بأربع أواق فاستثنيت حملانه إلى أهلي (فلما
قدمنا المدينة ودخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- المسجد في طوائف أصحابه فدخلت إليه) ولأبي ذر
عن الكشميهني: عليه (وعقلت الجمل) بالعقال (في ناحية
البلاط) بفتح الموحدة الحجارة المفروشة عند باب المسجد
(فقلت له) عليه الصلاة والسلام (هذا جملك) الذي ابتعته مني
(فخرج) من المسجد (فجعل يطيف بالجمل ويقول: الجمل جملنا،
فبعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أواق من
ذهب فقال: أعطوها جابرًا) بقطع همزة أعطوها مفتوحة (ثم
قال): (استوفيت الثمن)؟ (قلت: نعم. قال): (الثمن والجمل
لك) هبة. قال السهيلي ما محصله أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أخبر جابرًا بعد قتل أبيه بأُحد
أن الله أحياه وقال ما تشتهي فأزيدك أكد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الخبر بما يشبهه فاشترى منه الجمل وهو
مطيته بثمن معلوم ثم وفر عليه الثمن والجمل وزاده على
الثمن كما اشترى الله من المؤمنين أنفسهم بثمن هو الجنة ثم
ردّ عليهم أنفسهم وزادهم كما قال تعالى: {للذين أحسنوا
الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. فتشاكل الفعل
(5/75)
مع الخبر.
وهذا الحديث قد سبق مختصرًا في المظالم وشرحه في الشروط.
50 - باب الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ الصَّعْبَةِ
وَالْفُحُولَةِ لأَنَّهَا أَجْرَى مِنَ الْخَيْلِ
وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ السَّلَفُ
يَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَةَ لأَنَّهَا أَجْرَى
وَأَجْسَرُ.
(باب الركوب على الدابة الصعبة) بسكون العين أي الشديدة
(و) على (الفحولة من الخيل) جمع فحل والتاء فيه كما قال
الكرماني لعلها تأكيد الجمع كما في الملائكة. (وقال راشد
بن سعد): بسكون العين المقرئي بفتح الميم وضمها وسكون
القاف وفتح الراء بعدها همزة نسبة إلى قرية من قرى دمشق
تابعي ليس له في البخاري سوى هذا (كان السلف) أي من
الصحابة فمن بعدهم (يستحبون الفحولة) من الخيل أن يقاتلوا
عليها في الجهاد (لأنها أجرى) بهمزة مفتوحة فجيم ساكنة
فراء مفتوحة بغير همز من الجري، وفي بعض الأصول أجرأ
بالهمز من الجراءة (وأجسر) بالجيم وبالسين المهملة أي من
الإناث. وروى الوليد بن مسلم في الجهاد له من طريق عبادة
بن نسيّ بضم النون وفتح المهملة مصغرًا أو ابن محيريز أنهم
كانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات والبيات ولما خفي أمر
الحرب، ويستحبون الفحول في الصفوف والحصون ولما ظهر من
أمور الحرب.
2862 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ
قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: "كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَاسْتَعَارَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَسًا
لأَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ، فَرَكِبَهُ
وَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ
لَبَحْرًا".
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) قال الدارقطني: هو أحمد
الملقب بشبويه واسم جده ثابت، وقال الحاكم: هو أحمد بن
محمد بن موسى ولقبه مردويه المروزي وهو أشهر وأكثر من
الأول كما قاله في الفتح قال: (أخبرنا عبد الله) هو ابن
المبارك المروزي قال: (أخبرنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة)
بن دعامة أنه (قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال):
(كان بالمدينة فزع)، بفتح الفاء والزاي خوف (فاستعار النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرسًا لأبي طلحة يقال
له: مندوب) كان بطيء المشي (فركبه وقال): حين استبرأ ورجع
(ما رأينا من فزع، وإن وجدناه) الفرس (لبحرًا). إن في قول
الكوفيين بمعنى ما واللام في لبحرًا بمعنى إلا أي ما وجدنا
الفرس. إلا بحرًا، وعند البصريين إن مخففة من الثقيلة قاله
ابن الملقن وقال ابن المنير: ولا دليل في لفظ الفرس في
الحديث لما ترجم له حيث قال: والفحولة من الخيل لأن الفرس
يتناول الفحل والأنثى، وإنما الحصان يخص الفحل إلا أن
يستدل البخاري على أنه فحل بعود ضمير المذكر عليه يعني في
قوله: وإن وجدناه وهو استدلال ضعيف أيضًا لأن العود يصح
أيضًا على اللفظ كما يصح على المعنى ولفظ الفرس مذكر، وإن
كان يقع على المؤنث عكس لفظ الجماعة فإنه مؤنث ولكنه يقع
على المذكر فيجوز إعادة الضمير على اللفظ وعلى المعنى إلا
أنهم قالوا في تصغير الفرس الذكر فريس، وفي الأنثى فريسة
فاتبعوا المعنى لا اللفظ وهذا يقوي استدلاله قال في
المصابيح: لا يقويه ولا يعضده بوجه فتأمله تجده كما قلنا.
51 - باب سِهَامِ الْفَرَسِ
(باب) كمية (سهام الفرس). (وقال مالك) إمام دار الهجرة:
(بسهم للخيل والبراذين) بفتح الباء والراء وبالذال المعجمة
جمع برذون بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة وسكون
الواو التركي (منها) أي من الخيل وخلافها العراب والأنثى
برذونة وزاد في الموطأ والهجين (لقوله تعالى: {والخيل
والبغال والحمير لتركبوها} [النحل: 8]) لأن الله تعالى
امتنّ بركوب الخيل وأسهم لها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، واسم الخيل يقع على البرذون والهجين بخلاف
البغال والحمير والمراد بالهجين ما يكون أحد أبويه غير
عربي والآخر عربي (ولا يسهم لأكثر من فرس) هو بقية قول
مالك وهو مذهب الشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد.
2863 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ - رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ
وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا". وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ
لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا لِقَوْلِهِ:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}
[النحل: 8] وَلاَ يُسْهَمُ لأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ. [الحديث
2863 - طرفه في: 4228].
وبه قال: (حدّثنا عبيد بن إسماعيل) بضم العين مصغرًا وكان
اسمه عبد الله الهباري القرشي الكوفي (عن أبي أسامة) حماد
بن أسامة (عن عبيد الله) بالتصغير ابن عمر العمري (عن
نافع) مولى
ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جعل للفرس سهمين
ولصاحبه سهمًا) أي غير سهمي الفرس فيصير للفارس ثلاثة أسهم
ولا يزاد الفارس على ثلاثة وإن حضر بأكثر من فرس كما لا
ينقص عنها.
وقال أبو حنيفة: لا يسهم للفارس إلا سهم واحد ولفرسه سهم،
وقال: أكره أن أفضل بهيمة على مسلم، واحتجوا له في ذلك
بظاهر ما رواه الدارقطني من طريق أحمد بن منصور الرمادي عن
(5/76)
أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وابن
نمير كلاهما عن عبيد الله بن عمر بلفظ: أسهم للفارس سهمين.
وأجيب: بأن المعنى أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين غير سهمه
المختص به فلا حجة فيه، وقد روى أبو داود من حديث أبي عمرة
أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعطى للفرس
سهمين ولكل إنسان سهمًا، فكان للفارس ثلاثة أسهم، وفي
رواية أبي ذر تقديم هذا الحديث على قول مالك.
52 - باب مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْحَرْبِ
(باب من قاد دابّة غيره في الحرب).
2864 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ
يُوسُفَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: "قَالَ
رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه-:
أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ
يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً،
وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ
فَانْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
الْغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى
بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ
بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا
ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ". [الحديث 2864 - أطرافه في:
2874، 2930، 3042، 4315، 4316، 4317].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا سهل بن
يوسف) الأنماطي (عن شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو
بن عبد الله السبيعي أنه قال: (قال رجل) في رواية عند
المؤلّف في غزوة حنين أنه من قيس (للبراء بن عازب -رضي
الله عنه-: أفررتم) وفي باب بغلة النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمغازي أوليتم (عن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم) وقعة (حنين)؟
وكانت لستِّ خلت من شوّال سنة ثمان (قال: لكن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يفر)، بتشديد نون
لكن أي نحن فررنا، ولكن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يفر وحذف لأنه لم يرد أن يصرح
بفرارهم، ومعلوم من حال نبينا وغيره من الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام عدم الفرار لفرط إقدامهم وشجاعتهم وثقتهم
بوعد الله في رغبتهم في الشهادة ولم يثبت عن أحد منهم أنه
فر، ومن قال ذلك في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قتل ولم يستتب عند مالك. (إن هوازن) وهي قبيلة
كبيرة من العرب ينسبون إلى هوازن بن منصور (كانوا قومًا
رماة) جمع رام (وإنا لما لقيناهم حملنا
عليهم فانهزموا فأقبل المسلمون على الغنائم واستقبلونا) أي
هوازن ولأبي ذرّ فاستقبلونا بالفاء بدل الواو (بالسهام
فأما رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم
يفر)، أي فأما نحن فقد فررنا، وأما رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يفر فبيّن شعبة أن فرار
من فر لم يكن على نيّة الاستمرار في الفرار، وإنما انكشفوا
من وقع السهام والفرار المتوعد عليه هو أن ينوي عدم العود
وأما من تحيز إلى فئة أو كان فرارًا لكثرة عدد العدو بأن
كان ضعفهم أو أكثر أو نوى العود إذا أمكنه فليس داخلاً في
الوعيد، (فلقد رأيته) عليه الصلاة والسلام (وإنه لعلى
بغلته البيضاء)، التي أهداها له ملك أيلة أو فروة الجذامي
(وإن أبا سفيان) بن الحرث بن عبد المطلب (آخذ بلجامها
والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(أنا النبي لا كذب)، أي أنا النبي والنبي لا يكذب فلست
بكاذب فيما أقول حتى أنهزم وأنا متيقن أن الذي وعدني الله
به من النصر حق فلا يجوز عليّ لفرار، وقوله لا كذب بسكون
الباء. وحكى ابن التين عن بعض أهل العلم أنه كان يقوله
بفتح الباء ليخرجه عن الوزن. قال في المصابيح: وهذا تغيير
للرواية الثابتة بمجرد خيال يقوم في النفس، وقد سبق ما
يدفع كون هذا شعرًا فلا حاجة إلى إخراج الكلام عما هو عليه
في الرواية "أنا ابن عبد المطلب" انتسب إلى جده لشهرة عبد
المطلب بين الناس لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر بخلاف
عبد الله أبيه فإنه مات شابًّا أو لأنه اشتهر أنه يخرج من
ذرية عبد المطلب من يدعو إلى الله ويهدي الله الخلق به
وأنه خاتم الأنبياء فانتسب إليه ليتذكر ذلك من كان يعرفه.
53 - باب الرِّكَابِ وَالْغَرْزِ لِلدَّابَّةِ
(باب الركاب)، بكسر الراء (والغرز للدابة) بالغين المعجمة
المفتوحة وتقديم الراء الساكنة على الزاي واختلف هل الركاب
والغرز مترادفان أو الغرز للجمل والركاب للفرس أو الركاب
يكون من الحديد والخشب والغرز لا يكون إلا من الجلد.
2865 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ -رضي الله عنهما- "عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَدْخَلَ
رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ
قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي
الْحُلَيْفَةِ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبيد بن إسماعيل) الهباري (عن
أبي أسامة) حماد بن أسامة (عن عبيد الله) بن عمر العمري
(عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان إذا أدخل رجله)
الشريفة (في الغرز واستوت به ناقته) حال كونها (قائمة أهل)
بالحح أو العمرة (من عند مسجد ذي الحليفة) بضم الحاء
المهملة وفتح اللام قرية خربة على ستة أميال من المدينة.
والمطابقة بين الحديث والترجمة ظاهرة في الغرز والركاب في
معناه فألحقه به أو أشار به إلى أنهما مترادفان.
54 - باب رُكُوبِ الْفَرَسِ الْعُرْيِ
(باب ركوب الفرس العري) بضم العين المهملة وسكون
(5/77)
الراء. وقال السفاقسي بفتح العين وتشديد
التحتية، وقال ابن فارس: عروت الفرس إذا ركبته عريًا وهي
نادرة والمراد ليس له سرج ولا أداة ولا يقال مثل هذا في
الآدميين، إنما يقال عريان.
2866 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه
"اسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى فَرَسٍ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، فِي
عُنُقِهِ سَيْفٌ".
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن عون) بفتح العين وسكون تاليها
فيهما ابن أوس السلمي الواسطي قال: (حدّثنا حماد) هو ابن
زيد (عن ثابت) البناني (عن أنس -رضي الله عنه- استقبلهم
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما فزعوا
ليلة بالمدينة وكان قد سبقهم إلى الصوت (على فرس) استعاره
من أبي طلحة (عري ما عليه سرج) حال كونه (في عنقه سيف)
معلق وفيه ما كان عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من التواضع والفروسية المبالغة.
55 - باب الْفَرَسِ الْقَطُوفِ
(باب الفرس القطوف) بفتح القاف وضم الطاء أي البطيء المشي
مع تقارب الخطا.
2867 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه-:
"أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً، فَرَكِبَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَسًا
لأَبِي طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ -أَوْ كَانَ فِيهِ
قِطَافٌ- فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: وَجَدْنَا فَرَسَكُمْ
هَذَا بَحْرًا، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُجَارَى".
وبه قال: (حدّثنا عبد الأعلى بن حماد) البصري ثم البغدادي
قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الزاي وفتح الراء مصغرًا
ويزيد من الزيادة قال (حدّثنا سعيد) بكسر العين ابن أبي
عروبة (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-
أن أهل المدينة فزعوا مرة) ليلاً (فركب النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرسًا لأبي طلحة) يقال له:
مندوب استعاره منه (كان يقطف) بكسر الطاء المهملة وتضم (أو
كان فيه تطاف) بكسر القاف والشك من الراوي وعند المؤلّف في
باب السرعة والركض من طريق محمد بن سيرين عن أنس بلفظ فركب
فرسًا لأبي طلحة بطيئًا (فلما رجع) بعد أن استبرأ الخبر
(قال: وجدنا فرسكم هذا بحرًا)، قال في أساس البلاغة وصفه
بالبحر لسعة جريه (فكان بعد ذلك لا يجارى) بضم أوّله وفتح
الراء مبنيًّا للمفعول أي لا يطيق فرس الجري معه ببركة
الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
56 - باب السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ
(باب) مشروعية (السبق بين الخيل) بفتح السين المهملة وسكون
الموحدة مصدر وأما بفتحها فهو المال الذي يدفع إلى السابق.
2868 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي
الله عنهما- قَالَ: "أَجْرَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا ضُمِّرَ مِنَ الْخَيْلِ مِنَ
الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا
لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي
زُرَيْقٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى".
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ:
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ سُفْيَانُ: بَيْنَ
الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ
أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَبَيْنَ ثَنِيَّةِ إِلَى
مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ.
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة وبعد
التحتبة الساكنة صاد مهملة ابن عقبة قال: (حدّثنا سفيان)
الثوري (عن عبيد الله) بن عمر العمري (عن نافع) مولى ابن
عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال): (أجرى) أي
سابق (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما ضمر)
بضم المعجمة وكسر الميم المشددة (من الخيل) أي علف حتى سمن
وقوي ثم قلل علفه إلاّ قوتًا ثم أدخل بيتًا كنينًا وغشي
بالجلال حتى حمي وعرق وجف عرقه فخف لحمه وقوي على الجري
(من الحفياء) بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء بعدها تحتية
ممدودًا ويقصر مكان خارج المدينة (إلى ثنية الوداع) بفتح
الواو والثنية بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية
أعلى الجبل أو الطريق فيه أو غير ذلك وسميت بذلك لأن
الخارج من المدينة يمشي معه المودّعون إليها "وأجرى" أي
سابق عليه الصلاة والسلام (ما لم يضمر) من الخيل (من
الثنية) المذكورة (إلى مسجد بني زريق) بتقديم المضمومة على
الراء آخره قاف مصغرًا قبيلة من الأنصار وأضيف المسجد
إليهم لصلاتهم فيه فالإضافة إضافة تعريف لا ملك (قال ابن
عمر) -رضي الله عنهما-: (وكنت فيمن أجرى) أي سابق:
(قال عبد الله) بن الوليد العدني (حدّثنا سفيان) الثوري
(قال: حدّثني) بالإفراد (عبيد الله) بن عمر العمري ومراد
المؤلّف من هذا بيان تصريح الثوري عن شيخه بالتحديث بخلاف
الرواية الأولى فإنها بالعنعنة (قال سفيان): الثوري بالسند
السابق (بين الحفياء) ولأبي ذر من الحفياء (إلى ثنية
الوداع خمسة أميال أو ستة، وبين ثنية) بالجر ولأبي ذر:
ثنية بالفتح (إلى مسجد بني زريق ميل). ومطابقة الحديث
للترجمة في قوله أجرى وقد مضى في باب يقال مسجد بني فلان
من كتاب الصلاة.
57 - باب إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ
(باب إضمار الخيل للسبق) أي إهزالها لأجل السبق وسبقت
كيفية ذلك في الباب السابق.
2869 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله
عنه-: "أَنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ
تُضَمَّرْ، وَكَانَ أَمَدُهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى
مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ كَانَ سَابَقَ بِهَا". قَالَ أَبُو عَبْدُ اللهِ:
{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد: 19].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) نسبه لجده واسم أبيه عبد
الله اليربوعيّ الكوفي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام
(عن نافع عن عبد الله) هو ابن عمر (-رضي الله عنه-) وعن
أبيه (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سابق)
أي بنفسه أو أمر أو أباح
(5/78)
المسابقة (بين الخيل التي لم تضمر) بتشديد
الميم المفتوحة (وكان أمدها) أي غايتها (من الثنية)
المعروة بثنية الوداع (إلى مسجد بني زريق) بضم الزاي بعدها
راء مفتوحة (وأن عبد الله بن عمر كان سابق بها). أي بالخيل
التي لم تضمر وفيه دليل على أن المراد بالمسابقة بين الخيل
مركوبة وليس المراد إرسال الفرسين ليجريا بأنفسهما.
(قال أبو عبد الله): البخاري تبعًا لأبي عبيدة في المجاز
(أمدًا) أي غاية. ({فطال عليهم الأمد}) وهذا مما اتفق عليه
أهل اللغة وقد سقط قوله قال أبو عبد الله إلخ في رواية
الحموي والكشميهني، وقد أورد ابن بطال هنا سؤالاً وهو كيف
ترجم على إضمار الخيل؟ وذكر أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سابق بين الخيل التي لم تضمر، وأجاب
بأنه أشار بطرف من الحديث إلى بقيته وأحال على سائره لأن
تمام الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام سابق بين الخيل التي
أضمرت وبين الخيل التي لم تضمر، وتعقبه ابن المنير فقال:
إنما كان البخاري يترجم على الشيء من الجهة العامة لما قد
يكون ثابتًا ولما قد يكون منفيًّا فمعنى قوله باب إضمار
الخيل للسبق أي هل هو شرط أو لا فبيّن أنه ليس بشرط لأن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سابق بها مضمرة
وغير مضمرة وهذا أقعد لمقاصد البخاري من قول الشارح، إنما
ذكر طرفًا من الحديث ليدل على تمامه لأن لقائل أن يقول إذا
لم يكن بدٌّ من الاختصار فذكر الطرف المطابق للترجمة أولى
في البيان لا سيما والطرف المطابق هو أول الحديث، إذ أوله
عن ابن عمر سابق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بين الخيل التي أضمرت من الحفياء إلى ثنية
الوداع ثم ذكر الخيل التي لم تضمر كما ساق في هذه الترجمة
فحمله على تأويلها لا يعترض عليه. قال ابن حجر: ولا منافاة
بين كلامه وكلام ابن بطال بل أفاد النكتة في الاقتصار.
58 - باب غَايَةِ السِّباق لِلْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ
(باب غاية السبق للخيل المضمرة) بتشديد الميم المفتوحة.
2870 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ
مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي
الله عنهما- قَالَ: "سَابَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي
قَدْ ضمِّرَتْ، فَأَرْسَلَهَا مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ
أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ. فَقُلْتُ لِمُوسَى:
فَكَمْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: سِتَّةُ أَمْيَالٍ
أَوْ سَبْعَةٌ. وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ
تُضَمَّرْ، فَأَرْسَلَهَا مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ،
وَكَانَ أَمَدُهَا مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ. قُلْتُ:
فَكَمْ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ سَابَقَ فِيهَا".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسنديّ قال: (حدّثنا
معاوية) بن عمرو الأزدي قال:
(حدّثنا أبو إسحاق) إبراهيم بن محمد بن الحرث الفزاري (عن
موسى بن عقبة) الأسدي المدني (عن نافع عن ابن عمر -رضي
الله عنهما-) أنه (قال): (سابق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين الخيل التي قد أضمرت) بضم الهمزة
وكسر الميم (فأرسلها من الحفياء، وكان أمدها) أي غايتها
(ثنية الوداع) وأضيفت الثنية إلى الوداع لأنها موضع
التوديع قال أبو إسحاق (فقلت لموسى): أي ابن عقبة (فكم كان
بين ذلك قال: ستة أميال أو سبعة). وقال سفيان في الرواية
السابقة خمسة أو ستة وهو اختلاف قريب (وسابق) عليه الصلاة
والسلام (بين الخيل التي لم تضمر)، بتشديد الميم المفتوحة
(فأرسلها من ثنية الوداع، وكان أمدها) أي غايتها (مسجد بني
زريق). قال أبو إسحاق (قلت): أي لموسى (فكم بين ذلك؟ قال
ميل أو نحوه). وقال سفيان ميل ولم يشك (وكان ابن عمر ممن
سابق فيها). وذكر المؤلّف هذا الحديث في هذه الأبواب
الثلاثة من ثلاثة طرق فأشار في الأول إلى مشروعية السبق
بين الخيل وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة
الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند
الحاجة والأصل في السبق الخيل والإبل. قال -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر).
رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وحسّنه ابن حبّان وصححه.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- الخف الإبل، والحافر
الخيل، وتجوز المسابقة على الفيل والبغل والحمار على
المذهب أخذًا من الحديث السابق. والثاني: لا قصرًا للحديث
على ما فسره به الشافعي وأشار بالثاني: إلى أن السُّنَّة
أن يتقدم إضمار الخيل وأنه لا تمتنع المسابقة عليها عند
عدمه. وبالثالث: إلى غاية السبق فيشترط الإعلام بالموضع
الذي يبدآن بالجري منه والموضع المنتهي إليه وتساوي
المتسابقين فيهما فلو شرط تقدم مبتدأ أحدهما أو منتهاه لم
يجز، وفي الحديث أن المضمر لا يسابق مع غيره وهو محل اتفاق
ولم يتعرض في هذا الحديث للمراهنة على ذلك بل وليس في
الكتب الستّة لها ذكر، لكن ترجم الترمذي لها باب
(5/79)
المراهنة على الخيل، ولعله أشار إلى ما
أخرجه الإمام أحمد والبيهقي والطبراني من حديث ابن عمر: أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سابق بين
الخيل وراهن، واتفقوا على جواز المسابقة بغير عوض وبعوض
لكن بشرط أن يكون العوض من غير المتسابقين. وأما الإمام أو
غيره من الرعية بأن يقول: من سبق منكما فله من بيت المال
كذا أو عليّ كذا لما في ذلك من الحثّ على المسابقة وبذل
مال في طاعة وكذلك يجوز أن يكون من أحد المتسابقين فيقول
إن سبقتني فلك كذا أو سبقتك فلا شيء لك عليّ فإن أخرج كلٌّ
منهما مالاً على أنه إن سبقه الآخر فهو له لم تجز لأن
كلاًّ منهما متردّد بين أن يغنم وأن يغرم وهو صورة القمار
المحرم إلا أن يكون بينهما محلّل فيجوز وهو ثالث على فرس
مكافئ لفرسيهما ولا يخرج المحلل من عنده شيئًا ليخرج هذا
العقد عن صورة القمار، وصورته أن يخرج كلٌّ منهما مالاً
ويقولا للثالث إن سبقتنا فالمالان لك وإن سبقناك فلا شيء
لك وهو فيما بينهما أيّهما سبق
أخذ الجعل من صاحبه، وهذا مذهب الشافعي وأحمد والجمهور
ومنع المالكية إخراج السبق منهما ولو بمحلل ولم يعرف مالك
المحلل.
لنا ما رواه أبو داود وابن ماجه من رواية سفيان بن حسين عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أدخل فرسًا بين
فرسين يعني وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخل فرسًا
بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار" ولم ينفرد به سفيان
بن حسين كما زعم بعضهم فقد رواه أبو داود أيضًا من طريق
سعيد بن بشير عن الزهري.
59 - باب نَاقَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرْدَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ.
وَقَالَ الْمِسْوَرُ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ.
(باب ناقة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال)
ولأبي ذر وقال (ابن عمر): -رضي الله عنهما- (أردف النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسامة) بن زيد (على
القصواء) بفتح القاف وسكون الصاد المهملة ممدودًا اسم
ناقته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا طرف من
حديث وصله في الحج. (وقال المسور) بن مخرمة فيما وصله في
باب الشروط في الجهاد من كتاب الشروط مطولاً (قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (ما خلأت القصواء)
أي ما حرنت.
2871 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ
حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -رضي الله عنه- يَقُولُ:
"كَانَتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يُقَالُ لَهَا الْعَضْبَاءُ". [الحديث 2871 -
طرفه في: 2872].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
معاوية) بن عمرو الأزدي قال:
(حدّثنا أبو إسحاق) إبراهيم الفزاري (عن حميد) الطويل أنه
(قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- يقول:
كانت ناقة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقال
لها العضباء). بعين مهملة مفتوحة فضاد معجمة ساكنة ممدود.
2872 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ:
"كَانَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ لاَ تُسْبَقُ -قَالَ
حُمَيْدٌ: أَوْ لاَ تَكَادُ تُسْبَقُ- فَجَاءَ
أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ فَقَالَ: حَقٌّ
عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْتَفِعَ شَىْءٌ مِنَ الدُّنْيَا
إِلاَّ وَضَعَهُ".
طَوَّلَهُ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) بن زياد النهدي الكوفي
قال: (حدّثنا زهير) بضم الزاي مصغرًا ابن معاوية الجعفي
الكوفي (عن حميد) الطويل (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه
(قال: كان
للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ناقة تسمى
العضباء لا تسبق -قال حميد) الطويل بالإسناد المذكور: (أو
لا تكاد تسبق-) على الشك (فجاء أعرابي) قال الحافظ ابن
حجر: لم أقف على اسم هذا الأعرابيّ بعد التتبع الشديد (على
قعود) بفتح القاف وهو ما استحق الركوب من الإبل وأقل ذلك
أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل السادسة فيسمى جملاً ولا
يقال إلا للذكر (فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه)
أي عرف -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كونه شاقًّا
عليهم (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه) وفي
رواية إن حقًّا فعلى الله متعلق بحقًّا وأن لا يرتفع خبر
أن وأن مصدرية فيكون معرفة والاسم نكرة فيكون من باب القلب
أي أن عدم الارتفاع حق على الله. (طوّله) أي رواه مطوّلاً
(موسى) بن إسماعيل التبوذكي (عن حماد) هو ابن سلمة (عن
ثابت) البناني (عن أنس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
وهذا التعليق وصله أبو داود ووقع في رواية المستملي وحده
عقب حديث عبد الله بن محمد ووقع في رواية غير أبي ذر
الهروي بعد رواية زهير، وليس سياقه عند أبي داود بأطول من
سياق زهير بن أبي معاوية عن حميد. نعم هو أطول من سياق أبي
إسحاق الفزاري فتترجح رواية المستملي وكأنه اعتمد رواية
أبي إسحاق لما وقع فيها من التصريح بسماع حميد عن أنس
وأشار
(5/80)
إلى أنه روي مطوّلاً من طريق ثابت ثم وجده
من رواية حميد مطوّلاً فأخرجه قاله في فتح الباري.
ومطابقة الترجمة لما ذكره من حيث أن ذكر الناقة يشمل
القصواء وغيرها.
قال في النهاية: القصواء الناقة التي قطع طرف أُذنها وكل
ما قطع من الأُذن فهو جدع فإذا بلغ الربع فهو قصو، فإذا
جاوزه فهو عضب فإذا استؤصلت فهو صلم يقال قصوته قصوًا فهو
مقصوّ والناقة قصواء، ولا يقال بعير أقصى ولم تكن ناقته
عليه الصلاة والسلام قصواء وإنما كان هذا لقبًا لقوله تسمى
العضباء ويقال لها العضباء ولو كانت تلك صفتها لم يحتج
لذلك، وقيل وقد جاء أنه كان له ناقة تسمى: العضباء وأخرى
تسمى: الجدعاء وأخرى تسمى: صلماء وأخرى مخضرمة، وهذا كله
في الأُذن، فيحتمل أن تكون كل واحدة صفة ناقة مفردة وأن
يكون الكل صفة ناقة واحدة فسماها كل واحد منهم بما تخيل
وبذلك جزم الحربي ويؤكد ذلك ما روي في حديث عليّ حين بعثه
عليه الصلاة والسلام ببراءة. فروى ابن عباس أنه ركب ناقة
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القصواء،
وروى جابر العضباء، ولغيرهما الجدعاء، فهذا يصرح أن
الثلاثة صفة ناقة واحدة لأن القصة واحدة.
60 - باب الْغَزْوِ عَلَى الْحَمِيرِ
(باب الغزو على الحمير) كذا وقع للمستملي وحده من غير ذكر
حديث، ويناسبه حديث معاذ السابق: كنت ردف النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على حمار يقال له: عفير.
فيحتمل أن المؤلّف -رحمه الله تعالى- بيّض له ليكتبه من
غير الطريق السابقة كعادته فاخترمته المنيّة قبل، وضم
النسفيّ هذه الترجمة لتاليتها فقال باب
الغزو على الحمير وبغلة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. واستشكل لأنه لا ذكر للحمير في حديثي الباب.
وأجيب: باحتمال أن يؤخذ حكم الحمار من البغلة أو أن
المؤلّف بيّض له.
61 - باب بَغْلَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الْبَيْضَاءِ، قَالَهُ أَنَسٌ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ
لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَغْلَةً
بَيْضَاءَ.
(باب بغلة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الببضاء، قاله أنس) في حديثه الطويل في قصة حنين (وقال أبو
حميد):
عبد الرحمن بن سعد الساعدي في حديثه الطويل في غزوة تبوك
السابق موصولاً في أواخر الزكاة (أهدى ملك أيلة) بفتح
الهمزة وسكون التحتية مدينة على ساحل البحر بين مصر ومكة
في قول أبي عبيد وقال غيره هي آخر الحجاز وأول الشام بينها
وبين المدينة خمس عشرة مرحلة واسم ملكها يوحنا بن روبة
واسم أمه العلماء (للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بغلة بيضاء) وهذه غير البغلة التي كان عليها
يوم حنين. وفي مسلم عن العباس أن البغلة التي كانت تحته
يوم حنين أهداها له فروة بن نفاثة بضم النون وبعد الفاء
المخففة ألف فمثلثة وهذا هو الصحيح.
2873 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا
يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو
إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ قَالَ:
"مَا تَرَكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ،
وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً".
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) أبو حفص الباهلي الصيرفي
البصري قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو إسحاق) عمرو بن
عبد الله السبيعي (قال: سمعت عمرو بن الحارث) المصطلقي
الخزاعي أخا أم المؤمنين جويرية بنت الحرث -رضي الله
عنهما- (قال): (ما ترك النبي) ولأبي ذر رسول الله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا بغلته البيضاء) هي دلدل
لأن أهل السير لم يذكروا بغلة بقيت بعده عليه الصلاة
والسلام سواها والشهبة غلبة البياض على السواد فسماها
بيضاء لذلك (وسلاحه)، الذي أعدّه للحرب (وأرضًا تركها) وفي
الوصايا جعلها (صدقة).
أي في صحته وأخبر بحكمها عند وفاته والأرض هي نصف فدك وثلث
أرض وادي القرى وسهمه من خمس خيبر وصفيه من بني النضير
قاله الكرماني -رحمه الله تعالى-.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الجهاد والمغازي والنسائي في
الأحباس وسبق في الوصايا.
2874 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ
عَنِ الْبَرَاءِ -رضي الله عنه- "قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا
أَبَا عُمَارَةَ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالَ: لاَ
وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ،
فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بَغْلَتِهِ
الْبَيْضَاءِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ
بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ , أَنَا
ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي الزمن البصري
قال: (حدّثنا يحيى بن سعيد) القطان (عن سفيان) الثوري أنه
قال: (حدّثني) بالإفراد (أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله
السبيعي (عن البراء) بن عازب (-رضي الله عنه-) أنه (قال له
رجل): من قيس (يا أبا عمارة وليتم) وفي باب من قاد دابة
غيره أفررتم (يوم) وقعة (حنين قال: لا والله ما ولى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، قال النووي: هذا
الجواب من بديع الأدب لأن تقدير الكلام: أفررتم كلكم
(5/81)
فيدخل فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال البراء: لا والله ما فرّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويحتمل أن السائل أخذ التعميم من قوله
تعالى: {ثم وليتم مدبرين} [التوبة: 25} فبين له البراء أنه
من العموم الذي أريد به الخصوص ثم أوضح سبب ذلك بقوله
(ولكن ولى سرعان الناس) بفتح السين المهملة والراء وقد سكن
أي المستعجلون منهم (فلقيهم هوازن بالنبل) بفتح النون لا
واحد له من لفظه وفي باب من قاد دابة غيره أن هوازن كانوا
قومًا رماة وإنما لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا فأقبل
المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فبيّن السبب في
الإسراع (والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على
بغلته البيضاء) التي أهداها له فروة بن نفاثة كما مرّ عن
رواية مسلم ولأبي ذر: على بغلة بيضاء (وأبو سفيان بن
الحرث) بن عبد المطلب (آخذ بلجامها والنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(أنا النبي لا كذب) أي فلا أنهزم لأن الذي وعدني الله به
من النصر حق لا خلف لميعاده تعالى (أنا ابن عبد المطلب)
انتسب لجده لشهرته به كما قال ضمام بن ثعلبة لما قدم أيكم
ابن عبد المطلب.
62 - باب جِهَادِ النِّسَاءِ
2875 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ
بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي
الله عنها- قَالَتِ: "اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:
جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهَذَا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة أبو عبد الله
العبدي قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن معاوية بن إسحاق)
بن طلحة التيمي أبي الأزهر (عن) عمته (عائشة بنت طلحة)
التميمية (عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها) أنها
(قالت: استأذنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في الجهاد) وهو القتال في سبيل الله (فقال) عليه الصلاة
والسلام:
(جهادكن الحج) وسبق هذا الحديث بمعناه في أول الجهاد
وأواخر الحج.
(وقال عبد الله بن الوليد): العدني (حدّثنا سفيان) الثوري
مما هو موصول في جامعه (عن معاوية) بن إسحاق (بهذا).
2876 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
مُعَاوِيَةَ بِهَذَا. وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ
عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ "عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سَأَلَهُ نِسَاؤُهُ عَنِ الْجِهَادِ فَقَالَ:
نِعْمَ الْجِهَادُ الْحَجُّ".
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بن عقبة السوائي العامري قال:
(حدّثنا سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري (عن معاوية) بن
إسحاق (بهذا) الحديث.
(وعن حبيب بن أبي عمرة) بفتح العين وسكون الميم القصاب أبي
عبد الله الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم الكوفي (عن
عائشة بنت طلحة) التيمية (عن عائشة أم المؤمنين) -رضي الله
عنها- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(سأله نساؤه عن الجهاد) في سبيل الله هل يفعلنه (فقال)
عليه الصلاة والسلام:
(نعم الجهاد الحج) بكسر النون وسكون العين المهملة ورواية
حبيب هذه قال الحافظ ابن حجر: إنها موصولة من رواية قبيصة
المذكورة قال: والحاصل أن عنده يعني المؤلّف فيه عن سفيان
إسنادين وفيه كما قال ابن بطال: أن النساء لا يجب عليهن
الجهاد لأنهن لسن من أهل القتال للعدو والمطلوب منهن
التستر ومجانبة الرجال، فلذا كان الحج أفضل لهن. نعم لهن
أن يتطوعن بالجهاد وللإمام أن يستعين بامرأة وخنثى ومراهق
إذا كان فيهن غناء في القتال أو غيره كسقي الماء ومداواة
الجرحى كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.
63 - باب غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ
2877 و 2878 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ هوَ الفَزاريُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -رضي
الله عنه- يَقُولُ: "دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ
فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَتْ: لِمَ
تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ
أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الأَخْضَرَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، مَثَلُهُمْ مَثَلُ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ.
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ
يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا
مِنْهُمْ. ثُمَّ عَادَ فَضَحِكَ، فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ
-أَوْ مِمَّ- ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ،
فَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ،
قَالَ: أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَلَسْتِ مِنَ
الآخِرِينَ. قَالَ: قَالَ أَنَسٌ فَتَزَوَّجَتْ عُبَادَةَ
بْنَ الصَّامِتِ فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ مَعَ بِنْتِ
قَرَظَةَ، فَلَمَّا قَفَلَتْ رَكِبَتْ دَابَّتَهَا،
فَوَقَصَتْ بِهَا، فَسَقَطَتْ عَنْهَا فَمَاتَتْ".
(باب غزو المرأة) ولأبي ذر عن الكشميهني غزوة المرأة (في
البحر) وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال:
(حدّثنا معاوية بن عمرو) بفتح العين الأزدي قال: (حدّثنا
أبو إسحاق) إبراهيم بن الحرث وزاد أبو ذر هو الفزاري بفتح
الفاء والزاي (عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري) أبي
طوالة بضم الطاء المهملة وتخفيف الواو وليس بينه وبين
سابقه زائدة بن قدامة كما
زعم أبو مسعود في الأطراف وأقره المزي عليه فقد أخرجه
الإمام أحمد وغيره كالبخاري ليس فيه زائدة عن أبي طوالة
وقد ثبت سماع أبي إسحاق من أبي طوالة أنه (قال: سمعت أنسًا
-رضي الله عنه- يقول: دخل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ابنة ملحان) بكسر الميم وسكون
اللام بعدها حاء مهملة فألف فنون أم حرام خالة أنس (فاتكأ
عندها) فنام (ثم ضحك) بعد أن استيقظ من نومه (فقالت): أم
حرام (لم تضحك يا رسول الله؟ فقال):
(ناس) أي أضحكني ناس (من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل
الله، مثلهم) في الدنيا أو في الجنة (مثل الملوك على
الأسرة). (فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم
قال): ولأبي ذر: فقال: (اللهم اجعلها منهم) (ثم عاد) إلى
النوم ثم استيقظ (فضحك،
(5/82)
فقالت له مثل-) أي مثل قولها الأول لم تضحك
(أو) قالت (مم. ذلك)؟ أي الضحك (فقال لها مثل ذلك)، ناس من
أمتي يركبون إلى آخره، لكن قيل في هذا يركبون البر وهو
ظاهر (فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم قال): (أنت من
الأولين) الذين يركبون البحر (ولست من الآخرين) الذين
يركبون البر (قال) أبو طوالة: (قال أنس: فتزوجت عبادة بن
الصامت) وفي رواية إسحاق عن أنس في أول الجهاد وكانت أم
حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وظاهر هذه أنها كانت حينئذٍ
زوجته بخلاف الأولى. وأجيب: بأنها كانت إذ ذاك زوجته ثم
طلقها ثم راجعها بعد ذلك قاله ابن التين، وقيل إنما تزوجها
بعد ذلك وهذا أولى لموافقة محمد بن يحيى بن حبان عن أنس
على أن عبادة تزوجها بعد كما سيأتي إن شاء الله تعالى في
باب ركوب البحر، ويحمل قوله في رواية إسحاق وكانت تحت
عبادة على أنه جملة معترضة أراد الراوي وصفها به غير مقيد
بحال من الأحوال وظهر من رواية غيره أنه إنما تزوجها بعد
ذلك قاله في الفتح.
(فركبت البحر مع بنت قرظة)، بالقاف والراء والظاء المعجمة
المفتوحات فاختة امرأة معاوية بن أبي سفيان وكان أخذها معه
لما غزا قبرص في البحر سنة ثمان وعشرين وهو أوّل من ركب
البحر للغزاة في خلافة عثمان -رضي الله عنهما- وقرظة هو
ابن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف وليس هو قرظة بن كعب
الأنصاري، (فلما قفلت) أي رجعت (ركبت دابتها، فوقصت بها)،
بفتح الواو (فسقطت عنها فماتت). الوقص كسر العنق يقال:
وقصت عنقه أقصها وقصًا ووقصت به راحلته كقولك خذ الخطام
وخذ بالخطام، ولا يقال وقصت العنق نفسها ولكن يقال وقص
الرجل فهو موقوص.
64 - باب حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي الْغَزْوِ
دُونَ بَعْضِ نِسَائِهِ
2879 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا
يُونُسُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ
عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ
وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، كُلٌّ حَدَّثَنِي
طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ
يَخْرُجُ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي
غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي. فَخَرَجْتُ
مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبلَ
أن يَنزِلَ الْحِجَابُ".
(باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه).
وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم أبو محمد
السلمي الأنماطي البرساني البصري قال: (حدّثنا عبد الله بن
عمر النميري) بضم النون وفتح الميم مصغرًا قال: (حدّثنا
يونس) بن يزيد الأيلي (قال: سمعت الزهري) محمد بن مسلم بن
شهاب (قال: سمعت عروة بن الزبير) بن العوّام وسعيد بن
المسيب وعلقمة بن وقاص) أي الليثي (- وعبيد الله بن عبد
الله) بن عتبة بن مسعود الأربعة (عن حديث عائشة) -رضي الله
عنها- (كلٌّ حدّثني طائفة) أي قطعة (من الحديث) عنها أنها
(قالت: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا
أراد أن يخرج) أي يمضي إلى سفر (أقرع بين نسائه) تطييبًا
لقلوبهن (فأيتهن) بتاء التأنيث (يخرج) بفتح حرف المضارعة
وضم الراء (سهمها خرج بها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فأقرع بيننا في غزوة غزاها) هي غزوة بني
المصطلق (فخرج فيها سهمي فخرجت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن ينزل الحجاب). أي الأمر به،
وفي رواية ابن إسحاق: فخرج سهمي عليهن فخرج بي معه وهو
ظاهر بأنه خرج بها وحدها، وأما ما ذكره الواقدي من أن أم
سلمة خرجت معه أيضًا في هذه الغزوة فغير صحيح.
65 - باب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ
الرِّجَالِ
2880 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ -رضي
الله عنه- قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ
النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ
أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا
لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِنَّ تَنْقُزَانِ
الْقِرَبَ -وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلاَنِ الْقِرَبَ-
عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ
الْقَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلآنِهَا ثُمَّ
تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِه فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ".
[الحديث 2880 - أطرافه في: 2902، 3811، 4064].
(باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال).
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بفتح الميمين بينهما مهملة
ساكنة عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ميسرة المقعد
التميمي المنقري مولاهم البصري قال: (حدّثنا عبد الوارث)
بن سعيد التنوري قال: (حدّثنا عبد العزيز) بن صهيب (عن أنس
-رضي الله عنه-) أنه (قال: لما كان يوم أُحُد انهزم الناس
عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). وثبت
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يبق معه من
أصحابه إلا اثنا عشر رجلاً وكان سبب الهزيمة اشتغالهم
بغنيمة الكفّار لما هزمهم المسلمون كما سيأتي إن شاء الله
تعالى في المغازي (قال) أنس: (ولقد رأيت
عائشة بنت أبي بكر) الصديق (وأم سليم) هي أم أنس (وإنهما
لمشمرتان) بكسر الميم الثانية المشددة (أرى) أبصر (خدم
سوقهما) بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة خلاخيلهما وقيل
سمي الخلخال خدمة لأنه ربما كان من سيور مركب فيها الذهب
والفضة والخدمة في الأصل السير والمخدم موضع الخلخال من
الساق، ولعل رؤيته لذلك كانت من غير قصد للنظر أو
(5/83)
قبل الحجاب (تنقزان القرب) بفتح حرف
المضارعة وسكون النون وضم القاف وبعد الزاي ألف فنون،
والنقز الوثب وهو لازم أي تثبان وتقفزان من سرعة السير
والقرب بالنصب واستبعد لأن تنقز غير متعدٍّ وأوله بعضهم
على نزع الخافض أي تثبان بالقرب، وقرأه بعضهم بالرفع على
أنه مبتدأ خبره على متونهما والجملة حالية وضبط آخر تنقزان
بضم حرف المضارعة من أنقز فعداه بالهمزة أي تحركان القرب
لشدة عدوهما ويصح نصب القرب على هذا الوجه، وأعربه البدر
الدماميني على أنه مفعول باسم فاعل منصوب على الحال محذوف
أي تنقزان جاعلتين القرب أو ناقلتين القرب على متونهما قال
وحذف العامل لدلالة الكلام عليه (-وقال غيره) أي غير أبي
معمر وهو جعفر بن مهران عن عبد الوارث (تنقلان القرب-)
باللام بدل الزاي (على متونهما) أي ظهورهما ولا إشكال في
النصب على هذه الرواية كما لا يخفى (ثم تفرغانه) بضم حرف
المضارعة من أفرغ أي تفرغان الماء الذي في القرب (في أفواه
القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها) أي القرب
ولأبي ذر: فتفرغانه أي الماء (في أفواه القوم) قال ابن
المنير: بوب على قتالهن وليس هو في الحديث فإما أن يريد أن
إعانتهن للغزاة غزو وإما أن يريد أنهن ما ثبتن للمداواة
ولسقي الجرحى إلا وهن يدافعن عن أنفسهن وهو الغالب فأضاف
إليهن القتال لذلك؛ انتهى.
ويؤيد الأول حديث ابن عباس عند مسلم كان يغزو بهن فيداوين
الجرحى، ويؤيد الثاني:
حديث أنس عند مسلم أيضًا أن أم سليم اتخذت خنجرًا يوم حنين
فقالت اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه،
وقد روي أن أم سليم كانت تسبق الشجعان في الجهاد وثبتت يوم
حنين والأقدام قد تزلزلت والصفوف قد انتقضت والمنايا فغرت
فاها فالتفت إليها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وفي يدها خنجر فقالت: يا رسول الله أقتل هؤلاء
الذين ينهزمون عنك كما يقتل هؤلاء الذين يحاربون فليسوا
بشرّ منهم؟ فقال: "يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن". وقد
قاتل نساء قريش يوم اليرموك حين دهمتهم جموع الروم وخالطوا
عسكر المسلمين يضربن النساء يومئذٍ بالسيوف وذلك في خلافة
عمر.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في فضل أبي طلحة وفي المغازي
ومسلم في المغازي.
66 - باب حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبَ إِلَى النَّاسِ فِي
الْغَزْوِ
2881 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ:
"إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَسَمَ
مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ الْمَدِينَةِ، فَبَقِيَ مِرْطٌ
جَيِّدٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطِ هَذَا ابْنَةَ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي
عِنْدَكَ -يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ-
فَقَالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ. وَأُمُّ سَلِيطٍ
مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ عُمَرُ:
فَإِنَّهَا كَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ
أُحُدٍ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: تَزْفِرُ تَخِيطُ.
[الحديث 2881 - طرفه في: 4071].
(باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو).
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان بن جبلة
قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا يونس) بن
يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (قال ثعلبة
بن أبي مالك) أبو يحيى القرظي إمام بني قريظة ولد في عهده
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وله رؤية وطال عمره
قاله الذهبي وقال غيره: اختلف في صحبته وله حديث مرفوع لكن
جزم أبو حاتم بأنه مرسل وصرح الزهري عنه بالإخبار في حديث
آخر سيأتي إن شاء الله تعالى في باب لواء النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أن عمر بن الخطاب -رضي الله
عنه- قسم مروطًا) أي أكسية من صوف أو خز كان يؤتزر بها
(بين نساء من نساء المدينة فبقي) منها (مرط جيد) بكسر
الميم وسكون الراء (فقال له بعض من عنده): قال الحافظ ابن
حجر: لم أقف على اسمه (يا أمير المؤمنين أعط) بهمزة قطع
مفتوحة (هذا ابنة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- التي عندك يريدون) زوجته (أم كلثوم) بضم الكاف
والمثلثة (بنت عليّ) وكانت أصغر بنات فاطمة الزهراء وأولاد
بناته عليه السلام ينسبون إليه (فقال عمر أم سليط) بفتح
السين المهملة وكسر اللام (أحق) به (وأم سليط) هي كما ذكره
ابن سعد أم قيس بنت عبيد بن زياد بن ثعلبة من بني مازن
تزوجها أبو سليط بن أبي حارثة عمرو بن قيس من بني عديّ بن
النجار فولدت سليطًا وفاطمة فكنيت بأم سليط لذا فهي (من
نساء الأنصار ممن بايع رسول الله قال عمر: فإنها كانت
تزفر) بفتح المثناة الفوقية وسكون الزاي وبعد الفاء
المكسورة راء أي تحمل (لنا القرب يوم أُحد) وشهدت أيضًا
خيبر وحنينًا.
(قال أبو عبد الله) أي البخاري (تزفر) أي (تخيط).
(5/84)
قال عياض: وهذا غير معروف في اللغة، ولعل
البخاري إنما تبع في ذلك ما روي عن أبي صالح كاتب الليث
حيث قال فيما رواه أبو نعيم عنه تزفر تخرز وسقط قوله قال
أبو عبد الله إلخ من رواية الحموي والكشميهني، وحديث الباب
أخرجه أيضًا في المغازي.
67 - باب مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِي الْغَزْوِ
2882 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ
ذَكْوَانَ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ:
"كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- نَسْقِي، وَنُدَاوِي الْجَرْحَى، وَنَرُدُّ
الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ". [الحديث 2882 - طرفاه في:
2883، 5679].
(باب مداواة النساء الجرحى) من الرجال وغيرهم (في الغزو).
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
بشر بن المفضل) بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة ابن لاحق
الرقاشي بقاف وشين معجمة البصري قال: (حدّثنا خالد بن
ذكوان) المدني نزيل البصرة (عن الربيع) بضم الراء وفتح
الموحدة وتشديد التحتية المكسورة (بنت معوّذ) بضم الميم
وفتح العين وتشديد الواو المكسورة وبالذال المعجمة ابن
عفراء الأنصارية من المبايعات -رضي الله عنها- أنها (قالت:
كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في
الغزو (نسقي)، أصحابه (ونداوي) منهم (الجرحى)، من غير لمس
بأن يصنعن الدواء ويضعه غيرهن على الجرح أو المراد
المتجالات منهن لأن موضع الجرح لا يلتذ بمسّه بل يقشعر منه
الجلد وتهابه النفس ولمسه مؤلم للامس والملموس والضرورات
تبيح المحظورات (ونرد القتلى) منهم من المعركة (إلى
المدينة). وزاد الإسماعيلي من طريق أخرى عن خالد بن ذكوان
ولا نقاتل وسقط قوله إلى المدينة لأبي ذر.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الباب التالي لهذا والنسائي في
السير.
68 - باب رَدِّ النِّسَاءِ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى
2883 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ عَنِ
الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: "كُنَّا نَغْزُو
مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَنَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدِمُهُمْ، وَنَرُدُّ الْجَرْحَى
وَالْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ".
(باب ردّ النساء) الرجال (الجرحى والقتلى) زاد أبو ذر عن
الكشميهني إلى المدينة.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا بشر بن
المفضل عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ) أنها (قالت:
كنّا نغزو مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فنسقي القوم) أي الصحابة (ونخدمهم ونردّ القتلى والجرحى)
منهم (إلى المدينة). قال السفاقسي: كانوا يوم أُحُد يجعلون
الرجلين والثلاثة من الشهداء على دابة وتردّهم النساء، إلى
موضع قبورهم.
69 - باب نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ الْبَدَنِ
2884 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ:
"رُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ فَانْتَهَيْتُ
إِلَيْهِ، فَقَالَ: انْزِعْ هَذَا السَّهْمَ،
فَنَزَعْتُهُ، فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ، فَدَخَلْتُ عَلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ
أَبِي عَامِرٍ". [الحديث 2884 - طرفاه في: 4323، 6383].
(باب) جواز (نزع السهم من البدن).
وبه قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) بفتح العين والمدّ ابن
كريب الهمداني الكوفي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن
أسامة (عن بريد بن عبد الله) بضم الموحدة وفتح الراء ابن
أبي بردة (عن) جده
(أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء (عن) أبيه (أبي موسى)
عبد الله بن قيس الأشعري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: رمي)
بضم الراء بصيغة المجهول (أبو عامر) عبيد بن وهب بضم العين
مصغرًا الأشعري عمّ أبي موسى وكان من كبار الصحابة (في
ركبته) بسهم في غزوة أوطاس رماه جشمي (فانتهيت إليه، قال):
ولأبي ذر فقال (انزع) بكسر الزاي (هذا السهم، فنزعته)، من
ركبته (فنزا) بالنون والزاي المفتوحتين أي جرى (منه
الماء)، ولم ينقطع (فدخلت على النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في المغازي في بيته (فأخبرته)
بذلك (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(اللهم اغفر لعبيد) بالتنوين (أبي عامر) زاد في المغازي
ورأيت بياض إبطيه ثم قال: "اللهم اجعله يوم القيامة فوق
كثير من خلقك من الناس" وإنما دعا له لأنه علم أنه ميت من
ذلك.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا مقطعًا في الجهاد ويأتي إن شاء
الله تعالى تامًّا في المغازي.
70 - باب الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2885 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- تَقُولُ:
"كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
سَهِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ: لَيْتَ
رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِي صَالِحًا يَحْرُسُنِي
اللَّيْلَةَ، إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاَحٍ، فَقَالَ:
مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
جِئْتُ لأَحْرُسَكَ. فَنَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". [الحديث 2885 - طرفه في: 7231].
(باب) فضل (الحراسة) بكسر الحاء الحفظ (في الغزو في سبيل
الله).
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن خليل) الخزاز بمعجمات الكوفي
قال: (أخبرنا علي بن مسهر) بضم الميم وسكون المهملة وكسر
الهاء القرشي الكوفي قاضي الموصل قال: (أخبرنا يحيى بن
سعيد) الأنصاري قال: (أخبرنا عبد الله بن عامر بن ربيعة)
القرشي العنزي (قال: سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: كان
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سهر) بفتح
السين المهملة وكسر الهاء (فلما قدم المدينة) بعد زمان
السهر (قال):
(ليت رجلاً من أصحابي صالحًا) صفة لرجلاً (يحرسني الليلة)،
وعند مسلم من طريق الليث عن يحيى بن سعيد سهر رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقدمه المدينة ليلة
فقال: ليت رجلاً صالحًا إلخ. وظاهره أن السهر والقول معًا
كانا بعد قدومه المدينة بخلاف رواية الباب فإن ظاهرها أن
السهر
(5/85)
كان قبل القدوم والقول بعده وهو محمول على
التقديم والتأخير أي سمعت عائشة تقول لما قدم سهر وقال:
ليت. ويؤيده رواية النسائي كان رسول الله-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أول ما قدم المدينة سهر وليس المراد
بقدومه المدينة أول قدومه إليها من الهجرة لأن عائشة إذ
ذاك لم تكن عنده (إذ سمعنا صوت سلاح، فقال) عليه الصلاة
والسلام: (من هذا)؟ (فقال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت
لأحرسك) وفي رواية مسلم المذكورة فقال: وقع في نفسي خوف
على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجئت
أحرسه فدعا له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (ونام) ولأبي ذر فنام (النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). زاد المؤلّف في التمني من طريق
سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد حتى سمعنا غطيطه، وفي
الترمذي من طريق عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرس حتى نزلت
هذه الآية {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] إسناده
حسن لكنه اختلف في وصله وإرساله وهو يقتضي أنه لم يحرس بعد
ذلك بناءً على سبق نزول الآية، لكن ورد في عدة أخبار أنه
حرس في بدر وأُحُد والخندق ورجوعه من خيبر وفي وادي القرى
وعمرة القضية وفي حنين فكأن الآية نزلت متراخية عن وقعة
حنين.
ويؤيده ما في المعجم الصغير للطبراني عن أبي سعيد كان
العباس فيمن يحرس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فلما نزلت هذه الآية ترك والعباس إنما لازمه
بعد فتح مكة فيحمل على أنها نزلت بعد حنين، وحديث حراسته
ليلة حنين أخرجه أبو داود والنسائي وقد تتبع بعضهم أسماء
من حرسه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجمع منهم
سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة والزبير وأبا أيوب وذكوان بن
عبد قيس والأدرع السلمي وابن الأدرع اسمه محجن، ويقال سلمة
وعباد بن بشر والعباس وأبا ريحانة.
وفي الباب أحاديث كحديث عثمان مرفوعًا: حرس ليلة في سبيل
الله خير من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها. رواه
الحاكم وصححه ابن ماجه. وحديث أنس مرفوعًا عند ابن ماجه
أيضًا: حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رجل وقيامه في
أهله ألف سنة السنة ثلاثمائة يوم اليوم كألف سنة، لكن قال
المنذري: ويشبه أن يكون موضوعًا وحديث ابن عمر مرفوعًا.
"ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر حارس حرس في أرض خوف
لعله أن لا يرجع إلى أهله" أخرجه الحاكم وقال: على شرط
البخاري.
2886 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو
بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ
الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ،
إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»
لَمْ يَرْفَعْهُ إِسْرَائِيلُ ومحمدُ بنُ جُحادةَ عَنْ
أَبِي حَصِينٍ. [الحديث 2886 - طرفاه في: 2887، 6435].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن يوسف) بن أبي كريمة أبو يوسف
الزمي بكسر الزاي وتشديد الميم الخراساني نزيل بغداد قال:
(أخبرنا أبو بكر) الحناط بالنون المقبري وزاد أبو ذر يعني
ابن عياش بتشديد التحتية وبعد الألف شين معجمة (عن أبي
حصين) بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين عثمان بن عاصم
الأسدي (عن أبي صالح) ذكوان السمان الزيات (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-). أنه (قال):
(تعس) بفتح الفوقية وكسر العين المهملة وتفتح بعدها سين
مهملة انكب على وجهه أو بعد أو هلك أو شقي (عبد الدينار و)
عبد (الدرهم و) عبد (القطيفة) بفتح القاف وكسر الطاء دثار
(و) عبد (الخميصة). بفتح الخاء المعجمة وكسر الميم كساء
أسود مربّع له أعلام وخطوط يعني إن طلب ذلك قد استبعده
وصار عمله كله في طلبها كالعبادة لها فهو مجاز عن حرصه
عليه وتحمله الذل لأجله (إن أعطي) بضم أوله وكسر ثالثه أي
إن أعطي ما له عمل (رضي) عن خالقه (وإن لم يعط لم يرض) بما
قدر له فصح أنه عبد في طلب ذلك فوجب الدعاء عليه بالتعس
لأنه أوقف عمله على متاع الدنيا الفاني وترك النعيم الباقي
(لم يرفعه) أي لم يرفع الحديث (إسرائيل) بن يونس (ومحمد بن
جحادة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة المخففة وبعد الألف
دال مهملة كلاهما (عن أبي حصين) عثمان الأسدي بل وقفاه
عليه وسقط لغير أبي ذر ومحمد بن جحادة قال البخاري.
2887 - وَزَادَنَا عَمْرٌو قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ
الْخَمِيصَةِ: إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ
سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ
انْتَقَشَ. طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثٍ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ
قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي
الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي
السَّاقَةِ. إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ
شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ».
(وزادنا عمرو) بفتح العين وسكون الميم ابن مرزوق أحد
مشايخه وفي نسخة وزاد لنا عمرو (قال: أخبرنا عبد الرحمن بن
عبد الله بن دينار عن
(5/86)
أبيه عن أبي صالح) ذكوان (عن أبي هريرة)
-رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة): لم يقل وعبد
القطيفة (إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط)، بكسر الخاء المعجمة
بدل قوله في الأولى لم يرض والذي زاده عمر وهو قوله (تعس
وانتكس)، بالسين المهملة أي عاوده المرض كما بدأ به أو
انقلب على رأسه وهو دعاء عليه بالخيبة لأن من انتكس فقد
خاب وخسر (وإذا شيك) بكسر الشين المعجمة وبعد التحتية
الساكنة كاف أصابته شوكة (فلا انتقش). بالقاف والشين
المعجمة أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش يقال: نقشت الشوك إذا
استخرجته (طوبى) اسم الجنة أو شجرة فيها (لعبد آخذ) بمدّ
الهمزة وبعد الخاء المعجمة المكسورة ذال معجمة اسم فاعل من
الأخذ مجرور صفة لعبد فيمتنع من السعي للدينار والدرهم
(بعنان فرسه) بكسر العين أي لجامها في الجهاد (في سبيل
الله، أشعث) بالمثلثة مجرور بالفتحة لمنعه من الصرف على
أنه صفة للمجرور من قوله طوبى لعبد (رأسه) بالرفع فاعل،
ولأبي ذر: أشعث بالرفع. قال في الفتح: على أنه صفة الرأس
أي رأسه أشعث، وتعقبه في العمدة فقال: لا يصح عند المعربين
والرأس فاعل وكيف يكون صفته والصفة لا تتقدم على الموصوف،
والتقدير الذي قدّره يؤدّي إلى إلغاء قوله رأسه بعد قوله
أشعث انتهى.
والظاهر أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره وهو أشعث (مغبرة
قدماه) بسكون الغين وتشديد الراء وإعرابه مثل أشعث رأسه.
وقال الطيبي في شرح المشكاة: أشعث رأسه ومغبرة قدماه حالان
من العبد لأنه موصوف (إن كان في الحراسة) أي حراسة العدو
خوفًا من هجومه (كان في الحراسة)، وهي مقدمة الجيش (وإن
كان في الساقة) مؤخر الجيش (كان في الساقة). وفي اتحاد
الشرط والجزاء دلالة على فخامة الجزاء وكمالها أي فهو في
أمر عظيم فهو نحو فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته
إلى الله ورسوله. وقال ابن الجوزي: المعنى أنه خامل الذكر
لا يقصد السموّ فأيّ موضع اتفق له كان فيه فمن لازم هذه
الطريقة كان حرِيًّا (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع) أي
عند الناس (لم يشفع). بتشديد الفاء المفتوحة أي لم تقبل
شفاعته.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ يَرْفَعْهُ إِسْرَائِيلُ
وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ. وَقَالَ:
"تَعْسًا"، فكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَأَتْعَسَهُمُ اللَّهُ.
"طُوبَى": فُعْلَى مِنْ كُلِّ شَىْءٍ طَيِّبٍ وَهْيَ يَاءٌ
حُوِّلَتْ إِلَى الْوَاوِ، وَهْيَ مِنْ يَطِيبُ.
(قال أبو عبد الله) البخاري: (لم يرفعه إسرائيل ومحمد بن
جحادة عن أبي حصين) وسبق هذا قريبًا وهو ساقط في رواية أبي
ذر (وقال (تعسًا)) لفظ القرآن فتعسًا لهم (كأنه يقول:
فأتعسهم الله). وأما (طوبى)، فهي (فعلى) بضم الفاء وسكون
العين وفتح اللام (من كل شيء طيب وهي ياء) في الأصل أي
طيبى بطاء مضمومة فياء ساكنة ثم (حوّلت) أي الياء (إلى
الواو)، لانضمام ما قبلها (وهي من يطيب). بفتح أوله وكسر
ثانيه. قال في الفتح إن قوله فتعسًا إلخ في رواية المستملي
وحده وهو على عادة البخاري في شرح اللفظة التي توافق ما في
القرآن.
والحديث أخرجه أيضًا في الرقاق وابن ماجه في الزهد.
71 - باب فَضْلِ الْخِدْمَةِ فِي الْغَزْوِ
2888 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ
الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: "صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَكَانَ
يَخْدُمُنِي وَهْوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنَسٍ. قَالَ جَرِيرٌ:
إِنِّي رَأَيْتُ الأَنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا لاَ
أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلاَّ أَكْرَمْتُهُ".
(باب فضل الخدمة في الغزو) بكسر الخاء.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عرعرة) بعينين مهملتين مفتوحتين
بينهما راء ساكنة وبعد الثانية راء أخرى مفتوحة ابن البرند
بكسر الموحدة والراء وسكون النون آخره دال مهملة السامي
بالمهملة البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن يونس بن
عبيد) بضم العين مصغرًا من غير إضافة العبدي (عن ثابت
البناني عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-) وسقط لأبي ذر لفظ
ابن مالك (أنه قال:
صحبت جرير بن عبد الله) البجلي زاد مسلم في سفر وهو أعم من
أن يكون في الغزو أو غيره.
(فكان يخدمني وهو أكبر من أنس) كان الأصل أن يقول وهو أكبر
مني لكنه فيه التفات أو تجريد ويحتمل أن يكون قوله وهو
أكبر من أنس من قول ثابت (قال جرير) البجلي: (إني رأيت
الأنصار يصنعون) من تعظيم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخدمته (شيئًا لا أجد أحدًا منهم إلا
أكرمته).
قال في فتح الباري: وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها
المصنف في غير مظنتها وأليق المواضع به المناقب انتهى.
وفيه إشعار بأنه لا مطابقة بين
(5/87)
الحديث والترجمة، لكن قال العيني إن
المطابقة تؤخذ مما زاده مسلم وهو قوله في سفر لشموله الغزو
وغيره كما سبق.
2889 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ
سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ:
"خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَاجِعًا
وَبَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا
وَنُحِبُّهُ. ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ
لاَبَتَيْهَا كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ،
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا".
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي المدني
قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن جعفر)
هو ابن أبي كثير الأنصاري (عن عمرو بن أبي عمرو) بفتح
العين فيهما (مولى المطلب بن حنطب) بفتح الحاء والطاء
المهملتين بينهما نون ساكنة آخره موحدة (أنه سمع أنس بن
مالك -رضي الله عنه- يقول: خرجت مع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى) غزوة (خيبر) سنة ست أو
سبع حال كوني (أخدمه، فلما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (راجعًا) إلى المدينة
(وبدا) أي وظهر (له أحُد) الجبل المعروف (قال) عليه الصلاة
والسلام:
(هذا) مشيرًا إلى أُحُد (جبل يحبنا) حقيقة (ونحبه)، فما
جزاء من يحب ألا يحب أو المراد يحب احدًا حبّ أهل المدينة
وسكانها له كقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82]
والأوّل أولى، ويؤيده حنين الأسطوانة على مفارقته -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، (ثم أشار) عليه الصلاة
والسلام (بيده إلى المدينة قال): (اللهم إني أحرم ما بين
لابتيها) بتخفيف الموحدة تثنية لابة وهي الحرة والمدينة
بين حرتين وسقط لفظ اللهم للمستملي وفي نسخة وقال بإثبات
الواو (كتحريم إبراهيم) الخليل (مكة). في الحرمة فقط لا في
وجوب الجزاء (اللهم بارك لنا في صاعنا ومدّنا). دعاء
بالبركة في أقواتهم.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في أحاديث الأنبياء ومسلم في
المناسك والترمذي في المناقب.
2890 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو
الرَّبِيعِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّاءَ
حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ
أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكْثَرُنَا ظِلاًّ
الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ، وَأَمَّا
الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا
الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ.
وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ
الْيَوْمَ بِالأَجْرِ".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن داود أبو الربيع) بفتح الراء
وكسر الموحدة العتكي الزهراني البصري (عن إسماعيل بن
زكريا) الخلقاني بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف أبي
زياد الكوفي الملقب بشقوصا بفتح الشين المعجمة وضم القاف
الخفيفة وبالصاد المهملة قال: (حدّثنا عاصم) هو ابن سليمان
الأحول (عن مورق) بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء المشددة
آخره قاف ابن مشمرج بضم الميم وفتح الشين المعجمة وسكون
الميم وكسر الراء بعدها جيم ابن عبد الله (العجلي) بكسر
العين المهملة وسكون الجيم البصري (عن أنس -رضي الله عنه-)
أنه (قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) زاد مسلم من وجه آخر عن عاصم في سفر فمنا
الصائم ومنا المفطر قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار (أكثرنا
ظلاًّ من) وفي الفرع وأصله الذي (يستظل) من الشمس
(بكسائه)، وزاد مسلم ومنا من يتقي الشمس بيده (وأما الذين
صاموا فلم يعملوا شيئًا) لعجزهم (وأما الذين أفطروا فبعثوا
الركاب). بكسر الراء الإبل التي يسار عليها واحدها راحلة
ولا واحد لها من لفظها أي أثاروها إلى الماء للسقي وغيره
(وامتهنوا) بفتح الفوقية والهاء (وعالجوا) أي خدموا
الصائمين وتناولوا السقي والعلف وفي رواية مسلم فضربوا
الأبنية أي البيوت التي يسكنها العرب في الصحراء كالخباء
والقبة وسقوا الركاب (فقال النبي) وفي نسخة فقال رسول الله
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ذهب المفطرون اليوم بالأجر) الوافر وهو أجر ما فعلوه من
خدمة الصائمين بضرب الأبنية والسقي وغير ذلك لما حصل منهم
من النفع المتعدى ومثل أجر الصوام لتعاطيهم أشغالهم وأشغال
الصوام، وأما الصائمون فحصل لهم أجر صومهم القاصر عليهم
ولم يحصل لهم من الأجر ما حصل للمفطرين من ذلك. ولم تظهر
لي المطابقة بين الترجمة والحديث. نعم يحتمل أن تكون مما
زاده مسلم حيث قال في سفر الشامل لسفر الغزو وغيره مع قوله
فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا المفسر بالخدمة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الصوم وكذا النسائي.
72 - باب فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِي
السَّفَرِ
2891 - حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كُلُّ سُلاَمَى
عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ: يُعِينُ الرَّجُلَ فِي
دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا
مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكُلُّ
خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ؛ وَدَلُّ
الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ».
(باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر).
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إسحاق بن
نصر) هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي قال: (حدّثنا عبد
الرزاق) بن همام بن نافع الصنعاني اليماني (عن معمر) هو
ابن راشد (عن همام) هو ابن منبّه (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(كل سلامى) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم
عظام
(5/88)
الأصابع (عليه صدقة كل يوم) بنصب كل على
الظرفية (يعين الرجل) مبتدأ على تأويل المصدر نحو تسمع
بالمعيدي أي وإعانتك الرجل (في دابته يحامله) بالحاء
المهملة يساعده في الركوب (عليها) أي الدابة ولأبي ذر عليه
أي الركوب (أو يرفع عليها متاعه) وخبر المبتدأ قوله (صدقة،
والكلمة الطيبة، وكل خطوة) بفتح الخاء المعجمة المرة
الواحدة ولأبي ذر خطوة بضمها ما بين القدمين (يمشيها إلى
الصلاة صدقة، ودل الطريق) بفتح الدال المهملة وتشديد اللام
أي الدلالة عليه للمحتاج إليه (صدقة).
ومطابقته للترجمة في قوله يعين الرجل في دابته وسبق بعض
الحديث في الصلح.
73 - باب فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا
اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 20]
(باب فضل رباط يوم في سبيل الله) بكسر راء رباط وتخفيف
الموحدة مصدر رابط ووجه المفاعلة في هذا أن كلاًّ من
الكفار والمسلمين ربطوا أنفسهم على حماية طرف بلادهم من
عدوّهم والرباط مراقبة العدوّ في الثغور المتاخمة لبلادهم
بحراسة من بها من المسلمين وهو في الأصل الإقامة على
الجهاد، وقيل الرباط مصدر رابط بمعنى لازم وقيل هو اسم لما
يربط من الشيء أي يشد فكأنه يربط نفسه عما يشغله عن ذلك أو
أنه يربط فرسه التي يقاتل عليها، وقول ابن حبيب من
المالكية ليس من سكن الرباط بأهله وماله وولده مرابطًا بل
من يخرج عن أهله وماله وولده قاصدًا للرباط، تعقبه في
الفتح فقال في إطلاقه نظر فقد يكون وطنه وينوي بالإقامة
فيه دفع العدوّ ومن ثم اختار كثير من السلف سكنى الثغور.
(وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على رباط المجرور ولأبي ذر:
عز وجل بدل قوله تعالى: ({يا أيها الذين آمنوا اصبروا}) أي
على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد ({وصابروا})
وغالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب ({ورابطوا})
أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو وأنفسكم على
الطاعة، وفي الموطأ حديث أبي هريرة مرفوعًا: "وانتظار
الصلاة فذلكم الرباط". وروى ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن قال: أقبل عليّ أبو هريرة يومًا فقال: أتدري يا ابن
أخي فيم
أنزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا
ورابطوا} قلت: لا، قال: أما أنه لم يكن في زمان النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غزو يرابطون فيه
ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في
مواقيتها ثم يذكرون الله فيها ففيهم أنزلت. اصبروا على
الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم
الحديث. وكذا رواه الحاكم بنحوه في مستدركه، لكن حمل الآية
على الأول أظهر كما قاله في الفتح، وعلى تقديم تسليم أنه
لم يكن في عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رباط
فلا يمنع ذلك من الأمر به والترغيب فيه اهـ.
وعن محمد بن كعب: اصبروا على دينكم وصابروا لوعدي الذي
وعدتكم به ورابطوا عدوّي وعدوّكم حتى يترك دينه لدينكم
({واتقوا الله}) في جميع أموركم وأحوالكم ({لعلكم تفلحون})
[آل عمران: 200] غدًا إذا لقيتموه تعالى وفي رواية غير أبي
ذر بعد قوله تعالى: {اصبروا} إلى آخر الآية فحذف ما
بينهما.
2892 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ
أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ
الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا،
وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا
عَلَيْهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن منير) بضم الميم وكسر النون
المروزي أنه (سمع أبا النضر) بفتح النون وسكون الضاد
المعجمة هاشم بن القاسم التميمي أو الليثي الكناني
البغدادي قال: (حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار)
مولى ابن عمر (عن أبي حازم) سلمة بن دينار الأعرج المدني
(عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(رباط يوم) أي ثواب رباط يوم (في سبيل الله خير من) النعيم
الكائن في (الدنيا وما عليها) كله لو ملكه إنسان وتنعم به
لأنه نعيم زائل بخلاف نعيم الآخرة فإنه باقٍ وعبر بعليها
دون فيها لما فيه من الاستعلاء وهو أعم من الظرفية وأقوى،
وفيه دليل على أن الرباط يصدق بيوم واحد وكثيرًا ما يضاف
السبيل إلى الله والمراد به كل عمل خالص يتقرب به إلى الله
تعالى كأداء الفرائض والنوافل لكنه غلب إطلاقه على الجهاد
حتى صار حقيقة شرعية فيه في مواضع (وموضع سوط أحدكم من
الجنة خبر من الدنيا وما عليها)، عبر
(5/89)
بالسوط دون سائر ما يقاتل به لأنه الذي
يسوق به الفرس للزحف فهو أقل آلات الجهاد ومع كونه تافهًا
في الدنيا فمحله في الجنة أو ثواب العمل به (والروحة) بفتح
الراء المرة الواحدة من الرواح وهو السير فيما بين الزوال
إلى الليل (يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة) بفتح
الغين المعجمة المرة من الغدو وهو السير من أوّل النهار
إلى الزوال (خير من الدنيا وما عليها). واو هنا للتقسيم لا
للشك وهذا شامل لقليل السير وكثيره في الطريق إلى الغزو أو
في موضع القتال.
وهذا الحديث أخرجه الترمذي.
74 - باب مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ
(باب من غزا بصبي للخدمة) بطريق التبعية لا أنه مخاطب
بالغزو.
2893 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ
عَمْرٍو عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ
لأَبِي طَلْحَةَ: الْتَمِسْ غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ
يَخْدُمُنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَخَرَجَ بِي
أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي وَأَنَا غُلاَمٌ رَاهَقْتُ
الْحُلُمَ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ
أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ
بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ, وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ،
وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ
الرِّجَالِ. ثُمَّ قَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ
بِنْتِ حُيَىِّ بْنِ أَخْطَبَ -وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا،
وَكَانَتْ عَرُوسًا- فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ
بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ،
فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيصًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ،
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ. فَكَانَتْ تِلْكَ
وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى صَفِيَّةَ. ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى
الْمَدِينَةِ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ
بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ
رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى
رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا
أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ نَظَرَ إِلَى أُحُدٍ
فَقَالَ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ. ثُمَّ
نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ
إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ. اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي
مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد بن جميل بفتح الجيم
الثقفي البغلاني قال: (حدّثنا يعقوب) بن عبد الرحمن بن
محمد القاري بتشديد الياء من القارة المدني الأصل ثم
السكندري (عن عمرو) هو ابن أبي عمرو ومولى المطلب (عن أنس
بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال لأبي طلحة): زيد بن سهل الأنصاري زوج أم
أنس.
(التمس) أي عيّن لي (غلامًا من غلمانكم يخدمني) بالرفع في
الفرع أي هو يخدمني وفي نسخة يخدمني بالجزم جواب الأمر
(حتى أخرج إلى) غزوة (خيبر) وكانت سنة سبع بتقديم السين
على الموحدة.
واستشكل من حيث أن ظاهره أن أول خدمته كان حينئذٍ فيكون
إنما خدمه أربع سنين وقد صح عنه أنه قال: خدمت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تسع سنين وفي رواية
عشر سنين. وأجيب: بأن يحمل قوله لأبي طلحة: التمس لي
غلامًا من غلمانكم على أن يعين له من يخرج معه في تلك
السفرة فينحط الالتماس على الاستئذان في المسافرة به لا في
أصل الخدمة لأنها كانت متقدمة.
(فخرج بي أبو طلحة مردفي) أي أردفني خلفه على الدابة (وأنا
غلام راهقت الحلم) أي قاربت البلوغ والواو للحال (فكنت
أخدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا
نزل فكنت أسمعه كثيرًا يقول): (اللهم إني أعوذ بك من الهم)
على ما يتوقع ولم يكن (والحزن) على ما وقع وهو بفتح الحاء
والزاي أو الهم هو الغم والحزن تقول أهمّني هذا الأمر
وأحزنني (والعجز) وهو ضد القدرة (والكسل)، وهو التثاقل عن
الشيء مع وجود القدرة عليه (والبخل والجبن) بضم الجيم
وسكون الموحدة ضد الشجاعة (وضلع الدين). بفتح الضاد
المعجمة واللام ثقله (وغلبة الرجال). الهرج والمرج أو توحد
الرجل في أمره وتغلب الرجال عليه.
(ثم قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن) المسمى بالقموص
(ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب) بفتح الهمزة وسكون
الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة آخره موحدة وحيي بضم
الحاء. المهملة وفتح التحتية الأولى وتشديد الثانية (وقد
قتل زوجها) كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق (وكانت عروسًا)
قال الخليل رجل عروس في رجال عرس وامرأة عروس في نساء
عرائس قال: والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما
في تعريسهما أيامًا (فاصطفاها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنفسه) لأنها بنت ملك من ملوكهم (فخرج
بها) من خيبر (حتى بلغنا) ولأبي ذر عن الكشميهني حتى إذا
بلغنا (سد الصهباء) بفتح السين وتضم وتشديد الدال
المهملتين والصهباء بفتح الصاد المهملة وسكون الهاء بعدها
موحدة ممدودًا اسم موضع (حلّت) أي طهرت من الحيض (فبنى
بها)، عليه الصلاة والسلام (ثم صنع حيسًا) بحاء مهملة
مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فسين مهملة طعامًا من تمر وأقط
وسمن (في نطع صغير) بكسر النون وفتحها وفتح الطاء وسكونها
أربع لغات (ثم قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): أي لأنس (آذن) بمدّ الهمزة وكسر المعجمة أعلم
(من حولك) من المسلمين فدعوتهم إلى وليمته (فكانت تلك
وليمة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على
صفية) فما كان فيها خبز ولا لحم (ثم خرجنا إلى المدينة
قال: فرأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يحوي) بضم أوله وفتح الحاء المهملة وتشديد الواو (لها) أي
لأجلها (وراءه بعباءة) أي يجعلها لها حوية تدار حول سنام
بعير (ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته
(5/90)
فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب فسرنا
حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى) جبل (أُحُد فقال):
(هذا جبل يحبنا) حقيقة أو مجازًا على حذف مضاف أي أهل
أُحُد (ونحبه ثم نظر إلى المدينة فقال): (اللهم إني أحرم
ما بين لابتيها) أي حرّيتها (بمثل ما حرّم إبراهيم مكة).
إلا في وجوب الجزاء (اللهم بارك لهم في مدّهم وصاعهم) يريد
أن يبارك الله لهم في الطعام الذي يُكال بالصيعان
والأمداد.
75 - باب رُكُوبِ الْبَحْرِ
أي للجهاد وغيره للرجال والنساء، وكره مالك ركوبه للنساء
في الحج خوفًا من عدم التستر من الرجال ومنع عمر -رضي الله
عنه- ركوبه مطلقًا فلم يركبه أحد طول حياته ولا يحتج بذلك
لأن
السُّنَّة أباحته للرجال والنساء في الجهاد كما في حديث
الباب وغيره ولو كان يكره لنهى عنه عليه الصلاة والسلام
الذين قالوا له: إنّا لنركب البحر الحديث. لكن في حديث
زهير بن عبد الله مرفوعًا من ركب البحر عند ارتجاجه فقد
برئت منه الذمة ومفهومه الجواز عند عدم الارتجاج وهو
المشهور، وقد قال مطر الورّاق ما ذكره الله إلا بحق قال
تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} فإن غلب الهلاك في
ركوبه حرم وإن استويا ففي التحريم وجهان صحح النووي في
الروضة التحريم.
2894 و 2895 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله
عنه- قَالَ: "حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمًا فِي
بَيْتِهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهْوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ
قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ
عَلَى الأَسِرَّةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ
اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَنْتِ
مِنْهُمْ. ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهْوَ يَضْحَكُ.
فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا. قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي
مِنْهُمْ، فَيَقُولُ: أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ.
فَتَزَوَّجَ بِهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَخَرَجَ
بِهَا إِلَى الْغَزْوِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ قُرِّبَتْ
دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا، فَوَقَعَتْ فَانْدَقَّتْ
عُنُقُهَا".
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل عارم البصري
السدوسي قال: (حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم (عن يحيى)
بن سعيد الأنصاري (عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح الحاء
المهملة وتشديد الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني (عن أنس
بن مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: حدّثني أم حرام) بنت
ملحان خالة أنس (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال) أي نام في الظهيرة (يومًا في بيتها
فاستيقظ وهو يضحك) من الفرح (قالت) ولأبي ذر: قلت بدل قالت
(يا رسول الله ما يضحكك؟ قال):
(عجبت من قوم من أمتي) وسقط للمستملي قوله من قوم (يركبون
البحر كالملوك على الأسرّة)، في الدنيا لسعة حالهم
واستقامة أمرهم أو في الجنة (فقلت: يا رسول الله ادع الله
أن يجعلني منهم، فقال): (أنت منهم) ولأبي ذر عن الكشميهني:
منهم (ثم نام فاستيقظ وهو يضحك. فقال مثل ذلك) القول الأول
(مرتين أو ثلاثًا. قلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني
منهم، فيقول): مجيبًا لها (أنت من الأولين) الذين يركبون
البحر (فتزوج بها عبادة بن الصامت) أي بعد ذلك وظاهر قوله
في رواية إسحاق في أوّل الجهاد وكانت أم حرام تحت عبادة بن
الصامت، فدخل عليها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إنها كانت زوجته قبل وهو محمول على أن قوله
وكانت تحت عبادة جملة معترضة قصد بها وصفها بذلك غير مقيد
بحال كما سبق في باب: غزو المرأة. (فخرج بها إلى الغزو)،
زاد في أوّل الجهاد عن إسحاق فركبت البحر في زمان معاوية
بن أبي سفيان أي لما غزا قبرس في البحر سنة ثمان وعشرين
(فلما رجعت قرّبت دابة لتركبها، فوقعت فاندقت عنقها). أي
فماتت.
وهذا الحديث قد سبق مرات.
76 - باب مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ
فِي الْحَرْبِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ
قَالَ: "قَالَ لِي قَيْصَرُ: سَأَلْتُكَ أَشْرَافُ
النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ
ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ".
(باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب) أي ببركتهم
ودعائهم (وقال ابن عباس) فيما سبق موصولاً أوّل البخاري في
باب: بدء الوحي (أخبرني) بالإفراد (أبو سفيان) صخر بن حرب
أنه (قال: قال لي قيصر): هو لقب هرقل (سألتك أشراف الناس
اتبعوه أم ضعفاؤهم)؟ بمدّ همزة أشراف (فزعمت ضعفاؤهم)،
بالنصب، وفي بدء الوحي فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه (وهم أتباع
الرسل). أي في الغالب.
2896 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ
سَعْدٍ قَالَ: "رَأَى سَعْدٌ -رضي الله عنه- أَنَّ لَهُ
فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ تُنْصَرُونَ إِلاَّ
بِضُعَفَائِكُمْ".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الأسدي الواشحي قال:
(حدثنا محمد بن طلحة عن) أبيه (طلحة) بن مصرف اليامي (عن
مصعب بن سعد) بسكون العين أنه (قال: رأى) أي ظن (سعد -رضي
الله عنه-) هو ابن أبي وقاص ووالد مصعب ومصعب لم يدرك زمان
هذا القول وحينئذ فيكون مرسلاً لكنه محمول على أنه سمعه من
أبيه، ويؤيده أن في رواية الإسماعيلي عن مصعب عن أبيه أنه
رأى (أن له فضلاً) من جهة الشجاعة والغنى (على من دونه)،
زاد النسائي من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(هل تنصرون وترزقون
(5/91)
إلاّ بضعفائكم) زاد النسائي بصومهم وصلاتهم
ودعائهم ووجه بأن عبادة الضعفاء أشدّ إخلاصًا لخلوّ قلوبهم
من التعلق بالدنيا وصفاء ضمائرهم مما يقطعهم عن الله
فجعلوا همهم واحدًا فزكت أعمالهم وأجيب دعاؤهم.
2897 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنهم- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ،
فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَيُقَالُ نَعَمْ،
فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ. ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ:
فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَيُقَالُ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ. ثُمَّ
يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-؟ فَيُقَالُ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ». [الحديث 2897
- طرفاه في: 3594، 3649].
وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو ابن دينار أنه (سمع جابرًا)
هو ابن عبد الله الأنصاري الصحابي (عن أبي سعيد) سعد بن
مالك
الأنصاري (الخدري -رضي الله عنهم-) وسقط لفظ الخدري لأبي
ذر (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال)) (يأتي زمان يغزو فئام) بكسر الفاء وفتح الهمزة وبعد
الألف ميم أي جماعة (من الناس) والفئام لا واحد له من لفظه
والجار والمجرور في موضع رفع صلة لفئام كما أن الجملة قبله
صفة لزمان والعائد محذوف أي فيه وللحموي والكشميهني يغزو
فيه فئام من الناس (فيقال: فيكم) بحذف همزة الاستفهام (من
صحب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فيقال:
نعم. فيفتح عليه ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب أصحاب
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فيقال: نعم،
فيفتح) أي عليه (ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب صاحب
أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فيقال:
نعم، فيفتح) أي عليه وحذفت منهما لدلالة الأولى والمراد من
الثلاثة الصحابة والتابعون وأتباع التابعين.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في علامات النبوة وفضائل الصحابة
ومسلم في الفضائل.
77 - باب لاَ يَقُولُ فُلاَنٌ شَهِيدٌ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ
فِي سَبِيلِهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي
سَبِيلِهِ».
هذا (باب) بالتنوين (لا يقول فلان شهيد) على سبيل القطع
بذلك إلا إن ورد به الوحي.
(وقال أبو هريرة) فيما وصله في باب أفضل الناس مؤمن يجاهد
بنفسه وماله (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه قال: (الله أعلم بمن يجاهد في سبيله)
ولأبي ذر: (والله أعلم بمن يكلم) بضم أوّله وفتح ثالثه أي
يجرح (في سبيله) فلا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله.
2898 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْتَقَى
هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ،
وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ
فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ،
فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا
أَجْزَأَ فُلاَنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا
صَاحِبُهُ، قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ
مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ:
فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ
الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ
وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى
سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا
ذَاكَ؟ قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ
مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ،
فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ. فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ،
ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ
فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ
ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ
عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ
مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو
لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ". [الحديث 2898 -
أطرافه في: 4202، 4207، 6493، 6607].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا يعقوب بن
عبد الرحمن) بن محمد القاريّ بتشديد الياء الإسكندراني (عن
أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمة بن دينار الأعرج (عن
سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التقى هو والمشركون) في حديث
أبي هريرة الآتي إن شاء الله تعالى في باب: إن الله يؤيد
الدين بالرجل الفاجر التصريح بوقوع ذلك في خيبر لكن في
اتحاد القصتين نظر لما وقع بينهما من الاختلاف في بعض
الألفاظ، وقد جزم ابن الجوزي بأن قصة سهل هذه وقعت باُحُد،
ويؤيده أن في حديث الباب عند أبي يعلى الموصلي أنه قيل
لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أُحُد
ما رأينا مثل ما أبلى فلان. الحديث. وفي ذلك شيء يأتي إن
شاء الله تعالى في المغازي (فاقتتلوا فلما مال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى عسكره) أي رجع
بعد فراغ القتال في ذلك اليوم (ومال الآخرون إلى عسكرهم
وفي أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رجل) هو قزمان بضم القاف وسكون الزاي بعدها ميم فألف فنون
(لا يدع لهم) أي للمشركين (شاذة) بشين معجمة وبعد الألف
ذال معجمة مشدّدة (ولا فاذة) بالفاء والذال المعجمة أيضًا
والأولى التي تكون مع الجماعة ثم تفارقهم والأخرى التي لم
تكن قد اختلطت بهم أصلاً أي أنه لا يرى شيئًا إلا أتى عليه
فقتله. والتأنيث إما أن يكون للمبالغة كعلاّمة ونسّابة أو
نعت لمحذوف أي لا يترك لهم نسمة شاذة (إلاّ اتبعها يضربها
بسيفه فقال) أي قائل، وعند الكشميهني في المغازي فقلت فإن
كانت محفوظة فهو سهل الساعدي (ما أجزأ) بجيم وزاي فهمزة أي
ما أغنى (منا اليوم أحد كما أجزأ فلان) أي قزمان (فقال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بوحي من
الله:
(أما) بتخفيف الميم استفتاحية فتكسر الهمزة من قوله (إنه
من أهل النار) لنفاقه في الباطن (فقال رجل من القوم): هو
أكثم بن أبي الجون الخزاعي (أنا صاحبه)، أي أصحبه وألازمه
لأنظر السبب الذي يصير به من أهل النار فإن فعله في الظاهر
جميل وقد أخبره-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه من
أهل النار فلا بدّ له من سبب عجيب (قال: فخرج معه كلما وقف
وقف معه وإذا
(5/92)
أسرع أسرع معه قال: فجرح الرجل جرحًا
شديدًا فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه) أي
طرفه الذي يضرب به (بين ثدييه) بفتح المثلثة تثنية ثدي (ثم
تحامل) أي مال (على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل) أكثم (إلى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: أشهد
أنك رسول الله قال): عليه الصلاة والسلام (وما ذاك)؟ (قال
الرجل: الذي ذكرت آنفًا) بمد الهمزة وكسر النون أي الآن
(أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت
في طلبه ثم جرح جرحًا) بضم الجيم (شديدًا، فاستعجل الموت
فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل
نفسه).
واستشكل القطع بكونه من أهل النار بمجرد عصيانه بقتل نفسه
والمؤمن لا يكفر بالمعصية. وأجيب: باحتمال أنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم بالوحي أنه ليس مؤمنًا أو
أنه سيرتد ويستحل قتل نفسه، وفي
حديث أكثم بن أبي الجون عند الطبراني فقلنا: يا رسول الله
فلان يجزي في القتال؟ قال: "هو في النار". قلنا: يا رسول
الله إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار
فأين نحن؟ قال: "ذاك إخبات النفاق".
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند
ذلك: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو) أي يظهر
(للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار
فيما يبدو) أي يظهر (للناس وهو من أهل الجنة). قال النووي:
فيه التحذير من الاغترار بالأعمال وإنه ينبغي للعبد أن لا
يتكل عليها ولا يركن إليها مخافة من انقلاب الحال للقدر
السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره أن لا يقنطه
من رحمة الله تعالى.
ومطابقة الحديث للترجمة من حيث أنهم شهدوا برجحانه في أمر
الجهاد فلو كان قتل لم يمتنع أن يشهدوا له بالشهادة فلما
ظهر أنه لم يقاتل الله وإنما قاتل غضبًا علم أنه لا يطلق
على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد لاحتمال أن يكون مثل هذا.
نعم أطلقها السلف والخلف بناء على الظاهر، أما من استشهد
معه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كشهداء أُحُد
وبدر ونحوهم فلا خفاء به ظاهر أو الظاهر أن من بعدهم كذلك،
وقد أجع الفقهاء على أن شهيد المعركة لا يغسل وللفقيه إذا
سئل عن مؤمن قتل كذلك أن يقول هو شهيد، والذي منعه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يطلقه الإنسان جزمًا على
الغيب وهذا ممنوع حتى في زمانه عليه الصلاة والسلام إلاّ
بوحي خاص. قاله ابن المنير.
وهذا الحديث أيضًا في المغازي ومسلم في الإيمان والقدر.
78 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْيِ،
وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}
[الأنفال: 60]
(باب التحريض على الرمي) بالسهام. (وقول الله تعالى) بالجر
عطفًا على التحريض، ولأبي ذر عز وجل بدل قوله تعالى:
({وأعدّوا}) أيها المؤمنون ({لهم}) لناقضي العهد أو الكفار
({ما استطعتم من قوّة}) من كل ما يتقوى به في الحرب، وفي
حديث مسلم عن عقبة بن عامر مرفوعًا {وأعدوا لهم ما استطعتم
من قوة} "ألا أن القوة الرمي" قالها ثلاثًا. وخصّه عليه
الصلاة والسلام بالذكر لأنه أقواه. قاله البيضاوي
كالزمخشري، وتعقبه الطيبي بأن تفسير النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القوة بالرمي يخالف ما ذكره ولأن ما
في قوله تعالى: {ما استطعتم} موصوله والعائد محذوف ومن قوة
بيان له فالمراد بها نفس القوة وفي هذا البيان والمبين
إشارة إلى أن هذه العادة لا تستثبت بدون المعالجة والإدمان
الطويل وليس شيء من عدة الحرب وأداتها أحوج إلى المعالجة
والإدمان عليها مثل القوس والرمي بها ولذلك كرر عليه
الصلاة والسلام تفسير القوة بالرمي ({ومن رباط الخيل}) أي
التي تربط في سبيل الله تعالى فعال
بمعنى مفعول وعطفها على القوة من عطف الخاص على العام كعطف
جبريل وميكائيل على الملائكة ({ترهبون به}) تخوّفون به
({عدوّ الله وعدوّكم}) [الأنفال: 60]. يعني كفار مكة.
2899 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ
-رضي الله عنه- قَالَ: "مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ
يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ
أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي
فُلاَنٍ. قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ
بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ؟ قَالُوا:
كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ فقَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ارْمُوا فَأَنَا
مَعَكُمْ كُلِّكُمْ". [الحديث 2899 - طرفاه في: 3373،
3507].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا
حاتم بن إسماعيل) بالحاء المهملة بعدها ألف ففوقية الكوفي
(عن يزيد بن أبي عبيد) بضم العين مصغرًا من غير إضافة مولى
سلمة بن الأكوع أنه (قال: سمعت سلمة بن الأكوع) اسم الأكوع
سنان بن
(5/93)
عبد الله الأسلمي (-رضي الله عنه- قال: مرّ
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على نفر) عدة
من رجال من ثلاثة إلى عشرة (من أسلم) القبيلة المشهورة وهي
بلفظ أفعل التفضيل من السلامة حال كونهم (ينتضلون) بالضاد
المعجمة أي يترامون والنضال الرمي مع الأصحاب. قال
الجوهري: يقال ناضلت فلانًا فنضلته إذا غلبته وانتضل القوم
تناضلوا أي رموا للسبق (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ارموا بني إسماعيل) أي يا بني إسماعيل بن إبراهيم الخليل
وهو أبو العرب، ففيه كما قال الخطابي أن أهل اليمن من ولده
أو أراد بنوّة القوة لأنهم رموا مثل رميه، ورجح على الأول
لما سيأتي إن شاء الله تعالى في مناقب قريش (فإن أباكم)
إسماعيل عليه الصلاة والسلام (كان راميًا ارموا وأنا مع
بني فلان) وفي حديث أبي هريرة عند ابن حبان في صحيحه
"ارموا وأنا مع ابن الأدرع" واسمه محجن كما عند الطبراني
وقيل اسمه كما عند ابن مندة قال والأدرع لقب واسمه ذكوان
(قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم) من الرمي والباء في
بأيديهم زائدة في المفعول (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (ما لكم لا ترمون) (قالوا: كيف نرمي
وأنت معهم)؟ ذكر ابن إسحاق في المغازي عن سفيان ابن قرة
الأسلمي عن أشياخ من قومه من الصحابة قال: بينا محجن بن
الأدرع يناضل رجلاً من أسلم يقال له: نضلة، الحديث. وفيه
فقال نضلة وألقى قوسه من يده والله لا أرمي معه وأنت معه
وفيه فقال نضلة: لا يغلب من كنت معه (قال) ولأبي ذر: فقال
(النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (ارموا
فأنا) بالفاء (معكم كلكم) بجر اللام تأكيدًا للضمير
المجرور.
واستشكل كونه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع
الفريقين وأحدهما مغلوب، وأجاب الكرماني: بأن المراد
بالمعية معية القصد إلى الخير وإصلاح النية والتدرب فيه
للقتال.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في أحاديث الأنبياء ومناقب قريش.
2900 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي
أُسَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ
صَفَفْنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: «إِذَا
أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ». [الحديث 2900 -
طرفاه في: 3984، 3985].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
عبد الرحمن بن الغسيل) هو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد
الله بن حنظلة غسيل الملائكة الأنصاري المدني (عن حمزة ابن
أبي أسيد) بضم الهمزة وفتح السين المهملة وسكون التحتية
ولأبي ذر في نسخة: أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة وقد حكى
البغوي الخلاف في فتح الهمزة، وقال الداودي عن ابن معين
الضم أصوب الأنصاري الساعدي (عن أبيه) أبي أسيد مالك بن
ربيعة بن البدن بفتح الموحدة والمهملة بعدها نون شهد بدرًا
وأُحدًا وما بعدها وهو آخر البدريين موتًا -رضي الله عنه-
أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يوم بدر حين صففنا لقريش وصفّوا لنا):
(إذا أكثبوكم) بهمزة مفتوحة فكاف ساكنة فمثلثة مفتوحة
فموحدة مضمومة أي إذا دنوا منكم وقاربوكم قربًا نسيبًا
بحيث تنالهم السهام لا قربًا تلتحمون معهم به (فعليكم) أن
ترموهم (بالنبل) بفتح النون وسكون الموحدة جمع نبلة وهي
السهام العربية اللطاف والهمزة في أكثبوكم لتعدية كثب
ولذلك عدّاها إلى ضميرهم، وفي رواية أبي ذر: أكتبوكم
بالمثناة الفوقية بدل المثلثة والكتيبة بالمثناة القطعة
العظيمة من الجيش والجمع الكتائب ولعل الداودي شرح على هذه
الرواية فقال المعنى كاثروكم فليتأمل.
وإنما أمرهم بالرمي عند القرب لأنهم إذا رموهم على بُعد قد
لا يصل إليهم ويذهب في غير منفعة وإلى ذلك الإشارة بقوله
في رواية أبي داود: استبقوا نبلكم وليس المراد الدنوّ الذي
لا يليق به إلا المطاعنة بالرماح والمضاربة بالسيوف كما لا
يخفى.
79 - باب اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا
(باب اللهو بالحراب ونحوها) من آلات الحرب كالسيف والقوس.
2901 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ
الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:
"بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحِرَابِهِمْ،
دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ
بِهَا، فَقَالَ: دَعْهُمْ يَا عُمَرُ". وَزَادَ عَلِيٌّ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ فِي
الْمَسْجِدِ".
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) الرازي الفرّاء الصغير
(قال: حدّثنا هشام) هو ابن يوسف أبو عبد الرحمن الصنعاني
(عن معمر) بسكون العين ابن راشد (عن الزهري) محمد بن سليم
بن
شهاب (عن ابن المسيب) سعيد (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-)
أنه (قال: بينا) بغير ميم (الحبشة يلعبون عند النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال الحافظ ابن حجر
وتبعه العيني: ولم يقع في هذه الرواية ذكر الحراب فكأنه
(5/94)
أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما تقدم
بيانه في باب أصحاب الحراب في المسجد من كتاب الصلاة.
انتهى.
ومراده حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: رأيت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والحبشة يلعبون
بحرابهم وهذا عجيب، فقد ثبت ذكر ذلك في حديث هذا الباب في
غير ما نسخة من فروع اليونينية بل ورأيته فيها من رواية
أبي ذر بلفظ: يلعبون عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بحرابهم (دخل عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه-
(فأهوى) أي قصد (إلى الحصباء فحصبهم بها)، أي رماهم
بالحصباء لعدم علمه بالحكمة وظنه أنه من اللهو الباطل
(فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(دعهم يا عمر) أي اتركهم يلعبون للتدريب على مواقع الحروب
والاستعداد للعدوّ.
(وزاد) بالواو ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني زاد بإسقاطها
وللكشميهني زادنا بضمير المفعول (عليّ) هو ابن المديني
فقال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو
ابن راشد قوله (في المسجد) يعني أن لعبهم وقع في المسجد
وإنما جاز ذلك فيه لأنه من منافع الدين.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في العيد.
80 - باب الْمِجَنِّ وَمَنْ يَتَتَرَّسُ بِتُرْسِ
صَاحِبِهِ
(باب) ذكر (المجن) بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون
الدرقة وفي النهاية هو الترس لأنه يستر حامله والميم زائدة
(ومن يتترس) بتحتية ففوقيتين فراء مشددة فمهملة أي يستر
ولأبي ذر: يترس بفوقية واحدة مشددة وكسر الراء (بترس
صاحبه) عند القتال.
2902 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ
يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ
حَسَنَ الرَّمْيِ، فَكَانَ إِذَا رَمَى يُشرِفَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَنْظُرُ إِلَى
مَوْضِعِ نَبْلِهِ".
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) أبو الحسن الخزاعي المروزي
قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا
الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو (عن إسحاق بن عبد الله بن
أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري (عن أنس بن مالك -رضي الله
عنه-) أنه (قال: كان أبو طلحة) -رضي الله عنه- (يتترس مع
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بترس واحد)،
لأنه يرمي بالسهام والرامي يرمي بيديه جميعًا فلا يمكنه
غالبًا أن يمسك الترس فيستره النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خوف أن يرميه العدو، (وكان أبو طلحة
حسن الرمي)
بالنبل وزاد في غزوة أُحُد من المغازي كسر يومئذ قوسين أو
ثلاثًا أي من شدّة الرمي (فكان) وفي نسخة وكان بالواو (إذا
رمى تشرّف) بفتح الفوقية والشين المعجمة والراء المشددة
والفاء أي تطلع عليه (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي يشرف بضم
التحتية وكسر الراء من الإشراف (فينظر) بلفظ المضارع في
أوله فاء ولأبي ذر عن الكشميهني: نظر (إلى موضع نبله). أين
يقع.
وهذا الحديث أورده المؤلّف هنا مختصرًا من هذا الوجه،
ويأتي إن شاء الله تعالى قريبًا بأتم من هذا السياق في
المغازي.
2903 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ
عَنْ سَهْلٍ قَالَ: "لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَأْسِهِ
وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ
عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ، وَكَانَتْ
فَاطِمَةُ تَغْسِلُهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الدَّمَ يَزِيدُ
عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ،
فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِهِ، فَرَقَأَ
الدَّمُ".
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن عفير) هو سعيد بن كثير بن عفير
بالمهملة والفاء مصغرًا الأنصاري مولاهم البصريّ قال:
(حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن) بن محمد بن عبد الله القاريّ
بتشديد التحتية (عن أبي حازم) سلمة بن دينار الأعرج (عن
سهل) هو ابن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أنه (قال: لما
كسرت ببضة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
بفتح الموحدة والضاد المعجمة بينهما تحتية ساكنة خوذته
(على رأسه) يوم أُحُد (وأدمي وجهه وكسرت رباعيته) بفتح
الراء والموحدة المخففة السن التي بين الثنية والناب، وكان
الذي كسر رباعيته عتبة بن أبي وقاص ومن ثم لو يولد من نسله
ولد فيبلغ الحنث إلا وهو أبخر أي مكسور الثنايا من أصلها
يعرف ذلك في عقبه، وعند ابن هشام أنها اليمنى السفلى، وزاد
جرح شفته السفلى وأن عبد الله بن هشام الزهري شجّه في
جبهته، وأن ابن قميئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في
وجنته.
وعند الطبراني: أن عبد الله بن قميئة رمى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أُحُد فشجّ وجهه وكسر
رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قميئة، فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أقمأك الله" فسلّط
الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
وعند الحاكم في مستدركه من حديث حاطب بن أبي بلتعة أنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له بأُحُد أن
عتبة بن أبي وقاص هشم وجهي ودقّ رباعيتي بحجر رماني به
الحديث. وفيه
(5/95)
أن حاطبًا ضرب عتبة بالسيف فطرح رأسه، وعند
ابن عائذ من طريق الأوزاعي بلغنا أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما جرح يوم أُحُد أخذ شيئًا فجعل
ينشف دمه وقال: لو وقع منه شيء على الأرض لنزل عليهم
العذاب من السماء.
(وكان عليّ) -رضي الله عنه- (يختلف بالماء في المجن) يذهب
في الترس بالماء مرة بعد أخرى، (وكانت فاطمة) ابنته
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (تغسله) بفتح أوله
وسكون المعجمة من الدم بذلك الماء (فلما رأت الدم
يزيد على الماء كثرة) بالنصب على التمييز (عمدت) بفتح
المهملة والميم (إلى حصير فأحرقتها). وعند الطبراني من
طريق زهير بن محمد عن أبي حازم فأحرقت حصيرًا حتى صارت
رمادًا (وألصقتها على جرحه) بضم الجيم (فرقأ الدم) بهمزة
بعد القاف أي انقطع وفيه امتحان الأنبياء لتعظيم أجرهم
ويتأسى بهم من ناله شدة فلا يجد في نفسه غضاضة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي والطب.
2904 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ
بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه-
قَالَ: "كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ
بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاصَّةً، وَكَانَ
يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ
يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلاَحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً
فِي سَبِيلِ اللَّهِ". [الحديث 2904 - أطرافه في: 3094،
4033، 4885، 5357، 5358، 6728، 7305].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) بن المديني قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو ابن دينار (عن
الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن مالك بن أوس بن الحدثان)
بالحاء والدال المهملتين والمثلثة المفتوحات وبعد الألف
نون النصري بالنون المدني له رؤية (عن عمر) بن الخطاب
(-رضي الله عنه-) أنه (قال: كانت أموال بني النضير) بفتح
النون وكسر الضاد المعجمة الساقطة بطن من اليهود (مما أفاء
الله) مما أعاده الله (على رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بمعنى صيره له فإنه كان حقيقًا بأن يكون له
لأنه تعالى خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق لهم ليتوسلوا به
إلى طاعته وهو جدير بأن يكون للمطيعين منهم من بني النضير
(مما لم يوجف المسلمون عليه) بكسر الجيم ما لم يعملوا في
تحصيله (بخيل ولا ركاب) أي ولا إبل، والمعنى أنهم لم
يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة، بل حصل ذلك بما
نزل عليهم من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، (فكانت) أموال
بني النضير أي معظمها بسبب ذلك (لرسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاصة) فالأمر فيها مفوّض إليه
يضعها حيث شاء فلا تقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها
(وكان) عليه الصلاة والسلام (ينفق) منها (على أهله نفقة
سنته ثم يجعل ما بقي) منها (في السلاح) الشامل للمجن وغيره
من آلات الحرب وبه تحصل المطابقة بين الحديث والترجمة
(والكراع) بضم الكاف الخيل حال كونه (عدّة) بضم العين
وتشديد الدال المهملتين استعدادًا (في سبيل الله) عز وجل.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في المغازي وأبو داود في الخراج
والترمذي في الجهاد والنسائي في عشرة النساء.
2905 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَلِيٍّ.
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا
-رضي الله عنه- يَقُولُ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُفَدِّي رَجُلاً بَعْدَ
سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي
وَأُمِّي". [الحديث 2905 - أطرافه في: 4058، 4059، 6184].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثني يحيى)
بن سعيد القطان (عن سفيان) أنه (قال: حدّثني) بالإفراد
(سعد بن إبراهيم عن عبد الله بن شداد) هو ابن المهاد
الليثي المدني (عن عليّ) هو ابن أبي طالب كذا ساقه وهو
ساقط في رواية أبي ذر.
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة ابن عقبة
بن محمد السوائي بضم السين المهملة وتخفيف الواو والمد
الكوفي وليس هو تصحيف قتيبة بالمثناة الفوقية بعد القاف
المضمومة كما زعم أبو نعيم في مستخرجه قال: (حدّثنا سفيان)
بن عيينة (عن سعد بن إبراهيم) أنه (قال: حدّثني) بالإفراد
(عبد الله بن شداد) بفتح المعجمة وتشديد الدال المهملة
الأولى ابن الهاد المدني (قال: سمعت عليًّا -رضي الله عنه-
يقول: ما رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يفدّي رجلاً) بضم حرف المضارعة وفتح الفاء وتشديد الدال
المهملة مضارع فدّاه إذا قال له: "جعلت فداك" (بعد سعد) هو
ابن أبي وقاص واسمه مالك بن وهيب أحد العشرة المبشرة
(سمعته يقول): أي يوم أُحُد.
(ارم) أي الكفار بالنبل (فداك أبي وأمي) بكسر الفاء قال
ابن الزملكاني الحق أن كلمة التفدية نقلت بالعرف عن وضعها
وصارت علامة على الرضا فكأنه قال: أرم مرضيًّا عنك، وزعم
المهلب أن هذا مما خصّ به سعد، وعورض بأن في الصحيحين أنه
عليه
(5/96)
الصلاة والسلام فدى الزبير، وجمع له بين
أبويه يوم الخندق لكن ظاهر هذا، وقول عليّ ما رأيته يفدّي
رجلاً بعد سعد التعارض، وجمع بينهما باحتمال أن يكون عليّ
-رضي الله عنه- لم يطّلع عليه ذلك أو مراده ذلك بقيد يوم
أُحُد.
وقول صاحب المصابيح متعقبًا للزركشي في التنقيح حيث قال:
قيل وقد صح أنه فدّى الزبير أيضًا فلعلّ عليًّا لم يسمعه
إنما يحتاج إلى الاعتذار عنه إذا ثبت أنه فدى الزبير بعد
سعد وإلاّ فقد يكون فداه قبله فلا يعارض قوله عليّ هذا
انتهى.
عجيب فإنه ثبت في باب مناقب الزبير من البخاري بأنه عليه
الصلاة والسلام لما قال يوم الأحزاب: من يأتِ بني قريظة
فيأتيني بخبرهم انطلق الزبير إليهم، فلما رجع جمع له عليه
الصلاة والسلام بين أبويه وغزوة الأحزاب المفدّى فيها
الزبير كانت سنة أربع أو خمس وأحد المفدى فيها سعد كانت
سنة ثلاث اتفاقًا فوقوع ذلك للزبير كان بعد سعد بلا خلاف
كما لا يخفى، ولم تظهر المناسبة بين الحديث والترجمة
فليتأمل.
وهذا الحديث أخرجه في المغازي ومسلم في الفضائل والترمذي
في المناقب وابن ماجه في السير.
81 - باب الدَّرَقِ
(باب) مشررعية اتخاذ (الدرق).
2906 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ
وَهْبٍ قَالَ عَمْرٌو حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "دَخَلَ عَلَىَّ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ،
فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ،
فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ:
مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ
دَعْهُمَا. فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني)
بالإفراد (ابن وهب) عبد الله المصري (قال عمرو) بفتح العين
ابن الحرث المصري (حدّثني) بالإفراد (أبو الأسود) محمد بن
عبد الرحمن المعروف بيتيم عروة وكان وصيه (عن عروة) بن
الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: دخل عليّ
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي أيام
منى (وعندي جاريتان) أي دون البلوغ من جواري الأنصار
إحداهما لحسان بن ثابت كما في الطبراني أو كلتاهما لعبد
الله بن سلام كما في الأربعين للسلمي (تغنيان) ترفعان
أصواتهما (بغناء بعاث) بضم الموحدة وفتح العين المهملة
وبعد الألف مثلثة غير مصروف اسم حصن كان عند وقعة بين
الأوس والخزرج قبل الهجرة بثلاث سنين كما هو المعتمد وكان
كلٌّ من الفريقين ينشد الشعر يذكر مفاخر نفسه (فاضطجع على
الفراش وحوّل وجهه) للإعراض عن ذلك لكن عدم إنكاره يدل على
تسويغ مثله على الوجه الذي أقرّه، (فدخل أبو بكر) الصديق
(فانتهرني) أي لتقريرها لهما على الغناء (وقال: مزمارة
الشيطان عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
فحذف أداة الاستفهام وكسر الميم آخرها تأنيث يعني الغناء
أو الصوت الذي له صفير أو الصوت الحسن وأضافها إلى الشيطان
لأنها تلهي القلب في ذكر الله، وإنما قال ذلك لأنه لم يعلم
أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقرّهن على هذا
القدر اليسير لكونه ظنه نائمًا لما رآه مضطجعًا، (فأقبل
عليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال):
(دعهما) وزاد هشام بن عروة عن أبيه عند ابن أبي الدنيا في
العيدين له بإسناد صحيح: يا أبا بكر إن لكل قوم عيد أو هذا
عيدنا فعرفه عليه الصلاة والسلام الشأن مع بيان الحكمة
بأنه يوم عيد أي يوم سرور شرعي فلا ينكر فيه مثل هذا كما
لا ينكر في الأعراس. قالت عائشة: (فلما غفل) بفتح الغين
المعجمة والفاء للحموي والمستملي عمل بميم مكسورة بدل
الفاء أي اشتغل أبو بكر بعمل (غمزتهما فخرجتا).
2907 - قَالَتْ: وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ
السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقلتْ: نَعَمْ.
فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَيَقُولُ:
دُونَكُمْ بَنِي أَرْفِدَةَ. حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ:
حَسْبُكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاذْهَبِي". قَالَ
أَبُو عَبْدُ اللهِ: قَالَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ:
"فَلَمَّا غَفَلَ".
(قالت): عائشة (وكان يوم عيد) بفتح يوم وفي نسخة يوم
بالرفع والفتح أفصح وللحموي والمستملي: وكان يومًا عندي
(يلعب السودان) الحبوش (بالدرق والحراب فأما سألت رسول
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) النظر إلى لعبهم
(وأما قال):
(تشتهين تنظرين)؟ (فقالت): ولأبوي الوقت وذر والأصيلي: أن
تنظري أي النظر إلى لعب السودان؟ فقلت: (نعم فأقامني
وراءه) حال كون (خدّي على خدّه) متلاصقين (ويقول): أي
للسودان وفي العيدين وهو يقول: (دونكم) بالنصب على الظرف
بمعنى الإغراء أي الزموا هذا اللعب (يا بني أرفدة) بفتح
الهمزة وكسر الفاء وفتحها وهو جدّ الحبشة الأكبر (حتى إذا
مللت) بكسر اللام الأولى (قال: حسبك) أي أيكفيك هذا القدر
بحذف همزة الاستفهام (قلت: نعم). حسبي (قال): (فاذهبي)
(قال أحمد): أي ابن أبي صالح المصري
(5/97)
ولأبي ذر قال أبو عبد الله أي المؤلّف رحمه
الله قال أحمد (عن ابن وهب) عبد الله (فلما غفل) بالفاء من
الغفلة وسقط لأبي ذر عن ابن وهب.
وسبق هذا الحديث في باب: الحراب والدرق يوم العيد في أبواب
العيدين.
82 - باب الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْفِ بِالْعُنُقِ
(باب) ذكر (الحمائل) جمع حمالة بالكسر وهن علاقة السيف (و)
جواز (تعليق السيف بالعنق).
2908 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله
عنه- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ.
وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا
نَحْوَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ
وَهْوَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَفِي
عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهْوَ يَقُولُ: لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ
تُرَاعُوا. ثُمَّ قَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا. أَوْ قَالَ:
إِنَّهُ لَبَحْرٌ".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
حماد بن زيد) أي ابن درهم الجهضمي (عن ثابت) البناني (عن
أنس رضي الله عنه) أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحسن الناس وأشجع الناس) زاد في باب:
الشجاعة في الحرب وأجود الناس (ولقد فزع) بكسر الزاي أي
خاف (أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت) وسقط لأبي ذر
ليلة (فاستقبلهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) راجعًا وهم ذاهبون (وقد استبرأ الخبر) أي حققه
(وهو على فرس لأبي طلحة) استعاره منه وكان بطيء السير
(عُرْي) بضم العين وسكون الراء صفة لفرس (وفي عنقه)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (السيف) معلق
بالحمائل. قال الجوهري؛ وهو السير الذي يقلده المتقلد (وهو
يقول):
(لم تراعوا لم تراعوا) كذا في رواية الكشميهني والحموي
مرتين كما في الفتح، وفي رواية غيره مرة واحدة أي لا
تخافوا. قال الكرماني: والعرب تتكلم بهذه الكلمة واضعة
"لم" موضع "لا" (ثم
قال) عليه الصلاة والسلام (وجدناه) أي الفرس البطيء في
السير (بحرًا) واسع الجري (أو قال): عليه الصلاة والسلام
(إنه لبحر) بالشك من الراوي وسبق الحديث مرارًا.
83 - باب حِلْيَةِ السُّيُوفِ
(باب) ما جاء في (حلية السيوف) بالجمع أي بالذهب والفضة من
الجواز وعدمه ولأبي ذر باب ما جاء في حلية السيوف.
2909 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ:
سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَبِيبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
أُمَامَةَ يَقُولُ: لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ مَا
كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمِ الذَّهَبَ وَلاَ الْفِضَّةَ،
إِنَّمَا كَانَتْ حِلْيَتُهُمُ الْعَلاَبِيَّ وَالآنُكَ
وَالْحَدِيدَ".
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) أبو العباس مودويه المروزي
قاله الكلاباذي وأبو عبد الله الحاكم زاد الكلاباذي
السمسار قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال:
(أخبرنا الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو (قال: سمعت سليمان
بن حبيب) المحاربي قاضي دمشق في زمن عمر بن عبد العزيز
(قال: سمعت أبا أمامة) صدى بضم الصاد وفتح الدال وتشديد
المثناة التحتية ابن عجلان الباهلي الصحابي -رضي الله عنه-
(يقول: لقد فتح الفتوح قوم) أي من الصحابة (ما كانت حلية
سيوفهم الذهب ولا الفضة) بضم الحاء وكسرها (إنما كانت
حليتهم العلابي) بفتح العين المهملة واللام المخففة وتخفيف
الموحدة وتشديد التحتية جمع علباء بكسر العين عصب في عنق
البعير يشقق ثم يشد به أسفل جفن السيف وأعلاه ويجعل في
موضع الحلية منه، وفسره الأوزاعي في رواية أبي نعيم في
المستخرج فقال العلابي: الجلود الخام التي ليست بمدبوغة،
وقال الداودي: هي ضرب من الرصاص، ولذلك قرن بالآنك وخطأه
في الفتح ولعله لقول القزاز إنه غير معروف.
وأجيب: بأن كونه غير معروف عند القزاز لا يستلزم تخطئة
القائل به لا سيمًا، وقد قال الجوهري: هو الرصاص أو جنس
منه، لكن قال في المصابيح: إن قرانه بالآنك يشبه أن يكون
مانعًا من تفسيره بالرصاص لا مقتضيًا، ووقع عند ابن ماجه
لتحديث أبي أُمامة بذلك سبب وهو دخلنا على أبي امامة فرأى
في سيوفنا شيئًا من حلية فضة فغضب وقال: لقد فتح قوم
الفتوح فذكره.
(والأنك) بمد الهمزة وضم النون بعدها كاف مخففة الرصاص وهو
واحد لا جمع له (والحديد) ولا يلزم من كون حلية سيوفهم ما
ذكر عدم جواز غيره فيجوز للرجل تحلية السيف وغيره من آلات
الحرب بالفضة كالسيف والرمح وأطراف السهام والدرع والمنطقة
والرانين بالراء المهملة والنون خف يلبس الساق ليس له قدم
بل يكون ما بين الركبة والكعبين، وكذا الخف لأنه يغيظ
الكفار. وقد كان للصحابة -رضي الله عنهم- غنية عن ذلك
لشدتهم في أنفسهم وقوتهم في إيمانهم ولا يجوز تحلية شيء
مما ذكر بالذهب قطعًا ويحرم على النساء تحلية آلات الحرب
بالفضة والذهب جميعًا لأن في استعمالهن ذلك تشبهًا بالرجال
وليس لهن التشبه بالرجال، كذا قاله الجمهور فيما حكاه في
الروضة
(5/98)
وصوّبه.
وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة في الجهاد.
84 - باب مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ فِي السَّفَرِ
عِنْدَ الْقَائِلَةِ
(باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند) النوم وقت
(القائلة) أي الظهيرة.
2910 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي
سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ "أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله
عنهما- أَخْبَرهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِبَلَ نَجْدٍ،
فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ
فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَفَرَّقَ
النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ
شَجرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً،
فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ
فَقَالَ: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَىَّ سَيْفِي وَأَنَا
نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهْوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا،
فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ
(ثَلاَثًا). وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وَجَلَسَ". [الحديث 2910
- أطرافه في: 2913، 4134، 4135، 4136].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (سنان بن أبي سنان) يزيد بن
أمية (الدؤلي) بضم الدال وفتح الهمزة نسبة إلى الدؤل من
كنانة (وأبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (أن جابر بن عبد
الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- أخبر) ولأبي ذر: أخبره
أي أن كلاًّ من سنان وأبي سلمة قال إن جابرًا أخبره (أنه
غزا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل
نجد) بكسر القاف وفتح الموحدة أي ناحية نجد في غزوته إلى
غطفان وهي غزوة ذي أمر بفتح الهمزة والميم موضع من ديار
غطفان وكانت على رأس خمس وعشرين شهرًا من الهجرة (فلما
قفل) أي رجع (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قفل) أي رجع (معه، فأدركتهم القائلة) أي
الظهيرة (في وادٍ كثير العضاه)، بكسر العين وفتح الضاد
المعجمة وبعد الألف هاء مكسورة شجر أم غيلان وكل شجر عظيم
له شوك (فنزل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وتفرق الناس يستظلون بالشجر) من حرّ الشمس
(فنزل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحت
سمرة) بفتح السين وضم الميم شجرة طلح ولأبي ذر عن
الكشميهني تحت شجرة (وعلّق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعونا وإذا
عنده أعرابي) اسمه غورث بضم الغين المعجمة وسكون الواو
وفتح الراء آخره مثلثة (فقال): عليه الصلاة والسلام:
(إن هذا) أي الأعرابي (اخترط) أي سل (عليّ سيفي) من غمده
(وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده) حال كونه (صلتًا) بفتح
الصاد المهملة وسكون اللام أي مصلتًا مجردًا عن غمده
(فقال): أي
الأعرابي (من يمنعك مني)؟ بضم العين ومن استفهام يتضمن
النفي كأنه قال لا مانع لك مني وزاد أبو ذر من يمنعك مني
مرة أخرى بل كتب بالفرع وأصله بإزاء هذه الزيادة ثلاثة
بالقلم الهندي ومفهومه تكريرها ثلاثًا قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقلت): (الله) أي
يمنعني منك (ثلاثًا) أي قال له ذلك ثلاث مرات. وعند ابن
أبي شيبة من حديث أبي سلامة عن أن هريرة قال: يا محمد من
يعصمك مني؟ فأنزل الله تعالى: {والله يعصمك من الناس}
[المائدة: 67] وهذا من أعظم الخوارق للعادة فإنه عدوّ
متمكن بيده سيف مشهور، فلم يحصل للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- روع ولا جزع (ولم يعاقبه)، ولم يعاقب
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأعرابي
المذكور (وجلس) حال من المفعول. وعند إسحاق أن الكفار
قالوا لدعثور وكان شجاعًا قد انفرد محمد فعليك به فأقبل
ومعه صارم حتى قام على رأسه فقال له من يمنعك مني؟ فقال
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الله) فدفع جبريل
عليه السلام في صدره فوقع من يده فأخذه النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: "من يمنعك أنت مني
اليوم"؟ قال: لا أحد. فقال: "قم فاذهب لشأنك" فلما ولّى
قال: كنت خيرًا مني، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "أنا أحق بذلك" ثم أسلم بعد. وفي لفظ قال:
وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ثم أتى قومه
فدعاهم إلى الإسلام، وقال الذهبي في الصحابة غورث بن
الحرث، ويقال دعثور أسلم قاله البخاري من حديث جابر،
وتعقبه الجلال البلقيني فقال: ما نسبه من إسلامه إلى
البخاري لم أقف عليه فإن البخاري أعاد هذا الحديث في
الغزوات بعد غزوة ذات الرقاع في غزوة بني المصطلق، وهي
المريسيع ولم يذكر إسلامه فليحرر.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في المغازي والجهاد ومسلم في
فضائل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والنسائي
في السير.
85 - باب لُبْسِ الْبَيْضَةِ
(باب) مشروعية (لبس البيضة) وهي الخوذة.
2911 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ -رضي الله عنه- "أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
جُرْحِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: جُرِحَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ
وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، فَكَانَتْ
فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - تَغْسِلُ الدَّمَ
وَعَلِيٌّ يُمْسِكُ. فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّ الدَّمَ لاَ
يَرتدُّ إِلاَّ كَثْرَةً أَخَذَتْ حَصِيرًا فَأَحْرَقَتْهُ
حَتَّى صَارَ رَمَادًا ثُمَّ أَلْزَقَتْهُ، فَاسْتَمْسَكَ
الدَّمُ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا
عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه) أبي حازم واسمه سلمة بن
دينار الأعرج (عن سهل) هو ابن سعد الساعدي (رضي الله عنه
أنه سئل عن جرح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يوم أُحُد فقال: جرح وجه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) جرح وجنته ابن قميئة
(5/99)
(وكسرت رباعيته) كسرها عتبة بن أبي وقاص
(وهشمت البيضة) وهي الخوذة (على رأسه)، كسرها عبد الله بن
هشام (فكانت فاطمة) الزهراء (عليها السلام تغسل الدم وعليّ
رضي الله عنه يمسك، فلما رأت) فاطمة (أن
الدم لا يزيد) من الزيادة، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
لا يرتد (إلاّ كثرة أخذت حصيرًا فأحرقته حتى صار رمادًا،
ثم ألزقته)، بالزاي أي الرماد بالجرح وسقط لفظ "ثم" لأبي
ذر (فاستمسك الدم) أي انقطع.
وهذا الحديث قد مرّ قريبًا.
86 - باب مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاَحِ عِنْدَ
الْمَوْتِ
(باب من لم ير كسر السلاح عند الموت).
2912 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَا تَرَكَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ
سِلاَحَهُ وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ وَأَرْضًا جَعَلَهَا
صَدَقَةً".
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن عباس) بفتح العين وسكون الميم
وعباس بالموحدة آخر، مهملة أبو عثمان البصري الأهوازي قال:
(حدّثنا عبد الرحمن) بن مهدي بن حسان العنبري البصري (عن
سفيان) الثوري (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي
الكوفي (عن عمرو بن الحرث) بفتح العين ابن المصطلقُ
الخزاعي أخي أم المؤمنين جويرية -رضي الله عنهما- أنه
(قال: ما ترك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
عند موته (إلاّ سلاحه) الذي أعدّه لحرب الكفار كالسيوف
(وبغلة بيضاء) وهي الدلدل (وأرضًا بخيبر) وهي فدك (جعلها)
في صحته (صدقة). وأخبر بحكمها عند موته، وخالف -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهل الجاهلية فيما كانوا
يوصون به من كسر السلاح وعقر الدواب وحرق المتاع من ترك
بغلته وسلاحه وأرضه من غير إيصاء في ذلك بشيء إلا صدقة في
سبيل الله وفي إبقاء السلاح كما قال ابن المنير عنوان
للمسلم على إبقاء ذكره واستنماء أعماله الحسنة التي سنّها
للناس وعادته الجميلة التي حمل عليها العباد بخلاف أهل
الجاهلية ففي فعلهم ذلك إشارة إلى انقطاع أعمالهم وذهاب
آثارهم، وقد مرّ الحديث في أوّل الوصايا.
87 - باب تَفَرُّقِ النَّاسِ عَنِ الإِمَامِ عِنْدَ
الْقَائِلَةِ وَالاِسْتِظْلاَلِ بِالشَّجَرِ
(باب تفرّق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال
بالشجر).
2913 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ
وَأَبُو سَلَمَةَ أَنَّ جَابِرًا أَخْبَرَهُ. حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي
سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
-رضي الله عنهما- أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ غَزَا مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ
الْعِضَاهِ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ
يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ
شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ ثُمَّ نَامَ،
فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ وَهْوَ لاَ يَشْعُرُ
بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي فَقَالَ: فمَنْ
يَمْنَعُكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ. فَشَامَ السَّيْفَ، فَهَا
هُوَ ذَا جَالِسٌ. ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ".
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (سنان بن أبي
سنان) يزيد بن أمية (وأبو سلمة) بن عبد الرحمن (أن جابرًا
أخبره).
وبالسند قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: وحدّثنا وفي نسخة ح.
وحدّثنا (موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا إبراهيم
بن سعد) بسكون العين قال: (أخبرنا ابن شهاب) الزهري (عن
سنان بن أبي سنان الدؤلي) بضم الدال المهملة وفتح الهمزة
(أن جابر بن عبد الله) الأنصاري (رضي الله عنهما أخبره أنه
غزا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في
باب من علق سيفه بالشجر قبل نجد وسبق أنها غزوة ذي أمر
(فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه) بكسر العين
المهملة والهاء وبينهما ضاد معجمة فألف شجر أم غيلان
(فتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر)، من حرّ الظهيرة
(فنزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحت شجرة
فعلق بها سيفه ثم نام، فاستيقظ وعنده رجل وهو لا يشعر به،
فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
لأصحابه.
(إن هذا اخترط) بالخاء المعجمة والمثناة الفوقية والراء
آخره طاء مهملة أي سل (سيفي) (فقال: من) ولأبي ذر عن
المستملي: فمن (يمنعك) أي مني كما في الرواية السابقة
قريبًا والمعنى لا مانع لك مني (قلت): (الله) أي يمنعك
(فشام السيف) بالفاء والشين المعجمة أي غمده (فها هو ذا
جالس) بالرفع في الفرع كالجمهور على أن ذا خبر المبتدأ
وجالس خبر ثانٍ قيل: وروى جالسًا بالنصب على الحال على جعل
ذا خبر المبتدأ وعامل الحال ما في ها من معنى التنبيه أو
في ذا من معنى الإشارة. (ثم لم يعاقبه) أي لم يعاقب النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرجل.
وهذا الحديث قد سبق قريبًا.
88 - باب مَا قِيلَ فِي الرِّمَاحِ. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي،
وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ
أَمْرِي»
(باب ما قيل في) اتخاذ (الرماح) واستعمالها من الفضل.
(ويذكر) بضم أوّله مبنيًّا للمفعول (عن ابن عمر عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال): (جعل
رزقي تحت ظل رمحي) أي من الغنيمة (وجعل الذلة والصغار)
بالذال المعجمة والصغار بفتح الصاد المهملة والغين المعجمة
أي بذل الجزية. (على من خالف أمري) وهذا طرف من حديث رواه
أحمد.
2914 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي
قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي الله
عنه- أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ
مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهْوَ
غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى
عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ
سَوْطَهُ فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا،
فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ،
فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَى بَعْضٌ، فَلَمَّا
أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ
طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ".
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ مِثْلُ
حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْ
لَحْمِهِ شَىْءٌ»؟.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام
(5/100)
(عن أبي النضر) بفتح النون وسكون الضاد
المعجمة بعدها راء سالم بن أبي أمية (مولى عمر بن عبيد
الله) بضم العين مصغرًا المدني (عن نافع) هو ابن عباس
بموحدة مشددة آخره سين مهملة ويقال عياش بتحتية ومعجمة
(مولى أبي قتادة) الحرث بن ربعي (الأنصاري) وإنما قيل له
ذلك للزومه، وكان مولى عقيلة الغفارية (عن أبي قتادة -رضي
الله عنه- أنه كان مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) عام الحديبية (حتى إذا كان ببعض طريق مكة
تخلّف) أي أبو قتادة (مع أصحاب له محرمين) أي بالعمرة (وهو
غير محرم) لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كان بعثه لكشف حال عدوّ لهم بجهة الساحل والجملة حالية
(فرأى حمارًا وحشيًّا) ولأبي ذر: حمار وحش (فاستوى على
فرسه) الجرادة (فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا) أي
امتنعوا أن يناولوه إياه (فسألهم رمحه) أي أن يناولوه إياه
(فأبوا) وهذا موضع الترجمة (فأخذه ثم شد على الحمار فقتله
فأكل منه بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وأبى بعض) أي امتنع أن يأكل منه (فلما أدركوا
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سألوه عن
ذلك) أي عن الحكم في أكله (قال): عليه الصلاة والسلام:
(إنما هي طعمة) بضم الطاء المهملة وسكون العين (أطعمكموها
الله). (وعن زيد بن أسلم) العدوي المدني (عن عطاء بن يسار
عن أبي قتادة) بن الحرث الأنصاري (في الحمار الوحشي مثل
حديث أبي النضر) المذكور إلا أنه (قال) أي النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأبي الوقت: وقال (هل معكم
من لحمه شيء) وهذا وصله المؤلّف في الذبائح في باب ما جاء
في الصيد ولم يذكر في هذه الرواية أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكل منها نعم في الهبة فناولته العضد
فأكلها حتى تعرقها.
وقد سبق هذا الحديث في الحج مع كثير من مباحثه والله
الموفق وبه المستعان.
89 - باب مَا قِيلَ فِي دِرْعِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقَمِيصِ فِي الْحَرْبِ وَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَّا
خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
(باب ما قيل في درع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) من أي شيء كانت (و) بيان حكم (القميص في
الحرب، وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
فيما وصله المؤلّف في الزكاة (أما خالد) هو ابن الوليد
(فقد احتبس أدراعه) أي وقفها (في سبيل الله) والأدراع جمع
درع بكسر الدال المهملة وهي الزردية.
2915 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ
فِي قُبَّةٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ
وَوَعْدَكَ. اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ
الْيَوْمِ. فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ:
حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى
رَبِّكَ. وَهْوَ فِي الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهْوَ يَقُولُ:
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ
السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}.
وَقَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ "يَوْمَ بَدْرٍ".
[الحديث 2915 - أطرافه في: 3953، 4875، 4877].
وبه قال: (حدّثنا) بالإفراد (محمد بن المثنى) الزمن العنزي
قال: (حدّثنا عبد الوهاب) ابن عبد المجيد الثقفي قال:
(حدّثنا خالد الحذاء عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس
رضي الله عنهما) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يوم غزوة بدر (وهو في قبة) كالخيمة
من بيوت العرب.
(اللهم إني أنشدك) بفتح الهمزة وضم الشين أي أسألك (عهدك)
أي بالنصر لرسلك (ووعدك) بإحدى الطائفتين وهزم حزب الشيطان
(اللهم إن شئت) هلاك المؤمنين (لم تعبد بعد اليوم) وهذا
تسليم لأمر الله فيما يشاء أن يفعله وفيه رد على المعتزلة
القائلين بأن الشر غير مراد الله، وإنما قال ذلك لأنه علم
أنه خاتم النبيين فلو هلك ومن معه حينئذٍ لم يبعث أحد ممن
يدعو إلى الإيمان وفيه أن نفوس الشر لا يرتفع الخوف عنها
والإشفاق جملة واحدة لأنه عليه السلام كان وعد النصر وهو
الوعد الذي نشده، ولذا قال تعالى عن موسى عليه السلام حين
ألقى السحرة حبالهم وعصيهم فأخبر الله تعالى بعد أن أعلمه
أنه ناصره وإنه معهما يسمع ويرى فأوجس في نفسه خيفة موسى،
(فأخذ أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- (بيده) عليه الصلاة
والسلام (فقال: حسبك) أي يكفيك مناشدتك (يا رسول الله فقد
ألححت على ربك). بحاءين مهملتين الأولى مفتوحة والأخرى
ساكنة داومت على الدعاء أو بالغت وأطلت فيه (وهو في
الدرع)، جملة حالية وهي موضع الترجمة، (فخرج) عليه السلام
لما علم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة
والطمأنينة (وهو يقول: {سيهزم
الجمع}) أي سيفرق شملهم ({ويولون الدبر}) [القمر: 45] أي
الأدبار وإفراده لإرادة الجنس أو لأن كل واحد يولي دبره.
وعند ابن أبي حاتم عن عكرمة لما نزلت {سيهزم الجمع ويولون
الدبر} قال عمر أيّ جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما
كان يوم بدر رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(5/101)
وَسَلَّمَ- يثب في الدرع وهو يقول: {سيهزم
الجمع ويولّون الدبر} فعرفت تأويلها يومئذٍ ({بل الساعة
موعدهم}) أي موعد عذابهم الأصلي وما يحيق بهم في الدنيا
فمن طلائعه ({والساعة أدهى}) أشدّ والداهية أمر فظيع لا
يهتدى لدوائه ({وأمر}) [القمر: 46] مذاقًا من عذاب الدنيا.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي والتفسير والنسائي في
التفسير.
(وقاله وهيب): بضم الواو مصغرًا ابن خالد بن عجلان فيما
وصله المؤلّف في سورة القمر (حدّثنا خالد) الحذاء أي عن
عكرمة عن ابن عباس وزاد أن الذي قاله كان (يوم بدر).
2916 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ
الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ:
"تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ
بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ". وَقَالَ يَعْلَى:
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ "دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ". وَقَالَ
مُعَلًّى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ وَقَالَ: "رَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) العبدي البصري قال:
(أخبرنا سفيان) بن عيينة (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن
إبراهيم) النخعي (عن الأسود) بن يزيد (عن عائشة -رضي الله
عنها) أنها (قالت): (توفي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودرعه) ذات الفضول (مرهونة عند يهودي)
يسمى بأبي الشحم (بثلاثين صاعًا) أي في مقابلة ثلاثين
صاعًا (من شعير) فالباء للمقابلة.
(وقال يعلى): بفتح أوله وثالثه بوزن يرضى ابن عبيد
الطنافسي الكوفي مما سبق موصولاً في الرهن في السلام
(حدّثنا الأعمش) أي في روايته عن إبراهيم عن الأسود عن
عائشة وزاد فقال: إنه (درع من حديد).
(وقال معلى): بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد اللام
المفتوحة ابن أسد العمي البصري فيما وصله في الاستقراض
(حدّثنا عبد الواحد) بن زياد البصري قال: (حدّثنا الأعمش)
سليمان أي عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة (وقال): فيه
أيضًا (رهنه درعًا من حديد).
2917 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَثَلُ الْبَخِيلِ
وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا
جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدِ اضْطَرَّتْ أَيْدِيَهُمَا
إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَكُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ
بِصَدَقَتِهِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ
أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا
هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ
حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ
وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ. فَسَمِعَ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلاَ تَتَّسِعُ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد قال: (حدّثنا ابن طاوس)
عبد الله (عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(مثل البخيل والمتصدق مثل) وفي الزكاة (كمثل رجلين عليهما
جبتان من حديد) بضم الجيم وتشديد الموحدة (قد اضطرت) ألجئت
(أيديهما إلى تراقيهما) جمع ترقوة وهي العظم الكبير الذي
بين ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان من الجانبين وخصهما
بالذكر لأنهما عند الصدر وهو مسكن القلب وهو يأمر الأمر
وينهاه (فكلما همَّ المتصدّق بصدقته) ولأبي ذر عن
الكشميهني: بصدقة (اتسعت عليه حتى تعفي أثره) بضم الفوقية
وسكون العين وفي الفرع وأصله بفتح العين وتشديد الفاء أي
تمحو الجبة أثر مشيه لسبوغها ومراده أن الصدقة تستر خطايا
المتصدق كما يستر الثوب الذي يجر على الأرض أثر مشي لابسه
بمرور الذيل عليه (وكلما همَّ البخيل بالصدقة انقبضت كل
حلقة) بسكون اللام من الجبة (إلى صاحبتها وتقلصت) أي انزوت
(عليه وانضمت يداه إلى تراقيه) والمعنى أن البخيل إذا حدّث
نفسه بالصدقة شحت نفسه وضاق صدره وانقبضت يداه (فسمع) أي
أبو هريرة (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يقول): (فيجتهد أن يوسعها) أي الجبة (فلا تتّسع).
قال الكرماني فإن قلت: مجموع الحديث سمعه أبو هريرة من
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما وجه
اختصاصه بالكلمة الأخيرة؟ وأجاب: بأن لفظ يقول يدل على
الاستمرار والتكرار فلعله عليه السلام كررها دون أخواتها.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله جبتان فإنه روي بالباء
الموحدة وهو المناسب لذكر القميص في الترجمة، وروي بالنون
كما عند المؤلّف في باب: مثل المتصدق والبخيل من الزكاة من
طريق أبي حنظلة وابن هرمز وهو المناسب للدرع.
90 - باب الْجُبَّةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَرْبِ
(باب) لبس (الجبة في السفر والحرب).
2918 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي
الضُّحَى مُسْلِمٍ هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ
قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ:
"انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ، فَتلَقِيتُهُ
بِمَاءٍ -وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَاْمِيَّةٌ- فَمَضْمَضَ
وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ
يَدَيْهِ مِنْ كُمِّهِ وكَانَا ضَيِّقَيْنِ،
فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتُ، فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ
بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
عبد الواحد) بن زياد قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران
(عن أبي الضحى مسلم هو ابن صبيح) بضم الصاد المهملة وفتح
الموحدة آخره حاء مهملة العطاردي وسقط لأبي ذر مسلم هو ابن
صبيح (عن مسروق) هو ابن الأجدع أنه (قال: حدّثني) بالإفراد
(المغيرة بن شعبة) -رضي الله عنه- (قال: انطلق رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحاجته) في غزوة تبوك
(ثم أقبل فلقيته بماء) بكسر القاف، ولأبوي ذر والوقت
والأصيلي: فتلقيته
(5/102)
بمثناة فوقية قبل اللام وفتح القاف مشدّدة
زاد في رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي فتوضأ (وعليه جبة
شامية) من نسج الكفار القارين بالشام لأنها إذ ذاك كانت
دارهم (فمضمض واستنشق وغسل وجهه فذهب يخرج يديه من كميه)
بالتثية فيهما (فكانا) بالفاء ولأبي ذر وكانا (ضيقين
فأخرجهما من تحت) بالبناء على الضم (فغسلهما ومسح برأسه
وعلى خفّيه).
وسبق هذا الحديث في الصلاة.
91 - باب الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ
(باب) جواز لبس (الحرير في الحرب) بحاء مهملة وسكون الراء
في رواية أبي ذر وله في نسخة في الجرب بجيم وفتح الراء
والأولى أولى بأبواب الجهاد على ما لا يخفى.
2919 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدامِ حَدَّثَنَا
خَالِدٌ بن الحارث حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ
أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ مِنْ
حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا". [الحديث 2919 - أطرافه في:
2920، 2921، 2922، 5839].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن المقدام) أبو الأشعث العجلي
البصري قال: (حدّثنا خالد بن الحرث) الجهيمي بضم الهاء
وفتح الجيم وسقط لغير أبي ذر ابن الحرث قال: (حدّثنا سعيد)
بكسر العين ابن أبي عروبة (عن قتادة) بن دعامة (أن أنسًا)
هو ابن مالك -رضي الله عنه- حدّثهم (أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص لعبد الرحمن بن عوف)
الزهري القرشي (والزبير) بن العوّام (في) لبس (قميص من
حرير من) أجل (حكة كانت بهما).
قال النووي كغيره: والحكمة في لبس الحرير للحكة لما فيه من
البرودة، وتعقب بأن الحرير حار فالصواب فيه أن الحكمة فيه
لخاصية فيه تدفع الحكة ولمسلم من طريق أبي كريب عن أبي
أسامة عن سعيد بن أبي عروبة: رخص لعبد الرحمن بن عوف
والزبير بن العوّام في القميص الحرير في السفر من حكة كانت
بهما أو وجع كان بهما. أخرجه مسلم في اللباس وكذا أبو داود
وابن ماجه وأخرجه النسائي في الزينة.
2920 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
سِنَانٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ
-رضي الله عنه- "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ
وَالزُّبَيْرَ شَكَوَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَعْنِي الْقَمْلَ- فَأَرْخَصَ لَهُمَا
فِي الْحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ".
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
قال: (حدّثنا همام) هو ابن يحيى العوذي (عن قتادة) بن
دعامة (عن أنس) -رضي الله عنه-.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سنان) بكسر السين وتخفيف النون
العوقي بفتح العين المهملة والواو وبالقاف المكسورة كان
ينزل العوقة وهم بطن من عبد القيس فنسب إليهم قال: (حدّثنا
همام) العوذي (عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- أن عبد
الرحمن بن عوف والزبير) بن العوّام (شكوا) بالواو ولأبي ذر
والأصيلي: شكيا بالياء وصوّب ابن التين الأول لأن لام
الفعل منه واو كدعوا الله ربهما. وأجيب: بأن في الصحاح
يقال شكيت وشكوت (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يعني القمل) وكأن الحكة نشأت عن أثر القمل
فنسبت العلة إلى السبب أو العلة بأحد الرجلين (فأرخص لهما
في) لبس (الحرير)، بهمزة مفتوحة فراء ساكنة قال أنس
(فرأيته) بالهاء ولأبي ذر فرأيت (عليهما في غزاة).
والظاهر أن المؤلّف أخذ قوله في الترجمة في الحرب من قوله
هنا في غزاة، وقد أجاز الشافعي وأبو يوسف استعمال الحرير
للضرورة كفجأة حرب ولم يجد غيره ومنعه مالك وأبو حنيفة
مطلقًا، ولعل الحديث لم يبلغهما. ونقل ابن حبيب عن ابن
الماجشون استحباب لبس الحرير في الجهاد والصلاة به حينئذ
إرهابًا للعدوّ ولقذف الرعب والخشية في قلوبهم، ولذا رخص
في الاختيال في الحرب وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي
دجانة وهو يتبختر في مشيته (إنها لمشية يبغضها الله إلا في
هذا الموطن).
2921 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ
قَالَ: "رَخَّصَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي حَرِيرٍ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثني يحيى)
القطان (عن شعبة) بن الحجاج أنه قال: (أخبرني) بالإفراد
(قتادة) بن دعامة (أن أنساً حدّثهم قال): (رخص النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعبد الرحمن بن عوف
والزبير بن العوّام في) لبس (حرير) ولم يذر العلة والسبب
فهو محمول على السابقة.
2922 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسٍ "رَخَّصَ -أَوْ رُخِّصَ- لَهُمَا لِحِكَّةٍ
بِهِمَا".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة
وتشديد الشين المعجمة بندار العبدي البصري قال: (حدّثنا
غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال:
سمعت قتادة عن
أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال): (رخص) بفتح الراء والخاء
مبنيًّا للفاعل، وأخرجه أحمد عن غندر بلفظ: رخص رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (-أو رخص-) بضم الراء
وكسر الخاء مبنيًّا للمفعول والشك من الراوي وزاد أبو ذر
(لهما) أي لعبد الرحمن بن عوف والزبير أي في الحرير (لحكة)
أي
(5/103)
لأجل حكة (بهما) ولم يذكر في هذه الرواية
الحرير للعلم به من السابقة وكالحكة فيما ذكر الحر والبرد
ودفع القمل وسواء في ذلك السفر والحضر، وقيل: يجوز في
السفر دون الحضر لورود الرخصة فيه والمقيم تمكنه المداواة،
وسوف يكون لنا عودة إن شاء الله تعالى إلى مباحث ذلك في
كتاب اللباس بعون الله وقوته.
92 - باب مَا يُذْكَرُ فِي السِّكِّينِ
(باب ما يذكر في السكين) بكسر السين أي من جواز الاستعمال.
2923 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْكُلُ مِنْ كَتِفٍ يَحْتَزُّ
مِنْهَا، ثُمَّ دُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى وَلَمْ
يَتَوَضَّأْ". حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَزَادَ "فَأَلْقَى
السِّكِّينَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي المدني
قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني (عن ابن شهاب)
الزهري (عن جعفر بن عمرو بن أمية) المدني ولأبي ذر زيادة
الضمري بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم (عن أبيه) عمرو
بفتح العين -رضي الله عنه- أنه (قال: رأيت النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأكل من كتف) أي من لحم كتف
شاة في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أو في بيت
ميمونة حال كونه (يحتز) بالحاء المهملة والزاي المشددة أي
يقطع (منها ثم دعي إلى الصلاة) في النسائي أن الذي دعاه
بلال (فصلّى ولم يتوضأ) فلم يجعله ناقضًا للوضوء.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
إلخ. (وزاد: فألقى السكين) وبهذه الزيادة تحصل المطابقة
بين الترجمة والحديث، ووجه إدخال الحديث هنا كون السكين من
أنواع السلاح.
وقد مرّ الحديث في باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة من كتاب
الوضوء ويأتي إن شاء الله تعالى في الأطعمة.
93 - باب مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّومِ
(باب ما قيل في قتال الروم) أي من الفضل.
2924 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي
ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ
عُمَيْرَ بْنَ الأَسْوَدِ الْعَنْسِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ
أَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَهْوَ نَازِلٌ فِي
سَاحِلِ حِمْصَ وَهْوَ فِي بِنَاءٍ لَهُ وَمَعَهُ أُمُّ
حَرَامٍ، قَالَ عُمَيْرٌ: فَحَدَّثَتْنَا أُمُّ حَرَامٍ
أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي
يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا. قَالَتْ أُمُّ
حَرَامٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ:
أَنْتِ فِيهِمْ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي
يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ. فَقُلْتُ:
أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لاَ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسحق بن يزيد) من الزيادة هو
ابن إبراهيم ونسبه لجده لشهرته به الفراديسي (الدمشقي)
قال: (حدّثنا) وفي نسخة: حدّثني بالإفراد (يحيى بن حمزة)
بن واقد الحضرمي أبو عبد الرحمن الدمشقي قال: حدّثني)
بالإفراد (ثور بن يزيد) من الزيادة وثور بالمثلثة الحمصي
(عن خالد بن معدان) بفتح الميم وسكون العين المهملة
الكلاعي (أن عمير بن الأسود) بضم العين مصغرًا (العنسي)
بفتح العين المهملة وسكون النون وبالسين المهملة حمصي سكن
داريًا مخضرم من كبار التابعين ليس له في البخاري سوى هذا
الحديث (حدّثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحل
حمص وهو في بناء له ومعه) زوجته (أم حرام) بنت ملحان (قال
عمير: فحدّثتنا أم حرام أنها سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(أول جيش من أمتي يغزون البحر) هو جيش معاوية (قد أوجبوا)
لأنفسهم المغفرة والرحمة بأعمالهم الصالحة (قالت أم حرام:
قلت يا رسول الله أنا فيهم؟ قال) عليه الصلاة والسلام (أنت
فيهم) (ثم قال النبي): (أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر)
ملك الروم يعني القسطنطينية (مغفور لهم) قالت أم حرام
(فقلت أنا فيهم يا رسول الله؟ قال): (لا) فركبت البحر زمن
معاوية لما غزا قبرس سنة ثمان وعشرين، فلما رجعت قربت دابة
لتركبها فوقعت فاندقت عنقها فماتت وكان أول من غزا مدينة
قيصر يزيد بن معاوية ومعه جماعة من سادات الصحابة كابن
عمرو بن عباس وابن الزبير وأبي أيوب الأنصاري وتوفي بها
سنة اثنتين وخمسين من الهجرة، واستدلّ به المهلب على ثبوت
خلافة يزيد وأنه من أهل الجنة لدخوله في عموم قوله مغفور
لهم.
وأجيب: بأن هذا جارٍ على طريق الحمية لبني أمية ولا يلزم
من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا خلاف
أن قوله عليه الصلاة والسلام "مغفور لهم" مشروط بكونه من
أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد ممن غزاها بعد ذلك لم يدخل
في ذلك العموم اتفاقًا قاله ابن المنير، وقد أطلق بعضهم
فيما نقله المولى سعد الدين اللعن على يزيد لما أنه كفر
حين أمر بقتل الحسين، واتفقوا على جواز اللعن على من قتله
أو أمر به أو أجازه ورضي به، والحق أن رضا يزيد بقتل
الحسين واستبشاره بذلك وإهانته أهل بيت النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما تواتر معناه وإن كان
تفاصيلها آحادًا فنحن لا نتوقف
(5/104)
في شأنه بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى
أنصاره وأعوانه اهـ.
ومن يمنع يستدل بأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لعن
المصلين ومن كان من أهل القبلة.
94 - باب قِتَالِ الْيَهُودِ
(باب) إخبار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن
(قتال اليهود) الكائن في مستقبل الزمان.
2925 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ
حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تُقَاتِلُونَ
الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِئ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ
فَيَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي
فَاقْتُلْهُ». [الحديث 2925 - طرفه في: 2593].
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن محمد الفروي) بفتح الفاء وسكون
الراء منسوب إلى جدّه أبي فروة قال: (حدّثنا مالك) الإمام
(عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر -رضي الله
عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال): مخاطبًا للحاضرين والمراد غيرهم من أمته.
(تقاتلون اليهود) لأن هذا إنما يكون إذا نزل عيسى عليه
السلام فإن المسلمين يكونون معه واليهود مع الدجال (حتى
يختبئ) بالخاء المعجمة والهمز وتركه أي يختفي (أحدهم وراء
الحجر فيقول): أي الحجر حقيقة (يا عبد الله هذا يهودي
ورائي فاقتله).
2926 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ
عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا
الْيَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ
الْيَهُودِيُّ: يَا مُسْلِمُ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي
فَاقْتُلْهُ».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه قال:
(أخبرنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن عمارة بن القعقاع عن
أبي زرعة) بن عمرو بن جرير البجلي (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود) الذين يكونون مع
الدجال عند نزول عيسى عليه السلام (حتى يقول الحجر وراءه
اليهودي يا مسلم: هذا يهودي ورائي فاقتله). فيه إشارة إلى
بقاء دين المسلمين إلى أن ينزل عيسى عليه السلام فإنه الذي
يقاتل الدجال ويستأصل اليهود الذين معه.
95 - باب قِتَالِ التُّرْكِ
(باب قتال) المسلمين مع (الترك) الذي هو من أشراط الساعة.
2927 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ
بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ مِنْ
أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا
يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ،
وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا
قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ
الْمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ". [الحديث 2927 - طرفه في:
3592].
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال:
(حدّثنا جرير بن حازم) بالحاء المهملة والزاي (قال: سمعت
الحسن) البصري (يقول: حدّثنا عمرو بن تغلب) بفتح العين
وسكون الميم وتغلب بفتح المثناة الفوقية وسكون الغين
المعجمة وبعد اللام المكسورة موحدة العبدي (قال: قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن من أشراط الساعة) من علامات يوم القيامة (أن تقاتلوا
قومًا ينتعلون نعال الشعر) بفتح العين وتسكن والنعال جمع
نعل أي أنهم يجعلون نعالهم من حبال ضفرت من الشعر أو
المراد طول شعورهم وكثافتها فهم لذلك يمشون فيها (وإن من
أشراط الساعة أن تقاتلوا قومًا عراض الوجوه كأن وجوههم
المجان) بفتح الميم والجيم وبعد الألف نون مشددة جمع مجن
بكسر الميم أي الترس (المطرقة). بضم الميم وسكون الطاء
المهملة وفتح الراء مخففة، ولأبي ذر: المطرقة بفتح الطاء
وتشديد الراء والأولى هي الفصيحة المشهورة في الرواية وكتب
اللغة وهي التي ألبست الطراق وهي جلدة تقدر على قدر الدرقة
وتلصق عليها. قال البيضاوي: شبه وجوههم بالترس لبسطها
وتدويرها وبالمطرقة لغلظها وكثرة لحمها.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله (عراض الوجوه) لأنه وصف
للترك.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في علامات النبوة وابن ماجه في
الفتن.
2928 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ الأَعْرَجِ
قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ،
صِغَارَ الأَعْيُنِ حُمْرَ الْوُجُوهِ، ذُلْفَ الأُنُوفِ،
كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ، وَلاَ
تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا
نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ». [الحديث 2928 - أطرافه في: 2929،
3587، 3590، 3591].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (سعيد بن
محمد) الجرمي بالجيم الكوفي قال: (حدّثنا يعقوب) بن
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال:
(حدّثنا أبي) إبراهيم (عن صالح) هو ابن كيسان (عن الأعرج)
عبد الرحمن بن هرمز أنه (قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك)، هم كما قال ابن عبد
البر: ولد يافث وهم أجناس كثيرة أصحاب مدن وحصون ومنهم قوم
في رؤوس الجبال والبراري ليس لهم عمل سوى الصيد ويأكلون
الرخم والغربان وليس لهم دين ومنهم من يتدين بدين المجوس
وهم الأكثرون ومنهم من يتهود وفيهم سحرة (صغار الأعين حمر
الوجوه) بإسكان الميم أي بيض الوجوه مشربة بحمرة لغلبة
البرد على
أجسامهم (ذلف الأنوف)، بنصب الثلاثة صفة للمفعول السابق
وذلف بضم الذال المعجمة وسكون اللام جمع أذلف أي فطس
الأنوف قصارها مع انبطاح، وقيل غلظ في الأرنبة، وقيل تطامن
وكل متقارب (كأن وجوههم المجان المطرقة). ولأبي ذر:
المطرقة بتشديد الراء أي التي ألبست
(5/105)
الأطرقة من الجلود وهي الأغشية تقول: طارقت
بين النعلين أي جعلت إحداهما على الأخرى. (ولا تقوم الساعة
حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر). ولمسلم من طريق سهل بن
أبي صالح عن أبي هريرة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر.
96 - باب قِتَالِ الَّذِينَ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ
(باب قتال) القوم (الذين ينتعلون الشعر) وهم من الترك
أيضًا وسقط لغير الكشميهني لفظ الشعر.
2929 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا
نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ
الْمُطَرَّقَةُ». قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ فِيهِ أَبُو
الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رِوَايَةً «صِغَارَ الأَعْيُنِ، ذُلْفَ الأُنُوفِ، كَأَنَّ
وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن
سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا) أي من الترك (نعالهم
الشعر) أي متخذة منه (ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا
كأن وجوههم المجان) التروس (المطرقة). التي يطرق بعضها على
بعض كالنعل المطرقة المخصوفة إذا طرق بعضها فوق بعض ولأبي
ذر المطرّقة بتشديد الراء.
(قال سفيان) بن عيينة بالسند السابق (وزاد فيه أبو الزناد)
بكسر الزاي وتخفيف النون عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج)
عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (رواية)
لا على سبيل المذاكرة أي قاله عند النقل والتحمل لا عند
القال والقيل قاله الكرماني وقال الحافظ ابن حجر رواية هو
عوض قوله عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(صغار الأعين) بالنصب على المفعولية (ذلف الأنوف) فطسها مع
القصر (كأن وجوههم المجان المطرقة) ولأبي ذر: المطرقة بفتح
الطاء وتشديد الراء ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد لما ذكر
هنا في علامات النبوة بعون الله. وعند البيهقي: (إن أمتي
يسوقها قوم عراض الوجوه كأن وجوههم الحجف) ثلاث مرات (حتى
يلحقونهم بجزيرة العرب) قالوا: يا نبي الله من هم؟ قال:
(الترك والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد
المسلمين).
97 - باب مَنْ صَفَّ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ
وَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَاسْتَنْصَرَ
(باب من صف أصحابه عند الهزيمة) وثبت هو (ونزل عن دابته
واستنصر) أي بالله ولأبي ذر فاستنصر بالفاء بدل الواو.
2930 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الحرّانيُّ
حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ:
سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: أَكُنْتُمْ
فَرَرْتُمْ يَا أَبَا عُمَارَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ- قَالَ:
لاَ وَاللَّهِ، مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ
أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلاَحٍ،
فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي
نَصْرٍ، مَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ،
فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ،
فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ
وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ
ثُمَّ قَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ
عَبْدِ الْمُطَّلِبْ. ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ".
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين وسكون الميم
(الحراني) الجزري وسقط لفظ الحراني لغير أبي ذر قال:
(حدّثنا زهير) بضم الزاي مصغرًا ابن معاوية قال: (حدّثنا
أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (قال: سمعت البراء)
هو ابن عازب -رضي الله عنه- (وسأله رجل) هو من قيس كما عند
المؤلّف في غزوة حنين (أكنتم فررتم يا أبا عمارة) بضم
العين وتخفيف الميم وهي كنية أبي الدرداء (يوم) وقعة
(حنين)؟ أي أفررتم كلكم فيدخل فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال): أي البراء (لا والله ما ولى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنه خرج
شبان أصحابه وأخفاؤهم) اللذين ليس معهم سلاح يثقلهم ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي وخفافهم حال كونهم (حسرًا) بضم
الحاء وفتح السين المشدّدة المفتوحة المهملتين (ليس بسلاح)
أي ليس أحدهم متلبسًا بسلاح فاسم ليس مضمر وقيل الحاسر
الذي لا درع له ولا مغفر (فأتوا قومًا رماة) بنصب قومًا
(جمع هوازن) بنصب جمع بدل من قومًا ويجوز رفعه على أنه خبر
مبتدأ محذوف أي هم جمع هوازن وجر هوازن بالفتحة لأنه لا
ينصرف (وبني نصر)، بالصاد المهملة قبيلة من بني أسد (ما
يكاد يسقط لهم سهم)، في الأرض من جودة رميهم، ويحتمل أن
يكون في كاد ضمير شأن مستتر والجملة الفعلية خبر كاد،
ويحتمل أن يكون سهم اسمها ويسقط لهم خبرها مثل ما كاد يقوم
زيد على خلاف فيه (فرشقوهم رشقًا) أي رموهم بالنبل (ما
يكادون يخطئون فأقبلوا) أي المسلمون (هنالك إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو على بغلته
البيضاء) التي أهداها له ملك أيلة أو فروة الجذامي (وابن
عمه) مبتدأ والواو للحال (أبو سفيان بن الحرث بن عبد
المطلب يقول به)، خبر المبتدأ وفي طريق شعبة عن أبي إسحاق
في باب من قاد دابة غيره في الحرب وأن أبا سفيان آخذ
بلجامها (فنزل) عليه الصلاة والسلام عن بغلته (واستنصر) أي
دعا بالله النصر فنصره الله تعالى إذ رماهم بالتراب كما
سيأتي إن شاء الله تعالى بعونه في
(5/106)
المغازي. (ثم قال):
(أنا النبي لا كذب)، أي فلست بكاذب في قولي حتى أنهزم (أنا
ابن عبد المطلب) بسكون باء كذب والمطلب وانتسب لجده لشهرته
به بخلاف أبيه عبد الله فإنه مات شابًّا أو لغير ذلك مما
سبق عند ذكره في الجهاد (ثم صف أصحابه) الذين ثبتوا معه
بعد هزيمة من انهزم لكثرة العدو بأن كانوا ضعفهم أو أكثر
أو نووا العود عند الإمكان.
98 - باب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْهَزِيمَةِ
وَالزَّلْزَلَةِ
(باب الدعاء) أي دعاء الإمام (على المشركين) عند الحرب
(بالهزيمة والزلزلة).
2931 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
عِيسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ
عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ
الأَحْزَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ
وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنِ صَلاَةِ الْوُسْطَى
حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ». [الحديث 2931 - أطرافه في:
4111، 4533، 6396].
وبه قال: (حدثنا إبراهيم بن موسى) بن يزيد الفراء الرازي
الصغير قال: (أخبرنا عيسى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي
قال: (حدّثنا هشام) قال في الفتح: هو الدستوائي، وزعم
الأصيلي أنه ابن حسان ورام بذلك تضعيف الحديث فأخطأ من
وجهين وتجاسر الكرماني فقال: المناسب أنه هشام بن عروة،
وتعقبه في العمدة فقال: هو الذي تجاسر حيث قال إنه هشام
الدستوائي وليس هو بالدستوائي وإنما هو هشام بن حسان مثل
ما قال الأصيلي، وكذا نص عليه الحافظ المزي في الأطراف في
موضعين، وكذا قال الكرماني ثم قال: لكن المناسب لما مر في
شهادة الأعمى هشام بن عروة فلم يظهر منه تجاسر لأنه لم
يجزم بأنه هشام بن عروة وإنما غرّته رواية عيسى بن يونس عن
هشام عن أبيه عروة في الباب المذكور فظن أن هاهنا أيضًا
كذلك انتهى.
وسيأتي في غزوة الأحزاب إن شاء الله تعالى أن ابن حجر قال
فيها: كنت ذكرت في الجهاد أنه الدستوائي لكن جزم المزي في
الأطراف بأنه ابن حسان ثم وجدته مصرحًا به في عدة طرق فهذا
المعتمد وأما تضعيف الأصيلي للحديث به فليس بمعتمد كما
سأوضحه في التفسير إن شاء الله تعالى.
(عن محمد) هو ابن سيرين (عن عبيدة) بفتح العين ابن عمرو
السلماني الكوفي (عن عليّ) هو ابن أبي طالب (-رضي الله
عنه-) أنه (قال لما كان يوم) وقعة الأحزاب قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(ملأ الله بيوتهم) أي بيوت الكفار أحياء وقبورهم أمواتًا
(نارًا، شغلونا) بقتالهم (عن الصلاة) ولأبي ذر عن صلاة
(الوسطى حين) أي وقت ولأبي ذر حتى (غابت الشمس). وفي مسلم
عن ابن مسعود إن المشركين حبسوهم عن صلاة العصر حتى احمرت
الشمس أو اصفرت، ومقتضاه أنه لم يخرج الوقت وجمع بينه وبين
سابقه بأن الحبس انتهى إلى وقت الحمرة أو الصفرة ولم تقع
الصلاة إلا
بعد المغرب، واختلف في الصلاة الوسطى على أقوال وللحافظ
الشرف الدمياطي تأليف مفرد في ذلك سماه كشف المغطى عن حكم
الصلاة الوسطى. قيل: والمطابقة بين الترجمة والحديث في
قوله: (ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا)، لأن في إحراق
بيوتهم غاية التزلزل في أنفسهم.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي والدعوات والتفسير
ومسلم في الصلاة وكذا أبو داود والنسائي وأخرجه الترمذي في
التفسير.
2932 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ
ابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو فِي الْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ
أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ
الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ
بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُمَّ
اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ
كَسِنِي يُوسُفَ".
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بن عقبة السوائي قال (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن ابن ذكوان) عبد الله (عن الأعرج) عبد
الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو في
القنوت) في الصبح بعد الرفع من الركوع في الثانية.
(اللهم أنجِ سلمة بن هشام، اللهم أنجِ الوليد بن الوليد،
اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنجِ المستضعفين من
المؤمنين) من العام بعد الخاص وهمزة إلخ في الأَربعة همزة
قطع مفتوحة والجيم مكسورة (اللهم اشدد وطأتك) بفتح الواو
وسكون الطاء المهملة أي بأسك وعقوبتك أو أخذتك الشديدة
(على مضر) بضم الميم وفتح الضاد المعجمة غير منصرف لأنه
علم للقبيلة (اللهم سنين) نصب بتقدير اجعل (كسني يوسف) بن
يعقوب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي غلاء
كالغلاء الواقع في زمنه بمصر.
ومطابقة الحديث للترجمة من قوله اللهم اشدد وطأتك، لأنها
أعمّ من أن تكون بالهزيمة أو الزلزلة أو بغير ذلك من
الشدائد، وقد سبق هذا الحديث في أول الاستسقاء.
2933 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى
-رضي الله عنه- يَقُولُ: "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ،
سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأَحْزَابَ،
اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ". [الحديث 2933 -
أطرافه في: 2965، 3025، 4115، 6392، 7489].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) مردويه السمسار الرازي
قال: (أخبرنا عبد الله) بن
(5/107)
المبارك قال: (أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد)
الأحمسي البجلي الكوفي واسم أبي خالد سعد (أنه سمع عبد
الله بن أبي أوفى) علقمة بن خالد الأسلمي (-رضي الله
عنهما- يقول: دعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يوم الأحزاب على المشركين فقال):
(اللهم) أي يا الله يا (منزل الكتاب) القرآن يا (سريع
الحساب) قال الكرماني: أما أن يراد به سريع حسابه بمجيء
وقته وأما أنه سريع في الحساب (اللهم اهزم الأحزاب) أي
اكسرهم وبدّد شملهم (اللهم اهزمهم وزلزلهم) فلا يثبتوا عند
اللقاء بل تطيش عقولهم وترعد أقدامهم.
ومطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة، وإنما خص الدعاء عليهم
بالهزيمة والزلزلة دون أن يدعو عليهم بالهلاك لأن الهزيمة
فيها سلامة نفوسهم وقد يكون ذلك رجاء أن يتوبوا من الشرك
ويدخلوا في الإسلام والإهلاك لما حق لهم مفوت لهذا المقصد
الصحيح.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي والتوحيد والدعوات
ومسلم في المغازي والترمذي وابن ماجه في الجهاد والنسائي
في السير.
2934 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي ظِلِّ
الْكَعْبَةِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ،
وَنُحِرَتْ جَزُورٌ بِنَاحِيَةِ مَكَّةَ فَأَرْسَلُوا
فَجَاءُوا مِنْ سَلاَهَا وَطَرَحُوهُ عَلَيْهِ، فَجَاءَتْ
فَاطِمَةُ فَأَلْقَتْهُ عَنْهُ، فَقَالَ اللَّهُمَّ
عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ،
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، لأَبِي جَهْلِ بْنِ
هِشَامٍ وَعُقْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُبَىِّ بْنِ
خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ
قَتْلَى". قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَنَسِيتُ السَّابِعَ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ "أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ"، وَقَالَ شُعْبَةُ:
"أُمَيَّةُ أَوْ أُبَىٌّ". وَالصَّحِيحُ أُمَيَّةُ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن أبي شيبة) العبسي الكوفي أخو
عثمان قال: (حدّثنا جعفر بن عون) بفتح العين المهملة وبعد
الواو الساكنة نون القرشي الكوفي قال: (حدّثنا سفيان)
الثوري (عن أبي إسحاق) عمرو السبيعي (عن عمرو بن ميمون)
بفتح العين الأزدي الكوفي أدرك الجاهلية (عن عبد الله) بن
مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كان النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلّي في ظل الكعبة فقال أبو
جهل): عمرو بن هشام فرعون هذه الأمة (وناس من قريش) هو في
الدعاء الآتي فيه (ونحرت جزور بناحية مكة) جملة خالية
معترضة بين قول أبي جهل ومن معه ومقولهم المحذوف المقدر
بقوله هاتوا من سلا الجزور التي نحرت (فأرسلوا) إليها
(فجاؤوا) بشيء (من سلاها) بفتح السين المهملة وتخفيف اللام
مقصورًا من جلدتها الرقيقة التي يكون فيها الولد من
المواشي (وطرحوه عليه) ولأبي ذر: وطرحوا بحذف الضمير وكان
الذي طرحه عقبة بن أبي معيط (فجاءت فاطمة) الزهراء -رضي
الله عنها- (فألقته عنه) عليه الصلاة والسلام واستدلّ به
المالكية على طهارة روث المأكول لحمه. وأجاب من قال
بنجاسته بأنه لم يكن في ذلك الوقت تعبد به، وأيضًا ليس في
السلا دم فهو كعضو منها فإن قيل:
هو ميتة؟ أجيب: باحتمال أنه كان قبل تحريم ذبائح أهل
الأوثان، وإن قيل: كان معه فرث ودم؟ قيل: لعله كان قبل
التعبد بتحريمه. (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش)،
قالها ثلاثًا (لأبي جهل بن هشام) اللام للبيان نحو: {هيت
لك} [يوسف: 23] أي هذا الدعاء مختص به أو للتعليل أي دعا
أو قال لأجل أبي جهل (وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة
والوليد بن عتبة) بضم العين وسكون الفوقية (وأُبيّ بن خلف)
بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية (وعقبة بن أبي
معيط) بضم الميم وفتح العين وعقبة بسكون القاف.
(قال عبد الله): هو ابن مسعود (فلقد رأيتهم في قليب بدر
قتلى). مفعول ثانٍ لرأيتهم والقليب البئر أن تطوى. (قال
أبو إسحاق) السبيعي بالسند السابق (ونسيت السابع) هو عمارة
بن الوليد (وقال يوسف بن إسحاق) ولأبي ذر قال أبو عبد الله
أي البخاري قال يوسف بن أبي إسحاق نسبه إلى جده (عن) جده
(أبي إسحاق) عمرو السبيعي مما وصله في الطهارة (أمية بن
خلف) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية بدل من قوله في
رواية سفيان الثوري عنه أُبيّ بن خلف (وقال شعبة) بن
الحجاج فيما وصله في كتاب المبعث عن أبي إسحاق (أمية أو
أبي) بالشك وكأنه حدث به مرة أمية ومرة أبي وحدّث به أخرى
فشك فيه أو الشك من شعبة وهو الظاهر. قال البخاري
(والصحيح) أنه (أمية) لا أُبيّ لأن أُبيًّا قتله النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده يوم أُحُد بعد
بدر.
ورواة هذا الحديث كوفيون وفيه رواية التابعي عن التابعي عن
الصحابي، وسبق في باب المرأة تطرح عن المصلي شيئًا من
الأذى من كتاب الصلاة.
2935 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا
عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ، فَلَعَنْتُهُمْ. فَقَالَ:
مَا لَكِ؟ قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ:
فَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ". [الحديث 2935
- أطرافه في: 6024، 6030، 6256، 6395، 6401، 6927].
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن
(5/108)
حرب) الواشحي قال: (حدّثنا حماد) هو ابن
زيد عن أيوب السختياني (عن ابن أبي مليكة) بضم الميم وفتح
اللام وسكون التحتية وفتح الكاف عبد الله، واسم أبي مليكة
زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي الأحول (عن عائشة -رضي
الله عنها- أن اليهود دخلوا على النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: السام) بتخفيف الميم الموت
(عليك) قالت عائشة (فلعنتهم). ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي: ولعنتهم (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(ما لك) بكسر الكاف أي أيّ شيء حصل لك حتى لعنتهم؟ فأجابت
بقولها (قلت): ولأبي ذر: (قالت أو لم تسمع ما قالوا؟ قال):
(فلم تسمعي ما قلت وعليكم) أي السام فرددت عليهم ما
قالوا فإن ما قلت يستجاب لي وما قالوا يرد عليهم. قال
الخطابي: رواية المحدثين وعليكم بالواو، وكان ابن عيينة
يرويه بحذفها وهو الصواب لأنه إذا حذفها صار قولهم مردودًا
عليهم، وإذا أثبتها وقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه
لأن الواو حرف عطف ولا اجتماع بين الشيئين. قال الزركشي:
وفيه نظر إذ المعنى ونحن ندعوا عليكم بما دعوتم به علينا
على أنّا إذا فسّرنا السام بالموت فلا إشكال لاشتراك الخلق
فيه اهـ.
وقال من فسرها بالموت فلا تبعد الواو، ومن فسرها بالسآمة
فإسقاطها هو الوجه. وقال ابن الجوزي: وكان قتادة يمدّ ألف
السام اهـ.
لكن إثبات الواو أصح في الراية وأشهر، وستكون لنا عودة إلى
مباحث ذلك مع مزيد فرائد الفوائد إن شاء الله تعالى في
محاله بعون الله وقوّته.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الأدب والدعوات.
99 - باب هَلْ يُرْشِدُ الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْكِتَابِ
أَوْ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ؟
هذا (باب) بالتنوين (هل يرشد المسلم أهل الكتاب) إلى طريق
الهدى ويعرفهم بمحاسن الإسلام ليرجعوا إليه (أو يعلمهم
الكتاب)؟ أي القرآن رجاء أن يرغبوا في دين الإسلام.
2936 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَخْبَرَهُ "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ وَقَالَ: فَإِنْ تَوَلَّيْتَ
فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ". [الحديث 2936 -
طرفه في: 2940].
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) بن منصور بن كوسج المروزي قال:
(أخبرنا يعقوب بن إبراهيم) بن سعد بن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف القرشي الزهري قال: (حدّثنا ابن أخي ابن
شهاب) محمد بن عبد الله (عن عمه) محمد بن مسلم بن شهاب
الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين
مصغرًا (ابن عبد الله بن عتبة) بضم العين وسكون الفوقية
بعدها موحدة (ابن مسعود أن عبد الله بن عباس -رضي الله
عنهما- أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كتب إلى قيصر) وهو هرقل ملك الروم (وقال): فيما
كتبه إليه:
(فإن توليت) عن الإسلام (فإن عليك) مع إثمك (إثم
الأريسيين) بهمزة مفتوحة فراء مكسورة فتحتية ساكنة فسين
مهملة مكسورة فتحتية مشددة فأخرى ساكنة آخره نون أي
الزراعين فأرشده إلى طريق الهدى والحق، والظاهر أن المؤلّف
استنبط ما ترجم به من كونه عليه الصلاة والسلام كتب له بعض
القرآن بالعربية فكأنه سلطه على تعليمه أوّلاً بقراءته حتى
يترجم له ولا يترجم حتى يعرف
المترجم كيفية استخراجه فتحصل المطابقة بين الترجمة
والحديث من كتابته القرآن ومن مكاتبته، وقد
منع مالك من تعليم المسلم الكافر القرآن وأجازه أبو حنيفة
واحتج له الطحاوي بهذا الحديث مع قوله
تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام
الله} [التوبة: 6] وبحديث
أسامة: مرّ النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على
ابن أُبيّ قبل أن يسلم، وفي المجلس أخلاط من المسلمين
والمشركين فقرأ
عليهم القرآن، وهذا أحد قولي الشافعي. قال في فتح الباري:
والذي يظهر أن الراجح التفصيل بين من يرجى منه الرغبة في
الدين والدخول فيه مع الأمن منه أن يتسلط بذلك إلى الطعن
فيه وبين من يتحقق أن لا ينجع فيه أو يظن أنه يتوصل بذلك
إلى الطعن في الدين.
100 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْهُدَى
لِيَتَأَلَّفَهُمْ
(باب الدعاء للمشركين بالهدى) إلى الإسلام (ليتألفهم).
2937 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه "قَدِمَ
طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ
وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ
دَوْسٌ. قَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ".
[الحديث 2937 - طرفاه في: 4392، 6397].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (أن عبد الرحمن) بن هرمز الأعرج (قال: قال أبو
هريرة -رضي الله عنه- قدم طفيل بن عمرو) بفتح العين وطفيل
بضم الطاء المهملة وفتح الفاء وسكون التحتية آخره لام
(الدوسي) بفتح الدال المهملة وبالسين المهملة
(5/109)
المكسورة (وأصحابه على النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهو بخيبر وكان أصحابه
ثمانين أو تسعين وهم الذين قدموا معه وهم أهل بيت من دوس
وكان قدم قبلها بمكة وأسلم وصدق (فقالوا): أي طفيل وأصحابه
(يا رسول الله إن دوسًا) قبيلة أبي هريرة (عصت) على الله
(وأبت)، أن تسمع كلام طفيل حين دعاهم إلى الإسلام (فادع
الله عليها) أي بالهلاك (فقيل: هلكت دوس. قال) عليه الصلاة
والسلام:
(اللهم اهدِ دوسًا) إلى الإسلام (وائت بهم): مسلمين وهذا
من كمال خلقه العظيم ورحمته ورأفته بأمته جزاه الله عنّا
أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته وصلّى عليه وعلى آله وصحبه
وسلم، وأما دعاؤه عليه الصلاة والسلام على بعضهم فذلك حيث
لا يرجو ويخشى ضررهم وشوكتهم.
101 - باب دَعْوَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ،
وَعَلَى مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ؟ وَمَا كَتَبَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى
كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَالدَّعْوَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ
(باب دعوة اليهودي والنصراني) أي إلى الإسلام، ولأبي ذر:
دعوة اليهود والنصارى (على ما يقاتلون عليه)؟ بفتح الفوقية
من يقاتلون (و) بيان (ما كتب النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى كسرى) ملك الفرس (وقيصر)، ملك
الروم ومعنى قيصر البقير في لغتهم لأن أمه لما أتاها الطلق
به ماتت فبقر بطنها عنه فخرج حيًّا وكان يفتخر بذلك لأنه
لم يخرج من فرج (و) بيان (الدعوة) إلى الإسلام (قبل
القتال).
2938 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -رضي
الله عنه- يَقُولُ: "لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ
قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ
أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ
فِضَّةٍ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ،
وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن الجعد) بفتح الجيم وسكون العين
المهملة ابن عبيد الجوهري الهاشمي مولاهم البغدادي قال:
(أخبرنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة أنه (قال:
سمعت أنسًا -رضي الله عنه- يقول: لما أراد النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكتب إلى) أهل (الروم قيل
له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا أن يكون مختومًا) كراهية أن
يقرأ كتابهم غيرهم وروى من كرامة الكتاب ختمه. وعن ابن
المقفع: من كتب إلى أخيه كتابًا ولم يختمه فقد استخف به.
(فاتخذ خاتمًا) أي فأمر أن يصنع له خاتم (من فضة) سنة ست
(فكأني أنظر إلى بياضه في) خنصر (يده) اليسرى كما في مسلم
أو اليمنى كما في الترمذي (ونقش فيه محمد رسول الله) ثلاثة
أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر لكن لم تكن كتابته على
الترتيب العادي فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به تقتضي
أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويًا، ولعل
مراد المؤلّف من الحديث قوله لما أراد أن يكتب لأنه يدل
على أنه قد كتب، وهو الذي ذكره ابن عباس في حديث طويل.
2939 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
أَخْبَرَهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى،
فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ
يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى. فَلَمَّا
قَرَأَهُ كِسْرَى خَرَّقَهُ، فَحَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدَ
بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُمَزَّقُوا
كُلَّ مُمَزَّقٍ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام (قال: حدّثني) بالإفراد (عقيل) بضم
العين وفتح القاف ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بتصغير عبد (ابن
عبد الله بن عتبة) بن مسعود (أن عبد الله بن عباس) -رضي
الله عنهما- (أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بعث بكتابه) مع عبد الله بن حذافة السهمي (إلى
كسرى فأمره) أي أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ابن حذافة (أن يدفعه إلى عظيم البحرين) المنذر
بن ساوى بفتح السين
المهملة والواو وكان من تحت يد كسرى والبحرين تثنية بحر
موضع بين البصرة وعمان وعبر بعظيم دون ملك لأنه لا ملك ولا
سلطنة للكفار (يدفعه عظيم البحرين إلى كسرى) فذهب به إلى
عظيم البحرين فدفعه إليه ثم دفعه عظيم البحرين إلى كسرى،
(فلما قرأه كسرى خرقه) بتشديد الراء بعد الخاء المعجمة وفي
طريق صالح عن ابن شهاب عند المؤلّف في كتاب العلم مزقه بدل
خرقه قال ابن شهاب: (فحسبت أن سعيد بن المسيب قال): لما
مزقه وبلغ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غضب
(فدعا عليهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أن) أي بأن (يمزقوا) أي بالتمزيق (كل ممزق). بفتح الزاي
فيهما أي يفرقوا كل نوع من التفريق فسلط على كسرى ابنه
شيرويه فقتله بأن مزق بطنه سنة سبع فتمزق ملكه كل ممزق
وزال من جميع الأرض واضمحل بدعوته -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وفي هذا الحديث الدعاء إلى الإسلام بالكلام والكتابة وأن
الكتابة تقوم مقام النطق، وقد اختلف في اشتراط الدعاء قبل
القتال، ومذهب الشافعية وجوب عرض الإسلام أوّلاً على
(5/110)
الكفار بأن ندعوهم إليه إن علمنا أنه لم
تبلغهم الدعوة وإلاّ استحب.
102 - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَالنُّبُوَّةِ،
وَأَنْ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ} [آل عمران: 79] إِلَى
آخِرِ الآيَةِ
(باب دعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى
الإسلام) ولأبي الوقت الناس إلى الإسلام (والنبوة) أي
الاعتراف بها (وأن لا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون
الله) لأن كلاًّ منهم بشر مثلهم. (وقوله تعالى): بالجر
عطفًا على السابق ({ما كان لبشر أن يؤتيه الله}) [آل
عمران: 79] وزاد في رواية أبي ذر: الكتاب (إلى آخر الآية).
وسقط لأبي ذر لفظ: إلى آخر، والمعنى ما ينبغي لبشر أن
يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس اعبدوني
مع الله، وإذا كان لا يصلح لنبي ولا لمرسل فلأن لا يصلح
لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى، وقد كان أهل الكتاب
يتعبدون لأحبارهم ورهبانهم كما قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا
إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلاّ هو سبحانه عما
يشركون} [التوبة: 31].
2940 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
-رضي الله عنهما- أَنَّهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَبَ إِلَى
قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَبَعَثَ
بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ،
وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى
لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا
كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ
فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا
أَبْلاَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ حِينَ قَرَأَهُ: الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا
مِنْ قَوْمِهِ لأَسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن حمزة) بالحاء المهملة والزاي
ابن محمد بن حمزة بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن
العوّام أبو إسحاق القرشي الأسدي الزبيري المدني قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف الزهري القرشي (عن صالح بن كيسان) بفتح
الكاف (عن ابن شهاب) الزهري (عن عببد الله بن عبد الله بن
عتبة) بن مسعود (عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه
أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كتب) كتابًا (إلى قيصر) ملك الروم واسمه هرقل (يدعوه) فيه
(إلى الإسلام وبعث) عليه الصلاة والسلام (بكتابه) هذا
(إليه) إلى قيصر (مع دحية الكلبي) في آخر سنة ست بعد أن
رجع من الحديبية (وأمره رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي أمر دحية (أن يدفعه إلى عظيم) أهل
(بصرى) بضم الموحدة وسكون الصاد المهملة وفتح الراء
مقصورًا مدينة حوران ذات قلعة بين الشام والحجاز وعظيمها
أميرها الحرث بن شمر الغساني (ليدفعه إلى قيصر، وكان قيصر
لما كشف الله عنه جنود فارس) عند غلبة جنود الروم عليهم في
سنة عمرة الحديبية (مشى من حمص) مجرور بالفتحة لأنه غير
منصرف للعلمية والتأنيث. وزاد ابن إسحاق عن الزهري أنه كان
يبسط له البسط ويوضع عليها الرياحين فيمشي عليها (إلى
إيلياء) بكسر الهمزة واللام بينهما تحتية ممدودة وهي بيت
المقدس (شكرًا لما أبلاه الله) بهمزة مفتوحة وموحدة ساكنة
أي أنعم الله عليه بدفع فارس عنه بعد أن ملكوا الشام وما
والاها من الجزيرة وأقاصي بلاد الروم واضطروا هرقل حتى
ألجؤوه إلى القسطنطينية وحاصروه فيها مدّة طويلة (فلما جاء
قيصر) وهو بإيلياء (كتاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الذي بعثه مع دحية فأعطاه دحية لعظيم
بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر فلما وصل إليه (قال حين
قرأه: التمسوا لي هاهنا أحدًا من قومه لأسألهم عن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي عن نسبه
وصفته ونعته وما يدعو إليه.
2941 - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو
سُفْيَانَ بنُ حَربٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّاْمِ فِي
رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ
الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. قَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ
الشّامِ، فَانْطَلَقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا
إِيلِيَاءَ، فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ
فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ، وَإِذَا
حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ. فَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ:
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا
الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. قَالَ:
مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ فَقُلْتُ هُوَ
ابْنُ عَمّ. وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ
مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي. فَقَالَ قَيْصَرُ:
أَدْنُوهُ. وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ
ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي. ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ:
قُلْ لأَصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنِ
الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَ
فَكَذِّبُوهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَوْلاَ
الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي
عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ،
وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ
عَنِّي
فَصَدَقْتُهُ. ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ
كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ
فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ. فَقَالَ: كُنْتُمْ
تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا
قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ
مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ
يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ
ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: فَيَزِيدُونَ أَم يَنْقُصُونَ؟
قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ
سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ:
لاَ. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ، وَنَحْنُ الآنَ
مِنْهُ فِي مُدَّةٍ نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ. قَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ
فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ -لاَ أَخَافُ أَنْ
تُؤْثَرَ عَنِّي- غَيْرُهَا. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ
أَوْ قَاتَلَكُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ
كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ؟ قُلْتُ: دُوَلاً
وَسِجَالاً: يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَالُ
عَلَيْهِ الأُخْرَى. قَالَ: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟
قَالَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ
نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ،
وَالصَّدَقَةِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ،
وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ. فَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ حِينَ
قُلْتُ ذَلِكَ لَهُ: قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ
نَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ،
وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ
قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ قُلْتُ
يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ
هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ
يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَعَرَفْتُ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ
آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ
كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ يَطْلُبُ مُلْكَ
آبَائِهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ
أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ
اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ
هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ
يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ
بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ،
فَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ
الْقُلُوبَ لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ
يَغدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ
يَغْدِرُونَ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ
وَقَاتَلَكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ، وَأَنَّ
حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلاً، وَيُدَالُ
عَلَيْكُمُ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الأُخْرَى،
وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا
الْعَاقِبَةُ. وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟
فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ
وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ ,
وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ،
وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ. قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيِّ
قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ
أَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا
فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ
وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ
لُقَاءِهِ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُرِئَ،
فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى
هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ
الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ
الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ
اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ
تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأَرِيسِيِّينَ {وَيَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ
وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:
64]. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى
مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ
عُظَمَاءِ الرُّومِ وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ، فَلاَ أَدْرِي
مَاذَا قَالُوا. وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا. فَلَمَّا
أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ
لَهُمْ: أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، هَذَا مَلِكُ
بَنِي الأَصْفَرِ يَخَافُهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلاً مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ
أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي
الإِسْلاَمَ وَأَنَا كَارِهٌ".
(قال ابن عباس): بالسند السابق: (فأخبرني أبو سفيان بن
حرب) وسقط لغير أبي ذر ابن حرب (أنه كان بالشام في رجال من
قريش) صفة لرجال وكانوا ثلاثين رجلاً كما عند الحاكم حال
كونهم (قدموا تجارًا) بكسر الفوقية وتخفيف الجيم (في المدة
التي كانت بين رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وبين كفار قريش) وهي مدة صلح الحديبية (قال أبو
سفيان: فوجدنا) بفتح الدال وفعل ومفعول (رسول قيصر) ببعض
الشام) قيل غزة المدينة المشهورة (فانطلق بي وبأصحابي)
رسول قيصر (حتى قدمنا إيلياء فأدخلنا عليه) بضم الهمزة
مبنيًّا للمفعول (فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج،
وإذا حوله عظماء الروم). وعند ابن السكن: وعنده بطارقته
والقسيسون والرهبان (فقال لترجمانه): بفتح التاء وقد تضم
وضم الجيم وهو المفسر لغة بلغة (سلهم أيهم أقرب نسبًا إلى
هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان فقلت: أنا
أقربهم إليه نسبًا. قال): قيصر (ما قرابة ما بينك وبينه؟
فقلت: هو ابن عمي) لأنه من بني
(5/111)
عبد مناف وهو الأب الرابع له -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأبي سفيان، ولأبي ذر: ابن
عم بإسقاط الباء وتنوين الميم (وليس في المركب يومئد أحد
من بني عبد مناف غيري. فقال قيصر: أدنوه) بهمزة مفتوحة أي
قربوه. زاد في أول الكتاب مني، وإنما أراد بذلك الإمعان في
السؤال. (وأمر بأصحابي) القرشيين (فجعلوا خلف ظهري عند
كتفي) لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالكذب إن كذب وكتفي بكسر
الفاء وتخفيف الياء في الفرع. (ثم قال لترجمانه: قل
لأصحابه إني سائل هذا الرجل) أبا سفيان (عن) الرجل (الذي
يزعم أنه نبي فإن كذب) في حديثه عنه (فكذبوه) بتشديد الدال
المكسورة (قال أبو سفيان: والله لولا الحياء يومئذ من أن
يأثر) بضم المثلثة بعد الهمزة الساكنة أي يروي ويحكي
(أصحابي عني الكذب لكذبته حين سألني عنه) عليه الصلاة
والسلام لبغضي إياه إذ ذاك (ولكني استحببت أن يأثروا الكذب
عني فصدقته) بتخفيف الدال المهملة (ثم قال): هرقل
(لترجمانه: قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم)؟ أي ما حال نسبه
أهو من أشرافكم أم لا؟ (قلت: هو فينا ذو نسب) عظيم (قال:
فهل قال هذا القول أحد منكم) من قريش (قبله؟ قلت: لا.
فقال: كنتم) أي هل كنتم؟ (تتهمونه على الكذب) وفي رواية
شعيب عن الزهري أول هذا الكتاب: فهل كنتم تتهمونه بالكذب؟
(قبل أن يقول ما قال: قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من
ملك) بكسر ميم من حرف جر وكسر لام ملك صفة مشبهة، ولأبي ذر
عن الحموي والمستملي: من ملك؟ بفتح ميم من اسم موصول وفتح
لام ملك فعل ماض. (قلت: لا. قال: فأشراف الناس)؟ أهل
النخوة والتكبر منهم
(يتبعونه) بتشديد الفوقية وإسقاط همزة الاستفهام وهو قليل
(أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم) أي اتبعوه (قال: فيزيدون أو
ينقصون)؟ وفي رواية شعيب أم بالميم بدل الواو (قلت: بل
يزيدون، قال: فهل يرتد أحد) منهم كما في رواية شعيب (سخطة
لدينه) بالنصب على الحال أي ساخطًا (بعد أن يدخل فيه؟ قلت:
لا. قال: فهل يغدر)؟ أي ينقض العهد (قلت: لا. ونحن الآن
منه في مدة) أي مدّة صلح الحديبية (نحن نخاف أن يغدر. قال
أبو سفيان. ولم تمكني) بالفوقية والذي في اليونينية
بالتحتية (كلمة أدخل فيها شيئًا أنتقصه به) وسقط في رواية
شعيب لفظ انتقصه به (لا أخاف أن تؤثر) أي تروى (عني غيرها.
قال: فهل قاتلتموه وقاتلكم؟ قلت: نعم. قال: فكيف كانت حربه
وحربكم؟ قلت: كانت دولاً) بضم الدال وكسرها وفتح الواو
(وسجالاً) بكسر السين بالجيم أي نوبًا نوبة لنا ونوبة له
كما قال (يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى) بضم أوّل
يدال وندال بالبناء للمفعول أي يغلبنا مرة ونغلبه أخرى
(قال: فماذا يأمركم)؟ زاد أبو ذر: به (قال): أبو سفيان
فقلت (يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك) ولأبي الوقت: ولا
نشرك (به شيئًا) بزيادة الواو وقيل لا (وينهانا عما كان
يعبد آباؤنا) من عبادة الأصنام (ويأمرنا بالصلاة) المعهودة
(والصدقة) المفروضة. وفي رواية شعيب: والصدق بدل الصدقة
(والعفاف) بفتح العين الكف عن المحارم وخوارم المروءة
(والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. فقال لترجمانه حين قلت ذلك
له. قل له إني سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه ذو نسب) أي
عظيم (وكذلك الرسل تُبعث في أشرف (نسب قومها، وسألتك هل
قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فزعمت أن لا. فقلت): في نفسي
(لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله قلت رجل يأتم) أي
يقتدي (بقول قد قيل قبله، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب
قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا. فعرفت أنه لم يكن ليدع
الكذب على الناس) قبل أن يظهر رسالته (ويكذب على الله) بعد
إظهارها. (وسألتك هل كان من آبائه من ملك فزعمت أن لا،
فقلت لو كان من آبائه ملك قلت يطلب ملك آبائه) بالجمع وفي
رواية شعيب أبيه بالإفراد (وسألتك أشراف الناس
(5/112)
يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فزعمت أن ضعفاءهم
اتبعوه وهم أتباع الرسل) غالبًا (وسألتك هل يزيدون أو) وفي
رواية شعيب أم (ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان)
فإنه لا يزال في زيادة (حتى يتم) أمره بالصلاة والزكاة
والصيام ونحوها، ولذا نزل في آخر سنيه عليه الصلاة والسلام
{اليوم أكملت لكم دينكم} الآية [المائدة: 3]. (وسألتك هل
يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا. فكذلك
الإيمان حين تخلط) بفتح المثناة وسكون الخاء المعجمة وبعد
اللام المكسورة طاء مهملة (بشاشته القلوب) بفتح الموحدة
والإضافة إلى ضمير الإيمان والقلوب نصب على المفعولية أي
تخالط بشاشة الإيمان القلوب التي يدخل فيها (لا يسخطه أحد)
وفي رواية ابن إسحاق: وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبًا
فتخرج منه. (وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا. وكذلك الرسل لا
يغدرون. وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أن قد فعل وأن
حربكم وحربه يكون دولاً وبدال) بالواو وسقطت لأبي ذر
(عليكم المرّة وتدالون عليه الأخرى وكذلك الرسل تُبتلى) أي
تختبر بالغلبة عليهم ليعلم صبرهم (وتكون لها) ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي: له أي للمبتلى منهم (العاقبة، وسألتك
بماذا يأمركم)؟ بإثبات الألف مع ما الاستفهامية وهو قليل،
وسبق في أوّل الكتاب مزيد فوائد فلتنظر. (فزعمت أنه يأمركم
أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا و) أنه (ينهاكم عمّا
كان يعبد آباؤكم) أي عن عبادة الأوثان (و) أنه (يأمركم
بالصلاة والصدقة) وللحموي والكشميهني: والصدق بدل الصدقة
(والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال) هرقل (وهذه
صفة النبي) ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي: نبي (قد كنت
أعلم أنه خارج) قال ذلك لما رأى من علامات نبوّته الثابتة
في الكتب السابقة، (ولكني لم أظن) ولأبي ذر عن الكشميهني:
لم أعلم (أنه منكم) أي من قريش (وإن يك ما قلت حقًّا
فيوشك) بكسر الشين المعجمة أي فيسرع (أن يملك) عليه الصلاة
والسلام (موضع قدميّ هاتين) أرض بيت المقدس أو أرض ملكه
(ولو أرجو أن أخلص) بضم اللام أصل (إليه لتجشمت) بالجيم
والشين المعجمة لتكلفت (لقيه) ولأبي ذر عن الكشميهني:
لقاءه، وفي مرسل ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال:
ويحك والله إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على
نفسي ولولا ذاك لاتبعته (ولو كنت عنده لغسلت قدميه) وفي
رواية عبد الله بن شداد عن أبي سفيان: لو علمت أنه هو
لمشيت إليه حتى أقبّل رأسه وأغسل قدميه.
(قال أبو سفيان ثم دعا) هرقل (بكتاب رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي من وكل ذلك إليه أو من
يأتي به، وزاد في رواية شعيب عن الزهري الذي بعث به دحية
إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل (فقرئ فإذا فيه):
(بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله) قدّم
لفظ العبودية على الرسالة ليدل على أن العبودية أقرب طرق
العباد إليه وتعريضًا لبطلان قول النصارى في المسيح أنه
ابن الله لأن الرسل مستوون في أنهم عباد الله (إلى هرقل
عظيم) أهل (الروم سلام على من اتّبع الهدى أما بعد؛ فإني
أدعوك بداعية الإسلام) مصدر بمعنى الدعوة كالعافية. وفي
رواية شعيب بدعاية الإسلام أي بدعوته وهي كلمة الشهادة
التي يدعى إليها أهل المِلَل الكافرة (أسلم تسلم وأسلم)
بكسر اللام في الأولى والأخيرة وفتحها في الثانية، وهذا في
غاية الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني مع ما فيه من بديع
التجنيس فإن تسلم شامل لسلامته من خزي الدنيا بالحرب
والسبي والقتل وأخذ الذراري والأموال ومن عذاب الآخرة
(يؤتك الله أجرك مرتين) أي من جهة إيمانه بنبيه ثم بنبينا
محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو من جهة أن
إسلامه سبب لإسلام أتباعه (فإن توليت) أعرضت عن الإسلام
(فعليك) مع إثمك (إثم الأريسيين) بالهمزة وتشديد
(5/113)
الياء بعد السين جمع يريسي أي الأكارين وهم
الفلاحون والزراعون، وللبيهقي في دلائله: عليك إثم
الأكارين أي عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون
بانقيادك ونبه بهؤلاء على جميع الرعايا لأنهم الأغلب وأسرع
انقيادًا فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا. {ويا أهل
الكتاب} بواو العطف على أدعوك أي أدعوك بداعية الإسلام
وأدعوك بقول الله تعالى: يا أهل الكتاب {تعالوا إلى كلمة
سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله} نوحده بالعبادة
ونخلص له فيها {ولا نشرك به شيئًا} ولا نجعل غيره شريكًا
له في استحقاق العبادة {ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من
دون الله} فلا
نقول عزير ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من
التحريم والتحليل {فإن تولّوا} عن التوحيد {فقولوا اشهدوا
بأنّا مسلمون} [آل عمران: 64]. أي لزمتكم الحجة فاعترفوا
بأنّا مسلمون دونكم أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به
الكتب وتطابقت عليه الرسل.
(قال أبو سفيان: فلما أن قضى) هرقل (مقالته علت أصوات
الذين حوله من عظماء الروم وكثر لغطهم) أي صياحهم وشغبهم
(فلا أدري ماذا قالوا وأمر بنا فأُخرجنا) بضم الهمزة وكسر
تاليها في الموضعين بالبناء لا مجهول (فلما أن خرجت مع
أصحابي وخلوت بهم قلت لهم: لقد أمر) بفتح الهمزة وكسر
الميم أي كبر وعظم (أمر ابن أبي كبشة) بفتح الكاف وسكون
الموحدة كنية رجل من خزاعة خالف قريشًا في عبادة الأوثان
فعبد الشعرى فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة وقيل
غير ذلك مما سبق أول الكتاب في بدء الوحي أي لقد عظم شأنه
(هذا ملك بني الأصفر) وهم الروم (يخافه. قال أبو سفيان:
والله ما زلت ذليلاً) بالذال المعجمة (مستيقنًا بأن أمره)
عليه الصلاة والسلام (سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام
وأنا كاره) أي للإسلام، وكان ذلك يوم فتح مكة وقد حَسُنَ
إسلامه وطاب به قلبه بعد ذلك -رضي الله عنه-.
وهذا الحديث سبق في بدء الوحي مع زيادات مباحث والله
الموفق.
2942 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
الْقَعْنَبِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي
حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله
عنه-: "سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: لأُعْطِيَنَّ
الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ،
فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى،
فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى، فَقَالَ:
أَيْنَ عَلِيٌّ؟ فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَينَيْهِ، فَأَمَرَ
فَدُعِيَ لَهُ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ مَكَانَهُ
حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ شَىْءٌ، فَقَالَ:
نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا. فَقَالَ: عَلَى
رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ
إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ
عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ
وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ". [الحديث 2942
- أطرافه في: 3009، 3701، 4210].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي) قال: (حدّثنا
عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه) أبي حازم بالحاء المهملة
والزاي سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) بسكون العين الساعدي
(رضي الله عنه) أنه (سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول يوم خيبر) في أول سنة سبع.
(لأعطين الراية) أي العَلَم (رجلاً يفتح الله على يديه)
زاد ابن إسحاق عن عمرو بن الأكوع ليس بفرّار (فقاموا) أي
الصحابة الحاضرون (يرجون لذلك أيهم يعطى) بضم أوله مبنيًّا
للمفعول أي فقام الحاضرون من الصحابة حال كونهم راجين
لإعطاء الراية حتى يفتح الله على يديه (فغدوا وكلهم) أي
وكل واحد منهم (يرجو أن يعطا) ها وكلمة أن مصدرية (فقال):
عليه الصلاة والسلام (أين عليّ) أي ما لي لا أراه حاضرًا
وكأنه عليه الصلاة والسلام استبعد غيبته عن حضرته في مثل
هذا
الموطن، لا سيما وقد قال: لأعطين الراية إلخ ... وحضر
الناس كلهم طمعًا أن يفوزوا بذلك الوعد (فقيل): على سبيل
الاعتذار عن غيبته (يشتكي عينيه) من الرمد (فأمر) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإحضاره (فدُعي له) بضم الدال
مبنيًّا للمفعول أي دُعي عليّ للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فبصق في عينيه فبرأ مكانه) بفتح
الموحدة والراء (حتى كأنه لم يكن به شيء) من الرمد (فقال):
أي عليّ يا رسول الله (نقاتلهم حتى يكونوا) مسلمين (مثلنا.
فقال): عليه الصلاة والسلام له (على رسلك) بكسر الراء
وسكون السين أي اتئد فيه وكن على الهينة (حنى تنزل بساحتهم
ثم ادعهم إلى الإسلام) أي قبل القتال.
وهذا موضع الترجمة.
(وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن) بفتح اللام وفي
اليونينية بكسرها (يهدى بك رجل واحد) بضم أوّل يهدى وفتح
ثالثه مبنيًّا للمفعول (خير لك من حُمر النعم) بضم الحاء
المهملة والميم كذا في اليونينية بضم الميم فلينظر، والنعم
بفتح النون أي حمر الإبل وهي أحسنها وأعزها أي خير لك من
أن تكون لك فتتصدّق بها.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في فضل عليّ ومسلم في
الفضائل.
2943 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -رضي
الله عنه- يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ
يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ،
وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا
يُصْبِحُ. فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلاً".
وبه قال:
(5/114)
(حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال:
(حدّثنا معاوية بن عمرو) بفتح العين قال: (حدّثنا أبو
إسحاق) إبراهيم بن محمد بن الحرث الفزاري (عن حميد) الطويل
أنه (قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- يقول: كان رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا غزا قومًا لم
يغر) بضم أوّله من الإغارة (حتى يصبح فإن سمع أذانًا أمسك)
عن قتالهم (إن لم يسمع أذانًا أغار) عليهم (بعدما يصبح) أي
أنه كان إذا لم يعلم حال القوم هل بلغتهم الدعوة أم لا
ينتظر بهم الصباح ليستبرئ حالهم بالأذان فإن سمعه أمسك عن
قتالهم وإلاّ أغار عليهم، (فنزلنا خيبر ليلاً) نصب على
الظرفية.
2944 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-:
"أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا ... ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا إسماعيل بن
جعفر) أي ابن أبي كثير (عن حميد) الطويل (عن أنس أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا غزا بنا) هذا
طريق آخر لحديث أنس أخرجه بتمامه في الصلاة بلفظ: إذا غزا
بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانًا
كفّ عنهم وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم الحديث.
2945 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بن
مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه-:
"أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهَا لَيْلاً -وَكَانَ إِذَا
جَاءَ قَوْمًا بِلَيْلٍ لاَ يُغِيرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى
يُصْبِحَ- فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ
بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ
قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فَقَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُ أَكْبَرُ،
خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ
قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: وحدّثنا بواو العطف (عبد الله
بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) الإمام (عن حميد) الطويل (عن
أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خرج إلى خيبر فجاءها ليلاً) نصب على الظرفية
(وكان إذا جاء قومًا بليل لا يغير) وفي رواية: لم يغر
(عليهم حتى يصبح) أي يطلع الفجر (فلما أصبح خرجت يهود
بمساحيهم) بتخفيف الياء هي كالمجارف إلاّ أنها من حديد
(ومكاتلهم)، قففهم لزرعهم (فلما رأوه قالوا) جاء (محمد
والله محمد والخميس) بفتح الخاء المعجمة وكسر الميم أي
الجيش لأنه خمس فرق المقدمة والقلب والميمنة والميسرة
والساقة (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(الله أكبر) ثلثه الطبراني في روايته (خربت خيبر) قاله
بوحي أو تفاؤلاً لما رأى آلات الخراب معهم من المساحي
والمكاتل (إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)
وهذا طريق ثالث لحديث أنس؛ وأخرجه المؤلّف أيضًا في
المغازي والترمذي والنسائي في السير.
2946 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلاَّ
بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ". رَوَاهُ عُمَرُ
وَابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (أخبرنا شعيب)
هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه
قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني (سعيد بن السيب أن
أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أُمرت أن) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول أي أمرني الله
تعالى بأن (أُقاتل الناس) أي بمقاتلة الناس وهو من العام
الذي أريد به الخاص فالمراد بالناس المشركون من غير أهل
الكتاب ويدل له رواية النسائي بلفظ: أُمرت أن أقاتل
المشركين (حتى) أي إلى أن (يقولوا لا إله إلا الله)
ولمسلم: حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله محمدًا رسول الله،
وزاد في حديث ابن عمر عند المؤلّف في كتاب الإيمان: إقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة (فمن قال لا الله إلاّ الله فقد عصم)
أي حفظ (مني نفسه وماله إلاّ بحقه) أي الإسلام من قتل
النفس المحرمة والزنا بعد الإحصان والارتداد عن الدين
(وحسابه على الله) فيما يسره من الكفر والمعاصي يعني أنا
نحكم عليه بالإسلام ونؤاخذه بحقوقه بحسب ما يقتضيه ظاهر
حاله.
(رواه عمر وابن عمر) بضم العين فيهما مثل حديث أبي هريرة
هذا (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وقد
وصل المؤلّف رواية عمر في الزكاة ورواية ابنه في الإيمان.
103 - باب مَنْ أَرَادَ غَزْوَةً فَوَرَّى بِغَيْرِهَا،
وَمَنْ أَحَبَّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ
هذا (باب) بيان (من أراد غزوة فورّى) بتشديد الراء سترها
وكنّى عنها (بغيرها)، أي بغير تلك الغزوة التي أرادها
والتورية أن يذكر لفظًا يحتمل معنيين: أحدهما أقرب من
الآخر مثلاً فيسأل عنه وعن طريقه فيفهم السامع بسبب ذلك
أنه يقصد المكان القريب، فالمتكلم صادق لكن الخلل وقع من
فهم السامع خاصة، وأصله من وراء الإنسان لأن من ورّى بشيء
فكأنه جعله وراءه، وقيده السيرافي في شرح سيبويه بالهمزة
قال: وأصحاب الحديث يسقطونها اهـ.
وليس ذلك خطأ منهم في الصحاح واريت الشيء أي أخفيته وتوارى
هو أي استتر قال: وتقول وريت الخبر تورية إذا سترته وأظهرت
غيره، ولا يقال إن كونه مأخوذًا من وراء
(5/115)
الإنسان يقتضي أن يكون مهموزًا لأن همزة
وراء ليست أصلية وإنما هي منقلبة عن ياء فإذا لوحظ في فعل
معنى وراء لم يجز فيه الإتيان بالهمزة لفقدان الموجب
لقلبها في الفعل وثبوته في وراء، وهذا مما يقتضي القطع
بخطأ من خطأ المحدثين ولا أدري مع هذا كيف يصح كلام
السيرافي فتأمله قاله في المصابيح.
(و) بيان (من أحب الخروج) إلى السفر (يوم الخميس). روي في
حديث ضعيف عند الطبراني عن نبيط بن شريط مرفوعًا: (بورك
لأمتي في بكورها يوم الخميس) ولا يلزم من حبه عليه الصلاة
والسلام لذلك المواظبة عليه، وقد خرج عليه الصلاة والسلام
في بعض أسفاره يوم السبت ولعله كان يحبه أيضًا كما روي:
بارك الله لأمتي في سبتها وخميسها.
2947 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
كَعْبِ -رضي الله عنه-وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ
بَنِيهِ- قَالَ: "سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ
تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ
وَرَّى بِغَيْرِهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة وفتح
الكاف قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد
(الليث) بن سعد (عن عقيل) بضم العين وفتح القاف (عن ابن
شهاب) الزهري (قال:
(5/116)
أخبرني) بالإفراد (عبد الرحمن بن عبد الله)
يقال لعبد الله هذا رؤية (ابن كعب بن مالك) الأنصاري (أن)
أباه (عبد الله بن كعب) زاد في اليونينية بين الأسطر من
غير رقم عليه -رضي الله عنه-
(وكان) أي عبد الله (قائد كعب) أبيه حين عمي (من بنيه) عبد
الله هذا وأخويه عبيد الله بالتصغير وعبد الرحمن (قال): أي
عبد الله (سمعت) أبي (كعب بن مالك) هو ابن أبي كعب عمرو
الشيباني (حين تخلف عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) في غزوة تبوك (ولم يكن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يريد غزوة إلاّ ورّى بغيرها)
لئلا يتفطن العدوّ فيستعد للدفع.
2948 - وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ
بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَلَّمَا
يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا،
حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَغَزَاهَا رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَرٍّ
شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا وَمَفَازًا وَاسْتَقْبَلَ
غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ
أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ،
وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ".
وبه قال: (وحدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (أحمد بن
محمد) هو ابن موسى المروزي أبو العباس مردويه الكلاباذي
السمسار قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا
يونس) بن يزيد (عن) ابن شهاب (الزهري قال: أخبرني)
بالإفراد (عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال:
سمعت) جدي (كعب بن مالك) اعترضه الدارقطني بأن عبد الرحمن
لم يسمع من جده كعب، وإنما سمع من أبيه عبد الله، واستدلّ
لذلك بما رواه سويد بن نصر عن ابن المبارك حيث قال عن أبيه
عن كعب كما قال الجماعة، لكن جوّز الحافظ ابن حجر سماعه له
عن جده كأبيه وثبته فيه أبوه فكان في أكثر الأحوال يرويه
عن أبيه عن جدّه، وربما رواه عن جده لكن رواية سويد بن نصر
توجب أن يكون الاختلاف فيها على ابن المبارك، وحينئذ فتكون
رواية أحمد بن محمد شاذة ولا يترتب على تخريجها كبير تعليل
فإن الاعتماد إنما هو على الرواية المتصلة انتهى.
وحمله بعضهم على أن يكون ذكر "ابن" موضع "عن" تصحيفًا من
بعض الرواة، فكأنه كان
أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله عن كعب بن مالك (-رضي الله
عنه- يقول: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قلما)
يوصل اللام بالميم وفي نسخة أبي ذر قل ما يفصلها منها
(يريد غزوة يغزوها إلاّ ورّى) بتشديد الراء
أي سترها وكنى عنها (بغيرها حتى كانت غزوة تبوك) في رجب
سنة تسع من الهجرة بتقديم المثناة
الفوقية على المهملة والمشهور في تبوك منع الصرف للعلمية
والتأنيث ومن صرفها أراد الموضع (فغزاها
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حرّ
شديد واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا) بفتح الفاء والزاي
البرية التي بين المدينة
وتبوك سميت مفازًا تفاؤلاً بالفوز، وإلاّ فهي مهلكة كما
قالوا للديغ سليم، (واستقبل غزو عدوّ كثير فجلا) قال
الزركشي وابن حجر والدماميني وغيرهم: بالجيم وتشديد اللام
زاد ابن حجر فقال: ويجوز تخفيفها. وقال العيني: بتخفيف
اللام وضبطه الدمياطي في حديث سعد في المغازي بالتشديد وهو
خطأ أي أظهر (للمسلمين أمرهم) بالجمع ولأبي ذر عن الحموي
أمره (ليتأهبوا أهبة عدوّهم) أي
ليكونوا على أهبة يلاقون بها عدوّهم ويعتدّوا لذلك
(وأخبرهم بوجهه الذي يريد) أي بجهته التي يريدها وهي جهة
تبوك.
2949 - وَعَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- كَانَ يَقُولُ:
"لَقَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْرُجُ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ
إِلاَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ".
(و) بالسند السابق عن ابن المبارك (عن يونس) بن يزيد (عن)
ابن شهاب (الزهري قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الرحمن) عم
عبد الرحمن بن عبد الله (بن كعب بن مالك -رضي الله عنه- أن
كعب بن مالك كان يقول: لقلما كان رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخرج) في يوم من الأيام (إذا
خرج في سفر إلا يوم الخميس) فإن أكثر خروجه في السفر فيه،
وقد وهم من زعم أن هذا الحديث معلق.
2950 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- "أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ يَوْمَ
الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ
يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ".
وبه قال: (حدّثني) وفي بعض النسخ: حدّثنا (عبد الله بن
محمد) المسندي بفتح النون قال: (حدّثنا هشام) هو ابن يوسف
الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن) ابن شهاب
(الزهري عن عبد الرحمن) أخي عبد الله (بن كعب بن مالك عن
أبيه) كعب بن مالك (-رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج يوم الخميس) من المدينة
(في غزوة تبوك وكان يحب أن يخرج) في السفر جهاد أو غيره
(يوم الخميس).
والمطابقة بين الأحاديث والترجمة ظاهرة، وحاصل ما سبق في
أسانيدها أن الزهري سمع من عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب
كما في الحديثين الأولين ومن عمه عبد الرحمن بن كعب كما في
باقيها. وكذا روى أيضًا عن أبيه عبد الله بن كعب نفسه،
وكذا عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن عمه عبيد الله
بن كعب بالتصغير.
104 - باب الْخُرُوجِ بَعْدَ الظُّهْرِ
2951 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ بن زيدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ
أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ
أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ،
وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا".
(باب) بيان (الخروج) في السفر (بعد الظهر).
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الأزدي الواشحي بالشين
المعجمة والحاء المهملة البصري قال: (حدّثنا حماد) ولأبي
ذر: حماد بن زيد (عن أيوب) السختياني (عن أبي قلابة) بكسر
القاف عبد الله بن زيد الجرمي (عن أنس) هو ابن مالك (-رضي
الله عنه-) (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) لما أراد حجة الوداع (صلى بالمدينة الظهر
أربعًا) يوم السبت خامس عشر ذي القعدة لأن الوقفة بعرفة
كانت يوم الجمعة فأول الحجة الخميس قطعًا، ولا يقال أن
الخامس والعشرين من القعدة الجمعة لأنه عليه السلام صلّى
الظهر أربعًا فتعين أن يكون أول القعدة الأربعاء والخامس
والعشرين منه يوم السبت فيكون ناقصًا (و) صلّى عليه الصلاة
والسلام (العصر بذي الحليفة ركعتين) قصرًا قال أنس:
(وسمعتهم يصرخون) بضم الراء في الفرع ويجوز فتحها ولم
يضبطها في اليونينية أي يلبون برفع الصوت (بهما) أي بالحج
والعمرة (جميعًا).
وفي الحديث إشارة إلى جواز التصرف في غير وقت البكور لأن
خروجه عليه الصلاة والسلام كان بعد الظهر وحينئذ فلا يمنع
حديث "بورك لأمتي في بكورها" المروي في السنن، وصححه ابن
حبان من حديث صخر الغامدي بالغين المعجمة والدال المهملة
جواز ذلك وإنما كان في البكور بركة لأنه وقت نشاط.
105 - باب الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ
وَقَالَ كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-
"انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِنَ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ وَقَدِمَ مَكَّةَ لأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ".
(باب) جواز (الخروج) إلى السفر (آخر الشهر) من غير كراهة،
(وقال كريب) مولى ابن عباس فيما وصله المؤلّف في حديث طويل
في الحج (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: انطلق النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المدينة) في حجة
الوداع (لخمس بقين من ذي القعدة) يوم السبت أي في الأذهان
حالة الخروج بتقدير تمامه فاتفق أن كان الشهر ناقصًا فأخبر
بما كان في الأذهان يوم الخروج لأن الأصل التمام أو ضم يوم
الخروج إلى ما بقي لأن التأهب وقع في أوله كأنهم لما باتوا
ليلة السبت على سفر اعتدّوا به من جملة أيام السفر قاله في
الفتح، وفيه جواز السفر في أواخر الشهر خلافًا لما كان
عليه أهل الجاهلية حيث كانوا يتحرون أوائل الشهر للأعمال
ويكرهون فيه التصرف، (وقدم) عليه الصلاة والسلام (مكة
لأربع ليالٍ خلون من ذي الحجة).
2952 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ -رضي الله
عنها- تَقُولُ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ
مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَلاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ،
فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ لَمْ يَكُنْ
مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ. قَالَتْ عَائِشَةُ:
فَدُخِلَ عَلَيها يَوْمَ النَّحْرِ
بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: نَحَرَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ
أَزْوَاجِهِ". قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ
لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَتَتْكَ وَاللَّهِ
بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك)
الإمام (عن يحيي بن سعيد) الأنصاري (عن عمرة بنت عبد
الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية (أنها سمعت
عائشة -رضي الله عنها- تقول: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر عن المستملي: خرج
(لخمس ليالٍ بقين من ذي القعدة) بفتح القاف وكسرها سمي به
لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال (ولا نرى) بضم النون
وفتح الراء أي لا نظن (إلاّ الحج، فلما دنونا) بفتح الدال
والنون أي قربنا (من مكة أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت)
الحرام (وسعى بين الصفا
(5/117)
والمروة أن يحل) بفتح أوله وكسر ثانيه من
نسكه. (قالت عائشة): -رضي الله عنها- (فدخل علينا) بضم
الدال مبنيًّا لما لم يسم فاعله (يوم النحر) نصب على
الظرفية أي في يوم النحر (بلحم بقر فقلت ما هذا؟ فقال: نحر
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أزواجه)
أي البقر واستعمل النحر موضع الذبح.
(قال يحيى) بن سعيد الأنصاري (فذكرت هذا الحديث للقاسم بن
محمد) هو ابن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم- (فقال): أبي
القاسم (أتتك) عمرة (والله بالحديث) الذي حدّثتك به (على
وجهه) لم تختصر منه شيئًا ولا غيرته.
106 - باب الْخُرُوجِ فِي رَمَضَانَ
(باب) جواز (الخروج) إلى السفر (في رمضان) من غير كراهة.
2953 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ:
"خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ
أَفْطَرَ".
قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ... وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال: حدّثني) بالإفراد (الزهري) محمد بن
مسلم بن شهاب (عن عبيد الله) بالتصغير ابن عبد الله بن
عتبة بن مسعود الهذلي المدني (عن ابن عباس -رضي الله
عنهما- قال: خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) إلى مكة في غزوة فتحها يوم الأربعاء بعد العصر
(في رمضان) لعشر مضين منه (فصام حتى بلغ الكديد) بفتح
الكاف ودالين مهملتين الأولى مكسورة على وزن رغيف عين
جارية على نحو مرحلتين من مكة وهو ما بين قديد وعسفان
(أفطر) وفي رواية النسائي: حتى أتى قديدًا ثم أتى بقدح من
لبن فشرب فأفطر هو وأصحابه.
(قال سفيان): بن عيينة بالسند السابق (قال): ابن شهاب
(الزهري أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بن عبد الله السابق
قريبًا (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (وساق الحديث)
بطوله كما سبق عند المؤلّف في باب: إذا صام أيامًا من
رمضان في كتاب الصيام، وأفاد في هذه أن الزهري رواه عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بالأخبار بخلاف الأولى
فبالعنعنة وزاد المستملي: هنا. قال أبو عبد الله أي
البخاري هذا قول الزهري محمد بن مسلم، ولعل مذهبه أن طروّ
السفر في رمضان لا يبيح الفطر لأنه شهد الشهر في أوله فهو
كطروّه في أثناء اليوم. قال المؤلّف: وإنما يقال أي يؤخذ
بالآخر من فعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لأنه ناسخ للأول وقد أفطر عند الكديد وهو أفضل
السفر لأنه إنما يفعل في المخير فيه الأفضل نعم إن لم
يتضرر بالصوم فهو أفضل عند الشافعية، وفيه ردّ على من كره
السفر في رمضان.
107 - باب التَّوْدِيعِ
(باب) بيان مشروعية (التوديع) عند السفر من المسافر للمقيم
ومن المقيم للمسافر.
2954 - وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ
بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: "بَعَثَنَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
بَعْثٍ فَقَالَ لَنَا: إِنْ لَقِيتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا
-لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا- فَحَرِّقُوهُمَا
بِالنَّارِ. قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ
أَرَدْنَا الْخُرُوجَ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ
أَنْ تُحَرِّقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ
النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ، فَإِنْ
أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا". [الحديث 2954 - طرفه
في: 3016].
(وقال) بالواو ولأبي ذر: قال (ابن وهب) عبد الله المصري
مما وصله النسائي والإسماعيلي، وكذا المؤلّف لكن من وجه
آخر كما سيأتي إن شاء الله تعالى. (أخبرني) بالإفراد
(عمرو) بفتح العين ابن الحرث المصري (عن بكير) بضم الموحدة
مصغرًا ابن عبد الله بن الأشج (عن سليمان بن يسار) ضد
اليمين (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: بعثنا رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعث) أي جيش
أميره حمزة بن عمرو الأسلمي (وقال): عليه الصلاة والسلام
بواو العطف ولأبي ذر: فقال (لنا):
(إن لقيتم فلانًا وفلانًا لرجلين) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي: للرجلين (من قريش سماهما) عليه الصلاة والسلام
(فحرّقوهما بالنار) هما هبار بن الأسود بتشديد الموحدة
ونافع بن عبد عمرو كما عند ابن بشكوال من طريق ابن لهيعة
عن بكير، أو هبار وخالد بن عبد قيس كما في سيرة ابن هشام
ومسند البزار، أو هبار ونافع بن قيس بن لقيط بن عامر
الفهري وهو والد عقبة كما حرره البلاذري، وهو الذي نخس
بزينب بنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بعيرها وكانت حاملاً فألقت ما في بطنها وكان هو وهبار معه،
فلذا أمر عليه الصلاة والسلام بإحراقهما قال:
(قال) أبو هريرة (ثم أتيناه) عليه الصلاة والسلام (نودعه
حين أردنا الخروج) للسفر فيه توديع المسافر للمقيم فتوديع
المقيم للمسافر بطريق الأولى وهو أكثر في الوقوع (فقال):
عليه الصلاة والسلام (إني كنت أمرتكم أن تحرّقوا فلانًا
وفلانًا بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله) عز وجل
خبر بمعنى النهي وظاهره التحريم (فإن أخذتموهما فاقتلوهما)
قاله بعد أمره بإحراقهما ففيه النسخ قبل العمل أو قبل
التمكن من العمل
(5/118)
به ولا حجة في قصة العرنيين حيث سمل عليه
الصلاة والسلام أعينهم بالحديد المحمى لأنها كانت قصاصًا
أو منسوخة كذا قاله ابن المنير وفيه كراهة قتل مثل البرغوث
بالنار.
108 - باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِمَامِ
(باب) وجوب (السمع والطاعة للإمام) زاد أبو ذر عن
الكشميهني ما لم يأمر بمعصية.
2955 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ
بمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ
وَلاَ طَاعَةَ». [الحديث 2955 - طرفه في: 7144].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن عبيد الله) بالتصغير ابن عمر بن حفص
العمري (قال: حدّثني) بالإفراد (نافع عن ابن عمر) ابن
الخطاب (-رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
قال المؤلّف: (وحدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: وحدّثنا (محمد
بن الصباح) وفي نسخة: ابن صباح بتشديد الموحدة آخره حاء
مهملة البزار الدولابي البغدادي (عن إسماعيل بن زكريا) بن
مرّة الخلقاني بضم الخاء المعجمة وسكون اللام بعدها قاف
الملقب بشقوصا بفتح الشين المعجمة وضم القاف المخففة
وبالصاد المهملة (عن عبيد الله) بالتصغير ابن عمر العمري
السابق قريبًا (عن نافع عن ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله
عنهما عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(السمع) لأُولي الأمر بإجابة أقوالهم (والطاعة) لأوامرهم
(حق) واجب وهو شامل لأمراء المسلمين في عهد الرسول وبعده
ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة (ما لم يؤمر) أحدكم
(بالمعصية) لله، ولأبي ذر: بمعصية (فإذا أمر) أحدكم
(بمعصية فلا سمع) لهم (ولا طاعة) إذ لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق وإنما الطاعة في المعروف والفعلان مفتوحان،
والمراد نفي الحقيقة الشرعية لا الوجودية.
109 - باب يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الإِمَامِ، وَيُتَّقَى
بِهِ
هذا (باب) بالتنوين (يقاتل) بضم المثناة التحتية وفتح
الفوقية مبنيًّا للمفعول (من وراء الإمام) القائم بأمور
الأنام (ويتقى به) بضم أوّله وفتح ثالثه.
2956 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ
سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (قال: حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (أن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (حدّثه أنه سمع
أبا هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(نحن الآخرون) في الدنيا (السابقون) في الآخرة.
وهذا طرف من حديث، وقد سبق الكلام فيه في كتاب الطهارة
والجمعة.
ومطابقته لما ترجم له هنا غير بيّنة، لكن قال ابن المنير:
إن معنى يقاتل من ورائه أي من أمامه فأطلق الوراء على
الإمام لأنهم وإن تقدموا في الصورة فهم أتباعه في الحقيقة
والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تقدم غيره
عليه بصورة الزمان، لكن المتقدم عليه مأخوذ عهده أن يؤمن
به وينصره كآحاد أمته، ولذلك ينزل عيسى ابن مريم عليه
السلام مأمومًا فهم في الصورة أمامه وفي الحقيقة خلفه
فناسب ذلك قوله يقاتل من ورائه وهذا كما تراه في غاية من
التكلف، والظاهر أنه إنما ذكره جريًا على عادته أن يذكر
الشيء كما سمعه جملة لتضمنه موضع الدلالة المطلوب منه وإن
لم يكن باقيه مقصودًا.
2957 - وَبِهَذَا الإِسْنَادِ «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ
أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ،
وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ
الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ
يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ. فَإِنْ أَمَرَ
بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ
أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ
مِنْهُ». [الحديث 2957 - طرفه في: 7137].
(وبهذا الإسناد) السابق قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (من أطاعني) فيما أمرت به (فقد أطاع الله)
لأنه عليه الصلاة والسلام في الحقيقة مبلّغ والآمر هو الله
عز وجل (ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير) أمير
السرية أو الأمراء مطلقًا فيما يأمرونه به (فقد أطاعني ومن
يعص الأمير فقد عصاني) قيل: وسبب قوله عليه الصلاة والسلام
ذلك أن قريشًا ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة ولا
يطيعون غير رؤساء قبائلهم، فأعلمهم عليه الصلاة والسلام أن
طاعة الأمراء حق واجب (وإنما الإمام) القائم بحقوق الأنام
(جنّة) بضم الجيم وتشديد النون سترة ووقاية يمنع العدوّ من
أذى المسلمين ويحمي بيضة الإسلام (يقاتل) بضم أوله مبنيًّا
للمفعول معه الكفار والبغاة (من ورائه) أي
أمامه فعبر بالوراء عنه كقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك}
[الكهف: 79]. أي أمامهم فالمراد المقاتلة للدفع عن الإمام
سواء كان ذلك من خلفه حقيقة أو قدامه فإن لم يقاتل من
ورائه وأبى عليه مرج أمر الناس وسطا القوي على الضعيف
وضيعت الحدود والفرائض (ويتقى به) بضم أوّله مبنيًّا
للمفعول فلا يعتقد من قاتل عنه أنه حماه، بل ينبغي أن
يعتقد أنه احتمى به لأنه فئته وبه
(5/119)
قويت همته وفيه إشارة إلى صحة تعدّد الجهات
وأن لا يعدّ من التناقض وإن توهّم فيه ذلك لأن كونه جنّة
يقتضي أن يتقدم وكونه يقاتل من أمامه يقتضي أن يتأخر فجمع
بينهما باعتبارين وجهتين (فإن أمر) رعيته (يتقوى الله
وعدل) (فإن له بذلك) الأمر والعدل (أجرًا، وإن قال) أي أم
وحكم (بغيره) أي بغير تقوى الله وعدله (فإن عليه منه).
وزرًا كذا ثبتت هذه في بعض طرق الحديث كما سيأتي إن شاء
الله تعالى وحذفت هنا لدلالة مقابله السابق عليه ومنه
للتبعيض، فيكون المراد أن بعض الوزر عليه أو المراد أن
الوبال الحاصل منه عليه لا على المأمور، وحكى صاحب الفتح
أنه وقع في رواية أبي زيد المروزي: فإن عليه منه بضم الميم
وتشديد النون بعدها هاء تأنيث قال: وهي تصحيف بلا ريب،
وبالأولى جزم أبو ذر.
110 - باب الْبَيْعَةِ فِي الْحَرْبِ أَنْ لاَ يَفِرُّوا،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ
لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
(باب البيعة في الحرب) على (أن لا يفروا وقال بعضهم على
الموت) أي على أن لا يفروا ولو ماتوا (لقوله تعالى): ولأبي
ذر: عز وجل بدل قوله تعالى: ({لقد رضي الله عن المؤمنين إذ
يبايعونك}) يوم الحديبية بيعة الرضوان ({تحت الشجرة})
[الفتح: 18]. السمرة أو أم غيلان وهم يومئذ ألف وخمسمائة
وأربعون رجلاً وقد أخبر سلمة بن الأكوع وهو من بايع تحت
الشجرة أنه بايع على الموت وليس المراد أن يقع الموت ولا
بدّ بل عدم الفرار ولو ماتوا.
2958 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رضي
الله عنهما- "رَجَعْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَمَا
اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي
بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ.
فَسَأَلْتُ نَافِعًا: عَلَى أَىِّ شَىْءٍ بَايَعَهُمْ،
عَلَى الْمَوْتِ؟ قَالَ: لاَ، بَايَعَهُمْ عَلَى
الصَّبْرِ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري التبوذكي قال:
(حدّثنا جويرية) بضم الجيم مصغرًا جارية ابن أسماء الضبعي
البصري (عن نافع) مولى ابن عمر (قال: قال عمر) ابن الخطاب
(-رضي الله عنهما- رجعنا من العام المقبل)، الذي بعد صلح
الحديبية إليها (فما اجتمع منا اثنان على الشجرة النبي
بايعنا تحتها) أي ما وافق منا رجلان على هذه الشجرة أنها
هي التي وقعت المبايعة تحتها بل خفي مكانها أو اشتبهت
عليهم لئلا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير فلو
بقيت لما أمن من
تعظيم الجهال لها حتى ربما يفضي بهم إلى اعتقاد أنها تضر
وتنفع فكان في إخفائها رحمة، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله:
(كانت رحمة من الله). قال جويرية (فسألت) ولأبي ذر عن
الكشميهني: فسألنا (نافعًا) مولى ابن عمر (على أيّ شيء
بايعهم) عليه السلام (على الموت) فهمزة الاستفهام مقدرة
(قال: لا. بايعهم) ولأبي ذر عن الكشميهني بل بايعهم (على
الصبر) أي على الثبات وعدم الفرار سواء أفضى بهم ذلك إلى
الموت أم لا.
2959 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ
بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله
عنه- قَالَ: "لَمَّا كَانَ زَمَنَ الْحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ
فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ
عَلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ: لاَ أُبَايِعُ عَلَى هَذَا
أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-". [الحديث 2959 - طرفه في: 4167].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي وسقط عند أبي
ذر ابن إسماعيل قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن
خالد قال: (حدثنا عمرو بن يحيى) بفتح العين وسكون الميم
الأنصاري المدني (عن عباد بن تميم) بفتح العين وتشديد
الموحدة ابن زيد بن عاصم (عن) عمه (عبد الله بن زيد)
الأنصاري المدني (-رضي الله عنه- قال: لما كان زمن الحرة)
بفتح الحاء وتشديد الراء أي زمن وقعة الحرة وهي حرة زهرة
أو واقم بالمدينة سنة ثلاث وستين، وسببها أن عبد الله بن
حنظلة وغيره من أهل المدينة وفدوا إلى يزيد بن معاوية
فرأوا منه ما لا يصلح فرجعوا إلى المدينة فخلعوه وبايعوا
عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-، فأرسل يزيد بن مسلم بن
عقبة فأوقع بأهل المدينة وقعة عظيمة قتل من وجوه الناس
ألفًا وسبعمائة ومن أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء
والصبيان (أتاه آتِ فقال له: إن ابن حنظلة) هو عبد الله بن
حنظلة بن أبي عامر الذي يعرف أبوه بغسيل الملائكة وكان
أميرًا على الأنصار (يبايع الناس على الموت فقال) عبد الله
بن زيد (لا أبايع على هذا أحدًا بعد رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) والفرق أنه عليه الصلاة
والسلام يستحق على كل مسلم أن يفديه بنفسه بخلاف غيره، وهل
يجوز لأحد أن يستهدف عن أحد لقصد وقايته أو يكون ذلك من
إلقاء اليد إلى التهلكة؟ تردد فيه ابن المنير قال: لا خلاف
أنه لا يؤثر أحد أحدًا بنفسه لو كان في مخمصة ومع أحدهما
قوت نفسه خاصة قاله في المصابيح.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في المغازي وكذا مسلم.
2960 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ
-رضي الله عنه- قَالَ: "بَايَعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ
الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ يَا ابْنَ
الأَكْوَعِ أَلاَ تُبَايِعُ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ
بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَأَيْضًا.
فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا
مُسْلِمٍ، عَلَى أَىِّ
شَىْءٍ، كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى
الْمَوْتِ". [الحديث 2960 - أطرافه في: 4169، 7206، 7208].
وبه قال: (حدّثنا المكي بن إبراهيم) بن بشير بن فرقد
الحنظلي التميمي قال: (حدّثنا يزيد بن أبي
(5/120)
عبيد) مولى سلمة بن الأكوع (عن سلمة) بن
الأكوع سنان بن عبد الله (-رضي الله عنه- قال: بايعت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بيعة الرضوان
بالحديبية تحت الشجرة (ثم عدلت إلى ظل الشجرة) المعهودة،
ولأبي ذر: إلى ظل شجرة (فلما خفّ الناس قال): عليه الصلاة
والسلام:
(يا ابن الأكوع ألا تبايع)؟ (قال: قلت: قد بايعت يا رسول
الله، قال): (و) بايع (أيضًا) مرة أخرى (فبايعته الثانية).
وإنما بايعه مرة ثانية لأنه كان شجاعًا بذّالاً لنفسه فأكد
عليه العقد احتياطًا حتى يكون بذله لنفسه عن رضًا متأكد
وفيه دليل على أن إعادة لفظ النكاح وغيره ليس فسخًا للعقد
الأول خلافًا لبعض الشافعية قاله ابن المنير. قال يزيد بن
أبي عبيد (فقلت له): أي لسلمة بن الأكوع (يا أبا مسلم)،
وهي كنية سلمة (على أيّ شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال): كنا
نبايع (على الموت) أي على أن لا نفر ولو متنا.
وفي هذا الحديث الثلاثي التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلّف
أيضًا في المغازي والترمذي والنسائي في السير.
2961 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -رضي الله عنه-
يَقُولُ: كَانَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَقُولُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى
الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا
فَأَجَابَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ
الآخِرَهْ، فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ".
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحرث الحوضي البصري قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن حميد) الطويل (قال: سمعت
أنسًا -رضي الله عنه- يقول: كانت الأنصار يوم) حفر (الخندق
تقول:
نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الجهاد ما حيينا أبدا)
وفي بعض الأصول كما نبّه عليه البرماوي نحن الذي بغير نون
وهو على حدّ: {وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69]. وسبق في
باب حفر الخندق بلفظ: على الإسلام بدل قوله هنا على الجهاد
وهو الموزون (فأجابهم) متمثلاً بقول ابن رواحة يحرضهم على
العمل (فقال) ولغير أبي ذر فأجابهم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال:
(اللهم) لكن قال الداودي إنما قال ابن رواحة لا هم بغير
ألف ولا لام فأتى به بعض الرواة على المعنى وليس بموزون
ولا هو رجز (لا عيش) يعتبر أو يبقى (إلاّ عيش الآخرة فأكرم
الأنصار والمهاجرة).
ومطابقته للترجمة من قوله على الجهاد ما حيينا أبدًا فإن
معناه يؤول إلى أنهم لا يفرون عنه في الحرب أصلاً.
2962 و 2963 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ عَنْ مُجَاشِعٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَتَيْتُ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَا
وَأَخِي فَقُلْتُ: بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ:
مَضَتِ الْهِجْرَةُ لأَهْلِهَا. فَقُلْتُ: عَلاَمَ
تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: عَلَى الإِسْلاَمِ وَالْجِهَادِ".
[الحديث 2962 - أطرافه في: 3078، 4305، 4307]. [الحديث
2963 - أطرافه في: 3079، 4306، 4308].
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه أنه (سمع
محمد بن فضيل) بضم الفاء تصغير فضل بن غزوان الكوفي (عن
عاصم) هو ابن سليمان الأحول (عن أبي عثمان) عبد الرحمن
النهدي بالنون البصري (عن مجاشع) بضم الميم وتخفيف الجيم
وكسر الشين المعجمة آخره عين مهملة ابن مسعود السلمي بضم
السين قتل يوم الجمل (-رضي الله عنه- قال: أتيت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بعد الفتح (أنا
وأخي) مجالد بضم الميم وتخفيف الجيم وكسر اللام آخره دال
مهملة ابن مسعود قال مجاشع (فقلت): يا رسول الله (بايعنا)
بكسر المثناة التحتية وسكون العين (على الهجرة. فقال):
عليه الصلاة والسلام:
(مضت الهجرة) أي حكمها (لأهلها) الذين هاجروا قبل الفتح
فلا هجرة بعده ولكن جهاد ونية (فقلت): يا رسول الله (علام)
بحذف الألف وإبقاء الفتحة دليلاً عليها كفيم للفرق بين
الاستفهام والخبر ولأبي ذر قلت علاما بإسقاط الفاء قبل
القاف وإثبات الألف بعد الميم أي على أي شيء (تبايعنا؟
قال): عليه الصلاة والسلام أبايعكم (على الإسلام والجهاد)
إذا احتيج إليه، وقد كان قبل من بايع قبل الفتح لزمه
الجهاد أبدًا ما عاش إلا لعذر ومن أسلم بعده فله أن يجاهد
وله التخلف عنه بنية صالحة إلا إن احتيج كنزول عدوّ فيلزم
كل أحد.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي والجهاد ومسلم في
المغازي.
111 - باب عَزْمِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ فِيمَا
يُطِيقُونَ
(باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون) أي أن وجوب طاعة
الإمام على الناس محله فيما لهم به طاقة فالجار والمجرور
متعلق بمحله المحذوف من اللفظ.
2964 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ -رضي الله عنه-: "لَقَدْ
أَتَانِي الْيَوْمَ رَجُلٌ فَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرٍ مَا
دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ
رَجُلاً مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا
فِي الْمَغَازِي، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لاَ
نُحْصِيهَا. فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ لا أَدْرِي مَا
أَقُولُ لَكَ، إِلاَّ أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَسَى أَنْ لاَ
يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلاَّ مَرَّةً حَتَّى
نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا
اتَّقَى اللَّهَ. وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَىْءٌ
سَأَلَ رَجُلاً فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لاَ
تَجِدُوهُ. وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، مَا
أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ كَالثَّغْبِ
شُرِبَ صَفْوُهُ، وَبَقِيَ كَدَرُهُ".
وبه قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) هو عثمان بن محمد بن
أبي شيبة إبراهيم العبسي الكوفي قال: (حدّثنا جرير) هو ابن
عبد الحميد الرازي (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي
وائل) شقيق بن سلمة (قال: قال عبد الله) بن مسعود (رضي
الله عنه: لقد أتاني اليوم رجل) لم يعرف اسمه (فسألني عن
أمر ما دريت) بفتح الدال والراء (ما أردّ عليه) في موضع
نصب مفعول دريت (فقال: أرأيت رجلاً
(5/121)
مؤديًا) أي أخبرني ففيه أمران إطلاق الرؤية
وإرادة الإخبار وإطلاق الاستفهام وإرادة الأمر كأنه قال:
أخبرني عن أمر هذا الرجل ومؤديًا بضم الميم وسكون الهمزة
وكسر الدال المثناة التحتية أي قويًا من آدى الرجل قوي،
وقيل: مؤديًا كامل الأداة أي السلاح، ومنه: عليه أداة
الحرب وأداة كل شيء آلته وما يحتاج إليه. وفي هامش الفرع
مما نسب إلى أبي يعني ذا أداة وسلاح، وقال النضر المؤدي
القادر على السفر، وقيل المتهيئ المعدّ لذلك أداته ولا
يجوز حذف الهمزة منه لئلا يصير من أودى إذا هلك (نشيطًا)
بنون مفتوحة ومعجمة مكسورة من النشاط وهو الذي ينشط له
ويخف إليه ويؤثر فعله (يخرج) بالمثناة التحتية وسكون الخاء
أي الرجل (مع أمرائنا في المغازي) فيه التفات وإلاّ فكان
يقول مع أمرائه ليوافق رجلاً، وضبط الحافظ ابن حجر نخرج
بالنون وقال كذا في الرواية ثم قال: أو المراد بقوله رجلاً
أحدنا أو هو محذوف الصفة أي رجلاً منا وفيه حينئذ التفات
(فيعزم علينا) الأمير أي يشد علينا (في أشياء لا نحصيها)
بضم النون لا نطيقها أو لا ندري أطاعة هي أم معصية أيجب
على هذا الرجل طاعة الأمير أم لا. قال عبد الله بن مسعود
(فقلت له): أي للرجل (والله ما أدري ما أقول لك) سبب توقفه
أن الإمام إذا عين طائفة للجهاد أو لغيره من المهمات
تعينوا وصار ذلك فرض عين عليهم، فلو استفتى أحدهم عليه
وادّعى أنه كلفه ما لا طاقة له به بالتشهي أشكلت الفتيا
حينئذ لأنّا إن قلنا بوجوب طاعة الإمام عارضنا فساد
الزمان، وإن قلنا بجواز الامتناع فقد يفضي ذلك إلى الفتنة
فالصواب التوقف، لكن الظاهر أن ابن مسعود بعد أن توقف
أفتاه بوجوب الطاعة بشرط أن يكون المأمور به موافقًا
للتقوى كما علم ذلك من قوله (إلا أنّا كنا مع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعسى أن لا يعزم
علينا في أمر إلا مرة) إذ لولا صحة الاستثناء لما أوجبه
الرسول (حتى نفعله) غاية لقوله أو للعزم الذي يتعلق به
المستثنى وهو مرة (وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى الله)
عز وجل (وإذا شك في نفسه شيء) مما تردد فيه أنه جائز أم لا
وهو من باب القلب أي شك نفسه في شيء (سأل) الشاكّ (رجلاً)
عالمًا (فشفاه منه) بأن أزال مرض تردده عنه بإجابته له
بالحق فلا يقدم
المرء على ما يشك فيه حتى يسأل عنه من عنده علم (وأوشك)
بفتح الهمزة والشين أي كاد (أن لا تجدوه) في الدنيا لذهاب
الصحابة -رضي الله عنهم- فتفقدوا من يفتي بالحق ويشفي
القلوب عن الشبه والشكوك (والذي لا إله إلا هو ما أذكر ما
غبر) بفتح الغين المعجمة والموحدة أي ما بقي أو مضى (من
الدنيا إلاّ كالثغب) بفتح المثلثة وإسكان الغين المعجمة
وقد تفتح آخره موحدة الماء المستنقع في الموضع المطمئن
(شرب صفوه وبقي كدره) شبه ببقاء غدير ذهب صفوه وبقي كدره.
112 - باب كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ
أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ
هذا (باب) بالتنوين (كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذا لم يقاتل أول النهار أخّر القتال حتى تزول
الشمس) لأن رياح النصر تهب حينئذ غالبًا ويتمكن من القتال
بتبريد حدّة السلاح وزيادة النشاط لأن الزوال وقت هبوب
الصبا التي اختصّ عليه الصلاة والسلام بالنظر بها.
2965 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي
النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ
كَاتِبًا لَهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنهما- فَقَرَأْتُهُ "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا انْتَظَرَ حَتَّى
مَالَتِ الشَّمْسُ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
معاوية بن عمرو) بفتح العين ابن المهلب الأزدي البغدادي
قال: (حدّثنا أبو إسحاق) إبراهيم بن محمد (هو الفزاري)
بفتح الفاء والزاي (عن موسى بن عقبة) بن أبي عياش بالشين
المعجمة آخره إمام المغازي (عن سالم أبي النضر) بالضاد
المعجمة ابن أبي أمية (مولى عمر بن عبيد الله) مصغرًا ابن
معمر التيمي (وكان) سالم (كاتبًا له) أي لعمر بن عبيد الله
كما قاله البرماوي كالكرماني، لكن خطأه العيني كالحافظ ابن
حجر ولم يذكر له دليلاً وفيه نظر كما لا يخفى ويؤيد ما
قاله الكرماني قوله في باب: لا تمنوا لقاء العدوّ.
حدّثني سالم أبو النضر كنت كاتبًا لعمر بن عبيد الله فهو
صريح في أن سالمًا كاتب عمر بن عبيد الله لا كاتب عبد الله
بن أبي أوفى، وكيف يرجع الضمير على
(5/122)
متأخر رتبة والأصل خلافه (قال: كتب إليه)
أي إلى عمر بن عبيد الله (عبد الله بن أبي أوفى) بفتح
الهمزة والفاء (-رضي الله عنهما- فقرأته أن) بفتح الهمزة
وكسرها (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
بعض أيامه) أي غزواته (التي لقي فيها) العدوّ أو الحرب
واللفظ يحتملهما (انتظر) خبر أن (حتى مالت الشمس) أي زالت.
2966 - ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ قَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا
اللَّهَ الْعَافِيَةَ،
فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ
الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ،
وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا
عَلَيْهِمْ".
(ثم قام في الناس) خطيبًا (قال):
(يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو)، لأن المرء لا يعلم
ما يؤول إليه الأمر ويؤيده قوله (وسلوا الله العافية) أي
من هذه المحذورات المتضمنة للقاء العدوّ ثم أمرنا بالصبر
عند وقوع الحقيقة فقال (فإذا لقيتموهم فاصبروا) فإن النصر
مع الصبر (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) أي السبب
الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيف في سبيل الله وهو من
المجاز البليغ لأن ظل الشيء لما كان ملازمًا له، وكان ثواب
الجهاد الجنة كان ظلال السيوف المشهورة في الجهاد تحتها
الجنة أي ملازمها استحقاق ذلك، ومثله: الجنة تحت أقدام
الأمهات أو هو كناية عن الحض على مقاربة العدوّ واستعمال
السيوف والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل
المقاتلين. قال ابن الجوزي: إذا تدانى الخصمان صار كلٌّ
منهما تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه ولا يكون ذلك
إلا عند التحام القتال.
(ثم قال) عليه الصلاة والسلام (اللهم) يا (منزل الكتاب)
القرآن الموعود فيه بالنصر على الكفار قال تعالى: {قاتلوهم
يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} [التوبة: 14].
والمراد الجنس فيشمل سائر الكتب المنزلة على الأنبياء
فيكون المراد شدة الطلب للنصر كنصره هذا الكتاب بخذلان من
يكفر به ويجحد (و) يا (مجري السحاب) بقدرته إشارة إلى سرعة
إجراء ما يقدره فإنه قدر جريان السحاب على أسرع حال وكأنه
يسأل بذلك سرعة النصر والظفر (و) يا (هازم الأحزاب) وحده
لا غيره (اهزمهم وانصرنا عليهم) فأنت المنفرد بالفعل من
غير حول منّا ولا قوّة أو أن المراد التوسّل إليه بنعمه
وأشار بالأولى إلى نعمة الدين بإنزال الكتاب وبالثانية إلى
نعمة الدنيا وحياة النفوس بإجراء السحاب الذي جعله سببًا
في نزول الغيث والأرزاق وبالثالثة إلى أنه حصل حفظ
النعمتين فكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم نعمتك الأخروية
والدنيوية وحفظهما فأبقهما، وقد وقع هذا السجع اتفاقًا من
غير قصد.
وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى في باب: لا
تمنوا لقاء العدو.
113 - باب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإِمَامَ لِقَوْلِهِ:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ
لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ} [النور: 62] إِلَى آخِرِ الآيَةِ
(باب استئذان الرجل) من الرعية (الإمام) في الرجوع أو
التخلف عن الرجوع في الغزو
(لقوله) زاد في رواية: عز وجل ({إنما المؤمنون}) الكاملون
في الإيمان ({الذين آمنوا بالله ورسوله}) من صميم قلوبهم
({وإذا كانوا معه على أمرٍ جامع}) كتدبير أمر الجهاد
والحرب ({لم يذهبوا}) عن حضرته ({حتى يستأذنوه}) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيأذن لهم واعتباره في كمال
الإيمان لأنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص فيه عن
المنافق ({إن الذين يستأذنونك}) [النور: 62] (إلى آخر
الآية). يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة. وأن الذاهب بغير
إذنه ليس كذلك وفيه أن الإمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من
أمور المسلمين أن لا يرجعوا إلا بإذنه وكذلك إذا خرجوا
للغزو لا ينبغي لأحد أن يرجع بغير إذنه ولا يخالف أمير
السرية لا يقال لا يستأذن غيره عليه الصلاة والسلام إذ
الحكم السابق من خصوصياته عليه الصلاة والسلام لأنه إذا
كان ممن عيّنه الإمام فطرأ له ما يقتضي التخلف أو الرجوع
فإنه يحتاج إلى الاستئذان والاحتجاج بالآية للترجمة في
تمام الآية، {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت
منهم}. قال مقاتل: نزلت في عمر -رضي الله عنه- استأذن في
الرجوع إلى أهله في غزوة تبوك فأذن له وقال: انطلق لست
بمنافق يريد بذلك تسميع المنافقين، ولأبي ذر على أمر جامع
الآية، ولأبي عساكر إلى قوله تعالى: {إن الله غفور رحيم}.
2967 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ:
"غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، قَالَ، فَتَلاَحَقَ بِي النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ لَنَا
قَدْ أَعْيَا فَلاَ يَكَادُ يَسِيرُ، فَقَالَ لِي: مَا
لِبَعِيرِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أعْيَا. قَالَ: فَتَخَلَّفَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَي
الإِبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ تَرَى
بَعِيرَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بِخَيْرٍ، قَدْ أَصَابَتْهُ
بَرَكَتُكَ. قَالَ: أَفَتَبِيعُنِيهِ قَالَ:
فَاسْتَحْيَيْتُ، لَمْ يَكُنْ لَنَا نَاضِحٌ غَيْرَهُ،
قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَبِعْنِيهِ، فَبِعْتُهُ
إِيَّاهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى
أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنِّي عَرُوسٌ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ فَأَذِنَ لِي،
فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَنِي
خَالِي فَسَأَلَنِي عَنِ الْبَعِيرِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا
صَنَعْتُ بهِ فَلاَمَنِي. قَالَ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِي
حِينَ اسْتَأْذَنْتُهُ: هَلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ
ثَيِّبًا؟ فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا. فَقَالَ:
فَهَلاَّ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ؟
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُوُفِّيَ وَالِدِي -أَوِ
اسْتُشْهِدَ- وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ
أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ فَلاَ تُؤَدِّبُهُنَّ وَلاَ
تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا لِتَقُومَ
عَلَيْهِنَّ وَتُؤَدِّبَهُنَّ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ عَلَيْهِ بِالْبَعِيرِ،
فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَىَّ" قَالَ
الْمُغِيرَةُ: هَذَا فِي قَضَائِنَا حَسَنٌ لاَ نَرَى بِهِ
بَأْسًا.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه قال:
(أخبرنا جرير) بالجيم هو ابن عبد الحميد بن قرط بضم القاف
وسكون الراء بعدها طاء مهملة الضبي الكوفي (عن
(5/123)
المغيرة) بن مقسم بكسر الميم (عن الشعبي)
عامر بن شراحيل (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله
عنهما- قال: غزوت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) غزوة تبوك كما في البخاري أو ذات الرقاع كما
في طبقات
ابن سعد أو الفتح كما في مسلم بلفظ: أقبلنا من مكة إلى
المدينة (قال: فتلاحق بي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وأنا على ناضح لنا) بنون وضاد معجمة بعير يستقى
عليه وسمي بذلك لنضحه بالماء حال سقيه وعند البزار أنه كان
أحمر (قد أعيا) بهمزة مفتوحة قبل العين الساكنة أي تعب
وعجز عن المشي (فلا يكاد يسير فقال لي) عليه الصلاة
والسلام:
(ما لبعيرك) (قال: قلت عيى) ولأبي ذر عن الكشميهين: أعيا
بالهمزة قبل العين (قال: فتخلف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر سقوط التصلية (فزجره ودعا
له) ولمسلم وأحمد فضربه برجله ودعا له وفي رواية يونس بن
بكير عن زكريا عند الإسماعيلي فضربه رسول الله عليه الصلاة
والسلام ودعا له فمشى مشية ما مشى قبل ذلك مثلها (فما زال
بين يدي الإبل قدامها يسير، فقال لي) عليه الصلاة والسلام:
(كيف ترى بعيرك) (قال: قلت: بخير قد أصابته بركتك قال):
(فتبيعنيه) بنون وتحتية بعد العين ولابن عساكر: أفتبيعه
بإسقاطهما (قال: فاستحييت) منه (ولم يكن لنا ناضح غيره
قال: قلت) له عليه الصلاة والسلام (نعم. قال) (فبعنيه) زاد
في الشروط بأوقية (فبعته إياه على أن لي فقار ظهره) بفتح
الفاء خرزات عظام الظهر وهي مفاصل عظامه أي على أن لي
الركوب عليه (حتى) أي إلى أن (أبلغ المدينة) وفي الشروط
وغيره فاستثنيت حملانه إلى أهله بضم الحاء أي الحمل
والمفعول محذوف أي حملانه إياي أو متاعي أو نحو ذلك
فالمصدر مضاف للفاعل، واختلف في جواز بيع الدابة بشرط ركوب
البائع فجوّزه المؤلّف لكثرة رواية الاشتراط وعليه أحمد،
وجوّزه مالك إذا كانت المسافة قريبة ومنعه الشافعي وأبو
حنيفة مطلقًا لحديث النهي عن بيع وشرط.
وأجيب عن هذا الحديث: بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لم يرد حقيقة البيع بل أراد أن يعطيه الثمن
بهذه الصورة أو أن الشرط لم يكن في نفس العقد بل كان
سابقًا أو لاحقًا فلم يؤثر في العقد، ووقع عند النسائي
أخذته بكذا وأعرتك ظهره إلى المدينة فزال الإشكال، لكن
اختلف فيها حماد بن زيد وسفيان بن عيينة وحماد أعرف بحديث
أيوب من سفيان، والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط
أكثر عددًا من الذين خالفوهم، وهذا وجه من وجوه الترجيح
فيكون أصح ويترجح أيضًا بأن الذين رووه بصيغة الاشتراط
معهم زيادة وهم حفاظ فيكون حجة.
(قال: فقلت: يا رسول الله إني عروس) يستوي فيه الذكر
والأنثى وفي النكاح قريب عهد بعرس أي قريب عهد بالدخول على
المرأة (فاستأذنته) عليه الصلاة والسلام في التقدم (فأذن
لي فتقدمت الناس إلى المدينة حتى أتيت المدينة فلقيني
خالي) اسمه ثعلبة بن عنمة بن عدي بن سنان وله خال آخر اسمه
عمرو بن عنمة، وعند ابن عساكر: اسمه الجدّ بفتح الجيم
وتشديد الدال ابن قيس وقد ذكروا أنه خاله من جهة مجازية
فيحتمل أن يكون الذي لامه على بيع الجمل أيضًا لأنه كان
يتهم بالنفاق بخلاف ثعلبة وعمرو ابني عنمة (فسألني عن
البعير فأخبرته بما صنعت فيه) ولأبي ذر: صنعت به (فلامني)
على بيعه من جهة أنه ليس لنا ناضح غيره، ولأحمد من رواية
نبيح بضم النون
وفتح الموحدة آخره حاء مهملة فأتيت عمتي بالمدينة فقلت
لها: ألم ترى أني بعت ناضحنا فما رأيت أعجبها ذلك. الحديث.
واسمها هند بنت عمرو، ويحتمل أنهما جميعًا لم يعجبهما بيعه
لما ذكر من أنه لم يكن عنده ناضح غيره.
(قال: وقد كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال لي حين استأذنته) في التقدم إلى المدينة
(هل تزوجت بكرًا أم) تزوجت (ثيبًا) قال ابن مالك في توضيحه
فيه شاهد على أن هل قد تقع موقع الهمزة المستفهم بها عن
التعيين فتكون أم بعدها متصلة غير منقطعة لأن استفهام
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جابرًا لم يكن
إلا بعد علمه بتزوجه إما بكرًا وإما ثيبًا فطلب منه
(5/124)
الإعلام بالتعيين كما كان يطلب بأي فالموضع
إذًا موضع الهمزة لكن استغنى عنها بهل وثبت بذلك أن أم
المتصلة قد تقع بعد هل كما تقع بعد الهمزة اهـ.
وتعقبه في المصابيح فقال: يمكن أن يقال: لا نسلم أنها في
الحديث متصلة ولم لا يجوز أن تكون منقطعة. وثيبًا مفعول
بفعل محذوف فاستفهم أوّلاً ثم أضرب واستفهم ثانيًا،
والتقدير: أتزوجت ثيبًا؟ قال: ولا شك أن المصير إلى هذا
أولى لما في الأول من إخراج عما عهد فيها من كونها لا
تعادل إلا الهمزة.
(فقلت) له عليه الصلاة والسلام (تزوجت ثيبًا) هي سهيلة بنت
معوذ الأوسية (فقال): عليه الصلاة والسلام بفاء قبل القاف
(هلا) بغير فاء قبل الهاء ولأبي ذر قال: فهلا (تزوجت بكرًا
تلاعبها وتلاعبك) المراد الملاعبة المشهورة بدليل مجيئه في
رواية أخرى بلفظ: تضاحكها وتضاحكك (فقلت: يا رسول الله
توفي والدي أو استشهد ولي أخوات صغار) ولمسلم قلت: إن عبد
الله هلك وترك تسع بنات (فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن)
بالرفع، ولأبي ذر: فلا تؤدبهن بالنصب (ولا تقوم) بالرفع،
ولأبي ذر: ولا تقوم بالنصب (عليهن فتزوجت ثيبًا لتقوم
عليهن وتؤدبهن) بالرفع ولأبي ذر بالنصب (قال: فلما قدم
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة
غدوت عليه بالبعير فأعطاني ثمنه وردّه) أي البعير (عليّ)
فحصل لجابر الثمن والمثمن معًا. وفي رواية معمر الماضية في
الاستقراض فأعطاني ثمن الجمل والجمل وسهمي مع القوم وكلها
بطريق المجاز لأن العطية إنما كانت بواسطة بلال كما رواه
مسلم من هذا الوجه، فلما قدمت المدينة قال لبلال: "أعطه
أوقية من ذهب" قال: فأعطاني أوقية وزادني قيراطًا فقلت: لا
تفارقني زيادة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
(قال المغيرة) المذكور بالسند السابق أو هو من التعليقات
(هذا) أي البيع بمثل هذا الشرط (في قضائنا) حكمنا (حسن لا
نرى به بأسًا) لأنه أمر معلوم لا خداع فيه ولا موجب
للنزاع.
وهذا الحديث ذكره المؤلّف في عشرين موضعًا، وأخرجه مسلم
وأبو داود والترمذي والنسائي.
114 - باب مَنْ غَزَا وَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسِهِ
فِيهِ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
(باب من غزا وهو) أي والحال أنه (حديث عهد بعرسه) بضم
العين كما في الفرع وأصله أي بزمان عرسه وبكسرها أي
بزوجته، ولأبي ذر عن الكشميهني: بعرس بغير ضمير مع ضم
العين (فيه جابر) أي في الباب حديث جابر السابق قريبًا (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فاكتفى بالقرب
عن السياق.
115 - باب مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ بَعْدَ الْبِنَاءِ
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب من اختار الغزو بعد البناء) أي الدخول بزوجته لا قبله
لعدم تفرغ قلبه للجهاد وإقباله عليه بنشاط لأن الذي يعقد
عقده على امرأة يصير متعلق الخاطر بها بخلاف ما إذا دخل
بها فإنه يصير الأمر في حقه أخف غالبًا (فيه أبو هريرة) أي
في الباب حديثه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) الآتي في الخمس من طريق همام عنه بلفظ: غزا
نبي من الأنبياء فقال: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة ولما
يبن بها وإنما لم يسقه هنا لأنه جرى على عادته الغالبة في
أنه لا يعيد الحديث الواحد إذا اتحد مخرجه في مكانين
بصورته غالبًا بل يتصرف فيه بالاختصار وأما قول الكرماني
وإنما لم يذكره واكتفى بالإشارة إليه لأنه لم يكن على شرطه
فأراد التنبيه عليه فليس بجيد.
116 - باب مُبَادَرَةِ الإِمَامِ عِنْدَ الْفَزَعِ
(باب مبادرة الإمام) بالركوب (عند) وقوع (الفزع) وهو
الإغاثة وفي الأصل الخوف.
2968 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
شُعْبَةَ حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
-رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ،
فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَرَسًا لأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ: مَا
رَأَيْنَا مِنْ شَيءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن شعبة قال: حدّثني) بالإفراد (قتادة) بن
دعامة (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان بالمدينة
فزع فركب رسول الله) ولابن عساكر النبي (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرسًا) هو المندوب (لأبي طلحة) زيد بن
سهل الأنصاري زوج أم أنس بن مالك (فقال): (ما رأينا من
شيء) يوجب الفزع (وإن وجدناه) أي الفرس (لبحرًا) بلام
التأكيد وإن مخففة من الثقيلة والمعنى أنه كالبحر في سرعة
جريه كأنه يسبح في جريه كما يسبح ماء البحر إذا ركب بعض
أمواجه بعضًا.
117 - باب السُّرْعَةِ وَالرَّكْضِ فِي الْفَزَعِ
(باب السرعة والركض) وهو ضرب من السير (في الفزع).
2969 - حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا
حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ
عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: "فَزِعَ النَّاسُ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَسًا لأَبِي طَلْحَةَ
بَطِيئًا، ثُمَّ خَرَجَ يَرْكُضُ وَحْدَهُ، فَرَكِبَ
النَّاسُ يَرْكُضُونَ خَلْفَهُ فَقَالَ: لَمْ تُرَاعُوا،
إِنَّهُ لَبَحْرٌ. فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ".
وبه قال: (حدّثنا
(5/125)
الفضل بن سهل) بفتح السين المهملة وسكون
الهاء الأعرج البغدادي قال: (حدّثنا حسين بن محمد) هو ابن
بهرام التميمي قال: (حدّثنا جرير بن حازم) بفتح الجيم في
الأول وبالحاء المهملة والزاي في الآخر ابن زيد الأزدي
البصري (عن محمد) هو ابن سيرين (عن أنس بن مالك -رضي الله
عنه- قال: فزع الناس فركب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرسًا لأبي طلحة بطيئًا ثم خرج) عليه
الصلاة والسلام (يركض) الفرس (وحده) من غير رفيق (فركب
الناس يركضون خلفه فقال) عليه الصلاة والسلام:
(لم تراعوا) أي لا تراعوا فلم بمعنى لا أي لا تخافوا وهو
مجزوم بحذف النون (إنه) أي الفرس (لبحر) أي كالبحر في سرعة
سيره (فما سبق) بضم السين مبنيًّا للمفعول، ولأبي الوقت
قال فما سبق (بعد ذلك اليوم).
118 - باب الْخُرُوجِ فِي الْفَزَعِ وَحْدَهُ
(باب الخروج في الفزع وحده) كذا ثبتت هذه الترجمة في
اليونينية وغيرها من غير حديث، ولعله أراد أن يكتب فيه
حديث أنس من وجه آخر فلم يتيسر له ذلك وقد رقم عليه
اليونيني علامة أبي ذر.
119 - باب الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلاَنِ فِي السَّبِيلِ
(باب الجعائل) بالجيم والعين المفتوحتين جمع جعيلة ما
يجعله القاعد من الأجرة لمن يغزو عنه (والحملان) بضم الحاء
المهملة وسكون الميم مجرور عطفًا على سابقه مصدر كالحمل
(في السبيل) أي سبيل الله وهو الجهاد.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: الْغَزْوُ.
قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ
مَالِي. قُلْتُ: أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيَّ. قَالَ: إِنَّ
غِنَاكَ لَكَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِي
فِي هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ نَاسًا
يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِيُجَاهِدُوا، ثُمَّ لاَ
يُجَاهِدُونَ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ
حَتَّى نَأْخُذَ
مِنْهُ مَا أَخَذَ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: إِذَا
دُفِعَ إِلَيْكَ شَىْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ.
(وقال مجاهد) هو ابن جبر ضد الكسر المفسر التابعي مما وصله
المؤلّف في غزوة الفتح بمعناه (قلت لابن عمر) بن الخطاب
(الغزو) أريد بالرفع كما في الفرع مبتدأ خبره محذوف، ولأبي
ذر عن الكشميهني: أتغزو بالنون المفتوحة وضم الزاي بعدها
واو، وفي بعض الأصول الغزو بالنصب مفعولاً بفعل محذوف أي
أريد الغزو، وقول ابن حجر على الإغراء والتقدير عليك
الغزو، وتعقبه العيني بأنه لا يستقيم ولا يصح معناه لأن
مجاهدًا يخبر عن نفسه أنه يريد الغزو لا أنه يطلب من ابن
عمر ذلك ويدل له قوله (قال) ابن عمر: (إني أحب أن أعينك
بطائفة من مالي. قلت: أوسع الله عليّ. قال: إن غناك لك،
وإني أحب أن يكون من مالي في هذا الوجه). فيه أنه لا يكره
إعانة المغازي بنحو فرس. نعم اختلف فيما إذا آجر الغازي
نفسه أو فرسه في الغزو فجوّزه الشافعية وكره المالكية وكذا
الحنفية لكنهم استثنوا ما إذا كان بالمسلمين ضعف وليس في
بيت المال شيء وإن أعان بعضهم بعضًا جاز لا على وجه البدل.
(وقال عمر) بن الخطاب مما وصله ابن أبي شيبة وكذا المؤلّف
في تاريخه من هذا الوجه (إن ناسًا يأخذون من هذا المال
ليجاهدوا) نصب بلام كي بحذف النون (ثم لا يجاهدون فمن
فعله) أي الأخذ ولم يجاهد ولأبي ذر فمن فعل (فنحن أحق
بماله حتى نأخذ منه ما أخذ) أي الذي أخذه وفيه أن كل من
أخذ شيئًا من بيت المال على عمل إذا أهمل العمل ردّ ما أخذ
بالقضاء وكذلك الأخذ منه على عمل لا يتهيأ له.
(وقال طاوس ومجاهد: إذا دفع إليك شيء) يضم الدال مبنيًّا
للمفعول (تخرج به في سببل الله فاصنع به ما شئت) مما يتعلق
بسبيل الله (وضعه) أي حتى الوضع (عند أهلك). فإنه أيضًا من
تعلقاته.
2970 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ
أَسْلَمَ، فَقَالَ زَيْدٌ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "قَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: حَمَلْتُ عَلَى
فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ،
فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- آشْتَرِيهِ؟ فَقَالَ: لاَ تَشْتَرِهِ وَلاَ
تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ".
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: سمعت مالك بن أنس) الأصبحي
إمام دار الهجرة (سأل زيد بن أسلم فقال زيد: سمعت أبي)
أسلم مولى عمر بن الخطاب (يقول: قال عمر بن الخطاب -رضي
الله عنه-: حملت على فرس في سبيل الله) أي ملكه وعند
المؤلّف أنه أعطاها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ليحمل عليها فحمل عليها رجل الحديث قال عمر
(فرأيته) أي الفرس (يباع فسألت النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آشتريه) بهمزة استفهام ممدودة (فقال):
(لا تشتره) بحذف الياء قبل الهاء جزمًا على النهي (ولا
تعد) أي لا ترجع (في صدقتك).
ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث أن الفرس الذي حمل عليه
في سبيل الله كان حملانًا ولم يكن حبسًا إذ لو كان حبسًا
لم يجز بيعه.
2971 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله
عنهما- "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى
فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ
أَنْ يَبْتَاعَهُ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: لاَ تَبْتَعْهُ
وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ".
وبه قال: (حدثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن نافع عن عبد الله بن عمر)
ولأبي ذر عن ابن عمر (-رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب)
سقط في رواية أبي ذر
(5/126)
ابن الخطاب (حمل على فرس في سبيل الله
فوجده يباع) بضم أوله مبنيًّا للمفعول (فأراد أن يبتاعه)
أي يشتريه (فسأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال):
(لا تبتعه) بسكون الموحدة وجزم العين على النهي أي لا
تشتره (ولا تعد في صدقتك).
2972 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْلاَ أَنْ
أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ
وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ حَمُولَةً، وَلاَ أَجِدُ مَا
أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَىَّ أَنْ
يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي قَاتَلْتُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَقُتِلْتُ ثُمَّ أُحْيِيتُ، ثُمَّ
قُتِلْتُ ثُمَّ أُحْيِيتُ».
وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى بن
سعيد) القطان (عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: حدّثني)
بالإفراد (أبو صالح) ذكوان الزيات (قال: سمعت أبا هريرة-
رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لولا أن أشق على أمتي) لأن أنفسهم لا تطيب بالتخلف ولا
يقدرون على التأهب لعجزهم عن آلة السفر (ما تخرفت عن
سرية)، هي القطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى
العدوّ (ولكن لا أجد حمولة) هي التي يحمل عليها من كبار
الإبل (ولا أجد ما أحملهم عليه وبشق علي أن يتخلفوا عني،
ولوددت أي والله لوددت (أني قاتلت في سبيل الله فقتلت ثم
أحييت، ثم قتلت ثم أحييت).
بالبناء للمفعول في الأربعة وتمنّيه عليه الصلاة والسلام
ذلك للحرص منه على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين بدلاً
لنفسه في مرضاة ربه وإعلاء كلمته ورغبته في الازدياد من
الثواب ولتتأسى به أمته.
120 - باب الأَجِيرِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: يُقْسَمُ لِلأَجِيرِ
مِنَ الْمَغْنَمِ.
وَأَخَذَ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ فَرَسًا عَلَى النِّصْفِ
فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَرَسِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ،
فَأَخَذَ مِائَتَيْنِ وَأَعْطَى صَاحِبَهُ مِائَتَيْنِ.
(باب الأجير) في الغزو هل يسهم له أم لا. (وقال الحسن)
البصري (وابن سيرين) محمد مما وصله عبد الرزاق عنهما
بمعناه (يقسم للأجير من المغنم) خصّه الشافعية بالأجير
لغير الجهاد كسياسة الدواب وحفظ الأمتعة ونحوهما مع القتال
لأنه شهد الواقعة وتبين بقتاله أنه لم يقصد بخروجه محض غير
الجهاد بخلاف ما إذا لم يقاتل ومحل ذلك في أجير وردت
الإجارة على عينه فإن وردت على ذمته أعطي وإن لم يقاتل
سواء تعلقت بمدة معينة أم لا. أما الأجير للجهاد فإن كان
ذميًّا فله الأجرة دون السهم والرضخ إذ لم يحضر مجاهدًا
لإعراضه عنه بالإجارة أو مسلمًا فلا أجرة له لبطلان إجارته
له لأنه بحضوره الصف يتعين عليه وهل يستحق السهم فيه وجهان
في الروضة وأصلها أحدهما نعم لشهود الوقعة والثاني لا وبه
قطع البغوي سواء قاتل أم لا إذ لم يحضر مجاهدًا لإعراضه
عنه بالإجارة وكلام الرافعي يقتضي ترجيحه. وقال المالكية
والحنفية إذا استؤجر لأن يقاتل لا يسهم له.
(وأخذ عطية بن قيس) الكلاعي الحمصي أو الدمشقي المتوفى سنة
عشر ومائة (فرسًا) لم يسم صاحب الفرس (على النصف) مما يخص
غيرها من الكراع وقت القسمة (فبلغ سهم الفرس أربعمائة
دينار، فأخذ مائتين وأعطى صاحبه) النصف (مائتين). وقد
وافقه على ذلك الأوزاعي وأحمد خلافًا للأئمة الثلاثة، وقد
زاد المستملي هنا باب استعارة الفرس في الغزو قال الحافظ
ابن حجر وهو خطأ لأنه يستلزم أن يخلو باب الأجير من حديث
مرفوع ولا مناسبة بينه وبين حديث يعلى بن أمية اهـ.
2973 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ
عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ -رضي
الله عنه- قَالَ: "غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَزْوَةَ تَبُوكَ فَحَمَلْتُ
عَلَى بَكْرٍ، فَهْوَ أَوْثَقُ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي،
فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا فَقَاتَلَ رَجُلاً فَعَضَّ
أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ
وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَهْدَرَهَا فَقَالَ: أَيَدْفَعُ
يَدَهُ إِلَيْكَ فَتَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ؟
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا)
ولأبي ذر: أخبرنا (سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا ابن جريج)
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (عن عطاء) هو ابن أبي
رباح (عن صفوان بن يعلى عن أبيه) يعلى بن أمية (-رضي الله
عنه- قال: غزوت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- غزوة تبوك فحملت على بكر) فتيّ الإبل (فهو أوثق
أعمالي في نفسي) بالمثلثة قبل القاف وأعمالي بالعين
المهملة وللحموي أوفق أحمالي بالفاء، بدل المثلثة والحاء
المهملة بدل العين وللمستملي أوثق أجمالي بالمثلثة وبالجيم
وصوب البرماوي الأولى (فاستأجرت أجيرًا) لم يسم وفي رواية
أبي داود آذن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في الغزو وأنا شيخ ليس لي خادم فالتمست أجيرًا
يكفيني وأجرى له سهمين فوجدت رجلاً فلما دنا الرحيل أتاني
فقال: ما أدري ما السهمان فسم لي شيئًا كان السهم أو لم
يكن؟ فسميت له
ثلاثة دنانير (فقاتل) الأجير (رجلاً) هو يعلى بن أمية نفسه
(فعض أحدهما الأخر) في مسلم أن العاض هو يعلى بن أمية
(فانتزع) المعضوض (يده من فيه) من في العاض (ونزع ثنيته)
واحدة الثنايا من الأسنان (فأتى) العاض الذي نزعت ثنيته
(النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأهدرها) أي
(5/127)
أسقطها (فقال): بالفاء، ولأبي ذر: وقال:
(أيدفع يده إليك فتقضمها) بفتح المثناة الفوقية والضاد
المعجمة من القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان يقال قضمت
الدابة بالكسر تقضم بالفتح (كما يقضم الفحل) بالحاء
المهملة لا الفجل بالجيم والغرض منه قوله فاستأجرت أجيرًا.
121 - باب مَا قِيلَ فِي لِوَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب ما قيل في لواء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) اللواء بكسر اللام والمد الراية وهي العلم
أيضًا أو هو غيرها وهي ثوب يجعل في طرف الرمح ويخلى كهيئته
تصفقه الرياح والعلم يعقد أو هو دونها أو هو العلم الضخم
وعلى التفرقة قوم كالترمذي، ويؤيده حديث ابن عباس المروي
عنده وأحمد: كانت راية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سوداء ولواؤه أبيض، ومثله عند الطبراني عن
بريدة. وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: مكتوب فِه: لا إله
إلا الله محمد رسول الله وهو ظاهر في التغاير، والذي صرح
به غير واحد من أهل اللغة ترادفهما فلعل التفرقة بينهما
عرفية وقد كانت الراية يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحمل على
رأسه، وأما العلم العلامة لمحل الأمير ومعه حيث دار وكان
اسم رايته عليه الصلاة والسلام العقاب.
2974 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ:
حَدَّثَنا اللَّيْثُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُقَيْلٌ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي
مَالِكٍ الْقُرَظِيُّ: "أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ
الأَنْصَارِيَّ -رضي الله عنه-وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ--
أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ".
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) بكسر العين هو سعيد بن
الحكم بن محمد بن أبي مريم الجمحي (قال: حدّثني) بالإفراد
ولأبي ذر حدّثنا (الليث) بن سعيد الإمام (قال: أخبرني)
بالإفراد (عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب)
الزهري (قال: أخبرني) بالإفراد (ثعلبة بن أبي مالك) عبد
الله المدني (القرظي أن قيس بن سعد) أي ابن عبادة
(الأنصاري) الصحابي ابن الصحابي سيد الخزرج ابن سيدهم
(-رضي الله عنه-: وكان صاحب لواء رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) جملة معترضة بين اسم أن
وخبرها وهو قوله (أراد الحج فرجل) بتشديد الجيم لا بالحاء
المهملة أي سرح شعر رأسه قبل أن يحرم بالحج فمفعول رجل
محذوف. وهذا طرف من حديث أخرجه الإسماعيلي وتمامه: فرجَّل
أحد شقي رأسه فقام غلام له فقلد هديه فنظر قيس فإذا هديه
قد قلد فأهلّ بالحج ولم يرجل شق رأسه الآخر، وإنما اقتصر
على هذا القدر الذي ساقه لأنه موقوف وليس من غرضه وإنما
أراد منه أن قيسًا
كان صاحب لوائه عليه الصلاة والسلام أي الذي يختص بالخزرج
من الأنصار، وقد كان عليه الصلاة والسلام يدفع إلى كل رئيس
قبيلة لواء يقاتلون تحته. نعم قوله وكان صاحب لوائه مرفوع
لأنه لا يتقرر في ذلك إلا بإذنه عليه الصلاة والسلام.
2975 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بنُ سعيدٍ حَدَّثَنَا
حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ -رضي الله عنه-
قَالَ: "كَانَ عَلِيٌّ -رضي الله عنه- تَخَلَّفَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ، فَقَالَ: أَنَا
أَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَلَحِقَ
بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا فِي
صَبَاحِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ -أَوْ
قَالَ: لَيَأْخُذَنَّ- غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ، أَوْ قَالَ: يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،
يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ
وَمَا نَرْجُوهُ. فَقَالُوا: هَذَا عَلِيٌّ، فَأَعْطَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ". [الحديث 2975 - طرفاه في:
3701، 4209].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) ولأبي ذر قتيبة بن سعيد قال:
(حدّثنا حاتم بن إسماعيل) بالحاء المهملة الكوفي سكن
المدينة (عن يزيد بن أبي عبيد) بضم العين وفتح الموحدة
مولى سلمة (عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: كان
علي) هو ابن أبي طالب (-رضي الله عنه- تخلف عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في) غزوة (خيبر وكان
به رمد فقال: أنا أتخلف عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)؟ يعني لأجل الرمد والهمزة في أنا
للاستفهام مقدرة أو ملفوظة للإنكار كأنه أنكر على نفسه
تخلفه (فخرج عليّ فلحق بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بخيبر أو في أثناء الطريق (فلما كان مساء
الليلة التي فتحها في صباحها فقال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لأُعطين الراية) بضم الهمزة وفي اليونينية لأعطين بفتحها
(أو قال): (ليأخذن) شك الراوي ولأبي ذر أو ليأخذن فأسقط
لفظ قال (غدا رجل) بالرفع على الفاعلية وللحموي والمستملي
رجلاً بالنصب مفعول لأعطين (يحبه الله ورسوله) (أو قال):
(يحب الله ورسوله يفتح الله عليه) خيبر (فإذا نحن بعليّ)
قد حضر (وما نرجوه) أي بقدومه في ذلك الوقت للرمد الذي به
(فقالوا) للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (هذا
علي) قد حضر (فأعطاه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) الراية (ففتح الله عليه) خيبر، والغرض منه
قوله: "لأعطين الراية غدًا رجلاً يحبه الله" فإنه يشعر بأن
الراية لم تكن خاصة بشخص بعينه بل كان يعطيها في كل غزوة
لمن يريد.
2976 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ
يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ رضي الله عنهما: هَاهُنَا أَمَرَكَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ
تَرْكُزَ الرَّايَةَ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) بن كريب الهمداني الكوفي
قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام بن عروة
عن
(5/128)
أبيه) عروة بن الزبير (عن نافع بن جبير) أي
ابن مطعم (قال: سمعت العباس) بن عبد المطلب (يقول للزبير)
بن العوّام (-رضي الله عنهما- هاهنا) أي
بالحجون (أمرك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أن تركز الراية) بفتح التاء وضم الكاف وتمامه قال: نعم.
والحديث يأتي مطوّلاً في غزوة الفتح إن شاء الله تعالى مع
مباحثه وفيه أن الراية لا تركز إلا بإذن الإمام لأنها
علامة عليه وعلى مكانه فلا ينبغي أن يتصرف فيها إلا بأمره.
122 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"
وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}
[آل عمران: 151] قَاله جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(ياب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
(نصرت بالرعب مسيرة شهر) أي مسافته. (وقوله جل وعز) ولأبي
ذر وقول الله عز وجل: ({سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب})
[آل عمران: 151] قال أهل التفسير يريد ما قذف في قلوبهم من
الخوف يوم الأحزاب حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب:
زاد في غير رواية أبي ذر: ({بما أشركوا بالله}) أي بسبب
إشراكهم به.
(قال) ولأبي: قاله، أي نصره عليه الصلاة والسلام بالرعب
(جابر) مما وصله المؤلّف في أوّل كتاب التيمم (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولفظه: "أعطيت خمسًا
لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر" الحديث. وإنما
اقتصر على الشهر لأنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار
كالشام والعراق ومصر أكثر من شهر وليس المراد بالخصوصية
مجرد حصول الرعب بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدوّ.
2977 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ،
وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ. فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُوتِيتُ
مَفَاتِيح خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي. قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْتُمْ
تَنْتَثِلُونَهَا». [الحديث 2977 - أطرافه في: 6998، 7013،
7273].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد (عن عقيل) بضم العين وفتح القاف (عن ابن
شهاب) الزهري (عن سعيد بن المسبب) بفتح المثناة التحتية
(عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(بعثت) بضم الموحدة (بجوامع الكلم) من إضافة الصفة إلى
الموصوف وهي الكلمة الموجزة لفظًا المتسعة معنى وهذا شامل
للقرآن والسُّنّة، فقد كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يتكلم بالمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة
(ونصرت) على الأعداء (بالرعب) أي الخوف زاد في رواية
التيمم السابقة "مسيرة شهر" وللطبراني من حديث السائب بن
يزيد: "شهرًا أمامي وشهرًا خلفي" ولا تنافي بينه وبين حديث
جابر على ما لا يخفى (فبينا أنا نائم أُوتيت مفاتيح) بضم
الهمزة وواو بعدها وبحذف الموحدة من مفاتيح ولغير أبي ذر
أتيت بمفاتيح (خزائن الأرض) كخزائن كسرى وقيصر ونحوهما أو
معادن الأرض التي منها
الذهب والفضة (فوضعت في يدي) كناية عن وعد ربه بما ذكر أنه
يعطيه أمته وكذا وقع ففتح لأمته ممالك كثيرة فغنموا
أموالها واستباحوا خزائن ملوكها، وقد حمل بعضهم ذلك على
ظاهره فقال: هي خزائن أجناس أرزاق العالم ليخرج لهم بقدر
ما يطلبونه لذواتهم فكل ما ظهر من رزق العالم فإن الاسم
الإلهي لا يعطيه إلا عن محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الذي بيده المفاتيح كما اختص تعالى بمفاتيح
الغيب فلا يعلمها إلا هو، وأعطى هذا السيد الكريم منزلة
الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن اهـ.
(وقال أبو هريرة): -رضي الله عنه- (وقد ذهب رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنتم تنتثلونها).
بفتح المثناة الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية وكسر
المثلثة أي تستخرجونها أي الأموال من مواضعها يشير إلى أنه
عليه الصلاة والسلام ذهب ولم ينل منها شيئًا.
2978 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ
"أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ -وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ-
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ
الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وارْتَفَعَتِ
الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ
أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ،
إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ".
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة بالزاي (عن) ابن شهاب (الزهري قال:
أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (ابن عبد الله) بن
عتبة بن مسعود (أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخبره أن أبا
سفيان) صخر بن حرب (أخبره أن هرقل) عظيم الروم الملقب
بقيصر (أرسل إليه وهم بإيلياء) بيت المقدس (ثم) بعد حضورهم
(دعا بكتاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) الذي بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى
هرقل فقرأه (فلما فرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب)
اختلاط الأصوات ولأبي ذر كثرت بتاء التأنيث (فارتفعت
الأصوات) بالفاء ولأبي ذر: وارتفعت الأصوات (وأخرجنا) من
مجلسه قال أبو سفيان (فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر)
جواب
(5/129)
قسم محذوف أي والله لقد أمر بكسر الميم أي
عظم (أمر ابن أبي كبشة) بفتح الكاف وسكون الموحدة يريد
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أنه) بكسر
الهمزة على الاستئناف البياني ويجوز فتحها على أنه مفعول
لأجله (يخافه ملك بني الأصفر) الروم.
وهذا موضع الترجمة لأنه كان بين المدينة وبين الموضع الذي
ينزله قيصر مدة شهر أو نحوه.
123 - باب حَمْلِ الزَّادِ فِي الْغَزْوِ وَقَوْلِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَى} [البقرة: 197]
(باب حمل الزاد في الغزو، وقول الله تعالى) ولأبي ذر: عز
وجل بدل قوله تعالى: ({وتزودوا}) في سفركم للحج والعمرة ما
تكفون به وجوهكم عن المسألة ({فإن خير الزاد التقوى})
[البقرة: 197] كان ناس من أهل اليمن يحجّون بلا زاد مظهرين
التوكل ثم يسألون الناس فنزلت أي فمن التقوى الكف عن
السؤال والإبرام. وقال بعضهم: تزوّدوا لسفر الدنيا بالطعام
وتزوّدوا لسفر الآخرة بالتقوى فإن خير الزاد التقوى.
2979 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي
-وَحَدَّثَتْنِي أَيْضًا فَاطِمَةُ- عَنْ أَسْمَاءَ -رضي
الله عنها- قَالَتْ: "صَنَعْتُ سُفْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِ أَبِي
بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلاَ لِسِقَائِهِ
مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ، فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ:
وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلاَّ
نِطَاقِي. قَالَ: فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فَارْبِطِيهِ:
بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ، وَبِالآخَرِ السُّفْرَةَ،
فَفَعَلْتُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ".
[الحديث 2979 - طرفاه في: 3907، 5388].
وبه قال: (حدّثنا عبيد بن إسماعيل) بضم العين مصغرًا
الهباري الكوفي (قال: حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن
هشام) هو ابن عروة (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن
الزبير بن العوام (وحدّثتني) بالإفراد (أيضًا فاطمة) بنت
المنذر زوج هشام كلاهما (عن أسماء) بنت أبي بكر (-رضي الله
عنها-) وعن أبيها (قالت: صنعت سفرة رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم سين سفرة وسكون فائها
طعام يتخذه المسافر وأكثر ما يحمل في جلد مستدير فنقل اسم
الطعام إلى الجلد وسمي به كما سميت المزادة راوية (في بيت
أبي بكر) -رضي الله عنه- (حين أراد أن يهاجر) من مكة (إلى
المدينة قالت): أسماء (فلم نجد لسفرته ولا لسقائه) بكسر
السين ظرف الماء من الجلد (ما نربطهما به) بالنون وكسر
الموحدة كاللاحقة كما في الفرع وأصله.
وهذا موضع الترجمة لأنه يدل على حمل الزاد لأجل السفر،
لكنه استشكل لكونه لم يكن سفر غزو. وأجيب بالقياس عليه.
(فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئًا أربط به إلاّ نطاقي)
بكسر النون ما تشدّ به المرأة وسطها ليرتفع به ثوبها من
الأرض عند المهنة أو إزار فيه تكة أو ثوب تلبسه المرأة ثم
تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل (قال) لها أبو
بكر (فشقّيه باثنين فاربطيه) وللأصيلي فاربطي (بواحد
السقاء وبالآخر السفرة ففعلت) ذلك بفتح اللام وسكون
الفوقية مصحّحًا عليه في الفرع وفي اليونينية ففعلت بسكون
اللام وضم الفوقية قال الراوي (فلذلك سميت) أسماء (ذات
النطاقين). وقيل لأنها كانت تجعل نطاقًا على نطاق أو كان
لها نطاقان تلبس أحدهما وتحمل في الآخر الزاد، والمحفوظ
الأوّل.
2980 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ أَخْبَرَنِي
عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله
عنهما- قَالَ: "كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ
عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (أخبرنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو) بفتح العين هو ابن دينار (قال:
أخبرني) بالإفراد، ولأبي ذر قال عمرو أخبرني (عطاء) هو ابن
أبي رباح (سمع جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال):
(كنّا نتزوّد لحوم الأضاحي) بتشديد الياء كما في الفرع
ويجوز التخفيف جمع أضحية ما يذبح في يوم عيد الأضحى (على
عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى
المدينة) وهذا وإن لم يكن سفر غزو لكن سفر الغزو مقيس
عليه، ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: "كنا نتزود".
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف في الأضاحي والأطعمة ومسلم في
الأضاحي والنسائي في الحج.
2981 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ:
أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ
النُّعْمَانِ -رضي الله عنه- أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ خَرَجَ
مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ
-وَهْيَ أدنى خَيْبَرَ- فَصَلَّوُا الْعَصْرَ، فَدَعَا
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِالأَطْعِمَةِ، وَلَمْ يُؤْتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَا
فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا
وَصَلَّيْنَا".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) بن عبيد الزمن العنزي
البصري قال: (حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي
(قال: سمعت يحيى) بن سعيد الأنصاري (قال: أخبرني) بالإفراد
(بشير بن يسار) بضم الموحدة وفتح الشين المعجمة ويسار ضد
اليمين الحارثي الأنصاري المدني (أن سويد بن النعمان) بن
مالك الأنصاري (-رضي الله عنه- أخبره أنه خرج مع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام خيبر) في غزوتها
سنة سبع وخيبر غير منصرف للتأنيث والعلمية (حتى إذا كانوا)
أي النبي وأصحابه (بالصهباء) بالمهملة والموحدة والمد
(وهي) أي الصهباء (من خيبر وهي أدنى خيبر) أي أسفلها
(فصلوا العصر) (فدعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بالأطعمة فلم يؤت) بالفاء ولأبي ذر: ولم يؤت
(5/130)
(النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إلا بسويق) وهو ما يجرش من الشعير والحنطة
وغيرهما للزاد (فلكنا) بضم اللام وسكون الكاف أي مضغنا
السويق وأدرناه في الفم (فأكلنا وشربنا) من الماء أي من
رائق السويق (ثم قام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) إلى صلاة المغرب (فمضمض) قبل الدخول في الصلاة
(ومضمضنا) كذلك (وصلينا) نحن والنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم نتوضأ.
وموضع الترجمة في قوله: فدعا النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأطعمة ومن قوله إلا بالسويق وتقدم
الحديث في باب من مضمض من السويق من كتاب الطهارة.
2982 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ حَدَّثَنَا
حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "خَفَّتْ
أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي نَحْرِ
إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ
فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ
إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ, مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
نَادِ فِي النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ،
فَدَعَا وَبَرَّكَ
عَلَيْهِم، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ فَاحْتَثَى
النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ".
وبه قال: (حدّثنا بشر بن مرحوم) بكسر الموحدة وسكون الشين
المعجمة ومرحوم بالحاء المهملة جده واسم أبيه عبيس بالعين
والسين المهملتين العطار البصري مولى آل معاوية قال:
(حدّثنا حاتم بن إسماعيل) بالحاء المهملة وكسر المثناة
الفوقية ابن إسماعيل الكوفي (عن يزيد بن أبي عبيد) مولى
سلمة بن الأكوع (عن سلمة) بن الأكوع (-رضي الله عنه- قال:
خفت) أي قلت (أزواد الناس وأملقوا) أي افتقروا وفنيت
أزوادهم كذا قرره الزركشي وابن حجر والبرماوي والعيني
بورده في المصابيح بأن قبله خفت أزواد الناس ثم الواقع
أنها لم تفن بالكلية بدليل أنهم جمعوا أفضل أزوادهم فبرك
عليه الصلاة والسلام عليها (فأتوا النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فاستأذنوه (في نحر إبلهم فأذن لهم)
عليه الصلاة والسلام في نحرها (فلقيهم عمر) بن الخطاب -رضي
الله عنه- (فأخبروه) بذلك (فقال: ما بقاؤكم بعد) نحر
(إبلكم فدخل عمر) -رضي الله عنه- (على النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم
بعد) نحر (إبلهم)؟ أي بقاؤهم يسير لغلبة الهلاك على
الرجال، وقول ابن حجر والدماميني تبعًا للزركشي وهذا أخذه
عمر -رضي الله عنه- من نهي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر استبقاء
لظهورها ليحمل عليها المسلمين ويحمل أزوادهم، تعقبه صاحب
اللامع بأن الراجح تحريم الحمر لعينها (قال): ولأبي ذر
فقال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم) قال ابن حجر: أي هم
يأتون ولذلك رفعه وتعقبه العيني فقال: كونه حالاً أوجه على
ما لا يخفى (فدعا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(وبرك) بتشديد الراء أي دعا بالبركة (عليه) أي على الطعام
ولأبي ذر عن المستملي عليهم على الأزواد (ثم دعاهم
بأوعيتهم فاحتثى الناس) بالحاء المهملة والمثلثة أي أخذوا
بالحثيات لكثرته أي حفنوا يأيديهم من ذلك (حتى فرغوا) من
حاجتهم (ثم قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله).
إشارة إلى أن ظهور المعجزة يؤيد الرسالة.
ومطابقته للترجمة في قوله: خفت أزواد الناس.
124 - باب حَمْلِ الزَّادِ عَلَى الرِّقَابِ
(باب حمل الزاد على الرقاب) عند تعذر حمله على الدواب.
2983 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا
عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ
جَابِرٍ بن عبد الله -رضي الله عنه- قَالَ: "خَرَجْنَا
وَنَحْنُ ثَلاَثُمِائَةٍ نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى
رِقَابِنَا، فَفَنِيَ زَادُنَا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ
مِنَّا يَأْكُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً. قَالَ رَجُلٌ:
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْنَ كَانَتِ التَّمْرَةُ
تَقَعُ مِنَ الرَّجُلِ؟
قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَقَدْنَاهَا،
حَتَّى أَتَيْنَا الْبَحْرَ، فَإِذَا حُوتٌ قَدْ قَذَفَهُ
الْبَحْرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا
مَا أَحْبَبْنَا".
وبه قال: (حدّثنا صدقة بن الفضل) المروزي قال: (أخبرنا
عبدة) بسكون الموحدة بعد العين المفتوحة ابن سليمان (عن
هشام) هو ابن عروة (عن وهب بن كيسان عن جابر -رضي الله
عنه-) ولأبي ذر عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-
(قال: خرجنا) أي في رجب سنة ثمان من الهجرة في بعث قبل
الساحل وكان أميره أبا عبيدة بن الجراح (ونحن ثلاثمائة
نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا) هذا موضع الترجمة،
والظاهر أنه كان لهم زاد بطريق العموم وزاد بطريق الخصوص
فلما فني الذي بطريق العموم اقتضى رأي أبي عبيدة أن يجمع
الذي بطريق الخصوص للمواساة بينهم في ذلك وجوّز العيني أن
يكون معنى فني أشرف على الفناء (حتى كان الرجل منا يأكل
تمرة) وللكشميهني في كل يوم تمرة (قال رجل): هو أبو الزبير
كما في مسلم وسيأتي إن شاء الله تعالى في المغازي ما يدل
على أنه وهب بن كيسان (يا أبا عبد الله) هي كنية جابر
(وأين كانت التمرة تقع) أي من جهة الغذاء أو القوت (من
الرجل؟ قال: لقد وجدنا فقدها) أي حزنًا على فقدها أو
وجدناه مؤثرًا (حين فقدناها) بفتح القاف، وفي رواية أبي
الزبير فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ فقال: كنا نمصها كما
يمص
(5/131)
الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا
يومنا إلى الليل (حتى أتينا البحر) أي ساحله (فإذا حوت)
زاد في رواية غزوة سيف البحر من المغازي مثل الظرب بفتح
المعجمة وكسر الراء آخره موحدة الجبل الصغير، والحوت: اسم
جنس لجميع السمك أو ما عظم منه، وفي رواية الخولاني فهبطنا
ساحل البحر فإذا نحن بأعظم حوت (قدفه) وللحموي والكشميهني:
قد قذفه (البحر، فأكلنا منه ثمانية عشر يومًا ما أحببنا)
أي ما اشهينا وفي رواية عمرو بن دينار نصف شهر، وفي رواية
أبي الزبير أقمنا عليها شهرًا، ورجح النووي هذه الأخيرة
لما فيها من الزيادة.
وفيه جواز أكل الحوت الطافي.
125 - باب إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ أَخِيهَا
(باب إرداف المرأة خلف أخيها) الراكب.
2984 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو
عَاصِمٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-:
"أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَرْجِعُ
أَصْحَابُكَ بِأَجْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَلَمْ أَزِدْ
عَلَى الْحَجِّ؟ فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي، وَلْيَرْدِفْكِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ
يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. فَانْتَظَرَهَا رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَعْلَى
مَكَّةَ حَتَّى جَاءَتْ".
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم ابن
بحر الباهلي البصري قال: (حدّثنا أبو عاصم) النبيل واسمه
الضحاك قال: (حدّثنا عثمان بن الأسود) الجمحي قال: (حدّثنا
ابن
أبي مليكة) بضم الميم هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي
مليكة واسم أبي مليكة زهير (عن عائشة رضي الله عنها أنها
قالت: يا رسول الله يرجع أصحابك بأجر حج وعمرة ولم أزد على
الحج؟ فقال لها):
(اذهبي وليردفك) بفتح الياء وضمها في اليونينية أخوك (عبد
الرحمن) وهذا موضع الترجمة.
(فأمر عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم) بفتح المثناة
الفوقية مكان معروف خارج مكة وهو على أربعة أميال من مكة
إلى جهة المدينة كما نقله الفاكهي، وزاد أبو داود في
روايته فإذا هبطت بها من الأكمة فلتحرم فإنها عمرة متقبلة.
وروى الفاكهي من طريق محمد بن عمير قال: إنما سمي التنعيم
لأن الجبل الذي عن يمين الداخل يقال له ناعم والذي عن
اليسار يقال له منعم والوادي نعمان، (فانتظرها رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأعلى مكة حتى جاءت).
2985 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْنُ
عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ -رضي الله عنهما- قَالَ: "أَمَرَنِي
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ
أُرْدِفَ عَائِشَةَ وَأُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله) ولأبي ذر حدّثنا
عبد الله بن محمد أي المسندي قال: (حدّثنا ابن عيينة)
سفيان (عن عمرو بن دينار) بفتح العين وسكون الميم ولأبي ذر
هو ابن دينار (عن عمرو بن أوس) بفتح العين والهمزة ابن أبي
أوس الثقفي الطائفي التابعي وليس بصحابي (عن عبد الرحمن بن
أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- قال): (أمرني النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن أردف) أختي
(عائشة) -رضي الله عنها- (وأعمرها من التنعيم) بضم الهمزة
من أردف وأعمرها.
فإن قلت: ما وجه دخول هذين الحديثين هنا؟ أجيب: باحتمال أن
يكون من قوله عليه الصلاة والسلام: جهادكن الحج.
126 - باب الاِرْتِدَافِ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ
(باب الارتداف في) سفر (الغزو و) سفر (الحج).
2986 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنْتُ
رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ
بِهِمَا جَمِيعًا: الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) وسقط في رواية أبي ذر ابن
سعيد قال: (حدّثنا عبد الوهاب) الثقفي قال: (حدّثنا أيوب)
السختياني (عن أبي قلابة) بكسر القاف عبد الله بن زيد
الجرمي (عن أنس -رضي الله عنه- قال): (كنت رديف أبي طلحة
وإنهم) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وأصحابه رضي الله عنهم (ليصرخون) بلام التأكيد أي يرفعون
أصواتهم (بهما جميعًا الحج والعمرة) بالجرّ فيهما بدلاً
من الضمير ويجوز النصب على الاختصاص وبالرفع خبر مبتدأ
محذوف أي أحدهما الحج والآخر العمرة.
وموضع الترجمة ظاهر وفي الغزو على الحج.
127 - باب الرِّدْفِ عَلَى الْحِمَارِ
(باب الردف) بكسر الراء أي المرتدف الراكب خلف الراكب (على
الحمار).
2987 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ
عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما-
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ
قَطِيفَةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ". [الحديث 2987
- أطرافه في: 4566، 5663، 5964، 6207].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا أبو صفوان)
عبد الله بن سعيد الأموي (عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب)
الزهري (عن عروة) بن الزبير (عن أسامة بن زيد -رضي الله
عنهما-) (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، ركب على حمار على إكاف) بكسر الهمزة ويقال
وكاف بالواو وهو ما يشد على الحمار كالسرج للفرس (عليه) أي
على الإكاف (قطيفة) دثار مخمل (وأردف أسامة) بن زيد
(وراءه).
والحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في اللباس وفي التفسير والأدب
والاستئذان والطلب ومسلم في المغازي والنسائي في الطب.
2988 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ قَالَ: حدثنا يُونُسُ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْبَلَ يَوْمَ
الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ
مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَمَعَهُ بِلاَلٌ
وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ مِنَ الْحَجَبَةِ حَتَّى
أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ، فَفَتَحَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ أُسَامَةُ
وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ، فَمَكَثَ فِيهَا نَهَارًا
طَوِيلاً، ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، فَكَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَوَجَدَ
بِلاَلاً وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا. فَسَأَلَهُ: أَيْنَ
صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-؟ فَأَشَارَ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي
صَلَّى فِيهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَسِيتُ أَنْ
أَسْأَلَهُ: كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ؟.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف
قال: (حدّثنا الليث) بن سعد (قال: حدّثنا يونس) بن يزيد
الأيلي (أخبرني) بالإفراد (نافع) مولى ابن عمر
(5/132)
(عن عبد الله) بن عمر بن الخطاب (رضي الله
عنه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أقبل يوم الفتح) في رمضان سنة ثمان من الهجرة (من أعلى
مكة) من كداء بالفتح والمدّ (على راحلته) حال كونه (مردفًا
أسامة بن زيد) خادمه وهذا موضمع الترجمة ويلحق الارتداف
على الراحلة بالارتداف على الحمار نعم هو عليه أقوى في
التواضع
(ومعه بلال) مؤذنه (ومعه عثمان بن طلحة) بن أبي طلحة بن
عبد العزى لكونه (من الحجبة) بفتح الحاء المهملة والجيم أي
حجبة الكعبة وسدنتها الذين بيدهم مفتاحها (حتى أناخ) عليه
الصلاة والسلام راحلته (في المسجد) الحرام (فأمره أن يأتي
بمفتاح البيت) العتيق فأتى به من عند أمه سلافة بضم السين
المهملة (ففتح) عليه الصلاة والسلام به الكعبة، ولأبي ذر:
ففتح بضم ثانيه مبنيًّا للمفعول (ودخل رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الكعبة (ومعه أسامة وبلال
وعثمان) بن طلحة الحجبي (فمكث فيها نهارًا طويلاً) يصلّي
ويكبر ويدعو، (ثم خرج) منها (فاستبق الناس) أي فتسابقوا
للولوج إلى الكعبة (وكان) بالواو ولأبي ذر فكان (عبد الله
بن عمر) بن الخطاب (أوّل من دخل) الكعبة (فوجد بلالاً وراء
الباب قائمًا فسأله أين صلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)؟ في الكعبة (فأشار) بلال له (إلى
المكان الذي صلّى فيه) منها. وفي رواية مسلم أنه قال: صلّى
بين العمودين اليمانيين. (قال عبد الله) بن عمر (فنسيت)
بالفاء (أن أسأله) أي بلالاً (كم صلّى) النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (من سجدة) أي من ركعة، ولا
يعارضه نفي أسامة صلاته عليه الصلاة والسلام فيها المروي
في مسلم لأن بلالاً مثبت فهو مقدم على النافي. نعم روي عن
أسامة إثباتها كما عند أحمد والطبراني ولا تناقض في
روايتيه لأن النفي بالنسبة لما في علمه كونه لم يرَ النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين صلّى لاشتغاله في
ناحية من نواحي الكعبة أو لإتيانه بما يمحو به النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصور التي كانت
بالكعبة والإثبات أخبره به غيره فرواه عنه.
128 - باب مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ
(باب من أخذ بالركاب) للراكب (ونحوه) كالإعانة على الركوب.
2989 - حَدَّثَنا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّ
سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ
تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: يَعْدِلُ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ
صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ
فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا - أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ
- صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ
خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ
الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إسحاق) هو
ابن منصور بن بهرام الكوسج المروزي كما رجحه الحافظ ابن
حجر قال: (أخبرنا عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر)
بسكون ثانيه (عن همام) هو ابن منبه (عن أبي هريرة -رضي
الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(كل سلامى) بضم السين وفتح الميم مقصور الأنملة من أنامل
الأصابع (من الناس) أو كل عظم مجوّف من صغار العظام. قال
التوربشتي: وفي معناه خلق الإنسان على ثلاثمائة وستين
مفصلاً عليه أن يتصدق عن كل مفصل بصدقة. وقال في الفتح:
والمعنى على كل مسلم مكلف بعدد كل مفصل من عظامه صدقة لله
تعالى شكرًا له بأن جعل لعظامه مفاصل يتمكن بها من القبض
والبسط وخصّت بالذكر لما في التصرف بها من دقائق الصنائع
التي اختص بها الآدمي اهـ.
وقال البيضاوي: المعنى أن على كل مفصل من عظام يصبح سليمًا
من الآفات باقيًا على الهيئة التي تتم بها منافعه وأفعاله
صدقة شكرًا لمن صوّره ووقاه عما يغيره ويؤذيه اهـ.
وكل سلامى مبتدأ مضاف ومن الناس صفة لسلامى (عليه صدقة)
جملة من المبتدأ والخبر خبر للمبتدأ الأوّل.
فإن قلت: كان القياس أن يقول عليها لأن السلامى مؤنثة؟
أجيب: بأنه جاء على وفق لفظ كل أو أنه ضمن لفظ سلامى معنى
العظم أو المفصل وأعاد الضمير عليه كذلك.
(كل يوم تطلع فيه الشمس) بنصب كل على الظرفية (يعدل)
المسلم المكلف أي يصلح بالعدل (بين الاثنين صدقة) بفتح
أوّل يعدل وكسر ثالثه وهو مبتدأ تقديره أن يعدل مثل قوله
تسمع بالمعيدي خير من أن تراه (ويعين) المسلم المكلف
(الرجل) أي يساعده (على دابته فيحمل عليها) الراكب وقوله
فيحمل بفتح المثناة التحتية وسكون الحاء المهملة (أو يرفع
عليها متاعه صدقة).
وهذا موضع الترجمة فإنه يدخل فيها الأخذ بالركاب وغيره
(5/133)
وأو للشك من الراوي أو للتنويع.
(والكلمة الطيبة) يكلمها أخاه المسلم (صدقة وكل خطوة) بفتح
الخاء ولأبي ذر خطوة بضمها (يخطوها إلى الصلاة) ذاهبًا
وراجعًا (صدقة، ويميط) أي يزيل (الأذى عن الطريق صدقة).
129 - باب كراهية السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ
الْعَدُوِّ
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَتَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ.
(باب السفر) وللمستملي كراهية السفر (بالمصاحف إلى أرض
العدوّ، وكذلك يروى) القول بالكراهة الثابتة عند المستملي
كما مرّ (عن محمد بن بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة ابن
الفرافصة العبدي الكوفي مما وصله إسحاق بن راهويه في مسنده
(عن عبيد الله) بضم العين ابن عبد الله بن عمر (عن نافع عن
ابن عمر) بن الخطاب (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ولفظ رواية إسحاق كره رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يسافر بالقرآن إلى أرض
العدوّ الحديث، وأراد بالقرآن المصحف.
(وتابعه) أي تابع محمد بن بشر (ابن إسحاق) صاحب المغازي
مما رواه أحمد بمعناه (عن نافع عن ابن عمر عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). إنما ذكر المؤلّف
هذه المتابعة ليبيّن ما زاده بعضهم في هذا الحديث، وهو
قوله مخافة أن يناله العدوّ زاعمًا أنه من قول الرسول لأنه
لا يصح مرفوعًا، وإنما هو من قول مالك لما أخرجه أبو داود
عن القعنبي عن مالك فقال قال مالك أراه مخافة، وكذا أكثر
الرواة عن
مالك جعلوا التعليل من كلامه، وأشار ابن عبد البرّ إلى أن
ابن وهب انفرد بها. كذا قرره ابن بطال وغيره. نعم لم ينفرد
بها ابن وهب فقد أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك
وزاد مخافة أن يناله العدوّ، وكذا رواها مرفوعة إسحاق في
مسنده المشار إليه قريبًا، وكذا مسلم والنسائي وابن ماجة
أيضًا من طريق الليث عن نافع ومسلم من طريق أيوب بلفظ:
فإني لا آمن أن يناله العدو فصرّح بأنه مرفوع ولينس بمدرج،
وحينئذٍ فالمتابعة إنما هي في أصل الحديث قاله في الفتح.
والعطف في قوله وكذلك يروى صحيح على رواية المستملي، أما
على رواية غيره فاستشكله الخطابي من حيث أنه لم يتقدمه ما
يعطف عليه. وأجاب: باحتمال غلط النساخ بالتقديم والتأخير.
(وقد سافر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وأصحابه) -رضي الله عنهم- (في أرض العدو وهم يعلمون
القرآن) بفتح المثناة التحتية وسكون العين كذا في الفرع
وأصله وأصل الدمياطي وغيرهم، فالنهي عن السفر بالقرآن إنما
المراد به السفر بالمصحف خشية أن يناله العدوّ لا السفر
بالقرآن نفسه، لأن القرآن المنزل لا يمكن السفر به فدلّ
على أن المراد به المصحف المكتوب فيه القرآن.
2990 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
-رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ
إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك)
الإمام (عن نافع عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب (-رضي الله
عنهما-) (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- نهى أن يسافر بالقرآن) أي بالمصحف (إلى أرض
العدو) خوفًا من الاستهانة به واستدلّ به على منع بيع
المصحف من الكافر لوجود العلة وهي التمكن من الاستهانة به
وكذا كتب فقه فيها آثار السلف بل قال السبكي: الأحسن أن
يقال كتب علم وإن خلت عن الآثار تعظيمًا للعلم الشرعي. قال
ولده الشيخ تاج الدين، وقوله تعظيمًا للعلم الشرعي يفيد
جواز بيع الكافر كتب علوم غير شرعية، وينبغي المنع من بيع
ما يتعلق منها بالشرع ككتب النحو واللغة اهـ.
فإن قلت: ما الجمع بين هذا وبين كتابه عليه الصلاة والسلام
إلى هرقل من قوله: {يا أهل الكتاب} [آل عمران: 70] الآية؟
أجيب: بأن المراد بالنهي حمل المجموع أو المتميز والمكتوب
لهرقل إنما هو في ضمن كلام آخر غير القرآن.
130 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْحَرْبِ
(باب) مشروعية (التكبير عند الحرب).
2991 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ
أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "صَبَّحَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْبَرَ وَقَدْ خَرَجُوا
بِالْمَسَاحِي عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ
قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ.
فَلَجَؤوا إِلَى الْحِصْنِ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُ
أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا
بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ.
وَأَصَبْنَا حُمُرًا فَطَبَخْنَاهَا، فَنَادَى مُنَادِي
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ
الْحُمُرِ. فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا".
تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ سُفْيَانَ "رَفَعَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن
سيرين (عن أنس -رضي الله عنه- قال: صبح النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيبر) لا تضاد بين هذا وقوله
في رواية حميد عن أنس أنهم قدموا ليلاً فإنه يحمل على أنهم
لما قدموها ناموا دونها ثم ركبوا إليها فصبحوها (وقد
خرجوا) أي أهلها (بالمساحي على أعناقهم) طالبين مزارعهم
(فلما رأوه) عليه الصلاة والسلام (قالوا): هذا (محمد
والخميسُ محمد والخميسُ) مرتين
(5/134)
أي الجيش وسمي به لأنه مقسوم بخمسة المقدمة
والساقة والميمنة والميسرة والقلب والمعنى أن محمدًا جاء
بالجيش ليقاتلهم (فلجأوا إلى الحصن) الذي بخيبر ولجأوا
باللام المفتوحة والجيم والهمزة المضمومة أي تحصنوا به
(فرفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه
وقال):
(الله أكبر) كذا بزيادة التكبير في معظم الطرق عن أنس وهذا
موضع الترجمة (خربت خيبر)، قاله عليه الصلاة والسلام
تفاؤلاً لما رأى معهم آلة الهدم أو قاله بطريق الوحي
ويؤيده وله (إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)
بفتح الذال المعجمة (وأصبنا حمر) بضم الحاء المهملة والميم
جمع حمار والمراد الأهلي (فطبخناها) (فنادى منادي النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) هو أبو طلحة زيد بن
سهل كما في مسلم (إن الله ورسوله ينهيانكم) بالتثنية،
وللكشميهني: ينهاكم بالإفراد (عن لحوم الحمر). الأهلية
لأنها رجس فتحريمها لعينها لا لأنها لم تخمس ولا لكونها
تأكل العذرة ولا لأنها كانت حمولتهم (فأكفئت القدور) أي
أميلت أو قلبت (بما فيها. تابعه) أي تابع عبد الله بن محمد
المسندي (علي) هو ابن المديني (عن سفيان رفع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه).
131 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي
التَّكْبِيرِ
(باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير).
2992 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي
مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا
وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا. فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا
أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ،
فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا،
إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ
اسْمُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ». [الحديث 2992 - أطرافه في:
4205، 6384، 6409، 6610، 7386].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) البيكندي أو هو الفريابي
كما نص عليه أبو نعيم قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن
عاصم) الأحول (عن أبي عثمان) عبد الرحمن بن مل (عن أبي
موسى) عبد الله بن قيس (الأشعري -رضي الله عنه-) أنه (قال:
كنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فكنا إذا أشرفنا) أي اطّلعنا (عن وادٍ هلّلنا وكبّرنا) قد
(ارتفعت أصواتنا) جملة فعلية حالية (فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا أيها الناسُ أربعُوا على أنفسكم) بكسر الهمزة وفتح
الموحدة أي أرفقوا أو انتظروا أو أمسكوا عن الجهر وقفوا
عنه أو اعطفوا عليها بالرفق بها والكف عن الشدة (فإنكم لا
تدعون أصم ولا غائبًا إنه معكم إنه سميع) في مقابلة أصم
(قريب)، في مقابلة غائبًا زاد في غير رواية أبي ذر: تبارك
اسمه وتعالى جدّه. قال الطبري: وفيه كراهية رفع الصوت
بالدعاء والذكر، وبه قال عامّة السلف من الصحابة
والتابعين.
وموضع الترجمة من معنى الحديث لأن حاصل المعنى فيه أنه
عليه الصلاة والسلام كره رفع الصوت بالذكر والدعاء.
132 - باب التَّسْبِيحِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا
(باب التسبيح إذا هبط) أتي نزل المسافر (واديًا).
2993 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا
كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا". [الحديث 2993
- طرفه في: 2994].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن حصين بن عبد الرحمن) بضم الحاء وفتح
الصاد المهملتين (عن سالم بن أبي الجعد) بفتح الجيم وسكون
العين (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما-
قال: كنا إذا صعدنا) بكسر العين أي طلعنا موضعًا عاليًا
كجبل أو تل (كبّرنا) استشعارًا لكبرياء الله تعالى عندما
يقع البصر على الأمكنة العالية لأن الارتفاع محبوب للنفوس
لما فيه من استشعار أنة أكبر من كل شيء (وإذا نزلنا) إلى
مكان منخفض كوادٍ (سبّحنا) استنباطًا من قصة يونس، وتسبيحه
في بطن الحوت لننجو من بطن الأودية كما نجا يونس بالتسبيح
من بطن الحوت، وعن بعضهم لما كان التكبير لله عند رؤية
عظيم من مخلوقاته وجب أن يكون فيما انخفض من الأرض تسبيح
الله تعالى لأن تسبيحه تعالى تنزيه عن صفات الانخفاض
والضعة. وقال ابن المنير: ينبغي أن يكون التنزيه في محل
الانخفاض والاستعلاء لأن جهتي العلو والسفل كلاهما محال
على الحق تعالى فالعلو وإن كان معنويًّا لا جسمانيًّا فقد
وصف به ولم يؤذن في وصفه بالانخفاض البتّة ولا له اسم مشتق
من ذلك وقد ورد: ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأوّلناه
بالمعنى لكنه لم يشتق له منه اسم المتنزل بخلاف اسمه
المتعالي سبحانه وتعالى اهـ. من المصابيح.
133 - باب التَّكْبِيرِ إِذَا عَلاَ شَرَفًا
(باب التكبير إذا علا) المسافر في الغزو أو الحج أو غيرهما
(شرفًا) أي مكانًا مشرّفًا عاليًا.
2994 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ
سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا إِذَا
صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا تَصَوَّبْنَا سَبَّحْنَا".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة وتشديد الشين
المعجمة العبدي البصري قال: (حدّثنا ابن أبي عدي) هو محمد
بن أبي عدي واسم أبي عدي إبراهيم السلمي (عن شعبة) بن
الحجاج
(5/135)
(عن حصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين
ابن عبد الرحمن (عن سالم) هو ابن أبي الجعد (عن جابر) هو
ابن عبد الله (-رضي الله عنه- قال: كنا إذا صعدنا) بكسر
العين أي علونا مكانًا عاليًا (كبّرنا و (ذا تصوّبنا) أي
انحدرنا ونزلنا (سبّحنا).
2995 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ صَالِحِ بْنِ
كَيْسَانَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا
قَفَلَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ -وَلاَ أَعْلَمُهُ
إِلاَّ قَالَ: الْغَزْوِ- يَقُولُ كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى
ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ كَبَّرَ ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ:
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ
شَىْءٍ قَدِيرٌ. آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ،
سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ. صَدَقَ اللَّهُ
وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ
وَحْدَهُ. قَالَ صَالِحٌ: فَقُلْتُ لَهُ أَلَمْ يَقُلْ
عَبْدُ اللَّهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؟ قَالَ: لاَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله) هو ابن يوسف كما قاله ابن
السكن وتردد أبو مسعود الدمشقي بين أن يكون هو ابن صالح
كاتب الليث وبين أن يكون ابن رجاء الغداني والمعتمد الأول
كما قاله الجياني (قال: حدّثني) بالإفراد (عبد العزيز بن
أبي سلمة) بفتح اللام (عن صالح بن كيسان) بفتح الكاف (عن
سالم بن عبد الله) بن عمر (عن) أبيه (عبد الله بن عمر) بن
الخطاب (رضي الله عنهما قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قفل) بقاف ثم فاء أي رجع (من الحج
أو العمرة ولا أعلمه إلا قال الغزو) بالنصب على المفعولية
والجر عطفًا على المجرور السابق وهذه الجملة كالإضراب عن
الحج والعمرة كأنه قال إذا قفل من الغزو ثم إن ظاهره
اختصاص قول ذلك بالمذكورات والجمهور على مشروعيته لكل سفر
طاعة (يقول) عليه الصلاة والسلام (كلما أوفى) بفتح الهمزة
والفاء وسكون الواو أشرف وعلا (على ثنية) بفتح المثلثة
وكسر النون وتشديد التحتية أعلى الجبل أو الطريق في الجبال
(أو) أوفى على (فدفد) بفاءين مفتوحتين بينهما دال ساكنة
وبعد الأخيرة أخرى مهملتين الفلاة من الأرض لا شيء فيها أو
الغليظة أو ذات الحصى المستوية أو المرتفعة (كبّر) الله
(ثلاثًا) هو جواب الشرط وموضع الترجمة كما لا يخفى (ثم
قال):
(لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد،
وهو على كل شيء قدير) قال القرطبي: وفي تعقيب التكبير
بالتهليل إشارة إلى أنه المنفرد بإيجاد جميع الموجودات
وأنه المعبود في جميع الأماكن. وقال في الفتح: يحتمل أنه
عليه الصلاة والسلام كان يأتي بهذا الذكر عقب التكبير وهو
على المكان المرتفع، ويحتمل أن التكبير يختص بالمكان
المرتفع وما بعده إن كان متسعًا أكمل الذكر المذكور فيه
وإلاّ فإذا هبط سبّح كما دل عليه حديث جابر، ويحتمل أن
يكمل الذكر مطلقًا عقب التكبير ثم يأتي بالتسبيح إذا هبط.
(آيبون)، بمد الهمزة أي نحن راجعون إلى الله تعالى نحن
(تائبون)، إليه تعالى فيه إشارة إلى التقصير في العبادة
وقاله عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع أو تعليمًا
لأمته نحن (عابدون) نحن (ساجدون لربنا) نحن (حامدون)
والجار والمجرور إما متعلق بساجدون أو بحامدون أو بهما أو
بالصفات الأربعة المتقدمة أو بالخمسة على سبيل التنازع
(صدق الله وعده) فيما وعد به من إظهار دينه (ونصر عبده)
محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وهزم
الأحزاب) الذين تحزبوا في غزوة الخندق لحربه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاللام للعهد أو المراد كل من
تحزّب من الكفّار لحربه عليه الصلاة والسلام فتكون جنسية،
أو المراد: اللهمّ اهزم الأحزاب فيكون بمعنى الدعاء والأول
هو الظاهر، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا خرج للغزو
واعتدّ له بالعدد والعُدد فيجمع أصحابه ويتخذ الخيل
والسلاح فإذا رجع تعرّى عن ذلك وردّ الأمر فيه إليه فقال:
وهزم الأحزاب (وحده) فينفى السبب فناء في المسبب، وهذا هو
المعنى الحقيقي لأن الإنسان وفعله خلق لربه تعالى قال الله
تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17]
فما حصل من الهزيمة والنصرة مضاف إليه وبه وهو خير
الناصرين.
(قال صالح) هو ابن كيسان (فقلت له) أي لسالم بن عبد الله
(ألم يقل عبد الله) بن عمر بعد قوله آيبون (إن شاء الله)؟
كما في رواية نافع مما ثبت في باب ما يقول إذا رجع من
الغزو (قال): سالم (لا) أي لم يقل ذلك.
134 - باب يُكْتَبُ لِلْمُسَافِرِ مِثْلُ مَا كَانَ
يَعْمَلُ فِي الإِقَامَةِ
هذا (باب) بالتنوين (يكتب للمسافر) سفر طاعة (ما) ولغير
أبي ذر مثل ما (كان يعمل في الإقامة).
2996 - حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّكْسَكِيُّ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ وَاصْطَحَبَ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ
أَبِي كَبْشَةَ فِي سَفَرٍ فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِي
السّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا
مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ
سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا
صَحِيحًا".
وبه قال: (حدّثنا مطر بن الفضل) المروزي قال: (حدّثنا يزيد
بن هارون) بن زاذان الواسطي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر:
أخبرنا (العوّام) بفتح العين المهملة وتشديد الواو ابن
حوشب قال: (حدّثنا
(5/136)
إبراهيم أبو إسماعيل) بن عبد الرحمن
(السكسكي) بسينين مهملتين مفتوحتين بينهما كاف ساكنة وفي
آخره أخرى أيضًا نسبة إلى السكاسك بن أشرس بن كندة (قال:
سمعت أبا بردة) بضم الموحدة وسكون الراء عامر بن أبي موسى
الأشعري (واصطحب) أي أبو بردة (هو ويزيد بن أبي كبشة) بفتح
الكاف وسكون الموحدة وفتح الشين المعجمة الشامي واسم أبيه
حيويل بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية وكسر الواو بعدها
تحتية أخرى ساكنة ثم لام ولي خراج السند لسليمان بن عبد
الملك وتوفي في خلافته وليس له في البخاري ذكر إلاّ هنا
والمعنى اصطحب معه (في سفر فكان يزيد يصوم في السفر فقال
له أبو بردة سمعت) أبي (أبا موسى) الأشعري -رضي الله عنه-
(مرارًا يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(إذا مرض العبد) المؤمن وكان يعمل عملاً قبل مرضه ومنعه
منه المرض ونيّته لولا المانع مداومته عليه (أو سافر) سفر
طاعة ومنعه السفر مما كان يعمل من الطاعات ونيّته المداومة
(كتب له مثل ما كان يعمل) حال كونه (مقيمًا) وحال كونه
(صحيحًا) فهما حالان مترادفان أو متداخلان وفيه اللفّ
والنشر الغير المرتب لأن مقيمًا يقابل أو سافر وصحيحًا
يقابل إذا مرض وحمل ابن بطال الحكم المذكور على النوافل لا
الفرائض فلا تسقط بالسفر والمرض وتعقبه ابن المنير بأنه
تحجر واسعًا بل تدخل فيه الفرائض التي شأنها أن يعمل بها
وهو صحيح إذا عجز عن جملتها أو بعضها بالمرض كتب له أجر ما
عجز عنه فعلاً لأنه قام به عزمًا أن لو كان صحيحًا حتى
صلاة الجالس في الفرض لمرضه يكتب له عنها أجر صلاة القائم
اهـ.
وهذا ذكره في المصابيح من غير عزوٍ ساكتًا عليه وتعقبه
صاحب الفتح فقال وليس اعتراضه بجيد لأنهما لم يتواردا.
135 - باب السَّيْرِ وَحْدَهُ
(باب) حكم (السير) حال كون السائر (وحده) من غير رفيق معه
هل يكره أم لا.
2997 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- يَقُولُ:
"نَدَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ،
ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ
نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ. قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ لِكُلِّ
نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ". قَالَ
سُفْيَانُ: الْحَوَارِيُّ النَّاصِرُ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) بضم الحاء وفتح الميم عبد الله
بن الزبير قال: (حدّثنا سفيان) بن
عيينة قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن المنكدر قال: سمعت
جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- يقول: ندب)
أي دعا (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس
يوم) غزوة (الخندق) وهي الأحزاب سبق في فضل الطليعة من
يأتيني بخبر القوم، ويأتي إن شاء الله تعالى في مناقبه من
يأتيني بخبر بني قريظة (فانتدب) أي أجاب (الزبير) بن
العوّام -رضي الله عنه- (ثم ندبهم) عليه الصلاة والسلام
ثانيًا (فانتدب) أي أجاب (الزبير ثم ندبهم) عليه الصلاة
والسلام ثالثًا (فانتدب الزبير) زاد في رواية أبي ذر
ثلاثًا وفيه شدّة شجاعته -رضي الله عنه- (قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن لكل نبي حواريًّا) بفتح الحاء المهملة منوّنًا أي خاصة
من أصحابه (وحواريّ الزبير). قال الزجّاج: الحوري ينصرف
لأنه منسوب إلى حوار وليس كبخاتي وكراسي لأن واحده بختيّ
وكرسي، فإذا أضيف إلى ياء المتكلم فقد تحذف وقد ضبطه جماعة
بفتح الياء وهو الذي في الفرع وأكثرهم بكسرها وهو القياس
لكنهم حين استثقلوا الكسرة وثلاث ياءات حذفوا ياء المتكلم
وأبدلوا من الكسرة فتحة.
(قال سفيان): أي ابن عيينة (الحواري) هو (الناصر) وهذا
أخرجه الترمذي وغيره عنه وعن ابن عباس مما وصله ابن أبي
حاتم سمي الحواريون لبياض ثيابهم وإنهم كانوا صيادين،
وأخرج عن الضحاك أن الحواري هو الغسال بالنبطية وعن قتادة
الحواري الذي يصلح للخلافة وعنه هو الوزير.
ووجه المطابقة بين الحديث والترجمة من حيث انتداب الزبير
وتوجهه وحده كما يدل على ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى
في مناقب الزبير.
2998 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ
بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ
-رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ح حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ
حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي
الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ
وَحْدَهُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك قال:
(حدّثنا عاصم بن محمد) وللمستملي زيادة ابن زيد بن عبد
الله بن عمر -رضي الله عنهم- (قال: حدّثني) بالإفراد (أبي)
محمد (عن) جده (ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ح) للتحويل وسقطت في الفرع
وأصله.
(حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال:
(5/137)
(حدّثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله
بن عمر عن أبيه عن ابن عمر) بن الخطاب (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لو يعلم الناس ما في الوحدة) بفتح الواو وكسرها وأنكر
بعضهم الكسر كما حكاه السفاقسي ونصبه على الظرفية عند
الكوفيين والمصدرية عند البصريين (ما أعلم) جملة في محل
نصب مفعول يعلم (ما سار راكب) وكذا ماش فالأول خرج مخرج
الغالب (بليل وحده). وهذا الحديث رواه النسائي من
رواية عمر بن محمد أخي عاصم بن محمد وهو يردّ على الترمذي
حيث قال: إن عاصم بن محمد تفرّد بروايته ويؤخذ من حديث
جابر جواز السفر منفردًا للضرورة والمصلحة التي لا تنتظم
إلا بالانفراد كإرسال الجاسوس والطليعة والكراهة لما عدا
ذلك، ويحتمل أن تكون حالة الجواز مقيدة بالحاجة عند الأمن
وحالة المنع مقيدة بالخوف حيث لا ضرورة.
136 - باب السُّرْعَةِ فِي السَّيْرِ
قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي
فَلْيُعَجِّلْ».
(باب السرعة في السير) عند الرجوع إلى الوطن (قال) ولأبي
ذر وقال: (أبو حميد) بضم الحاء المهملة عبد الرحمن الساعدي
مما سبق في حديث مطوّلاً في الزكاة (قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (إني متعجل) بميم مضمومة
ففوقية فعين مفتوحتين فجيم مكسورة (إلى المدينة فمن أراد
أن يتعجل معي فليعجل) بضم التحتية وكسر الجيم مشددة ولأبي
ذر فليتعجل بفتح التحتية والفوقية والجيم. قال المهلب:
تعجله عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ليريح نفسه ويفرح
أهله.
2999 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ:
سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ -رضي الله عنهما-كَانَ
يَحْيَى يَقُولُ: وَأَنَا أَسْمَعُ، فَسَقَطَ عَنِّي- عَنْ
مَسِيرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: فَكَانَ يَسِيرُ
الْعَنَقَ. فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. وَالنَّصُّ
فَوْقَ الْعَنَقِ".
وبه قال: (حدّثنا ابن المثنى) العنزي البصري (قال: حدّثنا
يحيى) بن سعيد القطان (عن هشام) هو ابن عروة (قال: أخبرني)
بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير (قال: سئل أسامة بن زيد
-رضي الله عنهما-) قال البخاري قال ابن المثنى (كان يحيى)
القطان (يقول): تعليقًا عن عروة أو مسندًا إليه سئل أسامة
(وأنا أسمع) السؤال قال يحيى: (فسقط عني) لفظ وأنا أسمع
عند رواية الحديث كأنه لم يذكرها أوّلاً واستدركه آخرًا
وهذه الجملة معترضة بين قوله سئل أسامة بن زيد -رضي الله
عنهما- وبين قوله (عن مسير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في حجة الوداع) حين أفاض من عرفة فقوله عن مسير
متعلق بقوله سئل على ما لا يخفى (قال): أي أسامة ولأبي ذر
فقال: (فكان يسير العنق). بفتح العين المهملة والنون وهو
السير السهل (فإذا وجد فجوة) بفتح الفاء وسكون الجيم
الفرجة بين الشيئين (نص). بفتح النون وتشديد الصاد المهملة
(والنص) السير الشديد حتى يستخرج أقصى ما عنده فهو (فوق
العنق). المفسر بالسير السهل وإنما تعجل عليه الصلاة
والسلام إلى المزدلفة ليتعجل الوقوف بالمشعر الحرام.
3000 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي
زَيْدٌ -هُوَ ابْن
أَسْلَمَ- عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- بِطَرِيقِ مَكَّةَ،
فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ شِدَّةُ
وَجَعٍ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ, حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ
غُرُوبِ الشَّفَقِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ
وَالْعَتَمَةَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: إِنِّي
رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ
بَيْنَهُمَا".
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) نسبه لجدّه الأعلى
وإلا فهو سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي مريم الجمحي البصري
قال: (أخبرنا محمد بن جعفر) المدني (قال: أخبرني) بالإفراد
(زيد هو ابن أسلم عن أبيه) أسلم (قال: كنت مع عبد الله بن
عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- بطريق مكة فبلغه عن)
زوجته (صفية بنت أبي عبيد) بالتصغير الصحابية الثقفية أخت
المختار وكانت من العابدات (شدّة وجع فأسرع السير) ليدرك
من حياتها ما يمكنه أن تعهد إليه بما لا تعهده إلى غيره
(حتى إذا كان بعد غروب الشفق ثم نزل) عن دابته (فصلّى
المغرب والعتمة يجمع بينهما) ولأبي ذر جمع بينهما بصيغة
الماضي (وقال: إني رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذا جدّ به السير) أي اشتد قاله صاحب المحكم
وقال القاضي عياض: أسرع كذا قال وكأنه نسب الإسراع إلى
السير توسعًا (أخّر المغرب وجمع بينهما) أي المغرب والعشاء
كذلك.
3001 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَىٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ،
يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ،
فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى
أَهْلِهِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن سمي) بضم السين وفتح الميم (مولى أبي
بكر) أي ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام (عن أبي صالح)
ذكوان السمان (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه) نصب بنزع الخافض
أي من نومه أو مفعول ثانٍ ليمنع لأنه يطلب مفعولين كأعطى
(وطعامه وشرابه) أي كمال نومه وكمال طعامه وشرابه ولذة ذلك
(5/138)
لما فيه من المشقّة والتعب ومعاناة الحر
والبرد والخوف والسرى ومفارقة الأهل والأصحاب وخشونة العيش
(فإذا قضى أحدكم نهمته) بفتح النون أي بلغ همته من مطلوبه
(فليعجل) بضم التحتية وكسر الجيم (إلى أهله). هذا موضع
الترجمة على ما لا يخفى. قال في معالم السُّنّة: فيه
الترغيب في الإقامة لئلا تفوته الجمعات والجماعات والحقوق
الواجبة للأهل والقرابات وهذا في الأسفار غير الواجبة.
ألا تراه يقول عليه الصلاة والسلام (فإذا قضى نهمته فليعجل
إلى أهله) أشار إلى السفر الذي له نهمة وأرب من تجارة أو
غيرها دون السفر الواجب كالحج والغزو.
137 - باب إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا حمل) رجل آخر (على فرس) ليجاهد
عليها في سبيل الله (فرآها تباع) هل له أن يشتريها أم لا؟
3002 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
قَالَ: لاَ تَبْتَعْهُ، وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر
-رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب حمل على فرس) أي أركبه
غيره في الجهاد (في سبيل الله) هبة لا وقفًا (فوجده) أي
فوجد عمر الفرس (يباع) وكان اسمه الورد وكان لتميم الداري
فأهداه لعمر -رضي الله عنه- (فأراد أن يبتاعه) أي يشتريه
(فسأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) هل
يشتريه (فقال): بالفاء قبل القاف ولأبي ذر قال:
(لا تبتعه) أي لا تشتره (ولا تعد في صدقتك) سمى الشراء
عودًا في الصدقة لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في
مثل ذلك للمشتري فأطلق على القدر الذي يسامح به رجوعًا.
3003 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- يَقُولُ: "حَمَلْتُ عَلَى
فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَابْتَاعَهُ -أَوْ
فَأَضَاعَهُ- الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ
أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ،
فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: لاَ تَشْتَرِهِ وَإِنْ بِدِرْهَمٍ،
فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي
قَيْئِهِ".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن زيد بن أسلم عن أبيه) أسلم
(قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: حملت على
فرس) في الجهاد (في سبيل الله فابتاعه) أي باعه كما جاء
اشترى بمعنى باع أو الأصل أباعه فهو بمعنى عرضه للبيع (أو
فأضاعه الذي كان عنده) بأن فرط في القيام به، وأو للشك من
الراوي (فأردت أن أشتريه وظننت أنه بائعه برخص) بضم الراء
مصدر رخص السعر وأرخصه الله فهو رخيص (فسألت النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(لا تشتره) نهي تنزيه لا تحريم والصارف له عن التحريم
تشبيهه بالعائد في قيئه (وإن) كان (بدرهم) مبالغة في رخصه
(فإن العائد) الراجع (في هبته كالكلب) يقيء ثم (يعود في
قيئه) فيأكله وهو دليل من منع الرجوع في الصدقة لما اشتمل
عليه من التنفير الشديد حيث شبه الراجع بالكلب والمرجوع
فيه بالقيء والرجوع في الصدقة برجوع الكلب في قيئه.
138 - باب الْجِهَادِ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ
(باب الجهاد بإذن الأبوين) المسلمين.
3004 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ -وَكَانَ لاَ يُتَّهَمُ فِي
حَدِيثِهِ- قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
-رضي الله عنهما- يَقُولُ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَهُ فِي
الْجِهَادِ فَقَالَ: أَحَىٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". [الحديث 3004 - طرفه في:
5972].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (حدّثنا حبيب بن أبي ثابت) قيس بن دينار
الأسدي الكوفي (قال: سمعت أبا العباس) السائب بن فرّوخ
المكي الأعمى (الشاعر وكان لا يتهم في حديثه) قال ذلك لئلا
يظن أنه بسبب كونه شاعرًا يتهم (قال: سمعت عبد الله بن
عمرو) هو ابن العاصي (-رضي الله عنهما- يقول: جاء رجل) هو
جاهمة بن العباس بن مرداس كما عند النسائي وأحمد أو معاوية
بن جاهمة كما عند البيهقي (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستأذنه في الجهاد فقال) له عليه
الصلاة والسلام:
(أحيٌّ والداك)؟ (قال: نعم). حيّان (قال): (ففيهما) أي
الوالدين (فجاهد) الجار متعلق بالأمر قدّم للاختصاص والفاء
الأولى جواب شرط محذوف والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى
الشرط أي إذا كان الأمر كما قلت فاخصصهما بالجهاد نحو قوله
تعالى: {فإياي فاعبدون} [العنكبوت: 56] أي إذا لم يتسهل
لكم إخلاص العبادة في بلدة ولم يتيسر لكم إظهار دينكم
فهاجروا إلى حيث يتمشى لكم ذلك فحذف الشرط وعوّض منه تقدّم
المفعول المفيد للإخلاص ضمنًا وقوله فجاهد جيء به
للمشاكلة، وهذا ليس ظاهره مرادًا لأن ظاهر الجهاد إيصال
الضرر للغير وإنما المراد القدر المشترك من كلفة الجهاد
وهو بذل المال وتعب البدن فيؤول المعنى: ابذل مالك وأتعب
بدنك في رضا والديك.
والمطابقة بين الحديث والترجمة مستنبطة من قوله ففيهما
فجاهد لأن أمره
(5/139)
بالمجاهدة فيهما يقتضي رضاهما عليه ومن
رضاهما الإذن له عند الاستئذان.
وفي حديث أبي سعيد عند أبي داود فارجع فاستأذنهما فإن
أذناك فجاهد وإلاّ فبرّهما. وصححه ابن حبّان والجمهور على
حرمة الجهاد إذا منعا أو أحدهما بشرط إسلامهما لأن برّهما
فرض عين والجهاد فرض كفاية فإذا تعين الجهاد فلا إذن وهل
يلتحق الجد والجدة بهما في ذلك؟ الأصح نعم لشمول طلب
البرّ.
139 - باب مَا قِيلَ فِي الْجَرَسِ وَنَحْوِهِ فِي
أَعْنَاقِ الإِبِلِ
(باب ما قيل في الجرس) بفتح الجيم والراء آخره سين مهملة
المصوّت (ونحوه) مما يعلق كالقلائد (في أعناق الأبل) من
الكراهة وتخصيصه الإبل كالحديث لأغلبيتها.
3005 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ
الأَنْصَارِيَّ -رضي الله عنه- أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَسِبْتُ
أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِي مَبِيتِهِمْ، فَأَرْسَلَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رَسُولاً: أَنْ لاَ تَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ
قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلاَدَةٌ إِلاَّ قُطِعَتْ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) هو ابن أنس الإمام (عن عبد الله بن أبي بكر) هو ابن
محمد بن حزم (عن عباد بن تميم) المازني (أن أبا بشير) بفتح
الموحدة وكسر المعجمة (الأنصاري) قيل اسمه قيس الأكبر بن
حرير بمهملات بين الأخيرتين مثناة تحتية ساكنة وأوّله
مضموم مصغرًا وليس له في هذا الكتاب سند غير هذا (رضي الله
عنه أخبره أنه كان مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره) قال في الفتح لم أقف على
تعيينها (قال عبد الله) بن أبي بكر بن حزم الراوي (حسبت
أنه قال والناس في مبيتهم) كأنه شك في هذه الجملة (فأرسل
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسولاً) هو
زيد بن حارثة رواه الحرث بن أبي أسامة في مسنده.
(لا تبقين) بالمثناة الفوقية والقاف المفتوحتين ولغير أبي
ذر أن لا يبقين بزيادة أن والتحتية بدل الفوقية (في رقبة
بعير قلادة من وتر) بالمثناة الفوقية لا بالموحدة (أو) قال
(قلادة إلاّ قطعت) كذا هنا بلفظ أو للشك أو للتنويع والنهي
للتنزيه كما حكاه النووي عن الجمهور وقيل في حكمة النهي
خوف اختناق الدابة بها عند شدة الركض أو لأنهم كانوا
يعلقون بها الأجراس، وفي حديث أبي داود والنسائي عن أم
حبيبة مرفوعًا: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس، أو أنهم
كانوا يقلدونها أوتار القسي خوف العين فأمروا بقطعها
إعلامًا بأن الأوتار لا تردّ أمر الله شيئًا وهذا الأخير
قاله مالك.
وأما المطابقة فمن جهة أن الجرس لا يعلق في أعناق الإبل
إلا بقلادة وهي الوتر ونحوه، فذكر المؤلّف الجرس الذي يعلق
بالقلادة فإذا ورد النهي عن تعليق القلائد في أعناق الإبل
دخل فيه النهي عن الجرس ضرورة، والأصل في النهي عن الجرس
لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس فافهم.
ورواة الحديث ثلاثة مدنيون وثلاثة أنصاريون وفيه تابعيان
والتحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه مسلم في اللباس وأبو
داود في الجهاد والنسائي في السير.
140 - باب مَنِ اكْتُتِبَ فِي جَيْشٍ فَخَرَجَتِ
امْرَأَتُهُ حَاجَّةً أو كَانَ لَهُ عُذْرٌ هَلْ يُؤْذَنُ
لَهُ؟
(باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته) حال كونها (حاجة وكان)
ولأبي ذر أو كان (له عذر) غير ذلك (هل يؤذن له)؟ في الحج
معها.
3006 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لاَ
يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلاَ تُسَافِرَنَّ
امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ. فَقَامَ رَجُلٌ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ
كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً. قَالَ:
اذْهَبْ فَاحجُجْ مَعَ امْرَأَتِكَ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) قال: (حدّثنا سفيان) بن
عيينة (عن عمرو) بفتح العين هو ابن دينار (عن أبي معبد)
بفتح الميم والموحدة بينهما مهملة ساكنة اسمه نافذ بالنون
والفاء والذال المعجمة مولى عبد الله بن عباس (عن ابن عباس
-رضي الله عنهما- أنه سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة) سفرًا طويلاً أو
قصيرًا (إلا ومعها محرم) بنسب أو غيره أو زوج لها لتأمن
على نفسها ولم يشترطوا في المحرم والزوج كونهما ثقتين وهو
في الزوج واضح وأما في المحرم فسببه كما في المهمات أن
الوازع الطبيعي أقوى من الشرعي وكالمحرم عبدها الأمين
والاستثناء من الجملتين كما هو مذهب الشافعي لا من الجملة
الأخيرة لكنه منقطع لأنه متى كان معها محرم لم تبق خلوة،
فالتقدير لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم واستشكل
بأن الواو تقتضي معطوفًا عليه. وأجيب: بأن الواو للحال أي
لا يخلون في حال إلا في مثل هذا الحال والحديث مخصوص
بالزوج فإنه لو كان معها زوجها كان كالمحرم بل أولى
بالجواز.
(فقام رجل) لم يعرف اسمه (فقال: يا رسول الله اكتتبت في
غزوة كذا وكذا)، بضم تاء اكتتبت مبنيًّا للمفعول كما في
الفرع وفي بعض الأصول للفاعل أي أثبت
(5/140)
اسمي في جملة من يخرج فيها من قولهم اكتتب
الرجل إذا كتب نفسه في ديوان السلطان ولم تعين الغزوة
(وخرجت امرأتي) حال كونها (حاجة) ولم يعرف اسم المرأة
(قال) عليه الصلاة والسلام: (اذهب فحج) ولأبي ذر فاحجج بفك
الإدغام (مع امرأتك) فقدم الأهم لأن الغزو يقوم غيره فيه
مقامه بخلاف الحج معها وليس لها محرم غيره.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الجهاد.
141 - باب الْجَاسُوسِ
وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1].
التَّجَسُّسُ: التَّبَحُّثُ.
(باب) حكم (الجاسوس) أي إذا كان من جهة الكفار ومشروعيته
من جهة المسلمين وهو بالجيم والمهْملتين بوزن فاعول
(التجسس) ولأبي ذر: والتجسس هو (التبحث) كذا فسره أبو
عبيدة وهو التفتيش عن بواطن الأمور. (وقول الله تعالى)
بالجر عطفًا على الجاسوس ولأبي ذر: عز وجل بدل: قوله
تعالى: ({لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء}) [الممتحنة: 1].
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وأولياء مفعول ثانٍ لقوله: لا
تتخذوا.
3007 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ
مِنْهُ مَرَّتَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
رَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا -رضي الله عنه- يَقُولُ:
"بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ
الأَسْوَدِ قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ
خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ
فَخُذُوهُ مِنْهَا. فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا
خَيْلُنَا، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ،
فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي
الْكِتَابَ. فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ.
فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لَنُلْقِيَنَّ
الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا
بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي
بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا حَاطِبُ مَا
هَذَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ،
إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ
أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ
بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ
فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ
عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا
فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا
بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ صَدَقَكُمْ.
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ
عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. قَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ
بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ
قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". قَالَ سُفْيَانُ:
وَأَىُّ إِسْنَادٍ هَذَا. [الحديث 3007 - أطرافه في: 3081،
3983، 4274، 4890، 6259، 6939].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو بن دينار) المكي
(سمعته) بضمير النصب ولأبي ذر: سمعت (منه مرتين قال:
أخبرني) بالإفراد (حسن بن محمد) أي ابن الحنفية قال:
(أخبرني) بالإفراد أيضًا (عبيد الله) بضم العين (ابن رافع)
أسلم مولى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(قال: سمعت عليًّا -رضي الله عنه-) هو ابن أبي طالب (يقول:
بعثني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنا
والزبير والمقداد) زاد في رواية غير أبي ذر بن الأسود
وقوله أنا تأكيد للضمير المنصوب
ولا منافاة بين هذا وبين رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن
علي بعثني وأبا مريد الغنوي والزبير بن العوام لاحتمال أن
يكون وقع البعث لهم جميعًا (قال): ولأبي ذر: وقال:
(انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ) بخاءين معجمتين بينهما ألف
لا بمهملة ثم جيم موضع بين مكة والمدينة على اثني عشر
ميلاً من المدينة (فإن بها ظعينة) بفتح الظاء المعجمة وكسر
العين المهملة وفتح النون المرأة في الهودج واسمها سارة
على المشهور وكانت مولاة عمرو بن هشام بن عبد المطلب أو
اسمها كنود كما قاله البلاذري وغيره وتكنى أم سارة (ومعها
كتاب) من حاطب (فخذوه منها) (فانطلقنا تعادى) بحذف إحدى
التاءين تخفيفًا إذ الأصل تتعادى أي تجري (بنا خيلنا حتى
انتهينا إلى الروضة) المذكورة (فإذا نحن بالظعينة)، سارة
المذكورة (فقلنا): لها (أخرجي الكتاب) بفتح الهمزة وكسر
الراء الذي معك (فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا): (لتخرجن
الكتاب)، بضم المثناة الفوقية وكسر الراء والجيم (أو
لنلقين) نحن (الثياب) كذا في الفرع وأصله بضم النون وكسر
القاف وفتح المثناة التحتية ونون التوكيد الثقيلة وللأصيلي
وأبي الوقت كما في الفرع وأصله أو لتلقن بالفوقية المضمومة
وحذف التحتية، وفي بعض الأصول: أو لتلقين بتحتية مكسورة أو
مفتوحة بعد القاف، والصواب في العربية أو لتلقين بدون ياء
لأن النون الثقيلة إذا اجتمعت مع الياء الساكنة حذفت الياء
لالتقاء الساكنين، لكن أجاب الكرماني وتبعه البرماوي وغيره
بأن الرواية إذا صحّت تؤوّل الكسرة بأنها لمشاكلة لتخرجن
وباب المشاكلة واسع والفتح بالحمل على المؤنث الغائب على
طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
(فأخرجته) أي الكتاب (من عقاصها) بكسر العين المهملة
وبالقاف والصاد المهملة الخيط الذي يعتقص به أطراف الذوائب
أو الشعر المضفور، وقال المنذري: هو ليّ الشعر بعضه على
بعض على الرأس وتدخل أطرافه في أصوله وقيل هو السير الذي
تجمع به شعرها على رأسها (فأتينا به) أي بالكتاب،
وللمستملي بها أي بالصحيفة (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وقول الكرماني أو بالمرأة معارض بما
رواه الواحدي بلفظ وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن
بها ظعينة معها كتاب إلى المشركين فخذوه وخلوا سبيلها فإن
لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها (فإذا فيه من حاطب بن أبي
بلتعة) بالحاء والطاء المكسورة المهملتين ثم موحدة وبلتعة
بموحدة مفتوحة ولام ساكنة فمثناة
(5/141)
فوقية وعين مهملة مفتوحتين واسمه عامر
وتوفي حاطب سنة ثلاثين (إلى أناس من المشركين من أهل مكة)
هم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل كما
رواه الواقدي بسند له مرسل (يخبرهم ببعض أمر رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولفظ الكتاب كما في
تفسير يحيى بن سلام أما بعد: يا معشر قريش فإن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاءكم بجيش الليل
يسير كالسيل فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له
وعده فانظروا لأنفسكم والسلام.
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا حاطب ما هذا)؟ (قال يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت
امرأَ ملصقًا في قريش) بفتح الصاد أي مضافًا إليهم ولا نسب
لي فيهم من إلصاق الشيء بغيره وليس منه
أو حليفًا لقريش (ولم أكن من أنفسها) بضم الفاء في
اليونينية وفي الفرع بفتحها مصلحًا. وعند ابن إسحاق ليس لي
في القوم أصل ولا عشيرة. وقال السهيلي: كان حاطب حليفًا
لعبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى (وكان من
معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم
وأموالهم فأحببت إذا) أي حين (فاتني ذلك من النسب فيهم أن
أتخذ عندهم يدًا) أي نعمة ومنّة عليهم (يحمون بها قرابتي)
وفي رواية ابن إسحاق وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم
عليه وأن في قوله أن أتخذ مصدرية في محل نصب مفعول أحببت
(وما فعلت) ذلك (كفرًا ولا ارتدادًا) أي عن ديني (ولا رضًا
بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (لقد صدقكم) بتخفيف الدال أي قال
الصدق وزاد في فضل من شهد بدرًا من المغازي ولا تقولوا إلا
خيرًا. ولأبي ذر: وقد صدقكم فأسقط اللام التي قبل قاف قد
(فقال عمر): بن الخطاب (-رضي الله عنه-: يا رسول الله دعني
أضرب عنق هذا المنافق):
واستشكل إطلاق عمر عليه النفاق بعد شهادته عليه الصلاة
والسلام بأنه ما فعل ذلك كفرًا ولا ارتدادًاً ولا رضًا
بالكفر بعد الإسلام. وهذه الشهادة نافية للنفاق قطعًا.
وأجيب: بأنه إنما قال ذلك لما كان عنده من القوة في الدين
وبغض المنافقين وظن أن فعله هذا يوجب قتله لكنه لم يجزم
بذلك فلذا استأذن في قتله وأطلق عليه النفاق لكونه أبطن
خلاف ما أظهر وعذره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لأنه كان متأوّلاً إذ لا ضرر فيما فعله.
(قال): عليه الصلاة والسلام مرشدًا إلى علّة ترك قتله
(وإنه قد شهد بدرًا) وكأنه قال: وهل أسقط عنه شهوده بدرًا
هذا الذنب العظيم؟ فأجاب بقوله: (وما يدريك لعل الله أن
يكون قد اطّلع على أهل بدر) الذين حضروا وقعتها واستعمل
لعل استعمال عسى فأتى بأن. قال النووي ومعنى الترجي هنا
راجع إلى عمر لأن وقوع هذا الأمر محقق عند الرسول (فقال):
تعالى مخاطبًا لهم خطاب تشريف وإكرام "اعملوا ما شئتم" في
المستقبل "فقد غفرت لكم" عبّر عن الآتي بالواقع مبالغة في
تحققه وعند الطبراني من طريق معمر عن الزهري عن عروة غافر
لكم وفي مغازي ابن عائذ من مرسل عروة: اعملوا ما شئتم
فسأغفر لكم. قال القرطبي: وهذا الخطاب قد تضمن أن هؤلاء
حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السابقة وتأهلوا أن تغفر
لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت منهم، وما أحسن قول بعضهم:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وليس المراد أنهم نجزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب
اللاحقة بل لهم صلاحية أن يغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا
يلزم من وجود الصلاحية لشيء وجود ذلك الشيء وحمله البرماوي
على أنهم لم يقع منهم ذنب في المستقبل ينافي عقيدة الدين
بدليل قبوله عليه الصلاة والسلام عذره لما علم من صحة
عقيدته وسلامة قلبه وقيل المراد غفران الماضي لا المستقبل،
وتعقب بأن هذا الصادر من
حاطب إنما وقع في المستقبل لأنه صدر منه بعد بدر فلو كان
للماضي لم يحصل التمسك به هنا، وقد أظهر الله تعالى صدق
رسوله عليه الصلاة والسلام في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك
فإنهم لم يزالوا
(5/142)
على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا،
ولو قدر صدرو شيء من أحد منهم لبادر إلى التوبة ولازم
الطريقة المثلى كما لا يخفى والمراد الغفران لهم في الآخرة
وإلاّ فلو توجه على أحد منهم حدّ مثلاً استوفي منه بلا
ريب.
(قال سفيان): بن عيينة (وأيّ إسناد هذا)! أي عجبًا لجلالة
رجاله لأنهم الأكابر العدول الأيقاظ والثقات الحفاظ.
142 - باب الْكِسْوَةِ لِلأُسَارَى
(باب الكسوة للأسارى) ما يواري عوراتهم إذ لا يجوز النظر
إليها والكسوة بكسر الكاف وقد تضم. يقال: كسوته إذا ألبسته
ثوبًا. والأسارى بضم الهمزة جمع أسير.
3008 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَمَّا
كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ يَقْدُرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِيَّاهُ،
فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ".
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدٌ، فَأَحَبَّ أَنْ
يُكَافِئَهُ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) الجعفي البخاري
المسندي بفتح النون من قال: (حدّثنا ابن عيينة) سفيان (عن
عمرو) هو ابن دينار أنه (سمع جابر بن عبد الله) الأنصاري
(-رضي الله عنهما- قال: لما كان يوم بدر أُتي) بضم الهمزة
وكذا اللاحقة (بأُسارى) بدر (وأُتي بالعباس) بن عبد المطلب
وكان في جملتهم (ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له) أي نظر يطلب لأجل العباس
(قميصًا فوجدوا قميص عبد الله بن أُبيّ) بضم الهمزة وفتح
الموحدة وتشديد المثناة التحتية هو أبو مالك بن الحرث
وسلول أم أبي مالك وكان عبد الله سيد الخزرج ورأس
المنافقين (يقدر عليه) بفتح أوّله وضم ثالثه المخفف
وللأصيلي يقدَر عليه بضم ثم فتح أي يجيء على قدره (فكساه
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إياه) أي قميص
عبد الله بن أُبيّ، وذلك أنهم لم يجدوا قميصًا يصلح للعباس
إلا قميص عبد الله لأن العباس كان طويلاً جدًّا وكذلك عبد
الله (فلذلك نزع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قميصه) عن بدنه (الذي ألبسه) لعبد الله بن أبي
بعد أن أخرج من قبره.
(قال ابن عيينة): سفيان (كانت له) أي لعبد الله بن أُبيّ
(عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يد) نعمة
(فأحب) عليه الصلاة والسلام (أن يكافئه) عليها وفيه أن
المكافأة تكون بعد الموت كالحياة.
والحديث سبق في باب: هل يخرج الميت من القبر من كتاب
الجنائز.
143 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ
(باب فضل من أسلم على يديه رجل) من الكفار.
3009 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ عَنْ أَبِي
حَازِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَهْلٌ - رضي الله عنه-يَعْنِي
ابْنَ سَعْدٍ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ خَيْبَرَ: لأُعْطِيَنَّ
الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى،
فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟
فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ
وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ،
فَأَعْطَاهُ، فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا
مِثْلَنَا، فَقَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى
تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى
الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ،
فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ
لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) بكسر العين البغلاني قال:
(حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد
القاري) بالقاف والمثناة التحتية من غير همزة مرفوع صفة
ليعقوب أو بالجر صفة لعبد وهو منسوب لبني القارة وهم بنو
الهون بن خزيمة بن مدركة (عن أبي حازم) بالحاء المهملة
والزاي سلمة بن دينار الأعرج (قال: أخبرني) بالإفراد (سهل)
بفتح السين وسكون الهاء (-رضي الله عنه-) زاد في رواية غير
أبي ذر يعني ابن سعد (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم) غزوة (خيبر):
(لأعطين الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه) بالتثنية
وهمزة لأعطين مفتوحة في اليونينية مضمومة في غيرها
وللمستملي والحموي على يده بالإفراد (يحب الله ورسوله،
ويحبه الله ورسوله) (فبات الناس ليلتهم أيهم يُعطى) الراية
الموعود بها بضم المثناة التحتية من أيهم يعطى مع فتح
طائها مبنيًّا للمفعول وللأصيلي أيهم يعطى بفتح المثناة من
أيهم وضمها من يُعطي وكسر الطاء (فغدوا) وللحموي
والمستملي: غدوا (كلهم) على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يرجوه) أي الفوز بالوعد وحذف النون
بلا ناصب وجازم لغة فصيحة، ولأبي ذر: يرجونه (فقال): عليه
الصلاة والسلام ولأبي ذر: قال (أين عليّ)؟ أي ما لي لا
أراه حاضرًا كأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
استبعد غيبته عن حضرته في مثل ذلك الموطن لا سيما وقد قال:
لأعطين الراية إلخ ... (فقيل) يا رسول الله هو (يشتكي
عينيه) قال عليه الصلاة والسلام: فأرسلوا إليه فأُتي به
(فبصق) عليه الصلاة والسلام (في عينيه ودعا له فبرأ) بفتح
الراء كضرب وقد تكسر كعلم والأولى لأهل الحجاز كما في
الصحاح أي شفي (كأن لم يكن به وجع) زاد الطبراني من حديث
عليّ: فما رمدت ولا صدعت مذ دفع إليّ النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الراية يوم خيبر (فأعطاه
الراية فقال): عليّ (أُقاتلهم) بحذف همزة الاستفهام (حتى
يكونوا مثلنا) مسلمين (فقال): عليه الصلاة والسلام
(انفذ) بضم الفاء وبالذال المعجمة أي امضِ (على
(5/143)
رسلك) بكسر الراء أي على هينتك (حتى تنزل
بساحتهم) بفنائهم (ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب
عليهم) من حق الله فيه (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً)
واحدًا (خير لك من أن تكون لك حُمر النعم) فتتصدق بها،
وحمر: بضم الحاء وسكون الميم من ألوان الإبل المحمودة وهي
أنفسها وخيّارها يضرب بها المثل في نفاسة الشيء وأن من لأن
يهدي الله مصدرية في محل رفع على الابتداء والخبر قوله
"خير لك" وكأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
استحسن قول عليّ أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا واستحمده على ما
قصده من مقاتلته إياهم حتى يكونوا مهتدين إعلاء لدين الله
تعالى. ومن ثم حثّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
على ما نواه بقوله: "فوالله لأن يهدي الله بك" إلخ ...
وهذا موضع الترجمة وتأتي مباحثه في المغازي إن شاء الله
تعالى.
144 - باب الأُسَارَى فِي السَّلاَسِلِ
(باب الأسارى في السلاسل) بضم همزة الأسارى.
3010 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «عَجِبَ
اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي
السَّلاَسِلِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة والمعجمة
بندار العبدي البصري قال: (حدّثنا غندر) هو محمد بن جعفر
البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن محمد بن زياد)
بكسر الزاي وتخفيف المثناة (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(عجب الله من قوم يدخلون الجنة) أي وكانوا في الدنيا (في
السلاسل) حتى دخلوا في الإسلام وبهذا التقدير يكون المراد
حقيقة وضع السلاسل في الأعناق. ويقع التطابق بين الترجمة
والحديث، ويؤيد أن المراد الحقيقة ما عند المؤلّف في تفسير
آل عمران من وجه آخر عن أبي هريرة في قوله تعالى: {كنتم
خير أمة أُخرجت للناس} [آل عمران: 110]. قال: خير الناس
الناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في
الإسلام وحمله جماعة على المجاز فقال المهلب: المعنى
يدخلون في الإسلام مكرهين وسمى الإسلام بالجنة لأنه سببها.
وقال ابن الجوزي: معناه أنهم أُسروا وقيدوا فلما عرفوا صحة
الإسلام دخلوا طوعًا فدخلوا الجنة فكان الإكراه على الأسر
والتقييد هو السبب الأول فكأنه أطلق على الإكراه التسلسل،
ولما كان هو السبب في دخول الجنة أقام المسبب مقام السبب.
وقال الكرماني وتبعه البرماوي: لعلهم المسلمون الذين هم
أسارى في أيدي الكفار فيموتون أو يقتلون على هذه الحالة
فيحشرون عليها ويدخلون الجنة كذلك اهـ.
145 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابَيْنِ
(باب فضل من أسلم من أهل الكتابين) التوراة والإنجيل.
3011 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَىٍّ
أَبُو حَسَنٍ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ:
حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ
تَكُونُ لَهُ الأَمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ
تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ تَأْدِيبَهَا،
فَيَتَزَوَّجُهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ
الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ
بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَهُ
أَجْرَانِ. وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ
وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ". ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ:
وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ شَىْءٍ، وَقَدْ كَانَ
الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِي أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) قال: (حدّثنا سفيان بن
عيينة) قال: (حدّثنا صالح بن حي) ضدّ الميت لقب له وهو
صالح بن صالح بن مسلم بن حيان وكنيته (أبو الحسن) بفتح
الحاء والسين المهملتين (قال): أي صالح (سمعت النبي) عامر
بن شراحيل (يقول: حدّثني) بالإفراد (أبو بردة) بضم الموحدة
الحرث (أنه سمع أباه) عبد الله أبا موسى بن قيس الأشعري
-رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(ثلاثة) من الرجال مبتدأ خبره قوله (يؤتون أجرهم مرتين.
الرجل تكون له الأمة) برفع الرجل بدلاً من ثلاثة بدل تفصيل
أو بدل كل بالنظر إلى المجموع أو الرجل مبتدأ محذوف تقديره
أولهم أو الأول الرجل (فيعلمها) ما يجب تعليمه من الدين
(فيحسن) بفاء العطف ولأبي ذر: ويحسن (تعليمها ويؤدبها)
لتتخلق بالأخلاق الحميدة (فيحسن أدبها) من غير عنف ولا ضرب
بل بالرفق وإنما غاير بينه وبين التعليم وهو داخل فيه
لتعلقه بالمروءات والتعليم بالشرعيات أي الأول عرفي
والثاني شرعي والأول دنيوي والثاني ديني (ثم يعتفها
فيتزوجها) بعد أن يصدقها (فله أجران) أجر العتق وأجر
التزويج وإنما اعتبرهما لأنهما الخاصان بالإماء دون
السابقين (ومؤمن أهل الكتاب) اليهودي والنصراني (الذي كان
مؤمنًا) بنبيّه موسى وعيسى (ثم آمن بالنبي) محمد (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في عهد بعثته أو بعدها إلى
يوم القيامة جزم الكرماني، وتبعه العيني بالأول معللاً بأن
نبيه بعد البعثة إنما هو محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- باعتبار عموم بعثته عليه الصلاة والسلام ولا
يخفى ما فيه فإن بعثته عليه الصلاة والسلام في عهده وبعده
عامة لا فرق بينهما، وجزم بالثاني الإمام البلقيني وتبعه
(5/144)
الحافظ ابن حجر عملاً بظاهر اللفظ وفي كلِّ
منهما نظر لأنّا إذا قلنا إن بعثته عليه الصلاة والسلام
قاطعة لدعوة عيسى فلا نبيّ للمؤمن من أهل الكتاب إلاّ محمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحينئذ فالإيمان
إنما هو بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقط
فكيف ترتب الأجر مرتين؟ أجيب: بأن مؤمن أهل الكتاب لا بدّ
أن يكون مع إيمانه بنبيه مؤمنًا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعهد المتقدم والميثاق في قوله
تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} [آل عمران: 81].
الآية. المفسر بأخذ الميثاق من النبيّين وأممهم مع وصفه
تعالى له في التوراة والإنجيل، فإذا بعث -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالإيمان به مستمر.
فإن قلت: فإذا كان الأمر كما ذكرت فكيف تعدد إيمانه حتى
تعدد أجره؟ أجيب: بأن
الإيمان أولاً تعلق بأن الموصوف بكذا رسول وإيمانه ثانيًا
تعلق بأن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو
الموصوف بتلك الصفات فهما معلومان متباينان فجاء التعدد.
(فله أجران) أجر الإيمان بنبيّه وأجر الإيمان بمحمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذا حكم الكتابية إذ
النساء شقائق الرجال في الأحكام.
واستشكل دخول اليهود في ذلك لأن شرعهم نسخ بعيسى عليه
الصلاة والسلام والمنسوخ لا أجر في العمل به فيختص الأجران
بالنصراني. أجيب: بأنّا لا نسلم أن النصرانية ناسخة
لليهودية.
نعم لو ثبت ذلك لكان كذلك كذا قرره الكرماني وتبعه
البرماوي وغيره، لكن قال في الفتح: لا خلاف أن عيسى عليه
الصلاة والسلام أرسل إلى بني إسرائيل فمن أجاب منهم نسب
إليه ومن كذب منهم واستمر على يهوديته لم يكن مؤمنًا فلا
يتناوله الخبر لأن شرطه أن يكون مؤمنًا بنبيه. نعم من دخل
في اليهودية من غير بني إسرائيل أو لم يكن بحضرة عيسى فلم
تبلغه دعوته يصدق عليه أنه يهودي مؤمن إذ هو مؤمن بنبيه
موسى ولم يكذب نبيًّا آخر بعده، فمن أدرك بعثة محمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممن كان بهذه المثابة
وآمن به لم يشكل أنه دخل في الخبر المذكور. نعم الإشكال في
اليهود الذين كانوا بحضرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وقد ثبت أن الآية الموافقة لهذا الحديث وهي
قوله تعالى في سورة القصص: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين}
[القصص: 54]. نزلت في طائفة آمنوا به كعبد الله بن سلام
وغيره، ففي الطبراني من حديث رفاعة القرظي قال: نزلت هذه
الآيات فيّ وفيمن آمن معي، وروى الطبراني بإسناد صحيح عن
عليّ بن رفاعة القرظي قال: خرج عشرة من أهل الكتاب منهم
أبي رفاعة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فآمنوا فأوذوا فنزلت: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به
يؤمنون} [القصص: 52]. فهؤلاء من بني إسرائيل ولم يؤمنوا
بعيسى بل استمروا على اليهودية إلى أن آمنوا بمحمد -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد ثبت أنهم يؤتون أجرهم
مرتين. قال الطيبي: فيحتمل إجراء الحديث على عمومه إذ لا
يبعد أن يكون طريان الإيمان بمحمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سببًا لقبول تلك الأديان وإن كانت
منسوخة انتهى.
ويمكن أن يقال: إن الذين كانوا بالمدينة لم تبلغهم دعوة
عيسى عليه الصلاة والسلام لأنها لم تنتشر في أكثر البلاد
فاستمروا على يهوديتهم مؤمنين بنبيهم موسى إلى أن جاء
الإسلام فآمنوا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فبهذا يرتفع الإشكال واشتراط بعضهم في الكتابي
بقاءه على ما بعث به نبيه من غير تبديل ولا تحريف، وعورض
بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتب إلى هرقل:
"أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين" وهرقل كان ممن دخل في
النصرانية بعد التبديل والتقييد بأهل الكتاب مخرج لغيرهم
من الكفار، فلا ينبغي حمله على العموم وإن جاء في الحديث
أن حسنات الكفار مقبولة بعد إسلامهم لأن لفظ الكفار يتناول
الكافر الحربي وليس له أجران قطعًا.
(والعبد) المملوك (الذي يؤدي حق الله) تعالى كالصلاة
والصوم (وينصح لسيده) في خدمته وغيرها (له أجران) أيضًا
أجر تأديته للعبادة وأجر نصحه.
(ثم قال) عامر (الشعبي): أعطيكها بضم الهمزة بلفظ المستقبل
من غير واو ولا فوقية (بغير شيء) من الأجرة (وقد كان الرجل
يرحل) يسافر (في أهون منها) أي من المسألة (إلى المدينة)
النبوية.
(5/145)
146 - باب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ،
فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ
{بَيَاتًا} [الأعراف: 4 و97، ويونس: 50]: لَيْلاً.
{لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل: 49]: لَيْلاً {يُبَيِّتُ}
[النساء: 81]: لَيْلاً.
(باب) حكم (أهل الدار) الحربيين (يبيتون) بفتح المثناة
التحتية بعد الموحدة مبنيًّا للمفعول أي يغار عليهم بالليل
بحيث لا يميز بين أفرادهم (فيصاب الولدان) أي الصغار بسبب
التبييت (والذراري) بالذال المعجمة والرفع والتشديد عطفًا
على الولدان هل يجوز ذلك أم لا؟ ثم ذكر المؤلّف رحمه الله
تعالى تفسير ثلاث آيات من القرآن يوافقن ما في الخبر على
عادته.
الأولى: ({بياتًا}) بالموحدة ثم المثناة التحتية الخفيفة
وبعد الألف فوقية لا نيامًا بالنون والميم من النوم لأن
مراده قوله تعالى في الأعراف: {فجاءها بأسنا} [الأعراف: 4]
أي عذابنا بعد التكذيب {بياتًا} يعني (ليلاً) وسمي الليل
بياتًا لأنه يبات فيه.
والثانية: قوله في سورة النمل {قالوا تقاسموا بالله
ليبيتنه} بالتحتية بعد اللام في اليونينية وفي غيرها
بالنون من البيات وهو مباغتة العدو (ليلاً).
والثالثة: (يبيت) بمثناة تحتية ثم موحدة فمثناة مفتوحة
مشددة ثم فوقية مضمومة أي (ليلاً) لكن لفظ التلاوة في سورة
النساء {بيت} بموحدة ثم مثناة تحتية مشددة ففوقية مفتوحات
{والله يكتب ما يبيتون} والثانية والثالثة من زيادة أبي ذر
كما في الفتح، والذي في الفرع سقوطهما عنده فالله أعلم.
3012 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ -رضي
الله عنهم- قَالَ: "مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالأَبْوَاءِ -أَوْ بِوَدَّانَ-
فسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ
وَذَرَارِيِّهِمْ، قَالَ: هُمْ مِنْهُمْ. وَسَمِعْتُهُ
يَقُولُ: لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا) ابن شهاب (الزهري عن عبيد
الله) بضم العين ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود وفي مسند
الحميدي عن سفيان عن الزهري أخبرني عبيد الله (عن ابن عباس
عن الصعب) ضدّ السهل (ابن جثامة) بفتح الجيم وتشديد
المثلثة الليثي (رضي الله عنهم قال: مرّ بي النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأبواء) بفتح الهمزة وإسكان
الموحدة ممدودًا من عمل الفرع من المدينة بينه وبين الجحفة
مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً وسميت
بذلك لتبوّئ السيول بها (أو بودان) بفتح الواو وبعد
الموحدة وتشديد المهملة وبعد الألف نون قرية جامعة بينها
وبين الأبواء ثمانية أميال وهي أيضًا من عمل الفرع والشك
من الراوي.
(وسُئل) بواو الحال وضم السين مبنيًّا للمفعول. قال في
الفتح: ولم أقف على اسم السائل ثم وجدت في صحيح ابن حبان
من طريق محمد بن عمرو عن الزهري بسنده عن الصعب قال: سألت
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أولاد
المشركين أنقتلهم معهم؟ قال: "نعم" فظهر أن الراوي هو
السائل، ولأبي ذر: فسئل (عن أهل الدار) الحربين حال كونهم
(يبيتون) بفتح المثناة المشددة بعد الموحدة مبنيًّا
للمفعول أي يغار عليهم ليلاً بحيث لا يعرف رجل من امرأة
(من المشركين) بيان لأهل الدار (فيصاب) بضم المثناة (من
نسائهم وذراريهم) بالذال المعجمة وتشديد المثناة التحتية
(قال): عليه الصلاة والسلام مجيبًا للسائل:
(هم) أي النساء والذراري (منهم) أي من أهل الدار من
المشركين وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم بل
إذا لم يوصل إلى قتل الرجال إلا بذلك قتلوا وإلاّ فلا تقصد
الأطفال والنساء بالقتل مع القدرة على ترك ذلك جمعًا بين
الأحاديث المصرّحة بالنهي عن قتل النساء والصبيان وما هنا.
قال الصعب بن جثامة: (وسمعته) عليه الصلاة والسلام ولأبي
ذر: فسمعته بالفاء. قال الحافظ ابن حجر: والأول أوضح
(يقول): (لا حمى إلاّ لله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ومن يقوم مقامه من خلفائه وأصل الحمى عند
العرب أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلاً مخصبًا استعوى
كلبًا على مكانٍ عالٍ فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب
فلا يرعى فيه غيره ويرعى هو مع غيره فيما سواه فأبطل الشرع
ذلك، وحمى بغير تنوين كما في اليونينية وفي بعض النسخ حمى
بثبوته فتكون لا بمعنى ليس، وعلى الأول تكون للاستغراق
بخلاف الثاني.
وهذا الحديث مستقل ذكره المؤلّف فيما سبق في كتاب الشرب
ووجه دخوله هنا كونه في تحمل ذلك كذلك.
3013 - وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ
اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "حَدَّثَنَا الصَّعْبُ فِي
الذَّرَارِيِّ". كَانَ عَمْرٌو يُحَدِّثُنَا عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فَسَمِعْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "عَنِ
الصَّعْبِ قَالَ: هُمْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا
قَالَ عَمْرٌو: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ".
(و) بالسند السابق (عن) ابن شهاب (الزهري أنه سمع عبيد
الله) بن عبد الله بن عتبة بن مسعود حال كونه يقول (عن ابن
عباس حدّثنا الصعب) بن جثامة (في الذراري) فقط قال سفيان
(كان عمرو) أي ابن دينار (يحدّثنا) هذا
(5/146)
الحديث (عن ابن شهاب) الزهري مرسلاً (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال من
آبائهم، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث من طريق العباس بن
يزيد حدّثنا سفيان قال: كان عمرو يحدث قبل أن يقدم الزهري
عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب. قال سفيان:
فقدم علينا الزهري فسمعته يعيده ويبديه فذكر الحديث فانتفى
الإرسال. نعم صورته صورة
الإرسال ولا يندفع بإخراج الإسماعيلي له قال سفيان
(فسمعناه) بعد ذلك (من الزهري قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد
الله) بن عبد الله (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن
الصعب) بن جثامة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه (قال):
(هم منهم) (ولم يقل كما قال عمرو) هو ابن دينار (هم من
آبائهم) وأخرج الحديث مسلم في المغازي وأبو داود وابن ماجه
في الجهاد والترمذي والنسائي في السير.
147 - باب قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ
(باب) النهي عن (قتل الصبيان في الحرب) لقصورهم عن فعل
الكفر ولما في استبقائهم من الانتفاع بهم إما بالرق أو
بالفداء عند من يجوّز أن يفادى به.
3014 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنَا
اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ -رضي الله
عنه- أَخْبَرَهُ "أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ
مَغَازِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ".
[الحديث 3014 - طرفه في: 3015].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن
يونس التميمي اليربوعي الكوفي قال: (أخبرنا الليث) بن سعد
المصري ولأبي ذر: حدّثنا ليث (عن نافع أن عبد الله) بن عمر
بن الخطاب (-رضي الله عنه- أخبره أن امرأة) لم تسم (وجدت
في بعض مغازي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
هي غزوة الفتح كما في معجم الأوسط للطبراني (مقتولة)
بالنصب (فأنكر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قتل النساء والصبيان).
وهذا الحديث أخرجه مسلم في المغازي وأبو داود في الجهاد.
148 - باب قَتْلِ النِّسَاءِ فِي الْحَرْبِ
(باب) النهي عن (قتل النساء في الحرب).
3015 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:
قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ:
"وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ".
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه (قال: قلت:
لأبي أسامة) بضم الهمزة حماد بن أسامة (حدّثكم عبيد الله)
بضم العين ابن عبد الله بن عمر (عن نافع عن ابن عمر) بن
الخطاب (-رضي الله عنهما- قال: وجدت امرأة) حال كونها
(مقتولة في بعض مغازي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) فتح مكة (فنهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن قتل النساء والصبيان). استدلّ به
البرماوي كالكرماني على أنه إذا قال للشيخ أخبركم أو
حدّثكم ونحوهما فلان وسكت عن جوابه مع قرينة الإجابة جاز
له أن يرويه
عنه، لكن رده الحافظ ابن حجر بأن إسحاق بن راهويه روى
الحديث في مسنده كذلك وزاد في آخره فأقرّ به أبو أسامة
وقال: نعم وحينئذ فلا حجة فيه لما ذكره لأنه تبين من هذه
الطريق الأخرى أنه لم يسكت، وتعقبه العيني بأنه لا يستلزم
من قوله: نعم في إحداهما عدم سكوته في الأخرى كذا قاله
فليتأمل.
149 - باب لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ
(باب) بالتنوين (لا يعذب بعذاب الله) بفتح الذال من يعذب
مبنيًّا للمفعول.
3016 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ:
"بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي بَعْثٍ فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا
وَفُلاَنًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ. ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ
تُحْرِقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا، وَإِنَّ النَّارَ لاَ
يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا
فَاقْتُلُوهُمَا".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي البلخي قال
(حدّثنا الليث) بن سعد (عن بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف
ابن عبد الله بن الأشجّ (عن سليمان بن يسار) بفتح المثناة
التحتية والمهملة المخففة الهلالي المدني مولى ميمونة أو
أم سلمة (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) كذا أخرجه النسائي
كالمؤلّف هنا وخالد محمد بن إسحاق فرواه في السير عن يزيد
بن أبي حبيب عنه بكير فأدخل بين سليمان وأبي هريرة أبا
إسحاق الدوسي، وسليمان قد صحّ سماعه من أبي هريرة وهو غير
مدلس فتكون رواية ابن إسحاق من المزيد في متصل الأسانيد
(أنه) أي أبا هريرة (قال: بعثنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعث) أميره حمزة بن عمرو الأسلمي
كما عند أبي داود بإسناد صحيح (فقال):
(إن وجدتم فلانًا وفلانًا) هبار بن الأسود ونافع بن عبد
عمرو أو غيرهما كما مرّ (فأحرقوهما بالنار) بهمزة قطع (ثم
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين
أردنا الخروج): للسفر وودّعناه (إني أمرتكم أن تحرقوا)
بالتشديد والذي في اليونينية بالتخفيف (فلانًا وفلانًا وإن
النار لا يعذب بها إلا الله) عز وجل خبر بمعنى النهي وهو
نسخ لأمره السابق، وفي رواية ابن لهيعة: وإنه لا ينبغي
ولابن إسحاق ثم رأيت أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا
الله. قال البيضاوي: إنما منع التعذيب بالنار لأنه أشد
العذاب ولذلك أوعدها الكفار، وقال
(5/147)
الطيبي: لعل المنع من التعذيب بها في
الدنيا أن الله تعالى جعل النار فيها منافع وارتفاقهم، فلا
يصح منهم أن يستعملوها في الإضرار، ولكن له تعالى أن
يستعملها فيه لأنه ربها ومالكها يفعل ما يشاء من التعذيب
بها والمنع منه، وإليه أشار بقوله في الحديث الآخر ربّ
النار وقد جمع الله تعالى الاستعمالين في قوله تعالى: {نحن
جعلناها تذكرة ومتاعًا للمقوين} [الواقعة: 73]. أي تذكيرًا
بنار جهنم لتكون حاضرة للناس يذكرون ما أوعدوا به وجعلنا
بها أسباب المعاش كلها انتهى.
وقد اختلف السلف في التحريق فكرهه عمر وابن عباس وغيرهما
مطلقًا سواء كان بسبب كفر أو قصاصًا، وأجازه عليّ وخالد بن
الوليد وقال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على
سبيل التواضع، وقد سمل عليه الصلاة والسلام أعين العرنيين
بالحديد المحمى، وحرق أبو بكر- رضي الله عنه- اللائط
بالنار بحضرة الصحابة، وتعقب بأنه لا حجة فيه للجواز فإن
قصة العرنيين كانت قصاصًا أو منسوخة وتجويز الصحابي معارض
بمنع صحابي غيره.
(فإن وجدتموهما) بالواو والجيم وفي باب التوديع فإن
أخذتموهما (فاقتلوهما).
3017 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ "أَنَّ عَلِيًّا
-رضي الله عنه- حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ
فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ، لأَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَقَتَلْتُهُمْ
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". [الحديث
3017 - طرفه في: 6922].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن أيوب) السختياني (عن عكرمة) مولى ابن
عباس (أن عليًّا -رضي الله عنه- حرّق قومًا) هم السبئية
أتباع عبد الله بن سبأ كانوا يزعمون أن عليًّا ربهم تعالى
الله وتقدّس عن مقالتهم، وعند ابن أبي شيبة كانوا قومًا
يعبدون الأصنام (فبلغ) ذلك (ابن عباس) -رضي الله عنهما-
(فقال: لو كنت أنا) بدله فالخبر محذوف وأتى بأنا تأكيدًا
للضمير المتصل (لم أحرقهم لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا تعذبوا بعذاب الله) وهذا أصرح في النهي من السابق في
الحديث الذي قبل (ولقتلتهم كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (من بدّل دينه) الحق وهو دين الإسلام
(فاقتلوه). وفي حديث مروي في شرح السُّنّة فبلغ ذلك عليًّا
فقال: صدق ابن عباس وإنما حرّقهم عليّ -رضي الله عنه-
بالرأي والاجتهاد وكأنه لم يقف على النص في ذلك قبل، فجوّز
ذلك للتشديد بالكفار والمبالغة في النكاية والنكال، وقوله:
ولقتلتهم عطف على جواب لو وأتى باللام لإفادتها معنى
التأكيد وخصها بالثاني دون الأول وهو الجواب لأن القتل أهم
وأحرى من غيره ولورود النص أن النار لا يعذب بها إلا الله.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في استتابة المرتدين وأبو
داود وابن ماجه في الحدود وكذا الترمذي والنسائي في
المحاربة.
150 - باب {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
[محمد: 4] فِيهِ حَدِيثُ ثُمَامَةَ وَقَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} -حَتَّى يَغْلِبَ فِي
الأَرْضِ- {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67]
الآيَةَ.
هذا (باب) بالتنوين يذكر في التخيير بين المن والفداء في
الأسرى لقوله تعالى في سورة القتال: {فإما منًّا بعد وإما
فداء} [محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 4]. أي
فإما تمنون منًّا أو تفدون فداء، والمراد
التخيير بعد الأسر بين المنّ والإطلاق وبين أخذ الفداء.
وعن بعض السلف أنها منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] الآية. والأكثرون على أنها
محكمة قال بعضهم: التخيير بين القسمين فلا يجوز قتله
والأكثرون منهم وهو قول أكثر السلف على التخيير بين المنّ
والمفاداة والقتل والاسترقاق (فيه) أي في الباب (حديث
ثمامة) بضم المثلثة؛ وقد ذكره المؤلّف في مواضع ولفظه في
وفد بني حنيفة من المغازي بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني
حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري
المسجد فخرج إليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال: "ما عندك يا ثمامة"؟ فقال: عندي خير يا
محمد إن تقتلني تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت
تريد المال فسل منه ما شئت حتى كان الغد، ثم قال له: "ما
عندك يا ثمامة"؟ قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر
فتركه حتى كان بعد الغد فقال: "ما عندك يا ثمامة"؟ فقال:
عندي ما قلت لك. فقال: أطلقوا ثمامة؛ الحديث.
وهذا موضع الترجمة منه فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أقره على ذلك ولم ينكر عليه التقسيم ثم منّ
عليه بعد ذلك وهو يؤيد قول الجمهور أن الأمر في أسرى
الكفار من الرجال إلى الإمام يفعل ما هو الأحظ للإسلام
والمسلمين، وعن مالك لا يجوز المن بغير الفداء، وعن
(5/148)
الحنفية: لا يجوز المنّ أصلاً لا بفداء ولا
بغيره.
(و) في الباب أيضًا (قوله عز وجل) في سورة الأنفال: ({ما
كان لنبي أن تكون له أسرى} [الأنفال: 67] الآية) أي ما صح
وما استقام لنبي من الأنبياء أن يأخذ أسارى ولا يقتلهم زاد
في رواية أبي ذر وكريمة: ({حتى يثخن في الأرض}) [الأنفال:
67]. يعني يغلب في الأرض وهذا تفسير أبي عبيدة، وعن مجاهد
الإثخان القتل وقيل المبالغة فيه أي حتى يكثر فيعز الإسلام
ويذل الكفر ({تريدون عرض الدنيا}) حطامها وهو الفداء
(الآية). وتمامها: ({والله يريد الآخرة}) [الأنفال: 67].
يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه
وقمع أعدائه والله عزيز يغلب أولياءه على أعدائه حكيم يعلم
ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ومنع من
الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين وخيّر بينه وبين المنّ
لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين.
نزلت حين جاؤوا بأسارى بدر فاستشار -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيهم فقال عمر: هم أئمة الكفر والله
أغناك عن الفداء فاضرب أعناقهم، وقال أبو بكر: هم قومك
وأهلك لعل الله أن يتوب عليهم خذ منهم فدية تقوي بها
أصحابك فقبل الفداء وعفا عنهم.
151 - باب هَلْ لِلأَسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ وَيَخْدَعَ
الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنَ الْكَفَرَةِ؟
فِيهِ الْمِسْوَرُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
هذا (باب) بالتنوين (هل للأسير) في أيدي الكفار (أن يقتل
ويخدع) ولأبي ذر: أو يخدع
(الذين أسروه حتى ينجو من الكفرة فيه المسور) أي في حكم
الباب حديث المسور بن مخرمة (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في صلح الحديبية وفيه وعلى أنه لا
يأتيك منّا رجل ولو كان على دينك إلا رددته إلينا إلى أن
قال: ثم رجع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا
في طلبه رجلين فقالا: العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى
الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من
ثمر لهم فقال: أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك
هذا يا فلان جيدًا فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد
لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه
منه فضربه حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد
يعدو، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا. فلما انتهى إلى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: قتل والله صاحبي وإني
لمقتول فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى
الله إليك ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ويل أمه مسعر
حرب لو كان له أحد" فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج
حتى أتى سيف البحر قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق
بأبي بصير فجعل لا يخرج رجل من قريش قد أسلم إلا لحق بأبي
بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت
لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم
فأرسلت قريش إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- تناشده بالله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو
آمن، فأرسل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إليهم فلم ينكر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على
أبي بصير قتله العامري ولا أمر فيه بقوَد ولا دية، وإنما
لم يجزم المؤلّف -رحمه الله- بالحكم لأنه اختلف في الأسير
يعاهد أن لا يهرب فقال الشافعي والكوفيون: لا يلزمه. وقال
مالك: يلزمه، وقال ابن القاسم وابن الموّاز إن أكرهوه على
أن يحلف لم يلزمه لأنه مكره، وقال بعض الفقهاء: لا فرق بين
الحلف والعهد وخروجه عن بلد الكفر واجب والحجة في ذلك فعل
أبي بصير وتصويب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فعله اهـ.
قال أبو عبد الله الأبي: ولا حجة فيه لأنه ليس فيه إلا أن
أبا بصير عاهدهم على ذلك والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إنما عاهدهم على أن لا يخرج معه بأحد منهم ولا
يحبسه عنهم ولا عاهدهم على أن لا يخرج منهم من أسلم فيلزم
ذلك أبا بصير.
152 - باب إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ
يُحَرَّقُ؟
هذا (باب) بالتنوين (إذا حرق المشرك) الرجل (المسلم هل
يحرق)؟ هذا المشرك جزاء لفعله.
3018 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ
ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْغِنَا رِسْلاً، قَالَ:
مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ،
فَانْطَلَقُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا
وَأَلْبَانِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا
الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ
إِسْلاَمِهِمْ، فَأَتَى الصَّرِيخُ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فَبَعَثَ الطَّلَبَ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى
أُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ
ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ
بِهَا وَطَرَحَهُمْ بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا
يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا".
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: قَتَلُوا وَسَرَقُوا وَحَارَبُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَسَعَوْا فِي الأَرْضِ فَسَادًا.
وبه قال: (حدّثنا معلى) بضم الميم وتشديد اللام المفتوحة
ولغير أبي ذر ابن أسد قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو وفتح
الهاء ابن خالد (عن أيوب) السختياني (عن أبي قلابة) بكسر
القاف عبد الله بن زيد الجرمي (عن أنس بن مالك -رضي الله
عنه-
(5/149)
أن رهطًا من عكل) بضم العين وسكون الكاف
قبيلة معروفة (ثمانية) نصب بدلاً من رهطًا أو بيانًا له
(قدموا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فاجتووا المدينة) بالجيم الساكنة وفتح المثناة والواو
الأولى من الاجتواء أي كرهوا الإقامة بها أو لم يوافقهم
طعامها (فقالوا: يا رسول الله ابغنا رسلاً) بكسر الراء
وسكون السين المهملة أي اطلب لنا لبنًا (قال): ولأبي ذر:
فقال:
(ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود) بفتح الذال المعجمة
آخره مهملة من بين الثلاث إلى العشرة من الإبل (فانطلقوا
فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صحّوا وسمنوا) وللإسماعيلي
من رواية ثابت ورجعت إليهم ألوانهم (وقتلوا الراعي) يسارًا
غلامه عليه الصلاة والسلام (واستاقوا الذود) افتعال من
السوق وهو السير العنيف (وكفروا بعد إسلامهم فأتى الصريخ
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالصاد
المهملة والخاء المعجمة فعيل بمعنى فاعل أي صوت المستغيث
(فبعث) عليه الصلاة والسلام (الطلب) في آثارهم، وفي حديث
سلمة بن الأكوع خيلاً من المسلمين أميرهم كرز بن جابر
الفهري، ولمسلم من رواية معاوية بن قرّة عن أنس أنهم شباب
من الأنصار قريب من عشرين رجلاً وبعث معهم قائفًا يقتص
آثارهم (فما ترجل النهار) بالجيم أي ارتفع (حتى أُتي بهم)
بضم الهمزة وكسر المثناة الفوقية إليه عليه الصلاة والسلام
(فقطع أيديهم وأرجلهم) بتشديد الطاء في اليونينية أي أمر
بها فقطعت وظاهره أنه قطع يدي كل واحد ورجليه لكن يردّه
رواية الترمذي من خِلاف وللمؤلّف من رواية الأوزاعي لم
يحسمهم أي لم يكوِ ما قطع منهم بالنار لينقطع الدم بل
تركهم ينزفون (ثم أمر) عليه الصلاة والسلام (بمسامير
فأُحميت) بضم الهمزة رباعيًا وهو المعروف في اللغة (فكحلهم
بها) بالتخفيف أي أمر بذلك، وفي رواية: فأكحلوا بهمزة
مضمومة وكسر الحاء وإنما فعل ذلك بهم لما في رواية التيمي
أنهم كانوا فعلوا بالرعاء مثل ذلك وعليه ينزل تبويب
البخاري ولولا ذلك لم تكن ثمّ مناسبة، وقيل: إنه منسوخ
بآية المائدة: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله}
[المائدة: 33] الآية. قاله الشافعي. (وطرحهم بالحرة)
بالحاء والراء المهملتين أرض ذات حجارة سود معروفة
بالمدينة (يستسقون فما يسقون حتى ماتوا).
استشكل بأن الإجماع كما قاله القاضي أن من وجب قتله
فاستسقى يسقى. وأجيب: بأنه ليس في الحديث ما يدل على أنه
أمر بذلك ولا أذن فيه أو أنهم بارتدادهم لم تكن لهم حرمة،
ولذلك
قال أصحابنا: من معه ماء يحتاج إليه لعطش وهناك مرتدّ لو
لم يسقه مات يتوضأ به ولا يسقيه بخلاف الذمي والبهيمة.
(قال أبو قلابة) بن عبد الله (قتلوا وسرقوا) لأنهم أخذوا
اللقاح من حرز مثلها وهذا أخذه أبو قلابة استنباطًا لكنه
نوزع فيه بأن هذه ليست سرقة وإنما هي حرابة. (وحاربوا الله
ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسعوا في
الأرض فسادًا).
153 - باب
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة وهو كالفضل من سابقه.
3019 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
«قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ
بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً
مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ». [الحديث 3019 - طرفه في: 3319].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف
قال: (حدّثنا الليث) بن سعد (عن يونس) بن يزيد الأيلي (من
ابن شهاب) الزهري (عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة) بن عبد
الرحمن (أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(قرصت) بفتح القاف والراء والصاد المهملتين أي لدغت (نملة
نبيًّا من الأنبياء) هو عزير. وعند الترمذي الحكيم أنه
موسى (فأمر بقرية النمل) موضع اجتمعاهن (فأحرقت) بتاء
التأنيث أي القرية، ولأبي ذر: فأحرق أي النمل لجواز
التعذيب بالنار وإحراق النمل قصاصًا وهو غير مكلف في شرعه،
واستدلّ به على جواز حرق الحيوان المؤذي لأن شرع من قبلنا
شرع لنا إذا لم يأتِ في شرعنا ما يرفعه. نعم ورد فيه النهي
عن التعذيب بالنار إلا في القصاص بشرطه، وكذا لا يجوز
عندنا قتل النمل لحديث ابن عباس في السُّنن: "أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن قتل النملة
والنحلة".
(فأوحى الله إليه) إلى ذلك النبي (أن قرصتك نملة)
(5/150)
بفتح الهمزة وبهمزة الاستفهام مقدرة أو
ملفوظ بها (أحرقت أمة من الأمم تسبح الله) تعالى في بدء
الخلق فهلا نملة واحدة أي فهلا أحرقت نملة واحدة وهي التي
آذتك بخلاف غيرها فلم يصدر منها جناية وفيه إشارة إلى أنه
لو أحرق التي قرصته لما عوتب وقيل لم يقع عليه العتب في
أصل القتل ولا في الإحراق بل في الزيادة على النملة
الواحدة وهو يدل لجوازه في شرعه، وتعقب بأنه لو كان كذلك
لم يعاتب أصلاً ورأسًا أو أنه من باب حسنات الأبرار سيئات
المقربين. وقد روي أن لهذه القصة سببًا وهو أن هذا النبي
مرّ على قرية أهلكها الله بذنوب أهلها فوقف متعجبًا فقال:
يا رب كان فيهم صبيان ودواب ومن لم يقترف ذنبًا ثم
نزل تحت شجرة فجرت له هذه القصة فنبهه الله على أن الجنس
المؤذي يقتل وإن لم يؤذِ وتقتل أولاده وإن لم تبلغ الأذى،
والحاصل أنه لم يعاتبه إنكارًا لما فعل بل جوابًا له
وإيضاحًا لحكمة شمول الإهلاك لجميع أهل تلك القرية فضرب له
المثل بذلك أي إذا اختلط من يستحق الإهلاك بغيره وتعين
إهلاك الجميع طريقًا إلى إهلاك المستحق جاز إهلاك الجميع.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الحيوان وأبو داود في الأدب
والنسائي في الصيد وابن ماجه.
154 - باب حَرْقِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ
(باب) جواز (حرق الدور والنخيل) التي للمشركين وحرق بفتح
الحاء وسكون الراء واعترضه في فتح الباري بأنه لا يقال في
المصدر حرق، وإنما يقال تحريق واحراق لأنه رباعي. وقال
الزركشي: الصواب إحراق وتعقبه في المصابيح بأن في المشارق
والحرق يكون من النار والأعرف الإحراق فجعل الحرق معروفًا
لا خطأ.
3020 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ
قَالَ: "قَالَ لِي جَرِيرٌ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلاَ تُرِيحُنِي
مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ -وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ
يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةَ- قَالَ فَانْطَلَقْتُ
فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا
أَصْحَابَ خَيْلٍ، قَالَ: وَكُنْتُ لاَ أَثْبُتُ عَلَى
الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ
ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا. فَانْطَلَقَ
إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يُخْبِرُهُ فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا
جَمَلٌ أَجْوَفُ أَوْ أَجْرَبُ. قَالَ فَبَارَكَ فِي
خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ". [الحديث
3020 - أطرافه في: 3036، 3076، 3823، 4355، 4356 , 4357،
6089، 6333].
وبه قال: (حدّثنا مسدّد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن إسماعيل) بن أبي خالد الأحمسي البجلي
(قال: حدّثني) بالإفراد (قيس بن أبي حازم) بالمهملة والزاي
(قال: قال لي جرير) بفتح الجيم ابن عبد الله الأحمسي -رضي
الله عنه- (قال لي رسول الله):
(ألا تريحني) بفتح الهمزة وتخفيف اللام وبالراء والحاء
المهملتين طلب يتضمن الأمر بإراحة قلبه المقدس (من ذي
الخلصة) بالخاء المعجمة واللام بعدها صاد مهملة مفتوحات أو
بفتح أوله وسكون ثانيه أو مهما أو بفتح ثم ضم والأول أشهر
لأنه لم يكن شيء أتعب لقلبه عليه الصلاة والسلام من بقاء
ما يشرك به من دون الله وخصّ جرير بذلك لأنها كانت في بلاد
قومه وكان هو من أشرافهم. (وكان) ذو الخلصة (بيتًا) لصنم
(في خثعم) بفتح الخاء المعجمة وسكون المثلثة وفتح العين
المهملة كجعفر قبيلة شهيرة ينتسبون إلى خثعم بن أنمار بفتح
الهمزة وسكون النون ابن إراش بكسر الهمزة وتخفيف الراء
آخره شين معجمة أو اسم البيت الخلصة واسم الصنم ذو الخلصة،
وضعفه الزمخشري
بأن ذو لا تضاف إلا إلى أسماء الأجناس (يسمى) أي ذو الخلصة
(كعبة اليمانية) بالتخفيف لأنه بأرض اليمن ضاهوا به الكعبة
البيت الحرام من إضافة الموصوف إلى الصفة، وجوّزه الكوفيون
وهو عند البصريين بتقدير كعبة الجهة اليمانية.
(قال) جرير (فانطلقت) أي قبل وفاته عليه الصلاة والسلام
بشهرين (في خمسين ومائة فارس من أحمس) بفتح الهمز وسكون
الحاء المهملة وفتح الميم آخره سين مهملة قبيلة من العرب
وهم إخوة بجيلة بفتح الموحدة وكسر الجيم رهط جرير ينتسبون
إلى أحمس بن الغوث بن أنمار وبجيلة امرأة تنسب إلى القبيلة
المشهورة (وكانوا أصحاب خيل) أي يثبتون عليها لقوله: (قال:
وكنت لا أثبت على الخيل فضرب) عليه الصلاة والسلام (في
صدري) لأن فيه القلب (حتى رأيت أثر أصابعه) الشريفة (في
صدري وقال):
(اللهمّ ثبّته) على الخيل (واجعله هاديًا) لغيره حال كونه
(مهديًّا) بفتح الميم في نفسه، (فانطلق) جرير (إليها) إلى
ذي الخلصة (فكسرها) أي هدم بناءها (وحرّقها) بتشديد الراء
بأن رمى النار فيما فيها من الخشب (ثم بعث) جرير (إلى رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه
(يخبره) بتكسيرها وتحريقها (فقال رسول جرير) هو
(5/151)
أبو أرطأة حصين بن ربيعة بضم الحاء وفتح
الصاد المهملتين لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها
جمل أجوف) بالهمزة والجيم والواو والفاء أي صارت البعير
الخالي الجوف (أو) قال (أجرب) بالراء الموحدة كناية عن نزع
زينتها وإذهاب بهجتها. وقال الخطابي: مثل الجمل المطلي
بالقطران من جريه إشارة إلى ما حصل لها من سواد الإحراق
(قال فبارك) عليه الصلاة والسلام (في خيل أحمس ورجالها) أي
دعا لها بالبركة (خمس مرات) مبالغة واقتصر على الوتر لأنه
مطلوب.
3021 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "حَرَّقَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَخْلَ بَنِي
النَّضِيرِ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري
ولم يصب من ضعّفه قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة أو الثوري
(عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر) بن الخطاب (-رضي
الله عنهما- قال): (حرّق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بتشديد الراء (نخل بني النضير) قبيلة من
اليهود بالمدينة سنة أربع من الهجرة وخرّب بيوتهم بعد أن
حاصرهم خمسة عشر يومًا وفيهم نزلت الآيات من سورة الحشر،
وفي رواية المغازي عند المؤلّف قال: حرّق رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نخل بني النضير وقطع
وهي البويرة فنزلت: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة
على أصولها فبإذن الله} [الحشر: 5]. والبويرة: موضع نخل
بني النضير وقوله فنزلت يدل على أن نزول الآية بعد
التحريق، فيحتمل أن يكون التحريق باجتهاد أو وحي ثم نزلت،
واستدلّ الجمهور بذلك على جواز التحريق والتخريب في بلاد
العدوّ إذا تعيّن طريقًا في نكاية العدوّ وخالف بعضهم
فقال: لا يجوز قطع المثمر أصلاً وحمل ما ورد في ذلك إما
على غير
المثمر وإما على أن الشجر الذي قطع في قصة بني النضير كان
في الموضع الذي يقع فيه القتال وهذا قول الليث والأوزاعي
وأبي ثور.
ويأتي الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى مع بقية مباحثه في
كتاب المغازي.
155 - باب قَتْلِ النَّائِمِ الْمُشْرِكِ
(باب قتل النائم المشرك).
3022 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ
بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَهْطًا مِنَ
الأَنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ لِيَقْتُلُوهُ،
فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَدَخَلَ حِصْنَهُمْ، قَالَ:
فَدَخَلْتُ فِي مَرْبِطِ دَوَابَّ لَهُمْ، قَالَ:
وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا
حِمَارًا لَهُمْ فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، فَخَرَجْتُ
فِيمَنْ خَرَجَ أُرِيهِمْ أَنَّنِي أَطْلُبُهُ مَعَهُمْ،
فَوَجَدُوا الْحِمَارَ، فَدَخَلُوا وَدَخَلْتُ،
وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ لَيْلاً، فَوَضَعُوا
الْمَفَاتِيحَ فِي كَوَّةٍ حَيْثُ أَرَاهَا، فَلَمَّا
نَامُوا أَخَذْتُ الْمَفَاتِيحَ فَفَتَحْتُ بَابَ
الْحِصْنِ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا
رَافِعٍ، فَأَجَابَنِي، فَتَعَمَّدْتُ الصَّوْتَ
فَضَرَبْتُهُ، فَصَاحَ، فَخَرَجْتُ، ثُمَّ جِئْتُ ثُمَّ
رَجَعْتُ كَأَنِّي مُغِيثٌ فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ
-وَغَيَّرْتُ صَوْتِي- فَقَالَ: مَا لَكَ لأُمِّكَ
الْوَيْلُ، قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي مَنْ
دَخَلَ عَلَىَّ فَضَرَبَنِي، قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِي
فِي بَطْنِهِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَعَ
الْعَظْمَ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَأَنَا دَهِشٌ، فَأَتَيْتُ
سُلَّمًا لَهُمْ لأَنْزِلَ مِنْهُ فَوَقَعْتُ، فَوُثِئَتْ
رِجْلِي، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: مَا أَنَا
بِبَارِحٍ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَمَا بَرِحْتُ
حَتَّى سَمِعْتُ نَعَايَا أَبِي رَافِعٍ تَاجِرِ أَهْلِ
الْحِجَازِ. قَالَ: فَقُمْتُ وَمَا بِي قَلَبَةٌ، حَتَّى
أَتَيْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَأَخْبَرْنَاهُ". [الحديث 3022 - أطرافه في: 3023، 4038،
4039، 4040].
وبه قال: (حدّثنا عليّ بن مسلم) بكسر اللام الخفيفة ابن
سعيد الطوسي قال: (حدّثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة)
ميمون الهمداني الكوفي القاضي (قال: حدّثني) بالإفراد
(أبي) زكريا الأعمى (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله
السبيعي الكوفي (عن البراء بن عازب) الأنصاري (-رضي الله
عنهما- قال: بعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أي في رمضان سنة ست أو في ذي الحجة سنة خمس أو
في آخر سنة أربع (رهطًا) ما بين الثلاثة إلى التسعة من
الرجال (من الأنصار إلى أبي رافع) عبد الله أو سلام بن أبي
الحقيق بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى اليهودي وكان
قد حزب الأحزاب على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (ليقتلوه) بسبب ذلك، (فانطلق رجل منهم) هو عبد
الله بن عتيك بفتح العين المهملة وكسر المثناة الفوقية
الأنصاري (فدخل حصنهم) بخيبر أو بأرض الحجاز وجمع بينهما
بأن يكون حصنهم كان قريبًا من خيبر في طرف أرض الحجاز
(قال): عبد الله بن عتيك (فدخلت في مربط)
بفتح الميم وكسر الموحدة (دواب لهم قال وأغلقوا باب الحصن
ثم إنهم فقدوا) بفتح القاف (حمارًا لهم فخرجوا يطلبونه
فخرجت فيمن خرج أريهم) بضم الهمزة وكسر الراء من الإراءة
(أنني) بفتح الهمزة والنون الأولى المشدّدة وكسر الثانية،
ولأبي ذر: أني بنون واحدة مكسورة مشددة (أطلبه معهم،
فوجدوا الحمار فدخلوا ودخلت) معهم (وأغلقوا باب الحصن
ليلاً فوضعوا المفاتيح في كوّة) بفتح الكاف وضمها وتشديد
الواو ثقب في جدار البيت (حيث أراها) بفتح الهمزة (فلما
ناموا أخذت المفاتيح ففتحت باب) مكان من (الحصن) الذي فيه
أبو رافع (ثم دخلت عليه فقلت: يا أبا رافع) لأتحقق أنه هو
خوفًا من أن أقتل غيره ممن لا غرض لي في قتله (فأجابني
فتعمدت الصوت) أي اعتمدت جهة الصوت لأن الموضع كان مظلمًا
(فضربته) عند وصولي إليه (فصاح فخرجت) من عنده (ثم جئت ثم
رجعت) إليه ولأبي ذر: فخرجت ثم رجعت (كأني مغيث) له (فقلت:
يا أبا رافع -وغيّرت صوتي- فقال: ما لك)؟ ما استفهامية
مبتدأ وخبره لك (لأمك الويل)
(5/152)
القياس أن يقول: على أمك الويل وذكر الأم
لإرادة الاختصاص (قلت: ما شأنك؟ قال: لا أدري من دخل عليّ
فضربني. قال: فوضعت سيفي في بطنه ثم تحاملت عليه) أي
تكلفته على مشقة (حتى قرع العظم) أي أصابه (ثم خرجت وأنا
دهش) بفتح الدال وكسر الهاء صفة مشبهة أي متحير والجملة
حالية، وهذا يقتضي أن الفاعل لذلك كله عبد الله بن عتيك،
لكن عند ابن هشام عن الزهري عن كعب بن مالك أنه خرج إليه
خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن
أنيس، وأبو قتادة الحرث بن ربعي، وخزاعي بن أسود حليف لهم
من أسلم، وأمّر عليهم عبد الله بن عتيك، وأنهم لما دخلوا
عليه ابتدروه بأسيافهم وأن عبد الله بن أنيس تحامل عليه
بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني أي حسبي، لكن
ما في البخاري أصح.
قال أبو عبد الله بن عتيك (فأتيت سُلّمًا لهم) بضم السين
وفتح اللام المشددة (لأنزل منه) بفتح الهمزة (فوقعت فوثئت)
بضم الواو وكسر المثلثة وهمزة مفتوحة مبنيًّا للمفعول أي
أصاب عظم (رجلي) شيء لا يبلغ الكسر كأنه فك وإنما وقع من
الدرجة لأنه كان ضعيف البصر، (فخرجت إلى أصحابي فقلت): لهم
(ما أنا ببارح) بموحدتين فألف فراء فحاء مهملة أي بذاهب
(حتى أسمع الناعية) بالنون وكسر العين أي المخبرة بموته،
ولأبي ذر: الواعية بالواو بدل النون أي الصارخة التي تندب
القتيل والوعي الصوت (فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع)
بفتح النون والعين وبعد المثناة التحتية ألف وقول الخطابي
كذا روي وحقه نعاء أبا رافع أي انعوا أبا رافع كقولهم دراك
بمعنى أدرك، تعقبه في المصابيح فقال: هذا قدح في الرواية
الصحيحة بوهم يقع في الخاطر فالنعايا هنا جمع نعيّ كصفي
وصفايا والنعيّ خبر الموت أي فما برحت حتى سمعت الأخبار
مصرّحة بموت أبي رافع (تاجر أهل الحجاز) فيه قبول قول
الواحد في الوفاة بقرائن الأحوال ولو كان القائل كافرًا
لمحكم القرينة لا القول (قال قمت وما بي قلبة) بالقاف
واللام الموحدة المفتوحات أي ما بقي علّة أو داء تقلب له
رجلي لتعالج (حتى أتينا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فأخبرناه) بموت أبي رافع.
فإن قلت: من أين تؤخذ المطابقة بين الترجمة والحديث؟ أجيب:
بأنه إنما قصد أبا رافع وهو نائم وإنما أيقظه ليعلم مكانه
بصوته فكان حكمه حكم النائم لأنه حينئذٍ استمر على خبال
نومه لأنه بعد أن ضربه لم يفر من مكانه ولا تحوّل من مضجعه
حتى عاد إليه فقتله على أنه قد صرّح في الحديث الآتي بأنه
قتله في حالة النوم اهـ.
وفي الحديث جواز التجسس على المشركين وجواز قتل المشرك
بغير دعوة إذا كان قد بلغته قبل ذلك وقتله إذا كان نائمًا
مع تحقق استمراره على الكفر واليأس من فلاحه بالوحي أو
بالقرائن الدالّة على ذلك، وأخرج الحديث المؤلّف أيضًا
مختصرًا هنا وفي المغازي.
3023 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَي يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رَهْطًا مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ، فَدَخَلَ
عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلاً
فَقَتَلَهُ وَهْوَ نَائِمٌ".
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني (عبد الله بن
محمد) المسندي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني (يحيى بن
آدم) هو ابن سليمان القرشي المخزومي الكوفي قال: (حدّثنا
يحيى بن أبي زائدة) هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وسقط
لفظ يحيى لأبي ذر (عن أبيه) زكريا (عن أبي إسحاق) السبيعي
الكوفي (عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: بعث رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رهطًا) بفتح
الراء وسكون الهاء (من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عليه عبد
الله بن عتيك) بالعين المهملة (بيته) الذي هو فيه من
الحصن، وللحموي والمستملي بيته بتشديد المثناة التحتية
المفتوحة بعد الموحدة من التبييت أي حال كونه قد بيته
(ليلاً فقتله وهو نائم) صرّح بأن ابن عتيك هو الذي قتله
وأنه كان نائمًا كما نبّه عليه قريبًا.
156 - باب لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
هذا (باب) بالتنوين (لا تمنوا لقاء العدوّ) بإسقاط إحدى
التاءين من تمنوا تخفيفًا.
3024 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَاصِمُ
بْنُ يُوسُفَ الْيَرْبُوعِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الْفَزَارِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ:
"حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ، كُنْتُ كَاتِبًا لَهُ قَالَ: كَتَبَ
إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى حِينَ خَرَجَ
إِلَى الْحَرُورِيَّةِ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ
انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ".
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن موسى) بن عيسى المروزي قال:
(حدّثنا عاصم بن يوسف اليربوعي) الخياط الكوفي قال:
(حدّثنا أبو إسحاق) إبراهيم بن محمد (الفزاري) بفتح الفاء
والزاي وكسر الراء (عن موسى بن
(5/153)
عقبة قال: حدّثني) بالإفراد (سالم) هو ابن
أبي أمية (أبو النضر) بفتح
النون وسكون الضاد المعجمة (مولى عمر بن عبيد الله) بضم
العين فيهما التيمي المدني وكان أميرًا على حرب الخوارج
قال: (كنت كاتبًا له) أي لعمر بن عبيد الله لا لعبد الله
بن أبي أوفى (قال): أي سالم (كتب إليه) أي إلى عمر بن عبيد
الله التيمي (عبد الله بن أبي أوفى) بفتح الهمزة والفاء
بينهما واو ساكنة وفي نسخة قال: كنت كاتبًا لعمر بن عبيد
الله فأتاه كاتب عبد الله بن أبي أوفى (حين خرج إلى
الحرورية) بفتح الحاء المهملة (فقرأته فإذا فيه أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض أيامه
التي لقي فيها العدوّ انتظر) خبر إن (حتى مالت الشمس) عن
خط وسط السماء (ثم قام في الناس) خطيبًا (فقال):
3025 - "ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا
اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا
-وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ
السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ
وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ". وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ:
"حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ: كُنْتُ كَاتِبًا
لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رضي الله عنهما أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ".
(يا أيها الناس لا تمنوا لقاء العدوّ) بحذف إحدى تاءي
تمنوا.
فإن قلت: تمني لقاء العدوّ جهاد والجهاد طاعة فكيف ينهى عن
الطاعة؟ أجيب: بأن المرء لا يدري ما يؤول إليه الحال، وقصة
الرجل الذي أثخنته الجراح في غزوة خيبر وقتل نفسه حتى آل
أمره أن كان من أهل النار شاهدة لذلك، وقد روى سعيد بن
منصور من طريق يحيى بن أبي بكر مرسلاً: لا تمنوا لقاء
العدوّ فإنكم لا تدرون عسى أن تبتلوا بهم أو النهي لما في
التمني من صورة الإعجاب والاتكال على النفوس والوثوق
بالقوة وقلة الاهتمام بالعدوّ، وتمني الشهادة ليس مستلزمًا
لتمني لقاء العدوّ فيجوز تمني لقاء العدوّ جهاد أو مستلزم
له، وتمني الجهاد مستلزم للقاء العدوّ وهو يتضمن الضرر
المذكور ولذا تممه عليه الصلاة والسلام بقوله:
(وسلوا الله العافية) من هذه المخاوف المتضمنة للقاء
العدوّ وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصدّيق
الأكبر أبو بكر رضي الله عنه: لأن أعافى فأشكر أحبّ إليّ
من أن أبتلى فأصبر، وهل يؤخذ منه منع طلب المبارزة لأنه من
تمنى لقاء العدوّ، ومن ثم قال عليّ لابنه: يا بني لا تدع
أحدًا إلى المبارزة ومن دعاك إليها فاخرج إليه لأنه باغٍ،
والله قد ضمن نصر من بُغي عليه، ولطلب المبارزة شروط
معروفة في الفقه إذا اجتمعت أمن معها المحذور في لقاء
العدوّ المنهي عن تمنّيه.
(فإذا لقيتموهم فاصبروا) أي اثبتوا ولا تظهروا التألم من
شيء يحصل لكم الصبر في القتال هو كظم ما يؤلم من غير إظهار
شكوى ولا جزع وهو الصبر الجميل (واعلموا أن الجنة) أي
ثوابها (تحت ظلال السيوف) وقال النووي: معناه أن الجهاد
وحضور معركة الكفار طريق إلى الجنة وسبب لدخولها (ثم قال):
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (اللهم) يا (منزل
الكتاب) الفرقان أو سائر الكتب السماوية (و) يا (مجري
السحاب) بنزول الغيث بقدرته (و) يا (هازم الأحزاب) وحده
إشارة إلى تفرّده بالنصر وهزم ما يجتمع من أحزاب العدوّ
(اهزمهم وانصرنا عليهم) وفي رواية الإسماعيلي في هذا
الحديث من وجه آخر أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- دعا أيضًا فقال: "اللهم أنت ربنا وربهم ونحن
عبيدك نواصينا ونواصيهم بيدك فاهزمهم وانصرنا عليهم".
(وقال موسى بن عقبة): بالإسناد المذكور وكان المؤلّف رواه
بالإسناد الواحد مطوّلاً ومختصرًا (حدّثني) بالإفراد (سالم
أبو النضر): كذا في رواية أبي ذر وسقط عند غيره من قوله
مولى عمر بن عبيد الله إلى هنا وساق في رواية أبي ذر
الحديث كالباقين (كنت كاتبًا لعمر بن عبيد الله) صريح في
أن سالمًا كاتب عمر بن عبيد الله وهو يرد على العيني
كالحافظ ابن حجر حيث رجعا الضمير في قوله في باب الجنة تحت
بارقة السيوف عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله
وكان كاتبًا له إلى عبد الله بن أبي أوفى (فأتاه) أي عمر
بن عبيد الله (كتاب عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما-
أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا تمنَّوا لِقَاءَ العدوّ) بحذف إحدى تاءي تمنوا.
3026 - وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ
تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ
فَاصْبِرُوا».
(وقال أبو عامر) عبد الملك بن عمرو بن قيس البصري العقدي
لا عبد الله بن براد مما وصله مسلم (حدّثنا مغيرة بن عبد
الرحمن) الحزامي (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن
الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:
(لا تمنوا) بحذف إحدى التاءين
(5/154)
تخفيفًا ولأبي ذر: لا تمنوا بإثباتها (لقاء
العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا) لأن مع الصبر يبقى الثبات
ويرجى النصر.
157 - باب الْحَرْبُ خَدْعَةٌ
هذا (باب) بالتنوين (الحرب خدعة) بفتح الخاء المعجمة وسكون
الدال المهملة كما في الفرع وأصله وهي الأفصح وجزم بها أبو
ذر الهروي والقزاز، وقال ثعلب: بلغنا أنها لغة النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وللأصيلي كما قاله
في الفتح خدعة بضم الخاء مع سكون الدال، وجوّز خدعة بضم
أوله وفتح ثانيه كهمزة ولمزة وهي صيغة مبالغة، وحكى
المنذري خدعة بفتح الأول والثاني جمع خادع. وحكى مكي وغيره
خدعة بكسر أوّله وسكون ثانيه فهي خمسة ومعنى الإسكان أنها
تخدع أهلها من وصف الفاعل باسم المصدر أو وصف للمفعول كهذا
الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه، وعن الخطابي أنها المرة
الواحدة يعني أنه إذا خدع مرة واحدة لم تقل عثرته ومعنى
الضم مع السكون أنها تخدع الرجال أي هي محل الخداع وموضعه
ومع فتح الدال أي تخدع الرجال تمنِّيهم الظفر ولا تفي لهم
كالضحكة إذا كان يضحك بالناس، وقيل: الحكمة في الإتيان
بالتاء الدلالة على الوحدة فإن الخداع إن كان من
المسلمين فكأنه حضّهم على ذلك ولو مرة واحدة وإن كان من
الكفار فكأنه حذرهم من مكرهم ولو وقع مرة واحدة فلا ينبغي
التهوّن بهم لما ينشأ عنه من المفسدة ولو قلّ.
3027 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«هَلَكَ كِسْرَى , ثُمَّ لاَ يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ.
وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ، ثُمَّ لاَ يَكُونُ قَيْصَرٌ
بَعْدَهُ، وَلَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهما فِي سَبِيلِ
اللَّهِ». [الحديث 3027 - أطرافه في: 3120، 3618، 6630].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي (حدّثنا عبد
الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن همام)
هو ابن منبه (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(هلك) أي مات (كسرى) بكسر الكاف وقد تفتح معرب خسرو أي
واسع الملك وهو اسم لكل من ملك الفرس (ثم لا يكون كسرى
بعده) بالعراق وفي رواية: إذا هلك كسرى إلخ ... قال
القرطبي: وبين رواية هلك وإذا هلك بون ويمكن الجمع بأن
يكون أبو هريرة سمع أحد اللفظين قبل أن يموت كسرى والآخر
بعد موته قال: ويحتمل أن يقع التغاير بالهلاك والموت
فقوله: إذا هلك كسرى أي هلك ملكه وارتفع وقوله مات كسرى ثم
لا يكون كسرى بعده المراد بعد كسرى حقيقة، والمراد بقوله
هلك كسرى تحقق وقوع ذلك حتى عبّر عنه بلفظ الماضي وإن كان
لم يقع بعد للمبالغة في ذلك كما في قوله تعالى: {أتى أمر
الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1]. (وقيصر) بغير صرف للعجمة
والعلمية ونوّن في الفرع وصحح عليه مبتدأ خبره (ليهلكن)
بفتح الياء وكسر اللام الثانية في الفرع كأصله وقيصر
بالتنوين مصحح عليه وفي نسخة ولا قيصر ليهلكن بالصرف بعد
النفي لزوال العلمية بالتنكير (ثم لا يكون قيصر بعده)
بالشام. قال إمامنا الشافعي: وسبب الحديث أن قريشًا كانت
تأتي الشام والعراق كثيرًا للتجارة في الجاهلية فلما
أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليها لمخالفتهم بالإسلام فقال
عليه الصلاة والسلام: لا كسرى ولا قيصر بعدهما بهذين
الإقليمين ولا ضرر عليكم فلم يكن قيصر بعده بالشام ولا
كسرى بالعراق ولا يكون (ولتقسمن كنوزهما) أي مالهما
المدفون وكل ما يجمع ويدّخر وسقطت ميم كنوزهما في الفرع
وأصله (في سبيل الله) عز وجل ولتقسمن بضم المثناة الفوقية
وفتح السين والميم وتشديد النون مبنيًّا للمفعول.
3028 - "وَسَمَّى الْحَرْبَ خُدْعَةً". [الحديث 3028 -
طرفه في: 3029].
(وسمى) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (الحرب
خدعة) في غزوة الخندق لما بعث نعيم بن مسعود يخذل بين قريش
وغطفان واليهود قاله الواقدي، وتكون بالتورية وبالكمين
وبخلف الوعد وذلك من المستثنى الجائز المخصوص من المحرّم،
وقال النووي: اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما
أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز.
وهذا الحديث أخرجه مسلم.
3029 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَصْرَمَ -اسْمُهُ
بُورُ- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه- قَالَ: "سَمَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَرْبَ خُدْعَةً".
وبه قال: (حدّثنا أبو بكر بن أصرم) بفتح الهمزة وسكون
الصاد وبعد الراء المفتوحة ميم ولأبي الوقت: أبو بكر بضم
الموحدة وبعد الواو الساكنة راء وهو اسمه ولأبي ذر: اسمه
بور المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي
قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن همام بن منبه) بضم
(5/155)
الميم وفتح النون وتشديد الموحدة المكسورة
(عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: سمى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (الحرب خدعة) وهذه
طريقة ثانية لحديث أبي هريرة.
3030 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا
ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ».
وبه قال: (حدّثنا صدقة بن الفضل) المروزي قال: (أخبرنا ابن
عيينة) سفيان (عن عمرو) هو ابن دينار أنه (سمع جابر بن عبد
الله -رضي الله عنهما- قال): (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(الحرب خدعة) وفيه كالسابق الإشارة إلى استعمال الرأي في
الحرب بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في المغازي وأبو داود والترمذي في
الجهاد والنسائي في السير.
158 - باب الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ
3031 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ
الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ
أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ
فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا -يَعْنِي النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- قَدْ عَنَّانَا
وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ. قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ
لَتَمَلُّنَّهُ. قَالَ: فَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ
فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا
يَصِيرُ أَمْرُهُ. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ
حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ".
(باب) حكم (الكذب في الحرب).
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله
-رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(من لكعب بن الأشرف) بالشين المعجمة اليهودي القرظي (فإنه
قد آذى الله ورسوله) أي آذى رسول الله وأذاه لرسول الله هو
أذى الله لأنه لا يرضى به (قال محمد بن مسلمة) بفتح الميم
واللام
الأنصاري (أتحب أن أقتله)؟ بهمزة الاستفهام وأن مصدرية أي
أتحب قتله (يا رسول الله. قال): (نعم) زاد في رواية الباب
اللاحق قال: فائذن لي فأقول قال قد فعلت، وبهذه الزيادة
تحصل المطابقة بين الحديث والترجمة فإنه يدخل فيه الإذن في
الكذب تصريحًا وتلويحًا.
(قال) جابر (فأتاه) أي فأتى محمد بن مسلمة كعبًا (فقال)
له: (إن هذا يعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قد عنانا) بفتح العين والنون المشدّدة أتعبنا
بما كلفنا به من الأوامر والنواهي التي فيها تعب لكنه في
مرضاة الله وهذا من التعريض الجائز (وسألنا الصدقة) بفتح
اللام والصدقة مفعول ثانٍ أي طلبها منّا ليضعها مواضعها
(قال) كعب: (وأيضًا والله) بعد ذلك (لتملنه). بفتح اللام
والفوقية والميم وضم اللام المشدّدة أي تزيد ملالتكم
وتتضجرون منه أكثر وأزيد من ذلك وسقط لأبي ذر لتملنه (قال)
محمد بن مسلمة: (فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر
إليه ما يصير أمره قال فلم يزل) محمد بن مسلمة (يكلمه حتى
استمكن منه فقتله) في السنة الثالثة من الهجرة وجاء برأسه
إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفيه
تجويز الكذب في الحرب تعريضًا وهل يجوز تصريحًا؟ نعم تضمنت
الزيادة المنبّه عليها آنفًا التصريح وأصرح منها ما في
الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعًا: لا يحل الكذب إلا
في ثلاث تحديث الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب وفي
الإصلاح بين الناس. قال النووي: الظاهر إباحة حقيقية الكذب
في الأمور الثلاثة لكن التعريض أولى. وهذا الحديث قد مرّ
في باب رهن السلاح.
159 - باب الْفَتْكِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ
(باب) جواز (الفتك) بفتح الفاء وسكون الفوقية آخره كاف
(بأهل الحرب) أي قتلهم على غفلة.
3032 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأْذَنْ لِي فَأَقُولَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الله بن
محمد) المسندي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو
ابن دينار (عن جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري -رضي الله
عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(من لكعب بن الأشرف) زاد في الرواية الأولى فإنه قد آذى
الله ورسوله (فقال محمد بن مسلمة) الأنصاري أخو بني عبد
الأشهل: (أتحب أن أقتله) زاد ابن إسحاق أنا له يا رسول
الله (قال): (نعم) (قال فائذن لي فأقول) بالنصب أي عني
وعنك ما رأيته مصلحة من التعريض وغيره مما لم يحق باطلاً
ولم يبطل حقًّا (قال) عليه الصلاة والسلام: (قد فعلت) أي
أذنت.
وهذا مختصر من الحديث السابق ووجه المطابقة بينه وبين
الترجمة من معناه لأن ابن مسلمة غرّ ابن الأشرف وقتله وهو
الفتك على ما تقرر. فإن قلت: كيف قتله بعد أن غرّه؟
فالجواب: لأنه نقض العهد وأعان على حرب النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهجاه. فإن قلت: كيف أمنه ثم
قتله؟ أجيب: بأنه لم يصرح له بالتأمين وإنما أوهمه وآنسه
حتى تمكن من قتله.
160 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاِحْتِيَالِ، وَالْحَذَرِ
مَعَ مَنْ يَخْشَى مَعَرَّتَهُ
(باب ما يجوز من الاحتيال، والحذر من يخشى) بالتحتية
والفوقية (معرته) بفتح الميم
(5/156)
والعين المهملة والراء المشدّدة والنصب على
المفعولية ولأبي ذر تخشى بضم أوّله مبنيًّا للمفعول معرته
بالرفع نائبًا عن الفاعل أي فساده وشرّه.
3033 - قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ:
«انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ قِبَلَ ابْنِ
صَيَّادٍ -فَحُدِّثَ بِهِ فِي نَخْلٍ- فَلَمَّا دَخَلَ
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- النَّخْلَ، طَفِقَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ
النَّخْلِ وَابْنُ صَيَّادٍ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا
رَمْرَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ:
يَا صَافِ هَذَا مُحَمَّدٌ، فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ».
(قال) ولأبي ذر: وقال (الليث) بن سعد الإمام مما وصله
الإسماعيلي (حدّثني) بالإفراد (عقيل) بضم العين وفتح القاف
ابن خالد (عن ابن شهاب) الزهري (عن سالم بن عبد الله عن)
أبيه (عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-) وسقط لأبي ذر لفظ
عبد الله (أنه قال: انطلق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه أُبي بن كعب قبل) بكسر القاف
وفتح الموحدة أي جهة (ابن صياد فحدّث به) بضم الحاء وكسر
الدال مبنيًّا للمفعول أي فأخبر بابن صياد والحال أنه (في
نخل) بالنون والخاء المعجمة (فلما دخل عليه رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النخل طفق) جعل عليه
الصلاة والسلام (يتقي) يخفي نفسه (بجذوع النخل) حتى لا
يراه ابن صياد. قال العيني: وهذا احتيال وحذر لأن أم ابن
صياد ممن يخشى معرته (وابن صياد في قطيفة) كساء له خمل (له
فيها) أي لابن صياد في القطيفة (رمرمة) براءين مهملتين
وميمين أي صوت (فرأت أم ابن صياد رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا صاف) بكسر الفاء
وأوّله صاد مهملة وهو اسم ابن صياد (هذا محمد فوثب ابن
صياد فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): (لو تركته) أي أمه بحيث لا يعرف بقدومه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بين) لكم باختلاف
كلامه ما يهوّن عليكم أمره ويظهر حاله.
161 - باب الرَّجَزِ فِي الْحَرْبِ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ
فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ فِيهِ سَهْلٌ وَأَنَسٌ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَفِيهِ
يَزِيدُ عَنْ سَلَمَةَ
(باب) إنشاد (الرجز في الحرب و) جاء في (رفع الصوت فىٍ حفر
الخندق) يوم الأحزاب
(فيه) أي في هذا الباب (سهل) بفتح السين وسكون الهاء ابن
سعد الساعدي مما وصله في غزوة الخندق (وأنس مما سبق
موصولاً في حفر الخندق كلاهما (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفيه اللهمّ لا عيش إلاّ عيش الآخرة
(وفيه) أيضًا (يزيد) بن أبي عبيد (عن) مولاه (سلمة) بن
الأكوع مما سيأتي في غزوة خيبر وفيه (اللهم لولا أنت ما
اهتدينا).
3034 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ
حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ -رضي الله
عنه- قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ
التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ
-وَكَانَ رَجُلاً كَثِيرَ الشَّعَرِ- وَهْوَ يَرْتَجِزُ
بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ:
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ
تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ
الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
إِنَّ الأَعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا
أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا أبو
الأحوص) سلام بن سليم الحنفي قال: (حدّثنا أبو إسحاق) عمرو
بن عبد الله السبيعي (عن البراء) بن عازب (-رضي الله عنه-)
أنه (قال: رأيت النبي) ولأبي ذر: رأيت رسول الله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الخندق وهو ينقل التراب)
الواو للحال (حتى وارى) أي ستر (التراب شعر صدره) الشريف
(وكان رجلاً كثير الشعر. وهو يرتجز برجز عبد الله بن
رواحة): الأنصاري البدري النقيب الشاعر، وسقط لأبي ذر عن
الكشميهني والحموي لفظ ابن رواحة (اللهم لولا أنت ما
اهتدينا. ولا تصدقنا ولا صلينا).
(فأنزلن سكينة علينا. وثبّت الأقدام إن لاقينا).
(إن الأعداء) بفتح اللام وسكون العين آخره همز ممدود.
(قد بغوا) أي استطالوا (علينا إذا أرادوا فتنة أبينا).
من الإباء وهو الامتناع (يرفع بها صوته). حال من قوله وهو
يرتجز.
وهذا الحديث قد سبق في باب حفر الخندق.
162 - باب مَنْ لاَ يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ
(باب) (من لا يثبت على الخيل).
3035 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ
عَنْ قَيْسٍ عَنْ
جَرِيرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْذُ أَسْلَمْتُ،
وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي". [الحديث 3035
- طرفاه في: 3822، 6090].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن
عبد الله بن نمير) بضم النون وفتح الميم مصغرًا قال:
(حدّثنا ابن إدريس) عبد الله (عن إسماعيل) بن أبي خالد
الأحمسي البجلي الكوفي (عن قيس) هو ابن أبي حازم (عن جرير)
هو ابن عبد الله الأحمسي (-رضي الله عنه-) أنه (قال): (ما
حجبني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي ما
منعني مما التمست منه أو من دخول منزله ولا يلزم منه النظر
إلى أمهات المؤمنين -رضي الله عنه- (منذ أسلمت ولا رآني
إلاّ تبسم في وجهي) ولأبي ذر عن المستملي في وجهه وهو
التفات من التكلم إلى الغيبة.
3036 - وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لاَ أَثْبُتُ
عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ:
اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا".
(ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده في صدري)
لأنه محل القلب ولأبي ذر عن المستملي في صدره وهو على طريق
الالتفات كالسابق (وقال): (اللهم ثبّته واجعله هاديًا)
لغيره حال كونه (مهديًا) بفتح الميم في نفسه قال ابن بطال
فيه تقديم وتأخير لأنه لا يكون هاديًاً لغيره إلاّ بعد أن
يهتدي هو فيكون مهديًّا اهـ.
وأجيب: بأنه حال من الضمير فلا تقديم ولا تأخير وأيضًا
فليس هنا صيغة ترتيب.
163 - باب دَوَاءِ الْجُرْحِ بِإِحْرَاقِ الْحَصِيرِ
وَغَسْلِ الْمَرْأَةِ عَنْ أَبِيهَا الدَّمَ عَنْ
وَجْهِهِ، وَحَمْلِ الْمَاءِ فِي التُّرْسِ
(باب
(5/157)
دواء الجرح) بفتح الجيم (بإحراق الحصير)
وحشوه به (وغسل المرأة عن أبيها الدم عن وجهه وحمل الماء
في الترس) لأجل ذلك.
3037 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ قَالَ: "سَأَلُوا
سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ -رضي الله عنه-: بِأَىِّ
شَىْءٍ دُووِيَ جُرْحُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ
أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَ عَلِيٌّ يَجِيءُ
بِالْمَاءِ فِي تُرْسِهِ، وَكَانَتْ -يَعْنِي فَاطِمَةَ-
تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَأُخِذَ حَصِيرٌ
فَأُحْرِقَ، ثُمَّ حُشِيَ بِهِ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا أبو حازم) سلمة بن دينار
الأعرج (قال: سألوا سهل بن سعد الساعدي) الأنصاري (-رضي
الله عنه- بأي شيء) الجار متعلق بدووي والمجرور للاستفهام
(دووي) بواو ساكنة بعد الدال المضمومة ثم واو
أخرى مكسورة على البناء للمفعول من المداواة (جرح رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الذي جرحه
بأُحُد (فقال) سهل: (ما بقي أحد من الناس أعلم به مني) قال
ذلك لأنه كان آخر من بقي من الصحابة بالمدينة (كان عليّ)
هو ابن أبي طالب (يجيء بالماء في ترسه وكانت يعني فاطمة)
-رضي الله عنهما- (تغسل الدم عن وجهه) الشريف (وأخذ حصير)
بالواو وضم الهمزة مبنيًّا لما لم يسمّ فاعله كقوله (فأحرق
ثم حشي به جرح رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) والفاعل لذلك فاطمة كما وقع التصريح به في
الطب.
وهذا الحديث سبق في باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه في
الطهارة.
164 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلاَفِ
فِي الْحَرْبِ، وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] يَعنِي
الحَربَ. قَالَ قَتَادَةُ: الرِّيحُ الْحَرْبُ.
(باب ما يكره من التنازع) وهو التخاصم والتجادل (والاختلاف
في) المقاتلة في أحوال (الحرب) بأن يذهب كل واحد منهم إلى
رأي (و) بيان (عقوبة من عصى إمامه) أي بالهزيمة. (وقال
الله تعالى): ولأبي ذر: عز وجل بعد أن أمر المؤمنين
بالثبات عند ملاقاتهم العدوّ والصبر على مبارزتهم ({ولا
تنازعوا}) باختلاف الآراء كما فعلتم بأُحُد ({فتفشلوا})
جواب النهي فتجبنوا من عدوّكم ({وتذهب ريحكم}) [الأنفال:
46] مستعارة للدولة من حيث إنها في نفوذ أمرها مشبهة
بالريح في هبوبها وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا
تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى وفي الحديث نصرت بالصبا
وأهلكت عاد بالدبور.
(قال قتادة): فيما وصله عبد الرزاق في تفسيره (الريح
الحرب). وهو تفسير مجازي وسقط لأبي ذر قوله وقال قتادة
الريح الحرب وثبت له في روايته عن الكشميهني قال يعني
الحرب.
3038 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى
الْيَمَنِ قَالَ: يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا
وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا".
وبه قال: (حدّثنا يحيى) هو ابن جعفر بن أعين البيكندي أو
ابن موسى بن عبد الله الختي بالخاء المعجمة وتشديد الفوقية
السختياني البلخي قال: (حدّثنا وكيع) هو ابن الجراح
الرؤاسي بضم الراء فهمزة فمهملة الكوفي (عن شعبة) بن
الحجاج (عن سعيد بن أبي بردة) عامر (عن أبيه) أبي بردة
عامر (عن جده) أي جدّ أبي سعيد أبي موسى عبد الله بن قيس
الأشعري -رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث معاذًا) هو ابن جبل (وأبا موسى)
الأشعري (إلى اليمن) قبل حجة الوداع (قال) لهما:
(يسرا) بفتح المثناة التحتية وتشديد السين المهملة
المكسورة أي خذا بما فيه التيسير (ولا تعسرا) من التعسير
وهو التشديد (وبشرا) بالموحدة والشين المعجمة من التبشير
وهو إدخال السرور (ولا تنفرا) من التنفير أي لا تذكرًا
شيئًا ينهزمون منه ولا تقصدا ما فيه الشدة (وتطاوعا) بفتح
الواو تحابا (ولا تختلفا) فإن الاختلاف يوجب الاختلال
ويكون سببًا للهلاك.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي والأحكام والأدب ومسلم
في الأشربة والمغازي والنسائي في الأشربة والوليمة وابن
ماجه في الأشربة.
3039 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ
الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ -رضي الله عنهما- يُحَدِّثُ
قَالَ: "جَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ -وَكَانُوا
خَمْسِينَ رَجُلاً- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ:
إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلاَ
تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ،
وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ
وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ. فَهَزَمُوهُمْ. قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ
رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْدُدْنَ، قَدْ بَدَتْ
خَلاَخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ، رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ.
فَقَالَ أَصْحَابُ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ أَىْ
قَوْمِ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا
تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ:
أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالُوا: وَاللَّهِ
لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ
فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ، فَأَقْبَلُوا
مُنْهَزِمِينَ، فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي
أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرُ اثْنَىْ عَشَرَ
رَجُلاً، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَأَصْحَابُهُ أَصَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ
أَرْبَعِينَ وَمِائَةً وَسَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ
قَتِيلاً، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ
مُحَمَّدٌ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُجِيبُوهُ.
ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ
الْخَطَّابِ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاَءِ فَقَدْ قُتِلُوا.
فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ
يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لأَحْيَاءٌ
كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوؤُكَ. قَالَ:
يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ. إِنَّكُمْ
سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا
وَلَمْ تَسُؤْنِي. ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: أُعْلُ
هُبَلْ. أُعْلُ هُبَلْ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلاَ تُجِيبُونَه؟ قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ
أَعْلَى وَأَجَلُّ قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ
عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلاَ تُجِيبُونَه؟ قَالَ: قَالُوا
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا:
اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ". [الحديث 3039 -
أطرافه في: 3986، 4043، 4067، 4561]
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين الحراني من
إفراده قال: (حدّثنا زهير) هو ابن معاوية قال: (حدّثنا أبو
إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (قال: سمعت البراء بن
عازب رضي الله عنهما) حال كونه (يحدّث قال: جعل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الرجالة) بفتح
الراء والجيم المشددة جمع راجل
على خلاف القياس وهم الذين لا خيل معهم (يوم أُحُد) نصب
على الظرفية (وكانوا خمسين رجلاً عبد الله بن جبير) بضم
الجيم وفتح الموحدة الأنصاري استشهد يوم أُحُد وعبد الله
نصب بجعل (فقال) عليه الصلاة والسلام لهم:
(إن رأيتمونا تخطفنا الطير) بفتح الفوقية وسكون الخاء
المعجمة وفتح المهملة مخففة لأبي ذر تخطفنا بفتح الخاء
وتشديد الطاء وأصله تتخطفنا بتاءين حذفت إحداهما أي إن
رأيتمونا
(5/158)
قد زلنا من مكاننا وولينا منهزمين أو إن
قتلنا وأكلت الطير لحومنا (فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل
إليكم) وعند ابن إسحاق قال انضحوا الخيل عنّا بالنبل لا
يأتونا من خلفنا (وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم)
بهمزة مفتوحة فواو ساكنة فطاء فهمزة ساكنة أي مشينا عليهم
وهم قتلى على الأرض (فلا تبرحوا) أي فلا تزالوا مكانكم
(حتى أرسل إليكم). وعند أحمد والحاكم والطبراني من حديث
ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أقامهم في موضع ثم قال احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا
تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا (فهزموهم)
وللأربعة فهزمهم أي هزم المسلمون الكفار.
(قال) أي البراء (فأنا والله رأيت النساء) المشركات
(يتشددن) بمثناة فوقية بعد الشين المعجمة وكسر الدال
الأولى يفتعلن أي يسرعن المشي أو يشتددن على الكفار يقال
شد عليه في الحرب أي حمل عليه ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي يشددن بإسقاط الفوقية وضم الدال الأولى. وقال
عياض وقع للقابسي في الجهاد يسندن بضم أوله وسكون السين
المهملة بعدها مكسورة ودال مهملة أي يمشين في سند الجبل
يردن أن يصعدنه حال كونهن (قد بدت) ظهرت (خلاخلهن) بفتح
الخاء وفي اليونينية بكسرها (وأسوقهن) بضم الواو جمع ساق
وضبطه بعضهم بالهمزة لأن الواو إذا انضمت جاز همزها نحو
أدور وأدؤر ليعينهن ذلك على الهرب حال كونهن (رافعات
ثيابهن) وسمى ابن إسحاق النساء المذكورات وهن: هند بنت
عتبة خرجت مع أبي سفيان، وأم حكيم بنت الحرث بن هشام خرجت
مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة
مع زوجها الحرث بن هشام، وبرزة بنت مسعود الثقفية مع صفوان
بن أمية وهي أم ابن صفوان، وريطة بنت شيبة السهمية مع
زوجها عمرو بن العاصي وهي والدة ابنه عبد الله، وسلافة بنت
سعد مع زوجها طلحة بن أبي طلحة الحجبي، وخناش بنت مالك أم
مصعب بن عمير، وعمرة بنت علقمة وعند غيره كان النساء
اللواتي خرجن مع المشركين يوم أُحُد خمس عشرة امرأة وإنما
خرجت قريش بنسائها لأجل الثبات.
(فقال أصحاب عبد الله بن جبير) وهم الرجالة (الغنيمة أي
قوم) أي يا قوم (الغنيمة) نصب على الإغراء فيهما وفي
اليونينية الغنيمة مرة واحدة (ظهر) أي غلب (أصحابكم)
المؤمنون الكفار (فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير:
أنسيتم ما قال لكم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-)؟ والهمزة في أنسيتم للاستفهام الإنكاري
(قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة. فلما
أتوهم صرفت وجوههم) أي قلبت وحوّلت إلى الموضع الذي جاؤوا
منه (فأقبلوا) حال كونهم (منهزمين) عقوبة لعصيانهم قوله
عليه الصلاة والسلام لا تبرحوا (فذاك إذ) حين (يدعوهم
الرسول في أخراهم) في جماعتهم المتأخرة إليّ عباد الله أنا
رسول الله من يكرّ فله الجنة (فلم يبق مع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غير اثني عشر رجلاً) منهم أبو
بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة
بن عبيد الله والزبير بن العوّام وأبو عبيدة بن الجراح
وحباب بن المنذر وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير (فأصابوا
منّا) أي من طائفة من المسلمين ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي منها (سبعين) منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن
عمير (وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وأصحابه أصاب) ولأبي ذر عن الكشميهني أصابوا (من المشركين
يوم بدر أربعين ومئة وسبعين أسيرًا وسبعين قتيلاً) سقط
قوله قتيلاً من بعض النسخ (فقال أبو سفيان): صخر بن حرب
(أفي القوم محمد ثلاث مرات؟ فنهاهم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يجيبوه ثم قال: أفي القوم ابن أبي
قحافة) أبو بكر الصديق (ثلاث مرات؟ ثم قال: أفي القوم ابن
الخطاب) عمر (ثلاث مرات)؟ والهمزة في الثلاثة للاستفهام
الاستخباري ونهيه عليه الصلاة والسلام عن إجابة أبي سفيان
تصاونًا عن الخوض فيما لا فائدة فيه وعن خصام مثله وكان
ابن قميئة قال لهم قتلته (ثم رجع) أبو
(5/159)
سفيان (إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء) بتشديد
الميم (فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا
عدوّ الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم) وإنما أجابه بعد
النهي حماية للظن برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه قتل وأن بأصحابه الوهن فليس فيه عصيان له
في الحقيقة (وقد بقي لك ما يسوءك) يعني يوم الفتح (قال):
أي أبو سفيان (يوم بيوم بدر) أي هذا اليوم في مقابلة يوم
بدر (والحرب سجال) أي دول مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء (إنكم
ستجدون في القوم مثلة) بضم الميم وسكون المثلثهً أي أنهم
جدعوا أنوفهم وبقروا بطونهم وكان حمزة -رضي الله عنه- ممن
مثل به (لم آمر بها) يعني أنه لا يأمر بفعل قبيح لا يجلب
لفاعله نفعًا (ولم تسؤني) أي لم أكرهها وإن كان وقوعها
بغير أمري وعند ابن إسحاق والله ما سخطت وما نهيت وما أمرت
وإنما لم تسؤه لأنهم كانوا أعداء له وقد كانوا قتلوا ابنه
يوم بدر (ثم أخذ يرتجز) بقوله: (أعل هبل أعل هبل) بضم
الهمزة وسكون العين المهملة وهبل بضم الهاء وفتح الموحدة
اسم صنم كان في الكعبة أي علا حزبك يا هبل فحذف حرف النداء
(قال) ولأبي الوقت فقال (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(ألا تجيبوا له) أي لأبي سفيان وتجيبوا بحذف النون بدون
ناصب لغة فصيحة ولأبي ذر والأصيلي ألا تجيبونه بالنون بدل
اللام ولأبي ذر ألا تجيبوه بحذف النون (قالوا يا رسول الله
ما نقول؟ قال): (قولوا الله أعلى وأجلّ) بقطع همز الله في
اليونينية (قال) أبو سفيان: (أن لنا العزى) صنم كان لهم
(ولا عزى لكم. فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): (ألا تجيبوا له) باللام ولأبي ذر والأصيلي
ألا تجيبونه ولأبي ذر أيضًا ألا تجيبوه بحذف النون (قال:
قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا
مولى لكلم) أي الله ناصرنا.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي والتفسير وأبو داود في
الجهاد والنسائي في السير والتفسير.
165 - باب إِذَا فَزِعُوا بِاللَّيْلِ
(باب) بالتنوين (إذا فزعوا بالليل) ينبغي لإمام العسكر أن
يكشف الخبر بنفسه أو بمن يندبه لذلك.
3040 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ،
وَأَشْجَعَ النَّاسِ. قَالَ وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ لَيْلاً سَمِعُوا صَوْتًا. قَالَ:
فَتَلَقَّاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَهُوَ
مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ فَقَالَ: لَمْ تُرَاعُوا لَمْ
تُرَاعُوا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَجَدْتُهُ بَحْرًا. يَعْنِي
الْفَرَسَ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي قال: (حدّثنا
حماد) هو ابن زيد (عن ثابت) البناني (عن أنس -رضي الله
عنه-) أنه (قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس قال): أي
أنس (وقد فزع) بكسر الزاي أي خاف (أهل المدينة ليلة) ولأبي
ذر عن الكشميهني ليلاً (سمعوا صوتًا قال) أنس: (فتلقاهم
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) راجعًا
واستبرأ الخبر (على فرس) اسمه المندوب (لأبي طلحة عري) بضم
العين وسكون الراء بغير سرج (وهو متقلد سيفه فقال):
(لم تراعوا لم تراعوا) مرتين أي لا تخافوا خوفًا مستقرًّا
أو خوفًا يضركم (ثم قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (وجدته بحرًا). بصيغة التوحيد (يعني
الفرس) وشبهه به لسعة جريه.
وسبق هذا الحديث مرارًا.
166 - باب مَنْ رَأَى الْعَدُوَّ فَنَادَى بِأَعْلَى
صَوْتِهِ يَا صَبَاحَاهْ. حَتَّى يُسْمِعَ النَّاسَ
(باب من رأى العدوّ) وقد أقبل (فنادى بأعلى صوته يا
صباحاه) أي أغيثوني وقت الصباح أي وقت الغارة (حتى يسمع
الناس) بضم المثناة التحتية من الإسماع والناس نصب على
المفعولية.
3041 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ
أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: "خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ
ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ. حَتَّى إِذَا كُنْتُ
بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلاَمٌ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قُلْتُ: وَيْحَكَ، مَا بِكَ؟
قَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ:
غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ. فَصَرَخْتُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ
أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهْ، يَا
صَبَاحَاهْ. ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ وَقَدْ
أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَقُولُ: أَنَا
ابْنُ الأَكْوَعِ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ.
فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا،
فَأَقْبَلْتُ: فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ
الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ
أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ، فَابْعَثْ فِي إِثْرِهِمْ.
فَقَالَ: يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ، إِنَّ
الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ". [الحديث 3041 -
طرفه في: 4194].
وبه قال: (حدّثنا المكي بن إبراهيم) بن بشير بن فرقد
البرجمي البلخي قال: (أخبرنا يزيد بن أبي عبيد) مصغرًا من
غير إضافة (عن) مولاه (سلمة) بن الأكوع سنان بن عبد الله
أنه (أخبره قال: خرجت من المدينة) حال كوني (ذاهبًا نحو
الغابة) بالغين المعجمة وبعد الألف موحدة وهي على بريد من
المدينة في طريق الشام (حتى إذا كنت بثنية الغابة) هي
كالعقبة في الجبل (لقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف) لم يسم
الغلام ويحتمل أنه رباح الذي كان يخدم النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قلت) له (ويحك ما بك قال:
أخذت) بضم الهمزة آخره مثناة فوقية ساكنة مبنيًّا للمفعول
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أخذ بإسقاط الفوقية (لقاح
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بكسر اللام
بعدها قاف وبعد الألف حاء مهملة مرفوع نائبًا عن الفاعل
وأحدها لقوح وهي الحلوب وكانت عشرين لقحة ترعى بالغابة
وكان فيهم عيينة بن حصن الفزاري (قلت: من أخذها؟ قال:
(5/160)
غطفان وفزارة) بفتح الفاء والزاي قبيلتان
من العرب فيها أبو ذر (فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين
لابتيها) أي لابتي المدينة واللابة الحرة (يا صباحاه يا
صباحاه) مرتين بفتح الصاد والموحدة وبعد الألف حاء مهملة
فألف فهاء مضمومة، وفي الفرع سكونها وكذا في أصله منادى
مستغاث والألف للاستغاثة والهاء للسكت، وكأنه نادى الناس
استغاثة بهم في وقت الصباح. وقال ابن المنير: الهاء للندبة
وربما سقطت في الوصل، وقد ثبتت في الرواية فيوقف عليها
بالسكون. وقال القرطبي: معناه الإعلام بهذا الأمر المهم
الذي دهمهم في الصباح وهي كلمة يقولها المستغيث. (ثم
اندفعت) بسكون العين أسرعت في السير وكان ماشيًا على رجليه
(حتى ألقاهم وقد أخذوها فجعلت أرميهم) بالنبل (وأقول: أنا
ابن الأكوع واليوم يوم الرضع) بضم الراء وتشديد الضاد
المعجمة بعدها عين مهملة والرفع فيهما، ولأبي ذر نصب
المعرف أي يوم هلاك اللئام من قولهم لئيم راضع وهو الذي
رضع اللؤم من ثدي أمه، وكل من نسب إلى لؤم فإنه يوصف بالمص
والرضاع. وفي المثل: ألأم من راضع، وأصله أن رجلاً من
العمالقة طرقه ضيف ليلاً فمص ضرع شاته لئلا يسمع الضيف صوت
الحلب فكثر حتى صار كل لئيم راضعًا سواء فعل ذلك أو لم
يفعله. وقيل: المعنى اليوم يعرف من رضع كريمة فأنجبته أو
لئيمة فهجنته أو اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب
بها من غيره. (فاستنقذتها) بالقاف والذال المعجمة (منهم)
أي استخلصت اللقاح من غطفان وفزارة (قبل أن يشربوا) أي
الماء (فأقبلت بها) حال كوني (أسوقها فلقيني النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وكان قد خرج عليه الصلاة
والسلام إليهم غداة الأربعاء في الحديد متقنعًا في
خمسمائة. وقيل: سبعمائة بعد أن جاء الصريخ ونودي: يا خيل
الله اركبي وعقد للمقداد بن عمرو لواء وقال له: امضِ حتى
تلحقك الخيول وأنا على أثرك.
(فقلت: يا رسول الله إن القوم) يعني غطفان وفزارة (عطاش)
بكسر العين المهملة (وإني أعجلتهم أن يشربوا) مفعول له أي
كراهة شربهم (سقيهم) بكسر السين وسكون القاف أي حظهم
من الشرب (فابعث في إثرهم) بكسر الهمزة وسكون المثلثة.
وعند ابن سعد قال سلمة: فلو بعثتني في مائة رجل واستنقذت
ما بأيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم. (فقال) عليه
الصلاة والسلام:
(يا ابن الأكوع ملكت) أي قدرت عليهم فاستعبدتهم وهم في
الأصل أحرار (فأسجح)، بهمزة قطع وسين مهملة ساكنة وبعد
الجيم المكسورة حاء مهملة أي فارفق وأحسن بالعفو ولا تأخذ
بالشدة (إن القوم) غطفان وفزارة (يقرون) بضم المثناة
التحتية وسكون القاف والواو بينهما راء مفتوحة آخره نون أي
يضافون (في قومهم) يعني أنهم وصلوا إلى غطفان وهم يضيفونهم
ويساعدونهم فلا فائدة في البعث في الأثر لأنهم لحقوا
بأصحابهم وزاد ابن سعد فجاء رجل من غطفان فقال: مرّوا على
فلان الغطفاني فنحر لهم جزورًا فلما أخذوا يكشطون جلدها
رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابًا؛ الحديث. وفيه معجزة حيث
أخبر عليه الصلاة والسلام بذلك وكان كما قاله. وفي بعض
الأصول من البخاري يقرون بضم الراء مع فتح أوله أي: ارفق
بهم فإنهم يضيفون الأضياف فراعى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ذلك لهم رجاء توبتهم وإنابتهم، ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي: يقرون بفتح أوله وكسر القاف وتشديد
الراء، ولأبي ذر: من قومهم.
وهذا الحديث الثاني عشر من ثلاثيات البخاري، وأخرجه أيضًا
في المغازي وكذا مسلم، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة.
167 - باب مَنْ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ فُلاَنٍ
وَقَالَ سَلَمَةُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ.
(باب من قال: خُذها) أي الرمية (وأنا ابن فلان وقال سلمة)
في حديثه السابق: (خذها وأنا ابن الأكوع). المشهور في
الرمي بالإصابة عن القوس وهذا على سبيل الفخر وهو منهي عنه
إلا في هذه الحالة لاقتضاء الحال هنا فعله لتخويف الخصم.
3042 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: "سَأَلَ رَجُلٌ الْبَرَاءَ
-رضي الله عنه- فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَارَةَ،
أَوَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ الْبَرَاءُ وَأَنَا
أَسْمَعُ: أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ، كَانَ أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ،
فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ فَجَعَلَ
يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبْ. قَالَ: فَمَا رُئِيَ مِنَ النَّاسِ
يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ".
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله) بتصغير العبد ابن موسى بن
باذام العبسي الكوفي (عن إسرائيل) بن يونس (عن) جده (أبي
إسحاق) عمرو
(5/161)
بن عبد الله السبيعي أنه (قال: سأل رجل) من
قيس (البراء) بن عازب (-رضي الله عنه- فقال: يا أبا عمارة)
بضم العين وهي كنية البراء (أوليتم) أي أدبرتم منهزمين
(يوم) غزوة (حنين) والهمزة للاستفهام الاستخباري (قال
البراء: وأنا أسمع) هو من
قول أبي إسحاق والواو للحال (أما رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يول يومئذٍ) لفرط شجاعته
وثقته بوعد الله ورغبته في الشهادة ولقاء ربه، ولا يجوز
على نبي الانهزام ومن نسب أحدًا منهم لذلك قتل، وحذف الفاء
من جواب أما في قوله: لم يول قال ابن مالك هو جائز نظمًا
ونثرًا يعني فلا يختص بالضرورة. (وكان أبو سفيان بن الحرث)
بن عبد المطلب (آخذًا بعنان بغلته) البيضاء يكفها عن
الإسراع به إلى العدوّ (فلما غشيه المشركون) أي أحاطوا به
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (نزل) عن بغلته (فجعل
يقول):
(أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) بسكون الموحدة
فيهما وفيه التنويه بشجاعته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وثباته في الحرب وانتسب لجدّه لشهرته في العرب
أو لغير ذلك مما سبق. (قال) أي البراء (فما رئي) بضم الراء
وكسر الهمزة وفتح الياء (من الناس يومئذٍ أشد منه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وقد سبق هذا الحديث في الجهاد في باب من قاد دابة غيره في
الحرب.
168 - باب إِذَا نَزَلَ الْعَدُوُّ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ
هذا (باب) بالتنوين (إذا نزل العدوّ) من المشركين (على حكم
رجل) من المسلمين ينفذ إذا أجازه الإمام.
3043 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ هُوَ ابْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمَّا
نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ هُوَ ابْنُ
مُعَاذٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ- فَجَاءَ عَلَى
حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ،
فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ
نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ
تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ.
قَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ".
[الحديث 3043 - أطرافه في: 3804، 4121، 6262].
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن سعد بن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف
القرشي المدني (عن أبي أمامة) بضم الهمزة وفتح الميمين
بينهما ألف سعد (هو ابن سهل بن حنيف) بضم الحاء المهملة
وفتح النون مصغرًا الأنصاري (عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن
سنان (الخدري) الأنصاري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: لما
نزلت بنو قريظة) القبيلة المشهورة من اليهود من قلعتهم
(على حكم سعد) هو ابن معاذ، وكان عليه الصلاة والسلام فيما
ذكره ابن إسحاق قد حاصرهم خمسًا وعشرين ليلة وقذف الله في
قلوبهم الرعب فأذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فحكم فيهم سعد بن معاذ وكان
قد رمي في غزوة الخندق بسهم قطع منه الأكحل فلما نزلت على
حكمه (بعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أي في طلبه (وكان) سعد (قريبًا منه) لأنه عليه الصلاة
والسلام قد جعله في خيمة رفيدة الأسلمية ليعوده من قريب في
مرضه الذي أصابه
من تلك الرمية (فجاء) ومعه قومه من الأنصار (على حمار) وقد
وطؤوا له بوسادة من أدم وأحاطوا به في طريقهم يقولون له
أحسن في مواليك فقال لهم: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله
لومة لائم وكان رجلاً جسيمًا (فلما دنا) أي قرب من رسول
الله (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(قوموا إلى سيدكم) فقاموا إليه وأنزلوه (فجاء) سعد (فجلس
إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال
له) عليه الصلاة والسلام: (إن هؤلاء) اليهود من بني قريظة
(نزلوا على حكمك) فيهم (قال) سعد (فإني أحكم) فيهم (أن
تقتل) الطائفة (المقاتلة) منهم وهم الرجال (وأن تسبى
الذرية) أي النساء والصبيان (قال) عليه السلام: (لقد حكمت
فيهم بحكم الملك) بكسر اللام أي بحكم الله. ونقل القاضي
عياض أن بعضهم ضبطه في البخاري بكسر اللام وفتحها فإن صح
الفتح فالمراد به جبريل يعني بالحكم الذي جاء به الملك عن
الله، وعورض بأنه لم ينقل نزول ملك في ذلك بشيء ولو نزل
بشيء اتبع وترك الاجتهاد، وبأنه ورد في بعض ألفاظ الصحيح
قضيت بحكم الله. نعم ورد في غير البخاري مما ذكره بعضهم
أنه قال في حكم سعد بذلك طرقني الملك سحرًا. قال ابن
المنير: ويستفاد من هذا الحديث لزوم حكم المحكم برضا
الخصمين سواء كان في أمور الحرب أو غيرها وهو رد على
الخوارج الذين أنكروا التحكيم على عليّ -رضي الله عنه-،
وفيه أيضًا تصحيح القول بأن المصيب واحد أن المجتهد ربما
أخطأ ولا حرج عليه ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "لقد
حكمت بحكم الملك" فدل ذلك على أن حكم الله في الواقعة
(5/162)
متقرر فمن أصابه فقد أصاب الحق ولولا ذلك
لم يكن لسعد مزية في الصواب لا يقال كانت المسألة قطعية
والمسائل القطعية لله فيها حكم واحد لأنّا نقول: بل كانت
اجتهادية ظنية، ولهذا كان رأي الأنصار أن يعفى عن اليهود
خلافًا لسعد وما كان الأنصار ليتفق أكثرهم على خلاف الصواب
قطعًا، وفيه جواز الاجتهاد في زمنه عليه الصلاة والسلام
وبحضرته فكيف بعد وفاته؟ وفيه أنه يسوغ للإمام الأعظم إذا
كانت له حكومة في نفسه أن يولي نائبًا يحكم بينه وبين خصمه
للضرورة وينفذ ذلك على خصمه إذا كان عدلاً ولا يقدح فيه
أنه حكم له وهو نائبه نقله في المصابيح.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في فضائل سعد والاستئذان والمغازي
ومسلم في المغازي، وأبو داود في الأدب، والنسائي في
المناقب والسِّيَر والفضائل.
169 - باب قَتْلِ الأَسِيرِ، وَقَتْلِ الصَّبْرِ
(باب) حكم (قتل الأسير، وقتل الصبر) بأن يمسك ذو روح ثم
يرمى بشيء حتى يموت. وفي الحديث: النهي عن قتل شيء من
الدواب صبرًا، وللكشميهني: قتل الأسير صبرًا بزيادة صبرًا
بعد الأسير وحذف قوله وقتل الصبر وهي أخصر والصبر لغة
الحبس إذا شدت يدا رجل ورجلاه وأمسكه آخر وضرب عنقه يقال
قتل صبرًا.
3044 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله
عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ
الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ:
إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ،
فَقَالَ: اقْتُلُوهُ".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري
(عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل) مكة (عام الفتح وعلى
رأسه المغفر) بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وبعد الفاء
المفتوحة راء زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت
القلنسوة (فلما نزعه جاء رجل) هو أبو برزة الأسلمي (فقال):
يا رسول الله (إن ابن خطل) بفتح الخاء المعجمة والطاء
والمهملة آخره لام اسمه عبد الله أو عبد العزى (متعلق
بأستار الكعبة فقال) عليه الصلاة والسلام:
(اقتلوه) لأنه ارتد عن الإسلام وقتل مسلمًا كان يخدمه وكان
يهجو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وله
قينتان تغنيان بهجاء المسلمين فابتدره سعيد بن حريث أو أبو
برزة أو الزبير بن العوّام أو سعد بن ذؤيب أو تعاونوا كلهم
على قتله، وهذا مخصص لقوله عليه الصلاة والسلام "من دخل
المسجد فهو آمن" وفيه جواز إقامة الحد والقصاص بمكة خلافًا
لأبي حنيفة، وتأول الحديث بأنه قتل ابن خطل في الساعة التي
أبيحت له. وأجاب أصحابنا: بأنها إنما أبيحت ساعة الدخول
حتى استولى عليها، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك لأنه وقع بعد
نزع المغفر.
وهذا الحديث قد مرّ في باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام في
أواخر كتاب الحج.
170 - باب هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ؟ وَمَنْ لَمْ
يَسْتَأْسِرْ، وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ
الْقَتْلِ
هذا (باب) بالتنوين (هل يستأسر الرجل)؟ أي هل يسلم نفسه
للأسر أم لا؟ (و) بيان حكم (من لم يستأسر) لم لم يسلم نفسه
للأسر (ومن ركع) ولأبي ذر: من صلّى (ركعتين عند القتل).
3045 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ
-وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي هُرَيْرَةَ- أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ
عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ -جَدَّ
عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ- فَانْطَلَقُوا،
حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ -وَهْوَ بَيْنَ
عُسْفَانَ وَمَكَّةَ- ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ
يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ
قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ،
فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ
تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا
تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا
آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ
لَجَؤوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ،
فَقَالُوا لَهُمُ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ،
وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ وَلاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ
أَحَدًا. فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ
السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ
الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ
عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا
عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ. فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ
رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ
الأَنْصَارِيُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا
اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ
فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا
أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُهُمْ، إِنَّ لِي
في هَؤُلاَءِ لأُسْوَةً -يُرِيدُ الْقَتْلَى- وجَرَّرُوهُ
وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى
فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ
حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ،
فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ
قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ
خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ
أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ
مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ
ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ:
فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى
بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي
وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ
لأَفْعَلَ ذَلِكَ. وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ
خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ
يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ وَإِنَّهُ
لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ.
وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ
خُبَيْبًا. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ
لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ:
ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلاَ
أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا،
اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى
أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ، وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ
عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ
الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا.
فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ
أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا،
وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ
حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَىْءٍ
مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ
عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ
مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ
رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ
لَحْمِهِ شَيْئًا". [الحديث 3045 - أطرافه في: 3989، 4086،
7402].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
(قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو بن أبي سفيان) بفتح العين
وسكون الميم (ابن أسيد بن جارية) بفتح الهمزة وكسر السين
المهملة وجارية بالجيم (الثقفي وهو حليف لبني زهرة) بضم
الزاي وسكون الهاء (وكان من أصحاب أبي هريرة أن أبا هريرة
رضي الله عنه قال: بعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) لما قدم عليه بعد أُحُد رهط من عضل والقارة
فقالوا: يا رسول الله إن
فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا (عشرة
رهط) ما دون العشرة من الرجال ولا يكون فيهم امرأة (سرية)
نصب على البيان (عينًا) أي جاسوسًا وانتصابه بدل من سرية.
وعند ابن إسحاق أنهم كانوا ستة نفر من أصحابه وهم: مرثد بن
أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البكير
الليثي حليف بني عديّ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وخبيب
بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق. وما في الصحيح
أصح وقد عدّ فيهم مغيث بن عبيد البلوي حليف الأنصار (وأمّر
عليهم عاصم بن ثابت) أي ابن أبي الأقلح (الأنصاري جدّ عاصم
بن عمر بن الخطاب) لأمه لأن أم عاصم بن عمر هي بنت عاصم بن
ثابت واسمها جميلة بفتح الجيم. وقال مصعب الزهري: إنما
(5/163)
هو خال عاصم لا جدّه لأن عاصم بن عمر بن
الخطاب أمه جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح أُخت عاصم بن
ثابت وكان اسمها عاصية. قال الكرماني: وعليه الأكثر وسقط
قوله ابن الخطاب لغير أبي ذر، وعند ابن إسحاق وأمّر عليهم
مرثد بن أبي مرثد وما في الصحيح أصح.
(فانطلقوا) أي الرهط العشرة (حتى إذا كانوا بالهدأة) بفتح
الهاء وسكون الدال المهملة وفتح الهمزة، ولغير الكشميهني:
بالهدأة بفتح الدال وقد تحذف الهمزة (وهو) موضع (بين
عسفان) بضم العين وسكون السين (ومكة ذكروا) بضم المعجمة
وكسر الكاف مبنيًّا للمفعول (لحي من هذيل) بضم الهاء وفتح
الذال المعجمة (يقال لهم بنو لحيان) بكسر اللام، وحكى
فتحها وسكون الحاء المهملة وهو ابن هذيل بن مدركة بن إلياس
بن مضر وعند الدمياطي أنهم بقايا جرهم (لا فنفروا لهم)
بتشديد الفاء وفي اليونينية بتخفيفها أي استنجدوا لأجلهم
(قريبًا) بالنصب على المفعولية، وفي نسخة: فنفروا بتخفيف
الفاء قريبًا بالنصب بنزع الخافض، وفي أخرى: فنفروا
بالتخفيف أيضًا قريب بالرفع أي خرج إليهم قريب ولأبي
الوقت: فنفذوا بذال معجمة بدل الراء (من مائتي رجل كلهم
رامٍ) بالنبل (فاقتصوا) أي اتبعوا (آثارهم حتى وجدوا
مأكلهم تمرًا) اسم مكان نصب بتقدير الجار على حدّ رميت
مرمى زيد وتمرًا نصب مفعول وجدوا (تزودوه من المدينة) صفة
لتمرًا (فقالوا: هذا تمر يثرب فاقتصوا آثارهم فلما رآهم
عاصم) أمير السرية (وأصحابه لجؤوا) بالجيم أي استندوا (إلى
فدفد) بفاءين مفتوحتين بينهما دال مهملة ساكنة وآخره دال
مهملة أيضًا رابية مشرفة (وأحاط بهم القوم فقالوا لهم:
انزلوا وأعطونا) بهمزة قطع (بأيديكم ولكم العهد والميثاق
ولا نقتل منكم أحدًا. قال) ولأبي ذر فقال (عاصم بن ثابت
أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر)
أي في عهده (اللهم أخبر عنّا نبيك) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فرموهم) أي رمى الكفار المسلمين
(بالنبل) بفتح النون وسكون الموحدة بالسهام العربية
(فقتلوا عاصمًا) أمير السرية (في) جملة (سبعة) من العشرة،
وعند ابن إسحاق أنهم كانوا ستة نفر كما مر وأنهم قتلوا
منهم ثلاثة وأسروا ثلاثة (فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد
والميثاق منهم: خبيب) بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة
الأولى بينهما تحتية ساكنة ابن عدي (الأنصاري) الأوسي،
(وابن دثنة) بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة وفتحها وفتح
النون زيد بن معاوية بن عبيد الأنصاري البياضي،
(ورجل آخر) هو عبد الله بن طارق البلوي حليف بني ظفر من
الأنصار كما عند ابن هشام في السيرة (فلما استمكنوا منهم
أطلقوا أوتار قسيّهم فأوثقوهم) بها (فقال الرجل الثالث):
وهو عبد الله بن طارق (هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن
في هؤلاء) ولأبي ذر: إن لي في هؤلاء (الأسوة) بالنصب اسم
إن أي اقتداء (يريد القتلى) عاصمًا والستة (فجرّروه) بفتح
الراء الأولى المشددة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وجرروه
بالواو بدل الفاء (وعالجوه على أن يصحبهم) إلى مكة (فأبى)
أي فامتنع من الرواح معهم (فقتلوه) بمرّ الظهران فقبره
هناك، (فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد
وقعة بدر) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: وقيعة بدر بكسر
القاف ومثناة تحتية ساكنة. قال الكرماني وقوله بعد وقعة
بدر متعلق بقوله بعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذ الكل كان بعده إلا البيع فقط أي المذكور في
قوله (فابتاع) أي فاشترى (خبيبًا بنو الحرث بن عامر بن
نوفل بن عبد مناف) وهم عقبة وأبو سروعة وأخوهما لأمهما حجر
بن أبي إهاب، واشترى ابن دثنة صفوان بن أمية بضم الهمزة
منهم وقتله بمكة بأبيه كما عند ابن إسحاق (وكان خبيب هو
قتل الحرث بن عامر يوم بدر) فأخّروه عندهم حتى تنقضي
الأشهر الحُرم (فلبث خبيب عندهم أسيرًا).
قال ابن شهاب الزهري: (فأخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بضم
العين مصغرًا (ابن عياض) بكسر العين المهملة وتخفيف
التحتية وبعد الألف ضاد معجمة القباري
(5/164)
من القارة (أن بنت الحرث) اسمها زينب كما
عند خلف في الأطراف (أخبرته أنهم حين اجتمعوا) أي لقتله
(استعار منها موسى) بعدم الصرف لأنه على وزن فعلى وبه على
أنه على وزن مفعل على خلاف بين الصرفيين والذي في
اليونينية الصرف (يستحدّ بها) أي يحلق بها شعر عانته لئلا
يظهر عند قتله (فأعارته) قالت: (فأخذ) خبيب (ابنًا لي و)
الحال (أنا غافلة حين أتاه) ولأبي ذر: حتى (وكان اسم
ابنها) هذا أبا الحسين بن الحرث بن عدي بن نوفل بن عبد
مناف وهو جد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي
المحدث من أقران الزهري. (قالت: فوجدته مجلسه) بضم الميم
وسكون الجيم وكسر اللام أي الصبيّ (على فخذه) بالخاء
والذال المعجمة (و) الحال أن (الموسى بيده) بيد خبيب
(ففزعت) بكسر الزاي وسكون العين (فزعة) بفتح الفاء وسكون
الزاي (عرفها خبيب في وجهي فقال: تخشين أن أقتله) بحذف
همزة الاستفهام (ما كنت لأفعل ذلك) وعند ابن سعد: ما كنت
لأغدر (والله) أي: قالت بنت الحرث والله (ما رأيت أسيرًا
قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من قطف عنب)
بكسر القاف وسكون الطاء أي عنقود عنب (في يده و) الحال
(إنه لموثق) بفتح المثلثة أي لمقيد (في الحديد و) الحال أن
(ما بمكة من ثمر) بفتح المثلثة والميم (وكانت تقول: إنه
لرزق من الله رزقه خبيبًا) وهذه كرامة جعلها الله تعالى
لخبيب آية على الكفار وبرهانًا لنبيه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتصحيحًا لرسالته عند الكافرة وأهل
بلدها الكفار والكرامة ثابتة للأولياء عند أهل السُّنَّة
والفرق بينها وبين المعجزة التحدي كما هو مقرر في موضعه.
(فلما خرجوا) بخبيب (من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم
خبيب: ذروني) أي اتركوني (اركع ركعتين فتركوه فركع ركعتين)
وعند ابن سعد أنه ركعهما في موضع
مسجد التنعيم (ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع) أي من
القتل (لطولتها) يعني الصلاة. وفي نسخة: لطولتهما أي
الركعتين وهو جواب لولا. والظاهر أنه سقط من النسخة التي
شرح عليها الكرماني فقدره بنحو: لزدت على ركعتين أو
لأطلتهما بعد أن صرح بحذفه (اللهم أحصهم عددًا) أي عمهم
بالهلاك، وزاد موسى بن عقبة: ولا تبق منهم أحدًا واقتلهم
بددًا بفتح الموحدة يعني متفرقين فلم يحل الحول ومنهم أحد
حيّ وقال خبيب بعد فراغه من الدعاء عليهم: (ما أبالي)،
ولأبي ذر عن الكشميهني: وما أن أبالي، وله أيضًا عن الحموي
والمستملي: ولست أبالي (حين أقتل مسلمًا -على أيّ شق) بكسر
الشين المعجمة وفي المغازي على أي جنب (كان لله مصرعي).
أي مطرحي على الأرض.
(وذلك) أي قتلي (في ذات الإله) أي في وجه الله وطلب ثوابه
(وإن يشأ- يبارك على أوصال شلو) بكسر الشين المعجمة وسكون
اللام أي أوصال جسد (ممزع) بضم الميم الأولى وفتح الثانية
والزاي المشددة وبعدها عين مهملة أي مقطع مفرق وهذان
البيتان من قصيدة أولها:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل
مجمع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع
ساقها ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتًا تأتي إن شاء الله تعالى
في السير بعون الله.
وقال ابن هشام: أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لخبيب (فقتله
ابن الحرث) عقبة بالتنعيم وصلبه ثم، وقيل بل قتله أبو
سروعة بكسر السين المهملة وفتحها عقبة بن الحرث بن عامر بن
نوفل كما رواه أبو داود الطيالسي وغيره (فكان خبيب هو سن
الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرًا) أي مصبورًا محبوسًا
للقتل، وإنما صار فعل خبيب سنّة لأنه فعل في حياة الشارع
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستحسنه، وقد صلّى
هاتين الركعتين زيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام في
حياته عليه الصلاة والسلام لما أراد رجل قتله كما رويناه
من طريق السهيلي بسنده إلى الليث بن سعد بلاغًا
(5/165)
عنه (فاستجاب لعاصم بن ثابت) أمير السرية
دعاءه (يوم أصيب) حيث قال: اللهم أخبر عنا نبيك (فأخبر
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه خبرهم
وما أصيبوا) أي مع ما جرى عليهم (وبعث ناس من كفار قريش
إلى عاصم) أمير السرية (حين حدثوا) بضم الحاء المهملة وكسر
الدال أي حين أخبروا (أنه قتل ليؤتوا) بفتح التاء (بشيء
منه) نحو رأسه (يعرف) به (وكان) أي عاصم (قد قتل رجلاً من
عظمائهم يوم) وقعة (بدر) وهو عقبة بن أبي معيط (فبعث على
عاصم مثل) بضم الموحدة وكسر العين المهملة مبنيًّا للمفعول
ومثل بالرفع نائبًا عن الفاعل، ولأبي ذر عن المستملي: فبعث
الله على عاصم مثل نصب على المفعولية (الظلة) بضم المعجمة
وتشديد اللام أي السحابة المظلة (من الدبر) بفتح الدال
المهملة وإسكان الموحدة ذكور النحل أو الزنابير (فحمته) أي
حفظته (من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطع) ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي: أن يقطعوا (من لحمه شيئًا) ولأبي ذر عن
الكشميهني: فلم يقدر بضم أوله وفتح
ثالثه، ولأبي ذر عن المستملي والكشميهني: أن يقطع بضم
أوّله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول من لحمه شيء بالرفع
نائبًا عن الفاعل لأنه كان حلف لا يمس مشركًا ولا يمسه
مشرك فبرّ قسمه، وإنما لم يحمه الله تعالى من القتل وحماه
من قطع شيء من بدنه لأن القتل موجب للشهادة بخلاف القطع
فلا ثواب فيه مع ما فيه من هتك حرمته وذكر أنه لما أنزل
بخبيب إذا هو رطب لم يتغير بعد أربعين يومًا ودمه على جرحه
وهو يبض دمًا كالمسك.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التوحيد وفي المغازي وأبو داود
في الجهاد والنسائي في السير وفيه الشعر دون الدعاء.
171 - باب فَكَاكِ الأَسِيرِ. فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب) وجوب (فكاك الأسير) من أيدي العدوّ بمال أو بغير مال
(فيه) أي في الباب (عن أبي موسى) الأشعري -رضي الله عنه-
مما وصله في الأطعمة والنكاح (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط هذا التعليق في رواية أبي ذر.
3046 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي
مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فُكُّوا الْعَانِيَ
-يَعْنِي الأَسِيرَ- وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا
الْمَرِيضَ». [الحديث 3046 - أطرافه في: 5174، 5373، 5649،
7173].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البغلاني وسقط لأبي ذر
ابن سعيد قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن منصور)
هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق ابن سلمة (عن أبي موسى)
الأشعري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(فكوا العاني) بالعين المهملة وبعد الألف نون على وزن
القاضي قال جرير أو قتيبة (يعني الأسير) أي من المسلمين من
بيت المال وسقط لفظ يعني لأبي ذر وفي رواية له فكوا
المعاني أي الأسير بدل يعني (وأطعموا الجائع) آدميًّا
وغيره (وعودوا المريض) وهذه الأخيرة سنة مؤكدة والأوليان
فرض كفاية كما نبّه عليه كافّة العلماء.
3047 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُمْ
عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "قُلْتُ
لِعَلِيٍّ -رضي الله عنه-: هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ مِنَ
الْوَحْيِ إِلاَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لاَ
وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا
أَعْلَمُهُ إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي
الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا
فِي الصَّحِيفَةِ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ،
وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ".
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن
يونس التميمي اليربوعي الكوفي قال: (حدّثنا زهير) هو ابن
معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي قال: (حدّثنا مطرف) بضم
الميم وفتح
الطاء المهملة وكسر الراء المشدّدة بعدها فاء ابن طريف
الحارثي الكوفي (أن عامرًا) الشعبي (حدّثهم عن أبي جحيفة)
بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وبعد التحتية الساكنة فاء
وهب بن عبد الله السوائي (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قلت
لعلي -رضي الله عنه- هل عندكم) أهل البيت النبوي (شيء من
الوحي) خصّكم به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- دون غيركم كما تزعم الشيعة (إلا ما في كتاب
الله؟ قال) عليّ (لا والذي فلق الحبة) أي شقها في الأرض
حتى نبتت ثم أثمرت فكان منها حب كثير (وبرأ النسمة) أي
خلقها (وما أعلمه) عندنا (إلا فهمًا) بسكون الهاء وفتحها
والنصب ولأبي ذر إلا فهم بالرفع وفتح الهاء وسكونها قاله
ابن سيده (يعطيه الله رجلاً في القرآن) فيه جواز استخراج
العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولاً عن المفسرين إذا
وافق أصول الشريعة وهذا فيه تأييد لقول إمام دار الهجرة
مالك رحمه الله ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور وفهم
يضعه الله في قلب من يشاء (وما في هذه الصحيفة) وهي الورقة
المكتوبة وكانت معلقة بقبضة سيفه وعند النسائي فأخرج
كتابًا من قراب
(5/166)
سيفه. قال أبو جحيفة (قلت) لعليّ -رضي الله
عنه- (وما) أي أيّ شيء (في) هذه (الصحيفة؟ قال): فيها
(العقل) أي حكم العقل وهو الدية أي أحكامها ومقاديرها
وأصنافها وأسنانها (وفكاك الأسير) وهو ما يحصل به خلاصه
(وأن لا يقتل مسلم بكافر) أي: وفي الصحيفة حكم العقل وحكم
تحريم قتل المسلم بالكافر، وهذا مذهب الجمهور خلافًا
للحنفية مستدلين بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قتل مسلمًا بمعاهد رواه الدارقطني لكنه حديث ضعيف لا يحتج
به.
وهذا الحديث سبق في باب كتابة العلم من كتاب العلم.
172 - باب فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ
(باب فداء المشركين) بمال يؤخذ منهم.
3048 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ
عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ
رِجَالاً مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لاِبْنِ أُخْتِنَا
عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ. فَقَالَ: لاَ تَدَعُونَ مِنْهَا
دِرْهَمًا".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس) قال: (حدّثنا
إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة) الأسدي مولاهم أبو إسحاق
المدني (عن موسى بن عقبة) صاحب المغازي (عن ابن شهاب)
الزهري أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (أنس بن مالك -رضي الله
عنه- أن رجالاً من الأنصار) لم يسموا (استأذنوا رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: يا رسول الله
ائذن) زاد في رواية أبي ذر في باب إذا أسر أخو الرجل من
كتاب العتق لنا (فلنترك لابن أختنا) بضم الهمزة وبالفوقية
(عباس) هو ابن عبد المطلب وليسوا بأخواله بل أخوال أبيه
عبد المطلب لأن أمه سلمى بنت عمرو من بني النجار وليست
نتيلة أم عباس
أنصارية اتفاقًا وقالوا: ابن أختنا لتكون المنّة عليهم في
إطلاقه بخلاف ما لو قالوا ائذن لنا فلنترك لعمك (فداءه) أي
المال الذي تستنقذ به نفسه من الأسر (فقال) عليه الصلاة
والسلام:
(لا تدعون منها) أي لا تتركون من فديته (درهمًا) وإنما لم
يجبهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الترك لئلا
يكون في الدين نوع محاباة، وكان العباس ذا مال فاستوفيت
منه الفدية وصرفت إلى الغانمين، ولأبي ذر عن الكشميهني: لا
تدعوا بحذف النون مجزوم على النهي، ولأبوي ذر والوقت
والأصيلي وابن عساكر: منه أي من الفداء، وعند ابن إسحاق
أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال يا عباس افدِ
نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث وحليفك
عتبة بن عمرو، وعند موسى بن عقبة أن فداءهم كان أربعين
أوقية ذهبًا.
3049 - وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ طهْمانَ عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "أن
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ
بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي فَإِنِّي
فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً. فَقَالَ: خُذْ.
فَأَعْطَاهُ فِي ثَوْبِهِ".
(وقال إبراهيم): ولأبي ذر: إبراهيم بن طهمان (عن عبد
العزيز بن صهيب عن أنس قال: أُتي النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر أن النبي أُتي (بمال) وكان
مائة ألف كما رواه ابن أبي شيبة مرسلاً وكان خراجًا (من
البحرين) بلدة بين البصرة وعمان (فجاءه العباس) عمه (فقال:
يا رسول الله أعطني) منه (فإني فاديت نفسي) يوم بدر
(وفاديت عقيلاً) بفتح العين وكسر القاف ابن أبي طالب
(فقال) له عليه الصلاة والسلام:
(خذ فأعطاه) عليه الصلاة والسلام (في ثوبه). أي في ثوب
العباس من ذلك المال.
وهذا التعليق سبق في باب القسمة وتعلق القنو في المسجد في
أبواب المساجد من الصلاة.
3050 - حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَ جَاءَ فِي
أُسَارَى بَدْرٍ- قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ
بِالطُّورِ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمود) هو
ابن غيلان العدوي مولاهم المروزي قال: (حدّثنا عبد الرزاق)
بن همام قال: (أخبرنا معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين
مهملة ساكنة آخره راء هو ابن راشد الأزدي مولاهم البصري
(عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن محمد بن جبير عن
أبيه) جبير بن مطعم -رضي الله عنه- (وكان جاء في) طلب فداء
(أسارى بدر) وفكاكهم كافرًا أنه (قال): (سمعت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ في) صلاة
(المغرب بالطور) أي بسورة الطور زاد في التفسير فلما بلغ
هذه الآية {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} الآيات
إلى قوله: {المسيطرون} كاد قلبي يطير.
ومطابقة الحديث للترجمة وكان جاء في أسارى بدر، وقد سبق
هذا الحديث في باب الجهر في المغرب من كتاب الصلاة.
173 - باب الْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِسْلاَمِ
بِغَيْرِ أَمَانٍ
(باب) حكم (الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان) هل يجوز
قتله.
3051 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو
الْعُمَيْسِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ -وَهْوَ
فِي سَفَرٍ- فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ،
ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ، فَقَتَلَهُ
فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ".
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
أبو العميس) بضم العين المهملة وفتح الميم وإسكان التحتية
آخرهه سين مهملة عتبة بن عبد الله الهلالي (عن إياس بن
سلمة) بفتح اللام (ابن الأكوع عن أبيه) -رضي الله عنه-
(5/167)
أنه (قال: أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عين) أي جاسوس وهو صاحب سر الشر وسمي
عينًا لأن جلّ عمله بعينه (من المشركين) قال الحافظ ابن
حجر: لم أقف على اسمه (وهو في سفر) وعند مسلم أن ذلك كان
في غزوة هوازن (فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل) أي انصرف
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اطلبوه واقتلوه) (فقتله) سلمة بن الأكوع (فنفله) بتشديد
الفاء أي أعطاه عليه الصلاة والسلام (سلبه) نافلة زائدة
على ما يستحقه بالغنيمة بفتح المهملة واللام والموحدة وهو
الشيء المسلوب سمي به لأنه يسلب عن المقتول، والمراد به
ثياب القتيل والخف وآلات الحرب والسرج واللجام والسوار
والمنطقة والخاتم والقصعة معه ونحو ذلك مما هو مبسوط في
الفقه، وهذا السلب الذي أعطيه من مقتوله جمل احمد عليه
رحله وسلاحه كما وقع مبنيًّا في مسلم، وكان القياس أن يقول
فقتلته فنفلني لكنه في التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة،
نعم في رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر فقتلته
بضمير المتكلم على الأصل وعند مسلم فقال: من قتل الرجل؟
قالوا: ابن الأكوع قال له سلبه أجمع.
وفي الحديث قتل الجاسوس الحربي الكافر باتفاق وأما المعاهد
والذمي فقال مالك: ينتقض عهده بذلك؟ وعند الشافعية خلاف
أما لو شرط عليه ذلك في عهده فينتقض اتفاقًا.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في الجهاد والنسائي في السير.
174 - باب يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلاَ
يُسْتَرَقُّونَ
هذا (باب) بالتنوين (يقاتل) بفتح رابعه (عن أهل الذمة)
لأنهم بذلوا الجزية على أن يأمنوا في
أنفسهم وأموالهم وأهليهم فيقاتل عنهم كما يقاتل عن
المسلمين (ولا يسترقون) بضم أوله والقاف المشددة مبنيًّا
للمفعول ولو نقضوا العهد خلافًا لابن القاسم.
3052 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
مَيْمُونٍ عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: "وَأُوصِيهِ
بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُوَفَّى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ،
وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلاَ يُكَلَّفُوا
إِلاَّ طَاقَتَهُمْ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن حصين) بضم الحاء وفتح الصاد
المهملتين ابن عبد الرحمن السلمي الكوفي (عن عمرو بن
ميمون) بفتح العين الأودي (عن عمر) بن الخطاب (-رضي الله
عنه-) أنه (قال): بعد أن طعنه أبو لؤلؤة الطعنة التي مات
بها (وأوصيه) يعني الخليفة بعده (بذمة الله وذمة رسوله) أي
بعهد الله وعهد رسوله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ومراده أهل الكتاب (أن يُوفى لهم بعهدهم) بضم
أول يوفى وفتح ثالثه، وفي نسخة: أن يوفي بكسر ثالثه والذي
في الفرع يوفى بسكون الواو وفتح الفاء مخففًا (وأن يقاتل)
بضم أوله وفتح الفوقية (من ورائهم) أي من بين أيديهم فيدفع
الكافر الحربي عنهم وقد سبق استعمال وراء بمعنى أمام (ولا
يكلفوا) بضم أوله وفتح اللام المشددة في إعطاء الجزية
(إلاّ طاقتهم) فلا يزاد عليهم على مقدارها.
وسبق هذا الحديث بأطول من هذا في آخر الجنائز، ويأتي إن
شاء الله تعالى في المناقب.
175 - باب جَوَائِزِ الْوَفْدِ
(باب جوائز الوفد) جمع جائزة وهي العطية والوفد الجماعة
يردون.
176 - باب هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ؟
وَمُعَامَلَتِهِمْ
هذا (باب) بالتنوين (هل يستشفع) بضم أوله وفتح الفاء (إلى
أهل الذمة ومعاملتهم) بالجر عطفًا على الجملة المضاف إليها
لفظ الباب، ووقع في رواية ابن شبويه عن الفربري وهو عند
الإسماعيلي تأخير باب جوائز الوفد عن باب: هل يستشفع وهو
أوجه لأن ما ساقه من الحديث مطابق لترجمة جوائز الوفد لأنه
قال فيه وأجيزوا الوفد وكأنه كتب باب جوائز الوفد ثم بيض
له ليسوق فيه حديثًا يليق به فلم يقع له ذلك، وأسقط
النسفيّ هذه الترجمة أصلاً واقتصر على ترجمة هل يستشفع.
3053 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ
عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ:
"يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ. ثُمَّ بَكَى
حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ
الْحَصْبَاءَ فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ
فَقَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا
لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَتَنَازَعُوا، وَلاَ
يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ. فَقَالُوا: هَجَرَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا
تَدْعُونِي إِلَيْهِ. وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ
بِثَلاَثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ
أُجِيزُهُمْ، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ". وَقَالَ يَعْقُوبُ
بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَقَالَ: مَكَّةُ
وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ. وَقَالَ
يَعْقُوبُ: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ.
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بن عقبة قال: (حدّثنا ابن عيينة)
سفيان ولم يقع لقبيصة في هذا الكتاب رواية عن ابن عيينة
إلا هذه وروايته فيه عن سفيان الثوري كثيرة جدًّا، وحكى
الجياني عن رواية ابن السكن عن الفربري في هذا قتيبة بدل
قبيصة، وقد أخرجه المؤلّف في المغازي عن قتيبة ومسلم في
الوصايا عن سعيد بن منصور وقتيبة وابن أبي شيبة والناقد عن
ابن عيينة (عن سليمان) بضم أوله وفتح ثانيه (الأحول عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: يوم
الخميس). قال الكرماني: خبر المبتدأ
(5/168)
المحذوف أو بالعكس نحو يوم الخميس يوم
الخميس نحو: أنا أنا والغرض منه تفخيم أمره في الشدة
والمكروه وهو امتناع الكتاب فيما يعتقده ابن عباس (وما يوم
الخميس)؟ أي أيّ يوم هو تعجب منه لما وقع فيه من وجعه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ثم بكى حتى خضب)
بفتح الخاء والضاد المعجمتين والموحدة أي رطب وبلل (دمعه
الحصباء. فقال: اشتد برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وجعه) الذي توفي فيه (يوم الخميس فقال):
(ائتوني بكتاب) أي ائتوني بأدوات كتاب كالقلم والدواة أو
أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه نحو الكاغد والكتف
(اكتب لكم) بجزم أكتب جوابًا للأمر ويجوز الرفع على
الاستئناف وهو من باب المجاز أي آمر أن يكتب لكم (كتابًا
لن تضلوا بعده أبدًا فتنازعوا) في باب كتابة العلم من
كتابه قال عمر: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا
وكثر اللغط (ولا ينبغي عند نبي) من الأنبياء (تنازع) في
كتاب العلم قال أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع ففيه
التصريح بأنه من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لا من قول ابن عباس، والظاهر أن هذا الكتاب الذي أراده
إنما هو في النص على خلافة أبي بكر، لكنهم لما تنازعوا
واشتدّ مرضه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدل عن
ذلك معوّلاً على ما أصله من استخلافه في الصلاة.
وعند مسلم عن عائشة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: "ادعي لي أبا بكر وأخاك أكتب كتابًا فإني
أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله
والمؤمنون إلا أبا بكر".
وعند البزار من حديثها لما اشتد وجعه عليه الصلاة والسلام
قال: "ائتوني بدواة وكتف أو قرطاس أكتب لأبي بكر كتابًا لا
يختلف الناس عليه" ثم قال: "معاذ الله أن يختلف الناس على
أبي
بكر" فهذا نص صريح فيما ذكرناه وأنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما ترك كتابًا معوّلاً على أنه لا
يقع إلا كذلك وهذا يبطل قول من قال: إنه كتاب بزيادة أحكام
وتعليم وخشي عمر عجز الناس عن ذلك.
(فقالوا: هجر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بفتح الهاء والجيم من غير همز في أوله بلفظ
الماضي، وقد ظن ابن بطال أنها بمعنى اختلط، وابن التين
أنها بمعنى هذى وهذا غير لائق بقدره الرفيع إذ يقال إن
كلامه غير مضبوط في حالة من الحالات بل كل ما يتكلم به حق
صحيح لا خلف فيه ولا غلط سواء كان في صحة أو مرض أو نوم أو
يقظة أو رضًا أو غضب. ويحتمل أن يكون المراد أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هجركم من الهجر الذي
هو ضد الوصل لما قد ورد عليه من الواردات الإلهية، ولذا
قال في الرفيق الأعلى. وقال النووي: وإن صح بدون الهمزة
فهو لما أصابه الحيرة والدهشة لعظيم ما شاهده من هذه
الحالة الدالة على وفاته وعظم المصيبة أجرى الهجر مجرى شدة
الوجع. قال الكرماني: فهو مجاز لأن الهذيان الذي للمريض
مستلزم لشدة وجعه فأطلق الملزوم وأراد اللازم، وللمستملي
والحموي: أهجر بهمزة الاستفهام الإنكاري أي أهذى إنكارًا
على من قال: لا تكتبوا أي لا تجعلوه كأمر من هذى في كلامه
أو على من ظنه بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في ذلك الوقت لشدة المرض عليه.
(قال) عليه الصلاة والسلام: (دعوني) أي اتركوني (فالذي أنا
فيه) من المراقبة والتأهب للقاء الله والتفكّر في ذلك (خير
مما تدعوني إليه) من الكتابة ونحوها (وأوصى) عليه الصلاة
والسلام (عند موته بثلاث) فقال: (أخرجوا المشركين من جزيرة
العرب) وفي ما بين عدن إلى ريف العراق طولاً ومن جدة إلى
أطراف الشام عرضًا قاله الأصمعي فيما رواه عنه أبو عبيد،
وقال الخليل: سميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبش
والعراق ودجلة أحاطت بها وهي أرض العرب ومعدنها ولم يتفرغ
أبو بكر -رضي الله عنه- لذلك فأجلاهم عمر -رضي الله عنه-،
وقيل إنهم كانوا أربعين ألفًا ولم ينقل عن أحد من الخلفاء
أنه أجلاهم من اليمن مع أنها من جزيرة العرب. (وأجيزوا
الوفد بنحو ما) ولأبي الوقت بنحو مما (كنت أجيزهم) قال ابن
المنير: والذي بقي من هذا الرسم ضيافات الرسل
(5/169)
وإقطاعات الأعرابي ورسومهم في أوقات منه
إكرام أهل الحجاز إذا وفدوا. قال ابن عيينة كما عند
الإسماعيلي هنا والبخاري في الجزية أو سليمان الأحول كما
في مسند الحميدي أو سعيد بن جبير كما عند النووي في شرح
مسلم (ونسبت الثالثة). هي إنفاذ جيش أسامة، وكان المسلمون
اختلفوا في ذلك على أبي بكر فأعلمهم أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عهد بذلك عند موته أو هي
قوله: "لا تتخذوا قبري وثنًا" قال في المقدمة: ووقع في
صحيح ابن حبان ما يرشد إلى أنها الوصية بالأرحام.
(وقال يعقوب بن محمد) الزهري فيما وصله إسماعيل القاضي في
أحكامه (سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب فقال):
هي (مكة والمدينة واليمامة واليمن). وهذا موافق لما روي عن
مالك إمام دار الهجرة.
(وقال يعقوب): بن محمد المذكور (والعرج) بفتح العين
المهملة وسكون الراء بعدها جيم قرية جامعة من الفرع على
نحو ثمانية وسبعين ميلاً من المدينة (أول تهامة). بكسر
المثناة الفوقية. وقد استدلّ بهذا الحديث إمامنا الشافعي
من العلماء على منع إقامة الكافر ذميًّا كان أو حربيًّا
بمكة والمدينة واليمامة وقراهن وما تخلل ذلك من الطرق فلا
يقر في شيء منها بجزية ولا بغيرها لشرفها. نعم لا يمنع من
ركوب بحر الحجاز لأنه ليس موضع إقامة بخلاف جزائره وقرى
الأماكن المذكورة، وكذا لا يمنع من الإقامة باليمن لأنه
ليس من الحجاز وإن كان من جزيرة العرب لأن عمر أجلى أهل
الذمة من الحجاز وأقرّهم فيما عداه من اليمن ولم يخرجهم هو
ولا أحد من الخلفاء منه، وإنما أخرج أهل نجران من جزيرة
العرب وليست من الحجاز لنقضهم العهد بأكلهم الربا المشروط
عليهم تركه وكذا يمنع من دخول الحرم المكي فلا يدخله
لمصلحة ولا لغيرها لقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد
الحرام} والمراد جميع الحرم لقوله تعالى: {وإن خفتم عيلة}
[التوبة: 28] أي فقرًا بمنعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم
من قدومهم من المكاسب {فسوف يغنيكم الله من فضله} ومعلوم
أن الجلب إنما يجلب إلى البلد لا إلى المسجد نفسه فلو دخل
كافر بغير إذن الإمام أخرجه وعزره إن علم أنه ممنوع ومنه
وإن أذن الإمام أو نائبه له في الدخول للحجاز خارج الحرم
لمصلحة لنا من رسالة أو عقد هدنة أو حمل ميرة أو متاع
نحتاجه فلا يقيم فيه أكثر من أربعة أيام ولا يمنع من دونها
وليس حرم المدينة كحرم مكة فيما ذكر لاختصاصه بالنسك وثبت
أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أدخل الكفار
مسجده وكان ذلك بعد نزول سورة براءة، وجوّز أبو حنيفة
-رحمه الله- دخولهم حرم مكة. وقال العيني: مذهب أبي حنيفة
أنه لا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام لأنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم
كفار رواه أبو داود، والآية محمولة على منعهم أن يدخلوه
مستولين عليه ومستعلين على أهل الإسلام من حيث القيام
بعمارة المسجد.
177 - باب التَّجَمُّلِ لِلْوُفُودِ
(باب التجمل) باللبس (للوفود).
3054 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-
قَالَ: "وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي
السُّوقِ، فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ
هَذِهِ الْحُلَّةَ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ
وَالْوَفدِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ
خَلاَقَ لَهُ -أَوْ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ
خَلاَقَ لَهُ- فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَرْسَلَ
إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ حَتَّى أَتَى
بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ إِنَّمَا
هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ, أَوْ إِنَّمَا
يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاَقَ لَهُ، ثُمَّ أَرْسَلْتَ
إِلَىَّ بِهَذِهِ. فَقَالَ: تَبِيعُهَا، أَوْ تُصِيبُ
بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو ابن عبد الله بن بكير
المخزومي مولاهم المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام
(عن عقيل) بضم العين وفتح القاف (عن ابن شهاب) الزهري (عن
سالم بن عبد الله أن) أباه (ابن عمر -رضي الله عنهما- قال:
وجد عمر) بن الخطاب (حلة إستبرق) هو ما غلظ من الحرير
(تباع في السوق فأتى بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله ابتع) أي اشتر
(هذه الحلة فتجمل) أي تزين (بها للعبد وللوفود) زاد في
الجمعة إذا قدموا عليك، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن
عساكر: والوفد بالتوحيد (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (إنما هذه) الحلة الحرير (لباس من
لا خلاق) أي من لا نصيب (له) من الخير في الآخرة وهذا خاص
بالرجال وإن كانت كلمة من تدل على العموم لأدلة أخرى على
إباحة الحرير للنساء (أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له) شك
من الراوي ولم ينكر عليه الصلاة والسلام عليه طلبه التجمل
وإنما أنكر عليه التجمل بهذا الشيء المنهي عنه وهذا موضع
الترجمة. (فلبث) أي عمر (ما شاء الله ثم أرسل إليه النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بجبة ديباج)
(5/170)
بالإضافة وكسر الدال (فأقبل بها عمر حتى
أتى بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال: يا رسول الله قلت إنما هذه لباس من لا خلاق له أو
وإنما يلبس هذه من لا خلاق له) بالشك من الراوي أيضًا (ثم
أرسلت إليّ بهذه؟ فقال): (تبيعها) أي أرسلتها إليك لتبيعها
(و) قال: (تصيب بها بعض حاجتك). وعند أحمد أنه باعها بألفي
درهم وهو مشكل بما زاده البخاري في الجمعة حيث قال: فكساها
عمر أخًا له مشركًا.
178 - باب كَيْفَ يُعْرَضُ الإِسْلاَمُ عَلَى الصَّبِيِّ؟
هذا (باب) بالتنوين (كيف يعرض الإسلام على الصبي)؟
3055 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّهُ أَخْبَرَهُ
أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِبَلَ
ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ
الْغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَقَدْ
قَارَبَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ صَيَّادٍ يَحْتَلِمُ، فَلَمْ
يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ
فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ. فَقَالَ
ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ
لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ
صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خُلِطَ عَلَيْكَ
الأَمْرُ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا. قَالَ
ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ
قَدْرَكَ. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي
فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ
تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ
لَكَ فِي قَتْلِهِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
هشام) هو ابن يوسف الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) بسكون
العين وفتح الميمين ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم بن
شهاب أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (سالم بن عبد الله عن ابن
عمر) أبيه (-رضي الله عنهما- أنه أخبره أن) أباه (عمر
انطلق في رهط) دون العشرة أو إلى الأربعين (من أصحاب النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل ابن صياد) بكسر القاف
وفتح الموحدة أي جهته وكان غلامًا من اليهود وكان يتكهن
أحيانًا فيصدق ويكذب فشاع حديثه وتحدث أنه الدجال، وأشكل
أمره فأراد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
يختبر حاله إذ لم ينزل في أمره وحي، ولأبوي ذر والوقت
والأصيلي: ابن الصياد بالتعريف (حتى وجدوه) ولأبي ذر وجده
بالتوحيد حال كونه (يلعب مع الغلمان عند أطم بني مغالة)
بضم الهمزة والطاء من أطم وهو البناء المرتفع ومغالة بفتح
الميم والغين المعجمة واللام بطن من الأنصار أو حيّ من
قضاعة (وقد قارب يومئذٍ ابن صياد يحتلم فلم يشعر) أي ابن
صياد (حتى) ولأبي ذر عن الكشميهني: بشيء حتى (ضرب النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظهره بيده ثم قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أتشهد أني رسول الله)؟ (فنظر إليه) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول
الأميين) أي العرب (فقال ابن صياد للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتشهد أني رسول الله؟ قال له النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (آمنت بالله ورسله)
بالجمع، ولأبي ذر عن المستملي والكشميهني: ورسوله بالإفراد
كذا في الفرع ونسب ابن حجر الإفراد للمستملي.
وقال الكرماني فإن قلت: كيف طابق قوله آمنت بالله ورسله؟
جواب الاستفهام وأجاب بأنه لما أراد أن يظهر للقوم حاله
أرخى العنان حتى يبينه عند المغترّ به، فلهذا قال آخرًا:
اخسأ انتهى. وقيل: يحتمل أنه أراد باستنطاقه إظهار كذبه
المنافي لدعوى النبوّة ولما كان ذلك هو المراد أجابه بجواب
منصف فقال: آمنت بالله ورسله.
ثم (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) له:
(ماذا ترى)؟ (قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب) وعند
الترمذي من حديث أبي سعيد قال: أرى عرشًا فوق الماء. قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ترى عرش إبليس
فوق البحر. قال: ما ترى؟ قال: أرى صادقًا وكاذبين أو
صادقين وكاذبًا (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) (خلط عليك الأمر) بضم الخاء المعجمة وكسر
اللام مخففة في الفرع وأصله مصححًا عليها ومشددة في غيرهما
أي خلط عليك الحق والباطل على عادة الكهان (قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (إني قد خبأت لك
خبيئًا) بفتح الخاء المعجمة وكسر الموحدة وسكون التحتية
وبالهمز فيه وفي السابق أي أضمرت لك في نفسي شيئًا. وفي
الترمذي: أنه خبأ له يوم تأتي السماء بدخان مبين (قال ابن
صياد: هو الدخ) بضم الدال المهملة وبعدها خاء معجمة فأدرك
البعض على عادة الكهان في اختطاف بعض الشيء من الشياطين من
غير وقوف على تمام البيان.
فإن قلت: كيف اطّلع ابن صياد أو شيطانه على ما في الضمير؟
أجيب: باحتمال أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- تحدّث مع نفسه أو أصحابه بذلك فاسترق الشيطان
ذلك أو بعضه.
فإن قلت: ما وجه التخصيص بإخفاء هذه الآية؟ أجاب أبو موسى
المديني: بأنه أشار بذلك إلى أن عيسى ابن مريم عليهما
السلام يقتل الدجال بجبل الدخان فأراد التعريض لابن صياد
بذلك.
وحكى الخطابي أن الآية كانت حينئذٍ مكتوبة في يد النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يهتد ابن صياد
منها إلا لهذا القدر الناقص
(5/171)
على طريق الكهنة ولهذا (قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (اخسأ) بالخاء المعجمة
الساكنة وفتح السين المهملة آخره همز كلمة زجر واستهانة أي
اسكت متباعدًا ذليلاً (فلن تعدو قدرك). أي لن تتجاوز القدر
الذي يدركه الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء ولا يتجاوزون
منه إلى النبوّة. قال الكرماني: وفي بعضها تعد بغير واو
على أنه مجزوم بلن في لغة حكاها الكسائي كما ذكره ابن مالك
في توضيحه. (قال عمر) -رضي الله عنه- (يا رسول الله ائذن
لي فيه) أي في ابن صياد (أضرب عنقه). بهمزة قطع مجزومًا
جواب الطلب (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): (إن يكنه) فيه اتصال الضمير إذا وقع خبرًا
لكان واسمها مستتر فيها، وابن مالك في ألفيته يختاره على
الانفصال عكس ما اختاره ابن الحاجب، وللأصيلي وابن عساكر
وأبوي الوقت وذر عن الحموي والمستملي: إن يكن هو بانفصال
الضمير كالآتية وهو الصحيح، واختاره ابن مالك في التسهيل
وشرحه تبعًا لسيبويه ولفظ هو تأكيد للضمير المستتر، وكان:
تامة أو وضع هو موضع إياهُ أي أن إياه. وفي حديث ابن مسعود
عند أحمد إن يكن هو الذي يخاف فلن تستطيعه وعند الحرث بن
أبي أسامة عند جده مرسلاً أن يكن هو الدجال (فلن تسلط
عليه)، لأن عيسى هو الذي يقتله، وفي حديث جابر عند الترمذي
فلست بصاحبه إنما صاحبه عيسى ابن مريم (وإن لم يكنه فلا
خير لك في قتله). قال الخطابي: وإنما لم يأذن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قتله مع ادّعائه
النبوة بحضرته لأنه كان غير بالغ أو لأنه كان من جملة أهل
المهادنة. قال في الفتح: والثاني هو المتعين وقد جاء
مصرحًا به في حديث جابر عند أحمد وفي مرسل عروة: فلا يحل
لك قتله ولم يصرح ابن صياد بدعوى النبوة وإنما أوهم أنه
يدّعي الرسالة ولا يلزم من دعواها دعوى النبوة قال الله
تعالى: {إنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين}.
3056 - قَالَ ابْنُ عُمَرَ انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ
يَأْتِيَانِ النَّخْلَ الَّذِي فِيهِ ابْنُ صَيَّادٍ،
حَتَّى إِذَا دَخَلَ النَّخْلَ طَفِقَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ
وَهْوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ
شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ
عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ،
فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ،
فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادٍ: أَىْ صَافِ -وَهْوَ اسْمُهُ-
فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ".
وبالسند السابق: (قال ابن عمر) -رضي الله عنهما- (انطلق
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأُبي بن كعب)
معه حال كونهما (يأتيان النخل الذي فيه ابن صياد حتى إذا
دخل) عليه الصلاة والسلام (النخل طفق) أي
جعل (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتقي) أي
يستتر (بجذوع النخل) بالذال المعجمة أصولها (وهو يختل)
بفتح المثناة التحتية وسكون الخاء المعجمة وكسر الفوقية أي
يسمع في خفية (أن يسمع من ابن صياد شيئًا). وفي حديث جابر
رجاء أن يسمع من كلامه شيئًا ليعلم أنه صادق أو كاذب (قبل
أن يراه) أي ابن صياد كما في الجنائز (وابن صياد مضطجع على
فراشه في قطيفة) أي كساء له خمل (له) أي لابن صياد (فيها)
أي في القطيفة (رمزة) براء مهملة مفتوحة فميم ساكنة فزاي
معجمة أي صوت خفي (فرأت أم ابن صياد النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو) أي والحال أنه عليه الصلاة
والسلام (يتقي بجذوع النخل فقالت: لابن صياد أي صاف) بصاد
مهملة وفاء مكسورة (وهو اسمه) زاد في الجنائز هذا محمد
(فثار ابن صياد) بالمثلثة أي نهض من مضجعه مسرعًا (فقال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لو تركته) أمه ولم تعلمه بنا (بيّن) أي أظهر لنا من حاله
ما نطّلع به على حقيقة حاله.
3057 - وَقَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ "ثُمَّ قَامَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ،
ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنِّي
أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ
أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ؛
وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ
نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ،
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ". [الحديث 3057 -
أطرافه في: 3337، 3439، 4402، 6175، 7123، 7127، 8407].
(وقال سالم): هو ابن عبد الله بن عمر بالإسناد السابق (قال
ابن عمر) -رضي الله عنهما-: (ثم قام النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بعد (في الناس) خطيبًا (فأثنى على
الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال):
(إني أنذركموه وما من نبي إلا قد أنذره قومه لقد أنذره نوح
قومه)، خصّ نوحًا بالذكر لأنه أبو البشر الثاني أو أنه أول
مشرع (ولكن سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه تعلمون
أنه أعور وإن الله ليس بأعور).
وقد ذكر في هذا الحديث ثلاث قصص اقتصر منها في الشهادات
على الثانية، وفي الفتن على الثالثة، وقد اختلف في أمر ابن
صياد اختلافًا كثيرًا يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب
الاعتصام بعون الله ومنّه.
179 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لِلْيَهُودِ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا
قَالَهُ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لليهود أسلموا) بفتح الهمزة وكسر اللام من الإسلام
(تسلموا) بفتح الفوقية واللام من السلامة أي تسلموا في
الدنيا من القتل والجزية وفي الآخرة من العقاب الدائم
(قالها
(5/172)
المقبري) بفتح الميم وضم الموحدة وهو سعيد
بن أبي سعيد (عن أبي هريرة). -رضي الله عنه- في حديث يأتي
إن شاء الله تعالى موصولاً في الجزية.
180 - باب إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ
وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرَضُونَ فَهْيَ لَهُمْ
هذا (باب) بالتنوين (إذا أسلم قوم) من أهل الحرب (في دار
الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم).
3058 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: "قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا -فِي حَجَّتِهِ-
قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً؟ ثُمَّ
قَالَ: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ
الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ.
وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى
بَنِي هَاشِمٍ أَنْ لاَ يُبَايِعُوهُمْ وَلاَ
يُؤْوُوهُمْ". قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْخَيْفُ الْوَادِي.
وبه قال: (حدّثنا محمود) هو ابن غيلان قال: (أخبرنا عبد
الرزاق) بن همام، ولأبي ذر وحده كما في الفتح حدّثنا عبد
الله هو ابن المبارك بدل أخبرنا عبد الرزاق قال: (أخبرنا
معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن
علي بن حسين) بدون تعريف ابن علي زيد العابدين (عن عمرو بن
عثمان بن عفان) الأموي القرشي المدني (عن أسامة بن زيد)
-رضي الله عنهما- أنه (قال: قلت: يا رسول الله أين تنزل
غدًا -في حجته)؟ حجة الوداع (قال):
(وهل ترك لنا عقيل) بفتح العين وكسر القاف ابن أبي طالب
(منزلاً) زاد في باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها من كتاب
الحج: وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا
عليّ شيئًا لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين أي
عند وفاة أبيهما لأن عقيلاً أسلم بعد ذلك. قيل: ولما كان
أبو طالب أكبر ولد عبد المطلب احتوى على أملاكه وحازها
وحده على عادة الجاهلية من تقديم الأسن فتسلط عقيل أيضًا
بعد الهجرة عليها. وقال الداودي: باع عقيل ما كان للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولمن هاجر من بني عبد
المطلب كما كانوا يفعلون بدور من هاجر من المؤمنين وإذا
أجاز عليه الصلاة والسلام لعقيل تصرفه قبل إسلامه فما بعد
الإسلام بطريق الأولى.
وبهذا تحصل المطابقة بين الحديث والترجمة.
(ثم قال) عليه الصلاة والسلام: (نحن نازلون غدًا بخيف بني
كنانة) بكسر الكاف وبنونين بينهما ألف (المحصب) بفتح الصاد
بلفظ المفعول من التحصيب عطف بيان أو بدل من الخيف. وفي
الحج من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الغد يوم النحر وهو بمنى
"نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة" وفيه تجوّز عن الزمان
المستقبل القريب بلفظ الغد كما يتجوّز بالأمس عن الماضي
لأن النزول في المحصب إنما يكون في الثالث عشر من الحجة لا
في اليوم الثاني من العيد الذي هو الغد حقيقة (حيث قاسمت
قريش) وفي باب نزول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مكة من الحج حيث تقاسموا بمثناة قبل
القاف بلفظ الجماعة أي تحالفوا (على الكفر) (وذلك أن بني
كنانة حالفت قريشًا) وفي الحج وذلك أن قريشًا وكنانة
تحالفت (على بني هاشم) زاد في الحج من رواية الوليد وبني
عبد المطلب أو بني المطلب بالشك (أن لا يبايعوهم ولا
يؤووهم) وفي الحج أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم. قال الإمام
النووي: معنى تقاسمهم على الكفر تحالفهم على إخراج النبي
وبني هاشم والمطلب من مكة إلى خيف بني كنانة وكتبوا بينهم
الصحيفة المشهورة فيها أنواع من الباطل فأرسل الله عليها
الأرضة فأكلت ما فيها من الكفر وتركت ما فيها من ذكر الله
فأخبر جبريل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فأخبر به عمه أبا طالب فأخبرهم عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك فوجدوه كما أخبر، وقد ذكر الخطيب
أن قوله هنا وذلك أن بني كنانة إلخ المعطوف على حديث أسامة
مدرج في رواية الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن
أسامة، وإنما هو عند الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وذلك
أن ابن وهب رواه عن يونس عن الزهري ففصل بين الحديثين:
وروى محمد بن أبي حفصة عن الزهري الحديث الأول فقط، وروى
شعيب والنعمان بن راشد وإبراهيم بن سعد والأوزاعي عن
الزهري الحديث الثاني فقط عن أبي سلمة عن أبي هريرة. قال
الحافظ ابن حجر: بعد أن ذكر ذلك أحاديث الجميع عند البخاري
وطريق ابن وهب عنده لحديث أسامة في الحج ولحديث أبي هريرة
في التوحيد وأخرجهما مسلم معًا في الحج.
(قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب: (والخيف) المذكور
المنسوب لبني كنانة هو (الوادي). وقال غيره: ما ارتفع من
سيل الوادي ولم يبلغ أن يكون جبلاً.
3059 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ
يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى فَقَالَ: يَا هُنَىُّ
اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ
الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ
مُسْتَجَابَةٌ. وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ
الْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّاىَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وَنَعَمَ
ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ
مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ
رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ
مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ فَيَقُولُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لاَ أَبَا
لَكَ؟ فَالْمَاءُ وَالْكَلأُ أَيْسَرُ عَلَىَّ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَإيمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ
لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ؛ إِنَّهَا
لَبِلاَدُهُمْ، فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِسْلاَمِ. وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ
عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ
مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال
(5/173)
حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام الأعظم (عن
زيد بن أسلم عن أبيه) أسلم مولى عمر بن الخطاب (أن عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- استعمل مولى له يدعى هنيًّا) بضم
الهاء وفتح النون وتشديد التحتية وقد تهمز (على الحمى)
بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مقصورًا وهو موضع يعينه
الإمام لنحو نعم الصدقة ممنوعًا عن الغير وعند ابن سعد من
طريق عمير بن هني عن أبيه أنه كان على حمى الربذة (فقال):
أي عمر له (يا هني اضمم جناحك عن المسلمين) أي اكفف يدك عن
ظلمهم (واتق دعوة المظلوم) فإنها لا تحجب عن الله، ولأبي
ذر:
المسلمين كذا في عدة من فروع اليونينية كهي وغيرها، وعزا
الأولى في فتح الباري للإسماعيلي والدارقطني وأبي نعيم
وتبعه العيني والعجب منه أنها في المتن الذي ساقه بلفظ
المظلوم (فإن دعوة المظلوم مستجابة وأدخل) بفتح الهمزة
وكسر الخاء المعجمة يعني أدخل في الحمى والمرعى (رب
الصريمة) بضم الصاد المهملة وفتح الراء وهي القطيعة من
الإبل بقدر الثلاثين (ورب الغنيمة) بضم الغين المعجمة وفتح
النون تصغير غنم والمراد القليل منهما كما دلّ عليه
التصغير (وإياي ونعم ابن عوف) عبد الرحمن (ونعم ابن عفان)
عثمان كان القياس أن يقول: وإياك لأن هذه الكلمة للتحذير
وتحذير المتكلم نفسه قليل كما مرّ ولكنه بالغ فيه من حيث
أنه حذّر نفسه ومراده تحذير من يخاطبه وهو أبلغ لأنه ينهى
نفسه ومراده نهي من يخاطبه عن إيثار ابن عوف وابن عفان على
غيرهما في الرعى أو تقديمهما على الغير وخصّهما بالذكر على
طريق المثال لأنهما كانا من مياسير الصحابة ولم يرد بذلك
منعهما البتّة وإنما أراد أنه إذا لم يسع المرعى إلا نعم
أحد الفريقين فنعم المقلين أولى وقد بين وجه ذلك بقوله:
(فإنهما) أي ابن عوف وابن عفان (أن تهلك) بكسر اللام
والجزم (ماشيتهما يرجعان إلى) عوض ذلك من أموالهما من (نخل
وزرع) وغيرهما (وإن رب الصريمة) القليلة (ورب الغنيمة)
القليلة اللذين ليس لهما إلا ذاك (أن تهلك ماشيتهما يأتني)
مجزوم بحذف الياء (ببنيه) أي بأولاده، ولغير الكشميهني كما
في الفتح بيته بمثناة فوقية قبلها تحتية ساكنة بلفظ مفرد
البيت والمعنى متقارب (فيقول: يا أمير المؤمنين يا أمير
المؤمنين) مرتين أي نحن فقراء محتاجون أو نحو ذلك وعند غير
أبي ذر: يا أمير المؤمنين مرة واحدة (أفتاركهم أنا) بهمزة
الاستفهام الإنكاري أي أنا لا أتركهم محتاجين ولا أجوّز
ذلك فلا بدّ لي من إعطاء الذهب والفضة لهم بدل الماء
والكلأ من بيت المال (لا أبا لك) بغير تنوين لأنه كالمضاف
وظاهره الدعاء عليه لكنه على المجاز لا الحقيقة (فالماء
والكلأ أيسر عليّ من الذهب والورق) أي من إنفاقهما من بيت
المال (وإيم الله إنهم) أي أرباب المواشي القليلة من أهل
المدينة وقراها (ليرون) بفتح المثناة التحتية أي ليعتقدون
وبضمها أي ليظنون (أني قد ظلمتهم أنها) أي هذه الأراضي
(لبلادهم فقاتلوا) بفاء قبل القاف ولأبوي ذر والوقت
والأصيلي وابن عساكر قاتلوا (عليها في الجاهلية وأسلموا
عليها) عفوًا (في الإسلام) فكانت أموالهم لهم وهذا بخلاف
من أسلم من أهل العنوة فإن أرضه فيء للمسلمين لأنهم غلبوا
على بلادهم كما غلبوا على أموالهم بخلاف أهل الصلح في ذلك،
وإنما ساع لعمر -رضي الله عنه- ذلك، لأنه كان مواتًا فحماه
لنعم الصدقة ومصلحة المسلمين (والذي نفسي بيده لولا المال
الذي أحمد عليه) من لا يجد ما يركبه (في سبيل الله) من
الإبل والخيل (ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا) وجاء عن
مالك أن عدّة ما كان في الحمى في عهد عمر بلغ أربعين ألفًا
من إبل وخيل وغيرهما.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله إنها لبلادهم إلى آخرها
وأشار بالترجمة إلى الردّ على من قال من الحنفية إن الحربي
إذا أسلم في دار الحرب وأقام بها حتى غلب المسلمون عليها
فهو أحق بجميع ماله إلا أرضه وعقاره فإنها تكون فيئًا
للمسلمين، وقد خالفهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور
قاله في فتح الباري وهذا الأثر تفرّد به البخاري عن
الجماعة. وقال
(5/174)
الدارقطني فيه: غريب صحيح.
181 - باب كِتَابَةِ الإِمَامِ النَّاسَ
(باب كتابة الإمام الناس) بالنصب مفعولاً للمصدر المضاف
لفاعله أي من المقاتلة وغيرهم ولأبي ذر للناس أي لأجلهم
والمفعول محذوف.
3060 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ
حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اكْتُبُوا لِي مَنْ
تَلَفَّظَ بِالإِسْلاَمِ مِنَ النَّاسِ. فَكَتَبْنَا لَهُ
أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ، فَقُلْنَا: نَخَافُ
وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ؟ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا
ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَحْدَهُ
وَهْوَ خَائِفٌ". حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي
حَمْزَةَ عَنِ الأَعْمَشِ "فَوَجَدْنَاهُمْ
خَمْسَمِائَةٍ". قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا بَيْنَ
سِتِّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي وائل)
بالهمزة شقيق بن سلمة (عن حذيفة -رضي الله عنه-) أنه (قال:
قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اكتبوا لي من تلفظ) بفتح المثناة الفوقية واللام والفاء
المشددة وللأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت يلفظ بالتحتية
وسكون اللام وكسر الفاء (بالإسلام من الناس فكتبنا له
ألفًا وخمسمائة رجل)، ولعله كان عند خروجهم إلى أُحُد أو
عند حفر الخندق وبه جزم السفاقسي أو بالحديبية لأنه اختلف
في عددهم هل كانوا ألفًا وخمسائة أو ألفًا وأربعمائة.
وفيه مشروعية كتابة الإمام الناس عند الحاجة إلى الدفع عن
المسلمين (فقلنا نخاف) أي هل خاف (ونحن ألف وخمسائة) زاد
أبو معاوية عن الأعمش عند مسلم فقال: إنكم لا تدرون لعل أن
تبتلوا (فلقد رأيتنا) بضم التاء للمتكلم أي لقد رأيت
أنفسنا (ابتلينا) بضم التاء مبنيًّا للمفعول بعد رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى وإن الرجل
ليصلّي وحده وهو خائف) أي مع كثرة المسلمين، ولعله أشار
إلى ما وقع في خلافة عثمان -رضي الله عنه- من ولاية بعض
أمراء الكوفة كالوليد بن عقبة حيث كان يؤخر الصلاة أو لا
يقيمها على وجهها فكان بعض الورعين يصلّي وحده سرًّا ثم
يصلّي خشية الفتنة.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة
(عن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن ميمون
اليشكري (عن الأعمش) سليمان بن مهران أي عن أبي وائل عن
حذيفة الحديث وفيه (فوجدناهم خمسمائة) فلم يذكر أبو حمزة
الألف التي ذكرها سفيان (قال أبو معاوية) بن خازم بالخاء
المعجمة مما وصله مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه: (ما بين
ستمائة إلى سبعمائة) وزيادة الثقة الحافظ مقدمة، ولذا قدّم
المؤلّف رواية الثوري؛ وأبو معاوية وإن كان أحفظ أصحاب
الأعمش
بخصوصه فالثوري أحفظهم مطلقًا، وقد قيل في الجمع بأن
المراد بالخمسمائة المقاتلة من أهل المدينة خاصة وبما بين
الستمائة إلى السبعمائة هم ومن ليس بمقاتل وبالألف
وخمسمائة هم من حولهم من أهل القرى والبوادي، لكن الحديث
متّحد المخرج ومداره على الأعمش بسنده واختلاف أصحابه عليه
في العدد المذكور.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الإيمان والنسائي في السير.
3061 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ
أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-
قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي
كُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي
حَاجَّةٌ، قَالَ: ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ".
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن ابن جريح) عبد الملك بن عبد العزيز
(عن عمرو بن دينار عن أبي معبد) بفتح الميم والموحدة
بينهما عين مهملة ساكنة نافذ بالنون والفاء والذال المعجمة
(عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: جاء رجل) لم
يعرف اسمه (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال: يا رسول الله إني كتبت) بضم الكاف وكسر الفوقية
مبنيًّا للمفعول (في غزوة كذا وكذا و) الحال أن (امرأتي
حاجّة) لم يعرف اسم المرأة ولا الغزوة أيضًا (قال) عليه
الصلاة والسلام:
(ارجع فحج مع امرأتك). وإنما كان ذلك لأنه ليس لها محرم
غيره والغزو يقوم غيره فيه مقامه وفيه إشعار بأنه كان من
عادتهم كتابة من يتعين للخروج للجهاد، وسبق الحديث في الحج
والجهاد.
182 - باب إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ
الْفَاجِرِ
هذا (باب) بالتنوين (إن الله يؤيد الذين بالرجل الفاجر).
3062 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ. ح. وَحَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ
غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "شَهِدْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ: هَذَا
مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ
الرَّجُلُ قِتَالاً شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ.
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِي قُلْتَ إِنَّهُ
مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ
قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِلَى النَّارِ.
قَالَ فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ.
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ
يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا. فَلَمَّا كَانَ
مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ
نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ
أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. ثُمَّ أَمَرَ
بِلاَلاً فَنَادَى بِالنَّاسِ: إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ
لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ".
[الحديث 3062 - أطرافه في: 4203، 4204، 6606].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
(ح) لتحويل السند. (وحدّثني) بالإفراد (محمود بن غيلان)
سقط لأبي ذر ابن غيلان قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام
قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد واللفظ لروايته لا لشعيب
(عن الزهري عن ابن المسيب) سعيد (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه-) أنه (قال: شهدنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد الأصيلي خيبر (فقال لرجل ممن
يدّعي الإسلام): بفتح الياء وتشديد الدال وكسر العين
(5/175)
والإسلام نصب على المفعولية، ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي: من يدعي بالإسلام بضم الياء وسكون الدال
وفتح العين وبالإسلام جار ومجرور.
(هذا من أهل النار) علم بالوحي أنه غير مؤمن أو أنه سيرتد
ويستحل قتل نفسه وقد قيل إن اسمه قزمان الظفري وهو معدود
في جملة المنافقين وعورض بأن قصة قزمان كانت في وقعة أُحُد
كما سبق في حديث سهل بن سعد والأول مبني على أن القصة التي
في حديث سهل متحدة مع قصة حديث أبي هريرة هذا وفيه نظر لما
وقع بينهما من الاختلاف على ما لا يخفى، لكن صنيع البخاري
حيث ساق الحديثين في غزوة خيبر يُشعِر باتحادهما عنده.
وأما قول أبي هريرة شهدنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيبر فمحمول على المجاز فالمراد جنسه
من المسلمين لأن الثابت أنه إنما جاء بعد أن فتحت خيبر،
ووقع عند الواقدي أنه قدم بعد فتح معظم خيبر فحضر فتح
آخرها وفي الجهاد من طريق عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة قال:
أتيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو
بخيبر بعدما افتتحها فقلت يا رسول الله أسهم لي؟ (فلما حضر
القتال) بالرفع فاعل حضر ويجوز النصب على المفعولية على
التوسع وفي حضر ضمير يرجع إلى الرجل وهو فاعله (قاتل الرجل
قتالاً شديدًا فأصابته جراحة) وفي رواية شعيب عن الزهري في
غزوة خيبر قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة
(فقيل) القائل هو أكتم بن أبي الجون إن قلنا باتحاد
القصتين (يا رسول الله الذي قلت إنه) وللأربعة الذي قلت أي
الذي قلت فيه إنه (من أهل النار) فاللام بمعنى في (فإنه قد
قاتل اليوم قتالاً شديدًا وقد مات، فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (إلى النار) (قال) أبو
هريرة أو غيره (فكاد) بالدال أي قارب (بعض الناس أن يرتاب)
أي يشك في صدق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وفيه جواز دخول أن على خبر كاد وهو جائز مع
قلته، وسقطت في رواية شعيب، ولأبي ذر عن الكشميهني: فكأن
بهمزة ونون مشددة بعض الناس أراد أن يرتاب (فبينما) بالميم
(هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت ولكن) بتشديد النون (به
جراحًا شديدًا فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل
نفسه) وفي رواية شعيب فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده
إلى كنانته فاستخرج منها أسهمًا فنحر بها نفسه (فأخبر
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك) بضم
الهمزة مبنيًّا للمفعول (فقال): (الله أكبر أشهد أني عبد
الله ورسوله). (ثم أمر بلالاً) المؤذن (فنادى بالناس):
ولأبي ذر:
في الناس (أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة)، فيه إشعار
بسلب الإيمان عن الرجل المذكور (وإن الله) بكسر الهمزة
وفتحها (ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). يحتمل أن تكون
اللام للعهد والمراد قزمان المذكور وأن تكون للجنس، وهذا
لا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام المروي في مسلم "إنّا
لا نستعين بمشرك" للأنه خاص بذلك الوقت، وحجة النسخ شهود
صفوان بن أمية حنينًا معه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهو مشرك وقصته مشهورة في المغازي. قال ابن
المير: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل في الإمام أو
السلطان الفاجر إذا حمى حوزة الإسلام أنه مطرح النفع في
الدين لفجوره فيجوز الخروج عليه وأن يخلع لأن الله قد يؤيد
به دينه وفجوره على نفسه فيجب الصبر عليه والسمع والطاعة
له في غير المعصية ومن هذا استجاز العلماء الدعاء للسلاطين
بالتأييد والنصر وغير ذلك من الخير.
وهذا الحديث قد مرّ نحوه في باب لا يقول فلان شهيد من حديث
سهل بن سعد الساعدي، ويأتيان إن شاء الله تعالى في غزوة
خيبر من كتاب المغازي بعون الله وقوته.
183 - باب مَنْ تَأَمَّرَ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ
إِمْرَةٍ إِذَا خَافَ الْعَدُوَّ
(باب من تأمر) أي جعل نفسه أميرًا على قوم (في الحرب من
غير إمرة) أي من غير تأمير الإمام أو نائبه (إذا خاف
العدوّ) أي فإنه جائز.
3063 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "خَطَبَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ
أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفَتَحَ
اللهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَسُرُّنِي -أَوْ قَالَ: مَا
يَسُرُّهُمْ- أَنَّهُمْ عِنْدَنَا. وَقَالَ: وَإِنَّ
عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ".
وبه قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) الدورقي قال: (حدّثنا
ابن علية) بضم العين وفتح اللام وتشديد التحتية إسماعيل بن
إبراهيم البصري وعليه أمه (عن أيوب) السختياني (عن حميد بن
هلال) العدوي أبي نصر البصري (عن أنس بن مالك
(5/176)
-رضي الله عنه-) أنه (قال: خطب رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما التقى الناس
بمؤتة وكشف له ما بينه وبينهم حتى نظر إلى معتركهم (فقال):
(أخذ الراية زيد) هو ابن حارثة (فأصيب)، أي فقتل (ثم أخذها
جعفر) هو ابن أبي طالب (فأصيب، ثم أخدها عبد الله بن
رواحة) الأنصاري (فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد)
المخزومي سيف الله (عن غير إمرة) أي صار أميرًا بنفسه من
غير أن يفوّض الإمام إليه وهو متعلق بخالد بن الوليد ففي
المغازي من هذا الكتاب من حديث ابن عمر قال: أمر رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن قتل زيد فجعفر وإن
قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، ويروى: من غير إمرة (ففتح
عليه وما) ولأبي ذر ففتح الله عليه فما (يسرني) (أو قال ما
يسرهم) أي المقتولين (أنهم عندنا) لأن حالهم فيما هم فيه
خير مما لو كانوا
عندنا والشك من الراوي (وقال) أنس (وإن عينيه) عليه السلام
(لتذرفان) بالذال المعجمة وكسر الراء تسيلان دمعًا ويؤخذ
من الحديث كما قاله ابن المنير أن من تعين لولاية وتعذرت
مراجعة الإمام أن الولاية تثبت لذلك المتعين شرعًا وتجب
طاعته حكمًا أي إذا اتفق عليه الحاضرون وأن الإمام لو عهد
إلى جماعة مرتبين فقال الخليفة: بعد موتي فلان وبعد موته
فلان جاز انتقلت الخلافة إليهم على ما رتب كما رتب رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمراء جيش غزوة
مؤتة، فلو مات الأول في حياة الخليفة فالخلافة للثاني، ولو
مات الأول والثاني في حياته فهي للثالث، ولو مات الخليفة
وبقي الثلاثة أحياء فانتصب الأول للخلافة ثم أراد أن يعهد
بها إلى غير الآخرين، فالظاهر من مذهب الشافعي جوازه لأنها
لما انتهت إليه صار أملك بها بخلاف ما إذا مات ولم يعهد
إلى أحد فليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني ويقدم عهد
الأول على اختيارهم، والعهد موقوف على قبول المعهود إليه
واختلف في وقت قبوله فقيل بعد موت الخليفة، والأصح أن وقته
ما بين عهد الخليفة وموته قاله في الروضة، وأشار إليه
المهلب واعترضه صاحب المصابيح من المالكية بأن الإمامة
حينئذٍ ترجع إلى أنها حبس على الخليفة يتحكم فيها إلى يوم
القيامة فيقول فلان بعد فلان وعقب فلان بعد عقب فلان ولا
يصلح هذا في مصالح المسلمين المختلفة باختلاف الأوقات.
184 - باب الْعَوْنِ بِالْمَدَدِ
(باب العون) في الجهاد (بالمدد) بالميم المفتوحة ما يمدّ
به الأمير بعض العسكر من الرجال.
3064 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سَعِيدٍ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه-: "أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَاهُ
رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لِحْيَانَ
فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ
عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْعِينَ مِنَ
الأَنْصَارِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهِمُ
الْقُرَّاءَ، يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ
بِاللَّيْلِ. فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ
مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَقَنَتَ
شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي
لِحْيَانَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ
أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا: أَلاَ بَلِّغُوا
عَنَّا قَوْمَنَا، بِأَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا,
فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا. ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ
بَعْدُ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة
المشدّدة قال: (حدّثنا ابن أبي عدي) محمد بن إبراهيم أبو
عمرو السلمي البصري (وسهل بن يوسف) الأنماطي كلاهما (عن
سعيد) هو ابن أبي عروبة البصري (عن قتادة) بن دعامة (عن
أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أتاه رعل) بكسر الراء وسكون العين ابن خالد بن
عوف بن امرئ القيس (وذكوان) بفتح الذال المعجمة ابن ثعلبة
(وعصية) بضم العين وفتح الصاد المهملتين مصغرًا ابن خفاف
(وبنو لحيان) بكسر اللام وفتحها حيّ من هذيل (فزعموا أنهم
قد أسلموا واستمدّوه) عليه الصلاة والسلام أي طلبوا منه
المدد (على قومهم
فأمدّهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسبعين
من الأنصار) وكان أميرهم المنذر بن عمرو وقيل مرثد بن أبي
مرثد (قال أنس: كنا نسميهم القرّاء) لكثرة قراءتهم
(يحطبون) بكسر الطاء أي يجمعون الحطب (بالنهار) يشترون به
الطعام لأهل الصفة (ويصلّون بالليل فانطلقوا بهم حتى بلغوا
بئر معونة)، بفتح الميم وضم العين المهملة وسكون الواو
بعدها نون موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان (غدروا بهم
وقتلوهم) وكان ذلك في صفر من السنة الرابعة لكن قوله وبنو
لحيان وهم كما نبّه عليه الدمياطي لأن بني لحيان ليسوا
أصحاب بئر معونة وإنما هم أصحاب الرجيع الذين قتلوا عاصمًا
وأصحابه وأسروا خبيبًا وكذا قوله: أتاه رعل وذكوان وعصية
وهو أيضًا وإنما أتاه أبو براء من بني كلاب، وأجار أصحاب
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخفر جواره
عامر بن الطفيل وجمع عليهم هذه القبائل من بني سليم (فقنت)
عليه الصلاة والسلام (شهرًا يدعو على رعل
(5/177)
وذكوان وبني لحيان) فشرك بين بني لحيان
وعصية وغيرهم فى الدعاء لأن خبر بئر معونة وخبر أصحاب
الرجيع جاء إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
ليلة واحدة.
(قال قتادة) بن دعامة: (وحدّثنا أنس أنهم قرؤوا بهم قرآنًا
ألا) بتخفيف اللام (بلغوا قومنا) ولأبي ذر عن الكشميهني:
بلغوا عنّا قومنا (بأنّا قد لقينا ربنا فرضي عنّا وأرضانا
ثم رفع ذلك بعد) بالبناء على الضم لقطعه عن الإضافة ولأبي
ذر بعد ذلك أي نسخت تلاوتها.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في الطب أيضًا والمغازي، وأخرجه
مسلم في الحدود والنسائي في الطهارة والحدود والطب
والمحاربة.
185 - باب مَنْ غَلَبَ الْعَدُوَّ، فَأَقَامَ عَلَى
عَرْصَتِهِمْ ثَلاَثًا
(باب من غلب العدوّ فأقام على عرصتهم) بفتح العين والصاد
المهملتين بينهما راء أي بقعتهم الواسعة التي لا بناء بها
من دار وغيرها (ثلاثًا).
3065 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ
حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ
قَتَادَةَ قَالَ: "ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ
أَبِي طَلْحَةَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ
عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ".
تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الأَعْلَى: "حَدَّثَنَا
سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
[الحديث 3065 - طرفه في: 3976].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الرحيم) صاعقة قال: (حدّثنا
روح بن عبادة) بفتح راء روح وضم عين عبادة وتخفيف الموحدة
قال: (حدّثنا سعيد) هو ابن أبي عروبة (عن قتادة) بن دعامة
أنه (قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة -رضي الله
عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه
كان إذا ظهر على قوم) أي غلبهم (أقام بالعرصة) التي لهم
(ثلاث ليالٍ). لأن الثلاث أكثر ما يستريح المسافر فيها أو
لقلة احتفاله بهم كأنه يقول نحن مقيمون فإن كانت لكم قوّة
فهلمّوا إلينا. وقال ابن المنير: ولعل المقصود
بالإقامة تبديل السيئات وإذهابها بالحسنات وإظهار عزّ
الإسلام في تلك الأرض كأنه يضيفها بما يوقعه فيها من
العبادات والأذكار لله اظهار شعائر المسلمين:
وإذا تأملت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الأنام وتسعد
وإذا كان ذلك في حكم الضيافة ناسب أن يقيم عليها ثلاثًا
لأن الضيافة ثلاث. (تابعه) أي تابع روح بن عبادة (معاذ) هو
ابن عبد الأعلى العنبري فيما وصله الإسماعيلي (وعبد
الأعلى) هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة فيما وصله مسلم
قالا: (حدّثنا سعيد) هو ابن أبي عروبة (عن قتادة عن أنس عن
أبي طلحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
ولفظ مسلم لما كان يوم بدر وظهر عليهم نبي الله الحديث وقد
أخرج البخاري الحديث في المغازي في غزوة بدر عن شيخ آخر عن
روح بأتم من هذا السياق.
186 - باب مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ
وَسَفَرِهِ
وَقَالَ رَافِعٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَبْنَا
غَنَمًا وَإِبِلاً، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ
بِبَعِيرٍ.
(باب من قسم الغنيمة في غزوه وسفره. وقال رافع): هو ابن
خديج مما وصله في الذبائح (كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذي الحليفة) هو ميقات أهل المدينة
كما قاله النووي زاد مسلم كالبخاري في باب من عدل عشرًا من
الغنم بجزور من تهامة وهو يرد على النووي كما مر في الشركة
(فأصبنا غنمًا وإبلاً)، ولأبي ذر إبلاً وغنمًا زاد في
الشركة فعجل القوم فأغلوا بها القدور فجاء رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأمر بها فأكفئت
(فعدل) بتخفيف الدال المهملة أي قوّم (عشرة) بتاء التأنيث،
لكن قال ابن مالك: لا يجوز إثباتها ولأبي الوقت كل عشرة
وفي نسخة بالفرع وأصله عشرًا (من الغنم ببعير) أي جعلها
معادلة له.
3066 - حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا
هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَهُ قَالَ:
"اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِنَ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ
حُنَيْنٍ".
وبه قال: (حدّثنا هدبة بن خالد) بضم الهاء وسكون الدال
المهملة وفتح الموحدة ابن الأسود القيسي قال: (حدّثنا
همام) بتشديد الميم ابن يحيى العوذي بفتح العين المهملة
وسكون الواو وكسر الذال المعجمة (عن قتادة) بن دعامة (أن
أنسًا أخبره قال: اعتمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من الجعرانة) بسكون العين وهي ما بين الطائف
ومكة (حيث قسم غنائم حنين) بالتنوين وادٍ بينه وبين مكة
ثلاثة أميال.
ومطابقة الحديث لما ترجم به غير خفية وفي الحديث جواز قسم
الغنائم بدار الحرب وأنه راجع إلى رأي الإمام فيقسم عند
الحاجة ويؤخر إذا رأى في المسلمين غنى، ومنع أبو حنيفة
القسمة في دار الحرب واحتجوا له بأن الملك لا يتم إلا
بالاستيلاء ولا يتم الاستيلاء إلا بإحرازها في دار
الإسلام.
187 - باب إِذَا غَنِمَ الْمُشْرِكُونَ مَالَ الْمُسْلِمِ
ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُسْلِمُ
3067 - وقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-
قَالَ: "ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ،
فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي
زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. وَأَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ،
فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". [الحديث 3067 - طرفاه في:
3068، 3069].
هذا (باب) بالتنوين (إذا غنم المشركون) المحاربون (مال
المسلم ثم وجده المسلم) بعد استيلاء المسلمين عليهم هل
يأخذه لأنه أحق به أو يكون من الغنيمة
(5/178)
(قال) ولأبي ذر وقال (ابن نمير): عبد الله
الهمداني الكوفي مما وصله أبو داود (حدّثنا عبيد الله) بضم
العين مصغرًا ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب
القرشي العدوي المدني (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر
-رضي الله عنهما-) أنه (قال: ذهب فرس له فأخذه العدوّ) من
أهل الحرب، ولأبي ذر عن الكشميهني: ذهبت بزيادة تاء
التأنيث فأخذها بتأنيث الضمير لأن الفرس اسم جنس يذكر
ويؤنث (فظهر عليه) أي غلب على العدو (المسلمون فردّ عليه)
الفرس (في زمن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وأبق) أي هرب (عبد له) أي لابن عمر يوم اليرموك
كما عند عبد الرزاق (فلحق بالروم فظهر عليهم المسلمون
فردّه) أي العبد (عليه) على ابن عمر (خالد بن الوليد بعد
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في زمن أبي
بكر الصدّيق والصحابة متوافرون من غير نكير منهم، وفيه
دليل للشافعية وجماعة على أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة
شيئًا من مال المسلمين ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها.
وعند مالك وأحمد وآخرين إن وجده مالكه قبل القسمة فهو أحق
به وإن وجده بعدها فلا يأخذه إلا بالقيمة رواه الدارقطني
من حديث ابن عباس مرفوعًا لكن إسناده ضعيف جدًّا، وبذلك
قال أبو حنيفة: إلا في الآبق فقال: مالكه أحق به مطلقًا.
3068 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ
أَنَّ عَبْدًا لاِبْنِ عُمَرَ أَبَقَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ،
فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَدَّهُ
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ. وَأَنَّ فَرَسًا لاِبْنِ عُمَرَ
عَارَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ فَرَدُّوهُ
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ".
قَالَ أَبُو عَبْدُ اللهِ: عَارَ مُشْتَق مِنْ العَير،
وهوَ حِمَارُ وَحش، أيْ هَرَب.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بندار العبدي البصري قال:
(حدّثنا بحيى) بن سعيد القطان (عن عبيد الله) العمري أنه
(قال: أخبرني) بالإفراد (نافع أن عبدًا لابن عمر) -رضي
الله عنهما- (أبق فلحق بالروم، فظهر عليه) أي على الآبق
(خالد بن الوليد فردّه على عبد الله. وأن فرسًا لابن عمر)
أيضًا (عار) بعين وراء مخففة مهملتين بينهما ألف أي انطلق
هاربًا على وجهه (فلحق بالروم فظهر عليه) خالد (فردّوه)
وفي نسخة فردّه (على عبد الله). أي بعد موت النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال أبو عبد الله)
البخاري: (عار مشتق من العير)، بفتح العين وسكون التحتية
(وهو حمار وحش، أي هرب). يريد أنه فعل فعله من النفار
والهرب وقال الطبري يقال ذلك للفرس إذا فعله مرة بعد مرة
وسقط لغير أبوي ذر والوقت قوله قال أبو عبد الله إلخ.
3069 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: "أَنَّهُ كَانَ عَلَى
فَرَسٍ يَوْمَ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرُ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا
هُزِمَ الْعَدُوُّ رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ".
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) التميمي اليربوعي الكوفي
قال: (حدّثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي الكوفي (عن موسى
بن عقبة) صاحب المغازي (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله
عنهما- أنه كان على فرس يوم لقي المسلمون) بحذف المفعول.
قال الكرماني: أي كفار الروم، وعند الإسماعيلي في روايته
عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة وأبي نعيم من طريق أحمد بن
يحيشى الحلواني كلاهما عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه
بلفظ يوم لقي المسلمون ظبيًا وأسدًا فاقتحم الفرس بعبد
الله بن عمر جرفًا فصرعه وسقط عبد الله فعار الفرس فأخذه
العدوّ، (وأمير المسلمين يومئذٍ خالد بن الوليد) -رضي الله
عنه- (بعثه أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- في زمن خلافته
(فأخذه) أي الفرس (العدوّ فلما هزم العدوّ) بضم الهاء
مبنيًّا للمفعول والعدوّ رفع نائب عن الفاعل، وفي نسخة:
هزم العدوّ بفتح الهاء مبنيًّا للفاعل أي هزم الله العدو
(ردّ خالد فرسه) عليه. وقد صرّح في هذه الرواية بأن قصة
الفرس كانت في زمن أبي بكر، وفي رواية ابن نمير الأولى
أنها كانت في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وقصة العبد بعده، وخالفه يحيى القطان فجعلهما
معًا بعده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكن وافق
ابن نمير إسماعيل بن زكريا كما عند الإسماعيلي وصححه
الداودي وأنه كان في غزوة مؤتة. قال: وعبيد الله أثبت في
نافع من موسى بن عقبة.
188 - باب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ
وَالرَّطَانَةِ
وَقَوْلِهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاخْتِلاَفُ
أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] وَقَالَ:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ
قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].
(باب من تكلم بالفارسية) أي باللغة الفارسية (والرطانة)
بفتح الراء ويجوز كسرها وهي التكلم بلسان العجم (وقوله
تعالى): بالجر عطفًا على السابق، ولأبي ذر (وقول الله عز
وجل: {واختلاف ألسنتكم}) أي: ومن آيات الله اختلاف لغاتكم
أو أجناس نطقكم وأشكاله خالف جلّ وعلا بين هذه الأشياء حتى
لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ولا جهارة ولا
حدّة ولا رخاوة ولا فصاحة ولا لكنة ولا نظم
(5/179)
ولا أسلوب ولا غير ذلك من صفات النطق
وأحواله ({وألوانكم}) بياض الجلد وسواده أو تخطيطات
الأعضاء وهيئاتها وألوانها ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا
فلو اتفقت
وتشاكلت وكانت ضربًا واحدًا لوقع التجاهل والالتباس
ولتعطلت مصالح كثيرة ({وما أرسلنا}) ولأبي ذر وقال وما
أرسلنا ({من رسول إلاّ بلسان قومه}) [الروم: 22] فيه إشارة
إلى أن نبينا محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كان عارفًا بجميع الألسنة لشمول رسالته الثقلين على اختلاف
ألسنتهم ليفهم عنهم ويفهموا عنه.
3070 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو
عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ
أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ:
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا
وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَتَعَالَ أَنْتَ
وَنَفَرٌ. فَصَاحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ
جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّهَلاً بِكُمْ".
[الحديث 3070 - طرفاه في: 4101، 4102].
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم أبو
حفص الباهلي البصري قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد
النبيل البصري قال: (أخبرنا حنظلة ابن أبي سفيان) الجمحي
القرشي قال: (أخبرنا سعيد بن ميناء) بكسر الميم وسكون
التحتية وبالنون ممدودًا ويقصر أبو الوليد المكي (قال:
سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- قال:
قالت): يوم الخندق (يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا) بضم
الموحدة وفتح الهاء. سكون التحتية مصغر بهمة بإسكان الهاء
ولد الضأن الذكر والأنثى (وطحنت) بسكون النون (صاعًا من
شعير) وفي رواية وطحنت بسكون التاء أي امرأته فقوله هنا
وطحنت أي أمرتها أن تطحن (فتعال أنت ونفر). أي ومعك نفر
(فصاح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(يا أهل الخندق إن جابرًا قد صنع سؤرًا)، بضم السين
المهملة وإسكان الواو من غير همز وفي اليونينية بالهمز هو
بالفارسية أي طعامًا دعا إليه الناس (فحيَّهلا بكم).
بتخفيف اللام منونة أي فأقبلوا وأسرعوا أهلاً بكم أتيتم
أهلكم وفي اليونينية بالتشديد من غير تنوين، وهذا موضع
الترجمة.
3071 - حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ:
"أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مَعَ أَبِي وَعَلَىَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
سَنَهْ سَنَهْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهْيَ
بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ
بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي. قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: دَعْهَا.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي
وَأَخْلِفِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى دكن". [الحديث 3071 - أطرافه
في: 3874، 5823، 5845، 5993].
وبه قال: (حدّثنا حبان بن موسى) بكسر الحاء المهملة وتشديد
الموحدة وبالنون أبو محمد السلمي المروزي قال: (أخبرنا عبد
الله) بن المبارك (عن خالد بن سعيد عن أبيه) سعيد بن عمرو
بن سعيد بن العاص (عن أم خالد) اسمها أمة بفتح الهمزة (بنت
خالد بن سعيد) الأموية أنها (قالت: أتيت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أبي وعليّ قميص أصفر قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(سنه سنه) بفتح السين المهملة وكسرها القابسي وسكون الهاء
فيهما ولأبي ذر سناه سناه بألف بعد النون فيهما، وحكى ابن
قرقول تشديد النون لغير أبي ذر.
(قال عبد الله) أي ابن المبارك، وقال الكرماني وفي بعضها
أي النسخ أبو عبد الله أي البخاري وسقط في بعضها قال عبد
الله (وهي) أي سنه (بـ) اللغة (الحبشية حسنة) وهي الرطانة
بغير العربي. (قالت) أم خالد (فذهبت ألعب بخاتم النبوّة)
الذي بين كتفيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(فزبرني) بفتح الفاء والزاي والموحدة والراء أي نهرني (أبي
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(دعها) أي اتركها (ثم قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (أبلي وأخلقي) بهمزة قطع مفتوحة
وكسر اللام وبالقاف في الثاني من أبليت الثوب إذا جعلته
عتيقًا وأخلقي أيضًا من باب الإفعال وهو بمعناه أيضًا،
وجاز أن يكونا من الثلاثي وليس قوله أخلقي بعد أبلي عطف
الشيء على نفسه لأن في المعطوف تأكيدًا وتقوية ليس في
المعطوف عليه كقوله تعالى: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4 - 5] أو معنى أخلقي خرقي
ثيابك وارقعيها، ولأبي ذر والمروزي: وأخلقي بالفاء. قال
ابن الأثير: بمعنى العوض والبدل أي اكتسي خلفه بعد بلائه
يقال: خلف الله وأخلف بالهمز أي جعلك الله ممن يخلفه عليك
بعد ذهابه وتمزقه (ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي) ثلاثًا
والذي في اليونينية أخلفي بالفاء في الثلاثة لا بالقاف.
(قال عبد الله) بن المبارك (فبقيت) أي أم خالد (حتى دكن)
أي الثوب بدال مهملة مفتوحة وكاف مفتوحة وتكسر ونون
للكشميهني ورجحه أبو ذر أي اسودّ لونه من كثرة ما لبس من
الدكنة وهي غبرة كدرة، وللمستملي والحموي حتى ذكر بالذال
المعجمة المفتوحة والراء بدل المهملة والنون مبنيًّا
للفاعل، وعند ابن الدكن ذكر دهرًا وهو تفسير لرواية من روى
ذكر وكأنه أراد بقي هذا القميص
(5/180)
مدة من الزمان طويلة نسيها الراوي فعبر
عنها بقوله ذكر دهرًا أي زمانًا طويلاً نسيت تحديده ففي
ذكر على هذا ضمير يرجع إلى الراوي أي ذكر الراوي دهرًا نسي
الذي روى عنه تحديده، وقيل في ذكر ضمير القميص أي بقي هذا
القميص حتى ذكر دهرًا مجازًا. وقال الكرماني وفي بعضها
ذكرت بلفظ المعروف أي بقيت حتى ذكرت دهرًا طويلاً وفي
بعضها حتى ذكرت بلفظ المجهول أي حتى صارت مذكورة عند الناس
لخروجها عن العادة اهـ.
وقال في المصابيح: والضمير في بقيت عائد على الخميصة فذكّر
وأنّث باعتبارين إذ المراد بالقميص هو الخميصة وأحسن من
هذا أن يعود ضمير المؤنث على أم خالد وضمير المذكر على
القميص.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في اللباس والأدب وأخرجه
أبو داود في اللباس.
3072 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه "أَنَّ الْحَسَنَ
بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ
فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْفَارِسِيَّةِ: كِخْ،
كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ"؟
وبه قال: (حدثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة والشين
المعجمة المشددة بندار العبدي البصري قال: (حدّثنا غندر)
محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن محمد بن
زياد) بكسر الزاي وتخفيف التحتية أبي الحرث القرشي البصري
لا الألهاني (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الحسن بن
علي) -رضي الله عنهما- (أخذ تمرة من تمر الصدّقة فجعلها في
فيه، فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
بالفارسية): (كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة)، بفتح
الكاف وكسرها وسكون الخاء المعجمة وكسرها منوّنة فيهما
كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات يقال له: كخ أي
اتركها وارم بها وهي كلمة أعجمية عرّبت، ولذا أدخلها
المؤلّف عليّ هذا الباب قاله الداودي. وقال ابن المنير:
وجه مناسبته أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خاطبه بما يفهمه مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل فهو
كمخاطبة الأعجمي بما يفهمه من لغته، ومقصود البخاري من
إدراج هذا الباب في الجهاد أن الكلام بالفارسية يحتاج إليه
المسلمون لأجل رسل العجم، وسقط قوله بالفارسية في بعض
الأصول وضبب عليها في الفرع كأصله، وهذا الحديث قد سبق في
الزكاة.
189 - باب الْغُلُولِ، وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ} [آل عمران: 161]
(باب) حرمة (الغلول) بضم الغين المعجمة واللام مطلق
الخيانة أو في الفيء خاصة قال في المشارق كل خيانة غلول
لكنه صار في عرف الشرع الخيانة في المغنم وزاد في النهاية
قيل القسمة اهـ.
فإن كان الغلول مطلق الخيانة فهو أعمّ من السرقة وإن كان
من المغنم خاصة فبينه وبينها عموم وخصوص من وجه، ونقل
النووي الإجماع على أنه من الكبائر. (وقول الله تعالى):
بالجر عطفًا على السابق ولأبي ذر: عز وجل بدل قوله تعالى:
({ومن يغلل يأت بما غل}) [آل عمران: 161] وعيد شديد وتهديد
أكيد تأتي في التفسير إن شاء الله تعالى مباحثه.
3073 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
أَبِي حَيَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو زُرْعَةَ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَامَ
فِينَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ،
قَالَ: لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، يَقُولُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ
شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ
لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي،
فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا،
قَدْ أَبْلَغْتُكَ. أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ
تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي،
فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ".
وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ "فَرَسٌ لَهُ
حَمْحَمَة".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
القطان (عن أبي حيان) بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية
يحيى بن سعيد التيمي أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو
زرعة) هرم بن عمرو بن جرير البجلي الكوفي (قال: حدّثني)
بالإفراد أيضًا (أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قام فينا
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر الغلول)
وهو الخيانة في المغنم كما مر (فعظمه وعظم أمره قال):
ولأبي الوقت فقال:
(لا ألقين أحدكم) بفتح الهمزة والقاف من اللقاء ولأبي ذر
عن الكشميهني: لا ألفين بفتح الهمزة والفاء وبضم الهمزة
وكسر الفاء من الإلفاء وهو الوجدان وهو بلفظ النفي المؤكد
بالنون والمراد به النهي وهو مثل قولهم: لا أرينك هاهنا
وهو مما أقيم فيه المسبب مقام السبب والأصل لا تكن هاهنا
فأراك، وتقديره في الحديث لا يغل أحدكم فألفية أي أجده
(يوم القيامة على رقبته شاة لها ثناء) بمثلثة مضمومة فغين
معجمة مخففة فألف ممدودة صوت الشاة، وقول ابن المنير: وما
أظن أهل السياسة فهموا تجريس السارق وعملته على رقبته ونحو
هذا إلا من هذا الحديث، تعقبه في المصابيح بانه لا يلزم من
وقوع ذلك في الدار الآخرة جواز فعله في الدنيا لتباين
الداريز وعدم استواء المنزلتين (على رقبته فرس له حمحمة)
بفتح الحاءين المهملتين بينهما ميم ساكنة وبعد الأخيرة ميم
أخرى مفتوحة صوت الفرس إذا
(5/181)
طلب علفه وهو دون الصهيل وسقط للكشميهني
لفظ فرس وكذا في رواية ابن شبويه والنسفيّ (يقول: يا رسول
الله أغثني فأقول) له (لا أملك لك شيئًا)، من المغفرة
ولابن عساكر لا أملك لك من الله شيئًا وسقط للحموي
والمستملي لفظة لك (قد أبلغتك) حكم الله فلا عذر لك بعد
الإبلاع وهذا غاية في الزجر وإلا فهو عليه السلام صاحب
الشفاعة في المذنبين (وعلى رقبته بعير له رغاء) بضم الراء
وتخفيف الغين المعجمة ممدودًا صوت البعير (يقول: يا رسول
الله أغثني، فأقول): له (لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك) حكم
الله (وعلى رقبته صامت) أي ذهب أو فضة (فيقول: يا رسول
الله أغثني، فأقول) له (لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك) حكم
الله (أو) بألف قبل الواو وسقطًا معًا لأبي ذر (على رقبته
رقاع) بكسر الراء وفتح القاف وبعد الألف عين مهملة جمع
رقعة (تخفق) بكسر الفاء أي تتقعقع وتضطرب إذا حركتها
الرياح أو تلمع يقال: أخفق الرجل بثوبه إذا لمع، وقال
الحميدي وتبعه الزركشي وغيره أراد ما عليه من الحقوق
المكتوبة في الرقاع، وتعقبه ابن الجوزي بأن الحديث سيق
لذكر الغلول الحسّي فحمله على الثياب أنسب (فيقول: يا رسول
الله أغثني، فأقول): له (لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك).
وحكمة الحمل المذكور فضيحة الحامل على رؤوس الأشهاد في ذلك
الموقف العظيم. وقال بعضهم هذا الحديث يفسر قوله تعالى:
{ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة} [آل عمران: 161] أي
يأت به حاملاً له على رقبته. (وقال أيوب) السختياني فيما
وصله مسلم (عن أبي حيان) يحيى بن سعيد المذكور (فرس له
حمحمة) كما في الرواية الأولى عن غير الكشميهني وابن شبويه
والنسفيّ.
190 - باب الْقَلِيلِ مِنَ الْغُلُولِ
وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ
حَرَّقَ مَتَاعَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ.
(باب) حكم (القليل من الغلول) هل هو مثل حكم الكثير أم لا
(ولم يذكر عبد الله بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم في
حديث هذا الباب (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه حرق متاعه) أي متاع الرجل بالحاء المهملة
في حرّق. قال البخاري: (وهذا) الحديث المذكور (أصح). من
الحديث المروي عند أبي داود من طريق صالح بن محمد بن زائدة
الليثي المدني أحد الضعفاء قال: دخلت مع مسلمة بن عبد
الملك أرض الروم فأتى برجل قد غلّ فسأل سالمًا عنه فقال:
سمعت أبي يحدّث عن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا وجدتم الرجل قد غلّ
فأحرقوا متاعه" قال المؤلّف في التاريخ: يحتجون بهذا
الحديث في إحراق رحل الغالّ وهو باطل ليس له أصل وراويه لا
يعتمد عليه.
3074 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: "كَانَ عَلَى
ثَقَلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هُوَ فِي
النَّارِ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا
عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ:
كَرْكَرَةُ. يَعْنِي بِفَتْحِ الْكَافِ. وَهْوَ مَضْبُوطٌ
كَذَا.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو ابن دينار (عن سالم بن أبي
الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة (عن عبد الله بن
عمرو) هو ابن العاصي أنه (قال: كان على ثقل النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح المثلثة والقاف أي على
عياله وما يثقل حمله من الأمتعة (رجل يقال له: كركرة) بكسر
الكافين في هذه الرواية وبينهما راء ساكنة والراء الأخرى
مفتوحة وكان أسود وكان يمسك دابة رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في القتال وفي شرف المصطفى
أنه كان نوبيًّا أهداه له هوذة بن عليّ الحنفي صاحب
اليمامة (فمات فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(هو في النار) على معصيته إن لم يعف الله عنه (فذهبوا
ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها) من المغنم. (قال أبو
عبد الله): أي البخاري وسقط ذلك لأبي ذر (قال ابن سلام):
بتخفيف اللام محمد شيخ المؤلّف في روايته بهذا الإسناد (عن
ابن عيينة) كركرة يعني بفتح الكاف الأولى والثانية (وهو
مضبوط كذا) قال القاضي عياض هو بفتح الكافين وبكسرهما.
وقال النووي: إنما اختلف في كافه الأولى وأما الثانية
فمكسورة اتفاقًا اهـ.
والذي رأيته في الفرع كأصله كسرهما في الطريق الأولى
وفتحهما في الثانية فالله أعلم.
وسقط قوله قال: أبو عبد الله إلخ لأبي ذر.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله فوجدوا عباءة لأنها قليل
بالنسبة إلى غيرها من الأمتعة والنقدين.
191 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ
فِي الْمَغَانِمِ
(باب ما بكره من ذبح الأبل والغنم في المغانم).
3075 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ
عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعٍ قَالَ:
"كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ،
وَأَصَبْنَا إِبِلاً وَغَنَمًا -وَكَانَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُخْرَيَاتِ
النَّاسِ- فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ
بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ
عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا
بَعِيرٌ، وَفِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةُ، فَطَلَبُوهُ
فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ
فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا
أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ
فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. فَقَالَ جَدِّي: إِنَّا نَرْجُو
-أَوْ نَخَافُ- أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ
مَعَنَا مُدًى؛ أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ: مَا
أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عليهِ فَكُلْ،
لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ. وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ
ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ
فَمُدَى الْحَبَشَةِ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال:
(5/182)
(حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن
سعيد بن مسروق) الثوري والد سفيان الثوري (عن عباية بن
رفاعة) بفتح العين والموحدة ورفاعة بكسر الراء وفتح الفاء
(عن جدّه رافع) هو ابن خديج الأنصاري أنه (قال: كنا مع
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذى الحليفة)
وليس ميقات أهل المدينة ما مرّ قريبًا (فأصاب الناس جوع
وأصبنا إبلاً وغنمًا، وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في أُخريات الناس فعجلوا) بكسر الجيم مخففة
بذبح شيء مما أصابوه بغير إذن (فنصبوا القدور) للطبخ
(فأمر) عليه الصلاة والسلام (بالقدور فأكفئت) أي فقلبت
ونكست ليعلم أن الغنيمة إنما يستحقونها بعد قسمته لها وذلك
أن القصة وقعت في دار الإسلام لقوله فيه بذي الحليفة وليس
لأهل الإسلام أن يأخذوا في أرض الإسلام إلا ما قسم لهم
قاله المهلب، وقال القرطبي: المأمور بإكفائه إنما هو المرق
عقوبة للذين تعجلوا وأما نفس اللحم فلم يتلف بل يحمل على
أنه جمع وردّ إلى المغانم ولا يظن أنه أمر بإتلافه لأنه
مال الغانمين، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة
المال، (ثم قسم) عليه الصلاة والسلام ما أصابوه (فعدل)
بتخفيف الدال (عشرة) بفتح الشين آخره فوقية وفي نسخة عشرًا
بإسكان الشين (من الغنم ببعير فندّ) بالفاء والنون والدال
المهملة المشددة أي نفر (منها بعير وفي القوم خيل يسيرة)
بالمثناة الفوقية آخره كذا لأبي ذر وابن عساكر والأصيلي
ولغيرهم يسير (فطلبوه) أي البعير (فأعياهم) أي أعجزهم
(فأهوى) أي مدّ (إليه رجل) لم يسم وقيل هو رافع الراوي
(بسهم فحبسه الله فقال) عليه الصلاة والسلام:
(هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش) جمع آبدة وهي التي
قد تأبدت أي توحشت ونفرت من الإنس (فما ندّ) نفر (عليكم
فاصنعوا به هكذا). قال عباية (فقال جدي): رافع بن خديج
(إنّا) بتشديد النون (نرجو) أي نخاف والرجاء يأتي بمعنى
الخوف (أو نخاف) شك من الراوي (أن نلقى العدوّ غدًا وليس
معنا مدّى) جمع مدية وهي السكين (أفنذبح بالقصب) قال
الكرماني فإن قلت: ما الغرض من ذكر لقاء العدوّ عند السؤال
عن الذبح بالقصب؟ وأجاب: بأن الغرض أنّا لو استعملنا
السيوف في المذابح لكلّت وعند اللقاء نعجز عن المقاتلة
بها.
(فقال) عليه الصلاة والسلام: (ما أنهر الدم) بالنون
الساكنة بعد الهمزة المفتوحة أي أسأله وأجراه (وذكر اسم
الله) بضم الذال المعجمة وكسر الكاف مبنيًّا للمفعول وزاد
الأربعة عليه (فكُل ليس السن والظفر) كلمة ليس بمعنى إلا
وما بعدها نصب (وسأحدّثكم عن ذلك) أي وسأبيّن لكم العلّة
في ذلك (أما السن فعظم) إذا ذبح به يتنجس بالذم وهو زاد
إخواننا من الجن ولذا نهى عن الاستنجاء به (وأما الظفر
فمدى الحبسة) لأنهم يدمون مذابح الشياه بأظفارهم حتى تزهق
النفس خنقًا وتعذيبًا ويحلّونها محل الذكاة قاله الخطابي.
وقال النووي لأنهم كفار لا يجوز التشبّه بهم وبشعائرهم.
وهذا الحديث سبق في باب قسمة الغنم من كتاب الشركة.
192 - باب الْبِشَارَةِ فِي الْفُتُوحِ
(باب) مشروعية (البشارة في الفتوح).
3076 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ
قَالَ: قَالَ لِي جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله
عنه-: "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي
الْخَلَصَةِ؟ وَكَانَ بَيْتًا فِيهِ خَثْعَمُ يُسَمَّى
كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةَ. فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ
وَمِائَةٍ مِنْ أَحْمَسَ -وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ-
فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنِّي لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ
فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي
صَدْرِي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ
هَادِيًا مَهْدِيًّا. فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا
وَحَرَّقَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُبَشِّرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ
جَرِيرٍ لِرَسُولِ اللهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا
كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ. فَبَارَكَ عَلَى خَيْلِ
أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ". وَقَالَ
مُسَدَّدٌ: "بَيْتٌ فِي خَثْعَمَ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي قال: (حدّثنا
يحيى) القطان قال: (حدّثنا إسماعيل) بن خالد الأحمسي
البجلي الكوفي (قال: حدّثني) بالإفراد (قيس) هو ابن أبي
حازم (قال: قال لي جرير بن عبد الله) البجلي (-رضي الله
عنه- قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام ومعناها العرض والتحضيض
وتختص بالجملة الفعلية (تريحني)
من الإراحة بالراء والحاء المهملة (من ذي الخلصة) بالخاء
المعجمة واللام والصاد المهملة المفتوحات (وكان بيتًا فيه
خثعم) بفتح الخاء المعجمة وسكون المثلثة وفتح العين
المهملة قبيلة من اليمن (يسمى كعبة اليمانية) بخفض التاء
لأبي ذر وتخفيف الياء على المشهور لأن الألف بدل من إحدى
ياءي النسب، وهو من إضافة الموصوف إلى الصقة وقدر فيه
البصريون حذفًا تقديره كعبة الجهة اليمانية، وطلب ذلك عليه
الصلاة والسلام لأنه كان فيه صنم يعبدونه من دون الله اسمه
الخلصة.
(5/183)
قال جرير: (فانطلقت) أي قبل وفاته عليه
الصلاة والسلام بشهرين (في خمسين ومائة من) رجال (أحمس)
بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وبعد الميم المفتوحة سين
مهملة قبيلة جرير (-وكانوا أصحاب خيل- فأخبرت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إني لا أثبت على
الخيل فضرب) عليه الصلاة والسلام (في صدري) بيده الشريفة
لأن فيه القلب (حتى رأيت أثر أصابعه في صدري فقال): (اللهم
ثبّته)، فلم يسقط بعد ذلك عن فرس (واجعله هاديًا) إشارة
إلى قوة التكميل وإلى قوة الكمال بقوله (مهديًّا) بفتح
الميم وهو من باب التقديم والتأخير لأنه لا يكون هاديًا
لغيره إلا لغيره إلا بعد أن يهتدي هو فيكون مهديًّا
(فانطلق) جرير (إليها) أي إلى ذي الخلصة (فكسرها وحرقها)
بتشديد الراء (فأرسل إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) حصين بن ربيعة ويكنى أبا أرطأة الأحمسي
(يبشره) من الأحوال المقدّرة وهذا موضع الترجمة (فقال رسول
جرير): حصين (يا رسول الله) ولأبي ذر لرسول الله يا رسول
الله (والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل
أجرب) شبّهها حين ذهب سقفها وكسوتها فصارت سوداء من
الإحراق بالجمل الذي زال شعره ونقص جلده من الجرب وصار إلى
الهزال (فبارك) عليه الصلاة والسلام (على خيل أحمس و) على
(رجالها) أي دعا بالبركة لها (خمس مرات. قال) ولأبي ذر
وقال (مسدد) هو ابن مسرهد في روايته لهذا الحديث عن يحيى
القطان بالإسناد المذكور آنفًا بدل قوله في رواية محمد بن
المثنى بيتًا فيه خثعم (بيت في خثعم). وصوّب هذه الرواية
محققو الحفاظ ويؤيد ذلك ما رواه أحمد في مسنده عن يحيى
بلفظ بيتًا لخثعم.
وحديث الباب قد مرّ في باب حرق الدور والنخيل من كتاب
الجهاد قريبًا.
193 - باب مَا يُعْطَى الْبَشِيرُ وَأَعْطَى كَعْبُ بْنُ
مَالِكٍ ثَوْبَيْنِ حِينَ بُشِّرَ بِالتَّوْبَةِ
(باب ما يعطى للبشير وأعطى كعب بن مالك) السلمي المدني أحد
الثلاثة الذين تيب عليهم وأحد السبعين الذين شهدوا العقبة
(ثوبين حين بشر بالتوبة) أي حين بشره سلمة بن الأكوع كذا
في فتح الباري، وتبعه العيني أن المبشر سلمة بن الأكوع وفي
المقدمة في المغازي إن الذي بشر كعبًا بتوبته وسعى إليه
حمزة بن عمرو الأسلمي، وكذا هو في المصابيح لا ابن الأكوع
أي بشره بقبول توبته لأجل تخلّفه عن غزوة تبوك وسيأتي ذلك
إن شاء الله تعالى في حديثه الطويل في غزوة تبوك من
المغازي بعون الله.
194 - باب لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ
هذا (باب) بالتنوين (لا هجرة بعد الفتح) أي فتح مكة.
3077 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا
شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ
فَتْحِ مَكَّةَ: لاَ هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ
وَنِيَّةٌ. وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".
وبه قال: (حدّثنا آدم بن أبي إياس) بكسر الهمزة وتخفيف
التحتية قال: (حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن النحوي (عن
منصور) هو ابن المعتمر (عن مجاهد) هو ابن جبر (عن طاوس)
اليماني (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم فتح مكة):
(لا هجرة)، من مكة (ولكن جهاد ونية). أي الهجرة بسبب
الجهاد في سبيل الله والهجرة بسبب النية الخالصة لله عز
وجل كطلب العلم والفرار من الفتن باقيان مدى الدهر (وإذا
استنفرتم) بضم الفوقية وكسر الفاء (فانفروا): بكسر الفاء
الثانية أي إذا طلب منكم الخروج إلى الغزو فاخرجوا.
وهذا الحديث قد مرّ في أول كتاب الجهاد.
3078 و 3079 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى
أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ
أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ: "جَاءَ مُجَاشِعٌ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ
بْنِ مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: هَذَا مُجَالِدٌ يُبَايِعُكَ عَلَى
الْهِجْرَةِ. فَقَالَ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ
مَكَّةَ، وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلاَمِ".
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) بن يزيد الفراء الرازي
المعروف بالصغير قال: (أخبرنا يزيد بن زريع) بضم الزاي
مصغرًا (عن خالد) الحذاء (عن أبي عثمان) عبد الرحمن) بن مل
(النهدي) بفتح النون (عن مجاشع بن مسعود) بضم الميم بعد
الجيم ألف فشين معجمة مكسورة فعين مهملة السلمي أنه (قال:
جاء مجاشع باخيه مجالد بن مسعود) بميم مضمومة فجيم مخففة
آخره دال مهملة (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بعد الفتح (فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة
فقال) عليه الصلاة والسلام:
(لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام). زاد في
باب البيعة في الحرب أن لا يفروا من طريق عاصم عن أبي
عثمان والجهاد أي إذا احتيج إليه.
3080 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو وَابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ
عَطَاءً يَقُولُ: ذَهَبْتُ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ
إِلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها- وَهْيَ مُجَاوِرَةٌ
بِثَبِيرٍ، فَقَالَتْ لَنَا: انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ
مُنْذُ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ". [الحديث 3080 - طرفاه في:
3900، 4312].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال عمرو) هو ابن دينار (وابن جريج) عبد
الملك
(5/184)
أي قال كل منهما (سمعت عطاء) هو ابن أبي
رباح (يقول: ذهبت مع عبيد بن عمير) بضم العين فيهما على
التصغير ابن قتادة الليثي قاصّ مكة (إلى عائشة -رضي الله
عنها- وهي مجاورة بثبير) بفتح المثلثة وكسر الموحدة وبعد
التحتية الساكنة راء بالصرف لغير أبي ذر وعدمه له جبل عظيم
بالمزدلفة على يسار الذاهب منها إلى منى (فقالت لنا:
انقطعت الهجرة) من مكة (منذ) بالنون ولأبي ذر: مذ (فتح
الله على نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة)
لأن المؤمنين كانوا يفرون بدينهم إلى الله وإلى رسوله
مخافة أن يفتنوا في دينهم وأما بعد فتحها فقد أظهر الله
الإسلام والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد ونيّة كما
مرّ.
195 - باب إِذَا اضْطَرَّ الرَّجُلُ إِلَى النَّظَرِ فِي
شُعُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُؤْمِنَاتِ إِذَا
عَصَيْنَ اللَّهَ، وَتَجْرِيدِهِنَّ
هذا (باب) بالتنوين (إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل
الذمة) بضم طاء اضطر كما في اليونينية وجواب إذا محذوف
تقديره يجوز للضرورة (و) إذا اضطر الرجل إلى النظر إلى
(المؤمنات إذا عصين الله و) إذا اضطر أيضًا إلى (تجريدهنّ)
من الثياب.
3081 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَوْشَبٍ الطَّائِفِيُّ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا
حُصَيْنٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ وَكَانَ عُثْمَانِيًّا، فَقَالَ لاِبْنِ
عَطِيَّةَ وَكَانَ عَلَوِيًّا: إِنِّي لأَعْلَمُ مَا
الَّذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، سَمِعْتُهُ
يَقُولُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ
كَذَا، وَتَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ
كِتَابًا. فَقُلْنَا: الْكِتَابَ. قَالَتْ: لَمْ
يُعْطِنِي. فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ أَوْ
لأُجَرِّدَنَّكِ. فَأَخْرَجَتْ مِنْ حُجْزَتِهَا.
فَأَرْسَلَ إِلَى حَاطِبٍ. فَقَالَ: لاَ تَعْجَلْ،
وَاللَّهِ مَا كَفَرْتُ وَلاَ ازْدَدْتُ لِلإِسْلاَمِ
إِلاَّ حُبًّا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ
إِلاَّ وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ
أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ،
فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا.
فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ،
فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ: ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ
اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا
مَا شِئْتُمْ. فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَهُ".
وبه قال: (حدّثنا) ولغير أبي ذر حدّثني بالإفراد (محمد بن
عبد الله بن حوشب) بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وفتح
الشين المعجمة آخره موحدة مصروف (الطائفي) قال: (حدّثنا
هشيم) بضم الهاء وفتح المعجمة ابن بشير الواسطي قال:
(أخبرنا حصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن عبد
الرحمن السلمي (عن سعد بن عبيدة) بسكون عين الأول وتصغير
الثاني أبي حمزة السلمي (عن أبي عبد الرحمن) عبد الله
السلمي (وكان) أي أبو عبد الرحمن (عثمانيًّا) يقدم عثمان
بن عفان على
عليّ بن أبي طالب في الفضل كما هو مذهب الأكثرين (فقال
لابن عطية): حبان بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة
(وكان) أي ابن عطية (علويًّا) يقدم عليًّا على عثمان في
الفضل كما هو مذهب قوم من أهل السُّنَّة بالكوفة (إني
لأعلم ما الذي جرأ) بالجيم المفتوحة والراء المشددة
والهمزة أي جسر (صاحبك) عليًّا (على الدماء) وهذه العبارة
فيها سوء أدب، فقد كان عليّ -رضي الله عنه- على أعلى درجات
الفضل والعلم لا يقتل أحدًا إلا باستحقاق (سمعته يقول:
بعثني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والزبير)
بن العوّام -رضي الله عنه- (فقال):
(ائتوا روضة كذا)، هي روضة خاخ كما في باب الجاسوسية
(وتجدون بها امرأة) اسمها سارة بالسين المهملة والراء
(أعطاها حاطب) بالحاء والطاء المهملتين ابن أبي بلتعة
(كتابًا) (فأتينا الروضة) المذكورة (فقلنا): لها هات
(الكتاب) الذي أعطاه لك حاطب (قالت: لم يعطني) حاطب كتابًا
(فقلنا: لتخرجن) بلام مفتوحة للتأكيد وضم الفوقية وكسر
الراء والجيم وتشديد النون أي لتخرجن الكتاب (أو لأجردنك)
من ثيابك وأو بمعنى إلا في الاستثناء ولأجردنك نصب بأن
المقدرة يعني لتخرجن الكتاب إلا أن تجردي كما في قوله:
لأقلتنك أو تسلم أي إلا أن تسلم، وهذا مطابق لما في
الترجمة من قوله وتجريدهن ولما كانت هذه المرأة ذات عهد
كان حكمها حكم أهل الذمة. (فأخرجت من حجزتها) بضم الحاء
المهملة وإسكان الجيم وبالزاي معقد إزارها الكتاب، وفي باب
الجاسوس فأخرجته من عقاصها وهي شعورها المضفورة، وهذا
مناسب لقوله في الترجمة إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور
أهل الذمة لأنه من لازم رؤيتهم لإخراج الكتاب من عقاصها
نظرهم إلى شعرها ولا تنافي بين قوله هنا من حجزتها وقوله
الآخر عقاصها لاحتمال أن تكون أخرجته أوّلاً من حجزتها ثم
أخفته في عقاصها أو بالعكس أو كانت عقيقتها طويلة بحيث تصل
إلى حجزتها فربطته في عقيصتها وغرزته في حجزتها. زاد في
باب الجاسوس فأتينا به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من
المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فأرسل) عليه الصلاة والسلام
(الى حاطب) فلما حضر قال له يا حاطب: "ما هذا"؟ (فقال): يا
رسول الله (لا تعجل) أي عليّ (والله ما كفرت) بعد إسلامي
(ولا ازددت للإسلام إلا حبًّا ولم يكن أحد من أصحابك إلا
وله
(5/185)
بمكة من يدفع الله به عن أهله وماله ولم
يكن لي أحد فأحببت أن أتخذ عندهم يدًا) كلمة أن مصدرية في
محل نصب مفعول أحببت (فصدقه النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال): ولأبي ذر فقال (عمر) بن الخطاب
-رضي الله عنه- يا رسول الله (دعني أضرب عنقه) بجزم أضرب
(فإنه قد نافق) قال ذلك لأنه والى كفار قريش وباطنهم وإنما
فعل ذلك حاطب متأوّلاً في غير ضرر وقد علم الله منه صدق
نيته فنجّاه من ذلك. (فقال) عليه الصلاة والسلام: (ما)
ولأبوي الوقت وذر وما (يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر)
فقال: (اعملوا ما شئتم). أي: فقد غفرت ذنوبكم السالفة
وتأهلتم أن يغفر لكم ذنوب مستأنفة إن وقعت منكم ومعنى
الترجّي كما قاله النووي راجع إلى عمر -رضي الله عنه- لأن
وقوع هذا الأمر محقق عند
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (فهذا) أي
قوله: اعملوا ما شئتم (الذي جرّأه). أي جسر عليًّا -رضي
الله عنه- على الدماء.
وهذا الحديث قد مرّ في باب الجاسوس من غير هذه الطريق بدون
قول أبي عبد الرحمن السلمي لابن عطية.
196 - باب اسْتِقْبَالِ الْغُزَاةِ
(باب استقبال الغزاة) أي عند رجوعهم من غزوهم.
3082 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ وَحُمَيْدُ بْنُ
الأَسْوَدِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لاِبْنِ جَعْفَرٍ -
رضي الله عنهم-: أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَا
وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا
وَتَرَكَكَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود) ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي ابن الأسود وهو عبد الله بن محمد بن حميد
ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي الحافظ وحميد جدّ عبد الله
يكنى أبا الأسود فنسب تارة إلى جده وأخرى إلى جد أبيه قال:
(حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الزاي وفتح الراء مصغرًا (وحميد
بن الأسود) بضم الحاء مصغرًا أبو الأسود البصري صاحب
الكرابيس وهو جدّ عبد الله بن أبي الأسود كلاهما (عن حبيب
بن الشهيد) بفتح الشين المعجمة وكسر الهاء الأزدي الأموي
البصري (عن ابن أبي مليكة) هو عبد الله بن عبيد الله بن
أبي بمليكة واسمه زهير الأحول المكي أنه قال: (قال ابن
الزبير) عبد الله (لابن جعفر) عبد الله (-رضي الله عنهم-:
أتذكر إذا) أي حين (تلقينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنا وأنت وابن عباس؟ قال: نعم). أذكر
ذلك (فحملنا) بفتح اللام عليه الصلاة والسلام أنا وابن
عباس (وتركك) وعند مسلم وأحمد أن عبد الله بن جعفر قال ذلك
لابن الزبير. قال ابن الملقن: والظاهر أنه انقلب على
الراوي كما نبّه عليه ابن الجوزي في جمع المسانيد.
3083 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "قَالَ
السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ - رضي الله عنه-: ذَهَبْنَا
نَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ
الْوَدَاعِ". [الحديث 3083 - طرفاه في: 4426، 4427].
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) بن زياد أبو غسان
النهدي الكوفي قال: (حدّثنا ابن عيينة) سفيان (عن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: قال السائب بن يزيد)
بالسين المهملة ويزيد من الزيادة الكندي (-رضي الله عنه-
ذهبنا نتلقى) بتشديد القاف المفتوحة (رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع الصبيان إلى ثنية الوداع)
أي لما قدم من تبوك كما عند الترمذي.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في المغازي وأبو داود والترمذي في
الجهاد.
197 - باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ
(باب ما يقول) الغازي (إذا رجع من الغزو).
3084 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله
عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلاَثًا قَالَ:
آيِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ،
حَامِدُونَ، لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ. صَدَقَ اللَّهُ
وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ
وَحْدَهُ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
جويرية) بضم الجيم مصغرًا ابن أسماء الضبعي البصري (عن
نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله) بن عمر (-رضي الله عنه-)
وعن أبيه (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كان إذا قفل) بالقاف والفاء واللام المفتوحات أي رجع من
غزوة (كبّر ثلاثًا قال):
(آيبون) بمدّ الهمزة أي نحن راجعون إلى الله (إن شاء الله)
نحن (تائبون) إليه تعالى نحن (عابدون) نحن (حامدون لربنا)
نحن (ساجدون) والجار والمجرور يتعلق بحامدون أو بساجدون أو
بهما أو بالصفات الأربعة المتقدمة أو بالخمسة على طريق
التنازع، وقول ابن بطال: إن المشيئة لا تتعلق بقوله أيبون
لوقوع الإياب وإنما تتعلق بباقي الكلام الذي بعد والنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد تقرر عنده أنه لا
يزال تائبًا عابدًا ساجدًا! لكن هذا هو أدب الأنبياء عليهم
السلام يظهرون الافتقار إلى الله تعالى مبالغة في شكره وإن
علموا حقيقة مقامهم الشريف عنده، وأنهم آمنون مما يخافه
غيرهم. تعقبه ابن المنير فقال: الظاهر أن المشيئة إنما علق
عليها الإياب خاصة. وقوله قد وقع فلا تعلق وهم لأن الإياب
المقصود إنما هو الرجوع الموصل إلى نفس
(5/186)
الوطن وهو مستقبل بعد فلا يصح أن يعلق
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقية الأفعال
على المشيئة لأنه قد حمد الله تعالى ناجزًا وعبده دائمًا
والعمل الناجز لا ينبغي تعليقه على المشيئة ولو صلّى إنسان
الظهر فقال: صلّيت إن شاء الله لكان غلطًا منه لأن الله قد
أمره أن يصلّي وصلّى فلا تشكيك في معلوم وبعض الفوقية لا
يقول حججت ولكن يقول وصلت إلى مكة وهذا تنطع أجمع السلف
على خلافه. (صدق الله وعده) فيما وعد به من إظهار دينه
(ونصر عبده)، محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
على أعدائه (وهزم الأحزاب) الذين تحزبوا في غزوة الخندق
لحربه عليه الصلاة والسلام فاللام للعهد أو كل من تحزّب من
الكفار لحربه فتكون جنسية وفي قوله (وحده) نفي السبب فناء
في المسبب.
وهذا الحديث قد سبق في باب التكبير إذا علا شرفًا من كتاب
الجهاد.
3085 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي
إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ:
"كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَاحِلَتِهِ،
وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ، فَعَثَرَتْ
نَاقَتُهُ فَصُرِعَا جَمِيعًا، فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ
فِدَاءَكَ. قَالَ: عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ. فَقَلَبَ ثَوْبًا
عَلَى وَجْهِهِ وَأَتَاهَا فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا،
وَأَصْلَحَ لَهُمَا مَرْكَبَهُمَا
فَرَكِبَا، وَاكْتَنَفْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى
الْمَدِينَةِ قَالَ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ
لِرَبِّنَا حَامِدُونَ. فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ
حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ".
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين
مهملة ساكنة عبد الله بن عمرو المنقري المقعد قال: (حدّثنا
عبد الوارث) بن سعيد التنوري (قال: حدّثني) بالإفراد ولأبي
ذر حدّثنا (يحيى بن أبي إسحاق) مولى الحضارمة (عن أنس بن
مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: كنا مع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقفله) بفتح الميم وسكون
القاف وفتح الفاء أي مرجعه (من عسفان) بضم العين وسكون
السين المهملتين موضع على مرحلتين من مكة (ورسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على راحلته) أي ناقته
(وقد أردف صفية بنت حيي فعثرت ناقته فصرعا) أي فوقعا
(جميعًا) قال الحافظ الدمياطي: ذكر عسفان مع قصة صفية وهم
وإنما هو عند مقفله من خيبر لأن غزوة عسفان إلى بني لحيان
كانت في سنة ست وغزوة خيبر كانت في سنة سبع، وإرداف صفية
مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووقوعهما
كان فيها (فاقتحم) بالفاء والقاف والحاء المهملة أي رمى
نفسه (أبو طلحة) زيد بن سهل الأنصاري زاد في الطريق الآتي
عن بعيره (فقال: يا رسول الله جعلني الله فداءك) بكسر
الفاء وبالهمزة ممدودًا (قال) عليه الصلاة والسلام له:
(عليك المرأة) بالنصب أي الزم المرأة (فقلب) أبو طلحة
(ثوبًا على وجهه) حتى لا ينظر إلى صفية (وأتاها فألقاها)
أي الخميصة التي ألقاها على وجهه المسماة بالثوب ولأبي ذر
فألقاه أي الثوب (عليها) أي على صفية فسترها عن الأعين
(وأصلح لهما مركبهما) بفتح الكاف (فركبا واكتنفنا رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي أحطنا به
(فلما أشرفنا) أي اطّلعنا (على المدينة قال) عليه السلام:
نحن (آيبون)، راجعون إلى الله نحن (تائبون)، إليه نحن
(عابدون لربنا)، نحن (حامدون). وسقط من هذه الرواية قوله
في السابقة ساجدون (فلم يزل يقول ذلك حتى دخل المدينة)
شكرًا لله تعالى وتعليمًا لأمته.
3086 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ
"عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه أَنَّهُ
أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَفِيَّةُ يرْدِفَهَا عَلَى
رَاحِلَتِهِ. فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ
عَثَرَتِ الدَّابَّةَ فَصُرِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمَرْأَةُ، وَإِنَّ أَبَا
طَلْحَةَ قَالَ أَحْسِبُ قَالَ: اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ
فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، جَعَلَنِي
اللَّهُ فِدَاءَكَ، هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَىْءٍ؟ قَالَ:
لاَ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ الْمَرْأَةِ. فَأَلْقَى أَبُو
طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَصَدَ قَصْدَهَا،
فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا، فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ،
فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا،
فَسَارُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ
-أَوْ قَالَ أَشْرَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ- قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ.
فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ".
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن المديني قال: (حدّثنا بشر بن
المفضل) بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة ابن لاحق
الرقاشي بقاف ومعجمة البصري قال: (حدّثنا يحيى بن أبي
إسحاق) مولى
الحضارمة ولأبي ذر عن يحيى بن أبي إسحاق (عن أنس بن مالك
رضي الله عنه أنه أقبل هو وأبو طلحة مع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي من غزوة خيبر (ومع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صفية) بنت حيي
(مردفها) ولأبوي ذر والوقت: يردفها بالتحتية بدل الميم
(على راحلته) أي ناقته (فلما كانوا) ولأبي ذر كان (ببعض
الطريق عثرت الناقة) ولأبي ذر والأصيلي الدابة بدل الناقة
(فصرع) بضم الصاد المهملة أي وقع (النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمرأة) بالرفع عطفًا على النبي
ويجوز النصب أي مع المرأة (وإن أبا طلحة) بكسر همزة إن
(قال: أحسب) أي أظن (قال: اقتحم عن بعيره) أي رمى بنفسه
عنه (فأتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
سقط قوله فأتى إلخ لأبي ذر (فقال: يا نبي الله جعلني الله
فداءك هل أصابك من شيء)؟ حرف الجر زائد (قال):
(لا ولكن عليك المرأة) أي الزمها وانظر في أمرها ولغير أبي
ذر بالمرأة جار ومجرور (فألقى أبو طلحة ثوبه على وجهه فقصد
قصدها) أي
(5/187)
نحا نحوها (فألقى ثوبه عليها) ليسترها
(فقامت المرأة) صفية (فشدّ لهما) أبو طلحة (على راحلتهما
فركبا) النبي عليه السلام وصفية (فساروا) هما ومن معهما
(حتى إذا كانوا بظهر المدينة) بفتح الطاء المعجمة وسكون
الهاء أي بظاهرها (أو قال أشرفوا على المدينة) بالشك من
الراوي (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(آيبون، تائبون، عابدون لربنا، حامدون) (فلم يزل يقولها
حتى دخل المدينة) وسقط أيضًا قوله ساجدون.
وهذا الحديث من هذه الطريق ثابت في رواية الكشميهني ساقط
من رواية غيره.
198 - باب الصَّلاَةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ
(بسم الله الرحمن الرحيم) سقطت البسملة لأبي ذر وابن
عساكر.
(باب الصلاة إذا قدم) المغازي أو المسافر (من سفر).
3087 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ:
«كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ
قَالَ لِي: ادْخُلِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن محارب بن دثار) بكسر الدال وتخفيف
المثلثة السدوسي قاضي مكة أنه (قال: سمعت جابر بن عبد
الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- قال: كنت مع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر فلما قدمنا
المدينة قال لي): عليه السلام.
(ادخل المسجد فصلِّ ركعتين) للقدوم من السفر وليستا تحية
المسجد.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف في نحو عشرين موضعًا مطوّلاً
ومختصرًا.
3088 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ كَعْبٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ
إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ضُحًى دَخَلَ الْمَسْجِدَ
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ".
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل البصري
(عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن ابن شهاب)
الزهري (عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه) عبد
الله (وعمه عبيد الله) بضم العين مصغرًا (ابن كعب عن كعب)
جد عبد الرحمن ووالد عبيد الله وهو ابن مالك (-رضي الله
عنه-) في حديثه الطويل في قصة تخلفه عن غزوة تبوك (أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا قدم من
سفر) زاد أبو ذر عن الكشميهني ضحى بالضم وبالقصر (دخل
المسجد فصلّى ركعتين قبل أن يجلس) تبركًا أول ما يبدأ في
الحضر واستنبط منه الابتداء بالمسجد قبل بيته وجلوسه للناس
عند قدومه ليسلموا عليه.
وهذا الحديث سبق في الصلاة وأخرجه مسلم في الصلاة وأبو
داود في الجهاد والنسائي في السير.
199 - باب الطَّعَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ، وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ
(باب) مشروعية عمل (الطعام عند القدوم) أي من السفر. (وكان
ابن عمر) -رضي الله عنهما- فيما وصله إسماعيل القاضي في
أحكامه بمعناه (يفطر) أي إذا قدم من سفر أيامًا (لمن
يغشاه) أي لأجل من يغشاه للسلام عليه والتهنئة بالقدوم
لأنه كان لا يصوم في السفر لا فرضًا ولا نفلاً ويكثر من
صوم التطوّع حضرًا، فإذا قدم من السفر صام لكنه يفطر أول
قدومه لما ذكر، ولأبي ذر عن الكشميهني: يصنع بدل يفطر
ومعناه صحيح لكن الأول أصوب كما في الفتح، وفي نسخة قال
ابن عمر بدل وكان.
3089 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً. زَادَ
مُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَارِبٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ: اشْتَرَى مِنِّي النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعِيرًا بِأَوْقِيَّتَيْنِ
وَدِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ. فَلَمَّا قَدِمَ صِرَارًا
أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَذُبِحَتْ فَأَكَلُوا مِنْهَا،
فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ
الْمَسْجِدَ فَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَوَزَنَ لِي
ثَمَنَ الْبَعِيرِ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (محمد) هو
ابن سلام البيكندي السلمي مولاهم قال: (أخبرنا وكيع) هو
ابن الجراح الرؤاسي بضم الراء ثم همزة فسين مهملة أبو
سفيان الكوفي (عن شعبة) بن الحجاج (عن محارب بن دثار)
السدوسي (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (رضي الله
عنهما) (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لما قدم المدينة) من غزوة تبوك وغزوة ذات الرقاع (نحر
جزورًا) ناقة أو جملاً (أو بقرة) بالشك من الراوي (زاد
معاذ) هو ابن معاذ العنبري مما هو موصول عند مسلم (عن
شعبة) بن الحجاج (عن محارب) السدوسي أنه (سمع جابر بن عبد
الله) الأنصاري -رضي الله عنه- يقول: (اشترى مني النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعيرًا بوقيتين) بواو
مفتوحة من غير همز ولأبي ذر: بأوقيتين بهمزة مضمومة بدل
الواو ساكنة (ودرهم أو درهمين) شك من الراوي وفي رواية عند
المؤلّف بأوقية وفي أخرى أحسبه بأربع أواق وفي أخرى بعشرين
دينارًا. وقال المؤلّف: إن رواية وقية أكثر، وجمع القاضي
عياض بين هذه الروايات بأن سبب الاختلاف الرواية بالمعنى،
وأن المراد أوقية الذهب والأربع أواق بقدر ثمن أوقية الذهب
(فلما قدم) عليه السلام (صرارًا) بكسر الصاد المهملة
وتخفيف الراء الأولى، ووهم من
(5/188)
ضبطه بالضاد المعجمة بدل المهملة في أوله موضع يأتي إن شاء
الله تعالى قريبًا آخر هذا الباب بيانه (أمر ببقرة فذبحت)
وطبخت (فأكلوا منها) وهذا الطعام يقال له النقيعة بالنون
والقاف مشتق فيما قيل من النقع وهو الغبار لأن المسافر
يأتي وعليه غبار السفر. (فلما قدم المدينة أمرني أن آتي
المسجد فأصلي) فيه (ركعتين) بنصب فأصلي عطفًا على آتي
المسجد (ووزن لي ثمن البعير) سقط لفظة لي عند أبي ذر.
3090 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
"قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ". صِرَارٌ:
مَوْضِعٌ نَاحِيَةً بِالْمَدِينَةِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن محارب بن دثار عن جابر) أنه
(قال: قدمت من سفر فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(صلِّ ركعتين). استشكل إيراد طريق أبي الوليد هذه من حيث
عدم المطابقة للترجمة وأن اللائق ذكر ذلك في الباب السابق.
وأجيب: بأنه أشار بذلك إلى أن القدر الذي ذكره طرف من
الحديث لأن الحديث عند شعبة عن محارب فروى وكيع طرفًا منه
وهو ذبح البقرة عند قدومه المدينة. وروى أبو الوليد سليمان
بن حرب عنه طرفًا منه وهو أمره بالصلاة ركعتين عند القدوم.
وروى معاذ عنه جميعه وفيه قصة البعير وذكر ثمنه لكن
باختصار، وقد تابع كلاًّ من هؤلاء عن شعبة في سياقه جماعة
قاله في الفتح (صرار موضع ناحية) بالنصب أي في ناحية
(بالمدينة) على ثلاثة أميال منها من جهة الشرق، وهذا من
قول المؤلّف وهو ساقط في رواية أبي ذر وابن عساكر. وهذا
آخر كتاب الجهاد. |