شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
65 - كتاب تفسير القرآن
الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ آسْمانِ مِنَ الرَّحْمَةِ،
الرَّحِيمُ وَالرَّاحِمُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ كَالعَلِيمِ
وَالْعَالِمِ.
كذا لأبي ذر ولغيره، ولأبي الوقت: كتاب تفسير القرآن بسم
الله الرحمن الرحيم، ولغيرهما كتاب التفسير بسم الله
الرحمن الرحيم فأخّر البسملة وعرّف التفسير وحذف المضاف
إليه.
والتفسير: هو البيان، وهل التفسير والتأويل بمعنى؟ فقيل:
التفسير بيان المراد باللفظ، والتأويل بيان المراد
بالمعنى. وقال قوم منهم أبو عبيد: هما بمعنى، وقال أبو
العباس الأزدي: النظر في القرآن من وجهين.
الأوّل من حيث هو منقول وهي جملة التفسير وطريقه الرواية
والنقل.
والثاني من حيث هو معقول وهي جملة التأويل وطريقه الدراية
والعقل. قال الله تعالى: {إنا جعلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم
تعقلون} [الزخرف: 3] فلا بدّ من معرفة اللسان العربي في
فهم القرآن العربي، فيعرف الطالب الكلمة وشرح لغتها
وإعرابها، ثم يتغلغل في معرفة المعاني ظاهرًا وباطنًا
فيوفي لكل منها حقه.
وقال غيره: التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله تعالى
المنزل وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك
من علم النحو واللغة والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه
والقراآت، ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول والناسخ
والمنسوخ، وذكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب قانون
التأويل: أن علوم القرآن خمسون علمًا وأربعمائة وسبعة آلاف
علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة.
قال بعض السلف: إن لكل كلمة باطنًا وظاهرًا وحدًّا
ومقطعًا، وهذا مطلق دون اعتبار تراكيبه وما بينها من
روابط، وهذا مما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى
انتهى وحذفت الألف من بسم الله بعد الباء تنبيهًا على شدة
المصاحبة والاتصال بذكر الله.
(الرحمن الرحيم: اسمان) مشتقان (من الرحمة). وزعم بعضهم
أنه غير مشتق لقولهم: وما الرحمن؟ وأجيب بأنهم جهلوا الصفة
لا الموصوف، ولذا لم يقولوا ومن الرحمن؟ وقول المبرد فيما
حكاه ابن الأنباري في الزاهر الرحمن اسم عبراني ليس بعرني
قول مرغوب عنه، والدليل على اشتقاقه ما صححه الترمذي من
حديث
(7/2)
عبد الرحمن بن عوف أنه سمع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "قال الله تعالى: أنا
الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي" الحديث. قال
القرطبي: وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق.
اهـ.
والرحمن: فعلان من رحم كغضبان من غضب، والرحيم: فعيل منه
كمريض من مرض، والرحمة في اللغة رقة في القلب وانعطاف
يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها
وهو تجوّز باسم السبب عن المسبب، ويستعمل في حقه تعالى
تجوّزًا عن إنعامه أو عن إرادة الخير لخلقه، إذ المعنى
الحقيقي يستحيل في حقه تعالى، واختلف في اللفظين فقيل هما
مترادفان كندمان ونديم، وردّ بأن إمكان المخالفة يمنع
الترادف ثم على الاختلاف قيل: الرحمن أبلغ لأن زيادة
البناء وهو الزيادة على الحروف الأصول تفيد الزيادة في
المعنى كما في قطع وقطع وكبار وكبار، وبالاستعمال حيث يقال
رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة. وأسند ابن جرير عن
العرزمي أنه قال: الرحمن لجميع الخلق والرحيم بالمؤمنين.
وقال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وقال تعالى:
{وكان بالمؤمنين رحيمًا} [الأحزاب: 43] فخصهم باسمه
الرحيم، فدلّ على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها
في الدارين لجميع خلقه والرحيم خاص بالمؤمنين.
وأجيب: بأنه ورد في الدعاء المأثور رحمن الدنيا والآخرة
ورحيمهما، وأورد على ما ذكر من زيادة البناء حذر وحاذر
ذكره ابن أبي الربيع وغيره، لكن قال البدر بن الدماميني:
والنقض بحذر وحاذر يندفع بأن هذا الحكم أكثري لا كلي وبأن
ما ذكر لا ينافي أن يقع في البناء إلا نقص زيادة معنى بسبب
آخر كالإلحاق بالأمور الجبلية مثل شره ونهم، وبأن ذلك فيما
إذا كان اللفظان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في
المعنى كغوث وغوثان لا كحذر وحاذر للاختلاف في المعنى.
قال: وهنا فائدة حسنة وهي أن بعض المتأخرين كان يقول: إن
صفات الله تعالى التي هي على صيغة المبالغة كغفار ورحيم
وغفور كلها مجاز إذ هي موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها
لأن المبالغة هي أن ينسب للشيء أكثر مما له، وصفات الله
تعالى متناهية في الكمال لا يمكن المبالغة فيها، وأيضًا
فالمبالغة إنما تكون في صفات تقبل الزيادة والنقص وصفات
الله تعالى منزهة عن ذلك انتهى.
وقول بعضهم: إن الرحيم أشد مبالغة لأنه أكد به والمؤكد
يكون أقوى من المؤكد. أجيب عنه: بأنه ليس من باب التأكيد
بل من باب النعت بعد النعت، وقول إن الرحمن علم بالغلبة
لأنه جاء غير تابع لموصوف كقوله: {الرحمن علم القرآن}
[الرحمن: 1] وشبهه. تعقب بأنه لا يلزم من مجيئه غير تابع
أن لا يكون نعتًا لأن المنعوت إذا علم جاز حذفه وإبقاء
نعته.
وقال بعضهم: إن أراد القائل أنه علم اختصاصه تعالى به
فصحيح ولا يمنع هذا وقوعه نعتًا، وإن أراد أنه جار كالعلم
لا ينظر فيه إلى معنى المشتق فممنوع لظهور معنى الوصفية
وعلمية الغلبة يردّهما أن لفظ الرحمن لم يستعمل إلا له
تعالى فلا تتحقق فيه الغلبة، وأما قول بني حنيفة في مسيلمة
رحمن اليمامة فمن تعنتهم في كفرهم ولما تسمى بذلك كساه
الله جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب،
والأظهر أن رحمن غير مصروف كعطشان.
وقال البيضاوي: وتخصيص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف
أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود
الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها جليلها
وحقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس ويتمسك بحبل
التوفيق ويشغل سره بذكره والاستلذاذ به عن غيره.
(الرحيم الراحم: بمعنى واحد كالعليم والعالم) وهذا بالنظر
إلى أصل المعنى وإلا فصيغة فعيل من صيغ المبالغة فمعناها
زائد على معنى الفاعل وقد ترد صيغة فعيل بمعنى الصفة
المشبهة، وفيها أيضًا زيادة لدلالتها على الثبوت بخلاف
مجرد الفاعل فإنه يدل على الحدوث، ويحتمل أن يكون المراد
أن فعيلًا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول لأنه قد يرد بمعنى
مفعول فاحترز عنه.
[1] سورة الفاتحة
1 - باب مَا جَاءَ فِى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ أَنَّهُ يُبْدَأُ
بِكِتَابَتِهَا فِى الْمَصَاحِفِ وَيُبْدَأُ
بِقِرَاءَتِهَا فِى الصَّلاَةِ، وَالدِّينُ الْجَزَاءُ فِى
الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُن وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: بِالدِّينِ بِالْحِسَابِ {مَدِينِينَ}
مُحَاسَبِينَ.
(باب ما جاء في فاتحة الكتاب) أي من الفضل
(7/3)
أو من التفسير أو أعم من ذلك والفاتحة في
الأصل أما مصدر كالعافية سمي بها أول ما يفتتح به الشيء من
باب إطلاق المصدر على المفعول، والتاء للنقل إلى الاسمية
وإضافتها إلى الكتاب بمعنى "من" لأن أوّل الشيء بعضه، ثم
جعلت علمًا للسورة المعينة لأنها أوّل الكتاب المعجز قاله
بعضهم، وسقط لفظ باب لأبي ذر.
(وسميت أم الكتاب أنه) بفتح الهمزة أي لأنه (يبدأ بكتابتها
في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة) هذا كلام أبي عبيدة
في المجاز وكره أنس والحسن وابن سيرين تسميتها بذلك قال
الأوّلان: إنما ذلك اللوح المحفوظ.
وأجيب: بأن في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الحمد لله أم
القرآن وأم الكتاب" صححه الترمذي، لكن قال السفاقسي: هذا
التعليل منايسب لتسميتها بفاتحة الكتاب لا بأم الكتاب، وقد
ذكر بعض المحققين أن السبب في تسميتها أم الكتاب اشتمالها
على كليات المعاني التي في القرآن من الثناء على الله
تعالى وهو ظاهر، ومن التعبد بالأمر والنهي وهو
في إياك نعبد، لأن معنى العبادة قيام العبد بما تعبّد به
وكلفه من امتثال الأوامر والنواهي، وفي {الصراط المستقيم}
أيضًا ومن الوعد والوعيد وهو في {الذين أنعمت عليهم} وفي
{المغضوب عليهم} وفي {يوم الدين} أي الجزاء أيضًا، وإنما
كانت الثلاثة أصول مقاصد القرآن، لأن الغرض الأصلي الإرشاد
إلى المعارف الإلهية وما به نظام المعاش ونجاة المعاد.
والاعتراض بأن كثيرًا من السور كذلك يندفع بعدم المساواة
لأنها فاتحة الكتاب وسابقة السور، وقد اقتصر مضمونها على
كليات المعاني الثلاثة بالترتيب على وجه إجمالي لأن أوّلها
ثناء وأوسطها تعبد وآخرها وعد ووعيد، ثم يصير ذلك مفصلًا
في سائر السور فكانت منها بمنزلة مكة من سائر القرى على ما
روي من أنها مهدت أرضها ثم دحيت الأرض من تحتها فتتأهل أن
تسمى أم القرآن كما سميت مكة أم القرى اهـ.
وما قاله المؤلف هو معنى قول البيضاوي: وتسمى أم القرآن
لأنها مفتتحه ومبدؤه أي يفتتح بها كتابة المصاحف ويبدأ
بقراءتها في الصلاة، وقيل لأنها تفتح أبواب الجنة ولها
أسماء أخر لا نطيل بها.
(والدين: الجزاء في الخير والشر) وسقطت الواو لأبي ذر،
وهذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو مرسل رجاله
ثقات. ورواه عبد الرزاق بهذا الإسناد أيضًا عن أبي قلابة
عن أبي الدرداء موقوفًا، وأبو قلابة لم يدرك أبا الدرداء،
لكن له شاهد موصول من حديث ابن عمر أخرجه ابن عدي وضعفه.
وفي المثل: (كما تدين تدان) الكاف في موضع نصب نعتًا لمصدر
محذوف أي: تدين دينًا مثل دينك. وهذا من كلام أبي عبيدة
أيضًا كسابقه وهو حديث مرفوع أخرجه ابن عدي في الكامل بسند
ضعيف من حديث ابن عمر مرفوعًا، وله شاهد من مرسل أبي قلابة
قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت
كما تدين تدان".
رواه عبد الرزاق في مصنفه. وأخرجه البيهقي في كتاب الأسماء
والصفات من طريقه، ومعناه: كما تعمل تجازى، وفي الزهد
للإمام أحمد عن مالك بن دينار موقوفًا مكتوب في التوراة:
كما تدين تدان وكما تزرع تحصد.
(وقال مجاهد): فيما وصله عبد بن حميد من طريق منصور عنه في
قوله كلا بل تكذبون (بالدين) أي (بالحساب) ومن طريق ورقاء
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضًا في قوله تعالى: {فلولا إن
كنتم غير} ({مدينين}) [الواقعة: 86] بفتح الميم أي
(محاسبين).
4474 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ
شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ
بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي
الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ أُجِبْهُ فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ: «أَلَمْ
يَقُلِ اللَّهُ {اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}؟» ثُمَّ قَالَ
لِي: «لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ
فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ»،
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ
قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ
أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: «{الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي،
وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ». [الحديث
4474 - أطرافه في: 4647، 4703، 5006].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن شعبة) بن الحجاج أنه (قال: حدّثني)
بالإفراد (خبيب بن عبد الرحمن) بالخاء المعجمة مصغرًا
الأنصاري (عن حفص بن عاصم) أي ابن عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه (عن أبي سعيد بن المعلى) واسمه رافع، وقيل:
الحرث، وقوّاه ابن عبد البر وهي الذي قبله أنه (قال: كنت
أصلي في المسجد فدعاني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فلم أجبه) زاد في تفسير الأنفال من وجه آخر عن
(7/4)
شعبة فلم آته حتى صليت ثم أتيته (فقلت: يا
رسول الله إني كنت أصلي فقال):
(ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم})
[الأنفال: 24] زاد أبو ذر {لما يحييكم} واستدل به على أن
إجابته واجبة يعصي المرء بتركها. وهل تبطل الصلاة أم لا؟
صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم بعدم البطلان، وأنه
حكم مختص به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو مثل
خطاب المصلي له بقوله: السلام عليك أيها النبي، ومثله لا
يبطل الصلاة. وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة سواء
كان المخاطب في الصلاة أم لا. أما كونه يخرج بالإجابة من
الصلاة أو لا يخرج، فليس في الحديث ما يستلزمه فيحتمل أن
تجب الإجابة، ولو خرج المجيب من الصلاة وإلى ذلك جنح بعض
الشافعية. (ثم قال لي) عليه الصلاة والسلام: (لأعلمنك سورة
هي أعظم السور) وفي نسخة: هي أعظم سورة (في القرآن) لعظم
قدرها بالخاصية التي لم يشاركها فيها غيرها من السور
لاشتمالها على فوائد ومعان كثيرة مع وجازة ألفاظها،
واستدلّ به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وهو محكي
عن أكثر العلماء كابن راهويه وابن العربي، ومنع من ذلك
الأشعري والباقلاني وجماعة لأن المفضول ناقص عن درجة
الأفضل وأسماء الله تعالى وصفاته وكلامه لا نقص فيها.
وأجيب: بأن التفضيل إنما هو بمعنى أن ثواب بعضه أعظم من
بعض، فالتفضيل إنما هو من حيث المعاني لا من حيث الصفة.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الحاكم. "أتحب
أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في
الزبور ولا في الفرقان مثلها" (قبل أن تخرج) بالفوقية في
اليونينية (من المسجد ثم أخذ بيدي) بالإفراد (فلما أراد أن
يخرج) من المسجد (قلت له): زاد أبو هريرة يا رسول الله
(ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال:
{الحمد لله رب العالمين}) [الفاتحة: 1] خبر مبتدأ محذوف أي
هي كما صرح بها في رواية معاذ في تفسير الأنفال (هي السبع)
لأنها سبع آيات كسورة الماعون لا ثالث لهما وقيل للفاتحة
(المثاني) لأنهما تثنى على مرور الأوقات أي تكرر فلا تنقطع
وتدرس فلا تندرس، وقيل لأنها تثنى في كل ركعة أي تعاد أو
أنها
يثنى بها على الله، أو استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من
قبلها. فإن قيل: في الحديث السبع المثاني، وفي القرآن
سبعًا من المثاني أجيب: بأنه لا اختلاف بين الصيغتين إذا
جعلنا من للبيان (والقرآن العظيم الذي أوتيته).
قال التوربشتي: إن قيل كيف صح عطف القرآن على السبع
المثاني وعطف الشيء على نفسه مما لا يجوز؟ قلنا: ليس كذلك،
وإنما هو من باب ذكر الشيء بوصفين. أحدهما: معطوف على
الآخر والتقدير آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن
العظيم أي الجامع لهذين النعتين. وقال الطيبي: عطف القرآن
على السبع المثاني المراد منه الفاتحة وهو من باب عطف
العام على الخاص تنزيلًا للتغاير في الوصف منزلة التغاير
في الذات، وإليه أومأ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بقوله: "ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن" حيث نكر السورة
وأفردها ليدل على أنك إذا تقصيت سورة سورة في القرآن
وجدتها أعظم منها، ونظيره في النسق لكن من عطف الخاص على
العام {من كان عدوًّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال}
[البقرة: 98]. اهـ.
وهو معنى قول الخطابي قال في الفتح: وفيه بحث لاحتمال أن
يكون قوله: والقرآن العظيم محذوف الخبر والتقدير ما بعد
الفاتحة مثلًا فيكون وصف الفاتحة انتهى بقوله هي السبع
المثاني، ثم عطف قوله: والقرآن العظيم أي ما زاد على
الفاتحة، وذكر ذلك رعاية لنظم الآية. ويكون التقدير
والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة، وفيه
دليل على أن الفاتحة سبع آيات، لكن منهم من عدّ البسملة
دون {صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 7] ومنهم من عكس.
قال الطيبي: وعدّ التسمية أولى لأن أنعمت لا يناسب وزانه
وزان فواصل السور ولحديث ابن عباس: بسم الله الرحمن الرحيم
الآية السابعة، ونقل عن حسين بن علي الجعفي أنها ست آيات
(7/5)
لأنه لم يعد البسملة.
وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان لأنه عدها وعدّ أنعمت عليهم.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في فضائل القرآن والتفسير، وأبو
داود في الصلاة، وكذا النسائي وفي التفسير أيضًا وفضائل
القرآن، وابن ماجه في ثواب التسبيح.
2 - باب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ
الضَّالِّينَ}
(باب {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}) [الفاتحة: 7]
الجمهور على جر "غير" بدلًا من الذين على المعنى أو من
ضمير عليهم، ورد بأن أصل غير الوصفية والإبدال بالأوصاف
ضعيف، وقد يقال استعمل غير استعمال الأسماء نحو غيرك يفعل
كذا فجاز وقوعه بدلًا لذلك. وعن سيبويه هو صفة للذين، ورد
بأن غيرًا لا تتعرف.
وأجيب: بأن سيبويه نقل أن ما أضافته غير محضة قد يتمحض
فيتعرف إلا الصفة المشبهة وغير داخل في هذا العموم وقرئ
شاذًّا بالنصب، فقيل حال من ضمير عليهم وناصبها أنعمت،
وقيل من الذين وعاملها معنى الإضافة. قال ابن كثير:
والمعنى {اهدنا الصراط المستقيم صراط
الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 6 - 7] ممن تقدم وصفهم
بالهداية والاستقامة غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين
فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ولا صراط الضالين،
وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون
إلى الحق، وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثم مسلكين فاسدين
وهما طريقتا اليهود والنصارى، ومن أهل العربية من زعم أن
"لا" في قوله: {ولا الضالين} زائدة. والصحيح ما سبق من
أنها لتأكيد النفي لئلا يتوهم عطف الضالين على {الذين
أنعمت عليهم} وللفرق بين الطريقين ليتجنب كل منهما، فإن
طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل واليهود
فقدوا العمل والنصارى فقدوا العلم، ولذا كان الغضب لليهود
والضلال للنصارى، لأن من علم وترك استحق الغضب بخلاف من لم
يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لم يهتدوا
إلى طريقه لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه وهو اتباع الرسول
الحق ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن
أخص أوصاف اليهود الغضب، وأخص أوصاف النصارى الضلال، وقد
روى أحمد وابن حبان من حديث عدي بن حاتم أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: {المغضوب عليهم} اليهود
و {الضالين} النصارى، والمراد بالغضب هنا الانتقام وليس
المراد به تغيرًا يحصل عند غليان دم القلب لإرادة الانتقام
إذ هو محال على الله تعالى فالمراد الغاية لا الابتداء.
4475 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلاَ الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ
قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن سمي) بضم السين المهملة وفتح الميم
وتشديد التحتية مصغرًا مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن
الحرث بن هشام (عن أبي صالح) ذكوان (عن أبي هريرة -رضي
الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(إذا قال الإمام) في الصلاة: ({غير المغضوب عليهم ولا
الضالين} فقولوا: آمين) بالمد والقصر لغتان، ومعناها استجب
فهي اسم فعل بني على الفتح، وقيل اسم من أسماء الله تعالى
التقدير: يا أمين، وضعف بأنه لو كان كذلك لكان مبنيًا على
الضم لأنه منادى مفرد معرفة، ولأن أسماء الله تعالى
توقيفية، ووجه الفارسي قول من جعله اسمًا له تعالى على
معنى أن فيه ضميرًا يعود عليه تعالى لأنه اسم فعل (فمن
وافق قوله) بآمين (قول الملائكة) بها (غفر له) أي للقائل
منكم (ما تقدم من ذنبه) المتقدم كله فمن بيانية لا
تبعيضية، وظاهره يشمل الصغائر والكبائر، والحق أنه عام خص
منه ما يتعلق بحقوق الناس فلا يغفر بالتأمن للأدلة فيه،
لكنه شامل للكبائر إلا أن يدعي خروجها بدليل آخر، وزاد
الجرجاني في أماليه في آخر هذا الحديث "وما تأخر". وعن
عكرمة مما رواه عبد الرزاق قال: "صفوف أهل الأرض على صفوف
أهل السماء فإن وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر
للعبد". وقد سبق مزيد لهذا في باب جهر الإمام بالتأمين من
كتاب الصلاة.
[2] سورة البقرة
1 - باب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [الآية: 31].
(بسم الله الرحمن الرحيم سورة البقرة) كذا لأبي ذر وسقطت
البسملة لغيره.
وفي نسخة باب تفسير سورة البقرة ({وعلّم}) ولأبي ذر مما
وجد مكتوبًا بين أسطر اليونينية، باب قول الله تعالى:
{وعلّم آدم الأسماء كلها}) إما بخلق علم ضروري بها فيه أو
إلقاء في روعه
(7/6)
ولا يفتقر إلى سابقه اصطلاح للتسلسل
والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبًا، ولذلك يقال علمته
فلم يتعلم قاله البيضاوي. وظاهر الآية يقتضي أن التعليم
للأسماء ويؤيده بأسماء هؤلاء.
وقال الزمخشري: أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه
معلومًا مدلولًا عليه بذكر الأسماء لأن الاسم لا بد له من
مسمى وعوّض عنه اللام كقوله: {واشتعل الرأس شيبًا} [مريم:
4] واعترض بأن كون اللام عوضًا عن الإضافة ليس مذهب
البصريين إنما قال به الكوفيون وبعض البصريين، والبصريون
إنما قالوا ذلك في المظهر لا في المضمر، وبأنه لم يجعل
المحذوف مضافًا إلى الأسماء أي مسميات الأسماء لينتظم
تعليق الأنباء بالأسماء فيما ذكر بعد التعليم، وهو وإن قدر
المضاف إليه وجعل الأسماء غير المسميات لا يقول إن ما علمه
آدم وعلمه وعجز عنه الملائكة هو مجرد الألفاظ واللغات من
غير علم بحقائق المسميات وأحوالها ومنافعها لظهور أن
لفضيلة والكمال إنما هي في ذلك، وإلى هذا ذهب من جعل الاسم
نفس المسمى، أو حمل الكلام على حذف المضاف أي مسميات
الأسماء، لكن يرد عليه أنه لا دلالة في الكلام على هذا
التقدير، وجوابه: أن الأحوال والمنافع أيضًا المسميات التي
علم أسماءها ولا يتم ذلك بدون معرفتها على وجه تمتاز به
عما عداها وهذا كاف قاله في المصابيح، واختلف في المراد
بالأسماء فقيل: أسماء الأجناس دون أنواعها، وقيل أسماء كل
شيء حتى القصعة.
4476 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا
هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ح.
وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ،
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ -رضي الله
عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى
رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو
النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ
مَلاَئِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ
فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ
مَكَانِنَا هَذَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ
ذَنْبَهُ فَيَسْتَحِي، ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ
رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ،
فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ
سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ
لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَيَسْتَحِي فَيَقُولُ: ائْتُوا خَلِيلَ
الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ
ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ
التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ،
وَيَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَيَسْتَحِي
مِنْ رَبِّهِ فَيَقُولُ: ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ
وَرَسُولَهُ، وَكَلِمَةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ فَيَقُولُ:
لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي
فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ
فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي
مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ
تُعْطَهْ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ،
فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ
يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا،
فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ،
فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي مِثْلَهُ ثُمَّ أَشْفَعُ
فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ
أَعُودُ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ،
فَأَقُولُ: مَا بَقِىَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ
الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ». قَالَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ يَعْنِى
قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران:
15 وغيرها].
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الأزدي الفراهيدي
بالفاء البصري، وسقط لأبي ذر: ابن إبراهيم قال: (حدّثنا
هشام) الدستوائي قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس رضي
الله تعالى عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
قال البخاري: (وقال لي خليفة) بن خياط العصفري بضم العين
وسكون الصاد المهملتين وضم الفاء البصري على سبيل المذاكرة
أو التحديث (حدّثنا يزيد بن زريع) بتقديم الزاي مصغرًا أبو
معاوية البصري قال: (حدّثنا سعيد) هو ابن أبي عروبة (عن
قتادة عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(يجتمع المؤمنون يوم القيامة) ولأبي ذر: ويجتمع بواو العطف
على محذوف بينه في رواية له (فيقولون لو استشفعنا إلى
ربنا) لو هي المتضمنة للتمني والطلب أي لو استشفعنا أحد
إلى ربنا فيشفع لنا فيخلصنا مما نحن فيه من الكرب (فيأتون
آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك
ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء)، وضع شيئًا موضع أشياء أي
المسميات إرادة للتقصي واحدًا فواحدًا حتى يستغرق المسميات
كلها (فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا) بالراء من الإراحة
(من مكاننا هذا فيقول) لهم: (لست هناكم) أي لست في المكانة
والمنزلة التي تحسبونني يريد مقام الشفاعة (ويذكر ذنبه)
وهو قربان الشجرة وأكل منها (فيستحي)، بكسر الحاء، ولأبي
ذر: فيستحيي بسكونها وزيادة تحتية (ائتوا نوحًا فإنه أوّل
رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)، بالإنذار وإهلاك قومه، لأن
آدم كانت رسالته بمنزلة التربية والإرشاد للأولاد، وليس
المراد بقوله بعثه الله إلى أهل الأرض عموم بعثته، فإن هذا
من خصوصيات نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن
هذا إنما حصل له بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق في
الموجودين بعد هلاك سائر الناس بالطوفان فلم يكن ذلك في
أصل بعثته، وأما الاستدلال على عموم رسالته بدعائه على
جميع من في الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة لأنه لو
لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا لقوله تعالى: {وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15] وقد ثبت أنه أوّل
الرسل فأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة
نوح وبأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم.
فأجيب: لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح عليه الصلاة
والسلام غيره، فالله أعلم.
(فيأتونه فيقول) لهم: (لست هناكم) قال عياض: كناية عن أن
منزلته دون هذه المنزلة تواضعًا أو أن كلاًّ منهم يشير إلى
أنها ليست له بل لغيره (ويذكر سؤاله
(7/7)
ربه) المحكي عنه في القرآن بقوله تعالى:
{رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} [هود: 45] أي وعدتني
أن تنجي أهلي من الغرق، وسأل أن ينجيه من الغرق وفي نسخة
لربه (ما ليس له به علم) حال من الضمير المضاف إليه في
سؤاله أي صادرًا عنه بغير علم أو من المضاف أي متلبسًا
لغير علم، وربه مفعول سؤاله، وكان يجب عليه أن لا يسأل كما
قال تعالى: {فلا تسألني ما ليس لك به علم} [هود: 46] أي ما
شعرت من المراد بالأهل وهو: من آمن وعمل صالحًا وأن ابنك
عمل غير صالح (فيستحيي) ولغير أبي ذر بياء واحدة وكسر
الحاء (فيقول: ائتوا خليل الرحمن) إبراهيم عليه الصلاة
والسلام (فيأتونه فيقول: لست هناكم ائتوا موسى عبدًا كلمه
الله وأعطاه التوراة فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر قتل
النفس بغير نفس فيستحيي من ربه) ولغير أبي ذر: فيستحي بياء
واحدة وكسر الحاء ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وإنما
عدّه من عمل الشيطان وسماه ظلمًا واستغفر منه كما في الآية
على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم (فيقول: ائتوا
عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله) لأنه وجد بأمره تعالى
دون أبي (وروحه) أي ذا روح صدر منه لا بتوسط ما يجري مجرى
الأصل والمادة له، وقيل لأنه كان يحيي الأموات والقلوب
(فيقول): أي بعد ما يأتونه (لست هناكم ائتوا محمدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لغير
أبي ذر (عبدًا)، بالنصب ولأبي ذر عبد (غفر الله له ما تقدم
من ذنبه) عن سهو وتأويل (وما تأخر) بالعصمة أو إنه مغفور
له غير مؤاخذ بذنب لو وقع (فيأتوني) ولأبي ذر: فيأتونني
بنونين وفيه إظهار شرف نبينا عليه الصلاة والسلام كما لا
يخفى (فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن) بالرفع عطفًا على
أنطلق، ولأبي ذر: فيؤذن بالنصب عطفًا على المنصوب في قوله
حتى استأذن (فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا فيدعني ما شاء)
ولغير أبي ذر ما شاء الله (ثم يقال: ارفع رأسك) وسقط لأبي
ذر لفظة رأسك (وسل) بفتح السين من غير ألف وصل (تعطه) بهاء
بعد الطاء (وقل يسمع) أي قوله (واشفع تشفع) أي تقبل شفاعتك
(فأرفع رأسي) من السجود (فأحمده) تعالى (تحميد يعلمنيه)
بضم الميم (ثم أشفع فيحدّ لي) بفتح الياء تعالى (حدًّا) أي
يبين لي قومًا أشفع فيهم كان يقول: "شفعتك فيمن أخلّ
بالصلاة" (فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه) تعالى (فإذا رأيت
ربي مثله) أي أفعل مثل ما سبق من السجود ورفع الرأس وغيره
(ثم أشفع، فيحدّ لي حدًّا) كأن يقول: شفعتك فيمن زنى أو
فيمن شرب الخمر مثلًا (فأدخلهم الجنّة، ثم أعود الثالثة،
ثم أعود الرابعة فأقول، ما بقي في النار إلا من حبسه
القرآن) أي حكم بحبسه أبدًا (ووجب عليه الخلود) وهم الكفار
(قال أبو عبد الله) البخاري: (إلا من حبسه القرآن يعني قول
الله تعالى) أي في الكفار: ({خالدين فيها}) [آل عمران: 15
وغيرها] وسقط لأبي ذر لفظ (إلا من).
واستشكل سياق هذا الحديث من جهة كون المطلوب الشفاعة
للإراحة من موقف العرصات لما يحصل لهم من ذلك الكرب الشديد
لا للإخراج من النار. وأجيب: بأنه قد انتهت حكاية الإراحة
عند لفظ فيؤذن لي وما بعده هو زيادة على ذلك قاله
الكرماني. وقال الطيبي: لعل المؤمنين صاروا فرقتين فرقة
سيق بهم إلى النار من غير توقف، وفرقة حبسوا في المحشر
واستشفعوا به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخلصهم
مما هم فيه وأدخلهم الجنة، ثم شرع في شفاعة الداخلين النار
زمرًا بعد زمر كما دل عليه قوله: فيحدّ لي حدًّا الخ
فاختصر الكلام.
وقال في فتوح الغيب: إيراد قصة واحدة في مقامات متعددة
بعبارات مختلفة وأنحاء شتى بحيث لا تغيير ولا تناقض البتة
من فصيح الكلام وبليغه، وهو باب من الإيجاز المختص
بالإعجاز، ويحتاج في التوفيق إلى قانون يرجع إليه، وهو أن
يعمد إلى الاقتصاصات المتفرقة ويجعل لها أصل بأن يؤخذ من
المباني ما هو أجمع للمعاني، فما نقص من تلك المعاني شيء
يلحق به انتهى.
وقال في شرح المشكاة: أو يراد بالنار الحبس والكربة وما
يكونون فيه من الشّدة ودنو الشمس إلى رؤوسهم
(7/8)
وحرها وإلجامهم بالعرق وبالخروج إلى الخلاص
منها.
وهذا الحديث يأتي إن شاء الله تعالى في التوحيد، وأخرجه
مسلم في الإيمان، والنسائي في التفسير، وابن ماجه في
الزهد.
2 - باب
قَالَ: مُجَاهِدٌ: {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أَصْحَابِهِمْ
مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ {مُحِيطٌ
بِالْكَافِرِينَ} اللَّهُ جَامِعُهُمْ {صِبْغَة} دِينُ
{عَلَى الْخَاشِعِينَ} عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، قَالَ
مُجَاهِدٌ: {بِقُوَّةٍ} يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ، وَقَالَ
أَبُو الْعَالِيَةِ: {مَرَضٌ} شَكٌّ {وَمَا خَلْفَهَا}
عِبْرَةٌ لِمَنْ بَقِيَ {لاَ شِيَةَ} لاَ بَيَاضَ وَقَالَ
غَيْرُهُ: {يَسُومُونَكُمْ} يُولُونَكُمْ {الْوَلاَيَةُ}
مَفْتُوحَةٌ مَصْدَرُ الْوَلاَءِ وَهِيَ الرُّبُوبِيَّةُ،
إِذَا كُسِرَتِ الْوَاوُ فَهِيَ الإِمَارَةُ، وَقَالَ
بَعْضُهُمُ: الْحُبُوبُ الَّتِي تُؤْكَلُ كُلُّهَا {فُومٌ}
وَقَالَ قَتَادَةُ: {فَبَاءُوا} فَانْقَلَبُوا، وَقَالَ
غَيْرُهُ: {يَسْتَفْتِحُونَ} يَسْتَنْصِرُونَ {شَرَوْا}
بَاعُوا {رَاعِنَا} مِنَ الرُّعُونَةِ إِذَا أَرَادُوا
أَنْ يُحَمِّقُوا إِنْسَانًا، قَالُوا: رَاعِنَا {لاَ
تَجْزِي} لاَ تُغْنِي {خُطُوَاتِ} مِنَ الْخَطْوِ،
وَالْمَعْنَى آثَارَهُ.
(باب) بالتنوين بغير ترجمة.
(قال مجاهد) فيما وصله عبد بن حميد عن ورقاء عن أبي نجيح
عنه في قوله تعالى: {وإذا خلوا} ({إلى شياطينهم}) [البقرة:
14] أي (أصحابهم من المنافقين والمشركين). وسموا شياطين
لأنهم ماثلوا الشياطين في تمرّدهم وهم المظهرون كفرهم
إضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر. قال القطب: فهو استعارة
وإضافة الشياطين إليهم قرينة الاستعارة.
وقال مجاهد أيضًا فيما وصله عبد بن حميد بالإسناد المذكور
في قوله تعالى: {والله} ({محيط بالكافرين}) [البقرة: 19]
أي (الله جامعهم). زاد الطبري في جهنم قال البيضاوي
كالزمخشري: أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط،
وجملة والله محيط اعتراض لا محل لها. وقال القطب: فهو
استعارة تمثيلية شبه حال تقريع الكفار في أنهم لا يفوتونه
ولا محيص لهم عن عذابه بحال المحيط بالشيء في أنه لا يفوته
المحاط به، واستعير لجانب المشبه الإحاطة. وقوله: والجملة
اعتراض لا على لها قال أبو حيان: لأنها دخلت بين هاتين
الجملتين وهما: يجعلون أصابعهم ويكاد البرق وهما من قصة
واحدة.
({صبغة}) أي (دين) يريد قوله تعالى: {صبغة الله} وهذا وصله
أيضًا عبد بن حميد عن مجاهد أيضًا. وقال البيضاوي: أي
صبغنا الله صبغته وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها
فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغة تحلية المصبوغ.
وقال مجاهد أيضًا في قوله تعالى: {إلا} ({على الخاشعين})
أي (على المؤمنين حقًّا). وصله عنه عبد بن حميد.
(قال مجاهد) أيضًا: ({بقوّة}) [البقرة: 63] أي (يعمل بما
فيه)، وصله عنه عبد بن حميد أيضًا وسقط لأبي ذر قوله قال
مجاهد:
(وقال أبو العالية): فيما وصله ابن أبي حاتم عنه في قوله
تعالى: {في قلوبهم} ({مرض}) [البقرة: 10] أي (شك). وقال:
أيضًا فيما وصله ابن أبي حاتم عنه في قوله تعالى: {نكالًا
لما بين يديها} ({وما خلفها}) أي (عبرة لمن بقي) أي من
بعدهم من الناس، وقوله تعالى: ({لا شية}) [البقرة: 71]
فيها بالياء من غير همز أي (لا بياض) فيها.
(وقال غيره): هو أبو عبيد القاسم بن سلام في قوله تعالى:
(يسومونكم) أي (يولونكم)
بضم أوّله وسكون الواو وقال في قوله تعالى: {هنالك}
({الولاية} مفتوحة) واوها (مصدر
الولاء) بفتح الواو والمد (وهي الربوبية، وإذا كسرت الواو
فهي الإمارة) بكسر الهمزة وإنما ذكر
هذه ليؤيد بها تفسير يسومونكم: يولونكم. (وقال بعضهم
الحبوب التي تؤكل كلها {فوم})
ذكره الفراء في معاني القرآن عن عطاء وقتادة.
(وقال قتادة): فيما وصله عبد بن حميد في قوله: ({فباؤوا})
أي (فانقلبوا. وقال غيره): في قوله تعالى: ({يستفتحون}) أي
(يستنصرون) كذا قاله أبو عبيدة أي على المشركين ويقولون:
اللهم أنصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت في التوراة. وقال في
قوله تعالى: {ولبئس ما} ({شروا}) [البقرة: 102] {به
أنفسهم} أي (باعوا) وقوله تعالى: ({راعنا}) (من الرعونة،
إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانًا قالوا راعنا). بالتنوين صفة
لمصدر محذوف أي قولًا ذا رعن عن نسبة إلى الرعن والرعونة
الحمق، والجملة في محل نصب بالقول. وفي قوله تعالى: ({لا
تجزي})
[البقرة: 48] أي (لا تغني). وفي قوله تعالى: {لا تتبعوا}
({خطوات}) {الشيطان} [البقرة: 168] (من الخطو، والمعنى
آثاره). أي آثار الشيطان، وجميع ما ذكر من قوله قال مجاهد
التالي الباب إلى هنا ثابت للمستملي والكشميهني، ساقط
للحموي.
3 - باب قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادًا}) جمع ند وهو المثل
والنظير ({وأنتم تعلمون}) [البقرة: 22] حال من ضمير فلا
تجعلوا ومفعول تعلمون متروك أي وحالكم أنكم من ذوي العلم
والنظر وإصابة الرأي فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى
إثبات موجد للممكنات، منفرد بوجود الذات، متعال عن مشابهة
المخلوقات، أوله مفعول أي: وأنتم تعلمون أنه الذي خلق ما
ذكر أو أنتم تعلمون أن لا ندّ له، وعلى كل التقديرين متعلق
العلم محذوف إما حوالة على العقل أو للعلم به، وسقط لأبي
ذر قوله تعالى فقط.
4477 - حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ
تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ» قُلْتُ إِنَّ
ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ
تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ».
قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ
جَارِكَ». [الحديث 4477 - أطرافه في: 4761، 6001، 6811،
6861، 7520، 7532].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد
(7/9)
ولأبي ذر حدّثنا (عثمان بن أبي شيبة)
الحافظ الكوفي قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد
الرازي (عن منصور عن أبي وائل) بالهمز شقيق بن سلمة (عن
عمرو بن شرحبيل) بالصرف وعدمه الهمداني (عن عبد الله) بن
مسعود أنه (قال: سألت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أي الذنب أعظم عند الله قال):
(أن تجعل لله ندًّا) أي مثلًا ونظيرًا (وهو خلقك) وغيره لا
يستطيع خلق شيء موجود الخلق يدل على الخالق، واستقامة
الخلق تدل على توحيده ولو كان المدبر اثنين لم يكن على
الاستقامة، ولذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل:
أربًا واحدًا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل البصير
(قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟) بالتشديد من غير تنوين.
قال الفاكهاني: لأنه موقوف عليه في كلام السائل ينتظر
الجواب منه عليه الصلاة والسلام والتنوين لا يوقف عليه
إجماعًا وتنوينه مع وصله بما بعده خطأ، بل ينبغي أن يوقف
عليه وقفة لطيفة ثم يؤتى بما بعده. اهـ.
قال في المصابيح: هذا عجيب لأن الحاكي لا يجب عليه في حالة
وصل الكلام بما قبله أو بما بعده أن يراعي حال المحكي عنه
في الابتداء والوقف، بل يفعل هو ما تقتضيه حالته التي هو
فيها، وقد قيده ابن الجوزي في مشكل الصحيحين بالتشديد
والتنوين كما في الفرع وقال: هكذا سمعته من ابن الخشاب،
وقال: لا يجوز إلا تنوينه لأنه اسم معرب غير مضاف.
(قال: وأن تقتل) في الفرع بإسقاط الواو وثبتت في أصله
(ولدك) حال كونك (تخاف أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن
تزاني حليلة جارك) بفتح الهاء المهملة وكسر اللام الأولى
أي زوجته فإنه زنا وإبطال لما أوصى الله تعالى به من حفظ
حقوق الجيران.
وهذا الحديث أورد هنا أيضًا وفي التوحيد والأدب والمحاربين
ومسلم في الإيمان والنسائي فيه والرجم والمحاربة.
4 - باب وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ
الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنُّ صَمْغَةٌ،
وَالسَّلْوَى الطَّيْرُ
(وقوله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام}) سخر الله تعالى لهم
السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه، وسقط لأبي ذر
قوله تعالى: ({وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات
ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون})
[البقرة: 57] بالكفر، وسقط لأبي ذر قوله تعالى: ({من
طيبات}) إلى آخر ({أنفسهم}) وقال بعد: ({كلوا}) إلى
({يظلمون}). (وقال مجاهد): فيما وصله الفريابي عنه (المن:
صمغة، والسلوى: الطير) وعن ابن عباس فيما رواه ابن أبي
حاتم قال: كان المن ينزل على الشجرة فيأكلون منه ما شاؤوا.
4478 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ
لِلْعَيْنِ» [الحديث 4478 - أطرافه في: 4639، 5708].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن عبد الملك) بن عمير القرشي (عن عمرو بن
حريث) بضم الحاء مصغرًا وعمرو بفتح العين وسكون الميم (عن
سعيد بن زيد) أحد العشرة (رضي الله تعالى عنه) أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأبوي
ذر والوقت النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(الكمأة) بفتح الكاف وسكون الميم والهمزة المفتوحة شيء
ينبت بفسه من غير استنبات وتكلف مؤونة (من المن) لأنها
تسقط بلا كلفة (وماؤها شفاء للعين) إذا ربى بها الكحل
والتوتيا
وغيرهما مما يكتحل به، وأما إذا اكتحل بها مفردة فلا لأنها
تؤذي العين. وقال النووي: الصواب أن مجرد مائها شفاء
مطلقًا، وإنما وصفت الكمأة بذلك لأنها من الحلال الذي ليس
في اكتسابه شبهة. واعترض الخطابي وغيره بإدخال هذا هنا
فإنه ليس المراد إنها نوع من المن المنزل على بني إسرائيل،
فإن ذلك شيء كالترنجبين، وإنما معناه أنها تنبت بنفسها من
غير استنبات ولا مؤونة.
وأجيب: بأنه وقع في رواية ابن عيينة عن عبد الملك بن عمير
في حديث الباب من المن الذي أنزل على بني إسرائيل فظهرت
المناسبة على ما لا يخفى.
5 - باب {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} رَغَدًا:
وَاسِعٌ كَثِيرٌ
(باب) بالتنوين ({وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية}) أي بيت
المقدس ({فكلوا منها حيث شئتم رغدًا}) نصب على المصدر أو
الحال من الواو أي واسعًا ({وادخلوا الباب}) أي باب القرية
({سجدًا}) حال من فاعل أدخلوا وهو جمع ساجد أي متطامنين
(7/10)
مخبتين أو ساجدين لله شكرًا على إخراجكم من
التيه ({وقولوا حطة}) بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا
حطة. قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة
ورفعت لتعطي معنى الثبات وتكون الجملة في محل نصب بالقول
({نغفر لكم خطاياكم}) مجزوم في جواب الأمر أي بسجودكم
ودعائكم ({وسنزيد المحسنين}) [البقرة: 58] ثوابًا. ولأبي
ذر {حيث شئتم} الآية. وسقط ما بعد.
({رغدًا}) يريد قوله تعالى: {وكُلا منها رغدًا} [البقرة:
35] قال أبو عبيدة (واسعٌ كثير) وفي نسخة واسعًا كثيرًا
بالنصب، وهذا ثابت في رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني
ساقط لغيرهما.
4479 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قِيلَ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا
حِطَّةٌ} فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ،
فَبَدَّلُوا وَقَالُوا: حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد) غير منسوب ونسبه ابن
السكن عن الفربري كما في الفتح فقال: محمد بن سلام. قال
الحافظ ابن حجر: ويحتمل عندي أن يكون محمد بن يحيى الذهلي
فإنه يروي عن عبد الرحمن بن مهدي أيضًا. وقال الجياني:
الأشبه أنه محمد بن بشار بتشديد المعجمة، وزاد الكرماني أو
ابن المثنى قال: (حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي) أبو سعيد
البصري قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه (عن ابن
المبارك) عبد الله (عن معمر) بفتح الميمين
هو ابن راشد الأزدي (عن همام بن منبه) بتشديد الميم الأولى
ومنبه بتشديد الموحدة المكسورة ابن كامل الصنعاني أخي وهب
(عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال): (قيل لبني إسرائيل) لما
خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه الصلاة
والسلام وفتح الله تعالى عليهم بيت المقدس عشية جمعة وقد
حبست لهم الشمس قليلًا حتى أمكن الفتح ({ادخلوا الباب})
باب البلد ({سجدًا}) شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم
من الفتح والنصر وردّ بلدهم إليهم وإنقاذهم من التيه، وعن
ابن عباس فيما رواه ابن جرير سجدًا قال ركعًا، وعن بعضهم
المراد به الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ({وقولوا حطة})
قيل: أمروا أن يقولوها على هذه الكيفية بالرفع على الحكاية
وهي في على نصب بالقول، وإنما منع النصب حركة الحكاية،
وتقدم قريبًا أنها أعربت خبر مبتدأ محذوف ومعناها اسم
للهيئة من الحط كالجلسة، وعن ابن عباس فيما رواه ابن أبي
حاتم قال قيل لهم قولوا مغفرة (فدخلوا يزحفون) بفتح الحاء
المهملة (على أستاههم) بفتح الهمزة وسكون المهملة أي
أوراكهم (فبدلوا) أي غيروا السجود بالزحف (وقالوا حطة) كما
قيل وزادوا على ذلك مستهزئين (حبة في شعرة) بفتح العين
والراء، وفي رواية حنطة بالنون بدل حطة. وللكشميهني في
الأعراف: في شعيرة بزيادة تحتية بعد كسر العين المهملة،
وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح
بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم فخالفوا غاية المخالفة،
ولذا قال الله تعالى في حقهم: {فأنزلنا على الذين ظلموا
رجزًا من السماء بما كانوا يفسقون} [البقرة: 59] والمراد
بالرجز الطاعون، قيل: إنه مات به في ساعة أربعة وعشرون
ألفًا.
6 - باب قَوْلُهُ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}
[البقرة: 97] وَقَالَ عِكْرِمَةُ: جَبْرَ وَمِيكَ
وَسَرَافِ عَبْدٌ إِيلْ: اللَّهُ
(قوله) تعالى: ({من كان}) ولأبي ذر باب التنوين. ({من كان
عدوًّا لجبريل}) [البقرة: 97] قال ابن جرير: أجمع أهل
العلم بالتأويل أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني
إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم وأن ميكائيل وليّ لهم.
(وقال عكرمة) مولى ابن عباس فيما وصله الطبري (جبر)؛ بفتح
الجيم وسكون الموحدة (وميك)، بكسر الميم (وسراف): بفتح
السين المهملة وتخفيف الراء وبالفاء المكسورة الأوّل من
جبريل، والثاني من ميكائيل، والثالث من إسرافيل معنى
الثلاثة (عبد إيل): بكسر الهمزة وسكون التحتية معناها في
الثلاثة (الله) أي: جبريل عبد الله، وميكائيل عبد الله،
وإسرافيل عبد الله.
وقال بعضهم: جبريل اسم ملك أعجمي فلذلك لم ينصرف للعجمة
والعلمية، ومن قال هو مشتق أو مركب تركيب إضافة ردّ قوله
لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي، ولأنه لو كان
مركبًا تركيب الإضافة لكان منصرفًا.
4480 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ
بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَهْوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ فَأَتَى
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ
نَبِيٌّ فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ
طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ
إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: «أَخْبَرَنِى
بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا» قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قَالَ:
«نَعَمْ». قَالَ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ
الْمَلاَئِكَةِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}
[البقرة: 97] أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ
تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ،
وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ
كَبِدِ حُوتٍ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ
الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ
الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ». قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ،
وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلاَمِي قَبْلَ أَنْ
تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِي، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَيُّ
رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ» قَالُوا: خَيْرُنَا
وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا،
قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَلاَمٍ» فَقَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ
فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَانْتَقَصُوهُ
قَالَ: فَهَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (عبد الله بن
منير) بضم الميم وكسر النون وسكون التحتية آخره راء أبو
عبد الرحمن المروزي الزاهد أنه (سمع عبد الله بن بكر) بفتح
الموحدة
(7/11)
وسكون الكاف ابن حبيب السهمي قال: (حدّثنا
حميد) الطويل (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: سمع عبد
الله بن سلام) بتخفيف اللام (بقدوم رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر عن الكشميهني:
بمقدم مصدر ميمي بمعنى القدوم، وله عن الحموي والمستملي
مقدم رسول الله بحذف الجار زاد في باب: وإذ قال ربك
للملائكة من كتاب بدء الخلق المدينة (وهو في أرض يخترف)،
بالخاء المعجمة الساكنة والفاء أي يجتني من ثمارها (فأتى
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: إني
سائلك عن ثلاث) أي عن ثلاث مسائل (لا يعلمهن إلاّ نبي فما
أوّل أشراط الساعة) بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة أي
علاماتها (وما أوّل طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى
أبيه) بالزاي المكسورة وآخره عين مهملة أي يشبه أباه ويذهب
إليه (أو إلى أمه؟ قال) عليه الصلاة والسلام:
(أخبرني بهن جبريل آنفًا) بمد الهمزة وكسر النون (قال) ابن
سلام: (جبريل؟ قال) عليه الصلاة والسلام: (نعم قال) ابن
سلام: (ذاك) كذا في اليونينية وفي الفرع ذلك باللام (عدوّ
اليهود من الملائكة). وفي حديث ابن عباس عند أحمد أنهم
قالوا: إنه ليس من نبيّ إلاّ له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا
من صاحبك؟ قال: جبريل. قالوا: جبريل ذاك ينزل بالحرب
والقتال عدوّنا.
لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان.
(فقرأ) عليه الصلاة والسلام (هذه الآية) ردًّا على قولهم
أو قرأها الراوي استشهادًا بها ({من كان عدوًّا لجبريل
فإنه}) أي جبريل ({نزله}) أي القرآن ({على قلبك}) لأنه
القابل للوحي ومحل الفهم والحفظ، وإن حقه أن يقول على قلبي
لكنه جاء على حكاية كلام الله تعالى كأنه قال: قل ما تكلمت
به، وزاد في رواية أبي ذر بإذن الله أي بأمره تعالى (أما
أوّل أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.
وأما أول طعام أهل الجنة) ولأبي الوقت: أول طعام يأكله أهل
الجنة (فزيادة كبد حوت) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي:
الحوت وهي القطعة المنفردة المتعلقة بالكبد وهي أطيبها
وأهنأ الأطعمة (وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد)
بالنصب على المفعولية أي جذبه إليه (وإذا سبق ماء المرأة)
أي ماء الرجل (نزعت) أي جذبته إليها (قال) ابن سلام: (أشهد
أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله إن
اليهود قوم بهت)، بضم الموحدة والهاء في اليونينية وفرعها،
وفي نسخة بسكون الهاء. قال الكرماني: جمع بهوت الكثير
البهتان، وقيل بهت أي كذابون ممارون لا يرجعون إلى الحق
(وإنهم وإن يعلموا بإسلامي وقبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت
اليهود فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أيّ رجل عبد الله) أي ابن سلام (فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن
خيرنا)، أفعل تفضيل (وسيدنا وابن سيدنا. قال) عليه الصلاة
والسلام: (أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام)؟ سقط ابن سلام
لأبي ذر (فقالوا: أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله فقال:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فقالوا:
شرنا وابن شرنا وانتقصوه). ولأبي ذر: فانتقصوه بالفاء بدل
الواو (قال) ابن سلام: (فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله).
وهذا الحديث ذكره المؤلّف قبيل المغازي، وفي أحاديث
الأنبياء.
7 - باب قَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نَنْسَأْهَا} [البقرة: 106]
(باب قوله) تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسأها}) [البقرة:
106] بفتح نون ننسخ الأولى وسينها مضارع نسخ وضم ابن عامر
النون وكسر السين مضارع أنسخ، ولأبي ذر {ننسها} بضم النون
الأولى وسكون الثانية من غير همز وهي قراءة نافع وابن عامر
والكوفيين من الترك والأولى من التأخير، وزاد أبو ذر {نأت
بخير منها} وما مفعول مقدم لننسخ وهي شرطية جازمة له،
والتقدير: أي شيء ننسخ، وقيل: شرطية جازمة لننسخ واقعة
موقع المصدر، ومن آية هو المفعول به والتقدير أي نسخ ننسخ
آية ورد بأنه يلزم من هذا خلوّ جملة الجزاء من ضمير يعود
على اسم الشرط وهو لا يجوز ومن آية للتبعيض فهي متعلقة
بمحذوف لأنها صفة لاسم الشرط، والنسخ لغة الإزالة أو النقل
من غير إزالة، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بتلاوتها أو
الحكم المستفاد منها أو بهما جميعًا فمثال: نسخ قراءتها
(7/12)
وإبقاء حكمها نحو: الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما، والحكم فقط نحو: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
مسكين} [البقرة: 184] والحكم والتلاوة نحو: عشر رضعات
يحرمن. روى مسلم عن عائشة كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات
فنسخت بخمس ويكون بلا بدل كالصدقة أمام نجواه عليه الصلاة
والسلام ببدل مماثل كالقبلة، وأخف كعدّة الوفاة، وأثقل
كنسخ التخيير بين صوم رمضان والفدية قال الله تعالى: {وعلى
الذين يطيقونه فدية}.
4481 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ
-رضي الله عنه- أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ، وَأَقْضَانَا
عَلِيٌّ، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ وَذَاكَ
أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُ: لاَ أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نَنْسَأْهَا} [البقرة: 106]. [الحديث 4481 - طرفه في:
5005].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عمرو بن
علي) بفتح العين وسكون الميم البصري الصيرفي قال: (حدّثنا
يحيى) بن سعيد القطان قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن
حبيب) هو ابن أبي ثابت واسمه قيس بن دينار الكوفي (عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس) أنه (قال: قال عمر -رضي الله عنه-:
أقرؤنا) أي لكتاب الله تعالى (أبيّ) هو ابن كعب (وأقضانا)
أي أعلمنا بالقضاء (علي) هو ابن أبي طالب (وإنّا لندع) أي
نترك (من قول أبي وذاك) بألف من غير لام (أن أبيًّا يقول
لا أدع شيئًا سمعته) ولأبي ذر سمعت (من رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) كان لا يقول بنسخ تلاوة شيء
من القرآن لكونه لم يبلغه النسخ فردّ عليه عمر بقوله: (وقد
قال الله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننأسها}) فإنه يدل على
ثبوت النسخ في البعض ولأبي ذر: أو ننسها بضم أوّله وكسر
ثالثه.
وهذا الحديث موقوف، وأخرجه الترمذي عن أنس مرفوعًا، وعند
البغوي مرفوعًا أيضًا: أقضى أمتي علي بن أبي طالب.
8 - باب {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ}
[البقرة: 116]
هذا (باب) بالتنوين ({وقالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه})
[البقرة: 116] نزلت ردًّا على النصارى لما قالوا: المسيح
ابن الله، واليهود لما قالوا: عزير ابن الله، ومشركو
العرب: الملائكة بنات الله.
4482 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا
نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَالَ: اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ
أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا
شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي
أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن عبد الله بن أبي حسين) بضم
الحاء وفتح السين القرشي النوفلي الكوفي أنه قال: (حدّثنا
نافع بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة ابن مطعم القرشي (عن
ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(قال الله) تعالى: (كذبني ابن آدم) بتشديد الذال المعجمة
من التكذيب وهو نسبة المتكلم إلى أن خبره خلاف الواقع
والمراد البعض من بني آدم (ولم يكن له ذلك) ولأبي ذر: ولم
يكن ذلك له
بالتقديم والتأخير (وشتمني) من الشتم وهو توصيف الشخص بما
فيه إزراء ونقص تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا (ولم يكن
له ذلك) التكذيب والشتم (فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا
أقدر أن أعيده كما كان) ووقع في رواية الأعرج في سورة
الإخلاص وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته (وأما شتمه
إياي فقوله لي ولد) وإنما كان شتمًا لما فيه من التنقيص
لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك
سبق النكاح والنكاح يستدعي باعثًا له على ذلك والله تعالى
منزه عن ذلك (فسبحاني) أي تنزهت (أن أتخذ صاحبة أو ولدًا)
أن مصدرية أي من اتخاذي الزوجة والولد لما كان البارئ
سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته قديمًا موجودًا قبل وجود
الأشياء، وكان كل مولود محدثًا انتفت عنه الوالدية، ولما
كان لا يشبهه أحد من خلقه ولا يجانسه. حتى يكون له من جنسه
صاحبة فيتوالد انتفت عنه الوالدية ومن هذا قوله تعالى:
{أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} [الأنعام: 101].
9 - باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى}
[البقرة: 125] مَثَابَةً يَثُوبُونَ: يَرْجِعُونَ
هذا (باب) بالتنوين ({واتخذوا}) وسقط لغير أبي ذر باب وقال
بدله قوله واتخذوا ({من مقام إبراهيم مصلّى}). [البقرة:
125] بكسر خاء اتخذوا بلفظ الأمر فقيل عطف على اذكروا إذا
قيل إن الخطاب هنا لبني إسرائيل أي: اذكروا نعمتي واتخذوا
من مقام إبراهيم، وقرأ نافع وابن عامر: واتخذوا ماضيًا
بلفظ الخبر قبل عطفًا على جعلنا أي: واتخذ الناس مقامه
الموسوم به يعني الكعبة قبلة يصلون إليها ({مثابة})
[البقرة: 125] قال أبو عبيدة في تفسيره: (يثوبون. يرجعون)
وعن ابن عباس مما رواه الطبري قال: يأتونه ثم يرجعون إلى
أهليهم ثم يعودون إليه لا يقضون منه وطرًا.
4483 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ،
عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ -رضي الله
عنه- وَافَقْتُ اللَّهَ فِي ثَلاَثٍ أَوْ وَافَقَنِى
رَبِّي فِي ثَلاَثٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ
اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ وَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ
وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْحِجَابِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ،
قَالَ: وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ
عَلَيْهِنَّ قُلْتُ: إِنِ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ
لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أَتَيْتُ
إِحْدَى نِسَائِهِ قَالَتْ: يَا عُمَرُ أَمَا فِي رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَعِظُ
نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ
أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} [التحريم: 5]
الآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا
يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعْتُ
أَنَسًا عَنْ عُمَرَ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) بالمهملات ابن مسرهد (عن يحيى
(7/13)
بن سعيد) القطان (عن حميد)
الطويل (عن أنس) أنه (قال: قال عمر) بن الخطاب (رضي الله
عنه: وافقت الله) ولأبي الوقت: وافقت ربي (في ثلاث) أي
قضايا (أو وافقني ربي في ثلاث) بالشك وذكر الثلاث لا يقتضي
نفي غيرها، فقد روي عنه موافقات بلغت خمسة عشرًا كقصة
الأساري (قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم
مصلّى) بين يدي القبلة يقوم الإمام عنده وسقط من في الفرع
كأصله، وزاد في باب ما جاء في القبلة من كتاب الصلاة
فنزلت: ({واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى} وقلت: يا رسول
الله يدخل عليك) أي في حجر أمهات المؤمنين (البر والفاجر)
أي الفاسق وهو مقابل البر (فلو أمرت أمهات المؤمنين
بالحجاب) وجواب لو محذوف في الموضعن أو هي للتمني فلا
تفتقر لجواب، وعند ابن مالك هي لو المصدرية أغنت عن فعل
التمني (فأنزل الله آية الحجاب) وثبت قوله فأنزل الله آية
الحجاب في اليونينية وسقط من فرعها (قال) أي عمر: (وبلغني
معاتبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعض
نسائه) حفصة وعائشة (فدخلت عليهن قلت): ولأبي ذر فقلت
بزيادة الفاء (إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لغير أبي ذر
(خيرًا منكنّ حتى أتيت إحدى نسائه قالت: يا عمر أما)
بالتخفيف (في رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية أيضًا لغير أبي ذر (ما يعظ نساءه
حتى تعظهن أنت) والقائلة هذا هي أم سلمة كما في سورة
التحريم بلفظ فقالت أم سلمة: عجبًا لك يا ابن الخطاب دخلت
في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأزواجه. وقال الخطيب: هي
زينب بنت جحش وتبعه النووي (فأنزل الله: {عسى ربه إن
طلقكنّ أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن مسلمات} [التحريم: 5]
الآية).
وهذا الحديث سبق في باب: ما جاء في القبلة من الصلاة.
(وقال ابن أبي مريم): هو سعيد بن محمد بن الحكم بن أبي
مريم المصري مما رواه المؤلّف في الصلاة مذاكرة (أخبرنا
يحيى بن أيوب) الغافقي قال: (حدّثني) بالإفراد (حميد)
الطويل قال: (سمعت أنسًا عن عمر) رضي الله تعالى عنهما.
10 - باب قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ}
[البقرة: 127] الْقَوَاعِدُ: أَسَاسُهُ وَاحِدَتُهَا
قَاعِدَةٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ وَاحِدُهَا
قَاعِدٌ
(قوله تعالى: {وإذ}) ولأبي ذر باب بالتنوين وإذ ({يرفع
إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل}) كان يناوله الحجارة
وإنما عطفه عليه لأنه كان له مدخل في البناء ({ربنا تقبل
منا}) أي يقولان ربنا والجملة حال منهما ({إنك أنت
السميع}) لدعائنا ({العليم}) [البقرة: 127] بنياتنا. قال
المؤلّف: (القواعد أساسه واحدتها قاعدة والقواعد من النساء
واحدها) ولأبي ذر واحدتها بزيادة تاء التأنيث وفي نسخة
واحدتهن بنون النسوة (قاعد) بغير تاء تأنيث، ففيه إشارة
إلى الفرق بينهما في مفرديهما.
4484 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي
مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ، أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ
قَوْمَكِ بَنَوُا الْكَعْبَةَ وَاقْتَصَرُوا عَنْ
قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ:
«لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ» فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ
هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ
اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ، إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ
لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن سالم بن
عبد الله) بن عمر بن الخطاب (أن عبد الله بن محمد بن أبي
بكر) الصديق -رضي الله عنه- (أخبر عبد الله بن عمر عن
عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال) لها:
(ألم تري) بحذف النون للجزم أي ألم تعرفي (أن قومك) قريشًا
(بنوا الكعبة واقتصروا عن قواعد إبراهيم) قالت عائشة
(فقلت: يا رسول الله ألا تردها) بضم الدال ولأبي ذر بفتحها
(على قواعد إبراهيم قال: لولا حدثان قومك) أي قريش بكسر
الحاء وسكون الدال المهملتين وفتح المثلثة مبتدأ خبره
محذوف وجوبًا أي موجود يعني قرب عهدهم (بالكفر) أي لرددتها
على قواعد إبراهيم، وفي باب: فضل مكة وبنيانها من الحج
لفعلت (فقال عبد الله بن عمر) رضي الله تعالى عنهما: (لئن
كانت عائشة) رضي الله تعالى عنها (سمعت هذا من رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أرى) بضم الهمزة
أي ما أظن (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر) بكسر الحاء وسكون
الجيم أي يقربان منه (إلا أن البيت لم يتمم) بتشديد الميم
الأولى مفتوحة أي ما نقص منه وهو الذي كان في الأصل (على
قواعد إبراهيم)
(7/14)
عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث سبق في الحج ومطابقته للترجمة في قوله:
واقتصروا عن قواعد إبراهيم.
11 - باب {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْنَا} [البقرة: 136]
هذا (باب) بالتنوين ({قولوا آمنًا بالله وما أنزل إلينا})
[البقرة: 136] القرآن والخطاب للمؤمنين وسقط لفظ باب لغير
أبي ذر.
4485 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ
الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ
بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ
لأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ، وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا {آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136].
[الحديث 4485 طرفاه في: 7262، 7542].
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (محمد بن بشار)
بالموحدة والمعجمة المشددة العبدي البصري يقال له بندار
قال: (حدّثنا عثمان بن عمر) بضم العين ابن فارس البصري
قال: (أخبرنا علي بن المبارك) الهنائي بضم الهاء وتخفيف
النون ممدودة (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة الطائي
مولاهم (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: كان أهل الكتاب) اليهود
(يقرؤون التوراة بالعبرانية) بكسر العين المهملة وسكون
الموحدة (ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) يعني إذا كان ما
يخبرونكم به محتملًا لئلا يكون في نفس الأمر صدقًا فتكذبوه
أو كذبًا فتصدقوه فتقعوا في الحرج (وقولوا: {آمنا بالله
وما أنزل إلينا}) [البقرة: 136] ولغير أبي ذر: الآية بدل
قوله إلينا.
12 - باب {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا
وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
{سيقول السفهاء} وفي بعض النسخ وعزاه في الفتح لأبي ذر
(باب) قوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس}) المنكرين
لتغيير القبلة من مشركي العرب أو أحبار يهود أو المنافقين
والجار والمجرور في محل نصب على الحال من السفهاء والعامل
فيها سيقول وهي حال مبينة ({ما ولاهم}) أي ما صرفهم ({عن
قبلتهم التي كانوا عليها}) يعني بيت المقدس، ولا بد من حذف
مضاف في عليها أي على توجيهها وجملة الاستفهام في محل نصب
بالقول ({قل لله المشرق والمغرب})، حيثما وجهنا توجهنا
فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات
متعددة فنحن عبيده وفي تصريفه وخدامه ({يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم}) وسقط من قوله: (التي كانوا عليها) إلى آخره
لأبي ذر، وقال بعد قوله: (عن قبلتهم) الآية.
4486 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ سَمِعَ زُهَيْرًا عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا
-أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا- وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ
تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَإِنَّهُ صَلَّى
أَوْ صَلاَّهَا صَلاَةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ
فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ
عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَهُمْ رَاكِعُونَ قَالَ:
أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِبَلَ مَكَّةَ،
فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ وَكَانَ الَّذِي
مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ
الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ
فِيهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين أنه (سمع
زهيرًا) بضم الزاي مصغرًا ابن معاوية (عن أبي إسحاق) عمرو
بن عبد الله السبيعي (عن البراء) بن عازب (-رضي الله عنه-
أن النبي) وفي نسخة أن رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلّى إلى بيت المقدس) بالمدينة (ستة
عشر شهرًا أو سبعة
عشر شهرًا) بالشك من الراوي، وسقط شهرًا الأول لأبي ذر
(وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت) بكسر القاف وفتح
الموحدة أي جهة البيت العتيق (وأنه صلى أو صلاها صلاة
العصر) بالشك من الراوي ونصب صلاة بدلًا من الضمير المنصوب
في صلاها (وصلى معه) عليه الصلاة والسلام (قوم) لم أعرف
أسماءهم (فخرج رجل) هو عباد بن بشر أو عباد بن نهيك (ممن
كان صلى معه) عليه الصلاة والسلام (فمرّ على أهل المسجد)
من بني حارثة والمسجد بالمدينة أو مسجد قباء (وهم راكعون)
حقيقة أو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل (قال: أشهد) أي
أحلف (بالله لقد صليت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قبل مكة) أي حال كونه متوجهًا إليها (فداروا
كما هم) عليه (قبل البيت) جهة البيت العتيق (وكان الذي مات
على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت) الحرام (رجال قتلوا لم
ندر ما نقول فيهم) ذكر الواحدي في أسباب النزول منهم: أسعد
بن زرارة، وأبا أمامة أحد بني النجار، والبراء بن معرور
أحد بني سلمة، لكن ذكر أن أسعد بن زرارة مات في السنة
الأولى من الهجرة، والبراء بن معرور في صفر قبل قدومه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة بشهر (فأنزل
الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم})، صلاتكم إلى
بيت المقدس ({إن الله بالناس لرؤوف رحيم}) [البقرة: 143]
فلا يضيع أجورهم، وفي رواية أبي ذر بعد قوله: (وإيمانكم)
الآية وسقط ما بعدها.
وهذا الحديث سبق في كتاب الإيمان في باب الصلاة من
الإيمان.
13 - باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
({وكذلك}) ولأبي ذر: باب قوله تعالى: {وكذلك} أي وكما
جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم وجعلنا قبلتكم أفضل
القبل ({جعلناكم أمة وسطًا) أي خيارًا أو عدولًا وجعل
بمعنى صير
(7/15)
فيتعدى لاثنين فالضمير مفعول أوّل وأمة ثان
ووسطًا نعت وهو بالتحريك اسم لما بين الطرفين، ويطلق على
خيار الشيء، وقيل: كل ما صلح فيه لفظ بين يقال بالسكون
وإلا فبالتحريك تقول: جلست وسط القوم بالتحريك، وقيل
المفتوح في الأصل مصدر والساكن ظرف ({لتكونوا شهداء على
الناس}) يوم القيامة ({ويكون الرسول عليكم شهيدًا})
[البقرة: 143] علة للجعل.
4487 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَاللَّفْظُ لِجَرِيرٍ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَالَ أُسَامَةَ:
حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُدْعَى نُوحٌ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ
يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ.
فَيُقَالُ لأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ: فَيَقُولُونَ: مَا
أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟
فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ
قَدْ بَلَّغَ، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا}، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ. [البقرة: 143].
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني (يوسف بن راشد)
هو يوسف بن موسى بن راشد بن بلال القطان الكوفي قال:
(حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (وأبو أسامة) حماد بن
أسامة (واللفظ) أي لفظ المتن (لجرير عن الأعمش) سليمان بن
مهران (عن أبي صالح) ذكوان الزيات (وقال أبو أسامة): حماد
يعني عن الأعمش (حدّثنا أبو صالح) ذكوان ففيه تصريح الأعمش
بالتحديث (عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان (الخدري رضي
الله تعالى عنه) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقول:
هل بلغت؟ فيقول: نعم فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما
أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول): يشهد لي (محمد
وأمته فيشهدون) له (أنه قد بلغ) زاد أبو معاوية عن الأعمش
عند النسائي فقال: وما علمكم؟ فيقولون: أخبرنا نبينا أن
الرسل قد بلغوا فصدقنا. ({ويكون الرسول عليكم شهيدًا})
فذلك قوله جل ذكره: ({وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا
شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا] والوسط:
العدل) هو مرفوع من نفس الخبر لا مدرج كما قاله في الفتح،
وسقط لأبي ذر لفظ جل ذكره.
وقد سبق الحديث في كتاب الأنبياء.
14 - باب {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]
({وما}) ولأبي ذر باب قوله: وما ({جعلنا القبلة التي كنت
عليها}) قيل: القبلة مفعول أول والتي كنت عليها ثان، فإن
الجعل بمعنى التصيير أي الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة،
فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلّي إليها بمكة ثم لما
هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس تألفًا لليهود أي أن أصل
أمرك أن تستقبل الكعبة وما جعلنا قبلتك بيت المقدس ({إلا
لنعلم}) لنختبر ونتبين ({من يتبع الرسول}) في الصلاة إلى
الكعبة ({ممن ينقلب على عقبيه}) من يرتد عن دينه بعد. ومن:
موصول، ويتبع صلته، والموصول وصلته في محل المفعول بنعلم،
وعلى عقبيه في محل نصب على الحال.
قال البيضاوي: فإن قلت: كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل
وهو لم يزل عالمًا؟ وأجاب: بأن هذا وأشباهه باعتبار التعلق
الحالي الذي هو مناط الجزاء والمعنى ليتعلق علمنا به
موجودًا، وقيل ليعلم رسوله والمؤمنون، لكنه أسند إلى نفسه
لأنهم خواصه أو ليتميز الثابت عن
المتزلزل كقوله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب}
[الأنفال: 37] فوضع العلم موضع التميز المسبب عنه.
({وإن كانت}) أي التحويلة أو القبلة ({لكبيرة}) لثقيلة
شاقة وإن مخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ الابتداء والخبر
واللام للفرق بينها وبين النافية ({إلاّ على الّذين هدى
الله}) وهم التائبون الصادقون في اتّباع الرسول والاستثناء
مفرغ وجاز ذلك وإن لم يتقدمه نفي ولا شبهه لأنه في معنى
النفي ({وما كان الله ليضيع إيمانكم}) أي بالقبلة المنسوخة
أو صلاتكم إليها ({إن الله بالناس لرؤوف رحيم}) [البقرة:
143]. ولأبي ذر بعد قوله: {من يتبع الرسول} الآية وسقط ما
بعدها عنده.
4488 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ
سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ -رضي الله عنهما-: بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ
الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ إِذْ جَاءَ جَاءٍ فَقَالَ:
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُرْآنًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ
الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا فَتَوَجَّهُوا إِلَى
الْكَعْبَةِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن سفيان) الثوري (عن عبد الله بن دينار
عن ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله تعالى عنهما) أنه قال:
(بينا الناس) بغير ميم (يصلون الصبح في مسجد قباء) بالصرف
على الأشهر (إذ جاء جاء) هو عباد بن بشر (فقال) لهم: (أنزل
الله على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قرآنًا) هو قوله تعالى: {قد نرى تقلّب وجهك في السماء}
[البقرة: 144] الآيات. (أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها) بكسر
الموحدة على الأمر في اليونينية وفرعها وبفتحها على الخبر
(فتوجهوا إلى الكعبة) من غير أن تتوالى خطاهم عند التوجه
بل كانت مفرقة.
وهذا الحديث سبق في باب ما جاء في القبلة في أوائل كتاب
(7/16)
الصلاة.
15 - باب قَوْلِهِ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة:
144]
(باب) ({قد نرى}) ولأبي ذر باب قوله: قد نرى ({تقلب وجهك
في السماء}) أي تردد وجهك في جهة السماء تطلعًا للوحي قبل،
وقد يصرف المضارع إلى معنى المضي كهذه الآية وأشبهها، وقول
الزمخشري {قد نرى} ربما نرى ومعناه كثرة الرؤية كقوله:
قد أترك القرن مصفرًا أنامله
تعقبه أبو حيان بأنه شرح قوله: {قد نرى} بربما نرى، ورب
عند المحققين لتقليل الشيء في نفسه أو لتقليل نظيره، ثم
قال: ومعناه كثرة الرؤية فهو مضاد لمدلول رب على مذهب
الجمهور
ثم ما ادّعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ لأنه لم
يوضع للكثرة قد مع المضارع سواء أريد المضي أم لا، وإنما
فهمت من التقلب.
({فلنولينك قبلة ترضاها}) تحبها وتتشوق إليها لمقاصد دينية
وافقت مشيئة الله تعالى وحكمه والجملة في على نصب صفة
لقبلة ({فولّ وجهك شطر المسجد الحرام}) [البقرة: 144] نحوه
وجهته، ولغير أبي ذر بعد قوله: {في السماء} إلى {عما
يعملون} وسقط ما بعدها.
4489 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي
الله عنه- قَالَ: لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ صَلَّى
الْقِبْلَتَيْنِ غَيْرِي.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
معتمر) بضم الميم الأولى وسكون العين وفتح الفوقية وكسر
الميم آخره راء (عن أبيه) سليمان بن طرخان (عن أنس رضي
الله تعالى عنه) أنه (قال: لم يبق ممن صلّى القبلتين) أي
الصلاة إلى بيت المقدس وإلى الكعبة من المهاجرين والأنصار
(غيري) وهذا قاله أنس في آخر عمره.
16 - باب {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}
إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
[البقرة: 145]
({ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب}) اليهود ({بكل آية}) بكل
برهان وحجة على أن الكعبة قبلة ({ما تبعوا قبلتك}) أي لم
يؤمنوا بها ولا صلّوا إليها، ولام لئن أتت موطئة للقسم
المحذوف وإن شرطية فاجتمع شرط وقسم فالجواب له (إلى قوله:
{إنك إذًا لمن الظالمين}) [البقرة: 145].
والمعنى: ولئن اتبعت أهواءهم على سبيل الفرض، والتقدير
وحاشاه الله من ذلك، ولأبي ذر بعد قوله: ({ما تبعوا
قبلتك}) الآية وأسقط ما بعده.
4490 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- بَيْنَمَا
النَّاسُ فِي الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ جَاءَهُمْ رَجُلٌ
فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ،
وقد أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ أَلاَ
فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَ وَجْهُ النَّاسِ إِلَى
الشَّاْمِ فَاسْتَدَارُوا بِوُجُوهِهِمْ إِلَى
الْكَعْبَةِ.
وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون الخاء
المعجمة البجلي الكوفي قال: (حدّثنا سليمان) هو ابن بلال
(قال: حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن دينار عن ابن عمر
-رضي الله عنهما-) أنه (قال: بينما الناس) بالميم (في)
صلاة (الصبح بقباء جاءهم رجل) اسمه عباد بن بشر (فقال: إن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أنزل
عليه الليلة قرآن) بالتنكير لأن المراد البعض أي قوله
تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة: 144]
الآيات. وأطلق الليلة على بعض اليوم الماضي وما يليه
مجازًا (وقد أمر) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول أي أمر الله
تعالى نبيه عليه الصلاة
والسلام (أن يستقبل الكعبة ألا) بتخفيف اللام (فاستقبلوها)
بكسر الموحدة لا بفتحها كما لا يخفى (وكان وجه الناس إلى
الشام) تفسير من الراوي (فاستداروا بوجوههم إلى الكعبة)
ولم يؤمروا بإعادة ما صلوه إلى جهة بيت المقدس لأن النسخ
لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه.
17 - باب {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ
فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ}
-إِلَى قَوْلِهِ- {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}
[البقرة: 146، 147]
({الذين آتيناهم الكتاب}) هم علماؤهم ({يعرفونه}) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنعته وصفته ({كما يعرفون
أبناءهم}) روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: أنا أعلم به
مني بابني. قال: ولم؟ قال: لأني لم أشك في محمد أنه نبي،
فأما ولدي فلعلّ والدته خانت. زاد السمرقندي في روايته أقر
الله عينك يا عبد الله، وقيل الضمير في يعرفونه للقرآن،
وقيل لتحويل القبلة وظاهر سياق الآية ثم يقتضي اختياره
({وإن فريقًا منهم}) طائفة من اليهود ({ليكتمون الحق})
محمدًا وما جاء به (إلى قوله: {فلا تكونن من الممترين})
[البقرة: 146، 147]. الشاكين في أنه من ربك أو في كتمانهم
الحق عالمين به، والمراد الأمة لأن الرسول لا يشك، وسقط
لأبي ذر ({وإن فريقًا}) إلى ({الحق}) قال إلى قوله: ({فلا
تكونن من الممترين}) فزاد فلا تكوننّ.
4491 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا
مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ
الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَدْ أُنْزِلَ
عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ
يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ
وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّاْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى
الْكَعْبَةِ.
وبه قال: (حدّثنا يحيي بن قزعة) بفتح القاف والزاي والعين
المهملة المفتوحات قال: (حدّثنا مالك) الإمام (عن عبد الله
بن دينار عن ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما أنه (قال: بينا
الناس) بغير ميم (بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت) هو
عباد بن بشر (فقال: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قد أنزل عليه الليلة قرآن) أي قوله تعالى: {قد
نرى تقلب وجهك
(7/17)
في السماء} [البقرة: 144] الآيات (وقد أمر)
بضم الهمزة (أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها) بكسر الموحدة
(وكانت وجوههم إلى الشام) من كلام الراوي (فاستداروا إلى
الكعبة) وهذه طريقة أخرى للحديث السابق.
18 - باب {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ
بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [البقرة: 148]
({ولكل}) وفي نسخة باب ولكل من أهل الملل ({وجهة}) قبلة
({هو موليها}) وجهه
({فاستبقوا الخيرات}) من أمر القبلة وغيرها ({أينما تكونوا
يأت بكم الله جميعًا إن الله على كل شيء قدير}) [البقرة:
148]. أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم
وأبدانكم، ووقع في رواية أبي ذر بعد قوله هو موليها الآية
وسقط ما بعدها.
4492 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو
إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي الله عنه-
قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ
عَشَرَ -أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا- ثُمَّ صَرَفَهُ
نَحْوَ الْقِبْلَةِ.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني (محمد بن
المثنى) العنزي الزمن البصري (قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد
القطان (عن سفيان) الثوري أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (أبو
إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (قال: سمعت البراء) بن
عازب (رضي الله تعالى عنه قال: صلينا مع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحو بيت المقدس) أي ونحن
بالمدينة (ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا) بالشك من الراوي (ثم
صرفه) أي صرف الله عز وجل نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، ولأبي ذر عن الكشميهني ثم صرفوا بضم أوله
مبنيًّا للمفعول أي صرف الله تعالى نبيه وأصحابه (نحو
القبلة) أي الكعبة الحرام.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الصلاة والنسائي فيها وفي
التفسير.
19 - باب {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:
149] شَطْرُهُ: تِلْقَاءَهُ
({ومن حيث خرجت}) أي ومن أي مكان خرجت للسفر ({فولّ وجهك
شطر المسجد الحرام}) إذا صليت ({وإنه}) أي المأمور به وهو
التوجه للكعبة ({للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون})
[البقرة: 149]. فيجازيكم بأعمالكم، وفي رواية أبي ذر بعد
قوله شطر المسجد الحرام الآية وحذف ما بعدها (شطره) مبتدأ
أي شطر المسجد الحرام وخبره (تلقاؤه).
4493 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي
الله عنهما- يَقُولُ: بَيْنَا النَّاسُ فِي الصُّبْحِ
بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ: أُنْزِلَ
اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، فَأُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ
الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا وَاسْتَدَارُوا
كَهَيْئَتِهِمْ فَتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَ
وَجْهُ النَّاسِ إِلَى الشَّاْمِ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
عبد العزيز بن مسلم) القسملي قال: (حدّثنا عبد الله بن
دينار) العدوي مولاهم أبو عبد الرحمن المدني مولى ابن عمر
(قال:
سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: بينما الناس)
بالميم وفي نسخة بإسقاطها (في) صلاة (الصبح بقباء) في
مسجده (إذ جاءهم رجل) هو عباد بن بشر (فقال) لهم: (أنزل
الليلة) بضم الهمزة (قرآن فأمر) بضم الهمزة مبنيًّا
للمفعول أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ولأبي ذر: وأمر بالواو بدل الفاء (أن يستقبل الكعبة) إذا
صلّى (فاستقبلوها) بكسر الموحدة (فاستداروا) بالفاء ولغير
أبي ذر: واستداروا (كهيئتهم) من غير تغير (فتوجهوا إلى
الكعبة) من غير أن تتوالى خطاهم عند التوجه (وكان وجه
الناس إلى الشام) تفسير من الراوي كما سبق.
20 - باب {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]
({ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم
فولّوا وجوهكم شطره}) [البقرة: 150]. هذا أمر ثالث منه
تعالى باستقبال الكعبة.
واختلف في حكمة التكرار فقيل: تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في
الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره والنسخ من مظان
الفتنة والشبهة، فبالحري أن يؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة
بعد أخرى، وقيل إنه منزل على أحوال. فالأول لمن هو مشاهد
للكعبة، والثاني: لمن هو في مكة غائبًا عن مشاهدة الكعبة،
والثالث: لمن هو في غيرها من البلدان، أو الأول لمن بمكة،
والثاني لمن هو بغيرها من البلدان، والثالث لمن خرج في
الأسفار، ولأبي ذر عن الكشميهني: شطره بالنصب تلقاءه، وزاد
في رواية غير أبي ذر قوله: {وحيث ما كنتم} إلى قوله:
{ولعلكم تهتدون} أي إلى ما ضلت عنه الأمم، ولذا كانت هذه
الأمة أفضل الأمم وأشرفها.
4494 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ
بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ
أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ
يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ
وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّاْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى
الْقِبْلَةِ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي أبو رجاء البغلاني
وسقط لأبي ذر ابن سعيد (عن مالك) الإمام الأعظم (عن عبد
الله بن دينار) مولى ابن عمر (عن ابن عمر) رضي الله تعالى
عنهما أنه (قال: بينما) بالميم (الناس في صلاة الصبح بقباء
إذ جاءهم آت) عباد (فقال) لهم: (إن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أنزل عليه الليلة) نصب على
الظرفية وفي نسخة قرآن كالرواية السابقة، والمراد {قد نرى
تقلب وجهك في السماء} الآيات. (وقد أمر أن يستقبل الكعبة
فاستقبلوها)
(7/18)
بكسر الموحدة قال الراوي: (وكانت وجوههم)
أي أهل قباء (إلى الشام فاستداروا إلى القبلة). ولأبي ذر،
في نسخة أيضًا إلى الكعبة.
21 - باب {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ
اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
شَعَائِرُ: عَلاَمَاتٌ وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّفْوَانُ: الْحَجَرُ وَيُقَالُ
الْحِجَارَةُ الْمُلْسُ الَّتِي لاَ تُنْبِتُ شَيْئًا
وَالْوَاحِدَةُ صَفْوَانَةٌ بِمَعْنَى الصَّفَا،
وَالصَّفَا لِلْجَمِيعِ
({إن الصفا}) ولأبي ذر قوله إن الصفا ({والمروة}) إن
واسمها وثم محذوف أي أن طواف الصفا أو سعي الصفا أي الصفا
والمروة علمين لجبلين معروفين واللام فيهما للغلبة والمروة
الحجارة الصغار والخبر قوله: ({من شعائر الله}) أي من
مناسك الحج ({فمن حج البيت أو اعتمر}) شرط في محل رفع
الابتداء وحج في موضع جزم والبيت نصب على المفعول به لا
على الظرف والجواب قوله: ({فلا جناح عليه أن يطوف بهما})
الإجماع على مشروعية الطواف بهما في الحج والعمرة، واختلف
في وجوبه فعن مالك والشافعي أنه ركن لقوله عليه الصلاة
والسلام: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي. رواه أحمد، وعن
الإمام أحمد أنه سنّة لقوله تعالى: ({فلا جناح عليه}) فإنه
يفهم منه التخيير وهو ضعيف لأن نفي الجناح يدل على الجواز
الداخل في معنى الوجوب فلا يدفعه، وعن أبي حنيفة أنه واجب
يجبر الدم ({ومن تطوع خيرًا}) فعل طاعة وخيرًا نصب على أنه
صفة مصدر محذوف أي تطوع خيرًا ({فإن الله شاكر}) يقبل
اليسير ويعطي الجزيل أو شاكر بقبول أعمالكم ({عليم})
[البقرة: 158] بالثواب لا يخفى عليه طاعتكم.
(شعائر): ولأبي ذر الشعار (علامات، واحدتها شعيرة) وهي
العلامة، والأجود في شعائر الهمزة عكس معايش.
(وقال ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما فيما وصله الطبري من
طريق علي بن أبي طلحة عنه (الصفوان: الحجر، ويقال الحجارة
الملس) بضم الميم وسكون اللام جمع أملس (التي لا تنبت
شيئًا) أبدًا كذا قاله أهل اللغة (والواحدة) أي واحدة
الصفوان (صفوانة بمعنى الصفا، والصفا) بالقصر (للجميع) وهي
الصخرة الصماء وألف الصفا عن واو لقولهم صفوان والاشتقاق
يدل عليه لأنه من الصفو، وسقط للحموي من قوله وقال ابن
عباس الخ.
4495 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ زَوْجِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا
يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَمَا
أُرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا؟
فَقَالَتْ: عَائِشَةُ كَلاَّ. لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ:
كَانَتْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي
الأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَتْ
مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ
يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ
الإِسْلاَمُ سَأَلُوا
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ
ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ
مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ
اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا} [البقرة: 158].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن
العوّام (أنه قال: قلت لعائشة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا يومئذ حديث السن أرأيت قول الله
تبارك وتعالى: ({إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج
البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما} فما أرى) بضم
الهمزة أي فما أظن ولأبي ذر فما أرى بفتحها (على أحد
شيئًا) من الإثم (أن لا يطوف بهما) لأن مفهوم الآية أن
السعي ليس بواجب لأنها دلت على رفع الجناح وهو الإثم وذلك
يدل على الإباحة لأنه لو كان واجبًا لما قيل فيه مثل هذا
(فقالت عائشة)، رادّة عليه قوله: (كلاّ لو كانت كما تقول
كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) بزيادة "لا" بعد "أن"
فإنها كانت حينئذ تدل على رفع الإثم عن تاركه وذلك حقيقة
المباح فلم يكن في الآية نص على الوجوب ولا عدمه ثم بينت
أن الاقتصار فى الآية على نفي الإثم له سبب خاص فقالت:
(إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا) زاد في الحج قبل
أن يسلموا (يهلون لمناة) بفتح الميم والنون المخففة مجرور
بالفتحة للعلمية والتأنيث وسميت بذلك لأن النسائك كانت
تمنى أي تراق عندها (وكانت مناة حذو قديد) بفتح الحاء
المهملة وسكون الذال المعجمة آخره واو أي مقابل قديد بضم
القاف وفتح الدال موضع من منازل طريق مكة إلى المدينة
(وكانوا يتحرجون) أي يحترزون من الإثم (أن يطوفوا)
بالتشديد وفي اليونينية بالتخفيف (بين الصفا والمروة)
كراهية لصنمي غيرهم أساف الذي كان على الصفا ونائلة الذي
كان بالمروة وحبهم صنمهم الذي بقديد، وكان ذلك سنّة في
آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة (فلما جاء
الإسلام سألوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن ذلك) الطواف بينهما (فأنزل الله) تعالى:
({إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر
فلا جناح عليه أن يطوّف بهما}).
وهذا الحديث سقط للحموي وقد سبق في باب وجوب الصفا والمروة
من كتاب الحج مطولًا.
4496 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَأَلْتُ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- عَنِ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّهُمَا مِنْ
أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الإِسْلاَمُ
أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِ}.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف)
(7/19)
بن واقد الفريابي قال: (حدّثنا سفيان) هو
الثوري (عن عاصم بن سليمان) الأحول البصري أبي عبد الرحمن
أنه (قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الصفا
والمروة) في باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة؟ قال:
قلت لأنس أكنتم تكرهون
السعي بين الصفا والمروة؟ (فقال: كنا نرى) بفتح النون،
ولأبي ذر: نري بضمها (أنهما من أمر الجاهلية) الذي كانوا
يتعبدون به (فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما) فأنزل الله
تعالى: ({إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو
اعتمر فلا جناح عليه}) كذا لأبي ذر ولغيره بعد {إن الصفا
والمروة} إلى قوله: {أن يطوّف بهما}.
وهذا الحديث قد مرّ في الحج.
22 - باب قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 165] أَضْدَادًا:
وَاحِدُهَا نِدٌّ
(باب قوله) تعالى: ({ومن الناس من يتخذ من دون الله
أندادًا}) [البقرة: 165]. من الأصنام (أضدادًا) كذا فسره
أبو عبيدة وهو تفسير باللازم، لأن الندّ في اللغة المثل،
وزاد أبو ذر في روايته بعد قوله: {أندادًا يحبونهم كحب
الله} يعني أضدادًا (واحدها ندّ) بكسر النون وتشديد الدال
المهملة، والكاف في {كحب الله} في محل نصب نعت لمصدر
محذوف. وقال ابن عطية: حب مصدر مضاف للمفعول في اللفظ، وهو
في التقدير مضاف للفاعل المضمر التقدير: كحبكم الله أو
كحبهم الله، ومراده بالمضمر أن ذلك الفاعل من جنس الضمائر،
ولا يريد أن الفاعل مضمر في المصدر كما يضمر في الأفعال
لأن هذا قول مردود، لأن المصدر اسم جنس لا يضمر فيه
لجموده، والمعنى أنهم يعظمونهم كتعظيم الله ويسوون بينه
وبينهم في المحبة وسقط باب قوله لأبي ذر.
4497 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو
مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ» وَقُلْتُ:
أَنَا مَنْ مَاتَ وَهْوَ لاَ يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا
دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان المروزي (عن
أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن ميمون (عن
الأعمش) سليمان بن مهران (عن شقيق) أبي وائل بن سلمة (عن
عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه (قال: قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلمة وقلت أخرى
قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا) مثلًا (دخل النار)
والندّ المثل من ندّ ندودًا إذا نفر، وناددت الرجل خالفته
خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي للمماثل في
القدر، وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله أنداد لأنهم
لما تركوا عبادته إلى عبادتها شابهت حالهم حال من يعتقد
أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله،
وتمنحهم ما لم يرد الله تعالى بهم من خير فتهكم بهم وشنع
عليهم بأن جعلوا أندادًا لمن يمتنع أن يكون له ند.
(وقلت أنا: من مات وهو لا يدعوا لله ندًا دخل الجنة) لأن
انتفاء السبب يقتضي انتفاء
المسبب، فإذا انتفى دعوى الندّ انتفى دخول النار، وإذا
انتفى دخولها لزم دخول الجنة إذ لا دار بينهما، وأما أصحاب
الأعراف فقد عرف استثناؤهم من العموم.
23 - باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ
بِالْحُرِّ} -إِلَى قَوْلِهِ- {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:
178] {عُفِىَ}: تُرِكَ
({يا أيها الذين آمنوا}) ولأبي ذر: باب بالتنوين ({يا أيها
الذين آمنوا}) {كتب عليكم القصاص في القتلى}) أي بسبب
القتلى كقوله: "دخلت امرأة النار في هرة" والقصاص مأخوذ من
قصّ الأثر فكأن القاتل سلك طريقًا من القتل يقص أثره فيها
ويمشي على سبيله في ذلك، والقتلى جمع قتيل لفظ مؤنث تأنيث
الجماعة أي فرض عليكم على التخيير إذا كان القتل عمدًا
ظلمًا أن يقتل ({الحر بالحر} -إلى قوله- {عذاب أليم})
[البقرة: 178]. وسقط لأبي ذر {الحر بالحر} وقال إلى
{أليم}.
وقد روى ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية أن حيين من
العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، وكان بينهم
قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء فلم يأخذ بعضهم من
بعض حتى أسلموا، وكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في
العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل الحر منكم
بالعبد والذكر بالأنثى فنزلت. واستدلّ بها المالكية
والشافعية على أنه لا يقتل الحر بالعبد، لكن قال البيضاوي:
لا دلالة فيها على أنه لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى
كما لم يدل على عكسه فإن المفهوم إنما يعتبر حيث لم يظهر
للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم، وقد بيّنا ما كان الغرض
وإنما منع مالك والشافعي قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو
عبد غيره لحديث: "لا يقتل حر بعبد" رواه الدارقطني.
(7/20)
وقال الحنفية: آية البقرة منسوخة بآية
المائدة. {النفس بالنفس} فالقصاص ثابت بين العبد والحر
والذكر والأنثى، ويستدلون بقوله عليه الصلاة والسلام:
"المسلمون تتكافأ دماؤهم" وبأن التفاضل غير معتبر في
الأنفس بدليل أن جماعة لو قتلوا واحدًا قتلوا به. وأجيب:
بأن دعوى النسخ بآية المائدة غير سائغة لأنه حكاية ما في
التوراة فلا ينسخ ما في القرآن. وعن الحسن وغيره لا يقتل
الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور وهو مذهب
الأئمة الأربعة فقالوا: يقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر
بالإجماع، وحينئذ فما نقله في الكشاف عن الشافعي ومالك أنه
لا يقتل الذكر بالأنثى لا عمل عليه ({عفي}) [البقرة: 178]
أي (ترك) وسقط ذلك في نسخ.
4498 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، قَالَ:
سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: كَانَ
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ
الدِّيَةُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى
بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}
[البقرة: 178] فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي
الْعَمْدِ. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يَتَّبِعُ بِالْمَعْرُوفِ
وَيُؤَدِّي بِإِحْسَانٍ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَرَحْمَةٌ} مِمَّا كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
{فَمَنِ اعْتَدَي بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قَتَلَ بَعْدَ قَبُولِ الدِّيَةِ. [الحديث 4498 - طرفه في:
6881].
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير بن عيسى
المكي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو) هو
ابن دينار (قال: سمعت مجاهدًا) هو ابن جبر المفسر (قال:
سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول): كان في بني إسرائيل
القصاص ولم تكن فيهم الدّية فقال الله تعالى لهذه الأمة:
({كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد
والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيء}) أي شيء من
العفو لأن عمّا لازم وفائدته الإشعار بأن بعض العفو كالعفو
التام في إسقاط القصاص، وقيل عُفي بمعنى ترك وشيء مفعول به
وهو ضعيف إذ لم يثبت عمّا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه وعفا
يعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب. قال الله تعالى: {عفا
الله عنك} [التوبة: 43] وقال: {عفا الله عنها} [المائدة:
101] فإذا عدى به إلى الذنب عدى إلى الجاني باللام كأنه
قيل: فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليّ الدم،
وذكره بلفظ الأخوة الثابتة بينهما من الجنسية والإسلام
ليرق له بعطف عليه قاله القاضي في تفسيره (فالعفو أن يقبل)
الولي (الدية) من المعفو عنه (في) القتل (العمد {فاتباع
بالمعروف وأداء بإحسان} يتبع) بتشديد الفوقية وكسر الموحدة
ولأبي ذر يتبع بفتح التحتية وسكون الفوقية وفتح الموحدة أي
يطلب ولي المقتول الدّية (بالمعروف) من غير عنف (ويؤدي)
المعفو عنه الدّية (بإحسان) من غير مطل ولا بخس.
({ذلك}) الحكم المذكور من العفو والدية ({تخفيف من ربكم}
مما كتب على من كان قبلكم}) [البقرة: 178] لأن أهل التوراة
كتب عليهم القصاص فقط وحرم عليهم العفو وأخذ الدّية وأهل
الإنجيل العفو، وحرم عليهم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمة
المحمدية بين الثلاثة: القصاص والدّية والعفو تيسيرًا
عليهم وتوسعة ({فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم})
[البقرة: 178] أي (قتل) بفتحات (بعد قبول الدية) فله عذاب
موجع في الآخرة أو في الدنيا بأن يقتل لا محالة. قال سعيد
بن أبي عروبة عن قتادة، عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا أعافي
رجلًا" وفي رواية "أحدًا قتل بعد أخذه الدّية" يعني لا
أقبل منه الدّية بل أقتله.
4499 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا
حَدَّثَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله) بن المثنى بن عبد الله
بن أنس بن مالك بن النضر
(الأنصاري) وسقط ابن عبد الله لأبي ذر قال: (حدّثنا حميد)
الطويل (أن أنسًا حدثهم عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(كتاب الله القصاص) برفعهما على أن كتاب الله مبتدأ
والقصاص خبره ونصبهما على أن الأول إغراء، والثاني بدل
منه، ونصب الأول ورفع الثاني على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي
اتبعوا كتاب الله ففيه القصاص، والمعنى حكم كتاب الله
القصاص ففيه حذف مضاف وهو يشير إلى قوله تعالى: {والجروح
قصاص} وقوله: {والسن بالسن} [المائدة: 45] وهو ثلاثي
الإسناد مختصر هنا ساقه مطوّلًا في الصلح، وفي هذا الباب
بنحوه رباعيًا فقال بالسند إليه:
4500 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ السَّهْمِيَّ، حَدَّثَنَا
حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّتَهُ
كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا إِلَيْهَا
الْعَفْوَ، فَأَبَوْا فَعَرَضُوا الأَرْشَ فَأَبَوْا
فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَأَبَوْا إِلاَّ الْقِصَاصَ فَأَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقِصَاصِ
فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ، لاَ وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» فَرَضِيَ
الْقَوْمُ فَعَفَوْا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ
مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».
(حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن منير) بضم الميم وكسر
النون وبعد التحتية الساكنة راء أبو عبد الرحمن الزاهد
المروزي أنه (سمع عبد الله بن بكر) بسكون الكاف (السهمي)
قال: (حدّثنا حميد) الطويل (عن أنس) -رضي الله عنه- (أن
الربيع) بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة
بنت النضر (عمته) أي عمة أنس (كسرت ثنية جارية) أي امرأة
شابة لا أمة إذ لا قصاص
(7/21)
بين الأمة والحرّة (فطلبوا) أي قوم الربيع
(إليها العفو) عن الربيع (فأبوا) أي قوم الجارية (فعرضوا)
يعني قوم الربيع (الأرش فأبوا) إلا القصاص (فأتوا رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ليقضي بينهم
بحكم الله (وأبوا) أي امتنعوا من أخذ الأرش والعفو (إلا
القصاص فأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بالقصاص) يحتمل أن يكون المراد بالكسر القلع أو
كسرًا يمكن المماثلة فيه ليتصور القصاص المأمور به، وإلاّ
فلا قصاص في كسر عظم غير منضبط (فقال أنس بن النضر): بفتح
النون وسكون الضاد المعجمة عم أنس بن مالك (يا رسول الله
أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها)
ردًّا لحكم الشرع بل نفي لوقوعه توقعًا ورجاء من فضل الله
تعالى أن يرضي خصمها ويلقي في قلبه العفو عنها (فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا أنس كتاب الله) أي حكم كتاب الله (القصاص) وسقط قوله
فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى
آخره من الفرع (فرضي القوم فعفوا) عن الربيع (فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن من عباد
الله من لو أقسم على الله لأبرّه) أي جعله بارًّا في قسمه
وفعل ما أراده.
24 - باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
(باب) ذكر قوله تعالى: ({يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم
الصيام}) مصدر صام يصوم صيامًا الأصل صوامًا فأبدلت الواو
ياء، والصوم لغة الإمساك وشرعًا الإمساك عن المفطرات
الثلاث الأكل والشرب والجماع نهارًا مع النية ({كما كتب
على الذين عن قبلكم}) قيل موضعه نصب نعت مصدر محذوف أي كتب
كتبًا وقيل كاف كما في موضع نصب على النعت تقديره كتابًا
كما أو صومًا كما أو علي الحال كان الكلام كتب عليكم
الصيام مشبهًا ما كتب على الذين من قبلكم، والمعنى كما قيل
صومكم كصومهم في عدد الأيام كما روي أن رمضان كتب على
النصارى فوقع في برد أو حر شديد فحوّلوه إلى الربيع وزادوا
عليه عشرين يومًا كفارة لتحويله فالتشبيه حقيقة. وروى ابن
أبي حاتم من حديث ابن عمر مرفوعًا بإسناد فيه مجهول صيام
رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم، أو المراد مطلق الصيام
دون وقته وقدره، فالتشبيه واقع على نفس الصوم فقط وكان
الصوم على آدم عليه الصلاة والسلام أيام البيض وعلى قوم
موسى عاشوراء فالتشبيه لا يقتضي التسوية من كل وجه ({لعلكم
تتقون}) [البقرة: 183] لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق
لمسالك الشيطان.
4501 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ عَاشُورَاءُ
يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا نَزَلَ
رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ
يَصُمْهُ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن عمر
بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أنه (قال: أخبرني)
بالإفراد (نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله
عنهما-) أنه (قال: كان عاشوراء يصومه أهل الجاهلية) قريش
ولعلهم اقتدوا في ذلك بشرع سبق (فلما نزل رمضان) أي صوم
رمضان في شعبان في السنة الثانية من الهجرة (قال) عليه
الصلاة والسلام: (من شاء صامه ومن شاء لم يصمه).
4502 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ
عَاشُورَاءُ يُصَامُ قَبْلَ رَمَضَانَ، فَلَمَّا نَزَلَ
رَمَضَانُ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني (عبد الله بن محمد)
المسندي قال: (حدّثنا ابن عيينة) سفيان (عن الزهري) محمد
بن مسلم بن شهاب (عن عروة) بن الزبير (عن عائشة رضي الله
تعالى
عنها) أنها (قالت: كان عاشوراء يصام قبل رمضان فلما نزل
رمضان) أي فرض صومه زاد هنا لغير أبي ذر لفظة قال: (من شاء
صام) أي عاشوراء (ومن شاء أفطر).
4503 - حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
دَخَلَ عَلَيْهِ الأَشْعَثُ وَهْوَ يَطْعَمُ فَقَالَ:
الْيَوْمُ عَاشُورَاءُ فَقَالَ: كَانَ يُصَامُ قَبْلَ أَنْ
يَنْزِلَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تُرِكَ
فَادْنُ فَكُلْ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمود) هو ابن غيلان قال:
(أخبرنا عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن موسى بن باذام
الكوفي (عن إسرائيل) بن يونس (عن منصور) هو ابن المعتمر
(عن إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن قيس (عن عبد الله) بن
مسعود رضي الله تعالى عنه أنه (قال: دخل عليه الأشعث) بفتح
الهمزة وسكون الشين المعجمة وبعد العين المهملة المفتحة
مثلثة ابن قيس الكندي، وكان ممن أسلم ثم ارتدّ بعد النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم رجع إلى الإسلام
في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه (وهو يطعم) بفتح أوّله
وثالثه أي والحال أن عبد الله كان يأكل
(7/22)
(فقال) أي الأشعث: (اليوم عاشوراء) وعند
مسلم من رواية عبد الرحمن بن يزيد فقال أي ابن مسعود يا
أبا محمد وهي كنية الأشعث ادن إلى الغداء قال أوليس اليوم
يوم عاشوراء (فقال) أي ابن مسعود: (كان يصام) يعني عاشوراء
(قبل أن ينزل) بضم أوّله وفتح ثالثه لأبي ذر ولغيره بفتح
ثم كسر (رمضان فلما نزل رمضان ترك) بضم أوّله مبنيًّا
للمفعول أي ترك صومه (فادن) بهمزة الوصل أي فاقرب (فكل).
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الصوم.
4504 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ
عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ
بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ
الْفَرِيضَةَ وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ، فَكَانَ مَنْ شَاءَ
صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ.
وبه قال: (حدّثنا) وفي الفرع كأصله حدّثني بالإفراد (محمد
بن المثنى) العنزي الزمن البصري قال: (حدّثنا يحيى) بن
سعيد القطان قال: (حدّثنا هشام) هو ابن عروة (قال: أخبرني)
بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير (عن عائشة رضي الله تعالى
عنها) أنها (قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في
الجاهلية، وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يصومه) زاد في كتاب الصوم في رواية أبوي الوقت وذر وابن
عساكر في الجاهلية (فلما قدم المدينة صامه) على عادته
(وأمر) الناس (بصيامه، فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة
وترك عاشوراء فكان من شاء صامه ومن شاء لم يصمه).
واستدل بهذا على أن صيام عاشوراء كان فريضة قبل نزول رمضان
ثم نسخ، لكن في
حديث معاوية السابق في الصيام سمعت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "هذا يوم عاشوراء ولم
يكتب الله عليكم صيامه" وهو دليل مشهور ومذهب الشافعية
والحنابلة أنه لم يكن فرضًا قط ولا نسخ برمضان وبقية مبحث
ذلك سبقت في الصوم.
25 - باب قَوْلِهِ: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ
لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} وَقَالَ عَطَاءٌ: يُفْطِرُ مِنَ الْمَرَضِ
كُلِّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْحَسَنُ
وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ إِذَا
خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدِهِمَا
تُفْطِرَانِ ثُمَّ تَقْضِيَانِ وَأَمَّا الشَّيْخُ
الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ فَقَدْ أَطْعَمَ
أَنَسٌ بَعْدَ مَا كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ كُلَّ
يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا وَلَحْمًا وَأَفْطَرَ.
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ يُطِيقُونَهُ وَهْوَ أَكْثَرُ
(باب قوله) عز وجل وسقط ذلك لغير أبي ذر ({أيامًا
معدودات}) أي مؤقتات بعدد معلوم ونصب أيامًا بعامل مقدر أي
صوموا أيامًا، وهذا النصب إما على الظرفية أو المفعول به
اتساعًا وقيل نصب بكتب إما على الظرف أو المفعول به، وردّه
أبو حيان فقال: أما النصب على الظرفية فإنه محل للفعل
والكتابة ليست واقعة في الأيام لكن متعلقها هو الواقع في
الأيام وأما على المفعول اتساعًا فإن ذلك مبني على كونه
ظرفًا لكتب وتقدم أنه خطأ ومعدودات صفة والمراد به رمضان
أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به وهو عاشوراء كما مر
({فمن كان منكم مريضًا}) مرضًا يضره الصوم ويشق عليه معه
({أو على سفر}) في موضع نصب عطفًا على خبر كان وأو للتنويع
({فعدّة}) أي فعليه صوم عدّة أيام المرض أو السفر ({من
أيام أخر}) إن أفطر فحذف الشرط والمضاف والمضاف إليه للعلم
به ({وعلى الذين يطيقونه}) إن أفطروا ({فدية طعام مسكين})
نصف صاع من بر أو صاع من غيره ثم نسخ ذلك ({فمن تطوّع
خيرًا}) فزاد في الفدية ({فهو}) أي فالتطوّع ({خير له})
وله في محل رفع صفة لخير فيتعلق بمحذوف أي خير كائن له
({وأن تصوموا}) أيها المطيقون وأن مصدرية أي صومكم وهو
مرفوع بالابتداء خبره ({خير لكم}) من الفدية وتطوّع الخير
({وإن كنتم تعلمون}) (البقرة: 184] شرط حذف جوابه تقديره
اخترتموه أو معناه إن كنتم من أهل العلم أو التدبر علمتم
أن الصوم خير لكم.
(وقال عطاء): هو ابن أبي رباح فيما وصله عبد الرزاق (يفطر
من المرض كله كما قال الله تعالى) والذي عليه الجمهور أنه
يباح الفطر لمرض يضر معه الصوم ضررًا يبيح التيمم وإن طرأ
على الصوم ويقض.
(وقال الحسن) البصري فيما وصله عبد بن حميد (وإبراهيم)
النخعي فيما وصله عبد بن حميد أيضًا (في المرضع والحامل)
بالواو ولأبي ذر: أو الحامل (إذا خافتا على أنفسهما أو
ولدهما
تفطران) ولو كان في المرضع من غيرها (ثم تقضيان). ويجب مع
ذلك الفدية في الخوف على الولد أخذًا من آية (وعلى الذين
يطيقونه فدية) قال ابن عباس: إنها نسخت إلا في حق الحامل
والمرضع. رواه البيهقي عنه لا في الخوف على المس كالمريض
فلا فدية عليه.
(وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام) فإنه يفطر وتجب
عليه الفدية دون القضاء (فقد أطعم أنس بعد ما كبر) بكسر
الموحدة وشق عليه الصوم وكان حينئذٍ في عشرة المائة (عامًا
أو عامين) بالشك من الراوي (كل يوم مسكينًا خبرًا ولحمًا
وأفطر) وهذا رواه
(7/23)
عبد بن حميد من طريق النضر بن أنس عن أنس
لكن الواجب لكل يوم فات صومه مد وهو رطل وثلث، وبالكيل
المصري نصف قدح من جنس الفطرة فلا يجزئ نحو دقيق وسويق
ومثل الكبير المريض الذي لا يطيق الصوم ولا يرجى برؤه
للآية السابقة على القول بأنها لم تنسخ أصلًا (قراءة
العامة يطيقونه) بكسر الطاء وسكون التحتية من أطاق يطيق
كأقام يقيم (وهو أكثر).
4505 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ،
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ
عَبَّاسٍ، يَقْرَأُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ
وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ، لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ
يَصُومَا فَلْيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ
مِسْكِينًا.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسحاق) هو ابن راهويه قال:
(أخبرنا روح) بفتح الراء وبعد الواو الساكنة حاء مهملة ابن
عبادة قال: (حدّثنا زكريا بن إسحاق) المكي قال: (حدّثنا
عمرو بن دينار عن عطاء) هو ابن أبي رباح المكي (سمع) ولأبي
الوقت أنه سمع (ابن عباس) -رضي الله عنهما- (يقرأ) ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي يقول: (وعلى الذين يطوّقونه) بفتح
الطاء مخففة وواو مشددة مبنيًا للمفعول من طوّق بفتح أوّله
بوزن قطع. قال مجاهد: يتحملونه. وعن عمرو بن دينار فيما
رواه النسائي من طريق ابن أبي نجيح يكلفونه أي يكلفون
إطاقته، وفي نسخة يطوقونه فلا يطيقونه ({فدية طعام مسكين}
قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة
الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان) كذا في اليونينية
باللام وسقطت من الفرع كغيره (مكان كل يوم) أفطراه
(مسكينًا) وفيه دليل للشافعي ومن وافقه أن الشيخ الكبير
ومن ذكر معه إذا شق عليه الصوم فأفطر فعليه الفدية خلافًا
لمالك ومن وافقه، ومن أفطر لكبر ثم قوي على القضاء بعد
يقضي ويطعم عند الشافعي وأحمد، وقال الكوفيون: لا إطعام.
26 - باب {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
({فمن شهد منكم الشهر فليصمه}) [البقرة: 185] "من" يجوز أن
تكون شرطية وموصولة، ومنكم في موضع نصب على الحال من
المستكنّ في شهد فيتعلق بمحذوف أي كائنًا منكم والشهر نصب
على الظرفية، والمراد بشهد وحضر ومفعوله محذوف أي فمن حضر
منكم
المصر في الشهر ولم يكن مسافرًا فليصم فيه، والفاء جواب
الشرط أو زائدة في الخبر والهاء نصب على الظرفية كما في
الكشاف، وتعقب بأن الفعل لا يتعدى لضمير الظرف إلا بفي إلا
أن يتوسع فيه فينصب نصب المفعول به.
4506 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ
قَرَأَ {فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [البقرة: 184]
قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ.
وبه قال: (حدّثنا عياش بن الوليد) بالمثناة التحتية والشين
المعجمة الرقام البصري قال: (حدّثنا عبد الأعلى) السامي
البصري قال: (حدّثنا عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن عمر
بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (عن نافع عن ابن عمر -رضي
الله عنهما- أنه قرأ فدية طعام) بغير تنوين وجر طعام على
الإضافة (مساكين) بالجمع وهي رواية أبي ذر، وقراءة نافع
وابن ذكوان مقابلة الجمع بالجمع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو
والكوفيون بالتنوين والرفع على أن فدية مبتدأ خبره في
الجار قبله، وطعام بدل من فدية أو عطف بيان وتخصيص فدية
بتقديم الجار وإضافتها سوغ الابتداء مسكين بالتوحيد مراعاة
لأفراد العموم أي على كل واحد ممن يطيق الصوم.
فإن قلت: أفردوا المسكين والمعنى على الكثرة لأن الذين
يطيقوله جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فكان الوجه أن
يجمعوا كما جمع المطيقون. أجيب: بأن الإفراد أحسن لأنه
يفهم بالمعنى أن لكل واحد مسكينًا، وقرأ هشام بالتنوين
والرفع والجمع.
(قال: هي منسوخة) أي بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}
[البقرة 185] فأثبت الله تعالى صيامه على المقيم الصحيح
ورخص فيه للمريض والمسافر، وكذا الشيخ الفاني الذي لا
يستطيع.
4507 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ
مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ
الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِىَ
حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مَاتَ بُكَيْرٌ قَبْلَ يَزِيدَ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء البغلاني
قال: (حدّثنا بكر بن مضر) بفتح الموحدة وسكون الكاف ومضر
بميم مضمومة فضاد معجمة مفتوحة فراء ابن محمد بن حكيم
المصري (عن عمرو بن الحرث) بفتح العين ابن يعقوب بن عبد
الله مولى قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري المصري أحد الأئمة
الأعلام (عن بكير بن عبد الله) بضم الموحدة وفتح الكاف
مصغرًا ابن الأشج مولى بني مخزوم المدني نزيل مصر (عن
يزيد) بن أبي عبيد الأسلمي (مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة)
بن الأكوع أنه (قال: لما نزلت {وعلى
(7/24)
الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من
أراد أن يفطر ويفتدي) فعل (حتى نزلت الآية التي بعدها)
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}
(فنسختها) كلها أو بعضها فيكون حكم الإطعام باقيًا على من
لم يطق الصوم لكبر، وقال مالك: جميع الإطعام منسوخ لكنه
مستحب.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الصوم وكذا أبو داود والترمذي،
وأخرجه النسائي في التفسير.
(قال أبو عبد الله) البخاري: (مات بكير) هو ابن عبد الله
بن الأشج (قبل) شيخه (يزيد) بن أبي عبيد الأسلمي، وكانت
وفاته في سنة عشرين ومائة أو قبلها أو بعدها، وتوفي يزيد
سنة ست أو سبع وأربعين ومائة وسقط قوله قال أبو عبد الله
الخ في رواية غير المستملي.
27 - باب {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ
إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا
عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ}
({أحلّ}) بضم الهمزة مبنيًا للمفعول أي أحل الله ({لكم
ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}) عدى الرفث الذي هو كناية
عن الجماع بإلى، والأصل أن يتعدى بالباء يقال: أرفث فلان
بامرأته لتضمنه معنى الإفضاء. قال تعالى: {وقد أفض بعضكم
إلى بعض} [النساء: 21] كأنه قال أحل لكم الإفضاء إلى
نسائكم بالرفث ({هن}) أي نساؤكم ({لباس لكم وأنتم لباس
لهن}). قال الزمخشري: لما كان الرجل والمرأة يعتنقان
ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه شبه باللباس
المشتمل عليه قال الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا
وزاد القاضي لأن كل واحد منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من
الفجور ونحوه. قال السمرقندي: والجملة استئناف تبين سبب
الإحلال وهو قلة الصبر عنهن وصعوبة اجتنابهن لكثرة
المخالطة وشدة الملابسة فلذلك رخص في المباشرة ({علم الله
أنكم كنتم}) في موضع رفع خبر لأن ({تختانون أنفسكم})
تظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب ({فتاب
عليكم}) حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور ({وعفا عنكم})
يحتمل أن يريد عن المعصبة بعينها فيكون تأكيدًا وتأنيسًا
زيادة على التوبة، ويحتمل أن يريد عفا عما كان يلزمكم من
اجتناب النساء بمعنى تركه لكم كما تقول شيء معفو عنه أي
متروك ({فالآن}) أي: فالوقت الذي كان يحرم عليكم فيه
الجماع من الليل ({باشروهن}) أي جامعوهن ({وابتغوا ما كتب
الله لكما}) [البقرة: 187] أي اطلبوا ما قدره لكم وأثبته
في اللوح المحفوظ من الولد، والمعنى أن المباشر ينبغي أن
يكون غرضه الولد فإنه الحكمة من خلق الشهوة وشرع النكاح
لإقضاء الوطر قاله في أسرار التنزيل كالكشاف. وقال
السمرقندي: ابتغوا بالقرآن ما أبيح لكم فيه وأمرتم به وسقط
من
قوله: {هن لباس لكم} الخ في رواية أبي ذر وقال بعد قوله:
{إلى نسائكم} إلى قوله: {وابتغوا ما كتب الله لكم}.
4508 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ ح وَحَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ
مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ،
عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ
الْبَرَاءَ - رضي الله تعالى عنه - لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ
رَمَضَانَ كَانُوا لاَ يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ
كُلَّهُ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187].
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن موسى
العبسي مولاهم الكوفي (عن إسرائيل) بن يونس (عن) جده (أبي
إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن البراء) بن عازب. قال
المؤلّف: (وحدّثنا) ولأبي ذر وحدّثني بالإفراد (أحمد بن
عثمان) بن حكيم الأودي الكوفي قال: (حدّثنا شريح بن مسلمة)
بشين معجمة مضمومة وراء مفتوحة آخره حاء مهملة ومسلمة بفتح
الميم واللام الكوفي (قال: حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر
حدّثنا (إبراهيم بن يوسف عن أبيه) يوسف (عن) جده (أبي
إسحاق) أنه (قال: سمعت البراء رضي الله تعالى عنه) قال:
(لما نزل صوم رمضان كانوا) أي الصحابة (لا يقربون النساء)
أي لا يجامعونهن (رمضان كله) ليلًا ونهارًا. زاد في الصيام
عن البراء أيضًا من طريق إسرائيل أنهم كانوا لا يأكلون ولا
يشربون إذا ناموا، ومفهوم ذلك أن الأكل والشرب كان مأذونًا
فيه ليلًا ما لم يحصل النوم، لكن بقية الأحاديث الواردة في
هذا تدل على عدم الفرق فيحمل قوله كانوا لا يقربون النساء
على الغالب جمعًا بين الأحاديث (وكان رجال يخونون أنفسهم)
فيجامعون ويأكلون ويشربون منهم عمر بن الخطاب وكعب بن مالك
وقيس بن صرمة الأنصاري (فأنزل الله تعالى: {علم الله أنّكم
كنتم تختانون
(7/25)
أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم}) وسقط قوله:
{وعفا عنكم} لأبي ذر وقال بدل ذلك الآية.
28 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} -إِلَى قَوْلِهِ-
{تَتَّقُونَ}. الْعَاكِفُ: الْمُقِيمُ
(باب قوله تعالى) وسقط التبويب وتاليه لغير أبي ذر ({وكلوا
واشربوا}) جميع الليل بعد أن كنتم ممنوعين منهما بعد النوم
في رمضان ({حتى}) أي إلى أن ({يتبين لكم الخيط الأبيض})
وهو أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط المدود
({من الخيط الأسود}) وهو ما يمتد معه من غسق الليل شبههما
بخيطين أبيض وأسود ({من الفجر}) [البقرة: 187] بيان للخيط
الأبيض واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لدلالته عليه،
وبذلك خرجا من الاستعارة إلى التمثيل كما قاله القاضي
كالزمخشري.
قال الطيبي: لأن الاستعارة أن يذكر أحد طرفي التشبيه ويراد
به الطرف الآخر وهنا الفجر هو المشبه، والخيط الأبيض هو
المشبه به ولا يقال بقي الأسود على الاستعارة لترك المشبه
لأنه لما كان في الكلام ما يدل عليه فكأنه ملفوظ.
وقال المحقق الكافيحي: تحقيق الكلام في هذا يحتاج إلى
تحقيق الفرق بين الكلام التشبيهي والكلام المشتمل على
الاستعارة، فالتشبيهي هو الذي يذكر فيه المشبه لفظًا نحو:
زيد أسد، أو تقديرًا نحو أسد في مقام الإخبار عن زيد، وأما
الكلام الذي يتضمن الاستعارة: فهو الذي يجعل خلوًّا عن ذكر
المشبه صالحًا لأن يراد به المشبه به لولا القرينة المانعة
عن إرادته، وإذا علم هذا فقوله: {حتى يتبين لكم} إلى آخره
فيه مقصدان.
أحدهما: بيان أنه من قبيل التشبيه عند أهل البيان لا من
قبيل الاستعارة لما فيه من ذكر المشبه والمشبه به وهما
الفجر والخيط الأبيض وغبش الليل، والخيط الأسود على ما
مرّ.
الثاني: تحقيق أنه من قبيل الاستعارة لا من باب التشبيه
استدلالًا عليه بنص الكتاب وتمسكًا بالسنة وبشهادة فحوى
الخطاب.
أما النص؛ فقوله تعالى: {من الفجر} بيان للخيط الأبيض
ومعلوم عندك بالضرورة أن البيان مع المبين متحد بالذات
مختلف بالاعتبار وإنما يتصور هذا المعنى المجازي على سبيل
الاستعارة وإلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وليس
بمشترك بينهما.
وأما السنة، فقد علم منها أن المراد بياض النهار لا الخيط
الأبيض حيث قال عليه الصلاة والسلام فيما يأتي: "إنك لعريض
القفا بل هو سواد الليل وبياض النهار". وأما قولهم
الاستعارة يجب فيها أن يترك ذكر المشبه احترازًا عن فوات
المقصود وتبرّيًا عن عود الأمر على موضوعه بالنقص
والإبطال، ولئلا يكون الأمر كلا أمر فهو مؤوّل بما لا يذكر
المشبه بحيث ينبئ عن التشبيه، فيكون المراد رفع الإيجاب
الكلي فيكون أعم من عموم السلب.
وأما فحوى الخطاب فلأن المقام مقام المبالغة والاتحاد حتى
اشتبه المراد على بعض الأذهان لا مقام التغاير والتفاوت
ومدار الاستعارة حيثما كانت إنما هو على قصد المبالغة
ودعوى الاتحاد كما أن مدار التشبيه إنما هو على قصد
التغاير والتفاوت والعمدة في الفرق بينهما كمال التمييز
بين المقامين بإعطاء كل مقام حقه، ثم إن المختار في نحو
زيد أسد هو التفصيل فتارة يكون استعارة بحسب مقتضى المقام،
وأخرى يكون تشبيعًا بحسبه أيضًا فيكون هذا جميعًا بين
القولين المختلفين.
قال: فعلم من هذا ضعف قول من قال إنه من باب الاستعارة على
الإطلاق كما علم منه عدم متانة قول من قال: إنه من باب
التشبيه على الإطلاق انتهى.
"ومن" في (من الخيط) لابتداء الغاية وهي ومجرورها في محل
نصب بيتبين وفي (من الفجر) يجوز كونها تبعيضية فتتعلق بـ
(يتبين) لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأن تتعلق بمحذوف
على أنها حال من الضمير في الأبيض أي الخيط الذي هو أبيض
كائنًا من الفجر، وعلى هذا يجوز كون من لبيان الجنس كأنه
قيل الخيط الأبيض الذي هو الفجر. قال التفتازاني: المعنى
على التبعيض حال كون الخيط الأبيض بعضًا من الفجر وعلى
البيان حال كونه هو الفجر فأعربه حالًا.
({ثم أتموا الصيام إلى الليل}) إلى غروب الشمس والجار
والمجرور يتعلق بالإتمام أو في محل نصب على الحال من
الصيام فيتعلق بمحذوف أي كائنًا إلى الليل ({ولا
تباشروهن}) ولا
(7/26)
تجامعوهن ({وأنتم عاكفون في المساجد}) بنية
القربة والجملة حالية من فاعل تباشروهن قال الضحاك: كان
الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء حتى نزلت هذه
الآية (إلى قوله: ({يتقون}) [البقرة: 187] أي يتقون مخالفة
الأوامر والنواهي وسقط ثم أتموا الصيام الخ في رواية أبي
ذر وقال: الآية. (العاكف: المقيم) كذا فسره أبو عبيدة وسقط
ذلك لغير المستملي.
4509 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
عَدِيٍّ قَالَ: أَخَذَ عَدِيٌّ عِقَالًا أَبْيَضَ،
وَعِقَالًا أَسْوَدَ حَتَّى كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ نَظَرَ
فَلَمْ يَسْتَبِينَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادَتِي قَالَ: «إِنَّ
وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ إنْ كَانَ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ
وَالأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري بكسر الميم
وسكون النون وفتح القاف قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح
اليشكري (عن حصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن عبد
الرحمن السلمي الكوفي (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن عدي)
هو ابن حاتم الصحابي رضي الله تعالى عنه أنه (قال: أخذ
عدي) بعد نزول آية {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} (عقالًا)
بكسر العين أي خيطًا (أبيض وعقالًا أسود) أي وجعلهما تحت
وسادته كما في رواية هشيم عن حصين في الصيام (حتى كان بعض
الليل نظر) إليهما (فلم يستبينا) فلم يظهرًا له (فلما
أصبح) جاء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتي) زاد الأصيلي عقالين
أي لأستبين بهما الفجر من الليل، ولأبي ذر عن الكشميهني
وسادي بإسقاط تاء التأنيث (قال) عليه الصلاة والسلام:
(إن وسادك) بغير تاء تأنيث (إذًا لعريض إن) بفتح الهمزة
(كان الخيط الأبيض والأسود) المذكوران في الآية (تحت
وسادتك) بزيادة فوقية بعد الدال، وقول الخطابي كنى
بالوسادة عن النوم أي نومك إذا لطويل، ومعنى العريض هنا
الواسع الكبير لا خلاف الطويل يدفعه ما في هذا الحديث لأن
المشرق والمغرب إذا كانا تحت الوساد لزم عرضه قطعًا.
4510 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ
بْنِ حَاتِمٍ
-رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ أَهُمَا
الْخَيْطَانِ؟ قَالَ: «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا إِنْ
أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ»، ثُمَّ قَالَ: «لاَ بَلْ هُوَ
سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي وسقط ابن
سعيد لأبي ذر قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن
مطرف) بضم الميم وفتح الطاء المهملة وبعد الراء المهملة
المشددة المكسورة وفاء ابن طريف الكوفي (عن الشعبي) عامر
بن شراحيل (عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه) أنه (قال:
قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود) وكان
قد وضع عقالين تحت وسادته كما سبق (أما الخيطان؟ قال) عليه
الصلاة والسلام:
(إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين) فسّر الخطابي عرض
القفا بالبله والغفلة والبلادة وحيئنذ فهو كناية لإمكان
إرادة الحقيقة بل هي أولى لأنه إذا كان وساده عريضًا فقفاه
عريض (ثم قال) عليه الصلاة والسلام: (لا بل هو سواد الليل
وبياض النهار).
4511 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو
غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، حَدَّثَنِي أَبُو
حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: وَأُنْزِلَتْ
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} وَلَمْ
يُنْزَلْ {مِنَ الْفَجْرِ} وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا
أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ
الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ وَلاَ
يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا
فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهُ {مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا
أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ.
وبه قال: (حدّثنا ابن أبي مريم) سعيد بن محمد بن الحكم
المصري قال: (حدّثنا أبو غسان) بفتح الغين وتشديد السين
المهملة وبعد الألف نون (محمد بن مطرف) بكسر الراء المشددة
بلفظ اسم الفاعل المدني قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر:
حدثنا (أبو حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمة بن دينار (عن
سهل بن سعد) بسكون الهاء والعين الساعدي رضي الله تعالى
عنه أنه (قال: وأنزلت) بالواو، ولأبي ذر أنزلت بإسقاطها
({وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود ولم ينزل) بضم أوله وفتح ثالثه ولأبي ذر ينزل بفتح
ثم كسر ({من الفجر} وكان رجال) بالواو (إذا أرادوا الصوم
ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال
يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعده) ولأبي ذر بعد
بحذف الضمير ({من الفجر فعلموا أنما يعني الليل من النهار)
للتصريح بذلك. وسقط لفظ من في الفرع كغيره.
وهذا الحديث صريح في نزول {من الفجر} بعد سابقه وحديث عدي
مقتضاه اتصاله به.
وأجيب: بالتعدد، وقد مرّ الحديث وسابقه في كتاب الصوم
والله تعالى الموفق.
29 - باب قَوْلِهِ {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ
اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]
({وليس البر}) ولأبي ذر باب قوله وليس البر ({بأن تأتوا
البيوت من ظهورها}) إذا أحرمتم ({ولكن البر من اتقى}) ذلك
أو اتقى المحارم والشهوات ({وأتوا البيوت من أبوابها})
محلّين ومحرمين ({واتقوا الله}) في تغيير أحكامه والاعتراض
على أفعاله ({لعلكم تفلحون}) [البقرة: 189]. لكي تظفروا
بالهدى والبر ووقع
(7/27)
في رواية أبي ذر بعد قوله: ({من اتقى})
الآية وحذف ما بعدها.
4512 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ
إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ،
قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
أَتَوُا الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}.
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله بن موسى) بضم العين مصغرًا أبو
محمد العبسي مولاهم الكوفي (عن إسرائيل) بن يونس (عن) جده
(أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن البراء) بن عازب
رضي الله تعالى عنهما أنه (قال: كانوا) أي الأنصار وسائر
العرب غير الحمس وهم قريش (إذا أحرموا) بالحج والعمرة (في
الجاهلية أتوا البيت من ظهره) من نقب أو فرجة من ورائه لا
من بابه (فأنزل الله تعالى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت
من ظهورها}) وسقطت واو ليس لأبي ذر ({ولكن البر من اتقى
وأتوا البيوت من أبوابها}) ونقل ابن كثير عن محمد بن كعب
قال: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت
فأنزل الله تعالى الآية.
30 - باب قَوْلِهِ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا
فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:
139]
({وقاتلوهم}) ولأبي ذر باب قوله: {وقاتلوهم} يعني أهل مكة
({حتى لا تكون فتنة}) شرك ({ويكون الدين لله}) خالصًا ليس
للشيطان فيه نصيب أو يكون دين الله هو الظاهر العالي على
سائر الأديان لحديث الصحيحين "من قاتل لتكون كلمة الله هي
العليا فهو في سبيل الله" ({فإن انتهوا}) عن الشرك وقتال
المؤمنين فكفوا عنهم ({فلا عدوان}) أي فمن قاتلهم بعد ذلك
فهو ظالم ولا عدوان ({إلا على الظالمين}) [البقرة: 193].
أو المراد فإن تخلصوا من الظلم وهو الشرك فلا عدوان عليهم
بعد ذلك.
4513 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، أَتَاهُ
رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ
النَّاسَ صنعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ
وَصَاحِبُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي
أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ
اللَّهُ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}
فَقَالَ: قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ
الدِّينُ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا
حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ
اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن
بشار) بفتح الموحدة وتشديد المعجمة العبدي البصبري قال:
(حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي قال: (حدّثنا
عبيد الله) بن عمر العمري (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله
عنهما-) أنه (أتاه رجلان) قيل: هما العلاء بن عرار بمهملات
الأولى مكسورة، وحباب بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة
صاحب الدثنية بفتح المهملة والمثلثة وكسر النون وتشديد
التحتية أو نافع بن الأزرق (في فتنة ابن الزبير) عبد الله
حين حاصره الحجّاج في آخر سنة ثلاث وسبعين بمكة (فقالا: إن
الناس صنعوا) بصاد مهملة ونون مفتوحتين أي صنعوا ما ترى من
الاختلاف، ولغير الكشميهني ضيعوا بمعجمة مضمومة فتحتية
مشددة مكسورة (وأنت ابن عمر صاحب النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن
الله حرم دم أخي) المسلم (فقالا): أي الرجلان ولأبي ذر
قالا: (ألم يقل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} فقال)
ابن عمر: (قاتلنا) أي على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى لم تكن فتنة) أي شرك (وكان الذين
لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا) أي على الملك (حتى تكون فتنة
ويكون الدين لغير الله).
وحاصل هذا أن الرجلين كانا يريان قتال من خالف الإمام وابن
عمر لا يرى القتال على الملك.
4514 - وَزَادَ عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي فُلاَنٌ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ،
عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو الْمَعَافِرِيِّ أَنَّ بُكَيْرَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ
رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا
وَتَعْتَمِرَ عَامًا وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ
اللَّهُ فِيهِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي بُنِيَ الإِسْلاَمُ
عَلَى خَمْسٍ: إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ،
وَالصَّلاَةِ الْخَمْسِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَدَاءِ
الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَلاَ تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ
إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحجرات: 90]
{قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]
قَالَ: فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ الإِسْلاَمُ
قَلِيلًا فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا
قَتَلُوهُ، وَإِمَّا يُعَذِّبُوهُ حَتَّى كَثُرَ
الإِسْلاَمُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ.
(وزاد عثمان بن صالح) السهمي المصري أحد شيوخ المؤلّف على
رواية محمد بن بشار (عن ابن وهب) عبد الله المصري أنه
(قال: أخبرني) بالإفراد (فلان) قيل هو عبد الله بن لهيعة
بفتح اللام وكسر الهاء وبعد التحتية الساكنة عين مهملة
قاضي مصر وعالمها ضعفه غير واحد
(وحيوة بن شريح) بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية وفتح
الواو وشريح بالشين المعجمة وفتح الراء المصري وهو الأكبر
وليس هو الحضرمي (عن بكر بن عمرو المعافري) بفتح الميم
وتخفيف العين المهملة وكسر الفاء (أن بكير بن عبد الله)
بضم الموحدة وفتح الكاف مصغرًا ابن الأشج (حدثه عن نافع)
مولى ابن عمر (أن رجلًا أتى ابن عمر فقال) له: (يا أبا عبد
الرحمن ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر عامًا وتترك
الجهاد) أي القتال الذي هو كالجهاد (في سبيل الله عز وجل)
في الثواب (وقد علمت ما رغب الله فيه؟) ثبتت واو وقد لأبي
ذر (قال): أي ابن عمر للرجل (يا ابن أخي بني الإسلام على
خمس: إيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء
الزكاة وحج البيت. قال): أي الرجل (يا أبا عبد الرحمن ألا)
بالتخفيف (تسمع ما ذكر الله في كتابه {وإن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا}) باغين بعضهم على بعض والجمع باعتبار
المعنى لأن كل طائفة جمع ({فأصلحوا بينهما) بالصح والدعاء
إلى حكم الله ({فإن بغت
(7/28)
إحداهما}) أي تعدت ({على الأخرى فقاتلوا
التي تبغي حتى تفيء}) أي ترجع ({إلى أمر الله}) [الحجرات:
95]. وتسمع للحق وتطيعه، وسقط لغير أبي ذر قوله: {فإن بغت
إحداهما} إلى آخر قوله: {حتى تفيء}.
({قاتلوهم حتى لا تكون فتنة}) شرك (قال) ابن عمر: (فعلنا)
ذلك (على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وكان الإسلام قليلًا فكان الرجل يفتن في دينه)
مبني للمفعول (إما قتلوه وإما يعذبوه) بلفظ الماضي في
الأول والمضارع في الثاني إشارة إلى استمرار التعذيب بخلاف
القتل، وفي الفرع أو يعذبوه، ولأبي ذر: وإما يعذبونه
بإثبات النون وهو الصواب لأن إما التي تجزم هي الشرطية
وليست هنا شرطية ووجهت الأولى بأن النون قد تحذف لغير ناصب
ولا جازم في لغة شهيرة (حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة).
4515 - قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ
قَالَ: أَمَّا عُثْمَانُ فَكَاَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ.
وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَعْفُوا عَنْهُ
وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخَتَنُهُ وَأَشَارَ
بِيَدِهِ فَقَالَ: هَذَا بَيْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ.
(قال) الرجل: (فما قولك في علي وعثمان؟) وهذا يشير إلى أن
السائل كان في الخوارج فإنهم يوالون الشيخين ويخطئون عثمان
وعليًّا، فردّ عليه ابن عمر بذكر مناقبهما ومنزلتهما من
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث (قال: أما
عثمان) رضي الله تعالى عنه (فكان الله عفا عنه) لما فرّ
يوم أحد في كتابه العزيز حيث قال في آل عمران {ولقد عفا
عنكم} [آل عمران: 152] والجلالة رفع اسم كان وخبرها عفا
ويجوز نصبها اسم كان التشبيه أخت أن (وأما أنتم فكرهتم أن
تعفوا عنه) بمثناة فوقية مع سكون الواو خطابًا للجماعة
ولأبي ذر يعفو بالتحتية وفتح الواو أي فكرهتم أن يعفو الله
تعالى عنه. (أما عليّ فابن عم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وختنه) بفتح الخاء المعجمة والمثناة
الفوقية أي زوج ابنته (وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث
ترون) أي بين أبيات رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يريد بيان قربه وقرابته منه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منزلًا ومنزلة.
31 - باب قَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
[البقرة: 195] التَّهْلُكَةُ وَالْهَلاَكُ وَاحِدٌ
(باب قوله) تعالى، وسقط ذلك لغير أبي ذر ({وأنفقوا في سبيل
الله}) في سائر وجوه القربات وخاصة الصرف في قتال الكفار
والبذل فيما يقوى به المسلمون على عدوّهم ({ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة}) بالكف عن الغزو والإنفاق فيه فإنه
يقوي العدوّ ويسلطهم على إهلاككم أو المراد الإمساك وحب
المال فإنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد والباء في بأيديكم
زائدة في المفعول به لأن ألقى يتعدى بنفسه قال الله تعالى:
{فألقى موسى عصاه} وقيل متعلقة بالفعل غير زائدة والمفعول
محذوف أي "ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم" يقال أهلك فلان نفسه
بيده إذا تسبب لهلاكها ({وأحسنوا}) أعمالكم وأخلاقكم أو
تفضلوا على المحاويج ({إن الله يحب المحسنين}) [البقرة:
195].
(التهلكة والهلاك واحد) مصدران.
4516 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ،
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (إسحاق) بن
راهويه قال: (حدّثنا النضر) بالضاد المعجمة ابن شميل قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن مهران الأعمش أنه
(قال: سمعت أبا وائل) شقيق بن سلمة (عن حذيفة {وأنفقوا في
سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: نزلت في
النفقة) قال أبو أيوب الأنصاري: نزلت يعني هذه الآية فينا
معشر الأنصار. إنّا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا
فيما بيننا لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها، فأنزل الله
هذه الآية الحديث. رواه أبو داود وهذا لفظه والترمذي
والنسائي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن جرير وابن
مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه
والحاكم في مستدركه وهو مفسر لقول حذيفة هذا.
32 - باب قَوْلِهِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196]
({فمن كان منكم}) ولأبي ذر باب قوله فمن كان منكم ({مريضًا
أو به أذى من رأسه}) [البقرة: 196] كجراحة وقمل.
4517 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ: قَعَدْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ
عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ
الْكُوفَةِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ {فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ}،
فَقَالَ: حُمِلْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى
وَجْهِي فَقَالَ: «مَا كُنْتُ
أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ هَذَا أَمَا
تَجِدُ شَاةً»؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «صُمْ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ
مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ»
فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهْيَ لَكُمْ عَامَّةً».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي أياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن عبد الرحمن بن الأصبهاني) أنه (قال: سمعت عبد
الله بن معقل) بفتح الميم وسكون العين المهملة وبعد القاف
المكسورة لام ابن مقرن المزني الكوفي التابعي (قال: قعدت
إلى كعب بن عجرة) بضم العين المهملة وبعد الجيم الساكنة
راء مفتوحة أي انتهى قعودي إليه (في هذا المسجد يعني مسجد
الكوفة
(7/29)
فسألته عن) قوله تعالى: ({فدية من صيام}
فقال: حملت إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والقمل يتناثر على وجهي) جملة حالية (فقال) عليه الصلاة
والسلام:
(ما كنت أرى) بضم الهمزة أظن (أن الجهد) بفتح الجيم (قد
بلغ بك هذا) الذي رأيت (أما تجد شاة قلت: لا) أجدها (قال:
صم ثلاثة أيام) بيان لقوله تعالى: {أو صيام} (أو أطعم)
بكسر العين (ستة مساكين) بيان لقوله تعالى: {أو صدقة} (لكل
مسكين نصف صاع من طعام) بنصب نصف على المفعولية أو رفع
مبتدأ مؤخر (وأحلق رأسك) قال ابن عجرة (فنزلت) أي الآية
(فيّ) بكسر الفاء وتشديد التحتية (خاصة وهي لكم عامة)
بالنصب ولأبي ذر عامة بالرفع.
وهذا الحديث سبق في باب الإطعام من الحج.
33 - باب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}
[البقرة: 196]
({فمن تمتع}) ولأبي ذر باب بالتنوين فمن تمتع ({بالعمرة
إلى الحج}) [البقرة: 196] شامل لمن أحرم بهما أو أحرم
بالعمرة أوّلًا فلما فرغ من العمرة أحرم بالحج وهذا هو
التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء والتمتع العام
يشمل القسمين.
4518 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ
عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنهما- قَالَ:
أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ
فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمْ يُنْزَلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ
وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ قَالَ: رَجُلٌ
بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ إِنَّهُ
عُمَرُ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن عمران) بن مسلم (أبي بكر) البصري قال:
(حدّثنا أبو رجاء) بالجيم ممدودًا عمران بن ملحان العطاردي
البصري (عن عمران بن حصين) بضم الحاء المهملة (رضي الله
عنه) أنه (قال: أنزلت آية المتعة في كناب الله ففعلناها)
أي المتعة (مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ولم ينزل) بضم أوله وفتح ثالثه (قرآن يحرمه) أي
التمتع (ولم ينه) بفتح أوّله ولأبي ذر ولم ينه بضمه، ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي: فلم ينه الفاء بدل الواو (عنها)
أي المتعة فذكر الضمير باعتبار التمتع وأنثه باعتبار
المتعة (حتى
مات) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال
رجل): قيل هو عثمان لأنه كان يمنع التمتع (برأيه ما شاء)
زاد في نسخة. قال محمد أي البخاري (يقال أنه) أي الرجل
(عمر) لأنه كان ينهى عنها ويقول: إن نأخذ بكتاب الله فإنه
يأمرنا بالتمام يعني قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله}
[البقرة: 196] وفي نفس الأمر لم يكن عمر رضي الله تعالى
عنه ينهى عنها محرّمًا لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد
الناس البيت حاجين ومعتمرين. قاله الحافظ عماد الدين بن
كثير في تفسيره.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الحج والنسائي في التفسير.
34 - باب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]
(ليس عليكم جناح) ولأبي ذر باب ({ليس عليكم جناح أن
تبتغوا}) في أن تطلبوا ({فضلًا من ربكم}) [البقرة: 198] أي
ربحًا في تجارتكم.
4519 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ
عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ، وَمَجَنَّةُ، وَذُو
الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا
أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد) هو ابن سلام البيكندي
(قال: أخبرني) بالإفراد أيضًا ولأبي ذر أخبرنا (ابن عيينة)
سفيان (عن عمرو) هو ابن دينار (عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما) أنه (قال: كانت عكاظ) بضم العين المهملة وتخفيف
الكاف وبالظاء المعجمة (ومجنة) بفتح الميم والجيم (وذو
المجاز) بفتح الميم والجيم وبعد الألف زاي (أسواقًا في
الجاهلية) بنصب أسواقًا خبر كان وكانت معايشهم منها ولأبي
ذر عن الكشميهني أسواق الجاهلية بحذف الجار وإضافة أسواق
للاحقه (فتأثموا) أي تحرج المسلمون (أن يتجروا) بتشديد
الفوقية بعد التحتية وبالجيم المكسورة بعدها راء مضمومة من
التجارة (في المواسم فنزلت {ليس عليكم جناح أن تبتغوا
فضلًا} من ربكم) قال ابن عباس: أي (في مواسم الحج).
وهذا الحديث سبق في باب التجارة أيام المواسم من كتاب
الحج.
35 - باب {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
[البقرة: 199]
(باب) ({ثم أفيضوا}) ارجعوا ({من حيث أفاض الناس})
[البقرة: 199] من عرفة لا من المزدلفة.
4520 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله تعالى عنها -
قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا
يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ
الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ
بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ أَمَرَ اللَّهُ
نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ
يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ
ثُمَّ يَقِفَ بِهَا ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا فَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ} [البقرة: 199].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
محمد بن خازم) بالخاء والزاي المعجمتين أبو معاوية الضرير
قال: (حدّثنا هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة رضي
الله تعالى عنها) أنها قالت: (كانت قريش ومن دان دينها)
وهو بنو عامر بن صعصعة وثقيف وخزاعة فيما قاله الخطاب
(يقفون بالمزدلفة) ولا يخرجون من المحرم إذا وقفوا
ويقولون: نحن أهل الله فلا نخرج من حرم الله (وكانوا يسمون
الحمس) بضم الحاء المهملة وبعد الميم الساكنة سين مهملة
جمع أحمس وهو الشديد الصلب وسموا بذلك لتصلبهم فيما كانوا
عليه (وكان سائر العرب) أي باقيهم
(7/30)
(يقفون بعرفات لما جاء الإسلام أمر الله)
عز وجل (نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت
التصلية لأبي ذر (أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها)
بنصب الفعلين عطفًا على السابق (فذلك قوله تعالى: {ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس}) سائر العرب غير قريش ومن دان
دينهم، وقيل: المراد بالناس إبراهيم وقيل آدم عليهما
الصلاة والسلام وقرئ الناس بالكسر أي الناس يريد آدم عليه
السلام من قوله تعالى: {فنسي} والمعنى أن الإفاضة من عرفة
شرع قديم فلا تغيّروه.
وهذا الحديث قد مرّ في الحج.
4521 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،
حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: يَطَوَّفُ الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ مَا كَانَ
حَلاَلًا حَتَّى يُهِلَّ بِالْحَجِّ فَإِذَا رَكِبَ إِلَى
عَرَفَةَ فَمَنْ تَيَسَّرَ لَهُ هَدِيَّةٌ مِنَ الإِبِلِ
أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ
ذَلِكَ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ غَيْرَ إِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ
لَهُ فَعَلَيْهِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَذَلِكَ
قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ كَانَ آخِرُ يَوْمٍ مِنَ
الأَيَّامِ الثَّلاَثَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِ ثُمَّ لِيَنْطَلِقْ حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَاتٍ
مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الظَّلاَمُ،
ثُمَّ لِيَدْفَعُوا مِنْ عَرَفَاتٍ إِذَا أَفَاضُوا
مِنْهَا حَتَّى يَبْلُغُوا جَمْعًا الَّذِي يُتَبَرَّرُ
فِيهِ ثُمَّ لِيَذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا، أَوْ
أَكْثِرُوا التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ قَبْلَ أَنْ
تُصْبِحُوا، ثُمَّ أَفِيضُوا فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا
يُفِيضُونَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا
مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] حَتَّى
تَرْمُوا الْجَمْرَةَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن أبي بكر) المقدمي
البصري قال: (حدّثنا فضيل بن سليمان) بضم الفاء وفتح الضاد
في الأوّل وضم السين وفتح اللام من الثاني النمير بالنون
مصغرًا البصري قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) الإمام في
المغازي قال: (أخبرني) بالإفراد (كريب) هو ابن أبي مسلم
الهاشمي مولاهم المدني مولى ابن عباس (عن ابن عباس) رضي
الله تعالى عنهما أنه (قال: تطوف الرجل بالبيت) بفتح
المثناة الفوقية والطاء المخففة وضم الواو المشددة مضافًا
لتاليه وفي نسخة يطوف بالمثناة التحتية وضم الطاء مخففة
الرجل بالرفع على الفاعلية (ما كان حلالًا) أي مقيمًا بمكة
أو دخل بعمرة وتحلل منها (حتى يهلّ بالحج، فإذا ركب إلى
عرفة فمن تيسر له هدية)
بكسر الدال وتشديد التحتية، والذي في اليونينية هدية بكسر
الدال من غير تشديد على التحتية، وفي نسخة هديه بسكون
الدال وتخفيف التحتية آخره هاء (من الإبل أو البقر أو
الغنم) وجزاء الشرط قوله: (ما تيسر له من ذلك) أي ففديته
ما تيسر أو فعليه ما تيسر أو بدل من الهدي والجزاء بأسره
محذوف أي ففديته ذلك أو فليفتد بذلك قاله الكرماني (أيّ
ذلك شاء غير إن لم) وللأصيلي غير أنه إن لم (يتيسر له) أي
الهدي (فعليه) وجوبًا (ثلاثة أيام) يصومهن (في الحج وذلك
قبل يوم عرفة) لأنه يسن للحاج فطره وهذا تقييد من ابن عباس
لإطلاق الآية (فإن كان آخر يوم) برفع آخر ولأبي ذر بالنصب
(من الأيام الثلاثة يوم عرفة فلا جناح عليه) ولا يجوز صوم
شيء منها يوم النحر ولا في أيام التشريق كما سبق في الحج،
ولا يجوز تقديمها على الإحرام بالحج لأنها عبادة بدنية فلا
تقدم على وقتها (ثم لينطلق) بالجزم بلام الأمر ولأبي ذر عن
المستملي ينطلق بحذف اللام (حتى يقف بعرفات من صلاة العصر)
عند صيرورة ظل كل شيء مثله أو بعد صلاتها مع الظهر جمع
تقديم للسفر (إلى أن يكون الظلام) بغروب الشمس (ثم ليدفعوا
من عرفات إذا أفاضوا منها حتى يبلغوا جمعًا) بفتح الجيم
وسكون الميم وهو المزدلفة (الذي يبيتون به) صفة لجمعًا وهو
من البيات، وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي يتبرر بفوقية بعد
التحتية المضمومة فموحدة فراءين مهملتين أوّلهما مفتوح
مشدّد أي يطلب فيه البر وهو الصواب وعليه اقتصر في الفتح،
وفي نسخة يتبرز بزاي معجمة آخره بدل الراء من التبرز وهو
الخروج للبراز وهو الفضاء الواسع لأجل قضاء الحاجة (ثم
ليذكر الله كثيرًا) بكسر الراء مع الأفراد وفي نسخة ثم
ليذكروا الله بضمها مع الجمع (وأكثروا التكبير والتهليل)
بالواو المفتوحة من غير همزة قبلها في الفرع وأصله وغيرهما
من النسخ المعتمدة التي وقفت عليها. وقال الحافظ ابن حجر:
وتبعه العيني أو أكثروا بالشك من الراوي أي: هل قال ثم
ليذكر الله وأكثروا التكبير والتهليل (قبل أن تصبحوا ثم
أفيضوا فإن الناس كانوا يفيضون)، وقال الله تعالى: ({ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله}) من تغيير
المناسك ونحوه ({إن الله غفور رحيم}) يغفر ذنب المستغفر
وكثيرًا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات (حتى ترموا
الجمرة) التي عند العقبة وهو غاية لقوله: ثم أفيضوا، أو
لقوله: أكثروا التكبير،
36 - باب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]
({ومنهم}) وفي نسخة باب بالتنوين ومنهم ({من يقول ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار})
[البقرة: 201] وفي رواية أبي ذر بعد قوله في الدنيا حسنة
الآية وسقط ما بعده.
4522 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ».
37 - باب {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}
[البقرة: 204] وَقَالَ عَطَاءٌ: النَّسْلُ: الْحَيَوَانُ
[الحديث 4522 - أطرافه في: 6385].
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بميمين مفتوحتين
(7/31)
بينهما عين ساكنة عبد الله بن عمرو المنقري
المقعد قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان العنبري
مولاهم التنوري بفتح المثناة وتشديد النون البصري (عن عبد
العزيز) بن صهيب البناني بموحدة مضمومة ونونين البصري (عن
أنس) رضي الله تعالى عنه أنه (قال: كان النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(اللهم ربنا) سقط لفظ ربنا لأبي ذر ({آتنا في الدنيا حسنة
وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}) قال ابن كثير: جمعت هذه
الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر فإن الحسنة في الدنيا
تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ورزق واسع وعلم نافع وعمل
صالح إلى غير ذلك. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول
الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع أكبر في العرصات وتيسير
الحساب وغير ذلك، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير
أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الدعوات وأبو داود في الصلاة.
({وهو ألد الخصام}) [البقرة: 204] أي شديد العداوة والجدال
للمسلمين وفي نسخة باب وهو ألد الخصام.
(وقال عطاء): هو ابن أبي رباح مما وصله الطبري (النسل) في
قوله تعالى: {ويهلك الحرث والنسل} [البقرة: 205]
(الحيوان).
4523 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ
الأَلَدُّ الْخَصِمُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بن عقبة السوائي العامري الكوفي
قال: (حدّثنا سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري (عن ابن
جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن ابن أبي مليكة) عبد
الله (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها (ترفعه) إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:
(أبغض الرجال إلى الله الألد) بفتح الهمزة واللام وتشديد
الدال المهملة (الخصم) بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد
المهملة: قال الجوهري: رجل ألد بين اللدد وهو الشديد
الخصومة والخصم بكسر الصاد الشديد الخصومة. وقال ابن
الأثير: اللدد الخصومة الشديدة. وقال التوربشتي: الأوّل
ينبئ عن الشدة والثاني عن الكثرة. وقال شارح المشكاة:
المعنى أنه شديد في نفسه بليغ في خصومته فلا يلزم منه
التكرار قال الزمخشري في قوله تعالى: {وهو ألد الخصام}
[البقرة: 204] أي شديد الجدال والعداوة للمسلمين والخصام
المخاصمة وإضافة الألدّ بمعنى في أو يجعل الخصام ألد على
المبالغة أو الخصام جمع خصم كصعب وصعاب بمعنى وهو أشد
الخصوم خصومة.
(وقال عبد الله) هو ابن الوليد العدني (حدّثنا سفيان) هو
الثوري كما جزم به المزي فيهما قال: (حدّثني) بالإفراد
(ابن جريج) عبد الملك ولأبي ذر: عن ابن جريج (عن ابن أبي
مليكة) عبد الله (عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهذا وصله سفيان
الثوري في جامعه، وذكره المؤلّف لتصريحه برفعه إلى رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
38 - باب {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ}
-إِلَى- {قَرِيبٌ} [البقرة: 214]
({أم حسبتم}) وفي نسخة: باب أم حسبتم ({أن تدخلوا الجنة})
قبل أن تبتلوا قيل أم هي المنقطعة فتقدر ببل والهمزة قيل
لإضراب انتقال من أخبار إلى أخبار والهمزة للتقرير
والتقدير بل أحسبتم وقيل لمجرد الإضراب من غير تقدير
والمعنى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تبتلوا وتختبروا
وتمتحنوا كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم ولذا قال:
({ولما يأتكم مثل الذين خَلَوا من قبلكم مستهم البأساء
والضراء}) وهي الأمراض والأسقام والآلام والمصائب
والنوائب. وقال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما البأساء:
الفقر، وقال ابن عباس: والضراء السقم والواو في ولما للحال
والجملة بعدها نصب عليها ولما حرف جزم معناها النفي كلم
وفيها توقع ولذا جعل مقابل قد (إلى {قريب}) [البقرة: 214]
وفي رواية أبي ذر بعد قوله: {من قبلكم} الآية وحذف ما عدا
ذلك.
وعند ابن أبي حاتم في تفسيره أنها نزلت يوم الأحزاب حين
أصاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلاء
وحصر، وقيل في يوم أُحد، وقيل: نزلت تسلية للمهاجرين حين
تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين.
4524 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي
مُلَيْكَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] خَفِيفَةً ذَهَبَ
بِهَا هُنَاكَ وَتَلاَ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ
إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. فَلَقِيتُ
عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكُ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني (إبراهيم بن موسى) بن
يزيد الرازي الفراء الصغير قال: ({أخبرنا هشام}) هو ابن
حسان (عن ابن جريج) عبد الملك أنه (قال: سمعت ابن أبي
مليكة) عبد الله (يقول: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-)
(7/32)
في قوله تعالى: ({حتى إذا استيأس الرسل})
ليس في الكلام شيء حتى يكون غاية له فقدروه {وما أرسلنا من
قبلك إلا رجالًا}
[النحل: 43] فتراخى نصرهم حتى وقيل غير ذلك مما يأتي إن
شاء الله تعالى في سورة يوسف عليه الصلاة والسلام ({وظنوا
أنهم قد كذبوا}) [يوسف: 110] (خفيفة) ذالها المعجمة وهي
قراءة الكوفيين على معنى أنه أعاد الضمير من ظنوا وكذبوا
على الرسل أي هم ظنوا أن أنفسهم كذبتم ما حدثتهم به من
النصرة كما يقال: صدق رجاؤه وكذب رجاؤه أو أعاد الضميرين
على الكفار أي: وظن الكفار أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا
به من النصر أو غير ذلك مما يأتي إن شاء الله تعالى في
سورة يوسف عليه الصلاة والسلام.
قال ابن أبي مليكة: (ذهب بها) أي بهذه الآية ابن عباس
(هناك) بغير لام في اليونينية أي فهم منها ما فهمه من آية
البقرة من الاستبعاد والاستبطاء (وتلا حتى يقول الرسول
والذين آمنوا معه) لتناهي الشدة واستطالة المدة بحيث تقطعت
حبال الصبر ({متى نصر الله}) استبطاء لتأخره فقيل لهم:
({ألا إن نصر الله قريب}) [البقرة: 214] إسعافًا لهم إلى
طلبتهم من عاجل النصر، وهذه الآية كآية سورة يوسف في مجيء
النصر بعد اليأس والاستبعاد وفي ذلك إشارة إلى أن الوصول
إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض اللذات ومكابدة
الشدائد والرياضات. قال ابن أبي مليكة: (فلقيت عروة بن
الزبير فذكرت له ذلك) المذكور من تخفيف ذال كذبوا.
4525 - فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَعَاذَ اللَّهِ،
وَاللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ
إِلاَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ،
وَلَكِنْ لَمْ يَزَلِ الْبَلاَءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى
خَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ،
فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِّبُوا} مُثَقَّلَةً.
(فقال: قالت عائشة): منكرة على ابن عباس (معاذ الله والله
ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن
يموت) ظرف للعلم لا للكون (ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى
خافوا أن يكون من معهم) من المؤمنين (يكذبونهم) وإنكار
عائشة على ابن عباس رضي الله تعالى عنهم إنما هو من جهة أن
مراده أن الرسل ظنوا أنهم مكذبون من عند الله لا من عند
أنفسهم بقرينة الاستشهاد بآية البقرة، ولا يقال لو كان كما
قالت عائشة لقيل وتيقنوا أنهم قد كذبوا لأن تكذيب القوم
لهم كان متحققًا لأن تكذيب أتباعهم من المؤمنين كان
مظنونًا والمتيقن هو تكذيب من لم يؤمن أصلًا. قاله
الكرماني، ويأتي زيادة لذلك في آخر سورة يوسف عليه الصلاة
والسلام إن شاء الله تعالى (فكانت تقرؤها {وظنوا أنهم قد
كذبوا}، مثقلة) وهي قراءة الباقين غير الكوفيين على معنى:
وظن الرسل أن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب
والنصرة عليهم فأعاد الضميرين على الرسل.
39 - باب {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223]
الآيَةَ
(باب) قوله تعالى: ({نساؤكم حرث لكم}) مبتدأ وخبر وجاز
الإخبار عن الحرث بالمصدر
إما للمبالغة أو على حذف مضاف من الأوّل أي وطء نسائكم حرث
أي كحرث أو الثاني أي نساؤكم ذوات حرث ولكم في موضع رفع
صفة لحرث متعلق بمحذوف، وأفرد الخبر والمبتدأ جمع لأنه
مصدر والأفصح فيه الإفراد والتذكير حينئذٍ.
وقال في الكشاف: حرث لكم مواضع حرث لكم، وهذا مجاز شبهن
بالمحارث تشبيهًا لما يلقي في أرحامهن من النطف التي منها
الغسل بالبذور.
قال في المصابيح: قوله؛ وهذا مجاز قيل باعتبار إطلاق الحرث
على مواضع الحرث، وقيل باعتبار تغير حكم الكلمة في الإعراب
من جهة حذف المضاف كما في: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وقيل
باعتبار حمل المشبه به على المشبه بعد حذف الأداة كما في
زيد أسد فكثيرًا ما يقال له المجاز وإن لم يكن له استعارة
وكأن التجوّز في ظاهر الحكم بأنه هو، ثم أشار إلى أن هذا
التشبيه متفرع على تشبيه النطف الملقاة في أرحامهن بالبذور
إذ لولا اعتبار ذلك لم يكن بهذا الحسن، وقيل المراد
بالمجاز الاستعارة بالكناية لأن في جعل النساء محارث دلالة
على أن النطف بذور على ما أشار إليه بقوله تشبيهًا لما
يلقى الخ كما تقول: إن هذا الموضع لمفترس الشجعان.
قال المولى سعد الدين التفتازاني: ولا أرى ذلك جاريًا على
القانون إلا أن يقال: التقدير نساؤكم حرث لنطفكم ليكون
المشبه مصرحًا والمشبه به مكنيًا انتهى. وقد روي عن مقاتل
فروج نسائكم مزرعة للولد.
({فأتوا حرثكم}) أي فأتوهن كما تأتون المحارث ({أنّى
شئتم}) أي
(7/33)
كيف شئتم مستقبلين ومستدبرين إذا كان في
صمام واحد، وقيل: أنى بمعنى حيث، وقيل: متى ({وقدّموا
لأنفسكم}) [البقرة: 223] (الآية) أي ما يدخر لكم من الثواب
وقيل هو طلب الولد وعند ابن جرير عن عطاء. قال: أراه عن
ابن عباس {وقدّموا لأنفسكم} قال: يقول بسم الله التسمية
عند الجماع، وسقط لأبي ذر قوله: {وقدموا لأنفسكم}.
4526 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ
شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ:
كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- إِذَا قَرَأَ
الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ
فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَقَرَأَ سُورَةَ
الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ قَالَ: تَدْرِى
فِيمَا أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي
كَذَا وَكَذَا ثُمَّ مَضَى. [الحديث 4526 - أطرافه في:
4527].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (إسحاق) هو
ابن راهويه قال: (أخبرنا النضر بن شميل) بالضاد المعجمة
وشميل بضم الشين المعجمة وفتح الميم قال: (أخبرنا ابن عون)
بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالنون عبد الله الفقيه
المشهور (عن نافع) مولى ابن عمر أنه (قال: كان ابن عمر
-رضي الله عنهما- إذا قرأ القرآن لم يتكلم) بغير القرآن
(حتى يفرغ منه فأخدت عليه يومًا) أي أمسكت المصحف وهو يقرأ
عن ظهر قلب، وعند الدارقطني في غرائب مالك من
رواية عبيد الله بن عمر عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك
علي المصحف يا نافع (فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان)
هو قوله: {نساؤكم حرث لكم} (قال: تدري فيما) بألف بعد
الميم، ولأبي ذر: فيم (أنزلت) قال نافع: (قلت: لا. قال:
أنزلت في كذا وكذا) أي في إتيان النساء في أدبارهن (ثم
مضى) أي في قراءته، وقد ساق المؤلّف هذا الحديث مبهمًا
لمكان الآية والتفسير.
وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وتفسيره بالإسناد
المذكور هنا هذا الحديث بلفظ: حتى انتهى إلى {نساؤكم حرث
لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم} فقال: تدري فيم أنزلت هذه
الآية؟ قلت: لا. قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن
فبين فيه ما أبهم هنا، ثم عطف المؤلّف على قوله أخبرنا
النضر بن شميل قوله:
4527 - وَعَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنِي أَبِي
حَدَّثَنِي أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قَالَ: يَأْتِيهَا
فِي. رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ.
(وعن عبد الصمد) هو ابن عبد الوارث التنوري أنه قال:
(حدّثني) بالإفراد (أبي) عبد الوارث بن سعيد قال: (حدّثني)
بالإفراد أيضًا (أيوب) السختياني (عن نافع عن ابن عمر)
-رضي الله عنهما- أنه قال: في قوله تعالى: ({فأتوا حرثكم
أنى شئتم}) قال: (يأتيها) زوجها (في) بحذف المجرور وهو
الظرف أي في الدبر كما وقع التصريح به عند ابن جرير في هذا
الحديث من طريق عبد الصمد عن أبيه، قيل: وأسقط المؤلّف ذلك
لاستنكاره، وقول الكرماني فيه دليل على جواز حذف المجرور
والاكتفاء بالجار، عورض بأن هذا لا يجوز إلا عند بعض
النحويين في ضرورة الشعر، وقول الحافظ ابن حجر أنه نوع من
أنواع البديع يسمى الاكتفاء ولا بد من نكتة يحسن بسببها
استعماله. تعقبه العيني فقال: ليت شعري من قال من أهل
صناعة البديع أن حذف المجرور وذكر الجار وحده من أنواع
البديع، والاكتفاء إنما يكون في شيئين متضادين يذكر أحدهما
ويكتفى به عن الآخر كما في قوله تعالى: {سرابيل تقيكم
الحر} [النحل: 81] أي والبرد. وأجاب في انتقاض الاعتراض
بأن ما ذكره العيني هو أحد أنواع الاكتفاء والنوع الثاني:
الاكتفاء ببعض الكلام وحذف باقيه، والثالث: أشذ منه وهو
حذف بعض الكلمة. قال: وهذا المعترض لا يدري وينكر على من
يدري انتهى.
وفي سراج المريدين أن المؤلّف ترك بياضًا بعد في فقال
بعضهم: لأنه لما رأى أحاديث تدل للإباحة كحديث ابن عمر
وأخرى تدل للمنع ولم يترجح عنده في ذلك شيء بيض له حتى
يثبت عنده الترجيح فاخترمته المنية.
(رواه) أي الحديث (محمد بن يحيى بن سعيد) القطان البصري
فيما رواه الطبراني في الأوسط (عن أبيه) يحيى بن سعيد بن
فروخ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو ثم
معجمة (عن عبيد الله) بضم العين ابن عمر (عن نافع عن ابن
عمر) ولفظ الطبراني قال: إنما نزلت على رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {نساؤكم حرث لكم} [البقرة:
223] رخصة في إتيان الدبر. قال الطبراني: لم يروه عن عبيد
الله بن عمر إلاَّ يحيى بن سعيد تفرد به ابنه.
قال في الفتح لم يتفرد به يحيى بن سعيد فقد رواه عبد
العزيز الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع أيضًا كما
عند الدارقطني في غرائب مالك. ورواه الدارقطني أيضًا في
الغرائب من طريق الدراوردي عن مالك عن نافع عن ابن عمر
بلفظ: نزلت في رجل من
(7/34)
الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس
ذلك، فنزلت قال فقلت له من دبرها في قبلها. قال: لا إلا في
دبرها، لكن قال الحافظ ابن كثير: لا يصح، وقال في الفتح:
وتابع نافعًا على روايته زيد بن أسلم عن ابن عمر عند
النسائي بإسناد صحيح، وتكلم الأزدي في بعض رواته وردّ عليه
ابن عبد البر وأصاب. قال: ورواية ابن عمر لهذا المعنى
صحيحة مشهورة من رواية نافع عنه فغير نكير أن يرويها عنه
زيد بن أسلم. قال ابن أبي حاتم الرازي: لو كان هذا عند زيد
بن أسلم عن ابن عمر لما أولع الناس بنافع، قال ابن كثير:
وهذا تعليل منه لهذا الحديث، وقد رواه عن ابن عمر أيضًا
ابنه عبد الله كما عند النسائي، وسالم ابنه وسعيد بن يسار
كما عند النسائي وابن جرير، ولم يتفرد ابن عمر بذلك بل
رواه أيضًا أبو سعيد الخدري كما عند ابن جرير والطحاوي في
مشكله بلفظ: إن رجلًا أصاب امرأته في دبرها فأنكر الناس
عليه فأنزل الله الآية.
وقد نقل إباحة ذلك عن جماعة من السلف لهذه الأحاديث وظاهر
الآية ونسبه ابن شعبان لكثير من الصحابة والتابعين ولإمام
الأئمة مالك في روايات كثيرة قال أبو بكر الجصاص في أحكام
القرآن له المشهور عن مالك إباحته وأصحابه ينفون هذه
المقالة عنه لقبحها وشناعتها وهي عنه أشهر من أن تندفع
بنفيهم عنه انتهى.
لكن روى الخطيب عن مالك من طريق إسرائيل بن روح وقال: سألت
مالكًا عن ذلك فقال: ما أنتم قوم عرب هل يكون الحرث إلا
موضع الزرع لا تعدوا الفرج. قلت: يا أبا عبد الله إنهم
يقولون إنك تقول ذلك. قال: يكذبون عليّ يكذبون عليّ،
فالظاهر أن أصحابه المتأخرين اعتمدوا على هذه القصة، ولعل
مالكًا رجع عن قوله الأول أو كان يرى العمل على خلاف حديث
ابن عمر فلم يعمل به، وإن كانت الرواية فيه صحيحة على
قاعدته، ولذا قال بعض المالكية: إن ناقل إباحته عن مالك
كاذب مفتر، ونقل عن ابن وهب أنه قال: سألت مالكًا فقلت
حكوا عنك أنك تراه. قال: معاذ الله وتلا: {نساؤكم حرث لكم}
قال: ولا يكون الحرث إلا موضع الزرع وإنما نسب هذا الكتاب
السر هو كتاب مجهول لا يعتمد عليه. قال القرطبي ومالك أجلّ
من أن يكون له كتاب سر، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه
وأحمد والجمهور التحريم لورود النهي عن فعله وتعاطيه، ففي
حديث خزيمة بن ثابت عند أحمد نهى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يأتي الرجل امرأته في
دبرها. وحديث ابن عباس عند الترمذي مرفوعًا: لا
ينظر الله إلى رجل أتى امرأته في دبرها في أحاديث كثيرة
يطول ذكرها وحملوا ما ورد عن ابن عمر على أنه يأتيها في
قبلها من دبرها. وقد روى النسائي بإسناد صحيح عن أبي النضر
أنه قال لنافع: إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن
عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن. قال: كذبوا عليّ،
ولكن سأحدثك كيف كان الأمر إن ابن عمر عرض المصحف يومًا
وأنا عنده حتى بلغ: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى
شئتم} [البقرة: 223] فقال: يا نافع هل تعلم من أمر هذه
الآية؟ قلت: لا. قال: إنّا كنا معشر قريش نحني النساء فلما
دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا
نريد، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد
أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله
{نساؤكم حرث لكم}.
وقد روى أبو جعفر الفريابي عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن
ابن عمر مرفوعًا: "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة
ولا يزكيهم ويقول ادخلوا النار مع الداخلين. الفاعل
والمفعول به وناكح يده وناكح البهيمة وناكح المرأة في
دبرها والجامع بين المرأة وابنتها والزاني بحليلة جاره
والمؤذي جاره حتى يلعنه".
وأما ما حكاه الطحاوي عن محمد بن عبد الحكم أنه سمع
الشافعي يقول: ما صح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في تحليله ولا تحريمه شيء، والقياس أنه حلال
فقال أبو نصر بن الصباغ: كان يحلف بالله الذي لا إله إلا
هو لقد كذب يعني ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك، فإن
الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه انتهى.
(7/35)
وأما ما ذكره الحاكم في مناقب الشافعي من
طريق ابن عبد الحكم أيضًا أنه حكى عن الشافعي مناظرة جرت
بينه وبين محمد بن الحسن في ذلك، وأن ابن الحسن احتج عليه
بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له: فيكون ما سوى الفرج
محرمًا فالتزمه فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في
أعكانها أي ذلك حرث؟ قال: لا. قال: أفيحرم؟ قال: لا. قال:
فكيف تحتج بما لا تقول به فيحتمل كما قال الحاكم أن يكون
ألزم محمدًا بطريق المناظرة وأن كان لا يقول بذلك والحجة
عنده التحريم غير المسلك الذي سلكه محمد كما يشير إليه
كلامه في الأم.
4528 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا -رضي الله
عنه- قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا جَامَعَهَا
مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ:
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ}.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) هو الثوري كما جزم به في الفتح ونقل في العمدة عن
المزي أنه ابن عيينة (عن ابن المنكدر) محمد أنه قال: "سمعت
جابرًا -رضي الله عنه- قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها
من ورائها) لفظ رواية الإسماعيلي من طريق يحيى بن أبي
زائدة عن سفيان الثوري باركة مدبرة في فرجها من ورائها.
وعند مسلم من طريق
سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر إذا أتى الرجل امرأته من
دبرها في قُبلها. ومن طريق أبي حازم عن ابن المنكدر فحملت
(جاء الولد أحول فنزلت) تكذيبًا لليهود في زعمهم ({نساؤكم
حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم}) فأباح للرجال أن يتمتعوا
بنسائهم كيف شاؤوا أي فأتوهن كما تأتون أرضكم التي تريدون
أن تحرثوها من أي جهة شئتم لا يحظر عليكم جهة دون جهة،
والمعنى جامعوهن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتي واحدًا
وهو موضع الحرث، وهذا من الكنايات اللطيفة والتعريضات
المستحسنة قاله الزمخشري.
قال الطيبي: لأنه أبيح لهم أن يأتوها من أي جهة شاؤوا
كالأراضي المملوكة، وقيد بالحرث ليشير أن لا يتجاوز البتة
موضع البذر، وأن يتجاوز عن مجرد الشهوة فالغرض الأصلي طلب
النسل لا قضاء الشهوة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في النكاح وغيره، والترمذي في
التفسير، والنسائي في عشرة النساء، وابن ماجه في النكاح.
40 - باب {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]
(باب {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن}) أي انقضت عدتهن
({فلا تعضلوهن}) لا تمنعوهن ({أن ينكحن أزواجهن}) [البقرة:
232]. والمخاطب بذلك الأولياء لما يأتي إن شاء الله تعالى
قريبًا في الباب.
4529 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ:
حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: كَانَتْ لِي
أُخْتٌ تُخْطَبُ إِلَيَّ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ
يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ
يَسَارٍ.
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ أُخْتَ مَعْقِلِ
بْنِ يَسَارٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَتَرَكَهَا حَتَّى
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَخَطَبَهَا فَأَبَى مَعْقِلٌ
فَنَزَلَتْ: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ}. [الحديث 4529 - أطرافه في: 5130، 5330،
5331].
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله بن سعيد) أي ابن إبراهيم بن
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: (حدّثنا أبو
عامر) عبد الملك بن عمرو (العقدي) بفتح العين المهملة
والقاف قال: (حدّثنا عباد بن راشد) بفتح العين المهملة
وتشديد الموحدة التميمي البصري قال: (حدّثنا الحسن) البصري
(قال: حدّثني) بالإفراد (معقل بن يسار) بفتح الميم وسكون
العين المهملة وكسر القاف ويسار بالسين المهملة مخففة
المزني (قال: كانت لي أخت) اسمها جميل بضم الجيم مصغرًا
كما عند ابن الكلبي أو ليلى كما عند السهيلي (تخطب إليّ)
بضم أوله وفتح ثالثه.
(وقال إبراهيم) هو ابن طهمان مما وصله المؤلّف في النكاح
(عن يونس) هو ابن عبيد بن دينار العبدي (عن الحسن) البصري
أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (معقل بن يسار) فيه تصريح
الحسن بالتحديث عن معقل كالسابق.
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بسكون العين وفتح الميمين عبد
الله المقعد قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد قال:
(حدّثنا يونس) بن عبيد (عن الحسن) البصري (أن أخت معقل بن
يسار) قيل في اسمها غير ما سبق في هذا الباب فاطمة كما عند
ابن إسحاق ويحتمل التعدد بأن يكون لها اسمان ولقب، أو
لقبان واسم (طلّقها زوجها) هو ما في أحكام القرآن لإسماعيل
القاضي أبو البدّاح بن عاصم، وتعقبه الذهبي بأن أبا البداح
تابعي على الصواب والصحبة لأبيه، فيحتمل أن يكون هو الزوج.
وجزم بعض المتأخرين فيما قاله الحافظ ابن حجر بأنه البداح
بن عاصم وكنيته أبو عمرو قال فإن كان محفوظًا فهو أخو أبي
البداح بن عاصم التابعي، وفي كتاب المجاز للشيخ عز الدّين
بن عبد السلام أنه عبد الله بن رواحة. (فتركها حتى انقضت
عدّتها فخطبها) من وليها أخيها معقل (فأبى) فامتنع
(7/36)
(معقل) أن يراجعها له (فنزلت: {فلا تعضلوهن
أن ينكحن أزواجهن}) وهذا صريح في نزول هذه الآية في هذه
القصة، ولا يمنع ذلك ظاهر الخطاب في السياق للأزواج حيث
وقع فيها {وإذا طلقتم النساء} لكن قوله في بقيتها {أن
ينكحن أزواجهن} ظاهر في أن العضل يتعلق بالأولياء، وفيه أن
المرأة لا تملك أن تزوج نفسها وأنه لا بد في النكاح من ولي
إذ لو تمكنت من ذلك لم يكن لعضل الولي معنى، ولا يعارض
بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن. وفي هذه
المسألة خلاف يأتي إن شاء الله تعالى بعون الله وقوته
محررًا في موضعه من كتاب النكاح.
41 - باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
[البقرةْ 234] يَعْفُونَ: يَهَبْنَ
({والذين يتوفون}) وفي نسخة باب والذين يتوفون أي يموتون
({منكم ويذرون}) يتركون ({أزواجًا يتربصن}) بعدهم
({بأنفسهن}) فلا يتزوجن ولا يخرجن ولا يتزين ({أربعة أشهر
وعشرًا}) من الليالي، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا
المقدار أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان
ذكرًا ولأربعة إن كان أنثى واعتبر أقصر الأجلين وزيد عليه
العشر استظهارًا إذ ربما تضعف حركته في المبادئ فلا يحس
بها ولا يخرج عن ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل فإن
عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله
تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4]
والأمة فإن عدتها على النصف من عدة الحرة شهران وخمس ليال
لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحدّ فكذلك في
العدة. وكان
ابن عباس يرى أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع وأربعة أشهر
وعشر للجمع بين الآيتين، وهو مأخذ جيد ومسلك قوي لولا ما
ثبتت به السنّة في حديث سبيعة الأسلمية الآتي إن شاء الله
تعالى قريبًا بحول الله وقوّته، وتأنيث العشر باعتبار
الليالي لأنها غرر المشهور والأيام تبع، ولذلك لا يستعملون
التذكير في مثله قط ذهابًا إلى الأيام حتى أنهم يقولون:
صمت عشرًا ويشهد له قوله: {إن لبثتم إلا عشرًا} [طه: 103]
و {إن لبثتم إلا يومًا} [طه: 154] ({فإذا بلغن أجلهن})
انقضت عدتهن ({فلا جناح عليكم}) أي فلا إثم عليكم أيها
الأولياء أو المسلمون ({فيما فعلن في أنفسهن}) من التعرض
للخطاب والتزين وسائر ما حرم للعدة ({بالمعروف}) بالوجه
الذي لا ينكره الشرع ({والله بما تعملون خبير}) [البقرة:
234] فيجازيكم عليه وسقط قوله: {فإذا بلغن} الخ لغير أبي
ذر وقال إلى {بما تعملون خبير}.
(يعفون) أي من قوله تعالى: {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون}
[البقرة: 234] قال ابن عباس وغيره: (يهبن) من الهبة أي
المطلقات فلا يأخذن شيئًا، والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث
يقال: الرجال يعفون والنساء يعفون. قالوا: وفي الأوّل ضمير
والنون علامة الرفع، وفي الثاني لام الفعل والنون ضمير
النساء، ولذلك لم يؤثر فيه أن هاهنا ونصب المعطوف وسقط
قوله يعفون يهبن لأبي ذر.
4530 - حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ: قَدْ نَسَخَتْهَا الآيَةُ
الأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا قَالَ يَا
ابْنَ أَخِي: لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ
مَكَانِهِ. [الحديث 4530 - طرفه في: 4536].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (أمية بن بسطام) بضم الهمزة
وفتح الميم وتشديد التحتية وبسطام بكسر الموحدة وسكون
المهملة ابن المنتشر العيشي البصري قال: (حدّثنا يزيد بن
زريع) بضم الزاي وفتح الراء مصغرًا (عن حببب) هو في
اليونينية بالحاء المهملة هو ابن الشهيد كما صرح به
المؤلّف قريبًا، ووقع في الفرع هنا خبيب بالخاء المعجمة
المضمومة فالله أعلم أو هو سهو الأزدي الأموي البصري (عن
ابن أبي مليكة) عبد الله أنه قال: (قال ابن الزبير) عبد
الله: (قلت لعثمان بن عفان {والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجًا}) الآية الثانية الصريحة الدلالة على أنه يجب على
الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن
بعدهم حولًا بالسكنى (قال) أي ابن الزبير: (قد نسختها
الآية الأخرى) السابقة وهي ({يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر
وعشرًا} فلم) بكسر اللام وفتح الميم (تكتبها) وقد نسخ
حكمها بالأربعة أشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال
حكمها وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها (أو)
لم (تدعها) أي تتركها في المصحف والشك من الراوي أي اللفظ
قال: وقال في المصابيح: المعنى فلم تكتبها أو فلم لا تدعها
فحذف حرف النفي اعتمادًا على فهم المعنى
(7/37)
قال: وقد جاء بعد هذا وقال: ندعها
يا ابن أخي لا أغير شيئًا منه من مكانه انتهى. والاستفهام
إنكاري وكأن ابن الزبير ظن أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب.
(قال) عثمان رضي الله تعالى عنه مجيبًا له عن استشكاله (يا
ابن أخي) قاله على عادة العرب أو نظرًا إلى أخوة الإيمان
(لا أغير شيئًا منه من مكانه) إذ هو توقيفي أي فكما وجدتها
مثبتة في المصحف بعدها أثبتها حيث وجدتها، وفيه أن ترتيب
الآي توقيفي.
4531 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ،
حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ
تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبٌ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ
مَعْرُوفٍ} قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ
سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً إِنْ
شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ
خَرَجَتْ وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {غَيْرَ
إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}
فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا زَعَمَ ذَلِكَ
عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا
فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَتِ
اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهِ وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا
وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ} قَالَ
عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى
فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلاَ سُكْنَى لَهَا، وَعَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا. وَعَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا فِي أَهْلِهَا
فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نَحْوَهُ. [الحديث 4531 - أطرافه في:
5344].
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (إسحاق) هو ابن
راهويه قال: (حدّثنا روح) بفتح الراء ابن عبادة بضم العين
وتخفيف الموحدة قال: (حدّثنا شبل) بكسر الشين المعجمة
وسكون الموحدة آخره لام ابن عباد بفتح العين وتشديد
الموحدة (عن ابن أبي نجيح) عبد الله المكي (عن مجاهد) هو
ابن جبر المفسر {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا} قال:
كانت هذه العدة) أي المذكورة في قوله تعالى: {يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا} (تعتد عند أهل زوجها واجب
فأنزل الله) تعالى: ({والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا
وصية لأزواجهم}) بنصب وصية في قراءة أبي عمرو وابن عامر
وحفص وحمزة أي والذين يتوفون منكم يوصون وصية أو ليوصوا
وصية أو كتب الله عليهم وصية، أو ألزم الذين يتوفون وصية
وبالرفع قرأ الباقون على تقدير ووصية الذين يتوفون أو
حكمهم وصية ({متاعًا إلى الحول}) نصب بلفظ وصية لأنها مصدر
منوّن ولا يضرّ تأنيثها بالتاء لبنائها عليه والأصل وصية
بمتاع ثم حذف الجر اتساعًا فنصب ما بعده وهذا إذا لم تجعل
الوصية منصوبة على المصدر لأن المصدر المؤكد لا يعمل وإنما
يجيء ذلك حال رفعها
أو نصبها على المفعول ({غير إخراج}) نعت لمتاعًا أو بدل
منه أو حال من الزوجات أي غير مخرجات أو حال من الموصين أي
غير مخرجين ({فإن خرجن}) من منزل الأزواج ({فلا جناح
عليكم}) [البقرة: 240] أيها الأولياء ({فيما فعلن في
أنفسهن من معروف}) [البقرة: 240] مما لم ينكره الشرع، وهذا
يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والإحداد
عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين
الخروج وتركها (قال: جعل الله لها) أي للمعتدة المذكورة في
الآية الأولى (تمام السنة سبعة أشهر) ولأبي ذر: بسبعة أشهر
(وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت
وهو قول الله تعالى: {غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم}
فالعدة) وهي أربعة الأشهر والعشرة (كما هي واجب عليها) قال
شبل بن عباد (زعم) ابن أبي نجيح (ذلك) المتقدم (عن مجاهد)
وهذا يدل على أن مجاهدًا لا يرى نسخ هذه الآية ثم عطف
المؤلّف على قوله عن مجاهد قوله.
(وقال: عطاء) هو ابن أبي رباح. قال في الفتح: وهو من رواية
ابن أبي نجيح عن عطاء، ووهم من زعم أنه معلق، وتعقبه
العيني بأنه لو كان عطفًا لقال وعن عطاء فظاهره التعليق
(قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث
شاءت وهو) أي الناسخ (قول الله تعالى {غير إخراج} قال
عطاء) مفسرًا لما رواه عن ابن عباس (إن شاءت اعتدت عند
أهله) ولأبي ذر عن الكشميهني عند أهلها (وسكنت في وصيتها
وإن شاءت خرجت لقول الله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما
فعلن}) لدلالته على التخيير.
(قال عطاء: ثم جاء الميراث) في قوله تعالى: {ولهن الربع
مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن}
[النساء: 12] (فنسخ السكنى) وتركت الوصية (فتعتدّ حيث شاءت
ولا سكنى لها).
قال ابن كثير: فهذا القول الذي عوّل عليه مجاهد وعطاء من
أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه
الجمهور حتى يكون ذلك منسوخًا بأربعة الأشهر والعشر، وإنما
دلت على أن ذلك كان من باب الوصية بالزوجات أن يمكّن من
السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولًا كاملًا إن اخترن
ذلك ولهذا قال: {وصية لأزواجهم} أي يوصيكم الله بهن وصية
كقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]
الآية.
(وعن محمد بن يوسف) الفريابي شيخ المؤلّف وهو معطوف على
(7/38)
قوله حدّثنا روح أو علقه المؤلّف عنه وقد
وصله أبو نعيم في مستخرجه من طريق محمد بن عبد الملك بن
زنجويه عن محمد بن يوسف وهو الفريابي أنه قال: (حدّثنا
ورقاء) بن عمرو الخوارزمي (عن ابن أبي نجيح) بفتح النون
وكسر الجيم وبعد التحتية الساكنة حاء مهملة عبد الله واسم
أبي نجيح يسار (عن مجاهد بهذا. وعن ابن أبي نجيح عن عطاء
عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: نسخت هذه الآية
عدتها في أهلها فتعتد حيث شاءت لقول الله تعالى: {غير
إخراج} نحوه) أي نحو ما روي عن مجاهد فيما سبق.
4532 - حَدَّثَنَا حِبَّانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَجْلِسٍ فِيهِ
عُظْمٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَفِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ أَبِي لَيْلَى فَذَكَرْتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ فِي شَأْنِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَلَكِنَّ عَمَّهُ كَانَ لاَ
يَقُولُ ذَلِكَ فَقُلْتُ إِنِّي لَجَرِيءٌ إِنْ كَذَبْتُ
عَلَى رَجُلٍ فِي جَانِبِ الْكُوفَةِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ،
قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ فَلَقِيتُ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ
أَوْ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ قَوْلُ
ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا
وَهْيَ حَامِلٌ؟ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ
أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلاَ تَجْعَلُونَ
لَهَا الرُّخْصَةَ؟ فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ
الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ
مُحَمَّدٍ لَقِيتُ أَبَا عَطِيَّةَ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ.
[الحديث 4532 - طرفه في: 4910].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (حبان) بكسر
الحاء المهملة وتشديد الموحدة ابن موسى المروزي قال:
(حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا (عبد الله) بن المبارك المروزي
قال: (أخبرنا عبد الله بن عون) بالنون واسم جده ارطبان
البصري (عن محمد بن سيرين) أنه (قال: جلست إلى مجلس فيه
عظم) بضم العين المهملة وسكون الظاء المعجمة جمع عظيم أي
عظماء (من الأنصار وفيهم عبد الرحمن بن أبي ليلى) اسمه
يسار الكوفي زاد في سورة الطلاق فذكروا آخر الأجلين (فذكرت
حديث عبد الله بن عتبة) بضم العين وسكون الفوقية ابن مسعود
الهزلي التابعي ابن أخي عبد الله بن مسعود (في شأن سبيعة
بنت الحرث) بضم السين المهملة وفتح الموحدة وفتح العين
المهملة مصغر سبعة الأسلمية، وكانت زوج سعد بن خولة فتوفي
عنها بمكة فقال لها أبو السنابل بن بعكك: إن أجلك أربعة
أشهر وعشر وكانت قد وضعت بعد وفاة زوجها بليال. قيل خمس
وعشرون ليلة، وقيل أقل من ذلك فلما قال لها أبو السنابل
ذلك أتت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأكل
فأخبرته فقال لها "قد حللت فانكحي من شئت".
(فقال عبد الرحمن) بن أبي ليلى: (ولكن عمه) نصب بلكن
المشددة ولأبي ذر ولكن عمه بتخفيف النون ورفع عمه أي عم
عبد الله بن عتبة وهو عبد الله بن مسعود (كان لا يقول ذلك)
بل يقول تعتدّ بآخر الأجلين قال محمد بن سيرين (فقلت: إني
لجريء) أي ذو جراءة (أن كذبت على رجل في جانب الكوفة) يريد
عبد الله بن عتبة وكان سكن الكوفة وتوفي بها زمن عبد الملك
بن مروان، ومفهومه وقوع ذلك وعبد الله بن عتبة حيّ (ورفع)
ابن سيرين (صوته. قال): أي ابن سيرين (ثم خرجت فلقيت مالك
بن عامر) أبا عطية الهمداني (أو مالك بن عوف) بن أبي نضلة
صاحب ابن مسعود والشك من الراوي (قلت) له: (كيف كان قول
ابن مسعود في) عدّة (المتوفى عنها زوجها وهي حامل)؟ الواو
في وهي للحال (فقال) مالك بن عامر أو مالك بن عوف: (قال
ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ) وهو طول زمن عدة الحمل
إذا زادت على أربعة أشهر وعشر (ولا تجعلون لها الرخصة) وهي
خروجها من العدة إذا وضعت لأقل من أربعة أشهر وعشر (فنزلت)
بلام التأكيد لقسم محذوف أي والله لنزلت ولأبي ذر عن
المستملي
أنزلت (سورة النساء القصرى) التي هي سورة الطلاق ومراده
منها وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن (بعد الطولى)
التي هي سورة البقرة ومراده منها {والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا} ومفهوم
كلام ابن مسعود أن المتأخر هو الناسخ لكن الجمهور أن لا
نسخ بل عموم آية البقرة مخصوص بآية الطلاق، وقد روى أبو
داود وابن أبي حاتم من طريق مسروق قال: بلغ ابن مسعود أن
عليًّا يقول تعتد آخر الأجلين فقال: من شاء لاعنته أن التي
في النساء القصرى أنزلت بعد سورة البقرة ثم قرأ {وأولات
الأحمال أجهلن أن يضعن حملهن}.
(وقال أيوب) السختياني مما وصله في سورة الطلاق (عن محمد)
هو ابن سيرين (لقيت أبا عطية مالك بن عامر) من غير شك.
42 - باب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ
الْوُسْطَى} [البقرة: 238]
(باب) قوله تعالى: ({حافظوا على الصلوات}) بالأداء لوقتها
والمداومة عليها وفي فاعل هنا قولان. أحدهما: أنه بمعنى
فعل كطارقت النعل وعاقبت اللص ولما ضمن المحافظة معنى
المواظبة عدّاها بعلى، والثاني أن
(7/39)
فاعل على بابها من كونها بين اثنين فقيل
بين العبد وربه كأنه قال: احفظ هذه الصلاة يحفظك الله،
وقيل بين العبد والصلاة أي احفظها تحفظك ({والصلاة
الوسطى}) [البقرة: 238] ذكر للخاص بعد العام أي الوسطى
بينها أو الفضلى منها من قولهم للأفضل الأوسط قاله
الزمحشري، وتعقب بأن الذي يقتضيه الظاهر أن تكون الوسطى
فعلى مؤنث الأوسط كالفضلى مؤنث الأفضل. قال إعرابي يمدح
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
يا أوسط الناس طرًّا في مفاخرهم ... وأكرم الناس أُمّا
برّة وأبا
وقال تعالى: {قال أوسطهم} أي أفضلهم، ومنه يقال فلان واسطة
قومه أي أفضلهم وعينهم، وليست من الوسط الذي معناه متوسط
بين شيئين لأن فعلى معناها أفعل التفضيل ولا يبنى للتفضيل
إلا ما يقبل الزيادة والنقص، والوسط بمعنى العدل والخيار
يقبلهما بخلاف المتوسط بين الشيئين فإنه لا يقبلهما فلا
يبنى منه أفعل التفضيل.
4533 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ
عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ح:
0000 - حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: هِشَامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ
عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله تعالى عنه - أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ
يَوْمَ الْخَنْدَقِ: «حَبَسُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى
حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ
وَبُيُوتَهُمْ أَوْ أَجْوَافَهُمْ - شَكَّ يَحْيَى -
نَارًا».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (عبد الله بن
محمد) المسندي قال: (حدّثنا يزيد)
من الزيادة ابن هارون الواسطي قال: (أخبرنا هشام) هو ابن
حسان القردوسي (عن محمد) هو ابن سيرين (عن عبيدة) بفتح
العين وكسر الموحدة السلماني (عن علي رضي الله تعالى عنه)
أنه قال: (قال النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ح):
وبه قال: (حدّثني) ولأبي ذر: وحدّثني (عبد الرحمن) بن بشر
بن الحكم قال: (حدّثنا يحيى بن سعيد) القطان (قال هشام):
هو ابن حسان القردوسي (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثنا هشام قال:
حدّثنا (محمد) هو ابن سيرين (عن عبيدة) السلماني (عن علي
رضي الله تعالى عنه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال يوم الخندق):
(حبسونا) أي منعونا (عن) إيقاع (صلاة الوسطى) زاد مسلم:
صلاة العصر وإضافة الصلاة إلى الوسطى من إضافة الصفة إلى
الموصوف وأجازه الكوفيون (حتى غابت الشمس) زاد مسلم: ثم
صلاها بين المغرب والعشاء، ويحتمل أن يكون أخّرها نسيانًا
لاشتغاله بأمر العدوّ وكان هذا قبل نزول صلاة الخوف (ملأ
الله قبورهم وبيوتهم) أي مكان بيوتهم (أو أجوافهم شك يحيى)
بن سعيد القطان (نارًا).
وقد اختلف السلف والخلف في تعيين الصلاة الوسطى. قال
الترمذي والبغوي: أكثر علماء الصحابة وغيرهم أنها العصر،
وقال الماوردي: إنه قول جمهور التابعين، وحكاه الدمياطي عن
عمر وعلي وابن مسعود وأبي أيوب وابن عمرو وسمرة بن جندب
وأبي هريرة وأبي سعيد وحفصة وأم حبيبة وأم سلمة وهو مذهب
أحمد. وقال ابن المنذر: إنه الصحيح عن أبي حنيفة وصاحبيه،
واختاره ابن حبيب من المالكية لحديث عليّ مرفوعًا عند أحمد
"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وكذا عند مسلم
والنسائي وأبي داود كل بلفظ صلاة العصر، وكذا هو في حديث
ابن مسعود والبراء بن عازب عند مسلم، وسمرة عند أحمد، وأبي
هريرة عند ابن جرير، وأبي مالك الأشعري عند ابن جرير
أيضًا، وابن مسعود عند ابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه،
ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها كحديث "من فاتته صلاة
العصر فكأنما وتر أهله وماله" واجتماع الملائكة في وقتها.
وروى ابن جرير من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في
مصحف عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة
العصر، وفي مصحف حفصة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
وصلاة العصر رواه ابن جرير وغيره.
وعورض بأن العطف بالواو في قوله وصلاة العصر يقتضي
المغايرة. وأجيب: بأن الواو زائدة أو هو من عطف الصفات لا
من عطف الذوات كقوله تعالى: {ولكن رسول الله وخاتم
النبيين} [الأحزاب: 40] لكن هي منسوخة التلاوة كما في حديث
البراء بن عازب عند مسلم بلفظ: نزلت حافظوا على الصلوات
وصلاة العصر فقرأناها على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما شاء الله ثم نسخها الله عز وجل
وأنزل {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وقيل: إنها
الصبح
(7/40)
رواه
مالك في موطئه بلاغًا عن علي وابن عباس وهو مذهب مالك ونص
عليه الشافعي محتجًا بقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين}
[البقرة: 238] والقنوت عنده في صلاة الصبح، وقيل هي الظهر
لحديث زيد بن ثابت عند أحمد كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلّي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلّي
صلاة أشد على أصحابه منها فنزلت {حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى} وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
ورواه أبو داود في سننه من حديث شعبة وقيل: هي المغرب ففي
حديث ابن عباس عند ابن أبي حاتم بإسناد حسن قال، الصلاة
الوسطى: هي المغرب واحتج لذلك بأنها معتدلة في عدد الركعات
ولا تقصر في السفر، وبأن قبلها صلاتي سر وبعدها صلاتي جهر،
وقيل: هي العشاء واختاره الواحدي ونقله القرطبي والسفاقسي
واحتج له بأنها بين صلاتين لا تقصران. وقيل: هي واحدة من
الخمس لا بعينها وأبهمت فيهن كليلة القدر في الحول أو
الشهر أو العشر، واختاره إمام الحرمين وقيل: مجموع الصلوات
الخمس رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر.
قال الحافظ ابن كثير: وفي صحته نظر والعجب من اختيار ابن
عبد البر له مع اطلاعه وحفظه وأنها لإحدى الكبر إذا اختار
مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل. وقيل: الصبح والعشاء
لما في الصحيح أنهما أثقل الصلاة على المنافقين، وقيل
الصبح والعصر لقوّة الأدلة في إن كلاًّ منهما قيل إنه
الوسطى فظاهر القرآن الصبح ونص الحديث العصر وقيل غير ذلك.
قال ابن كثير: والمدار ومعترك النزاع في الصبح والعصر، وقد
بينت السنّة أنها العصر فتعين المصير إليها، وقد جزم
الماوردي بأن مذهب الشافعي أنها العصر وإن كان قد نص في
الجديد أنها الصبح لصحة الأحاديث أنها العصر لقوله إذا صح
الحديث وقلت قولاً فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك، لكن قد
صمم جماعة من الشافعية أنها الصبح قولا واحدًا.
43 - باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أيْ مُطِيعِينَ
(باب) قوله تعالى: ({وقوموا لله}) في الصلاة حال كونكم
({قانتين} أي مطيعين) كذا فسره ابن مسعود وابن عباس وجماعة
من التابعين فيما ذكره ابن أبي حاتم وقيل خاشعين ذليلين
مستكنين بين يديه ساكتين. وقال ابن المسيب: المراد به
القنوت في الصبح وسقط أي لغير أبي ذر.
4534 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ
شُبَيْلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي
الصَّلاَةِ يُكَلِّمُ أَحَدُنَا أَخَاهُ فِي حَاجَتِهِ
حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن إسماعيل بن أبي خالد) الأحمسي مولاهم
البجلي (عن الحرث بن شبيل) بضم المعجمة وفتح الموحدة آخره
لام مصغرًا (عن أبي عمرو) بفتح العين سعد بن إياس
(الشيباني) بفتح الشين
المخضرم عاش مائة وعشرين سنة (عن زيد بن أرقم) -رضي الله
عنه- أنه (قال: كنا نتكلم في الصلاة) زاد في باب ما ينهى
من الكلام في الصلاة في أواخر كتاب الصلاة من طريق عيسى بن
يونس عن إسماعيل بن أبي خالد على عهد النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يكلم أحدنا أخاه) وفي طريق
عيسى بن يونس صاحبه بدل أخاه (في حاجته حتى) أي إلى أن
(نزلت هده الآية {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت) عن الكلام الذي لا
يتعلق بالصلاة وليس في الصلاة حالة سكوت.
وقد أشكل هذا الحديث من جهة أنه ثبت أن تحريم الكلام في
الصلاة كان بمكة قبل الهجرة إلى أرض الحبشة لحديث ابن
مسعود: كنا نسلم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة فيردّ
علينا، فلما قدمنا سلمت عليه فلم يردّ في الحديث. وهذه
الآية مدنية باتفاق فقيل: وإنما أراد زيد بن أرقم الإخبار
عن جنس كلام الناس، واستدلّ على تحريم ذلك بهذه الآية بحسب
ما فهمه منها، وقيل أراد أن ذلك وقع بالمدينة بعد الهجرة
إليها ويكون ذلك قد أبيح مرتين وحرم مرتين. قال ابن كثير:
والأوّل أظهر.
44 - باب {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا
فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ
مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ كُرْسِيُّهُ: عِلْمُهُ، يُقَالُ:
بَسْطَةً: زِيَادَةً وَفَضْلًا. أَفْرِغْ: أَنْزِلْ، وَلاَ
يَئُودُهُ: لاَ يُثْقِلُهُ، آدَنِي: أَثْقَلَنِي وَالآدُ
وَالأَيْدُ: الْقُوَّةُ، السِّنَةُ: نُعَاسٌ، يَتَسَنَّهْ:
يَتَغَيَّرْ، فَبُهِتَ: ذَهَبَتْ حُجَّتُهُ، خَاوِيَةٌ:
لاَ أَنِيسَ فِيهَا: عُرُوشُهَا: أَبْنِيَتُهَا،
نُنْشِرُهَا: نُخْرِجُهَا، إِعْصَارٌ: رِيحٌ عَاصِفٌ
تَهُبُّ مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ، فِيهِ
نَارٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَلْدًا لَيْسَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَابِلٌ: مَطَرٌ شَدِيدٌ،
الطَّلُّ: النَّدَى وَهَذَا مَثَلُ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ.
يَتَسَنَّهْ: يَتَغَيَّرْ.
({فإن خفتم}) ولأبي ذر باب قوله عز وجل: ({فإن خفتم}) أي
من عدوّ أو غيره ({فرجالًا أو ركبانًا})، نصب على الحال
والعامل محذوف تقديره فصلوا رجالًا ورجالًا جمع راجل كقائم
وقيام وأو للتقسيم أو الإباحة أو التخيير ({فإذا أمِنتم})
من العدوّ وزال خوفكم ({فاذكروا الله}) أي أقيموا
(7/41)
صلاتكم كما أمرتكم تامة الركوع والسجود
والقيام والقعود ({كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون})
[البقرة: 239] الكاف في كما في موضع نصب نعتًا لمصدر محذوف
أو حالًا من ضمير المصدر المحذوف، وما مصدرية أو بمعنى
الذي وما لم تكونوا تعلمون مفعول علمكم، والمعنى فصلّوا
الصلاة كالصلاة التي علمكم وعبّر الذكر عن الصلاة والتشبيه
بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة
الأمن، وفي رواية أبي ذر بعد قوله: {فإذا أمنتم} الآية
وحذف ما بعد ذلك.
(وقال ابن جبير): سعيد مما وصله ابن أبي حاتم في تفسير
قوله تعالى: {وسع} ({كرسيه} [البقرة: 255] أي علمه) تسمية
للصفة باسم مكان صاحبها ومنه قيل للعلماء الكراسي وقيل
يعبر به عن السر قال:
ما لي بأمرك كرسيّ أكاتمه ... ولا بكرسيّ علم الله محلوت
وقد يعبر به عن الملك لجلوسه عليه تسمية للحال باسم المحل
وهو في الأصل لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد،
وتفسير ابن جبير هذا فيه إشارة إلى أنه لا كرسي في الحقيقة
ولا قاعد، وإنما هو مجاز عن علمه كما في غيره مما سبق.
وقال قوم: هو جسم بين يدي العرش ولذلك سمي كرسيًا محيط
بالسماوات السبع لحديث أبي ذر الغفاري عند ابن مردويه أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "والذي
نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي
إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن فضل العرش على الكرسي كفضل
الفلاة على تلك الحلقة". وزعم بعض أهل الهيئة من
الإسلاميين أن الكرسي هو الفلك الثامن وهو فلك الثوابت
الذي فوقه الفلك التاسع وهو الأطلس وسمي الأطلس لكونه غير
مكوكب وردّ ذلك عليهم آخرون.
(يقال) في تفسير قوله تعالى: {وزاده} أي طالوت ({بسطة}) أي
(زياة وفضلًا) في العلم والجسم تأهل بهما أن يؤتى الملك
وكان رجلًا جسيمًا إذا مدّ الرجل القائم يده ينال رأسه
وافر العلم قويًّا على مقاومة العدوّ ومكابدة الحرب.
({أفرغ}) يريد قوله تعالى: {ربنا أفرغ} أي (أنزل) {علينا
صبرًا} [البقرة: 250] على القتال، وسقط لأبي ذر من قوله
يقال إلى هنا.
({ولا يؤده}) أي (لا يثقله) {حفظهما} يقال (آدني) هذا
الأمر أي (أثقلني والآد) بالمد مخففًا كالآل (والأيد) كأنه
يشير إلى قول داود: ذا الأيد أي (القوة) وشطب في اليونينية
على الألف واللام من قوله القوة.
(السنة) من قوله تعالى: {لا تأخذه سنة} (نعاس) ولأبي ذر
النعاس كذا فسره ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {وانظر إلى طعامك وشرابك لم} ({يتسنه})
[البقرة: 259] أي (يتغير) بمرور الزمان وعبر بالإفراد لأن
الطعام والشراب كالجنس الواحد أو أعاد الضمير إلى الشراب
لأنه أقرب مذكور وثم جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها أي
أنظر إلى طعامك لم يتسنه أو سكت عن تغير الطعام تنبيهًا
بالأدنى على الأعلى لأنه إذا لم يتغير الشراب مع سرعة
التغير إليه فعدم تغير الطعام أولى.
وقوله تعالى: ({فبهت}) {الذي كفر} [البقرة: 259] وهو نمروذ
أي (ذهبت حجته) وقرئ فبهت مبنيًا للفاعل أي فغلب إبراهيم
الكافر.
وقوله تعالى: {أو كالذي مرّ على قرية وهي} ({خاوية}) أي
(لا أنيس فيها) والمارّ عزير كما عند ابن أبي حاتم والقرية
القدس وقوله: ({عروشها}) أي (أبنيتها) ساقطة.
(السنة) هي (نعاس) وقد مرّ، وسقطت هذه لأبي ذر.
وقوله تعالى: {وانظر إلى العظام كيف} ({ننشرها}) [البقرة:
259]. بالراء أي (نخرجها). قال السدي وغيره: تفرقت عظام
حماره حوله يمينًا وشمالًا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها
فبعث الله ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ثم ركبت
كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم
عليها ثم كساه الله تعالى لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا
وبعث ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق بإذن الله تعالى
وذلك كله بمرأى من العزير، وسقط لأبي ذر من قوله عروشها
الخ.
وقوله تعالى: {فأصابها} ({إعصار}) [البقرة: 266] أي (ريح
عاصف تهب من الأرض إلى السماء كعمود فيه نار) أي فتحرق ما
في جنته من نخيل وأعناب والمعنى تمثيل حال من يفعل
(7/42)
الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها مثل
الرياء والإيذاء في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة
واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه.
(وقال ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما مما وصله ابن جرير
في قوله تعالى: {فتركه} ({صلدًا}) [البقرة: 264] أي (ليس
عليه شيء) من تراب فكذلك نفقة المرائي والمشرك لا يبقى له
ثواب.
(وقال عكرمة): مما وصله عبد بن حميد في قوله تعالى:
{أصابها} ({وابل}) [البقرة: 265]. أي (مطر شديد) قطره، و
(الطل) في قوله تعالى: {فطل} أي (الندى) وهذا تجوّز منه.
والمعروف أن الطل هو المطر الصغير القطر والفاء في {فطل}
جواب الشرط ولا بدّ من حذف بعدها لتكمل جملة الجواب أي:
فطل يصيبها فالمحذوف الخبر وجاز الابتداء بالنكرة لأنها في
جواب الشرط (وهذا مثل عمل المؤمن).
({يتسنه}) أي (يتغير) وقد مرّ وسقط لأبي ذر من قوله: وقال
ابن عباس إلى آخر قوله يتغير.
4535 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ - رضي الله تعالى عنهما - كَانَ إِذَا سُئِلَ
عَنْ صَلاَةِ الْخَوْفِ قَالَ: يَتَقَدَّمُ الإِمَامُ
وَطَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ فَيُصَلِّي بِهِمِ الإِمَامُ
رَكْعَةً، وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا فَإِذَا صَلَّوُا
الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ
الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا، وَلاَ يُسَلِّمُونَ
وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ
مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الإِمَامُ وَقَدْ
صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ
الطَّائِفَتَيْنِ، فَيُصَلُّونَ لأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً
بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ
الإِمَامُ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ
قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ
أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى
أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ،
أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ
نَافِعٌ: لاَ أُرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ
ذَلِكَ إِلاَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا)
ولأبي ذر أخبرنا (مالك) الإمام (عن نافع أن عبد الله بن
عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا سئل عن) كيفية (صلاة
الخوف. قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس) حيث لا تبلغهم
سهام العدوّ (فيصلّي بهم الإمام ركعة وتكون طائفة منهم
بينهم وبين العدوّ) تحرسهم منه (لم يصلوا فإذا صلوا الذين)
ولأبي ذر: فإذا صلّى الذين (معه) أي مع الإمام (ركعة
استأخروا مكان) الطائفة (الذين لم يصلوا) فيكونون في وجه
العدوّ (ولا يسلمون) بل يستمرون في الصلاة (ويتقدم الذين
لم يصلوا) والإمام قارئ منتظر لهم (فيصلون معه ركعة ثم
ينصرف الإمام) من صلاته بالتسليم (وقد صلّى ركعتين فيقوم
كل واحد) ولأبي ذر: فتقوم كل واحدة (من الطائفتين فيصلون
لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام فيكون كل واحد) ولأبي
الوقت كل واحدة (من الطائفتين قد صلّى ركعتين) وهذه
الكيفية اختارها الحنفية كما نبهت عليه في صلاة الخوف (فإن
كان خوف هو أشد من ذلك صلوا) حينئذ حال كونهم (رجالًا
قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا) على دوابهم وزاد مسلم يومئ
إيماء (مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. قال مالك) الإمام
الأعظم: (قال نافع: لا أرى) بضم الهمزة أي أظن (عبد الله
بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وكذا وقع في كتاب صلاة الخوف من حديثه التصريح
برفعه، وفي بعض النسخ تقديم هذا الحديث على قوله قال ابن
جبير.
45 - باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا} [البقرة: 234]
({والذين}) وفي بعض النسخ باب والذين ({يتوفون منكم ويذرون
أزواجًا}) سقطت الآية لغير أبي ذر فصار الحديث الآتي من
الباب السابق.
4536 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ،
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَيَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، قَالاَ: حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ،
عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي
فِي الْبَقَرَةِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إِلَى قَوْلِهِ: {غَيْرَ
إِخْرَاجٍ} قَدْ نَسَخَتْهَا الآية الأُخْرَى فَلِمَ
تَكْتُبُهَا قَالَ: تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لاَ
أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ قَالَ حُمَيْدٌ:
أَوْ نَحْوَ هَذَا.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الله
بن أبي الأسود) هو عبد الله بن محمد بن أبي الأسود واسمه
حميد ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي الحافظ البصري قال:
(حدّثنا حميد بن الأسود) هو جدّ عبد الله (ويزيد بن زريع)
بضم الزاي وفتح الراء مصغرًا (قالا: حدّثنا
حبيب بن الشهيد) بفتح الشين المعجمة وكسر الهاء الأزدي
مولاهم البصري (عن ابن أبي مليكة) مصغرًا عبد الله أنه
(قال: قال ابن الزبير) عبد الله (قلت لعثمان) بن عفان رضي
الله تعالى عنه (هذه الآية التي في البقرة {والذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجًا} إلى قوله: {غير إخراج} قد نسختها
الآية الأخرى) وسقطت الآية من اليونينية {والذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا}
(فلم تكتبها) بكسر اللام استفهام إنكاري (قال): أي عثمان
(تدعها) بالفوقية في اليونينية أي تتركها مثبتة في المصحف
(يا ابن أخي لا أغير شيئًا منه) أي من المصحف (من مكانه.
قال حميد) أي ابن الأسود (أو نحو هذا) المذكور من المتن
فتردد فيه بخلاف يزيد بن زريع فجزم به.
46 - باب {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] فَصُرْهُنَّ:
قَطِّعْهُنَّ
({وإذ قال}) وفي نسخة باب وإذ قال: ({إبراهيم رب أرني كيف
تحي الموتى}) ({فصرهن}) [البقرة: 265] بكسر الصاد لحمزة
وللباقين بضمها قال ابن عباس وغيره أي (قطعهن) وأملهن.
فاللغتان لفظ مشترك بين هذين المعنيين، وقيل الكسر بمعنى
القطع والضم بمعنى الإمالة
(7/43)
وسقط قوله: {فصرهن} قطعهن لغير أبي ذر.
4537 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -
رضي الله تعالى عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «نَحْنُ أَحَقُّ
بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ
بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) أبو جعفر المصري قال:
(حدّثنا ابن وهب) عبد الله المصري قال: (أخبرني) بالإفراد
(يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري
(عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (وسعيد) هو ابن المسيب
كلاهما (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أنه (قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(نحن أحق بالشك من إبراهيم) ولأبي ذر تقديم لفظ إبراهيم
على الشك لو كان الشك في القدرة متطرقًا إلى الأنبياء لكنت
أنا أحق به، وقد علمتم أني لم أشك فإبراهيم -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يشك (إذ قال: {رب أرني كيف
تحي الموتى}، واختلف في عامل (إذ) فقيل يجوز كونه قال أولم
تؤمن أي قال له ذلك ربه وقت قوله ذلك، وكونه قوله ألم تر
أي ألم تر إذ قال إبراهيم وكونه مضمرًا تقديره واذكر فإذ
على هذين القولين مفعول لا ظرف، ورب مضاف لياء المتكلم
حذفت استغناء عنها بالكسرة والرؤية بصرية فتتعدى لواحد
ولما دخلت همزة النقل نصب مفعولًا ثانيًا، فالأول ياء
المتكلم والثاني الجملة الاستفهامية وهي معلقة للرؤية،
وكيف في موضع نصب على التشبيه بالظرف أو بالحال والعامل
فيها تحي، وقد ذكروا في سبب سؤال الخليل لذلك وجوهًا، فقيل
إنه لما احتج على نمروذ بقوله ربي الذي يحيي ويميت قال
نمروذ: أنا أحيي وأميت أطلق محبوسًا وأقتل آخر. قال
إبراهيم: إن الله يحيي بأن يقصد إلى جسد ميت فيحييه ويجعل
فيه الروح، فقال نمروذ: أنت عاينت ذلك فلم يقدر أن يقول
له: نعم عاينته فقال: {رب أرني كيف تحي الموتى}؟ حتى يخبر
به معاينة إن سئل عن ذلك مرة أخرى، وقيل إنه سأل زيادة
يقين وقوة طمأنينة إذ العلوم الضرورية والنظرية قد تتفاضل
في قوتها وطريان الشكوك على الضروريات ممتنع ومجوز في
النظريات، فأراد الانتقال من النظر أو الخبر إلى المشاهدة
والترقي من علم اليقين إلى عين اليقين. فليس الخبر
كالمعاينة.
({قال أوَلم تؤمن}) بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب
والحياة؟ قال له ذلك وقد علم أنه أثبت الناس إيمانًا ليجيب
بما أجاب فيعلم السامعون غرضه ({قال: بلى}) آمنت ({ولكن
ليطمئن قلبي}) اللام لام كي فالفعل منصوب بإضمار أن وهو
مبني لاتصاله بنون التوكيد واللام متعلقة بمحذوف بعد لكن
تقديره، ولكن سألتك كيفية الإحياء للإطمئنان ولا بدّ من
تقدير حذف آخر قبل لكن ليصح معه الاستدراك والتقدير بلى
آمنت وما سألت غير مؤمن ولكن سألت ليطمئن قلبي أي لأزيد
بصيرة وسكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي والاستدلال، وقال
الطيبي: سؤال الخليل عليه الصلاة والسلام لم يكن عن شك في
القدرة على الإحياء ولكن عن كيفيتها ومعرفة كيفيتها لا
تشترط في الإيمان والسؤال بصيغة كيف الدالة على الحال هو
كما لو علمت أن زيدًا يحكم في الناس فسألت عن تفاصيل حكمه
فقلت: كيف يحكم فسؤالك لم يقع عن كونه حاكمًا ولكن عن
أحوال حكمه وهو مشعر بالتصديق بالحكم ولذلك قطع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يقع في الأوهام من
نسبة الشك إليه بقوله: نحن أحق بالشك أي نحن لم نشك
فإبراهيم أولى.
فإن قيل: فعلى هذا كيف قال: أولم تؤمن؟ قلنا: هذه الصيغة
في الاستفهام قد تستعمل أيضًا عند الشك في القدرة كما تقول
لمن يدعي أمرًا تستعجزه عنه أرني كيف تصنعه فجاء قوله:
أولم تؤمن والردّ ببلى ليزول الاحتمال اللفظي في العبارة
ويحصل النص الذي لا ارتياب فيه.
فإن قلت: قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليطمئن قلبي
يشعر ظاهره بفقد الطمأنينة عند السؤال. قلت: معناه ليزول
عن قلبي الفكر في كيفية الإحياء بتصويرها مشاهدة فنزول
الكيفيات المحتملة اهـ. وقيل: إن إبراهيم عليه الصلاة
والسلام إنما أراد اختيار منزلته عند ربه وعلم إجابة دعوته
بسؤال ذلك من ربه تعالى ويكون قوله تعالى: ({أولم تؤمن})
أي ألم تصدق بمنزلتك مني وخلتك واصطفائك، ولا يفهم الشك من
قوله: {أرني كيف تحي الموتى} لأن
(7/44)
الموقن بإتقان إنسان صنعة علمًا قطعيًا لا
يلزم من قوله أرني كيفية فعلها أن يكون شاكًّا في كونه
يصنع ذلك إذ هو مقام آخر وإنما فهم الشك من قوله له: أولم
تؤمن ففهم ذلك من مجموع الكلام، فجرّت
المسألة في هذا المقام الجواب عن قوله أولم تؤمن وقوله بلى
ولكن ليطمئن قلبي، ولا شك في إيمانه بذلك وطمأنينة قلبه
كما وقع ذلك سؤالًا وجوابًا واستدراكًا، وزاد في نسخة هنا
فصرهن قطعهن وقد سبق.
وهذا الحديث قد ذكره المؤلّف في كتاب الأنبياء.
47 - باب قَوْلِهِ {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ
لَهُ جَنَّةٌ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 266]
(باب قوله) عز وجل: ({أيودّ أحدكم}) قال البيضاوي
كالزمخشري الهمزة في أيودّ للإنكار ({أن تكون له جنة من
نخيل}) في موضع رفع صفة لجنة أي كائنة من نخيل ({وأعناب
تجري من تحتها الأنهار}) جملة تجري صفة لجنة أو حال منها
لأنها قد وصفت ({له فيها من كل الثمرات}) [البقرة: 266]
جملة من مبتدأ وخبر مقدم لكن المبتدأ لا يكون جارًا ولا
مجرورًا، فأول على حذف المبتدأ أو الجار والمجرور صفة
قائمة مقامه أي له فيها رزق أو فاكهة من كل الثمرات فحذف
الموصوف نفسه، أو من زائدة أي له فيها كل الثمرات على رأي
الأخفش وجعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار
تغليبًا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما، ثم ذكر أن فيها من
كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار،
وليس في الفرع وأصله ذكر قوله له فيها من كل الثمرات بل
قال بعد قوله: {جنة} إلى قوله: {تتفكّرون} أي تتفكّرون في
الآيات فتعتبرون بها، ولأبي ذر {من نخيل وأعناب} إلى قوله:
{تتفكّرون}.
4538 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي
مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ
يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: قَالَ
عُمَرُ -رضي الله عنه- يَوْمًا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَ تَرَوْنَ
هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ}؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ،
فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ: قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لاَ
نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا
شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عُمَرُ: يَا
ابْنَ أَخِي قُلْ وَلاَ تَحْقِرْ نَفْسَكَ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ قَالَ عُمَرُ: أَيُّ
عَمَلٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَمَلٍ قَالَ عُمَرُ:
لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ
بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ فَصُرْهُنَّ:
قَطِّعْهُنَّ.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم) بن موسى الفراء قال: (أخبرنا
هشام) هو ابن يوسف الصنعاني (عن ابن جريج) بجيمين بينهما
راء مفتوحة فتحتية ساكنة عبد العزيز بن عبد الملك أنه قال:
(سمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث عن ابن عباس قال) ابن
جريج: (وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن
عمير) بضم العين فيهما الليثي المكي أنه (قال: قال عمر) بن
الخطاب (رضي الله تعالى عنه يومًا لأصحاب النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فيم) أي في أي شيء (ترون)
بفتح الفوقية أي تعلمون ولأبي ذر ترون بضمها أي تظنون (هذه
الآية نزلت {أيودّ أحدكم أن تكون له جنة} قالوا: الله
أعلم، فغضب عمر).
فإن قلت: ما وجه غضبه مع كونهم وكلوا العلم إلى الله
تعالى؟ أجيب: بأنه سألهم عن تعيين ما عندهم في نزول الآية
ظنًّا أو علمًا على اختلاف الروايتين فأجابوا بجواب يصلح
صدوره من العالم بالشيء والجاهل به فلم يحصل المقصود.
(فقال) عمر: (قولوا نعلم أو لا نعلم) لنعرف ما عندكم (فقال
ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما (في نفسي منها شيء) من
العلم (يا أمير المؤمنين. قال) وفي غير الفرع كأصله فقال
(عمر) له: (يا ابن أخي قل ولا تحقّر نفسك) بفتح الفوقية
وسكون الحاء المهملة وكسر القاف (قال ابن عباس: ضربت مثلًا
لعمل. قال عمر: أيّ عمل) برفع أيّ وجرها (قال ابن عباس:
لعمل) وفي الفرع فقط ضربت لعمل (قال عمر: لرجل غني) ضد
فقير (يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان
فعمل بالمعاصي حتى أغرق) بفتح الهمزة وسكون الغين المعجمة
أي أضاع (أعماله) الصالحة بما ارتكب من المعاصي واحتاج إلى
شيء من الطاعات في أهمّ أحواله فلم يحصل له منه شيء وخانه
أحوج ما كان إليه، ولذا قال: {وأصابه الكبر} أي كبر السن
فإن الفاقة في الشيخوخة أصعب {وله ذرية ضعفاء} صغار لا
قدرة لهم على الكسب، {فأصابها إعصار} وهو الريح الشديد
{فيه نار فاحترقت} ثماره وأبادت أشجاره.
وأخرج ابن المنذر الحديث من وجه آخر عن ابن أبي مليكة فقال
بعد قوله أي عمل؟ قال ابن عباس: شيء ألقي في روعي، فقال:
صدقت يا ابن عباس يا ابن أخي عني بها العمل ابن آدم أفقر
ما يكون إلى جنته إذا كبر سنه وكثر عياله وابن آدم أفقر ما
يكون إلى عمله يوم يبعث الحديث. وضرب المثل بما ذكر لكشف
المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وأبرزه في صورة المشاهد
المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه، فإن المعنى
الصرف وإنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم لأن من طبعه
ميل
(7/45)
الحس وحب المحاكاة، ولذلك شاعت الأمثال في
الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء
قاله البيضاوي ({فصرهن}) بضم الصاد (قطعهن) كذا في الفرع
كأصله وسقط ذلك لأبي ذر.
48 - باب {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:
273]
يُقَالُ: أَلْحَفَ عَلَيَّ، وَأَلَحَّ عَلَيَّ
وَأَحْفَانِي بِالْمَسْأَلَةِ. فَيُحْفِكُمْ: يُجْهِدْكُمْ
({لا يسألون}) ولأبي ذر باب بالتنوين لا يسألون ({الناس
إلحافًا}) [البقرة: 273] نصب على المصدر بفعل مقدر أي
يلحفون إلحافًا والجملة المقدرة حال من فاعل يسألون أو
مفعولًا من أجله أي لا يسألون لأجل الإلحاف أو مصدرًا في
موضع الحال أي لا يسألون ملحفين (يقال:
ألحف عليّ وألحّ عليّ) سقطت عليّ هذه الأخيرة لأبي ذر
(وأحفاني بالمسألة) أي بالغ فيها كل بمعنى واحد، والعرب
إذا نفت الحكم عن محكوم عليه فالأكثر في لسانهم نفي ذلك
القيد، فإذا قلت: ما رأيت رجلًا صالحًا فالأكثر على أنك
رأيت رجلًا لكن ليس بصالح، ويجوز أنك لم تر رجلًا أصلًا
فقوله: {لا يسألون الناس إلحافًا} مفهومه أنهم يسألون لكن
لا بالحاف، ويجوز أن يراد أنهم لا يسألون ولا يلحفون فهو
كقوله: فلان لا يرجى خيره أي لا خير عنده البتة فيرجى
(فيحفكم) تبخلوا أي (يجهدكم) في السؤال بالإلحاح.
4539 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ
أَبِي نَمِرٍ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، وَعَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيَّ قَالاَ:
سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيْسَ
الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ
وَالتَّمْرَتَانِ وَلاَ اللُّقْمَةُ وَلاَ اللُّقْمَتَانِ،
إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ وَاقْرَءُوا
إِنْ شِئْتُمْ" يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: " {لاَ
يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] ".
وبه قال: (حدّثنا ابن أبي مريم) هو سعيد بن محمد بن الحكم
بن أبي مريم المصري قال: (حدّثنا محمد بن جعفر) المدني
(قال: حدّثني) بالإفراد (شريك بن أبي نمر) بفتح النون وكسر
الميم (أن عطاء بن يسار) بالسين المهملة المخففة (وعبد
الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قالا: سمعنا أبا هريرة -رضي
الله عنه- يقول: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(ليس المسكين) الكامل في المسكنة (الذي تردّه التمرة
والتمرتان ولا اللقمة ولا اللقمتان) عند دوراته على الناس
للسؤال لأنه قادر على تحصيل قوته وقد تأتيه الزيادة عليه
فتزول حاجته ويسقط اسم المسكنة (إنما المسكين) الكامل
(الذي يتعفف) عن المسألة فيحسبه الجاهل غنيًّا (واقرؤوا)
ولأبي ذر اقرؤوا بحذف الواو (إن شئتم) (يعني قوله تعالى:
{لا يسألون الناس إلحافًا}) وقائل يعني شيخ المؤلّف سعيد
بن أبي مريم كما وقع مبنيًّا عند الإسماعيلي.
والحديث مرّ في باب لا يسألون الناس إلحافًا من كتاب
الزكاة.
49 - باب {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} [البقرة: 275] الْمَسُّ: الْجُنُونُ
({وأحل الله البيع}) وفي نسخة باب وأحل الله البيع ({وحرم
الربا}) [البقرة: 275] جملة مستأنفة من كلام الله ردًّا
لما قالوه بحكم العقل من التسويق في البيع والربا وحينئذ
فلا محل لها من الإعراب، وقيل هي من تتمة قولهم اعتراضًا
على الشرع حيث قالوا: {إنما البيع مثل الربا} فهي في موضع
نصب بالقول عطفًا على المقول واستبعد من جهة أن جوابهم
بقوله فمن جاءه موعظة من ربه إلى آخره يحتاج إلى تقدير
والأصل عدمه (المس) قال الفراء هو (الجنون) وعن ابن عباس
مما رواه ابن أبي حاتم قال: آكل الربا يبعث يوم القيامة
مجنونًا.
4540 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا
مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-
قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتِ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ
الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى النَّاسِ ثُمَّ
حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) أبو حفص النخعي
الكوفي قال: (حدّثنا أبي) حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان
بن مهران قال: (حدّثنا مسلم) هو ابن صبيح الكوفي (عن
مسروق) هو ابن الأجدع (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها
(قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا)
{والذين يأكلون الربا} إلى {ولا يظلمون} [البقرة: 275]
(قرأها) ولأبي ذر: فقرأها (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأكل على الناس) زاد في البيع في
المسجد (ثم حرم التجارة في الخمر) بيعًا وشراءً وبعد وقوع
تحريمه بمدة.
50 - باب {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276]
يُذْهِبُهُ
({يمحق الله الربا}) [البقرة: 276] قال أبو عبيدة (يذهبه)
بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركته فلا ينتفع به بل يعذبه
في الدنيا ويعاقبه عليه في الأخرى وفي نسخة باب يمحق الله
الربا.
4541 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ
سَمِعْتُ: أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَتِ الآيَاتُ
الأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَلاَهُنَّ
فِي الْمَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.
وبه قال: (حدّثنا بشر بن خالد) بكسر الموحدة وسكون الشين
المعجمة الفرائضي العسكري قال: (أخبرنا محمد بن جعفر) غندر
(عن شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن مهران ولأبي ذر زيادة
الأعمش أنه قال: (سمعت أبا الضحى) مسلم بن صبيح (يحدث عن
مسروق) هو ابن الأجدع (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أنها
قالت: لما أنزلت الآيات الأواخر من سورة البقرة خرج رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من بيته
(فتلاهن في المسجد فحرم
(7/46)
التجارة في الخمر).
51 - باب {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}
[البقرة: 279] فَاعْلَمُوا
({فأذنوا}) بإسكان الهمزة وفي نسخة باب فأذنوا بسكون
الهمزة وفتح المعجمة أمر من أذن يأذن ({بحرب من الله
ورسوله}) [البقرة: 279]. الباء للإلصاق أي (فاعلموا)
وتنكير حرب للتعظيم، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر
على تعاطي الربا بعد هذا الإنذار وعن ابن عباس يقال يوم
القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب ثم قرأ الآية. وسقط
قوله: {من الله ورسوله} لغير أبي ذر.
4542 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي
الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا
أُنْزِلَتِ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
قَرَأَهُنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي الْمَسْجِدِ وَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي
الْخَمْرِ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالشين المعجمة
العبدي بندار قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن
أبي الضحى) مسلم بن صبيح (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن
عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: لما أنزلت الآيات من
آخر سورة البقرة) سقط سورة لأبي ذر (قرأهن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد أبو ذر عليهم (في المسجد
وحرّم التجارة في الخمر).
وهذه طريق أخرى للحديث.
52 - باب {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]
({وإن كان}) ولأبي ذر باب بالتنوين وإن كان أي وإن حدث
غريم ({ذو عسرة}) فكان تامة تكتفي بفاعلها ({فنظرة}) الفاء
جواب الشرط ونظرة خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم نظرة أو مبتدأ
حذف خبره أي فعليكم نظرة ({إلى ميسرة}) أي إلى يسار لا كما
كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حلّ عليه الدين
إما تقضي وإما أن تربي ثم ندب إلى الوضع عنه ووعد عليه
الثواب الجزيل بقوله: ({وأن تصدقوا}) بالإبراء ({خير لكم})
أكثر ثوابًا من الإنظار ({إن كنتم تعلمون}) [البقرة: 280].
ما في ذلك من الثواب وسقط لأبي ذر {وأن تصدقوا} إلى آخره
وقال بعد {ميسرة} الآية.
4543 - وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ
سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا
أُنْزِلَتِ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَرَأَهُنَّ عَلَيْنَا ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي
الْخَمْرِ.
(وقال لنا) سقط لنا لأبي ذر (محمد بن يوسف) الفريابي
مذاكرة مما هو موصول في تفسيره (عن سفيان) هو الثوري (عن
منصور) هو ابن المعتمر (والأعمش) سليمان كلاهما (عن أبي
الضحى) مسلم بن صبيح (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن عائشة)
-رضي الله عنها- أنها (قالت: لما أنزلت الآيات من آخر سورة
البقرة قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) في المسجد (فقرأهن علينا ثم حرّم التجارة في
الخمر).
واقتضى صنيع المؤلّف في هذه التراجم أن المراد بالآيات
آيات الربا كلها إلى آية الدين.
53 - باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ} [البقرة: 281]
هذا (باب) بالتنوين ({واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله})
[البقرة: 281] هو يوم القيامة أو يوم الموت وثبت الباب
لأبي ذر.
4544 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ
عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
آيَةُ الرِّبَا.
وبه قال: (حدّثنا قبيصة بن عقبة) السوائي الكوني قال:
(حدّثنا سفيان) بن سعيد الثوري (عن عاصم) هو ابن سليمان
الأحول (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن ابن عباس -رضي الله
عنهما-) أنه (قال: آخر آية نزلت على النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله})
قيل: فلعل المؤلّف أراد أن يجمع بين قولي ابن عباس. قال
العيني يعني بالإشارة، وعن ابن جبير أنه عاش بعدها -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تسع ليال، وقيل غير ذلك، ونبه
في الفتح على أن الآخرية في الربا تأخر نزول الآيات
المتعلقة به من سورة البقرة، وأما حكم تحريمه فسابق على
ذلك بمدة طويلة على ما يدل عليه قوله عز وجل في سورة آل
عمران في قصة أُحُد {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا}
[آل عمران: 130] ويأتي إن شاء الله تعالى أن آخر آية نزلت
{يستفتونك} [النساء: 176] في آخر سورة النساء وما في ذلك
من المباحث بعون الله وقوته.
54 - باب {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]
هذا (باب) بالتنوين ({وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه})
من السوء فيها ({يحاسبكم به الله}) يوم القيامة ({فيغفر
لمن يشاء}) مغفرته ({ويعذب من يشاء}) تعذيبه ويغفر ويعذب
مجزومان عطفًا على الجزاء المجزوم ورفعهما ابن عامر وعاصم
خبر مبتدأ محذوف أي فهو يغفر ({والله على كل شيء قدير})
[البقرة: 284] فيقدر على الإحياء والمحاسبة. وسقط قوله:
{يحاسبكم} إلى آخر الآية لأبي ذر وقال بعد {أو تخفوه}
الآية، ولما نزلت هذه الآية اشتدّ ذلك على الصحابة رضي
الله تعالى عنهم وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل
الأعمال وحقيرها.
4545 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ،
حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ
الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَهْوَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهَا قَدْ نُسِخَتْ {وَإِنْ
تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الآيَةَ.
[الحديث 4545 - طرفه في: 4546].
وبه قال: (حدّثنا محمد) غير منسوب فقيل هو ابن يحيى الذهلي
قاله الكلاباذي، وقيل
(7/47)
ابن إبراهيم البوشنجي قاله الحاكم وقيل ابن
إدريس الرازي قال: (حدّثنا النفيلي) بضم النون وفتح
الفاء وسكون التحتية عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل قال:
(حدّثنا مسكين) بكسر الميم وسكون السين المهملة ابن بكير
الحراني وليس له ولا للنفيلي في البخاري إلا هذا الحديث
(عن شعبة) بن الحجاج العتكي مولاهم (عن خالد الحذاء)
بالحاء المهملة والذال المعجمة المشدّدة ممدودًا ابن مهران
أبي المنازل بفتح الميم وكسر الزاي البصري (عن مروان
الأصفر) أبي خليفة البصري قيل اسم أبيه خاقان وقيل سالم
(عن رجل من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهو ابن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما
(أنها قد نسخت) بضم النون مبنيًا للمفعول وسقط لفظ أنها
لأبي ذر ({وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية) نسختها
الآية التي بعدها كما قال في التي بعد.
وعند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة: لما نزلت {وإن تبدوا
ما في أنفسكم} الآية اشتد ذلك على الصحابة فأتوا رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم جثوا على المركب
وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة
والصيام والجهاد، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أتريدون
أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل
قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما قرأها
القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: {آمن الرسول
بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} إلى {وإليك المصير}
[البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل {لا
يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286] إلى آخرها.
ورواه مسلم منفردًا به ولفظه: فلما فعلوا ذلك نسخها الله
تعالى فأنزل الله: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما
كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو
أخطأنا} قال: نعم {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته
على الذين من قبلنا} قال: نعم {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة
لنا به} قال: نعم {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا
فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 286] قال: نعم.
55 - باب {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ
رَبِّهِ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِصْرًا: عَهْدًا، وَيُقَالُ
غُفْرَانَكَ مَغْفِرَتَكَ فَاغْفِرْ لَنَا.
هذا (باب) بالتنوين ({آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه})
[البقرة: 285] عن أنس بن مالك فيما رواه الحاكم في مستدركه
وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه لما نزلت هذه الآية على
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {آمن الرسول
بما أنزل إليه من ربه} قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "حق له أن يؤمن".
(وقال ابن عباس): فيما وصله الطبري من طريق علي بن أبي
طلحة عنه في قوله تعالى: {ولا تحمل علينا إصرًا} أي
(عهدًا) [البقرة: 286]. وهو تفسير باللازم لأن الوفاء
بالعهد شديد وأصل الإصر الشيء الثقيل، ويطلق على الشديد
وقال النابغة:
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم ... والحامل الاصر عنهم بعد
ما عرفوا
وفسره بعضهم هنا بشماتة الأعداء، (ويقال: غفرانك) أي
(مغفرتك فاغفر لنا) وهذا تفسير أبي عبيدة، وقال الزمخشري:
منصوب بإضمار فعله يقال: غفرانك لا كفرانك أي نستغفرك ولا
نكفرك فقدّره جملة خبرية. قال في الدر: وهذا ليس مذهب
سيبويه إنما مذهبه أن يقدر بجملة طلبية كأنه قيل اغفر
غفرانك والظاهر أن هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها
لنيابتها عنه.
4546 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنِ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا
رَوْحٌ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ،
عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: أَحْسِبُهُ ابْنَ عُمَرَ {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] قَالَ:
نَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. [الحديث 4545 -
أطرافه في: 4546].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسحاق بن منصور) الكوسج
التميمي المروزي وسقط ابن منصور لغير أبي ذر قال: (أخبرنا)
ولأبي ذر: حدّثنا (روح) هو ابن عبادة قال: (أخبرنا شعبة)
بن الحجاج (عن خالد الحذاء) البصري (عن مروان الأصفر)
البصري أيضًا (عن رجل من أصحاب رسول الله) ولأبي ذر من
أصحاب النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
أي الأصفر (أحسبه) أي الرجل المبهم (ابن عمر) جزم في
السابقة به فلعل قوله هنا أحسبه كان قبل جزمه وكان قد نسي
ثم تذكر ({وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال): أي ابن
عمر (نسختها الآية التي بعدها) {لا يكلف الله نفسًا إلا
وسعها} [البقرة: 286] أي لا يكلف الله تعالى أحدًا فوق
طاقته لطفًا منه تعالى بخلقه ورأفة بهم وإحسانًا إليهم،
فأزالت ما كان أشفق
(7/48)
منه الصحابة في قوله: {وإن تبدوا ما في
أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} أي هو وإن حاسب وسأل
لكنه لا يعذب إلا على ما يملك الشخص دفعه فأما ما لا يملك
دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان.
فإن قلت: إن النسخ لا يدخل الخبر لأنه يوهم الكذب أي يوقعه
في الوهم أي الذهن حيث يخبر بالشيء ثم بنقيضه وهذا محال
على الله تعالى. أجيب: بأن المذكور هنا وإن كان خبرًا لكنه
يتضمن حكمًا وما كان كذلك أمكن دخول النسخ فيه سائر
الأحكام، وإنما الذي لا يدخله النسخ من الأخبار ما كان
خبرًا محضًا لا يتضمن حكمًا كالإخبار عما مضى من أحاديث
الأمم ونحو ذلك على أنه قد جوز جماعة النسخ في الخبر
المستقبل لجواز المحو فيما يقدره قال الله تعالى: {يمحو
الله ما يشاء ويثبت} [الرعد: 39] والأخبار تتبعه وعلى هذا
القول البيضاوي، وقيل يجوز على الماضي أيضًا لجواز أن يقول
الله لبث نوح في قومه ألف سنة ثم يقول لبث فيهم ألف سنة
إلا خمسين عامًا وعلى هذا القول الإمام الرازي والآمدي،
وقال البيهقي النسخ هنا بمعنى التخصيص أو التبيين، فإن
الآية الأولى وردت مورد العموم فبينت التي بعدها أن مما
يخفى شيئًا لا يؤاخذ به وهو حديث النفس الذي لا يستطاع
دفعه.
3 - سورة آلِ عِمْرَانَ
تُقَاةٌ وَتَقِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، صِرٌّ: بَرْدٌ شَفَا
حُفْرَةٍ مِثْلُ شَفَا الرَّكِيَّةِ وَهْوَ حَرْفُهَا:
تُبَوِّئُ: تَتَّخِذُ
مُعَسْكَرًا. الْمُسَوَّمُ الَّذِي لَهُ سِيمَاءٌ
بِعَلاَمَةٍ، أَوْ بِصُوفَةٍ، أَوْ بِمَا كَانَ
رِبِّيُّونَ الْجَمِيعُ، وَالْوَاحِدُ رِبِّيٌّ.
تَحُسُّونَهُمْ: تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلًا. غُزًّا:
وَاحِدُهَا غَازٍ. سَنَكْتُبُ: سَنَحْفَظُ نُزُلًا:
ثَوَابًا وَيَجُوزُ وَمُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
كَقَوْلِكَ أَنْزَلْتُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْخَيْلُ
الْمُسَوَّمَةُ: الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَقَالَ ابْنُ
جُبَيْرٍ: وَحَصُورًا لاَ يَأْتِي النِّسَاءَ، وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: مِنْ فَوْرِهِمْ مِنْ غَضَبِهِمْ، يَوْمَ
بَدْرٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُخْرِجُ الْحَيَّ: النُّطْفَةُ
تَخْرُجُ مَيِّتَةً وَيُخْرِجُ مِنْهَا الْحَيَّ
الإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ وَالْعَشِيُّ: مَيْلُ
الشَّمْسِ، أُرَاهُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ.
([3] سورة آل عمران)
زاد أبو ذر: بسم الله الرحمن الرحيم.
(تقاة وتقبة) بوزن مطية (واحدة) وفي نسخة واحد أي كلاهما
مصدر بمعنى واحد وبالثانية قرأ يعقوب والتاء فيهما بدل من
الواو لأن أصل تقاة وقية مصدر على فعلة من الوقاية، وأراد
المؤلّف قوله تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} المسبوق
بقوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين ومن يفعل ذلك} أي اتخاذهم أولياء {فليس من الله
في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} [آل عمران: 28] أي إلا أن
تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه والاستثناء مفرغ من المفعول
من أجله، والعامل فيه لا يتخذ أي لا يتخذ المؤمن الكافر
وليًّا لشيء من الأشياء إلا للتقية ظاهرًا فيكون مواليه في
الظاهر ومعاديه في الباطن. قال ابن عباس: ليس التقية
بالعمل إنما التقية باللسان، ونصب تقاة في الآية على
المصدر أي تتقوا منهم اتقاء فتقاة واقعة موقع الإتقاء أو
النصب على الحال من فاعل تتقوا فتكون حالًا مؤكدة.
({صر}) أي (برد) يريد قوله تعالى: {مثل ما ينفقون في هذه
الحياة الدنيا مثل ريح فيها صر} [آل عمران: 117] وسقط لأبي
ذر قوله: {تقاة} إلى هنا.
وقوله تعالى: {وكنتم على} ({شفا حفرة}) {من النار} [آل
عمران: 103] هو (مثل شفا الركية) بفتح الراء وكسر الكاف
وتشديد التحتية آخره هاء أي البئر (وهو حرفها) وشفا بفتح
الشين مقصورًا وهو من ذوات الواو يثنى بالواو نحو شفوان
ويكتب بالألف ويجمع على إشفاء، والمعنى كنتم مشفين على
الوقوع في نار جهنم لكفركم فأنقذكم الله تعالى منها
بالإسلام.
وقوله تعالى: {وإذ غدوت من أهلك} ({تبوّئ}) {المؤمنين} [آل
عمران: 121] قال أبو عبيدة أي (تتخذ معسكرًا) بفتح الكاف
وقال غيره أي تنزل فيتعدى لاثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف
الجر وقد يحذف كهذه الآية (المسوّم) بفتح الواو اسم مفعول
وبكسرها اسم فاعل، ولأبي ذر والمسوم (الذي له سيماء) بالمد
والصرف (بعلامة أو بصوفة أو بما كان) من العلامات، وفي
نسخة قبل المسوم والخيل المسوّمة وروى ابن أبي حاتم عن علي
-رضي الله عنه- قال: كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف
الأبيض وكان سيماهم أيضًا في نواصي خيولهم.
قوله تعالى: {وكأين من نبي قاتل معه} ({ربيّون}) [آل
عمران: 146] قال أبو عبيدة (الجميع والواحد) ولأبي ذر
المجموع بالواو بدل الياء واحدها (ربي) وهو العالم منسوب
إلى الرب وكسرت راؤه تغييرًا في النسب وقيل لا تغيير وهو
نسبة إلى الربة وهي الجماعة وفيها لغتان الكسر والضم.
قوله تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ} ({تحسونهم}) [آل
عمران: 152] أي (تستأصلونهم قتلًا) بإذنه بتسليطه إياكم
عليهم.
وقوله تعالى: {أو كانوا} ({غزا}) قال أبو عبيدة
(7/49)
(واحدها غاز) ومعنى الآية أنه تعالى نهى
عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال
عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والجهاد لو
كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، فإن ذلك جعله الله
تعالى حسرة في قلوبهم، وسقط لأبي ذر من تستأصلونهم إلى
هنا.
قوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير
ونحن أغنياء} ({سنكتب}) [آل عمران: 181] أي (سنحفظ) ما
قالوا في علمنا ولا نهمله لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر
بالله.
قوله تعالى: {خالدين فيها} ({نزلًا}) {من عند الله} [آل
عمران: 198] أي (ثوابًا) قال أبو حيان النزل ما يهيأ
للنزيل وهو الضيف ثم اتسع فيه فأطلق على الرزق وهل هو مصدر
أو جمع قولان (ويجوز ومنزل من عند الله) بضم الميم وفتح
الزاي (كقولك أنزلته). قال في العمدة يعني أن نزلًا الذي
هو المصدر يكون بمعنى منزلًا على صيغة اسم المفعول من قولك
أنزلته اهـ.
(وقال مجاهد): مما رواه الثوري في تفسيره، وأخرجه عبد
الرزاق عن الثوري (والخيل المسوّمة) هي (المطهمة) بضم
الميم وفتح الطاء وتشديد الهاء (الحسان) قال الأصمعي
المطهم التام كل شيء منه على حدته فهو بارع الجمال زاد أبو
ذر عن الكشميهني والمستملي، وقال سعيد بن جبير مما وصله
الثوري وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى بفتح الهمزة
والزاي بينهما موحدة ساكنة مما وصله الطبري الراعية هي
المسوّمة بفتح الواو.
(وقال ابن جبير) سعيد مما وصله عنه في قوله تعالى:
{وسيدًا} ({وحصورًا}) [آل عمران: 39] أي (لا يأتي النساء)
منعًا لنفسه مع ميلها إلى الشهوات وكماله ومن لم يكن له
ميل لها لا يسمى حصورًا ولا بد فيه من المنع لأن السجن
إنما سمي منعًا لما أنه يمنع من الخروج.
(وقال عكرمة) مولى ابن عباس مما وصله الطبري في قوله
تعالى: {ويأتوكم} ({من فورهم}) [آل عمران: 125] أي (من
غضبهم يوم بدر) وقال غيره من ساعتهم هذه، وسقط لأبي ذر من
قوله وقال ابن جبير إلى هنا.
(وقال مجاهد): مما وصله عبد بن حميد (يخرج الحي) هو
(النطفة) ولأبي ذر عن الكشميهني
والمستملي من الميت من النطفة (تخرج ميتة ويخرج) بفتح
الأول وضم الثالث (منها الحي) بالرفع ولغير أبي ذر ويخرج
بضم ثم كسر منها الحي نصب.
(الإبكار) هو (أول الفجر و) أما (العشي) فهو (ميل الشمس
أراه) بضم الهمزة أي أظنه (إلى أن تغرب) وهذا ساقط لأبي
ذر.
1 - باب
{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الْحَلاَلُ، وَالْحَرَامُ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا
يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وَكَقَوْلِهِ جَلَّ
ذِكْرُهُ: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ
يَعْقِلُونَ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} {زَيْغٌ} شَكٌّ. {ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ} الْمُشْتَبِهَاتِ {وَالرَّاسِخُونَ}
يَعْلَمُونَ. {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.
هذا (باب) بالتنوين ثبت باب لأبي ذر عن الكشميهني
والمستملي في قوله تعالى: ({منه آيات محكمات} وقال مجاهد):
مما أخرجه عبد بن حميد هي (الحلال والحرام: {وأخر
متشابهات}) [آل عمران: 7] أي (يصدّق بعضه بعضًا كقوله
تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين}) [البقرة: 26] و (كقوله
جل ذكره: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون}) [يونس: 100]
وكقوله تعالى: ({والذين اهتدوا زادهم هدى}) [محمد -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 17] زاد أبو ذر عن الكشميهني
والمستملي وآتاهم تقواهم هذا تفسير للمتشابه وذلك أن
المفهوم من الآية الأولى أن الفاسق وهو الضال تزيد ضلالته
وتصدقه الآية الأخرى حيث يجعل الرجس للذي لا يعقل وذلك حيث
تزيد للمهتدي الهداية قاله الكرماني. وقال بعضهم: المحكم
ما وضح معناه فيدخل فيه النص والظاهر، والمتشابه ما ترددت
فيه الاحتمالات فيدخل فيه المجمل والمؤول. وقال الزمخشري:
محكمات أحكمت عباراتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه.
قال الزجاج فيما حكاه الطيبي: المعنى أحكمت في الإبانة
فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى التأويل وقسم الراغب
المتشابه إلى قسمين. أحدهما ما يرجع إلى ذاته، والثاني إلى
أمر ما يعرض له.
والأول على ضروب ما يرجع إلى جهة اللفظ مفردًا ما لغرابته
نحو وفاكهة وأبا أو لمشاركته الغير نحو اليد والعين أو
مركبًا أما للاختصار نحو: {واسأل القرية} أو للإطناب نحو
{ليس كمثله شيء} أو لإغلاق اللفظ نحو فإن عثر على أنهما
استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما الآية.
وثانيها ما يرجع إلى المعنى أما من جهة دقته كأوصاف الباري
عز وجل وأوصاف القيامة أو من جهة ترك الترتيب ظاهرًا نحو:
(7/50)
{ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} إلى
قوله: {لعذبنا الذين كفروا} [الفتح: 25] وثالثها: ما يرجع
إلى اللفظ والمعنى معًا وأقسامه بحسب تركيب بعض وجوه اللفظ
مع بعض وجوه المعنى نحو غرابة اللفظ مع دقة المعنى ستة
أنواع، لأن وجوه اللفظ ثلاثة، ووجوه المعنى اثنان ومضروب
الثلاثة في اثنين ستة.
والقسم الثاني من المتشابه وهو ما يرجع إلى ما يعرض في
اللفظ وهو خمسة أنواع.
الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص.
الثاني من طريق الكيفية كالوجوب والندب.
الثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ.
الرابع من جهة المكان كالمواضع والأمور التي نزلت فيها
نحو: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} [البقرة:
189] وقوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة:
37] فإنه يحتاج في معرفة ذلك إلى معرفة عاداتهم في
الجاهلية.
الخامس من جهة الإضافة وهي الشروط التي بها يصح الفعل أو
يفسد كشروط العبادات والأنكحة والبيوع.
وقد يقسم المتشابه والمحكم بحسب ذاتهما إلى أربعة أقسام.
المحكم من جهة اللفظ والمعنى كقوله تعالى: {قل تعالوا أتل
ما حرم ربكم عليكم} [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات.
الثاني متشابه من جهتهما معًا قوله تعالى: {فمن يرد الله
أن يهديه} [الأنعام: 125] الآية.
الثالث متشابه في اللفظ محكم في المعنى قوله تعالى: {وجاء
ربك} الآية.
الرابع متشابه في المعنى محكم في اللفظ نحو: الساعة
والملائكة.
وإنما كان فيه المتشابه لأنه باعث على تعلم علم الاستدلال
لأن معرفة المتشابه متوقفة على معرفة علم الاستدلال فتكون
حاملة على تعلمه فتتوجه الرغبات إليه ويتنافس فيه المحصلون
فكان كالشيء النافق بخلافه إذا لم يوجد فيه المتشابه فلم
يحتج إليه كل الاحتياج فيتعطل ويضيع ويكون كالشيء الكاسد
قاله الطيبي.
وقوله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم} ({زيغ}) أي (شك).
وضلال وخروج عن الحق إلى الباطل: {فيتبعون ما تشابه منه}
({ابتغاء الفتنة}) مصدر مضاف لمفعوله منصوب له أي لأجل طلب
(المشتبهات) بضم الميم وسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر
الموحدة ليفتنوا الناس عن دينهم لتمكنهم من تحريفها إلى
مقاصدهم الفاسدة كاحتجاج النصارى بأن القرآن نطق بأن عيسى
روح الله وكلمته وتركوا الاحتجاج بقوله: إن هو إلا عبد
أنعمنا عليه، وأن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من
تراب، وهذا بخلاف المحكم فلا نصيب لهم فيه وحجة عليهم،
وتفسير الفتنة بالمشتبهات لمجاهد وصله عبد بن حميد
({والراسخون}) يعلمون) ولأبي ذر عن المستملي والكشميهني
{والراسخون في العلم} يعلمون ({يقولون}) خبر المبتدأ الذي
هو والراسخون أو حال أي والراسخون يعلمون تأويله حال كونهم
قائلين ذلك أو خبر مبتدأ مضمر أي هم يقولون
({آمنا به}) [آل عمران: 7] زاد في نسخة عن المستملي
والكشميهني كل من عند ربنا أي كل من المتشابه والمحكم من
عنده وما يذكر إلا أولو الألباب وسقط جميع هذه الآثار من
أول السورة لي هنا عن الحموي.
4547 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ،
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ،
عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: تَلاَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
هَذِهِ الآيَةَ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا
أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. قَالَتْ: قَالَ:
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
«فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ
فَاحْذَرُوهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا
يزيد بن إبراهيم) أبو سعيد (التستري) بالسين المهملة (عن
ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبد الرحمن (عن القاسم بن
محمد) أي ابن أبي بكر الصديق (عن عائشة -رضي الله عنها-)
إنها (قالت: تلا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- هذه الآية {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات
محكمات هن أم الكتاب}) قال الزمخشري أي أصل الكتاب تحمل
المشتبهات عليها. قال الطيبي: وذلك أن العرب تسمي كل جامع
يكون مرجعًا لشيء أما قال القاضي البيضاوي والقياس أمهات
الكتاب وأفرد على أن الكل بمنزلة آية واحدة أو على تأويل
كل واحدة ({وأُخر مشابهات}) عطف على آيات ومتشابهات نعت
لآخر وفي الحقيقة أخر نعت لمحذوف تقديره وآيات أخر
متشابهات ({فأما الذين في قلوبهم زيغ}) قال الراغب: الزيغ
الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ومنه زاغت الشمس عن
كبد السماء وزاغ البصر والقلب، وقال بعضهم: الزيغ أخص من
مطلق الميل، فإن الزيغ لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل
والمراد
(7/51)
أهل البدع ({فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة وابتغاء تأويله}) على ما يشتهونه ({وما يعلم تأويله
إلا الله والراسخون في العلم}).
قال في الكشاف: أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن
يحمل عليه إلا الله، وتعقبه في الانتصاف بأنه لا يجوز
إطلاق الاهتداء على الله تعالى لما فيه من إيهام سبق جهل
وضلال تعالى الله وتقدس عن ذلك لأن اهتدى مطاوع هدى ويسمى
من تجدد إسلامه مهتديًا وانعقد الإجماع على امتناع إطلاق
الألفاظ الموهمة عليه تعالى قال: وأظنه سها فنسب الاهتداء
إلى الراسخين في العلم وغفل عن شمول ذلك الحق جل جلاله.
({يقولون آمنا به}) وفي مصحف ابن مسعود: ويقول الراسخون في
العلم آمنا به بواو قبل يقول وثبت ذلك من قراءة ابن عباس
كما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح وهو يدل على أن الواو
للاستئناف. قال صاحب المرشد: لا إنكار لبقاء معنى في
القرآن استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه
فالوقف على إلا الله على هذا تام ولا يكاد يوجد في التنزيل
أما وما بعدها رفع إلا ويثنى ويثلث كقوله تعالى: {أما
السفينة} {وأما الغلام} {وأما الجدار} الآيات، فالمعنى
وأما الراسخون فحذف لدلالة الكلام عليه. فإن قيل: فيلزم
على هذا أن يجاء في الجواب بالفاء وليس بعد والراسخون
الفاء، فجوابه: أن أما لما حذفت ذهب حكمها الذي يختص بها
فجرى مجرى الابتداء والخبر ({كل من عند ربنا وما يذكر إلا
أولو الألباب}) وسقط قوله: {وما يعلم تأويله} إلا الله الخ
لغير أبي ذر وقالوا بعد قوله وابتغاء تأويله إلى قوله وما
يذكر إلا أولو الباب.
(قالت) عائشة رضي الله تعالى عنها: (قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فإذا رأيت الذين يتبعون ما
تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) بكسر تاء رأيت
وكاف أولئك على خطاب عائشة وفتحهما لأبي ذر على أنه لكل
أحد ولأبي ذر عن الكشميهني فاحذرهم بالإفراد أي احذر أيها
المخاطب الإصغاء إليهم وأول ما ظهر ذلك من اليهود كما عند
ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة وإن عددها بالجمل
بقدر مدة هذه الأمة ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج.
وحديث الباب أخرجه مسلم في القدر وأبو داود في السنة
والترمذي في التفسير.
2 - باب {وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وإني أعيذها}) أي
أجيرها ({بك وذريتها من الشيطان الرجيم}). [آل عمران: 36].
4548 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ
يُولَدُ إِلاَّ وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ
فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ
إِلاَّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو
هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنِّي
أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ}.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن محمد) المسندي
قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر)
بميمين بينهما عين مهملة ساكنة ابن راشد الأزدي مولاهم
البصري (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه) ابتداء للتسليط عليه
وفي صفة إبليس وجنوده من بدء الخلق كل بني آدم يطعن
الشيطان في جنبيه (حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان
إياه) صارخًا نصب على المصدر كقوله قم قائمًا (إلا مريم
وابنها) عيسى فحفظهما الله تعالى ببركة دعوة أمها حيث
قالت: إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، ولم يكن
لمريم ذري غير عيسى عليه الصلاة والسلام، وزاد في باب صفة
إبليس ذهب يطعن فطعن في الحجاب، والمراد به
الجلدة التي يكون فيها الجنين وهي المشيمة. ونقل العيني أن
القاضي عياضًا أشار إلى أن جميع الأنبياء يشاركون عيسى
عليه الصلاة والسلام في ذلك. قال القرطبي: وهو قول مجاهد
وقد طعن الزمخشري في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته فقال:
إن صح فمعناه إن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم
وابنها فإنهما معصومان وكذلك كل من كان في صفتهما لقوله
تعالى {إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر: 40] واستهلاله
صارخًا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب
بيده عليه، ويقول هذا ممن أغويه ونحوه من التخييل قول ابن
الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة
يولد
(7/52)
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل
الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا
صراخًا وعياطًا اهـ.
قال المولى سعد الدين: طعن أوّلًا في الحديث بمجرّد أنه لم
يوافق هواه وإلاّ فأي امتناع من أن يمس الشيطان المولود
حين يولد بحيث يصرخ كما ترى وتسمع ولا يكون ذلك في جميع
الأوقات حتى يلزم امتلاء الدنيا بالصراخ ولا تلك المسة
للإغواء، وكفى بصحة هذا الحديث رواية التفات وتصحيح
الشيخين له من غير قدح من غيرهما، وقال غيره: الحمل على
طمع الشيطان في الإغواء صرف للكلام عن ظاهره وتكذيب لظاهر
الخبر مع أنه لا مانع في العقل منه، وكيف تكون المحافظة
عنده على قول ابن الرومي أولى من رعاية ظاهر كتاب الله
تعالى وسنّة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وهو هذيان ما أنزل الله به من سلطان.
وقال في الانتصاف: الحديث مدوّن في الصحاح فلا يعطله الميل
إلى ترهات الفلاسفة والانتصار بقول ابن الرومي سوء أدب يجب
أن يجتنب عنه. وقال الطيبي قوله: ما من مولود إلا والشيطان
يمسه كقوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب
معلوم} [الحج: 4] في أن الواو داخلة بين الصفة والموصوف
لتأكد اللصوق فتفيد الحصر مع التأكيد فإذن لا معنى لقوله
كل من كان في صفتهما ولا يبعد اختصاصهما بهذه الفضيلة من
دون الأنبياء. وأما قوله تعالى: {إلا عبادك منهم المخلصين}
[الحجر: 40] فجوابه أي بعد أن يمكنه الله تعالى من المس مع
أن الله تعالى يعصمهم من الإغواء، وأما الشعر فهو من باب
حسن التعليل فلا يصلح للاستشهاد.
(ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا) بالواو ولأبي ذر اقرؤوا (إن
شئتم {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}) وهذا
فيه شيء من حيث إن سياق الآية يدل على أن دعاء حنة أم مريم
بإعاذتها وذريتها من الشيطان المفسر في الحديث بأن يعصما
من مس الشيطان عند ولادتهما متأخر عن وضعها مريم، ولم أر
من نبه على هذا والذي يظهر لي أن تكون حنة علمت أنوثة مريم
قبل تمام وضعها عند بروزها إلى ما يعلم منه ذلك فقالت
حينئذٍ إني وضعتها أنثى وإني أعيذها فاستجيب لها، ثم تكامل
وضعها فأراد الشيطان التمكن من مريم فمنعه الله تعالى منها
ببركة دعاء أمها والتعبير بالبعض عن الكل سائغ شائع وليس
في الآية دليل على أنه تعالى استجاب دعاءها بل
الضمير في قوله تعالى: {فتقبلها ربها} [آل عمران: 37]
لمريم أي فرَضي بها ربها في النذر مكان الذكر نعم الحديث
يدل على الإجابة فتأمل.
وهذا الحديث قد سبق في أحاديث الأنبياء في باب: {واذكر في
الكتاب مريم} [مريم: 16].
3 - باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ
لَهُمْ} لاَ خَيْرَ {لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ مِنَ الأَلَمِ وَهْوَ
فِي مَوْضِعِ مُفْعِلٍ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({إن الذين يشترون}) أي
يستبدلون ({بعهد الله}) بما عاهدوا عليه من الإيمان
بالرسول وذكر صفته للناس وبيان أمره ({وأيمانهم}) أي وبما
حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ({ثمنًا قليلًا}) متاع
الدنيا ({أولئك لا خلاق}) أي (لا خير {لهم في الآخرة ولهم
عذاب أليم}) [آل عمران: 77] أي (موّلم) أي (موجع) بكسر
الجيم (من الألم وهو في موضع مفعل) بضم الميم وكسر العين
وسقط لأبي ذر أولئك ولهم.
4549 - 4550 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله
عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ
لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ
وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ
ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ
لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ. قَالَ:
فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ: مَا
يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قُلْنَا: كَذَا
وَكَذَا قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي
أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ»
فَقُلْتُ إِذًا يَحْلِفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ
حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ
امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ
وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ».
وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم السلمي
البرساني البصري قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد
الله اليشكري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي وائل)
شقيق بن سلمة (عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه)
أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(من حلف يمين صبر) بإضافة يمين إلى صبر لما بينهما من
الملابسة. قال عياض: أي أكره حتى حلف أو حلف جراءة
وإقدامًا لقوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} [البقرة:
175] (ليقتطع) وللكشميهني ليقطع بحذف الفوقية التي بعد
القاف (بها مال امرئ مسلم) أو ذمي أو معاهد أو حقًا من
حقوقهم (لقي الله وهو عليه غضبان) اسم فاعل من الغضب
والمراد لازمه كالعذاب والانتقام (فأنزل الله تصديق ذلك
{إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا
أولئك لا خلاق لهم في الآخرة}) إلى آخر الآية.
(قال: فدخل الأشعث بن قيس) الكندي (وقال: ما يحدثكم) أي أي
شيء يحدثكم
(7/53)
(أبو عبد الرحمن) عبد الله بن مسعود (قلنا:
كذا وكذا قال فيّ) بكسر الفاء وتشديد التحتية (أنزلت) هذه
الآية (كانت لي بئر في أرض ابن عم لي) اسمه معذان ولقبه
الجفشيش زاد أحمد من طريق عاصم بن أبي النجود عن شقيق في
بئر كانت لي في يده فجحدني (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بينتك) أي الواجب بينتك أنها بئرك
(أو يمينه فقلت: إذا يحلف) نصب بإذا (يا رسول الله فقال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من حلف على)
محلوف (يمين صبر) خفض بالإضافة كالأولى وسماه يمينًا
مجازًا للملابسة بينهما والمراد ما شأنه أن يكون محلوفًا
عليه وإلا فهو قبل اليمين ليس محلوفًا عليه فيكون من مجاز
الاستعارة (يقتطع) في موضع الحال وللكشميهني ليقتطع أي
لأجل أن يقتطع (بها مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر) غير جاهل
ولا ناس ولا مكره (لقي الله وهو عليه غضبان) فينتقم منه.
وهذا الحديث قد سبق في كتاب الشهادات.
4551 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ هُوَ ابْنُ أَبِي هَاشِمٍ
سَمِعَ هُشَيْمًا أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنهما-، أَنَّ
رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ فِيهَا
لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا
رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إلَى آخِرِ الآيَةِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (عليّ هو ابن
أبي هاشم) البغدادي وسقط لأبي ذر لفظة هو (سمع هشيمًا) بضم
الهاء وفتح المعجمة ابن بشير بضم الموحدة وفتح المعجمة
مصغرين الواسطي يقول (أخبرنا العوّام) بتشديد الواو (ابن
حوشب) بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وبعد المعجمة
المفتوحة موحدة (عن إبراهيم بن عبد الرحمن) السكسكي (عن
عبد الله بن أبي أوفى) بفتح الهمزة والفاء (رضي الله تعالى
عنهما أن رجلًا) لم يسم (أقام سلعة في السوق) أي روجها فيه
(فحلف فيها) بالله (لقد أعطى) بفتح الهمزة والطاء (بها) أي
بدلها وللكشميهني فيها (ما لم يعطه) بكسر الطاء ويجوز ضم
الهمزة وكسر الطاء من قوله لقد أعطي أي دفع له فيها من
المستامين ما لم يعط بفتح الطاء. وفي الفرع ويصله أعطى
بفتح الهمزة والطاء مصححًا عليها ويعطه بفتح الطاء وضم
الهاء وفي الهامش يتجه فتح الهمزة وضمها وفتح الطاء مع ضم
الهمزة وكسرها مع فتح الهمزة قاله بعض الحفاظ اهـ.
(ليوقع فيها رجلًا من المسلمين) ممن يريد الشراء (فنزلت)
هذه الآية: ({إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا
قليلًا} إلى آخر الآية).
وقد مرّ هذا الحديث في باب ما يكره من الحلف في البيع في
كتاب البيع.
4552 - حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ
امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا تَخْرِزَانِ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي
الْحُجْرَةِ، فَخَرَجَتْ إِحْدَاهُمَا وَقَدْ أُنْفِذَ
بِإِشْفى فِي كَفِّهَا فَادَّعَتْ عَلَى الأُخْرَى
فَرُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ
لَذَهَبَ دِمَاءُ قَوْمٍ وَأَمْوَالُهُمْ» ذَكِّرُوهَا
بِاللَّهِ وَاقْرَءُوا عَلَيْهَا {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} فَذَكَّرُوهَا
فَاعْتَرَفَتْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْيَمِينُ عَلَى
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».
وبه قال: (حدّثنا نصر بن علي بن نصر) الجهضمي قال: (حدّثنا
عبد الله بن داود) بن عامر الخريبي نسبة إلى خريبة بالخاء
المعجمة والموحدة مصغرًا محلة بالبصرة كان سكنها وهو كوفي
الأصل (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن ابن أبي
مليكة) عبد الله (أن امرأتين) لم يعرف الحافظ ابن حجر
اسمهما (كانتا تخرزان) بفتح الفوقية وسكون المعجمة وبعد
الراء المكسورة زاي معجمة من خرز الخف ونحوه يخرزه بضم
الراء وكسرها (في بيت أو في الحجرة) بضم الحاء المهملة
وسكون الجيم وبالراء الموضع المنفرد من الدار وفي الفرع
فقط أو في الحجر بكسر الحاء وسكون الجيم وإسقاط الهاء
والشك من الراوي، وأفاد الحافظ ابن حجر أن هذه رواية
الأصيلي وحده، وأن رواية الأكثرين في بيت وفي الحجرة بواو
العطف وصوبها. وقال: إن سبب الخطأ في رواية الأصيلي أن في
السياق حذفًا بينه ابن السكن في روايته حيث جاء فيها في
بيت وفي الحجرة حدّاث بضم الحاء المهملة وتشديد الدال
وآخره مثلثة أي ناس يتحدّثون قال فالواو عاطفة لكن المبتدأ
محذوف، ثم قال: وحاصله أن المرأتين كانتا في البيت وكان في
الحجرة المجاورة للبيت ناس يتحدّثون فسقط المبتدأ من
الرواية فصار مشكلًا فعدل الراوي عن الواو إلى أو التي
للترديد فرارًا من استحالة كون المرأتين في البيت وفي
الحجرة معًا اهـ.
وتعقبه العيني بأن كون أو للشك مشهور في كلام العرب وليس
فيه مانع هنا وبأن كون الواو للعطف غير مسلم لفساد المعنى
وبأنه لا دلالة هنا على حذف المبتدأ وكون الحجرة كانت
مجاورة للبيت فيه نظر إذ يجوز أن تكون داخلة فيه وحينئذٍ
فلا استحالة في أن تكون المرأتان فيهما معًا اهـ فليتأمل
ما في الكلامين مع ما في رواية ابن السكن من الزيادة
المشار إليها.
(فخرجت إحداهما)
(7/54)
أي إحدى المرأتين من البيت أو الحجرة، وفي
المصابيح وللأصيلي فجرحت بجيم مضمومة فراء مكسورة فحاء
مهملة مبنيًّا للمفعول (وقد أنفذ) بضم الهمزة وسكون النون
وبعد الفاء المكسورة ذال معجمة والواو للحال وقد للتحقيق
(بإشفى) بكسر الهمزة وسكون الشين المعجمة وبالفاء المنوّنة
ولأبي ذر: باشفى بترك التنوين مقصورًا آلة الخرز للإسكاف
(في كفها فادّعت على الأخرى) أنها أنفذت الإشفي في كفها
(فرفع) بضم الراء مبنيًا للمفعول أمرها (إلى ابن عباس) رضي
الله تعالى عنهما (فقال ابن عباس: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لو يعطى الناس بدعواهم) أي بمجرد إخبارهم عن لزوم حق لهم
على آخرين عند حاكم
(لذهب دماء قوم وأموالهم) ولا يتمكن المدعى عليه من صون
دمه وماله، ووجه الملازمة في هذا القياس الشرطي أن الدعوى
بمجردها إذا قبلت فلا فرق فيها بين الدماء والأموال
وغيرهما وبطلان اللازم ظاهر لأنه ظلم، ثم قال ابن عباس:
(ذكروها بالله) أي خوّفوا المرأة الأخرى المدعى عليها من
اليمين الفاجرة وما فيها من الاستخفاف (واقرؤوا عليها)
قوله تعالى: ({إن الذين يشترون بعهد الله}) الآية.
والموعود عليه حرمان الثواب ووقوع العقاب من خمسة أوجه
وعدم الخلاق في الآخرة وهو النصيب في الخير مشروط بعدم
التوبة بالإجماع وعندنا بعدم العفو أيضًا لقوله تعالى: {إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك} [النساء: 48]
وعدم الكلام عبارة عن شدّة السخط نعوذ بالله منه فلا يشكل
بقوله: {ولنسألنهم أجمعين} [الحجر: 92] وقيل: لا يكلمهم
كلامًا يسرهم، ولعله أولى لأنه تخصيص وهو خير من المجاز
وعدم النظر مجاز عن عدم المبالاة والإهانة للغضب يقال:
فلان غير منظور لفلان أي غير ملتفت إليه ومعنى عدم التزكية
عدم التطهير من دنس المعاصي والآثام أو عدم الثناء عليهم
والعذاب الأليم الموّلم ومن الجملة الاسمية يستفاد دوامه
قاله بعض المحققين من المفسرين.
(فذكروها) بفتح الكاف جملة ماضية ولأبي ذر: فذكرها
بالإفراد (فاعترفت) بأنها أنفذت الإشفى في كف صاحبتها
(فقال ابن عباس: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: اليمين على المدعى عليه) أي إذا لم تكن بيّنة
لدفع ما ادعى به عليه، وعند البيهقي بإسناد جيد لو يعطى
الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن البيّنة
على المدعي واليمين على من أنكر نعم قد تجعل اليمين في
جانب المدعي في مواضع تستثنى لدليل كالقسامة كما وقع
التصريح باستثنائها في حديث عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده
عند الدارقطني والبيهقي.
وهذا الحديث قد مضى في الرهن والشركة مختصرًا وقد أخرجه
بقية الجماعة.
4 - باب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ
نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} سَوَاءٌ: قَصْدٌ
هذا (باب) بالتنوين وسقط لغير أبي ذر ({قُل يا أهل
الكتاب}) هم نصارى نجران أو يهود المدينة أو الفريقان
لعموم اللفظ ({تعالوا}) أي هلموا ({إلى كلمة}) من إطلاقها
على الجمل المفيدة ثم وصفها بقوله تعالى: ({سواء بيننا
وبينكم}) أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها ثم فسرها
بقوله: ({أن لا نعبد إلا الله}) [آل عمران: 64] الآية
({سواء}) بالجر على الحكاية ولأبي ذر: سواء بالنصب أي
استوت استواء ويجوز الرفع قال أبو عبيدة أي (قصد) بالجر أو
قصد بالنصب كما لأبي ذر وبالرفع كما مر في سواء.
4553 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامٍ
عَنْ مَعْمَرٍ ح وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، حَدَّثَنِي
ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ
إِلَى فِيَّ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّاْمِ
إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى هِرَقْلَ قَالَ: وَكَانَ
دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى
عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى
هِرَقْلَ قَالَ: فَقَالَ هِرَقْلُ هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ
مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ
نَبِيٌّ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ
مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ فَأُجْلِسْنَا
بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ
هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا. فَأَجْلَسُونِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي ثُمَّ
دَعَا بِتُرْجُمَانِهِ فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي
سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ
أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ قَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ اللَّهِ لَوْلاَ أَنْ يُؤْثِرُوا
عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ ثُمَّ قَالَ
لِتُرْجُمَانِهِ: سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ:
قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ
آبَائِهِ مَلِكٌ؟ قَالَ: قُلْتُ. لاَ، قَالَ فَهَلْ
كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ
مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ
النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلْ
ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ قَالَ:
قُلْتُ لاَ، بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ
مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ
سَخْطَةً لَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ
قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ
كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ: قُلْتُ تَكُونُ
الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا يُصِيبُ مِنَّا
وَنُصِيبُ مِنْهُ، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ:
لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، لاَ نَدْرِي
مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا
أَمْكَنَنِي، مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا
غَيْرَ هَذِهِ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ
أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ، ثُمَّ قَالَ
لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ
حَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ،
وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا،
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ فَزَعَمْتَ،
أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ
قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ، وَسَأَلْتُكَ
عَنْ أَتْبَاعِهِ أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟
فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ،
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ؟
قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ،
فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى
النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ
وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ
بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ
أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ
الْقُلُوبِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ
يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ
الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ
قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ
فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا
يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ
الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ،
وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لاَ
يَغْدِرُ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ
هَلْ قَالَ أَحَدٌ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ
أَنْ لاَ، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ قَالَ: هَذَا الْقَوْلَ
أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ، قِيلَ
قَبْلَهُ قَالَ: ثُمَّ قَالَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ:
قُلْتُ يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ،
وَالصِّلَةِ، وَالْعَفَافِ. قَالَ: إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ
فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ
أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ، وَلَوْ
أَنِّي
أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ،
وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ
وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ، قَالَ:
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ
الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا
بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ
أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ
مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ
الأَرِيسِيِّينَ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ
نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} -إِلَى قَوْلِهِ- {اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ
الْكِتَابِ ارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ عِنْدَهُ وَكَثُرَ
اللَّغَطُ وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا قَالَ: فَقُلْتُ
لأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ
أَبِي كَبْشَةَ أَنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي
الأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ
سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ،
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَدَعَا هِرَقْلُ عُظَمَاءَ الرُّومِ
فَجَمَعَهُمْ فِي دَارٍ لَهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ
الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاَحِ وَالرَّشَدِ آخِرَ
الأَبَدِ وَأَنْ يَثْبُتَ لَكُمْ مُلْكُكُمْ قَالَ:
فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ
فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِقَتْ فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِمْ
فَدَعَا بِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا اخْتَبَرْتُ
شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمُ
الَّذِي أَحْبَبْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن موسى) أبو إسحاق
الفراء الرازي الصغير (عن هشام) هو ابن يوسف الصنعاني (عن
معمر) هو ابن راشد. قال المؤلّف: (وحدّثني) بالإفراد (عبد
الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (عبد
الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد المذكور
(عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه قال: (أخبرني)
بالإفراد (عبيد الله) بضم العين مصغرًا (ابن عبد الله بن
عتبة) بن مسعود (قال: حدّثني) بالإفراد (ابن عباس قال:
حدّثني) بالإفراد أيضًا (أبو سفيان) صخر بن حرب حال كونه
(من فيه إلى فيّ) عبر بفيه موضع أذنه إشارة إلى تمكنه من
الإصغاء إليه بحيث يجيبه إذا احتاج إلى الجواب (قال:
انطلقت فى المدة التي كانت بيني وبين
(7/55)
رسول الله) ولأبي ذر وبين النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مدة الصلح بالحديبية على وضع
الحرب عشر سنين (قال: فبينا) بغير ميم (أنا بالشام إذ جيء
بكتاب من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى
هرقل) الملقب قيصر عظيم الروم (قال) أبو سفيان: (وكان
دحية) بن خليفة (الكلبي جاء به) من عند النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر سنة ست (فدفعه) دحية
(إلى عظيم) أهل (بصرى) الحرث بن أبي شمر الغساني (فدفعه
عظيم بصرى إلى هرقل) فيه مجاز لأنه أرسل به إليه صحبة عدي
بن حاتم كما عند ابن السكن في الصحابة.
(قال) أبو سفيان: (فقال هرقل: هل هاهنا أحد من قوم هذا
الرجل الذي يزعم أنه نبي فقالوا: نعم. قال) أبو سفيان:
(فدعيت) بضم الدال مبنيًا للمفعول (في) أي مع (نفر) ما بين
الثلاثة إلى العشرة (من قريش فدخلنا على هرقل) الفاء فصيحة
أفصحت عن محذوف أي فجاءنا رسول هرقل فطلبنا فتوجهنا معه
حتى وصلنا إليه فاستأذن لنا فأذن لنا فدخلنا عليه (فأجلسنا
بين يديه) بضم الهمزة وسكون الجيم وكسر اللام وسكون السين
(فقال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
فقال أبو سفيان: فقلت: أنا) أي أقربهم نسبًا واختار هرقل
ذلك لأن الأقرب أحرى بالإطلاع على قريبه من غيره (فأجلسوني
بين يديه) أي يدي هرقل (وأجلسوا أصحابي) القرشيين (خلفي).
وعند الواقدي فقال لترجمانه قل لأصحابه إنما جعلتكم عند
كتفيه لتردوا عليه كذبًا إن قاله (ثم دعا بترجمانه) الذي
يفسر لغة بلغة (فقال) له: (قل لهم إني سائل) بالتنوين
(هذا) أي أبا سفيان (عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي) أشار
إليه إشارة القريب لقرب العهد بذكره (فإن كذبني) بتخفيف
المعجمة أي نقل إليّ الكذب (فكذبوه) بتشديدها مكسورة يتعدى
إلى مفعول واحد والمخفف إلى مفعولين تقول كذبني الحديث
وهذا من الغرائب.
(قال أبو سفيان: وأيم الله) بالهمزة وبغيره (لولا أن
يؤثروا) بضم التحتية وكسر المثلثة بصيغة الجمع (علي الكذب)
نصب على المفعولية ولأبي ذر: أن يؤثر بفتح المثلثة مع
الإفراد مبنيًّا للمفعول عليّ الكذب رفع مفعول ناب عن
الفاعل أي لولا أن يرووا ويحكوا عني الكذب وهو قبيح
(لكذبت) أي عليه (ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم)؟
وفي كتاب الوحي: كيف نسبه فيكم؟ والحسب ما بعده الإنسان من
مفاخر آبائه قاله الجوهري، والنسب: الذي يحصل به الإدلاء
من جهة الآباء (قال) أبو سفيان: (قلت هو فينا ذو حسب)
رفيع، وعند البزار من حديث دحية قال: كيف حسبه فيكم؟ قال:
هو في حسب ما لا يفضل عليه أحد. (قال: فهل) ولأبي ذر: هل
(كان من) وللمستملي في (آبائه ملك؟) بفتح الميم وكسر اللام
(قال) أبو سفيان: (قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب)
على الناس (قبل أن يقول ما قال؟) قال أبو سفيان (قلت: لا.
قال: أيتبعه) بتشديد المثناة الفوقية وهمزة الاستفهام
(أشراف الناس أم ضعفاؤهم. قال) أبو سفيان: (قلت: بل
ضعفاؤهم. قال) هرقل: (يزيدون أو ينقصون) بحذف همزة
الاستفهام وجوزه ابن مالك مطلقًا خلافًا لمن خصه بالشعر
(قال) أبو سفيان: (قلت: لا) ينقصون (بل يزيدون. قال) هرقل:
(هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟) بضم
السين وفتحها والنصب مفعولًا لأجله أو حالًا وقال العيني:
السخطة بالتاء إنما هي بفتح السين فقط أي هل يرتد أحد منهم
كراهة لدينه وعدم رضا (قال) أبو سفيان (قلت: لا. قال: فهل
قاتلتموه؟ قال) أبو سفيان (قلت: نعم) قاتلناه (قال) هرقل:
(فكيف كان قتالكم إياه؟) بفصل ثاني الضميرين (قال) أبو
سفيان (قلت: تكون) بالفوقية (الحرب بيننا وبينه سجالًا)
بكسر السين وفتح الجيم أي نوبًا أي نوبة له ونوبة لنا كما
قال (يصيب منا ونصيب منه) وقد كانت المقاتلة وقعت بينه
عليه الصلاة والسلام وبينهم في بدر فأصاب المسلمون منهم
وفي أحد فأصاب المشركون من المسلمين وفي الخندق فأصيب من
الطائفتين ناس قليل (قال) هرقل: (فهل يغدر؟) بكسر الدال أي
ينقض
(7/56)
العهد (قال) أبو سفيان: (قلت: لا) يغدر
(ونحن منه في هذه المدة) مدة صلح الحديبية أو غيبته
وانقطاع أخباره
عنا (لا ندري ما هو صانع فيها) لم يجزم بغدره (قال) أبو
سفيان: (والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا) أنتقصه
به (غير هذه) الكلمة (قال) هرقل: (فهل قال هذا القول أحد)
من قريش (قبله؟ قال) أبو سفيان (قلت: لا ثم قال) هرقل:
(لترجمانه: قل له) أي لأبي سفيان (إني سألتك) أي قل له
حاكيًا عن هرقل إني سألتك أو المراد إني سألتك على لسان
هرقل لأن الترجمان يعيد كلام هرقل ويعيد لهرقل كلام أبي
سفيان (عن) رتبة (حسبه فيكم فزعمت أنه فيكم ذو حسب) رفيع
(وكذلك الرسل تبعث في) أرفع (أحساب قومها، وسألتك هل كان
في آبائه ملك) بفتح الميم وكسر اللام وإسقاط من الجارة
(فزعمت أن لا، فقلت) أي في نفسي وأطلق على حديث النفس
قولاً (لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه)
بالجمع وفي كتاب الوحي ملك أبيه بالإفراد (وسألتك عن
أتباعه) بفتح الهمزة وسكون الفوقية (أضعفاؤهم أم أشرافهم؟
فقلت: بل ضعفاؤهم) اتبعوه (وهم أتباع الرسل) عليهم الصلاة
والسلام غالبًا بخلاف أهل الإستكبار المصرين على الشقاق
بغضًا وحسدًّا كأبي جهل (وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب
قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع
الكذب على الناس) قبل أن يظهر رسالته (ثم يذهب فيكذب على
الله) بعد إظهارها ويذهب ويكذب نصب عند أبي ذر عطفًا على
المنصوب السابق (وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه) الإسلام
(بعد أن يدخل فيه سخطة له) بفتح السين (فزعمت أن لا، وكذلك
الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب) التي يدخل فيها والقلوب
بالجر على الإضافة (وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم
يزيدون وكذلك الإيمان) لا يزال في زيادة (حتى يتم) بالأمور
المعتبرة فيه من الصلاة وغيرها (وسألتك هل قاتلتموه فزعمت
أنكم قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالًا ينال منكم
وتنالون منه) هو معنى قوله في الأول يصيب منا ونصيب منه
(وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة) وهذه الجملة من
قوله وسألتك هل قاتلتموه إلى هنا حذفها الراوي في كتاب
الوحي (وسألتك هل يغدر) بكسر الدال (فزعمت أنه لا يغدر
وكذلك الرسل لا تغدر) لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا
يبالي طالبه بالغدر. (وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله؟
فزعمت أن لا فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله قلت رجل
ائتم) وفي كتاب الوحي لقلت رجل يأتسي (بقول قيل قبله) ذكر
الأجوبة على ترتيب الأسئلة. وأجاب عن كل بما يقتضيه الحال
مما دل على ثبوت النبوّة مما رآه في كتبهم أو استقرأه من
العادة ولم يقع في بدء الوحي مرتبًا وأخر هنا بقية الأسئلة
وهو العاشر إلى بعد الأجوبة كما أشار إليه بقوله:
(قال) أي أبو سفيان: (ثم قال) أي هرقل: (بم) بغير ألف بعد
الميم (يأمركم؟ قال) أبو سفيان: (قلت: يأمرنا بالصلاة
والزكاة والصلة) للأرحام (والعفاف) بفتح العين المهملة أي
الكف عن المحارم وخوارم المروءة وزاد في الوحي الجواب عن
هذه (قال) أي هرقل: (إن يك ما) ولأبي ذر كما (تقول فيه
حقًّا فإنه نبي) وفي دلائل النبوة لأبي نعيم بسند ضعيف أن
هرقل أخرج لهم سفطًا من ذهب عليه قفل من ذهب فأخرج منه
حريرة مطوية فيها صور فعرضها عليهم إلى أن كان آخرها صورة
محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال: فقلنا
جميعًا هذه صورة محمد فذكر لهم أنها صور الأنبياء وأنه
خاتمهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وقد كنت أعلم
أنه خارج) أي أنه سيبعث في هذا الزمان (ولم أك) بحذف النون
ولأبي ذر ولم أكن (أظنه منكم) معشر قريش (ولو أني أعلم أني
أخلص) بضم اللام أي أصل (إليه لأحببت لقاءه) وفي بدء الوحي
لتجشمت بجيم وشين معجمة أي لتكلفت الوصول إليه (ولو كنت
عنده لغسلت عن قدميه) ما لعله يكون عليهما قاله مبالغة في
خدمته (وليبلغن ملكه ما تحت قدميّ) بالتثنية وزاد في بدء
الوحي هاتين أي أرض بيت المقدس
(7/57)
أو أرض ملكه. (قال) أبو سفيان: (ثم دعا)
هرقل (بكتاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقرأه) بنفسه أو الترجمان بأمره (فإذا فيه)
(بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى هرقل عظيم) طائفة (الروم
سلام على من اتبع الهدى) هو كقول موسى وهارون لفرعون
والسلام على من اتبع الهدى (أما بعد فإني أدعوك بدعاية
الإسلام) بكسر الدال المهملة أي بالكلمة الداعية إلى
الإسلام وهي شهادة التوحيد (أسلم) بكسر اللام (تسلم)
بفتحها (وأسلم) بكسرها توكيد (يؤتك الله أجرك مرتين) لكونه
مؤمنًا بنبيه ثم آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام أو أن
إسلامه سبب لإسلام أتباعه والجزم في أسلم على الأمر
والثالث تأكيد له والثاني جواب للأوّل ويؤتك بحذف حرف
العلة جواب آخر، ويحتمل أن يكون أسلم أوّلًا أي لا تعتقد
في المسيح ما يعتقده النصارى وأسلم ثانيًا أي دخل في دين
الإسلام ولذا قال: يؤتك الله أجرك مرتين (فإن توليت فإن
عليك) مع إثمك (إثم الأريسيين) بهمزة وتشديد التحتية بعد
السين أي الزراعين نبه بهم على جميع الرعايا وقيل:
الأريسيين ينسبون إلى عبد الله بن أريس رجل كان تعظمه
النصارى ابتدع في دينه أشياء مخالفة لدين عيسى عليه السلام
و ({يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن
لا نعبد إلا الله}) بدل من كلمة بدل كل من كل إلى قوله:
({اشهدوا بأنا مسلمون}) والخطاب في اشهدوا للمسلمين أي فإن
تولوا عن هذه الدعوة فأشهدوهم أنتم على استمراركم على
الإسلام الذي شرعه الله لكم.
فإن قلت: إن هذه القصة كانت بعد الحديبية وقبل الفتح كما
صرح به في الحديث، وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن صدر سورة آل
عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران.
وقال الزهري: هم أول من بذل الجزية ولا خلاف أن آية الجزية
نزلت بعد الفتح فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح
إلى هرقل في جملة الكتاب، وبين ما ذكره ابن إسحاق والزهري؟
أجيب: باحتمال نزول الآية مرة قبل الفتح، وأخرى بعده وبأن
قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية وما بذلوه كان مصالحة عن
المباهلة لا عن الجزية، ووافق نزول الجزية بعد ذلك على وفق
ذلك كما جاء وفق الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد
الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر، ثم نزلت فريضة القسم
على وفق ذلك، وباحتمال أن يكون -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أمر بكتابتها قبل نزولها ثم نزل القرآن موافقة
له كما نزل بموافقة عمر في الحجاب وفي الأسارى وعدم الصلاة
على المنافقين قاله ابن كثير.
(فلما فرغ) هرقل (من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده
وكثر اللغط) من عظماء الروم ولعله بسبب ما فهموه من ميل
هرقل إلى التصديق (وأمر بنا فأخرجنا) بضم الهمزة وكسر
الراء في
الثاني والميم في الأول (قال) أبو سفيان: (فقلت لأصحابي)
القرشيين (حين خرجنا) والله (لقد أمر) بفتح الهمزة مع
القصر وكسر الميم أي عظم (أمر ابن أبي كبشة) بسكون الميم
أي شأن ابن أبي كبشة بفتح الكاف وسكون الموحدة كنية أبي
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الرضاع
الحرث بن عبد العزى كما عند ابن ماكولا وقيل غير ذلك مما
سبق في بدء الوحي (إنه) بكسر الهمزة على الاستئناف (ليخافه
ملك بني الأصفر) وهم الروم قال أبو سفيان (فما زلت موقنًا
بأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه
سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام) فأظهرت ذلك اليقين.
(قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (فدعا هرقل) الفاء
فصيحة أي فسار هرقل إلى حمص فكتب إلى صاحبه ضغاطر الأسقف
برومية فجاء جوابه فدعا (عظماء الروم فجمعهم في دار له)
وفي بدء الوحي أنه جمعهم في دسكرة أي قصر حوله بيوت وأغلقه
ثم اطلع عليهم من مكان فيه عال خوفًا على نفسه أن ينكروا
مقالته فيبادروا إلى قتله ثم خاطبهم (فقال: يا معشر الروم
هل لكم) رغبة (في الفلاح والرشد) بفتح الراء والمعجمة
ولأبي ذر والرشد بضم الراء وسكون المعجمة (آخر الأبد)
(7/58)
أي الزمان (وأن يثبت لكم ملككم) لأنه علم
من الكتب أن لا أمة بعد هذه الأمة (قال: فحاصوا حيصة حمر
الوحش) بحاء وصاد مهملتين أي نفروا نفرتها (إلى الأبواب)
التي للبيوت الكائنة في الدار الجامعة ليخرجوا منها
(فوجدوها قد غلقت) بضم الغين وكسر اللام مشددة (فقال)
هرقل: (عليّ بهم) أي أحضروهم لي (فدعا بهم) فردهم (فقال)
لهم (إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم) بمقالتي هذه (فقد
رأيت منكم الذي أحببت فسجدوا له) حقيقة إذ كانت عادتهم ذلك
لملوكهم أو كناية عن تقبيلهم الأرض بين يديه لأن فاعل ذلك
يصير غالبًا كهيئة الساجد (ورضوا عنه) أي رجعوا عما كانوا
هموا به عند نفرتهم من الخروج عليه.
5 - باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ} -إِلَى- {بِهِ عَلِيمٌ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون}) أي لمن تدركوا كمال البر أو ثواب الله
أو الجنة أو لم تكونوا أبرارًا حتى يكون الإنفاق من محبوب
أموالكم أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس
والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيل الله ومن في مما
تحبون تبعيضية يدل عليه قراءة عبد الله بعض ما تحبون
ويحتمل أن يكون تفسير معنى لا قراءة (إلى {به عليم}) [آل
عمران: 92] ولأبي ذر الآية بدل قوله إلى {به عليم} وسقط
لغيره لفظ باب.
4554 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي
مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله
عنه- يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ
بِالْمَدِينَةِ نَخْلًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ
إِلَيْهِ بَيْرُحَاءٍ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ
الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ
فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ {لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ
أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ
أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَىَّ بَيْرُحَاءٍ، وَإِنَّهَا
صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ
اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ
اللَّهُ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ
رَايِحٌ» وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ: وَإِنِّي أَرَى أَنْ
تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ:
أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ
فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ يُوسُفَ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ: ذَلِكَ مَالٌ
رَابِحٌ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني)
بالتوحيد (مالك) الإمام عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي
طلحة) الأنصاري المدني أبي يحيى (أنه سمع أنس بن مالك)
الأنصاري (-رضي الله عنه- يقول: كان أبو طلحة) زيد بن سهل
زوج أم أنس بن مالك -رضي الله عنه- (أكثر أنصاري بالمدينة
نخلًا) تمييز (وكان أحب أمواله إليه بيرحا) بنصب أحب خبر
كان ورفع بيرحا اسمها وقد اختلف في ضبط هذه اللفظة، وسبق
في كتاب الزكاة ما يكفي ويشفي والذي لخصته فيها من كلامهم
كسر الموحدة وضم الراء اسم كان بفتحها خبرها مع الهمزة
الساكنة بعد الموحدة وإبدالها ياء ومدّ حاء مصروفًا وغير
مصروف لأن تأنيثه معنوي كهند ومقصور فهي اثنا عشر، وبفتح
الموحدة وسكون التحتية من غير همز وفتح الراء وضمها خبر
كان أو اسمها ومدّ حاء مصروفًا ومقصورًا فهي ستة: اثنان
منها مع القصر على أنه اسم مقصور لا تركيب فيه فيعرب كسائر
المقصور، وصوّب الصغاني والزمخشري والمجد الشيرازي منها
فتح الموحدة والراء على سائرها من الممدود والمقصور، بل
قال الباجي: إنها المصححة على أبي ذر وغيره (وكانت) أي
بيرحا (مستقبلة المسجد) النبوي (وكان رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدخلها ويشرب من ماء فيها
طيب) صفة المجرور (فلما أنزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون} قام أبو طلحة) -رضي الله عنه- (فقال: يا رسول
الله إن الله) تعالى (يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون} وإن أحب أموالي إليّ بيرحا) بالرفع خبر إن
(وإنها صدقة لله أرجو برّها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال
المعجمة أي أقدمها فأدّخرها لأجدها (عند الله فضعها يا
رسول الله حيث أراك الله. قال) ولأبي ذر فقال: (رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
(بخ) بفتح الموحدة وسكون المعجمة كهل وبل غير مكررة هنا
(ذلك مال رايح ذلك مال رايح) بالمثناة التحتية من الرواح
أي من شأنه الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى
وكررها اثنتين للمبالغة (وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن
تجعلهما في الأقربين قال أبو طلحة: أفعل) ما قلت (يا رسول
الله فقسمها) أي بيرحا (أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) من
عطف الخاص على العام ولأبي ذر وفي بني عمه.
(قال عبد الله بن يوسف) التنيسي مما وصله المؤلّف في الوقف
(وروح بن عبادة) بن العلاء القيسي أبو محمد البصري مما
وصله أحمد في روايتهما عن مالك (ذلك مال رابح) بالموحدة أي
يربح صاحبه في الآخرة.
0000 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ
عَلَى مَالِكٍ مَالٌ رَايِحٌ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (يحيى بن
يحيى) النيسابوري (قال: قرأت على مالك) الإمام (مال رايح)
بالمثناة التحتية بدل الموحدة اسم فاعل من الرواح نقيض
الغدوّ.
4555 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ
أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ
وَأُبِيٍّ وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِي
مِنْهَا شَيْئًا.
وبه قال: (حدّثنا محمد
(7/59)
بن عبد الله الأنصاري) قال: (حدّثني)
بالإفراد (أبي) هو عبد الله بن المثنى (عن ثمامة) بضم
المثلثة وتخفيف الميم ابن عبد الله بن أنس قاضي البصرة
(عن) جدّه (أنس) هو ابن مالك (-رضي الله عنه- قال: فجعلها)
أي بيرحا أبو طلحة (لحسان) بن ثابت (وأبيّ) هو ابن كعب
(وأنا أقرب إليه) منهما (ولم يجعل لي منها شيئًا). وهذا
طرف من حديث ساقه بتمامه من هذا الوجه في الوقف وسقط هنا
في رواية أبي ذر وثبت لغيره.
6 - باب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ})
[آل عمران: 93] لما قال عليه الصلاة والسلام: "أنا على ملة
إبراهيم" قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟
فقال عليه الصلاة والسلام: "كان حلالًا لإبراهيم فنحن
نحله" فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه كان محرمًا
على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى
تكذيبًا لهم وردًّا عليهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى
عليهم من البغي والظلم والصد عن سبيل الله وما عدد من
مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم الله عليهم
نوعًا من الطيبات عقوبة لهم في قوله تعالى: {فبظلم من
الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} إلى قوله:
{عذابًا أليمًا} [النساء: 160] وفي قوله تعالى: {وعلى
الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} إلى قوله: {ذلك جزيناهم
ببغيهم} [الأنعام: 147]. كل الطعام أي المطعومات كان حلاًّ
أي حلالًا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل وهو يعقوب عليه
السلام على نفسه من قبل أن تنزل التوراة وهو لحوم الإبل
وألبانها وكان ذلك سائغًا في شرعهم، قيل كان به عرق النسا
فندر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه،
وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء، واحتج به من جوّز
للنبي أن يجتهد وللمانع أن يقول ذلك بإذن من الله فهو
كتحريمه ابتداء، ثم أمر الله تعالى نبيه محمدًا -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يحاج اليهود بكتابهم فقال:
{قل} أي لليهود {فأتوا بالتوراة فاتلوها} أي فاقرؤوها
فإنها ناطقة بما قلناه إذ فيها أن يعقوب حرم ذلك على نفسه
قبل أن تنزل وأن تحريم ما حرم عليهم حادث بظلمهم فلم
يحضروها فثبت صدق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فيه وجواز النسخ الذي ينكرونه هذا ما يقتضيه
سياق هذه الآية التي أوردها البخاري في هذا الباب وعليه
المفسرون.
4556 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
-رضي الله عنهما-، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ
مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ:
«كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَى مِنْكُمْ» قَالُوا:
نُحَمِّمُهُمَا وَنَضْرِبُهُمَا فَقَالَ: «لاَ تَجِدُونَ
فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ» فَقَالُوا: لاَ نَجِدُ فِيهَا
شَيْئًا فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ:
كَذَبْتُمْ {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الَّذِي
يُدَرِّسُهَا مِنْهُمْ كَفَّهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ،
فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا
وَلاَ يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ
آيَةِ الرَّجْمِ فَقَالَ: "مَا هَذِهِ؟ " فَلَمَّا رَأَوْا
ذَلِكَ قَالُوا: هِيَ آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا
فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ قَالَ: فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَجْنَأُ
عَلَيْهَا يَقِيهَا الْحِجَارَةَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن المنذر) أبو إسحاق
الحزامي قال: (حدّثنا أبو ضمرة) بفتح الضاد المعجمة وسكون
الميم أنس بن عياض الليثي قال: (حدّثنا موسى بن عقبة)
الإمام في المغازي (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن
عمر -رضي الله عنهما-) سقط لأبي ذر لفظ عبد الله (أن
اليهود) يهود خيبر (جاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في ذي القعدة من السنة الرابعة (برجل
منهم) لم يسم (وامرأة) اسمها بسرة (قد زنيا) قال النووي:
وكانا من أهل العهد (فقال لهم) عليه الصلاة والسلام:
(كيف تفعلون) ولأبي ذر عن الكشميهني كيف تعملون (بمن زنى
منكم؟ قالوا: نحممهما) بضم النون وفتح الحاء المهملة وكسر
الميم الأولى مشددة من التحميم يعني نسوّد وجوههما بالحمم
وهو الفحم (ونضربهما فقال) عليه الصلاة والسلام لهم: (لا
تجدون في التوراة الرجم؟) على من زنى إذا أحصن (فقالوا: لا
نجد فيها شيئًا) وإنما سألهم عليه الصلاة والسلام ليلزمهم
بما يعتقدونه في كتابهم الموافق لحكم الإسلام إقامة للحجة
عليهم لا لتقليدهم ومعرفة الحكم منهم.
(فقال لهم عبد الله بن سلام) -رضي الله عنه- (كذبتم فأتوا
بالتوراة فاتلوها إن كتم صادقين) فإن ذلك موجود فيها لم
يغير، واستدلّ به ابن عبد البر على أن التوراة صحيحة
بأيديهم ولولا ذلك ما سألهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنها ولا دعا بها. وأجيب: بأن سؤاله
عنها يدل على صحة جميع ما فيها وإنما يدل على صحة المسؤول
عنه منها، وقد علم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ذلك بوحي أو إخبار من أسلم منهم فأراد بذلك تبكيتهم وإقامة
الحجة عليهم في مخالفتهم كتابهم وكذبهم عليه وإخبارهم بما
ليس فيه وإنكارهم ما هو فيه فأتوا بالتوراة فنشروها (فوضع)
عبد الله بن صوريا (مدراسها) بكسر الميم
(7/60)
مفعال من أبنية المبالغة أي صاحب دراسة
كتبهم وكان أعلم من بقي من الأحبار بالتوراة وزعم السهيلي
أنه أسلم، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: مدارسها بضم
الميم على وزن المفاعلة من المدارسة. قال في الفتح: والأول
أوجه وهو (الذي يدرسها منهم) بضم التحتية وفتح الدال
المهملة
وتشديد الراء مكسورة وفي نسخة يدرسها بفتح أوله وسكون
الدال وضم الراء مخففة (كفه على آية الرجم فطفق) بكسر
الفاء أي فجعل (يقرأ) من التوراة (ما دون يده) أي قبلها
(وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع) عبد الله بن سلام
(يده عن آية الرجم فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك) أي اليهود
(قالوا): ولأبي ذر عن الكشميهني فلما رأى ذلك أي المدراس
قال: (هي آية الرجم فأمر بهما) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فرجما) بحكم شرعه (قريبًا من حيث موضع
الجنائز) برفع موضع في الفرع كأصله وغيرهما لأن حيث لا
تضاف إلى ما بعدها إلا أن يكون جملة (عند المسجد).
وفي هذه القصة من حديث جابر عند أبي داود في سننه: أنه شهد
عنده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعة أنهم رأوا
ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة. قال النووي: فإن صح
هذا فإن كان الشهود مسلمين فظاهر، وإن كانوا كفارًا فلا
اعتبار بشهادتهم ويتعين أنهما أقرّا بالزنا، فلذا حكم عليه
الصلاة والسلام برجمهما.
(قال) أي ابن عمر (فرأيت صاحبها) أي صاحب المرأة الذي زنى
بها (يجنأ) بفتح أوله وسكون الجيم وبعد النون المفتوحة
همزة مضمومة أي أكب، ولأبي ذر عن الكشميهني يحني بفتح حرف
المضارعة وسكون الحاء المهملة وكسر النون بعدها تحتية أي
يميل وينعطف (عليها) حال كونه (يقيها الحجارة).
وفي هذا الحديث من الفوائد وجوب حدّ الزنا على الكافر، وبه
قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والجمهور خلافًا لمالك حيث
قال: لا حدّ عليه وأنه ليس من شرط الإحصان المقتضي للرجم
الإسلام وهو مذهب الشافعي وأحمد خلافًا لمالك وأبي حنيفة
حيث قالا: لا يرجم الذمي لأن من شرط الإحصان الإسلام وأن
أنكحة الكفار صحيحة وإلاّ لما ثبت إحصانهم وأنهم مخاطبون
بالفروع خلافًا للحنفية.
وهذا الحديث قد سبق مختصرًا في الجنائز ويأتي إن شاء الله
في الحدود.
7 - باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({كنتم خير أمة أُخرجت
للناس}) [آل عمران: 110]. قيل كان ناقصة على بابها فتصلح
للانقطاع نحو: كان زيد قائمًا، وللدوام نحو: {وكان الله
غفورًا رحيمًا} فهي بمنزلة لم يزل وهذا بحسب القرائن
فقوله: {كنتم خير أمة} لا يدل على أنهم لم يكونوا خيرًا
فصاروا خيرًا أو انقطع ذلك عنهم، وقال في الكشاف: كان
عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإِبهام وليس
فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ ومنه قوله
تعالى: {وكان الله غفورًا رحيمًا} و {كنتم خير أمة} كأنه
قيل وجدتم خير أمة. قال أبو حبان: قوله لم يدل على عدم
سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار فإذا كانت بمعنى صار دلت
على عدم سابق.
فإذا قلت: كان زيد عالمًا بمعنى صار زيد عالمًا دلت على
أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم؛ وقوله ولا على
انقطاع طارئ قد سبق أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ
المضي منها على الانقطاع، ثم قد يستعمل حيث لا انقطاع،
وفرق بين الدلالة والاستعمال ألا ترى أنك تقول هذا اللفظ
يدل على العموم ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم بل يزاد
الخصوص، وقوله: كأنه قيل وجدتم خير أمة بدل على أنها
التامة وأن خبر أمة حال، وقوله: وكان الله غفورًا رحيمًا،
لا شك أنها الناقصة فتعارضا.
وأجاب أبو العباس الحلبي: بأنه لا تعارض لأن هذا تفسير
معنى لا تفسير إعراب، وقيل إن كان هنا تامة بمعنى وجدتم
وحينئذ فخير أمة نصب على الحال، وقيل زائدة أي أنتم خير
أمة، والخطاب للصحابة وهذا مرجوح أو غلط لأنها لا تزاد
أولًا، وقد نقل ابن مالك الاتفاق عليه، وقيل الخطاب لجميع
الأمة أي كنتم في علم الله، وقيل في اللوح المحفوظ.
وعن ابن عباس فيما رواه أحمد في مسنده
(7/61)
والنسائي في سننه والحاكم في مستدركه قال:
هم الذين هاجروا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إلى المدينة، والصحيح كما قاله ابن كثير العموم
في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين بعث فيهم
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم الذين يلونهم ثم
الذين يلونهم، وفي سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم وحسنه
الترمذي عن معاوية بن حيدة مرفوعًا: أنتم توفون سبعين أمة
أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل.
4557 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ
عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: خَيْرَ
النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلاَسِلِ،
فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الإِسْلاَمِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) البيكندي (عن سفيان)
الثوري (عن ميسرة) ضد الميمنة ابن عمار الأشجعي (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه-) في قوله تعالى: ({كنتم خير أمة
أُخرجت للناس} قال: خير الناس للناس) أي خير بعض الناس
لبعضهم أي أنفعهم لهم، وإنما كان كذلك لأنكم (تأتون بهم في
السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام) فهم سبب في
إسلامهم وقول الزركشي وغيره قيل ليس هذا التفسير بصحيح ولا
معنى لإدخاله في المسند لأنه لم يرفعه ليس بصحيح بل إساءة
أدب لا ينبغي ارتكاب مثلها، وقد تقدم من وجه آخر في أواخر
الجهاد مرفوعًا بلفظ: عجب الله من قوم يدخلون الجنة في
السلاسل يعني الأسارى الذين يقدم بهم أهل الإسلام في
الوثاق والأغلال والقيود ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح سرائرهم
وأعمالهم فيكونون من أهل الجنة.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في التفسير.
8 - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ
تَفْشَلاَ}
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط كلفظ باب قبله لغير أبي ذر في
قوله تعالى: ({إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا}) [آل عمران:
22] عامل الظرف اذكر أو هو بدل من إذ غدوت فالعامل فيه
العامل في المبدل منه أو الناصب له عليم، والهم: العزم أو
هو دونه وذلك أن أول ما يمر بقلب الإنسان يسمى خاطرًا فإذا
قوي سمي حديث نفس فإذا قوي سمي همًّا فإذا قوي سمي عزمًا
ثم بعده، إما قول أو فعل.
4558 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- يَقُولُ:
فِينَا نَزَلَتْ: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ
أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} قَالَ: نَحْنُ
الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سَلِمَةَ، وَمَا
نُحِبُّ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: وَمَا يَسُرُّنِي
أَنَّهَا لَمْ تُنْزَلْ لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَاللَّهُ
وَلِيُّهُمَا}.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال: قال عمرو) هو ابن دينار (سمعت جابر
بن عبد الله -رضي الله عنهما- يقول: فينا نزلت: {إذ همت
طائفتان منكم أن تفشلا} أي تجبنا وتتخلفا عن الرسول
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتذهبا مع عبد الله
بن أبي وكان ذلك في غزوة أُحُد ({والله وليهما}) أي
عاصمهما عن اتباع تلك الخطوة التي ليست عزيمة بل حديث نفس
وكيف تكون عزيمة والله تعالى يقول: {والله وليهما} والله
تعالى لا يكون ولي من عزم على خذلان رسوله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومتابعة عدوّه عبد الله بن أبيّ،
ويجوز أن تكون عزيمة كما قال ابن عباس ويكون قوله: {والله
وليهما} جملة حالية مقررة للتوبيخ والاستبعاد أي لم وجد
منهما الفشل والجبن وتلك العزيمة والحال أن الله سبحانه
وتعالى بجلاله وعظمته هو الناصر لهما فما لهما يفشلان.
(قال): أي جابر (نحن الطائفتان بنو حارثة) وهم من الأوس
(وبنو سلمة) بكسر اللام وهم من الخزرج (وما نحب. وقال
سفيان) بن عيينة في روايته: (مرة وما يسرني) بدل وما نحب
(أنها) أي الآية (لم تنزل لقول الله) تعالى ({والله
وليهما}) ومفهومه أن نزولها سره لما حصل لهم من الشرف
وتثبيت الولاية ودلّ ذلك على أنه سرتهم تلك الهمة العارية
عن العزم، نعم كلام ابن عباس السابق مبني على التوبيخ
وينصره قوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} فإنه يأبى إلا
أن يكون تعريضًا وتغليطًا في هذا المقام وكذا قوله تعالى:
{فاتقوا الله لعلكم تشكرون} [آل عمران: 123] مشتمل على
تشديد عظيم يعني: فاتقوا الله في الثبات معه ولا تضعفوا
فإن نعمته وهي نعمة الإسلام لا يقابل شكرها إلا ببذل المهج
وبفداء الأنفس فاثبتوا معه لعلكم تدركون شكر هذه النعمة،
وكل هذه التشديدات لا ترد على حديث النفس، وأما قول جابر
نحن بنو سلمة وبنو حارثة وامتيازه إياهما عن الغير فلا
يستقيم إلا على العزيمة وقوله: وما يسرني أنها لم تنزل
إنما
يحسن إذا حملته على العزيمة ليفيد المبالغة فهو على أسلوب
قوله تعالى: {عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم} [التوبة: 43]
قاله في فتوح الغيب.
(7/62)
وهذا الحديث سبق في المغازي.
9 - باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ليس لك من الأمر
شيء}) [آل عمران: 128].
4559 - حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ،
قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ
الآخِرَةِ مِنَ الْفَجْرِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ
فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا» بَعْدَ مَا يَقُولُ:
«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ
الْحَمْدُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ
شَيْءٌ} إِلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}. رَوَاهُ
إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وبه قال: (حدّثنا حبان بن موسى) بكسر الحاء المهملة وتشديد
الموحدة السلمي المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك
المروزي قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد
بن مسلم بن شهاب أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (سالم عن
أبيه) عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (أنه سمع رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا رفع رأسه من
الركوع في الركعة الآخرة من الفجر) من صلاة الصبح أي بعد
أن كسرت رباعيته يوم أُحُد (يقول):
(اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا) هم صفوان بن أمية،
وسهيل بن عمير، والحرث بن هشام كما في حديث مرسل أورده
المؤلّف في غزوة أُحُد ووصله أحمد والترمذي وزاد في آخره:
فتيب عليهم كلهم وسمى الترمذي في روايته أبا سفيان بن حرب،
وفي كتاب ابن أبي شيبة منهم العاصي بن هشام. قال في
المقدمة: وهو وهم فإن العاصي قتل قبل ذلك ببدر قال: ونقل
السهيلي عن رواية الترمذي فيهم عمرو بن العاص فوهم في نقله
(بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) بإثبات
الواو (فأنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء} إلى قوله:
{فإنهم ظالمون}) قال في فتوح الغيب: وقوله أي بعد {والله
غفور رحيم} تتميم مناد على أن جانب الرحمة راجح على جانب
العذاب وفي قوله: {فإنهم ظالمون} تتميم لأمر التعذيب
وإدماج لرجحان المغفرة يعني سبب التعذيب كونهم ظالمين إلا
فالرحمة مقتضية للغفران. وقال صاحب الأنوار قوله: {يغفر
لمن يشاء ويعذب من يشاء} [المائدة: 18] صريح في نفي وجوب
التعذيب والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافي له {والله غفور
رحيم} لعباده فلا تبادر إلى الدعاء عليهم.
(رواه) أي الحديث المذكور بالإسناد السابق (إسحاق بن راشد)
الحراني (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب وهذا وصله
الطبراني في معجمه الكبير.
4560 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ
يَدْعُوَ لأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَرُبَّمَا
قَالَ إِذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ
اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ اللَّهُمَّ، أَنْجِ
الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ،
وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ
وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي
يُوسُفَ» يَجْهَرُ بِذَلِكَ وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ
صَلاَتِهِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ
فُلاَنًا وَفُلاَنًا» لأَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ حَتَّى
أَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل
عمران: 128] الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري البصري قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن سعد
بن عبد الرحمن بن عوف قال: (حدّثنا ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري (عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن) بن
عوف كلاهما (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أراد أن يدعو
على أحد أو يدعو لأحد) أي في الصلاة (قنت بعد الركوع فربما
قال: إذا قال سمع الله لمن حمده):
(اللهم ربنا لك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد) أخا
خالد بن الوليد أسلم وتوفي في حياته عليه السلام وهمزة أنج
قطع (وسلمة بن هشام) هو ابن عم الذي قبله وأخو أبي جهل
وكان من السابقين إلى الإسلام (وعياش بن أبي ربيعة) ابن عم
الذي قبله وهو من السابقين أيضًا. وفي الزيادات من حديث
الحافظ أبي بكر بن زياد النيسابوري عن جابر رفع -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأسه من الركعة الأخيرة من
صلاة الصبح صبيحة خمس عشرة من رمضان فقال: "اللهم انج"
الحديث وفيه فدعا بذلك خمسة عشر يومًا حتى إذا كان صبيحة
يوم الفطر ترك الدعاء.
(اللهم اشدد وطأتك) بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وهمزة
مفتوحة أي بأسك (على مضر واجعلها سنين كسني يوسف) بنون
واحدة على المشهور حال كونه (يجهر بذلك وكان) عليه الصلاة
والسلام (يقول: في بعض صلاته في صلاة الفجر) فيه إشارة إلى
أنه كان لا يداوم على ذلك (اللهم العن فلانًا وفلانًا
لأحياء) قبائل (من العرب) وسماهم في رواية يونس عن الزهري
عند مسلم رعلًا وذكوان وعصية (حتى أنزل الله: {ليس لك من
الأمر شيء} الآية) بالنصب أي اقرأ الآية.
واستشكل بأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أُحُد ونزول {ليس لك
من الأمر شيء} في قصة أُحُد فكيف يتأخر السبب عن النزول؟
وأجاب في الفتح: بأن قوله حتى أنزل الله منقطع من رواية
الزهري عمن بلغه كما بين ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة
فقال هنا قال يعني الزهري، ثم قال بلغنا أنه ترك ذلك لما
نزلت قال وهذا البلاغ
(7/63)
لا يصح وقصة رعل وذكوان أجنبية عن قصة
أُحُد فيحتمل أن قصتهم كانت عقب ذلك وتأخر نزور الآية عن
سببها قليلًا، ثم نزلت في جميع ذلك.
وقد ورد في سبب نزول الآية شيء آخر غير مناف لما سبق في
قصة أُحُد فعند مسلم من حديث أن أنس النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كسرت رباعيته يوم أُحُد وشجّ وجهه حتى
سال الدم على وجهه فقال: "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم"
وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء}
[آل عمران: 128] وأورده المؤلّف في المغازي معلمًا بنحوه
وطريق الجمع بينه وبين حديث ابن عمر المسوق أول هذا الباب
أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا على
المذكورين بعد ذلك في صلاته فأنزل الله الآية في الأمرين
جميعًا فيما وقع له من كسر الرباعية وشج الوجه وفيما نشأ
عن ذلك من الدعاء عليهم وذلك كله في أُحُد فعاتبه الله
تعالى على تعجيله في القول برفع الفلاح عنهم حيث قال: كيف
يفلح قوم أي لن يفلحوا أبدًا فقال الله له: {ليس لك من
الأمر شيء} أي كيف تستبعد الفلاح وبيد الله أزمة الأمور
التي في السماوات والأرض {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}
[المائدة: 18] وليس لك من الأمر إلا التفويض والرضا بما
قضى، وسقط لأبي ذر قوله الآية. والحديث رواه النسائي.
10 - باب قَوْلِهِ {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ} وَهْوَ تَأْنِيثُ آخِرِكُمْ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: {إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} فَتْحًا أَوْ
شَهَادَةً
(باب قوله) تعالي: ({والرسول يدعوكم}) مبتدأ وخبر في موضع
نصب على الحال ودعوة الرسول إلى عباد الله إلي عباد الله
يدعوهم إلى ترك الفرار من العدوّ وإلى الرجعة والكرة ({في
أخراكم}) قال البخاري تبعًا لأبي عبيدة: (وهو) أي أخراكم
(تأنيث آخركم) بكسر الخاء المعجمة.
قال في الفتح والعمدة والتنقيح: فيه نظر لأن أخرى تأنيث
آخر بفتح الخاء لا كسرها وزاد في التنقيح أفعل تفضيل كفضلى
وأفضل، وتعقبه في المصابيح فقال نظر البخاري أدق من هذا
وذلك أنه لو جعل أخرى هنا تأنيثًا لآخر بفتح الخاء لم يكن
فيه دلالة على التأخر الوجودي، وذلك لأنه أميتت دلالته على
هذا المعنى بحسب العرف وصار إنما يدل على الوجهين
بالمغايرة فقط تقول: مررت برجل حسن ورجل آخر أي مغاير
للأول وليس المراد تأخره في الوجود عن السابق وكذا مررت
بامرأة جميلة وامرأة أخرى والمراد في الآية الدلالة على
التأخر فلذلك قال تأنيث آخركم كسر الخاء لتصير أخرى دالة
على التأخر كما في قالت أولاهم لأخراهم أي المتقدمة
للمتأخرة واستعماله في هذا المعنى موجود في كلامهم بل هو
الأصل اهـ.
(وقال ابن عباس): مما وصله ابن أبي حاتم في قوله تعالى:
({إحدى الحسنيين}) [التوبة: 52] أي (فتحًا أو شهادة) ومحل
ذكر هذا في سورة براءة على ما لا يخفى واحتمال وقوع إحدى
الحسنيين وهي الشهادة وقعت في أُحُد استبعده في العمدة.
4561 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ
الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: جَعَلَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى
الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
جُبَيْرٍ، وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ {إِذْ
يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ} وَلَمْ يَبْقَ
مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا.
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين وجدّه فرّوخ
الحراني الجزري سكن مصر قال: (حدّثنا زهير) هو ابن معاوية
قال: (حدّثنا أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (قال:
سمعت البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: جعل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أميرًا (على
الرجالة) بتشديد الجيم خلاف الفارس وكانوا خمسين رجلًا
رماة (يوم أُحُد عبد الله بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة
الأنصاري (وأقبلوا) بالواو وفي اليونينية فأقبلوا أي
المسلمون حال كونهم (منهزمين) أي بعضهم، وذلك أنهم صاروا
ثلاث فرق.
فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة فلم يرجعوا حتى
مضى القتال وهم قليل ونزل فيهم: {إن الذين تولوا منكم يوم
التقى الجمعان} [آل عمران: 155].
وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قتل فصارت غاية الواحد منهم أن يذبّ
عن نفسه أو يستمر على بصيرته في القتال إلى أن يقتل وهم
أكثر الصحابة.
وفرقة ثبتت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ثم تراجع القسم الثاني شيئًا فشيئًا لما عرفوا أنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حي (فذاك إذ يدعوهم الرسول في
أخراهم) أي في ساقتهم وجماعتهم الأخرى (ولم يبق مع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من أصحابه (غير اثني
عشر
(7/64)
رجلًا) بسكون الياء، فمن المهاجرين أبو بكر
وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير وأبو
عبيدة وعبد الرحمن بن عوف، ومن الأنصار أسيد بن حضير
والحباب بن المنذر والحرث بن الصمة وسعد بن معاذ وأبو
دجانة وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وسهل بن حنيف ذكره
الواقدي والبلاذري فهم ستة عشر رجلًا.
11 - باب قَوْلِهِ: {أَمَنَةً نُعَاسًا}
(باب) بالتنوين (قوله) تعالى، وسقط لفظ قوله للكشميهني
والحموي ({أمنة نعاسًا}) [آل عمران: 154] أي أنزل الله
عليكم بسبب ما أصابكم من الغم الأمن حتى أخذ بكم النعاس.
4562 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ
قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ:
غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ
أُحُدٍ قَالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي
وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثن بالإفراد (إسحاق بن
إبراهيم بن عبد الرحمن أبو يعقوب) البغدادي الملقب بلؤلؤ
ابن عم أحمد بن منيع قال: (حدّثنا حسين بن محمد) بضم الحاء
ْوفتح السين المروذي المعلم نزل بغداد قال: (حدّثنا شيبان)
بن عبد الرحمن التميمي النحوي (عن قتادة) بن دعامة أنه
(قال: حدّثنا أنس) هو ابن مالك -رضي الله عنه- (أن أبا
طلحة) بن سهل الأنصاري (قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا)
بفتح الميم وتشديد الفاء جمع مصف أي في موقفنا (يوم أُحُد)
أمنة لأهل اليقين فينا فينامون من غير خوف جازمين بأن الله
سينصر رسوله
وينجز له مأموله. وعند ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود
أنه قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان
(قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه) زاد
البيهقي من طريق يونس بن محمد عن شيبان قال: والطائفة
الأخرى المنافقون ليس لهم همّ إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبه
وأخذله للحق يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية كذبة إنما
هم أهل شك وريب في الله عز وجل رواه بهذه الزيادة قال ابن
كثير: وكأنها من كلام قتادة وإنما لم يغش الطائفة الأخرى
لأنهم مستغرقون في هم أنفسهم فلا تنزل عليهم السكينة لأنها
وارد روحاني لا يتلوّث بهم.
12 - باب قَوْلِهِ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ
عَظِيمٌ} الْقَرْحُ: الْجِرَاحُ. اسْتَجَابُوا: أَجَابُوا
يَسْتَجِيبُ: يُجِيبُُ
(باب قوله) تعالى: ({الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما
أصابهم القرح}) يوم أُحُد ولموصول مجرور صفة للمؤمنين في
قوله تعالى: و ({إن الله لا يضيع أجر المؤمنين}) أو منصوب
بأعني أو مبتدأ خبره ({للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر
عظيم}) [آل عمران: 172] من في قوله منهم للتبيين مثل: {وعد
الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة} [الفتح: 29]
لأنه لو حمل على التبعيض لزم أن لا يكون كلهم محسنين. قال
في فتوح الغيب: فالكلام فيه تجريد جرد من الذين استجابوا
لله والرسول المحسن المتقي، وسبب نزول هذه الآية أن
المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين
إلى بلادهم، فلما بلغوا الروحاء ندموا لم لا تمموا على أهل
المدينة وجعلوها الفيصلة وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فندب أصحابه إلى
الخروج في طلبهم ليرعبهم ويريهم أن فيهم قوة وجلدًا، وقال:
لا يخرجن معنا إلا من حضر الوقعة يوم أُحُد سوى جابر بن
عبد الله فإنه أذن له فخرج -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي على ثمانية
أميال من المدينة وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم
حتى لا يفوتهم الأجر وألقى الله الرعب في قلوب المشركين
فذهبوا فنزلت. وقال البخاري كأبي عبيدة: (القرح) بفتح
القاف أي (الجراح) جمع جراحة بالكسر فيهما.
(استجابوا) أي (أجابوا) تقول العرب: استجيبك أي أجبتك و
(يستجيب) أي (يجيب) وهذا وإن كان في سورة الشورى فأورده
هنا استشهادًا لسابقه، ولم يذكر المؤلّف هنا حديثًا ولعله
بيّض له، واللائق بالسياق هنا حديث عائشة عند المؤلّف في
المغازي الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم
القرح إلى آخر الآية. قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك
منهم الزبير وأبو بكر -رضي الله عنهما-، فلما أصاب نبي
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أصاب يوم
أُحُد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يرجع في
أثرهم فانتدب منهم سبعون رجلًا فيهم أبو بكر والزبير -رضي
الله عنهما-.
وأما حديث ابن مردويه عن عائشة قالت: قال لي رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن كان أبواك من
الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أبو
(7/65)
بكر والزبير -رضي الله عنهما- فرفعه خطأ
محض لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة كما سبق،
ولأن الزبير ليس هو من آباء عائشة، وإنما قالت لعروة بن
الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر.
13 - باب {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} الآيَةَ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({إن الناس قد جمعوا
لكم}) [آل عمران: 173] (الآية). بالنصب بتقدير فعل وسقط
لفظ الآية لأبي ذر، وزاد: {فاخشوهم} وزاد أيضًا كما في
الفتح: {الذين قال لهم الناس}.
4563 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أُرَاهُ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي
الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ
السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا
مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ
قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. [الحديث
4563 - طرفه في: 4564].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) نسبه لجده واسم أبيه عبد
الله التميمي اليربوعي الكوفي قال البخاري: (أراه) بضم
الهمزة أي أظنه (قال: حدّثنا أبو بكر) هو شعبة بن عياش
بالشين المعجمة القاري. فكأن البخاري شك في شيخ شيخه، وقد
رواه الحاكم في مستدركه من طريق أحمد بن يونس عن أبي بكر
بن عياش بالجزم من غير تردد (عن أبي حصين) بفتح الحاء وكسر
الصاد المهملتين عثمان بن عاصم (عن أبي الضحى) مسلم بن
صبيح مصغرًا (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه قال: في
قوله تعالى: ({حسبنا الله ونعم الوكيل} قالها إبراهيم)
الخليل (عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قالوا) له عليه
الصلاة والسلام {إن الناس} أبا سفيان وأصحابه وقال الحافظ
أبو ذر كما في هامش اليونينية هو عروة بن مسعود الثقفي {قد
جمعوا لكم} يقصدون غزوكم. وكان أبو سفيان نادى عند انصرافه
من أُحُد يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت فقال عليه
الصلاة والسلام: إن شاء الله فلما كان القابل خرج في أهل
مكة حتى نزل مرّ الظهران فأنزل الله الرعب في قلبه، وبدا
له أن يرجع فمرّ به ركب من عبد قيس ويريدون المدينة للميرة
فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوا المسلمين وقيل لقي
نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرًا فسأله عن ذلك والتزم له
عشرًا من الإِبل فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال
لهم: إن أتوكم في دياركم فلم يفلت أحد منكم إلا شريد
أفترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم {فاخشوهم} ولا تخرجوا
إليهم {فزادهم} أي المقول {إيمانًا} فلم يلتفتوا إليه ولم
يضعفوا بل ثبت به يقينهم بالله وأخلصوا النية في الجهاد
وفي ذلك دليل على أن الإيمان يزيد وينقص {وقالوا حسبنا
الله} عطف على فزادهم والجملة بعد هذا القول نصب به وحسب
بمعنى
اسم الفاعل أي محسبنا بمعنى كافينا {ونعم الوكيل} ونعم
الموكول إليه والمخصوص بالمدح محذوف أي الله.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في التفسير.
4564 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ آخِرَ قَوْلِ
إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ {حَسْبِيَ
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) أبو غسان النهدي الكوفي
قال: (حدّثنا إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي
الهمداني الكوفي (عن أبي حصين) بفتح الحاء وكسر الصاد
المهملتين عثمان بن عاصم (عن أبي الضحى) مسلم بن صبيح بضم
الصاد وفتح الموحدة (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه
(قال: كان آخر قول إبراهيم) الخليل (حين ألقي في النار
{حسبي الله ونعم الوكيل}) فلما أخلص قلبه لله قال الله
تعالى: {يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم}
[الأنبياء: 62] وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه
مرفوعًا: إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: {حسبنا الله
ونعم الوكيل}.
14 - باب {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ
هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
{سَيُطَوَّقُونَ} كَقَوْلِكَ طَوَّقْتُهُ بِطَوْقٍ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ}) قرئ يحسبن بالياء والتاء
وعلى التقديرين المضاف محذوف أي بخل الذين إذا كان الحسبان
للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو لكل أحد
تقديره بخل الذين يبخلون وإذا كان الفاعل الذين فالتقدير
بخلهم هو خيرًا لهم ({بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به})
بيان الشرية أي سيصير عذاب بخلهم لازمًا كالطوق في أعناقهم
({يوم القيامة}) روي أن حيّة تنهشه من فرقه إلى قدمه وتبقر
رأسه ({ولله ميراث السماوات والأرض}) ما فيهما مما يتوارث
ملك له تعالى فما لهؤلاء لا يبخلون بملكه ولا ينفقونه في
سبيله والتعبير بالميراث خطاب بما نعلم ({والله بما تعملون
خبير}) [آل عمران: 180] وسقط لغير أبي ذر من قوله: {هو
خيرًا لهم} إلى آخره وقال الآية بالنصب.
وقال العوفي عن ابن عباس فيما رواه ابن جرير: نزلت في أهل
(7/66)
الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب
المنزلة أن يبينوها، وقيل في اليهود الذين سئلوا أن يخبروا
بصفة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندهم
فبخلوا بذلك وكتموه فيكون البخل بكتمان العلم، والطوق أن
يجعل في رقابهم أطواق النار وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا:
"من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم
القيامة" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وحسنه الترمذي
وصححه الحاكم.
({سيطوقون}) قال البخاري كأبي عبيدة هو (كقولك طوّقته
بطوق) وعند عبد الرزاق وسعيد بن منصور من طريق إبرهيم
النخعي بإسناد جيد قال بطوق من النار.
4565 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ
أَبَا النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ
ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ
مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ
زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْخُذُ
بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- يَقُولُ أَنَا
مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ» ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ:
«{وَلاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180])» إلى آخِرِ
الآيَةِ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن منير) بضم الميم
وبعد النون المكسورة تحتية ساكنة فراء المروزي أنه (سمع
أبا النضر) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة هاشم بن القاسم
الملقب بقيصر التميمي يقول: (حدّثنا عبد الرحمن هو ابن عبد
الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح) ذكوان السمان (عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من آتاه الله) بمدّ الهمزة أي أعطاه الله (مالًا فلم يؤدّ
زكاته مثل له) بضم الميم مبنيًّا للمفعول أي صوّر له
(ماله) الذي لم يؤدّ زكاته (شجاعًا) قال في المصابيح نصب
على الحال أي حية (أقرع) لا شعر على رأسه لكثرة سمّه وطول
عمره (له زبيبتان) بزاي فموحدتين بينهما تحتية ساكنة
نقطتان سوداوان فوق عينيه وهو أخبث ما يكون منها (يطوّقه)
بفتح الواو المشدّدة أي يجعل طوقًا في عنقه (يوم القيامة
يأخذ بلهزمته)، بكسر اللام والزاي بينهما هاء ساكنة ولأبي
ذر والأصيلي بلهزمتيه بالتثنية (يعني بشدقيه) بكسر المعجمة
أي فمه (يقول) أي الشجاع له (أنا مالك أنا كنزك) يقول له
ذلك تهكمًا ويزيده حسرة (ثم تلا) أي قرأ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (هذه الآية: {ولا تحسبن الذين يبخلون
بما آتاهم الله من فضله} إلى آخر الآية) سقط لأبي ذر لفظ
إلى آخر وقال: الآية.
وهذا الحديث سبق في باب إثم مانع الزكاة في كتابه.
15 - باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَذًى كَثِيرًا}
هذا (باب) بالتنوين في قوله: ({ولتسمعن من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم}) يعني اليهود ({ومن الذين أشركوا أذى
كثيرًا}) [آل عمران: 186] باللسان والفعل من هجاء الرسول
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والطعن في الدين
وإغراء الكفرة على المسلمين أخبره تعالى بذلك عند مقدمة
المدينة قبل وقعة بدر مسليًا له عما يناله من الأذى.
4566 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ -رضي الله
عنهما- أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ
فَدَكِيَّةٍ
وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ
سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، قَالَ: حَتَّى مَرَّ
بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ
سَلُولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ
وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ
عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: لاَ
تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ
فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ
الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ
سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا
تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِينَا بِهِ فِي
مَجْلِسِنَا ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ
فَاقْصُصْ عَلَيْهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ
فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ
الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ، حَتَّى
كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى
سَكَنُوا ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ
عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا سَعْدُ أَلَمْ
تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ -يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ أُبَيٍّ- قَالَ: كَذَا وَكَذَا» قَالَ: سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ
عَنْهُ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ
جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
لَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ
يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُونَهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا
أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ
اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ ما رَأَيْتَ
فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ،
وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}
[آل عمران: 186] الآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}
[البقرة: 109] إِلَى آخِرِ الآيَةِ وَكَانَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَأَوَّلُ
الْعَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ
اللَّهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ
بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ
ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ
فَبَايَعُوا الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه قال: (أخبرني) بالإفراد ولأبي ذر: أخبرنا (عروة بن
الزبير) بن العوّام (أن أسامة بن زيد) اسم جده حارثة
الكلبي (-رضي الله عنهما- أخبره أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ركب على حمار على قطيفة) بفتح
القاف وكسر الطاء المهملة كساء غليظ (فدكية) بفاء فدال
مهملة مفتوحتين صفتها منسوبة إلى فدك بلد مشهور على
مرحلتين من المدينة (وأردف) بالواو في اليونينية وفي الفرع
فأردف (أسامة بن زيد وراءه) حال كونه (يعود سعد بن عبادة)
بضم العين وتخفيف الموحدة الأنصاري أحد النقباء (في) منازل
(بني الحرث بن الخزرج) وهم قوم سعد (قبل وقعة بدر) ولأبي
ذر عن الكشميهني وقيعة بكسر القاف بعدها تحتية ساكنة (قال:
حتى مر
بمجلس فيه عبد الله أُبَيٍّ) بالتنوين (ابن سلول) بألف
ورفع ابن صفة لعبد الله لا صفة لأُبي لأن سلول أم عبد الله
غير منصرف (وذلك قبل أن يسلم) أي يظهر الإسلام (عبد الله
بن أبيّ) ولم يسلم قط (فإذا في المجلس أخلاط) بفتح الهمزة
وسكون الخاء المعجمة أنواع (من المسلمين والمشركين عبدة
الأوثان) بالجر بدلًا من سابقه (واليهود والمسلمين) بذكر
المسلمين أولًا وآخرًا وسقطت الأخيرة من رواية مسلم (وفي
المجلس عبد الله بن رواحة) بفتح الراء والواو المخففة
والحاء المهملة ابن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجي الأنصاري
الشاعر أحد السابقين شهد بدرًا استشهد بمؤتة وكان ثالث
الأمراء بها في جمادى الأولى سنة ثمان (فلما غشيت المجلس
عجاجة
(7/67)
الدابة) بفتح العين وجيمين خفيفتين أي
غبارها وعجاجة رفع فاعل (خمّر) بفتح الخاء المعجمة وتشديد
الميم أي غطى (عبد الله بن أبي أنفه) ولأبي ذر عن
الكشميهني وجهه (بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا) بالموحدة
(فسلم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عليهم) ناويًا المسلمين أو قال السلام على من اتبع الهدى
(ثم وقف فنزل) عن الدابة (فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم
القرآن فقال): بالفاء في اليونينية وفي الفرع وقال بالواو
(عبد الله أبي) بالتنوين (ابن سلول) للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أيها المرء إنه لا) شيء (أحسن مما
تقول) بفتح الهمزة وفتح السين والنون أفعل تفضيل وهو اسم
لا وخبرها شيء المقدر ولأبي ذر عن الكشميهني لا أحسن ما
تقول بضم الهمزة وكسر السين وضم النون وما بميم واحدة (إن
كان حقًّا) شرط قدم جزاؤه (فلا تؤذينا به) بالياء قبل
النون ولأبي ذر فلا تؤذنا بحذفها على الأصل في الجزم (في
مجلسنا) بالإفراد، ولأبي ذر: في مجالسنا بالجمع (ارجع إلى
رحلك) أي إلى منزلك (فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله
بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا به) بهمزة وصل وفتح
الشين المعجمة (في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستبّ) بالفاء،
ولأبي ذر واستبّ (المسلمون والمشركون واليهود) عطف على
المشركين وإن كانوا داخلين فيهم تنبيهًا على زيادة شرهم
(حتى كادوا يتثاورون) بالمثلثة أي قاربوا أن يثب بعضهم على
بعض فيقتتلوا (فلم يزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بخفضهم) بالخاء والضاد المعجمتين يسكنهم (حتى
سكنوا) بالنون من السكون، ولأبي ذر عن المستملي، وقال في
الفتح عن الكشميهني: حتى سكتوا بالمثناة الفوقية من السكوت
(ثم ركب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دابته
فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب) بضم الحاء المهملة
وتخفيف الموحدة الأولى (يريد عبد الله بن أُبي قال كذا
وكذا. قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه
فو) الله (الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الدي
أنزل عليك) ولأبي ذر: نزل بإسقاط الهمزة وتشديد الزاي (لقد
اصطلح) بدل أو عطف بيان وفي نسخة ولقد اصطلح (أهل هذه
البحيرة) بضم الموحدة مصغرًا أي البليدة والمراد المدينة
النبوية، ولأبي ذر عن المستملي والكشميهني البحرة بفتح
الموحدة وسكون المهملة (على أن يتوّجوه) بتاج الملك
(فيعصبونه بالعصابة) أي فيعممونه بعمامة الملوك.
وقال في الكواكب: أي يجعلونه رئيسًا لهم ويسوّدونه عليهم،
وكان الرئيس معصبًا لما
يعصب برأيه من الأمر، وقيل كان الرؤساء يعصبون رؤوسهم
بعصابة يعرفون بها، وفي بعض النسخ يعصبونه بغير فاء فيكون
بدلًا من قوله على أن يتوّجوه والنون ثابتة في فيعصبونه
ساقطة من يتوّجوه. قال في المصابيح: ففيه الجمع بين أعمال
إن وإهمالها في كلام واحد كما في قوله:
أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تشعرا
أحدا
ولأبي ذر وحده: فيعصبوه بالفاء وحذف النون كذا في غير ما
نسخة من المقابل على اليونينية المصححة بحضرة إمام النحاة
في عصره ابن مالك مع جمع من الحفاظ والأصول المعتمدة. وقال
الحافظ ابن حجر في الفتح: ووقع في غير البخاري فيعصبونه أي
بالنون والتقدير فهم يعصبونه أو فإذا هم يعصبونه ولعله لم
يقف على رواية الأكثرين بالنون.
(فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق) ولأبي ذر
أعطاك شرق بفتح الشين المعجمة وبعد الراء المكسورة قاف أي
غص ابن أبي (بذلك) الحق الذي أعطاك الله وسقط لفظ الجلالة
بعد أعطاك لدلالة الأولى (فذلك) الحق الذي أتيت به (فعل به
ما رأيت) من فعله وقوله القبيح (فعفا عنه رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، وكان النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه يعفون عن المشركين
وأهل الكتاب ما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله
تعالى: ({ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن
الذين
(7/68)
أشركوا أذىً كثيرًا} [آل عمران: 186]
الآية).
هذا حديث آخر أفرده ابن أبي حاتم في تفسيره عن السابق بسند
البخاري، وقال في آخره:
وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يتأوّل في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم فكل من
قام بحق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر فلا بدّ أن يؤذى فما
له دواء إلا الصبر في الله والاستعانة به والرجوع إليه
(وقال الله: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد
إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم} [البقرة: 109] إلى
آخر الآية) زاد أبو نعيم في مستخرجه من وجه آخر ما تظهر به
المناسبة وهو قوله: {فاعفوا واصفحوا} [البقرة: 109] (وكان
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتأوّل العفو)
ولأبي ذر في العفو (ما أمره الله به حتى أذن الله) له
(فيهم) بالقتال فترك العفو عنهم أي بالنسبة للقتال وإلا
فكم عفا عن كثير من اليهود والمشركين بالمنّ والفداء وغير
ذلك.
(فلما غزا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بدرًا فقتل الله به صناديد كفار قريش) بالصاد المهملة أي
ساداتهم (قال ابن أُبي) بالتنوين (ابن سلول ومن معه من
المشركين وعبدة الأوثان) عطفهم على المشركين من عطف الخاص
على العام لأن إيمانهم كان أبعد وضلالهم أشدّ (هذا أمر قد
توجه) أي ظهر وجهه (فبايعوا الرسول -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الإسلام فأسلموا) فبايعوا بفتح
التحتية بلفظ الماضي والرسول نصب على المفعولية، ولأبي ذر
والأصيلي: فبايعوا بكسرها بلفظ الأمر لرسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولما لم يقف العيني كابن حجر
على هذه الرواية قال ويحتمل أن يكون بلفظ الأمر.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف في الجهاد مختصرًا وفي اللباس
والأدب والطبّ والاستئذان ومسلم في المغازي والنسائي في
الطب.
16 - باب {لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا
أَتَوْا}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({لاَ يَحْسِبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}) سقط باب لغير أبي
ذر والخطاب للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والمفعول الأوّل الذين يفرحون والثاني بمفازة.
4567 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رِجَالًا
مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا
بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ
وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ: {لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ
بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران:188].
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) هو سعيد بن الحكم بن
محمد بن أبي مريم الجمحي مولاهم البصري قال: (أخبرنا)
ولأبي ذر حدّثنا (محمد بن جعفر) أي ابن أبي كثير المدني
(قال: حدّثني) بالإفراد (زيد بن أسلم) العدوي (عن عطاء بن
يسار) بتخفيف السين المهملة (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله
عنه- أن رجالًا من المنافقين على عهد رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا خرج رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الغزو. وتخلفوا
عنه وفرحوا بمقعدهم) مصدر ميميّ أي بقعودهم (خلاف رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإذا قدم رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من غزوه إلى
المدينة (اعتذوا إليه) عن تخلفهم (وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا
بما لم يفعلوا فنزلت) آية ({لا تحسبن الذين يفرحون بما
أتوا}) بما فعلوا من التدليس ({ويحبون أن يحمدوا بما لم
يفعلوا}) وسقط من قوله: (بما أتوا) إلى آخره في رواية غير
أبي ذر وقالوا بعد (يفرحون) الآية.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في التوبة.
4568 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَهُمْ عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ
يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ
كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ
يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ
أَجْمَعُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا لَكُمْ
وَلِهَذِهِ؟ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ
فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ
أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ
عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ
كِتْمَانِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}
[آل عمران: 187] كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ: {يَفْرَحُونَ
بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا}. تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ.
0000 - حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا
الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بِهَذَا.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن موسى) أبو إسحاق
الرازي الفراء قال: (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني
(أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبرهم عن ابن أبي
مليكة) عبد الله وفي الفرع قال أخبرني بالإفراد ابن أبي
مليكة (إن علقمة بن وقاص) الليثي من أجل التابعين بل قيل
إن له صحبة (أخبره أن مروان) بن الحكم بن أبي العاص وكان
يومئذٍ أميرًا على المدينة من قبل معاوية ثم ولي الخلافة
(قال لبوّابه) لما كان عنده أبو سعيد وزيد بن ثابت ورافع
بن خديج وقال: يا أبا سعيد أرأيت قول الله تعالى: {لا
تحسبن الذين يفرحون} الآية.
فقال إن هذا ليس من ذلك إنما ذاك أن ناسًا من المنافقين
وفيه فإن كان لهم نصر وفتح حلفوا لهم على سرورهم بذلك
ليحمدوهم على فرحهم وسرورهم رواه ابن مردويه فكأن مروان
توقف في ذلك وأراد زيادة الاستظهار فقال لبوّابه (اذهب يا
رافع إلى ابن عباس فقل) له (لئن كان كل امرئ بما أوتي) بضم
الهمزة وكسر الفوقية أي أعطى (وأحب أن يحمد) بضم أوّله
مبنيًا
(7/69)
للمفعول (بما لم يفعل معذبًا) نصب خبر كان
(لنعذبن) بفتح الذال المعجمة المشدّدة (أجمعون) بالواو لأن
كلنا يفرح بما أوتي ويحب أن يحمد بما لم يفعل، وفي رواية
حجاج بن محمد: أجمعين على الأصل.
(فقال ابن عباس) منكرًا عليهم السؤال عن ذلك (وما لكم)
ولأبي ذر: ما لكم بإسقاط الواو، ولأبي الوقت: ما لهم
بالهاء بدل الكاف (ولهذه) أي وللسؤال عن هذه المسألة (إنما
دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يهود)
ولأبي ذر يهود بالتنوين (فسألهم عن شيء) قيل عن صفته عندهم
بإيضاح (فكتموه إياه وأخبروه) وفي الفرع فأخبروه (بغيره)
أي بصفته عليه الصلاة والسلام في الجملة (فأروه) بفتح
الهمزة والراء (أن قد استحمدوا إليه) بفتح الفوقية مبنيًا
للفاعل أي طلبوا أن يحمدهم قال في الأساس استحمد الله إلى
خلقه بإحسانه إليهم وإنعامه عليهم (بما أخبروه عنه) على
الإجمال (فبما سألهم وفرحوا بما أوتوا) بضم الهمزة وسكون
الواو وضم التاء الفوقية أي أعطوا، ولأبي ذر عن المستملي
والكشميهني: بما أتوا بفتح الهمزة والفوقية من غير واو أي
بما جاؤوا به (من كتمانهم) بكسر الكاف للعلم (ثم قرأ ابن
عباس) -رضي الله عنهما- ({وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
الكتاب}) أي العلماء (كذلك حتى قوله {يفرحون بما أوتوا})
بضم الهمزة ولأبي ذر عن المستملي والكشميهني بما أتوا بلفظ
القرآن أي جاؤوا ({ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}) من
الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإخبار بالصدق.
(تابعه) أي تابع هشام بن يوسف (عبد الرزاق) على روايته
إياه (عن ابن جريج) عبد الملك فيما وصله الإسماعيلي قال:
(حدّثنا ابن مقاتل) محمد المروزي قال: (أخبرنا) ولأبي ذر:
حدّثنا (الحجاج) بن محمد المصيصي الأعور (عن ابن جريج) عبد
الملك بن عبد العزيز أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (ابن أبي
مليكة) عبد الله (عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه أخبره
أن مروان) بن الحكم (بهذا) الحديث ولم يورد متنه ولفظ مسلم
أن مروان قال لبوّابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له،
فذكر نحو حديث هشام عن ابن جريج السابق.
17 - باب قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ
لأُِولِي الأَلْبَابِ}
(باب قوله) تعالى: ({إن في خلق السماوات}) من الارتفاع
والاتساع وما فيها من الكواكب السيارات والثوابت وغيرها
({والأرض}) من الانخفاض والكثافة والاتضاع وما فيها من
البحار والجبال والقفار والأشجار والنبات والحيوان
والمعادن وغيرها ({واختلاف الليل والنهار}) في الطول
والقصر وتعاقبهما (الآيات) لدلالات واضحات على وجود الصانع
ووحدته وكمال قدرته، واقتصر على هذه الثلاثة في هذه الآية
لأن الاستدلال هو التغير وهذه معرّضة لجملة أنواعه فإنه
إنما يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار أو جزئه كتغير
العناصر بتبدل صورتها أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل
أوضاعها قاله في الأنوار. وقال في المفاتح ما حاصله: إن
السالك إلى الله لا بد له في أوّل الأمر من تكثير الدلائل
وبعد كمال العرفان يميل إلى تقليل الدلائل ومن اشتغاله بها
كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله تعالى، ثم إنه
سبحانه حذف هنا الدلائل الأرضية واستبقى الدلائل السماوية
لأنها أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر وانتقال القلب منها
إلى عظمة الله وكبريائه أشدّ ({لأولي الألباب}) [آل عمران:
190] لذوي العقول الصافية الذين يفتحون بصائرهم للنظر
والاستدلال والاعتبار لا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين
عما فيها من عجائب مخلوقاته وغرائب مبتدعاته وسقط لغير أبي
ذر قوله واختلاف الليل والنهار إلى آخره وقالوا الآية بعد
قوله والأرض.
4569 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ
كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ:
بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَتَحَدَّثَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ
أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ
اللَّيْلِ الآخِرُ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ
فَقَالَ: " {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ} " ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ
فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ
بِلاَلٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى
الصُّبْحَ.
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) قال: (أخبرنا) ولأبي
ذر: حدّثنا (محمد بن جعفر) هو ابن أبي كثير (قال: أخبرني)
بالإفراد (شريك بن عبد الله بن أبي نمر) بفتح النون وكسر
الميم (عن كريب) بضم الكاف وفتح الراء (عن ابن عباس -رضي
الله عنهما-) أنه (قال: بت عند خالتي ميمونة) ولأبي ذر بت
في بيت ميمونة (فتحدّث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر)
رفع صفة للثلث
(7/70)
وفي كتاب الوتر من طريق مخرمة بن سليمان عن
كريب فنام حتى انتصف الليل أو قريبًا منه فلعله قام مرتين
(قعد فنظر إلى السماء فقال {إن في خلق السماوات والأرض
واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}) العشر الآيات
إلى آخرها (ثم قام) عليه الصلاة والسلام (فتوضأ) زاد في
الوتر فأحسن الوضوء (واستنّ) أي استاك (فصلى
إحدى عشرة ركعة) وهي أكثر الوتر عند الشافعية كما مرّ في
موضعه بمباحثه (ثم أذن بلال) للصبح (فصلّى) النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ركعتين) سنة الصبح في بيته
(ثم خرج) إلى المسجد (فصلّى الصبح) زاد في نسخة بالناس.
18 - باب {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({الذين يذكرون الله})
في موضع جر نعت لأولي أو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين
يذكرون الله حال كونهم ({قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم}) أي
يداومون على الذكر بألسنتهم وقلوبهم لأن الشخص لا يخلو عن
هذه الأحوال، وقيل: يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم
لحديث عمران بن حصين المروي في البخاري والترمذي وغيرهما:
صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب.
قال في الأنوار وهو حجة للشافعي -رضي الله عنه- في أن
المريض يصلّي مضطجعًا على جنبه الأيمن مستقبلًا بمقاديم
بدنه، وقيل الأوّلان في الصلاة والثالثة عند النوم، وقيل
إنه القيام بأوامره، والقعود عن زواجره، والاجتناب عن
مخالفته ({ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض}) [آل عمران:
191] الفكر هو أعمال الخاطر في الشيء وتردّد القلب فيه وهو
قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم والتفكّر جريان تلك القوة
بحسب نظر العقل ولا يمكن التفكّر إلا فيما له صورة في
القلب ولذا قيل تفكّروا في آلاء الله ولا تتفكّروا في الله
إذ كان الله منزها عن أن يوصف بصورة ولذا أخبر تعالى عن
هؤلاء بأنهم تفكّروا في خلق السماوات والأرض وما أبدع
فيهما من عجائب المصنوعات وغرائب المبدعات ليدلهم ذلك على
كمال قدرته ودلائل التوحيد منحصرة في الآفاق والأنفس
ودلائل الآفاق أعظم قال الله تعالى: {لخلق السماوات والأرض
أكبر من خلق الناس} [غافر: 57] فلذا أمر بالفكر في خلق
السماوات والأرض لأن دلائلهما أعظم فإنه إذا فكر الإنسان
في أصغر ورقة من الشجر رأى عرفًا واحدًا ممتدًّا في وسطها
تتشعب منه عروق كثيرة إلى الجانبين ثم يتشعب من كل عرق
عروق دقيقة ولا يزال كذلك حتى لا يراه الحس فيعلم أن
الخالق خلق فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض يتوزع في
كل جزء من أجزائها بتقدير العزيز العليم، فإذا تأمل ذلك
علم عجزه عن الوقوف على كيفية خلقها وما فيها من العجائب
فالفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء
للزرع النماء وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت
بمثل الفكرة. وقال بعضهم قوله: ({ويتفكّرون في خلق
السماوات والأرض}) هو من جعل الجرم محلاًّ لتعلق المعنى
جعل الأجرام محلًا لتعلق الفكر لا لنفس الفكر لأن الفكر
قائم بالمتفكر ومنه أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض
جعل السماوات والأرض والمخلوقات كلها محلًا لتعلق النظر لا
لنفس النظر فإن النظر قائم بالناظر حال فيه ومنه {أولم
يتفكّروا في أنفسهم} [الروم: 8] أي في خلق أنفسهم وهذا كله
من مجاز التشبيه وسقط لأبي ذر لفظ باب وقوله ويتفكرون الخ
وقال: بعد جنوبهم الآية.
4570 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ
مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ،
عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-
قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقُلْتُ
لأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَطُرِحَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِسَادَةٌ فَنَامَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
طُولِهَا فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ
قَرَأَ الآيَاتِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ آلِ عِمْرَانَ
حَتَّى خَتَمَ ثُمَّ أَتَى شَنًّا مُعَلَّقًا فَأَخَذَهُ
فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ
مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ،
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِي
فَجَعَلَ يَفْتِلُهَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
عبد الرحمن بن مهدي) بفتح الميم وسكون الهاء وكسر الدال
وتشديد التحتية ابن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري
(عن مالك بن أنس) الإمام الأعظم (عن مخرمة بن سليمان)
الأسدي الوالبي بكسر اللام والموحدة المدني (عن كريب) مولى
ابن عباس (عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما) أنه (قال: بت
عند خالتي ميمونة) أم المؤمنين -رضي الله عنها- (فقلت:
لأنظرن إلى صلاة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فطرحت) بضم الطاء وكسر الراء مبنيًا للمفعول
(لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ
(7/71)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسادة) رفع مفعول نائب
عن الفاعل (فنام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في طولها) أي وابن عباس في عرضها. قال ابن عبد
البر: فكان ابن عباس مضطجعًا عند رجل رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو عند رأسه (فجعل يمسح
النوم) فيه حذف ذكره في الرواية الأخرى من الوتر فنام حتى
انتصف الليل أو قريبًا منه فاستيقظ يمسح النوم أي أثره (عن
وجهه ثم قرأ) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فقرأ (الآيات
العشر الأواخر من) سورة (آل عمران) التي أولها {إن في خلق
السماوات والأرض}. (حتى ختم) العشر (ثم أُتي شنّا) بفتح
الشين المعجمة وتشديد النون قربة عتقت من الاستعمال ولأبي
ذر عن الكشميهني سقاء (معلقًا فأخذه فتوضأ) منه لتجديد
الطهارة لا للنوم (ثم قام يصلي). قال ابن عباس: (فقمت
فصنعت مثل ما صنع) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من
الوضوء وغيره (ثم جئت فقمت إلى جنبه فوضع يده) زاد في باب
الوتر كالرواية الآتية اليمنى (على رأسي ثم أخذ بأذني فجعل
يفتلها) بكسر المثناة الفوقية أي يدلكها لينتبه (ثم صلّى
ركعتين ثم صلّى ركعتين ثم صلّى ركعتين ثم صلّى ركعتين ثم
صلّى ركعتين ثم صلّى ركعتين) ست مرات باثنتي عشرة ركعة (ثم
أوتر) بواحد فهي ثلاثة عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين.
19 - باب {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل
عمران: 192]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ربنا}) يعني يتفكّرون
في خلق السماوات والأرض حال كونهم قائلين ربنا ({إنك من
تدخل النار فقد أخزيته}) أي أهنته وأذللته أو أهلكته أو
فضحته وأبلغت في أخزائه والخزى ضرب من الاستخفاف أو انكسار
يلحق الإنسان وهو الحياء
المفرط، وقد تسمك المعتزلة بهذا على أن صاحب الكبيرة غير
مؤمن لأنه إذا دخل النار فقد أخزاه الله والمؤمن لا يخزى
لقوله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه}
[التحريم: 8] فوجب أن من يدخل النار لا يكون مؤمنًا.
وأجيب: بأن الخزي فسر بوجوه من المعاني فلم لا يجوز أن
يراد في كل صورة معنى مثلًا في قوله تعالى: {يوم لا يخزي
الله النبي والذين آمنوا} أي لا يهلكهم، وفي الأوّل يريد
الإهانة.
والحاصل أن لفظ الإخزاء مشترك بين الإهلاك والتخجيل واللفظ
المشترك لا يمكن حمله في طريق النفي والإثبات على معنييه
جميعًا وحينئذٍ يسقط الاستدلال به.
({وما للظالمين من أنصار}) [آل عمران: 192] ينصرونهم يوم
القيامة ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب
لإدخالهم النار وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها، وقول
الزمخشري أنه إعلام بأن من يدخل النار فلانًا بشفاعة ولا
غيرها بناء على مذهب المعتزلة في نفي الشفاعة أجاب عنه
القاضي بأنه لا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصرة
دفع بقهر، وسقط لأبي ذر قوله: {وما للظالمين من أنصار}.
4571 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ
مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ
زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَهْيَ خَالَتُهُ قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ
الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ
بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ يَمْسَحُ
النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ
الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ
عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ
فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ
يُصَلِّي، فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ
فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى
رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي بِيَدِهِ الْيُمْنَي
يَفْتِلُهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ
اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى
الصُّبْحَ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
معن بن عيسى) بفتح الميم وسكون العين المهملة ابن يحيى
القزاز المدني قال: (حدّثنا مالك) إمام دار الهجرة ولأبي
ذر عن مالك (عن مخرمة بن سليمان) الوالبي (عن كريب مولى
عبد الله بن عباس أن عبد الله بن عباس) ولأبي ذر مولى ابن
عباس أن ابن عباس (أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي خالته) أخت أمه
لبابة (قال: فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأهله في طولها فنام
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى انتصف
الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجعل يمسح النوم) أي
أثره (عن وجهه بيديه) بالتثنية (ثم قرأ العشر الآيات
الخواتم) جمع خاتمة (من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن
معلقة) أنث باعتبار القربة (فتوضأ منها) تجديدًا للوضوء لا
أن
وضوءه بطل بالنوم أو أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أحس بحدوث الحدث فتوضأ له كما أنه أحس ببقاء
الطهارة حيث استيقظ وصلّى ولم يتوضأ كما روي (فأحسن وضوءه)
بأن أتى به تامًّا بمندوباته ولا ينافي التخفيف (ثم قام
يصلّي) قال ابن عباس: (فصنعت مثل ما صنع) أجمع أو غالبه
(ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله -صَلَّى
(7/72)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده اليمنى
على رأسي وأخذ بأذني اليمنى) ولغير أبي ذر والأصيلي: وأخذ
بأذني بيده اليمنى قال في الفتح: وهو وهم والصواب الأولى
(يفتلها) يدلكها أي لينتبه من بقية نومه، ويستحضر أفعال
الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والجملة حالية
من الأحوال المقدرة، وفيه أن الفعل القليل غير مبطل للصلاة
(فصلّى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم
ركعتين) ست مرات (ثم أوتر) فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة
(ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن) بلال (فقام فصلّى ركعتين
خفيفتين) سنة الصبح (ثم خرج) إلى المسجد (فصلّى الصبح)
بالناس.
وهذه طريق أخرى لحديث ابن عباس وليس فيها إلا تغيير شيخ
شيخ البخاري والسياق هنا أتم.
20 - باب {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا
يُنَادِى لِلإِيمَانِ} الآيَةَ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: {{ربنا إننا سمعنا
مناديًا}) هو محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال الله تعالى: {وداعيًا إلى الله} [الأحزاب: 46] وقيل:
القرآن لقوله تعالى: {يهدي إلى الرشد} [الجن: 2] فكأنه
يدعو إلى نفسه وسمع إن دخلت على ما يصح أن يسمع نحو سمعت
كلامك وقراءتك تعدت لواحد وإن دخلت على ما لا يصح سماعه
بأن كان ذاتًا فلا يصح الاقتصار عليه وحده بل لا بد من
الدلالة على شيء يسمع نحو سمعت رجلًا يقول كذا، وللنحاة في
هذه المسألة قولان.
أحدهما: أن تتعدى فيه أيضًا إلى مفعول واحد والجملة
الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة وحال إن كان
معرفة. والثاني: قول الفارسي وجماعة تتعدى لاثنين الجملة
في محل الثاني منهما، فعلى قول الجمهور يكون منادى في على
نصب لأنه صفة لمنصوب قبله وعلى قول الفارسي يكون في محل
نصب مفعول ثان. وقال الزمخشري تقول: سمعت رجلًا يقول كذا
وسمعت زيدًا يتكلم فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع
لأنك وصفته بما يسمع أو جعلته حالًا منه فأغناك عن ذكره،
ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد وأن يقال سمعت كلام
فلان أو قوله وذكر المنادى مع قوله ({ينادي}) تفخيم لشأن
المنادى ولأنه إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب أو
لإغاثة المكروب وغيرهما واللام في ({للإيمان}) بمعنى إلى
أو بمعنى الباء ومفعول ينادي محذوف أي الناس ويجوز أن لا
يزاد مفعول نحو أمات وأحيا (الآية) [آل عمران: 193] نصب
بفعل مقدر مناسب.
4572 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ
عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-
أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْيَ
خَالَتُهُ قَالَ:
فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ
اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ
بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ
وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ
الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ
إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ
وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ
فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى
رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ
حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى
الصُّبْحَ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي البغلاني بفتح
الموحدة وسكون المعجمة وسقط لأبي ذر ابن سعيد (عن مالك)
الإمام (عن مخرمة بن سليمان) الوالبي (عن كريب مولى ابن
عباس أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخبره أنه بات عند
ميمونة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي
خالته قال: فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأهله في طولها فنام
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى انتصف
الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ) ولأبي ذر ثم
استيقظ (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فجعل) ولأبي ذر عن الكشميهني فجلس (يمسح النوم) أي أثره
(عن وجهه بيده) بالإفراد (ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من
سورة آل عمران) زاد في بعض طرق الصحيح وهو عند ابن مردويه
ولفظ مسلم وكان في دعائه يقول "اللهم اجعل في قلبي نورًا
وفي بصري نورًا وفي سمعي نورًا وعن يميني نورًا وعن يساري
نورًا وفوقي نورًا وأمامي وخلفي نورًا واجعل لي نورًا".
قال كريب وسبع في التابوت: فلقيت بعض ولد العباس فحدثني
بهن فذكر عصبي ولحمي ودمي وشعري وبشري، وزاد في أخرى وفي
لساني نورًا وفي أخرى واجعلني نورًا وفي أخرى واجعل في
نفسي نورًا وكان باعثه على هذا وعلى الصلاة قوله: {إن في
خلق السماوات والأرض} إلى قوله: {فقنا عذاب النار} [آل
عمران: 191] لأن الفاء الفصيحة تقتضي مقدرًا يرتبط معها
تقديره {ربنا ما خلقت هذا باطلًا} [آل عمران: 191] بل
خلقته للدلالة على معرفتك ومن عرفك يجب عليه أداء طاعتك
واجتناب معصيتك ليفوز بدخول جنتك ويتوقى به من عذاب نارك
ونحن قد عرفناك وأدّينا طاعتك واجتنبنا معصيتك فقنًا عذاب
النار برحمتك، وتحريره أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لما تفكّر في عجائب الملك والملكوت وعرج
(7/73)
إلى عالم الجبروت حتى انتهى إلى سرادقات
الجلال فتح لسانه بالذكر ثم اتبع بدنه وروحه بالتأهب
والوقوف في مقام التناجي والدعاء ومعنى طلب النور للأعضاء
عضوًا عضوًا أن يتجلى بأنوار المعرفة والطاعة ويتعرى عن
ظلمة الجهالة والمعصية لأن الإنسان ذو سهو وطغيان أي أنه
قد أحاطت به ظلمات الجبلة معتورة عليه من فرقه إلى قدمه
والأدخنة الثائرة من نيران الشهوات من جوانبه، ورأى
الشيطان يأتيه من الجهات الست بوساوسه وشبهاته ظلمات بعضها
فوق بعض فلم ير للتخلص منها مساغًا إلا بأنوار سادة لتلك
الجهات فسأل الله أن يمده بها ليستأصل شأفة تلك الظلمات
إرشادًا للأمة وتعليمًا لهم قاله في شرح المشكاة.
(ثم قام) عليه الصلاة والسلام (إلى شن معلقة) وفي رواية
لمسلم ثم عدل إلى شجب من ماء وهو السقاء الذي اخلق (فتوضأ
منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلّي. قال ابن عباس: فقمت فصنعت
مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه) وفي رواية: فقمت عن
يساره فأخذني فجعلني عن يمينه (فوضع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده اليمنى على رأسي وأخذ
بأذني يفتلها فصلّى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم
ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين) فهي اثنتا عشرة ركعة (ثم
أوتر) بواحدة (ثمَّ اضطجع) زاد في مسلم فنام حتى نفخ وكان
إذا نام نفخ (حتى جاءه المؤذن فقام فصلّى ركعتين خفيفتين)
سنة الفجر من غير أن يتوضأ (ثم خرج فصلّى) بأصحابه
(الصبح).
[4] سورة النِّسَاءِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَنْكِفُ: يَسْتَكْبِرُ،
قِوَامًا: قِوَامُكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ لَهُنَّ
سَبِيلًا يَعْنِي الرَّجْمَ لِلثَّيِّبِ، وَالْجَلْدَ
لِلْبِكْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَثْنَى وَثُلاَثَ يَعْنِي
اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثًا وَأَرْبَعًا وَلاَ تُجَاوِزُ
الْعَرَبُ رُبَاعَ.
[4] سورة النِّسَاءِ
مدنية. زاد أبو ذر: بسم الله الرحمن الرحيم والمستملي
والكشميهني.
(قال ابن عباس): فيما وصله ابن أبي حاتم بإسناد صحيح من
طريق ابن جريج عن عطاء عنه (يستنكف) يريد تفسير قوله
تعالى: {ومن يستنكف عن عبادته} [النساء: 172] معناه
(يستكبر) فالعطف للتفسير أي يأنف. وقال ابن عباس أيضًا
فيما وصله ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة عنه (قوامًا
قوامكم من معايشكم) بكسر القاف وبعدها واو والتلاوة بالياء
التحتية إذ مراده {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل
الله لكم قيامًا} [النساء: 5] قيل لم يقصد المؤلّف بها
التلاوة بل حذف الكلمة القرآنية وأشار إلى تفسيرها، وقد
قال أبو عبيدة قيامًا وقوامًا بمنزلة واحدة تقول هذا قوام
أمرك وقيامه أي ما يقوم به أمرك، والأصل بالواو فأبدلوها
بكسرة القاف ونقل أنها بالواو وقراءة ابن عمر -رضي الله
عنهما- وقوله: {أو يجعل الله} ({لهن سبيلا}) (يعني الرجم
للثيب والجلد للبكر) قاله ابن عباس فيما وصله عبد بن حميد
بإسناد صحيح وكان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا
زنت وثبت زناها حبست في بيت حتى تموت.
(وقال غيره): أي غير ابن عباس -رضي الله عنهما- وسقط قوله
وقال غيره لأبي ذر وسقطت الجملة كلها من قوله قال ابن عباس
إلى هنا من رواية الحموي ({مثنى وثلاث ورباع}) [النساء: 3]
قال أبو عبيدة: (يعني اثنتين وثلاثًا وأربعًا ولا تجاوز
العرب رباع) اختلف في هذه الألفاظ هل يجوز فيها القياس أو
يقتصر فيها على السماع، فذهب البصريون إلى الثاني
والكوفيون إلى الأول، والمسموع من ذلك أحد عشر لفظًا أحاد
وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع ومخمس وعشار
ومعشر، لكن قال ابن الحاجب: هل يقال خماس ومخمس إلى عشار
ومعشر؟ فيه خلاف. والأصح أنه لم يثبت وهذا هو الذي اختاره
المؤلّف، وجمهور النحاة على منع صرفها، وأجاز الفراء صرفها
وإن كان المنع عنده أولى، ومنع الصرف للعدل والوصف لأنها
معدولة عن صيغة إلى صيغة وذلك أنها معدولة عن عدد مكرر
فإذا قلت: جاء القوم أحاد أو موحد أو ثلاث أو مثلث كان
بمنزلة قولك جاؤوا واحدًا واحدًا وثلاثة ثلاثة، ولا يراد
بالمعدول عنه التوكيد إنما يراد به تكرير العدد كقوله:
علمته الحساب بابًا بابًا أو للعدل والتعريف أو لعدلها عن
عدد مكرر وعدلها
(7/74)
عن التأنيث أو لتكرار العدل أقوال وقول
البخاري يعني اثنتين وثلاثًا وأربعًا ليس معناه ذلك بل
معناه المكرر نحو اثنتين اثنتين وإنما تركه اعتمادًا على
الشهرة أو أنه عنده ليس بمعنى التكرار.
1 - باب {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي
الْيَتَامَى}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وإن خفتم ألاّ
تقسطوا}) أن لا تعدلوا من أقسط ولا نافية أي وإن حذرتم عدم
الأقساط أي العدل ({في اليتامى}) [النساء: 3] وقرئ تقسطوا
بفتح التاء من قسط وهو بمعنى جار على المشهور في أن
الرباعي بمعنى عدل والثلاثي بمعنى جار وكأن الهمزة فيه
للسلب فمعنى أقسط أزال القسط وهو الجور ولا على هذا زائدة
ليس إلا وإلا يفسد المعنى كهي في لئلا يعلم وحكى الزجاج أن
قسط الثلاثي يستعمل استعمال الرباعي وعلى هذا فتكون لا غير
زائدة كهي في الأولى وجواب الشرط في وإن خفتم فانكحوا أو
فواحدة وثبت الباب وتاليه لأبي ذر.
4573 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ
بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله
عنها- أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا
وَكَانَ لَهَا عَذْقٌ وَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ وَلَمْ
يَكُنْ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ فَنَزَلَتْ فِيهِ:
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}
أَحْسِبُهُ قَالَ: كَانَتْ شَرِيكَتَهُ فِي ذَلِكَ
الْعَذْقِ وَفِي مَالِهِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (إبراهيم بن
موسى) الفراء الرازي الصغير قال: (أخبرنا هشام) هو ابن
يوسف الصنعاني (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز أنه
(قال: أخبرني) بالإفراد (هشام بن عروة عن أبيه) عن عروة بن
الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلًا كانت له) أي
عنده (يتيمة) مات أبوها (فنكحها) أي تزوجها (وكان لها عذق)
بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة آخره قاف أي نخلة
(وكان) الرجل (يمسكها) أي اليتيمة (عليه) أي لأجله فعلى
هنا تعليلية ولأبي ذر عن الكشميهني فيمسكها عليه (ولم يكن
لها) لليتيمة (من نفسه شيء فنزلت فيه {وإن خفتم ألاّ
تقسطوا في اليتامى}) قال هشام بن يوسف (أحسبه) أي عروة
(قال: كانت) أي اليتيمة (شريكته) أي الرجل (في ذلك العذق
وفي ماله). وقوله: إن رجلًا كانت له يتيمة يوهم أنها نزلت
في شخص معين والمعروف عن هشام بن عروة التعميم، ووقع عند
الإسماعيلي كذلك ولفظه أنزلت في الرجل تكون عنده اليتيمة
وكذا في الرواية اللاحقة من طريق ابن شهاب عن عروة، وقضية
العذق في التي يرغب عن نكاحها وأما التي يرغب في نكاحها
فهي التي يعجبه مالها وجمالها فلا يزوّجها لغيره ويريد أن
يتزوجها بدون صداق مثلها.
4574 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ
كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] فَقَالَتْ: يَا
ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ
وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا
وَجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيَهَا
مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا عَنْ أَنْ
يَنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ
وَيَبْلُغُوا لَهُنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ
فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ
النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ
عَائِشَةُ: وَإِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ هَذِهِ
الآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاءِ} قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى
فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}
[النساء: 127] رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ
تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ قَالَتْ:
فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا عَنْ مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهِ
وَجَمَالِهِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، إِلاَّ بِالْقِسْطِ
مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ
قَلِيلاَتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف (عن صالح بن كيسان) بفتح الكاف (عن ابن
شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد
(عروة بن الزبير أنه سأل عائشة) رضي الله تعالى عنها (عن)
معنى (قول الله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى}
فقالت) عائشة له: (يا ابن أختي) أسماء ولأبي الوقت يا ابن
أخي (هذه اليتيمة) التي مات أبوها (تكون في حجر وليها)
القائم بأمورها (تشركه) بفتح التاء والراء وفي نسخة تشركه
بضم ثم كسر (في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن
يتزوجها بغير أن يقسط) أن يعدل (في صداقها فيعطيها مثل ما
يعطيها غيره) هو معطوف على معمول بغير يعني يريد أن
يتزوّجها بغير أن يعطيها مثل ما يعطيها غيره أي ممن يرغب
في نكاحها ويدل على ذلك قوله: (فنهوا) بضم النون والهاء
(عن أن ينكحوهن) ولأبي ذر عن ذلك أي عن ترك الأقساط (إلا
أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن) باللام ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي بهن (أعلى سنتهن) أي طريقتهن (في الصداق)
وعادتهن في ذلك (فأمروا) بالفاء (أن ينكحوا ما طاب) ما حل
(لهم من النساء سواهن) أي سوى اليتامى من النساء، وقد تقرر
أن ما لا تستعمل في ذوي العقول واستعملها هنا لهن ذهابًا
إلى الصفة كأنه قيل النوع الطيب من النساء أي الحلال أو
المشتهى والثاني أرجح لاقتضاء المقام ولأن الأمر بالنكاح
لا يكون إلا في الحلال فوجب الحمل على شيء آخر أو إجراء
لهن مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن كقوله: {أو ما ملكت
أيمانهن} [النور: 31].
(قال عروة) بن الزبير بالسند السابق: (قالت عائشة: إن
الناس استفتوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) طلبوا منه الفتيا في أمر النساء (بعد) نزول
(هذه الآية)
(7/75)
وهي وإن خفتم إلى ورباع (فأنزل الله) تعالى
({ويستفتونك في النساء}) [النساء: 127] الآية (قالت عائشة:
وقول الله تعالى في آية أخرى: ({وترغبون أن تنكحوهن})
[النساء: 127] كذا في رواية صالح وليس ذلك في آية أخرى بل
هو في نفس الآية. وعند مسلم والنسائي واللفظ له من طريق
يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد في هذا
الموضع فأنزل الله تعالى: {ويستفتونك في النساء} قل الله
يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء
اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ({وترغبون أن تنكحوهن}) فذكر
الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى وهي قوله:
{وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من
النساء} [النساء: 3] قالت عائشة: وقول الله في الآية
الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهن} قال في الفتح فظهر أنه سقط
من رواية البخاري شيء (رغبة أحدكم عن يتيمته) بأن لم يردها
(حين تكون) أي اليتيمة (قليلة المال والجمال قالت) عائشة
(فنهوا أن ينكحوا عمن رغبوا في ماله وجماله) بفتح التحتية
وللأصيلي بضمها وإسقاط عن (في يتامى النساء إلا بالقسط)
بالعدل (من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال)
فينبغي أن يكون نكاح الغنية الجميلة ونكاح الفقيرة الذميمة
على السواء في العدل.
وسبق هذا الحديث في الشركة في باب شركة اليتيم.
2 - باب {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ
حَسِيبًا} وَبِدَارًا: مُبَادَرَةً. أَعْتَدْنَا:
أَعْدَدْنَا أَفْعَلْنَا مِنَ الْعَتَادِ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى: ({ومن كان فقيرًا
فليأكل}) من مال اليتامى ({بالمعروف فإذا دفعتم إليهم
أموالهم}) بعد بلوغهم وإيناس رشدهم ({فأشهدوا عليهم})
ندبًا بأنهم قبضوها لئلا يقدموا على الدعوى الكاذبة ولأنه
أنفى للتهمة ({وكفى بالله}) حال كونه ({حسيبًا}) [النساء:
6] أي محاسبًا فلا تخالفوا ما أمرتم ولا تتجاوزوا ما حدّ
لكم وسقط لفظ الآية لأبي ذر ولغيره {وكفى بالله حسيبًا}
وقالوا بعد: {فأشهدوا عليهم} الآية {وبدارًا} ولأبي ذر:
بدارًا يريد {ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا} أي (مبادرة)
قبل بلوغهم من غير حاجة.
({أعتدنا}) يريد {أعتدنا لهم عذابًا} [النساء: 18] قال أبو
عبيدة: أي (أعددنا أفعلنا) ولأبي ذر عن الكشميهني اعتددنا
افتعلنا (من العتاد) بفتح العين.
4575 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ
كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] أَنَّهَا
نَزَلَتْ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا
أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ
بِمَعْرُوفٍ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسحاق) هو ابن منصور كما جزم
به المزي كخلف وقيل هو ابن راهويه قال: (أخبرنا عبد الله
بن نمير) بضم النون وفتح الميم قال: (حدّثنا هشام عن أبيه)
عروة بن الزبير (عن عائشة رضي الله تعالى عنها في قوله
تعالى: {ومن كان}) من الأولياء ({غنيًّا}) عن مال اليتيم
({فليستعفف}) عنه ولا يأكل منه شيئًا ({ومن كان}) منهم
({فقيرًا فليأكل بالمعروف}) [النساء: 6] أنها نزلت في (مال
اليتيم) ولأبي ذر عن الكشميهني: في والي اليتيم (إذا كان
فقيرًا أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف) بقدر حاجته
بحيث لا يتجاوز أجرة المثل ولا يردّ إذا أيسر على الصحيح
عند الشافعية؛ وقيل يأخذ بالفرض لما روي عن ابن عباس وغيره
نظيره، وعن ابن عباس يأكل من ماله بالمعروف حتى لا يحتاج
إلى مال اليتيم، وقيل لا يأكل وإن كان فقيرًا لقوله تعالى:
{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} [النساء: 10].
وأجيب: بأنه عام والخاص مقدم عليه لا سيما وفي قيد الظلم
إشعار به، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر أيضًا به،
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلًا سأل رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ليس لي
مال وليس يتيم فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر
ولا متأثل مالًا" رواه أحمد وغيره وقوله غير متأثل أي غير
جامع يقال مال مؤثل أي مجموع ذو أصل وأثلة الشيء أصله.
3 - باب (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى: ({وإذا حضر
القسمة}) للتركات ({أولو القربى واليتامى والمساكين}) ممن
لا يرث ({فارزقوهم منه}) [النساء: 8] من متروك الوالدين
والأقربين تطييبًا لقلوبهم وتصدقًا عليهم، وقيل يعود
الضمير إلى الميراث، وفي أكثر النسخ وهو في الفرع كأصله
والمساكين الآية، وحذف فارزقوهم منه وهو أمر ندب للبلغ من
الورثة، وقيل أمر وجوب وكان في ابتداء الإسلام، ثم اختلف
في نسخه فقيل بآية المواريث
(7/76)
فألحق الله لكل ذي حق حقه وصارت الوصية من
ماله يوصي بها لذوي قرابته حيث يشاء. وهذا مذهب جمهور
الفقهاء الأئمة الأربعة وأصحابهم وعن ابن عباس أن الآية
محكمة غير منسوخة.
4576 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ
الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
-رضي الله عنهما- {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} قَالَ: هِيَ
مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. تَابَعَهُ سَعِيدٌ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن حميد) بضم الحاء مصغرًا القرشي
الكوفي الطريثيثي بضم الطاء المهملة وراء ومثلثتين مصغرًا
صهر عبيد الله بن موسى يلقب بدار أم سلمة لجمعه حديثها
وتتبعه له وفي كامل ابن عدي أنه كان له اتصال بأم سلمة زوج
السفاح الخليفة فلقب بذلك، وليس له
في البخاري سوى هذا الحديث قال: (أخبرنا عبيد الله) بن عبد
الرحمن (الأشجعي) الكوفي (عن سفيان) الثوري (عن الشيباني)
بفتح الشين المعجمة أبي إسحاق سليمان بن أبي سليمان فيروز
الكوفي (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما) في قوله تعالى: ({وإذا حضر القسمة أولو
القربى واليتامى والمساكين}) قال: (هي محكمة وليست منسوخة)
تفسير للمحكمة (تابعه) أي تابع عكرمة (سعيد) هو ابن جبير
(عن ابن عباس) مما وصله في الوصايا بلفظ: إن ناسًا يزعمون
أن هذه الآية نسخت ولا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون
الناس بها هما واليان وال يرث وذلك الذي يرزق ووال لا يرث
وذلك الذي يقال له بالمعروف يقول لا أملك لك أن أعطيك،
وجاء عن ابن عباس روايات أُخر ضعيفة عند ابن أبي حاتم وابن
مردويه أنها منسوخة.
4 - باب {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}
هذا (باب) بالتنوين كذا لأبي ذر وله عن المستملي باب قوله
بالإضافة ({يوصيكم الله}) يأمركم ويفرض لكم ({في}) شأن
ميراث ({أولادكم}) [النساء: 11] العدل فإن أهل الجاهلية
كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله
تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث وفاوت بين المصنفين
فجعل {للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11] وذلك لاحتياج
الرجل إلى مؤونة النفقة والكلفة واستنبط بعضهم من الآية أن
الله تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده حيث وصى الوالدين
بأولادهم، وثبت في أولادكم لأبي ذر.
4577 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا
هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي ابْنُ مُنْكَدِرٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ مَاشِيَيْنِ
فَوَجَدَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لاَ أَعْقِلُ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ
مِنْهُ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: مَا
تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ فَنَزَلَتْ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلاَدِكُمْ}.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (إبراهيم بن
موسى) التميمي الفراء الرازي الصغير قال: (حدّثنا) ولأبي
ذر: أخبرنا (هشام) هو ابن يوسف الصنعاني (أن ابن جريج) عبد
الملك (أخبرهم قال: أخبرني) بالإفراد (ابن منكدر) محمد
ولأبي ذر: ابن المنكدر بالتعريف (عن جابر) هو ابن عبد الله
الأنصاري (رضي الله تعالى عنه) وعن أبيه أنه (قال: عادني
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر)
الصديق رضي الله تعالى عنه من مرض (في بني سلمة) بكسر
اللام قوم جابر بطن من الخزرج حال كونهما (ماشيين فوجدني
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا أعقل) أي لا
أفهم، وزاد أبو ذر عن الكشميهني شيئًا وفي الاعتصام فأتاني
وقد أغمي عليّ (فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليّ) أي نفس
الماء الذي توضأ به (فأفقت) من الإغماء (فقلت: ما تأمرني
أن أصنع في مالي يا رسول الله؟) وفي رواية شعبة عن محمد بن
المنكدر عند المؤلّف في الطهارة فقلت: يا رسول الله لمن
الميراث
إنما يرثني كلالة (فنزلت: ({يوصيكم الله في أولادكم}) كذا
لابن جريج قال الدمياطي وهو وهم والذي نزل في جابر:
{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176] كذا
رواه شعبة والثوري عن ابن المنكدر ويؤيده ما في بعض طرقه
من قول جابر إنما يرثني كلالة والكلالة من لا والد له ولا
ولد ولم يكن لجابر حينئذ ولد ولا والد اهـ.
وفي مسلم عن عمرو الناقد والنسائي عن محمد بن منصور كلاهما
عن ابن عيينة عن ابن المنكدر حتى نزلت عليه آية الميراث
{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} وقد ساق البخاري
حديث جابر عن قتيبة عن ابن عيينة في أول كتاب الفرائض، وفي
آخره حتى نزلت آية الميراث ولم يذكر ما زاده الناقد.
قال في الفتح: فأشعر بأن الزيادة عنده مدرجة من كلام ابن
عيينة ولم ينفرد ابن جريج بتعيين الآية المذكورة فقد ذكرها
ابن عيينة على الاختلاف عنه، والحاصل أن المحفوظ عن ابن
المنكدر أنه قال: آية الميراث أو آية الفرائض، فالظاهر
أنها يوصيكم الله كما صرح به في رواية ابن جريج ومن
(7/77)
تابعه، وأما من قال إنها يستفتونك فعمدته
أن جابرًا لم يكن له حينئذ ولد وإنما كان يورث كلالة فكان
المناسب لقصته نزول يستفتونك، لكن ليس ذلك بلازم لأن
الكلالة اختلف في تفسيرها. فقيل: هي اسم المال الموروث،
وقيل اسم الميت، وقيل اسم الإرث فلما لم يتعين تفسيرها بمن
لا ولد له ولا والد لم يصح الاستدلال لأن يستفتونك نزلت في
آخر الأمر وآية المواريث نزلت قبل ذلك بمدة في ورثة سعد بن
الربيع، وكان قتل يوم أُحُد وخلف ابنتين وأمهما وأخاه فأخذ
الأخ المال فنزلت. وبه احتج من قال إنها لم تنزل في قصة
جابر وإنما نزلت في قصة ابنتي سعد بن الربيع وليس ذلك
بلازم إذ لا مانع أن تنزل في الأمرين معًا فقد ظهر أن ابن
جريج لم يهم والله أعلم.
وهذا الحديث قد سبق في الطهارة.
5 - باب {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}
هذا (باب) بالتنوين كذا لأبي ذر وله عن المستملي باب قوله
الإضافة ({ولكم نصف ما ترك أزواجكم}) [النساء: 12] إن لم
يكن لهن ولد وارث من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها
وإن سفل ذكرًا كان أو أنثى منكم أو من غيركم.
4578 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ وَرْقَاءَ
عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ الْمَالُ
لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ
لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ
لِلأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ
وَالثُّلُثَ وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ
وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي (عن ورقاء) بن
عمر اليشكري وقيل الشيباني (عن ابن أبي نجيح) اسمه عبد
الله وأبو نجيح بفتح النون وكسر الجيم آخره مهملة اسمه
يسار ضد اليمين (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن ابن عباس
-رضي الله عنهما-) أنه (قال: كان المال للولد) أي مال
الشخص إذا مات لولده (وكانت الوصية للوالدين) واجبة على ما
يراه الموصي من المساواة والتفضيل (فنسخ الله من ذلك ما
أحب) بآية المواريث (فجعل للذكر) من الأولاد (مثل حظ
الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس) إن كان للميت
ولد ذكر أو أنثى (والثلث) إن لم يكن له ولد (وجعل للمرأة)
أي الزوجة (الثمن) مع الولد (والربع) مع عدمه (وللزوج
الشطر) مع عدم الولد (والربع) عند وجوده.
وهذا الحديث قد مرّ في الوصايا.
6 - باب {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ
كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ} الآيَةَ، وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
لاَ تَعْضُلُوهُنَّ: لاَ تَقْهَرُوهُنَّ. حُوبًا: إِثْمًا.
تَعُولُوا: تَمِيلُوا. نِحْلَةً: النِّحْلَةُ الْمَهْرُ.
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({لا يحل لكم أن ترثوا
النساء كرهًا}) أن ترثوا في موضع رفع على الفاعلية بيحل أي
لا يحل لكم إرث النساء والنساء مفعول به إما على حذف مضاف
أي أن ترثوا أموال النساء والخطاب للأزواج لأنه روي أن
الرجل كان إذا لم يكن له في المرأة غرض أمسكها حتى تموت
فيرثها أو تفتدي بمالها إن لم تمت، وإما من غير حذف على
معنى أن يكن بمعنى الشيء الموروث إن كان الخطاب للأولياء
أو لأقرباء الميت كما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى،
وكرها في موضع نصب على الحال من النساء أي ترثوهن كارهات
أو مكرهات ({ولا تعضلوهن}) جزم بلا الناهية أو نصب عطف على
أن ترثوا ولا لتأكيد النفي وفي الكلام حذف أي لا تعضلوهن
من النكاح إن كان الخطاب للأولياء أو لا تعضلوهن من الطلاق
إن كان للأزواج ({لتذهبوا ببعض}) اللام متعلقة بتعضلوهن
والباء للتعدية المرادفة لهمزتها أو للمصاحبة فالجار في
محل نصب على الحال ويتعلق بمحذوف أي لتذهبوا مصحوبين ببعض
({ما آتيتموهن}) [النساء: 19] (الآية) وما: موصولة بمعنى
الذي أو نكرة موصوفة وعلى التقديرين فالعائد محذوف وسقط
ولا تعضلوهن إلى آتيتموهن لغير أبي ذر وقالوا الآية.
(ويذكر عن ابن عباس) مما وصله الطبري وابن أبي حاتم {لا
تعضلوهن} أي (لا تقهروهن) بالقاف، ولأبي ذر عن الكشميهني:
لا تنتهروهن بالنون وقوله تعالى: {إنه كان} ({حوبًا})
[النساء: 2] قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم بإسناد
صحيح أي (إثمًا) وقوله تعالى: {ذلك أدنى ألاَّ} ({تعولوا})
[النساء: 3] قال ابن عباس فيما وصله ابن المنذر أي
(تميلوا) من عال يعول إذا مال وجار وفسره الإمام الشافعي
بأن لا تكثر عيالكم وردّه جماعة كأبي
بكر بن داود الرازي والزجاج فقال الزجاج: هذا غلط من جهة
المعنى واللفظ، أما الأول فلأن إباحة السراري مع أنها مظنة
كثرة العيال كالتزوج وأما اللفظ فلأن مادة عال بمعنى أكثر
عياله من ذوات الياء لأنه من العيلة، وأما عال بمعنى حار
فمن ذوات الواو فاختلفت المادتان.
وقال صاحب النظم قال أوّلًا ألاّ تعدلوا فوجب أن يكون ضده
(7/78)
الجور، وأيضًا فقد خالف المفسرين وقد ردّ
الناس على هؤلاء، فأمّا قولهم: إن التسري أيضًا تكثر معه
العيال مع أنه مباح فممنوع لأن الأمة ليست كالمنكوحة ولذا
يعزل عنها بغير إذنها ويؤجرها ويأخذ أجرتها ينفقها عليه
وعليها وعلى أولادها ويقال عال الرجل عياله يعولهم أي
مانهم بمونهم أي أنفق عليهم، ومنه: ابدأ بنفسك ثم بمن
تعول، وحكى ابن الأعرابي عال الرجل يعول أكثر عياله وعال
يعيل افتقر وصار له عائلة.
والحاصل: أن عال يكون لازمًا ومتعديًا فاللازم يكون بمعنى
مال وجار، ومنه عال الميزان وبمعنى كثر عياله وبمعنى تفاقم
الأمر، والمضارع من كله يعول وعال الرجل افتقر وعال في
الأرض ذهب فيها، والمضارع من هذين يعيل والمتعدي يكون
بمعنى أثقل وبمعنى مان من المؤونة وبمعنى غلب ومنه عيل
صبري ومضارع هذا كله يعول وبمعنى أعجز يقال عالني الأمر أي
أعجزني، ومضارع هذا يعيل والمصدر عيل ومعيل فقد تلخص من
هذا أن عال اللازم يكون تارة من ذوات الواو وتارة من ذوات
الياء باختلاف المعنى، وكذلك عال المتعدي أيضًا فقد روى
الأزهري عن الكسائي قال: عال الرجل إذا افتقر وأعال إذا
أكثر عياله. قال: ومن العرب الفصحاء من يقول عال يعول إذا
كثر عياله. قال الأزهري: وهذا يقوي قول الشافعي لأن
الكسائي لا يحكي عن العرب إلا ما حفظه وضبطه وقول الشافعي
نفسه حجة. وحكى البغوي عن أبي حاتم قال: كان الشافعي أعلم
بلسان العرب منا ولعله لغة، وعن أبي عمرو الدوري القارئ
وكان من أئمة اللغة قال هي لغة حمير.
وأما قولهم: إنه خالف المفسرين فليس كذلك فقد روي عن زيد
بن أسلم نحو قوله أسنده الدارقطني وذكره الأزهري في كتابه
تهذيب اللغة، وأما قولهم: اختلفت المادّتان فليس بصحيح فقد
تقدم حكاية ابن الأعرابي عن العرب عال الرجل يعول كثر
عياله وحكاية الكسائي والدوري وقرأ طلحة بن مصرف: أن لا
تعيلوا بضم تاء المضارعة من أعال أكثر عياله وهي تعضد
تفسير الشافعي من حيث المعنى، وقد بسط الإمام فخر الدين
العبارة في الرد على أبي بكر الرازي وقال: الطعن لا يصدر
إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة.
وقال الزمخشري بعد أن وجه قول الشافعي بنحو ما سبق وكلام
مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق
بالجمل على الصحة والسداد وكفى بكتابنا المترجم بكتاب شافي
العين من كلام الشافعي شاهدًا بأنه أعلى كعبًا وأطول باعًا
في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا ولكن للعلماء
طرقًا وأساليب فمسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات
اهـ.
وقوله أعلى كعبًا مثل لاطلاعه على علوم العربية وكونه ذا
حظ وافر فيها.
وقوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن} ({نحلة}) [النساء: 4]
قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم والطبري (النحلة)
ولأبي ذر فالنحلة (المهر) وقيل فريضة مسماة وقيل عطية وهبة
وسمي الصداق نحلة من حيث إنه لا يجب في مقابلته غير التمتع
دون عوض مالي.
4579 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ حَدَّثَنَا
أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ،
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
الشَّيْبَانِيُّ، وَذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ
السُّوَائِيُّ وَلاَ أَظُنُّهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ
لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ} قَالَ: كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ
كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ
بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا
وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا
مِنْ أَهْلِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ.
[الحديث 4579 - طرفه في: 6948].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي قال: (حدّثنا)
ولأبي ذر: أخبرنا (أسباط بن محمد) بفتح الهمزة وسكون السين
المهملة وبالموحدة القرشي الكوفي قال: (حدّثنا الشيباني)
أبو إسحاق سليمان بن فيروز (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن
ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما (قال الشيباني): سليمان
(وذكره) أي الحديث (أبو الحسن) اسمه عطاء (السوائي) بضم
السين وتخفيف الواو ممدودًا وليس هو مهاجرًا المذكور في
باب الإبراد بالظهر لأن ذاك تيمي لا سوائي (ولا أظنه ذكره
إلا عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما فيه أن الشيباني له
فيه طريقان إحداهما موصولة وهي عكرمة عن ابن عباس،
والثانية مشكوك في وصلها وهي أبو الحسن السوائي عن ابن
عباس في قوله تعالى: ({يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن
ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما
آتيتموهن}) قال: (كانوا) أي أهل الجاهلية كما قاله السدي
أو أهل المدينة كما قاله الضحاك وقال الواحدي في الجاهلية
وأول الإسلام (إذا مات الرجل كان
(7/79)
أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوّجها)
إن كانت جميلة بصداقها الأول (وإن شاؤوا زوّجوها) لمن
أرادوا وأخذوا صداقها (وإن شاؤوا لم يزوّجوها) بل يحبسونها
حتى تموت فيرثونها أو تفتدي نفسها (فهم) بالفاء، ولأبي ذر:
وهم (أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك).
وفي رواية أبي معاوية عن الشيباني عن عكرمة وحده عن ابن
عباس في هذا الحديث تخصيص ذلك بمن مات زوجها قبل أن يدخل
بها. وعند الطبراني من طريق ابن جريج عن عكرمة أنها نزلت
في قضية خاصة قال: نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس
وكانت تحت أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه
فجاءت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت:
يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت
الآية.
وبإسناد حسن عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لما
توفي أبو قيس بن
الأسلت أراد ابنه أن يتزوّج امرأته وكان ذلك لهم في
الجاهلية فنزلت هذه الآية.
وقال زيد بن أسلم: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في
الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله وإن يعضلها حتى يرثها أو
يزوّجها من أراد، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة
حتى يطلقها ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي
منه ببعض ما أعطاها فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك. رواه
ابن أبي حاتم.
وعن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها لجاء
رجل فألقى عليها ثوبه كان أحق بها، وعنه من طريق السدّي:
إن سبق الوارث فألقى عليها ثوبه كان أحق بها وإن سبقت هي
إلى أهلها فهي أحق بنفسها.
وحديث الباب أخرجه المؤلّف أيضًا في الإكراه وأبو داود في
النكاح والنسائي في التفسير.
7 - باب {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} الآيَةَ. وَقَالَ
مَعْمَرٌ: مَوَالِىَ أَوْلِيَاءَ وَرَثَةً.
{عَاقَدَتْ أَيْمَانِكُمْ} هُوَ مَوْلَى الْيَمِينِ وَهْوَ
الْحَلِيفُ، وَالْمَوْلَى أَيْضًا ابْنُ الْعَمِّ،
وَالْمَوْلَى الْمُنْعِمُ الْمُعْتِقُ، وَالْمَوْلَى
الْمُعْتَقُ، وَالْمَوْلَى الْمَلِيكُ، وَالْمَوْلَى
مَوْلًى فِي الدِّينِ.
هذا (باب) بالتنوين كذا بإثبات الباب لأبي ذر وله عن
المستملي باب قوله بالإضافة ({ولكل جعلنا موال مما ترك
الوالدان والأقربون} الآية) [النساء: 33] زاد أبو ذر
والوقت ({والذين عاقدت أيمانكم}) أي: والذين تحالفتم
بالأيمان المؤكدة أنتم وهم فآتوهم نصيبهم من الميراث إن
الله كان على كل شيء شهيدًا أي ولكل شيء تركه الوالدان
والأقربون عينًا ورّاثًا يأخذونه ومما ترك بيان لكل وفيه
أنه فصل بينهما بعامل الموصوف، وإن جعلنا موالي صفة لكل
فالتقدير لكل طائفة جعلناهم موالي نصيب مما ترك هؤلاء أو
لكل ميت جعلنا ورثة من هذا المتروك، وفيه أيضًا ضعف لخروج
الأولاد عنه، وإن جعل التقدير لكل أحد جعلنا موالي فتكون
من صلة موالي لأنهم في معنى الورّاث. وفاعل ترك ضمير يعود
على كل الوالدان والأقربون بيان الموالي كأنه جواب من سأل
عنهم، وسقط لأبي ذر لفظ الآية.
(وقال معمر) هو ابن راشد الصنعاني كما قاله الكرماني أو
معمر بن المثنى كما قاله ابن حجر (موالي) أي (أولياء ورثة)
بنصب الكلمتين تفسيرًا للموالي وثبت لأبي ذر وقال معمر
ولأبي ذر والوقت: وقال معمر أولياء موالي بالإضافة نحو شجر
الأراك والإضافة للبيان وأولياء ورثة بالإضافة أيضًا
({عاقدت أيمانكم} هو مولى اليمين وهو الحلف) يعني أولياء
الميت الذين يلون ميراثه يحوزونه على نوعين: ولي بالإرث
وهو الوالدان والأقربون، وولى بالموالاة وعقد الولاة وهم
الذين عاقدت أيمانكم وثبت أيمانكم لأبي ذر (والمولى أيضًا
ابن العم) قاله ابن جرير نقلًا عن العرب،
وأنشد عليه قول الفضل بن العباس:
مهلًا بني عمنا مهلًا موالينا ... لا تظهرن لنا ما كان
مدفونا
(والمولى المنعم المعتق) بكسر التاء الذي أنعم على مرقوقه
بالعتق (والمولى المعتق) بفتح التاء الذي كان رقيقًا فمنّ
عليه بالعتق (والمولى المليك) لأنه يلي أمور الناس
(والمولى مولى في الدين) وقيل غير ذلك مما يطول استقصاؤه.
4580 - حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ إِدْرِيسَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ
مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا
مَوَالِيَ} قَالَ: وَرَثَةً {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ} كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا
الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُ الأَنْصَارِيَّ دُونَ
ذَوِي رَحِمِهِ لِلأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمْ فَلَمَّا
نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ ثُمَّ
قَالَ: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} مِنَ
النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَقَدْ ذَهَبَ
الْمِيرَاثُ وَيُوصِي لَهُ سَمِعَ أَبُو أُسَامَةَ
إِدْرِيسَ وَسَمِعَ إِدْرِيسُ طَلْحَةَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (الصلت بن
محمد) بفتح الصاد المهملة وسكون اللام آخره مثناة فوقية
الخاركي بخاء معجمة البصري قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد
بن أسامة (عن إدريس) بن يزيد الأودي (عن طلحة بن مصرف)
بفتح الصاد المهملة وكسر
(7/80)
الراء اليامي (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما) في قوله تعالى: ({ولكل جعلنا
موالي}) (قال: ورثة) وبه قال قتادة ومجاهد وغيرهما
({والذين عاقدت أيمانكم}) أي عاقدت ذوو أيمانكم ذوي
أيمانهم قال ابن عباس: (كان المهاجرون لما قدموا المدينة
يرث المهاجر) ولأبوي ذر والوقت: المهاجري بزيادة مثناة
تحتية مشددة (الأنصاري دون ذوي رحمه) أي أقربائه (للأخوّة
التي آخى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بينهم) بين المهاجرين والأنصار وهذا كان في ابتداء الإسلام
(فلما نزلت {ولكل جعلنا موالي} نسخت) بضم النون مبنيًا
للمفعول أي وراثة الحليف بآية {ولكل جعلنا موالي} وروى
الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان
الرجل يعاقد الرجل فإذا مات أحدهما ورثه الآخر فأنزل الله
عز وجل: ({وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من
المؤمنين والمهاجرين} [الأحزاب: 6].
ومن طريق قتادة كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول:
دمي دمك وترثني وأرثك، فلما جاء الإسلام أمروا أن يؤتوهم
نصيبهم من الميراث وهو السدس ثم نسخ ذلك بالميراث فقال:
{وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} وهذا هو المعتمد، ويحتمل
أن يكون النسخ وقع مرتين.
الأولى حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة فنزلت (ولكل
جعلنا) فصاروا جميعًا يرثون وعلى هذا يتنزل حديث ابن عباس
ثم نسخ ذلك بآية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة قاله في
الفتح.
(ثم قال) أي ابن عباس في قوله تعالى: ({والذين عاقدت
أيمانكم} من النصر والرفادة)
بكسر الراء أي المعاونة (والنصيحة) والجار والمجرور متعلق
بمحذوف أي والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم كما صرح به
الطبري في روايته عن كريب عن أبي أسامة بهذا الإسناد (وقد
ذهب الميراث) بين المتعاقدين (ويوصي له) بكسر الصاد أي
للحليف.
وهذا الحديث سبق في باب: والذين عاقدت أيمانكم في الكفالة.
(سمع أبو أسامة) حماد بن أسامة (إدريس) بن يزيد الأودي
(وسمع إدريس طلحة) بن مصرف وفيه التصريح بالتحديث، ولم
يثبت هذا إلا في رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني ما
في الفرع كأصله، وقال ابن حجر في رواية المستملي وحده
وتبعه العيني.
8 - باب {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}
يَعْنِي زِنَةَ ذَرَّةٍ
هذا (باب) بالتنوين كذا لأبي ذر وله عن المستملي باب قوله
بزيادة قوله مع الإضافة ({إن الله لا يظلم مثقال ذرة})
[النساء: 40] أي لا ينقص من ثواب أعمالهم ذرة (يعني زنة
ذرة) والذرة في الأصل أصغر النمل التي لا وزن لها وقيل ما
يرفعه الريح من التراب وقيل كل جزء من أجزاء الهباء في
الكوة ذر، ويقال زنتها ربع ورقة نخالة وورقة النخالة وزن
ربع خردلة ووزن الخردلة ربع سمسمة، ويقال لا وزن لها.
4581 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ أُنَاسًا
فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى
رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «نَعَمْ هَلْ تُضَارُّونَ
فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ ضَوْءٌ لَيْسَ
فِيهَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لاَ. قَالَ: «وَهَلْ
تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ
ضَوْءٌ لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لاَ. قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا
تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ
أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ،
فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ
الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ فِي
النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ
يَعْبُدُ اللَّهَ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ وَغُبَّرَاتُ أَهْلِ
الْكِتَابِ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَنْ
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ
ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ
اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ؟
فَقَالُوا: عَطِشْنَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا فَيُشَارُ أَلاَ
تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا
سَرَابٌ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي
النَّارِ ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ:
مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ
الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ
فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَكَذَلِكَ مِثْلَ
الأَوَّلِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ
يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ
الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ
فِيهَا، فَيُقَالُ: مَاذَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ
أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: فَارَقْنَا
النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَفْقَرِ مَا كُنَّا
إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ
رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُ فَيَقُولُ: أَنَا
رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: لاَ نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا»
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (محمد بن عبد
العزيز) الرملي يعرف بابن الواسطي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر
أخبرنا (أبو عمر) بضم العين (حفص بن ميسرة) ضدّ الميمنة
العقيلي بالضم الصنعاني نزيل عسقلان (عن زيد بن أسلم)
العدوي المدني (عن عطاء بن يسار) بالسين المهملة المخففة
الهلالي المدني مولى ميمونة (عن أبي سعيد) سعد بن مالك
(الخدري رضي الله تعالى عنه أن أناسًا) بضم الهمزة ولأبي
ذر والأصيلي وابن عساكر ناسًا بحذفها (في زمن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: يا رسول الله
هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(نعم) ترونه وهذه رؤية الامتحان المميزة بين من عبد الله
وبين من عبد غيره لا رؤية الكرامة التي هي ثواب أوليائه في
الجنة (هل تضارّون) بضم أوله ورائه مشددة بصيغة المفاعلة
أي تضرون أحدًا ولا يضركم لمنازعة ولا مجادلة ولا مضايقة
(في رؤية الشمس) ثم أكده بقوله: (بالظهيرة) وهي اشتداد حر
الشمس بالنهار في الصيف (ضوء) بالرفع وأعربه في الكواكب
بالحر بدلًا مما قبله ولمسلم صحوًا ثم زاده تأكيدًا بقوله:
{ليس فيها سحاب قالوا: لا. قال: وهل تضارّون في رؤية القمر
ليلة البدر) هي كالظهيرة في الشمس (ضوء) بالرفع أو بالجر
كما مر (ليس فيها سحاب قالوا: لا. قال: وهل تضارون
(7/81)
في رؤية القمر ليلة البدر ضوء ليس فيها
سحاب قالوا: لا). كذا في حاشية الفرع بالتكرار مصححًا عليه
وليس ذلك في اليونينية وهو تكرار لا فائدة فيه ولعله سهو
فيما يظهر (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: ما تضارون في رؤية الله عز وجل يوم القيامة
إلاّ كما تضارّون في رؤية أحدهما). والتشبيه الواقع هنا
إنما هو في الوضوح وزوال الشك لا في المقابلة والجهة وسائر
الأمور العادية عند رؤية المحدثات فالرؤية له تعالى حقيقة
لكنا لا نكيفها بل نكل كنه معرفتها إلى علمه تعالى (إذا
كان يوم القيامة أذن مؤذن) أي نادى مناد (تتبع) بسكون
المثناة الفوقية ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني تتبع
بتشديدها وله عن المستملي فتتبع بزيادة فاء مع سكون
الفوقية والرفع في كلها ويجوز الجزم بتقدير اللام (كل أمة
ما كانت تعبد فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام)
جمع صنم ما عبد من دون الله (والأنصاب) جمع نصب حجارة كانت
تعبد من دون الله (إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق
إلا من كان يعبد الله بر) هو مطيع لربه (أو فاجر) منهمك في
المعاصي والفجور (وغبرات أهل الكتاب) بضم الغين المعجمة
وتشديد الموحدة المفتوحة بعدها راء بالرفع والجر مع
الإضافة فيهما لأبي ذر وبالجر منونًا للأصيلي أي بقايا أهل
الكتاب (فيدعى اليهود فيقال لهم: من) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي ما (كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن
الله. فيقال لهم: كذبتم) في كونه ابن الله ويلزم منه نفي
عبادة ابن الله (ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا
تبغون؟) أي تطلبون (فقالوا: عطشنا ربنا) بإسقاط أداة
النداء (فاسقنا فيشار) أي إليهم (ألا تردون فيحشرون إلى
النار كأنها سراب) بالسين المهملة هو الذي تراه
نصف النهار في الأرض القفر والقنع المستوي في الحر التشديد
لامعًا مثل الماء يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده
شيئًا (يحطم) بكسر الطاء المهملة أي يكسر (بعضها بعضًا)
لشدة اتقادها وتلاطم أمواج لهبها (فيتساقطون في النار، ثم
يدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد
المسيح ابن الله. فيقال لهم: كذبتم. ما اتخذ الله من صاحبة
ولا ولد. فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فكذلك مثل الأوّل) أي
فقالوا عطشنا ربنا الخ (حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد
الله من بر أو فاجر أتاهم رب العالمين) أي ظهر لهم وأشهدهم
رؤيته من غير تكييف ولا حركة ولا انتقال (في أدنى صورة) أي
أقرب صفة (من التي رأوه) أي عرفره (فيها) بأنه لا يشبه
شيئًا من المحدثات زاد في نسخة أوّل مرة (فيقال): ولأبي ذر
فقال: (ماذا تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا:
فارقنا الناس) الذين زاغوا في الدنيا عن الطاعة (في الدنيا
على أفقر) أي أحوج (ما كنا إليهم) في معايشنا ومصالح
دنيانا (ولم نصاحبهم) بل قاطعناهم (ونحن ننتظر ربنا الذي
كنا نعبد) في الدنيا (فيقول: أنا ربكم فيقولون) زاد مسلم
في روايته نعوذ بالله منك (لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو
ثلاثًا) وإنما قالوا ذلك لأنه سبحانه وتعالى تجلى لهم بصفة
لم يعرفوها. وقال الخطابي: قيل إنما حجبهم عن تحقيق الرؤية
في هذه الكرة من أجل من معهم من المنافقين الذين لا
يستحقون الرؤية وهم عن ربهم محجوبون فإذا تميزوا عنهم رفعت
الحجب فيقولون عندما يرونه: أنت ربنا.
وبقية مباحث ذلك تأتي إن شاء الله تعالى في محلها.
9 - باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}
الْمُخْتَالُ: وَالْخَتَّالُ وَاحِدٌ.
نَطْمِسَ وُجُوهًا: نُسَوِّيَهَا حَتَّى تَعُودَ
كَأَقْفَائِهِمْ. طَمَسَ الْكِتَابَ: مَحَاهُ. سَعِيرًا:
وُقُودًا.
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({فكيف إذا جئنا من كل
أمة بشهيد}) استفهام توبيخ أي فكيف حال هؤلاء الكفار أو
صنيعهم إذا جئنا من كل أمة بنبيهم يشهد على كفرهم كقوله
تعالى: {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} [المائدة: 117]
فكيف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف والعامل في إذًا هو هذا
المقدّر أو في محل نصب بفعل محذوف أي فكيف يكونون أو
يصنعون، ويجري فيها الوجهان النصب على التشبيه بالحال كما
هو مذهب سيبويه أو على التشبيه بالظرفية كما هو مذهب
الأخفش وهو العامل في إذا أيضًا ومن كل أمة متعلق بجئنا
والمعنى أنه يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها ({وجئنا
(7/82)
بك}) يا محمد ({على هؤلاء شهيدًا})
[النساء: 41] أي تشهد على صدق هؤلاء الشهداء لحصول علمك
بعقائدهم لدلالة كتابك وشرعك على قواعدهم. وقال أبو حيان:
الأظهر أنّ هذه الجملة في موضع جر عطفًا على جئنا الأوّل
أي فكيف يصنعون في وقت المجيئين.
(المختال والختال) بفتح الخاء المعجمة والمثناة الفوقية
المشددة معناهما (واحد) كذا في رواية الأكثر ولا ينتظم هذا
مع المختال لأن المختال هو صاحب الخيلاء والكبر فهو مفتعل
من الخيلاء وأما ختال فهو فعال من الختل وهو الخديعة، فلا
يمكن أن يكون بمعنى المختال المراد به المتكبر، وللأصيلي
والخال بدون الفوقية بدل المختال وصوّبه غير واحد لأنه
يطلق على معان فيكون بمعنى الخائل وهو المتكبر. وقال
اليونيني: وعند أبي ذر والختال بالخاء والتاء ثالث الحروف
في الأصل الذي قابلت به، وأنكر ذلك شيخنا الإمام أبو عبد
الله بن مالك قال: والصواب والخال بغير تاء اهـ.
ومراده قوله تعالى: {إن الله لا يحب من كان مختالًا
فخورًا} [النساء: 36].
({نطمس وجوهًا}) [النساء: 47] أي (نسوّيها حتى تعود
كأقفائهم) حقيقة أو هو تمثيل وليس المراد حقيقته حسًّا،
وأسند الطبري عن قتادة المراد أن تعود الأوجه في الأقفية
يقال (طمس الكتاب) إذا (محاه) ومراده قوله تعالى: {من قبل
أن نطمس وجوهًا} فنطمس هنا نصب على الحكاية كما لا يخفى.
وقوله تعالى: {وكفى بجهنم} ({سعيرًا}) [النساء: 55] أي
(وقودًا) ولأبي ذر جهنم سعيرًا وقودًا ولا محل لسياق هذه
الآيات هنا فيحتمل أن يكون من النساخ.
4582 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا يَحْيَى، عَنْ
سُفْيَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ يَحْيَى: بَعْضُ
الْحَدِيثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ لِي
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اقْرَأْ
عَلَيَّ» قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ
قَالَ: «فَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»
فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} قَالَ:
«أَمْسِكْ» فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. [الحديث 4582 -
أطرافه في: 5049 - 5050 - 5055 - 5056].
وبه قال: (حدّثنا صدقة) بن الفضل المروزي قال: (أخبرنا)
ولأبي ذر أخبرني بالإفراد (يحيى) بن سعيد القطان (عن
سفيان) الثوري (عن سليمان) بن مهران الأعمش (عن إبراهيم)
النخعي (عن عبيدة) بفتح العين وكسر الموحدة ابن عمرو
السلماني (عن عبد الله) هو ابن مسعود (قال يحيى) بن سعيد
القطان بالإسناد السابق (بعض الحديث عن عمرو بن مرة) بفتح
العين ومرة بضم الميم وتشديد الراء الجملي بفتح الجيم
والميم أبي عبد الله الكوفي الأعمى أي من رواية الأعمش عن
عمرو بن مرة عن إبراهيم كما صرح بذلك في باب البكاء عند
قراءة القرآن حيث أخرجه عن مسدد عن يحيى القطان بالإسناد
المذكور، وقال بعده قال الأعمش: وبعض الحديث حدّثني عمرو
بن مرة عن إبراهيم، والحاصل أن الأعمش سمع الحديث من
إبراهيم النخعي وسمع بعضه من عمرو بن مرة عن إبراهيم يعني
عن عبيدة عن ابن مسعود أنه (قال: قال لي النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اقرأ عليّ) زاد في باب: من أحب أن يسمع القرآن من غيره من
طريق عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش القرآن وهو يصدق بالبعض
(قلت: آقرأ) بمدّ الهمزة (عليك وعليك أنزل؟ قال): (فإني
أحب أن أسمعه من غيري).
قال ابن بطال: يحتمل أن يكون أحب أن يسمعه من غيره ليكون
عرض القرآن سنة أو ليتدبره ويتفهمه، وذلك أن المستمع أقوى
على التدبر ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ لاشتغاله
بالقراءة وأحكامها وهذا بخلاف قراءته -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أبي بن كعب فإنه أراد أن يعلمه
كيف أداء القراءة ومخارج الحروف.
(فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل
أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} قال) عليه الصلاة
والسلام: (أمسك) وفي باب: البكاء عند قراءة القرآن قال لي:
كف أو أمسك على الشك (فإذا عيناه تذوفان) بالذال المعجمة
وكسر الراء خبر المبتدأ وهو عيناه وإذا للمفاجأة أي تطلقان
دمعهما وبكاؤه عليه الصلاة والسلام على المفرطين أو لعظم
ما تضمنته الآية من هول المطلع وشدة الأمر أو هو بكاء فرح
لا بكاء جزع لأنه تعالى جعل أمته شهداء على سائر الأمم كما
قال الشاعر:
طفح السرور عليّ حتى أنه ... من عظم ما قد سرّني أبكاني
وهذا الأخير نقله صاحب فتوح الغيب عن الزمخشري.
وفي هذا الحديث ثلاثة من التابعين على نسق واحد، وأخرجه
أيضًا في فضائل القرآن وكذلك النسائي.
10 - باب قَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
صَعِيدًا: وَجْهَ الأَرْضِ. وَقَالَ جَابِرٌ كَانَتِ
الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا فِي
جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ وَفِي كُلِّ
حَيٍّ وَاحِدٌ كُهَّانٌ، يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطَانُ. وَقَالَ عُمَرُ: الْجِبْتُ: السِّحْرُ.
وَالطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
الْجِبْتُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ شَيْطَانٌ.
وَالطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ.
(باب قوله) تعالى، وسقط الباب
(7/83)
وتاليه لغير أبي ذر ({وإن كنتم مرضى})
مرضًا يخاف معه من استعمال الماء أو مرضًا يمنع من الوصول
إليه والمرض انحراف مزاج تصدر معه الأفعال غير مستقيمة،
والمراد هنا كل ما يخاف منه محذور ولو شيئًا فاحشًا في عضو
ظاهر. وعن مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم أن قوله: {وإن
كنتم مرضى} نزلت في رجل من الأنصار كان مريضًا فلم يستطع
أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم يناوله فأتى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر ذلك له فأنزل
الله تعالى هذه الآية وهذا مرسل. ({أو على سفر}) طويل أو
قصير لا تجدون فيه الماء والسفر هو الخروج
عن الوطن، وينبغي أن يكون مباحًا ({أو جاء أحد منكم من
الغائط}) [النساء: 43] فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين
وأصل الغائط المطمئن من الأرض وكانت عادة العرب إتيانه
للحدث ليسترهم عن أعين الناس فكنوا به عن الخارج تسمية
للشيء باسم مكانه.
(صعيدًا) يريد تفسير قوله تعالى: {فتيمموا صعيدًا طيبًا}
قال: (وجه الأرض) بالنصب ولأبي ذر وجه الأرض بالرفع بتقدير
هو والمراد بوجه الأرض ظاهرها سواء كان عليها تراب أم لا.
ولذا قالت الحنفية لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح
أجزاءه.
وقالت الشافعية لا بدّ أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله
تعالى في سورة المائدة: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}
[المائدة: 6] أي من بعضه وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ
لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض والمسح ببعض الخشب والحجر
غير مقصود هذا وأنه وصف بالطيب والأرض الطيبة هي المنبتة
وغير الطيبة لا تنبت وغير التراب لا ينبت، والذي لا ينبت
لا يكون طيبًا فهو أمر بالتراب فقط. وقال الشافعي وهو
القدوة في اللغة وقوله فيها الحجة لا يقع اسم الصعيد إلا
على تراب ذي غبار، فأما البطحاء الغليظة والرقيقة فلا يقع
عليها اسم الصعيد فإن خالطه تراب أو مدر يكون له غبار كان
الذي خالطه هو الصعيد، وقد وافق الشافعي الفراء وأبو عبيد
وفي حديث حذيفة عند الدارقطني في سننه وأبي عوانة في صحيحه
مرفوعًا "جعلت لي الأرض مسجدًا وترابها لنا طهورًا". وعند
مسلم تربتها وهذا مفسر للآية والمفسر يقضي على المجمل.
(وقال جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري فيما وصله ابن أبي
حاتم في قوله تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت}
[النساء: 60] (كانت الطواغيت) بالمثناة جمع طاغوت (التي
يتحاكمون إليها) في الجاهلية (في) قبيلة (جهينة) طاغوت
(واحد وفي) قبيلة (أسلم) طاغوت (واحد وفي كل حي) من أحياء
العرب (واحد) وهي (كهان) بضم الكاف وتشديد الهاء جمع كاهن
(ينزل عليهم الشيطان) بالإخبار عن الكائنات في المستقبل
(وقال عمر) بن الخطاب مما هو موصول عند عبد بن حميد في
قوله تعالى: {يؤمنون بالجبت والطاغوت} [النساء: 51]
(الجبت) هو (السحر والطاغوت) هو (الشيطان وقال عكرمة) مولى
ابن عباس فيما وصله عد بن حميد أيضًا (الجبت بلسان الحبشة)
هو (شيطان والطاغوت) هو (الكاهن) وفيه جواز وقوع المعرّب
في القرآن وحمله الشافعي على توارد اللغتين.
4583 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ
هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-
قَالَتْ: هَلَكَتْ قِلاَدَةٌ لأَسْمَاءَ فَبَعَثَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
طَلَبِهَا رِجَالًا فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، وَلَيْسُوا
عَلَى وُضُوءٍ وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً فَصَلَّوْا وَهُمْ
عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَعْنِي آيَةَ
التَّيَمُّمِ {أُولِى الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]
ذَوِي الأَمْرِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (محمد) هو ابن
سلام البيكندي كما في رواية أبي ذر في الجهاد وبه جزم
الكلاباذي وابن عساكر وغيرهما قال: (أخبرنا عبدة) بفتح
العين وسكون الموحدة ابن سليمان الكوفي يقال اسمه عبد
الرحمن (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة رضي
الله عنها) أنها (قالت: هلكت) أي ضاعت (قلادة) بكسر القاف
كان ثمنها اثني عشر درهمًا (لأسماء) بنت أبي بكر كانت
عائشة استعارتها منها وقولها في كتاب التيمم انقطع عقد لي
فإضافتها لها إنما ذلك باعتبار حيازتها لذلك واستيلائها
لمنفعته (فبعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في طلبها رجالًا) هم أسيد بن حضير ومن تبعه (فحضرت الصلاة
وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء
فأنزل الله تعالى يعني آية التيمم) وسقط لأبي ذر قوله يعني
آية، وحينئذٍ على المفعولية.
(7/84)
وهذا الحديث سبق تامًّا في كتاب التيمم.
(أولي الأمر) ولغير أبي ذر باب قوله تعالى: ({أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر} {منكم}) [النساء: 59] أي (ذوي
الأمر) وهم الخلفاء الراشدون ومن سلك طريقهم في رعاية
العدل ويدرج فيهم القضاة وأمراء السرية أمر الله تعالى
الناس بطاعتهم بعد ما أمرهم بالعدل تنبيهًا على أن وجوب
طاعتهم ما داموا على الحق وقيل علماء الشرع لقوله تعالى:
{ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذي
يستنبطونه منهم} [النساء: 83].
4584 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا
حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- {أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأَمْرِ مِنْكُمْ}
قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ
قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَرِيَّةٍ.
وبه قال: (حدّثنا صدقة بن الفضل) المروزي ولابن السكن فيما
ذكره في الفتح حدّثنا سنيد بضم المهملة وفتح النون وبعد
التحتية الساكنة دال مهملة بدل صدقة واسم والد سنيد داود
المصيصي ضعف أبو حاتم سنيدًا قال: (أخبرنا حجاج بن محمد)
المصيصي الأعور (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن
يعلى بن مسلم) بفتح التحتية وسكون العين وفتح اللام ومسلم
بضم الميم وسكون السين المهملة ابن هرمز (عن سعيد بن جبير)
الأسدي مولاهم الكوفي (عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما)
في قوله تعالى: ({أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم} قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي)
القرشي السهمي من قدماء المهاجرين توفي بمصر في خلافة
عثمان رضي الله تعالى عنهما (إذ بعثه النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سرية) وكانت فيه دعابة أي
لعب فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارًا يصطلون عليها فقال:
عزمت عليكم إلا تواثبتم في هذه النار فلما همَّ بعضهم بذلك
قال: أجلسوا إنما كنت أمزح فذكروا ذلك للنبي فقال: "من
أمركم بمعصية فلا تطيعوه" رواه ابن سعد.
وبوّب عليه البخاري فقال: سرية عبد الله بن حذافة السهمي
وعلقمة بن مجزز المدلجي ويقال إنها سرية الأنصاري ثم روي
عن عليّ قال: بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سرية واستعمل رجلًا من الأنصار وأمرهم أن
يطيعوه فغضب فقال: أليس قد أمركم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تطيعوني؟ قالوا: بلى قال: فاجمعوا
لي حطبًا فجمعوا فقال: أوقدوا نارًا فأوقدوها، فقال ادخلوا
فهمّوا، وجعل بعضهم يمسك بعضًا ويقولون: فررنا إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من النار فما زالوا
حتى خمدت النار فسكن غضبه، فبلغ ذلك النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى
يوم القيامة الطاعة في المعروف واختلاف السياقين يدل على
التعدد، لا سيما وعبد الله بن حذافة مهاجري قرشي والذي في
حديث عليّ أنصاري، وقد اعترض الداودي على القول بأن الآية
نزلت في عبد الله بن حذافة بأنه وهم من غير ابن عباس لأن
الآية إن كانت نزلت قبل هذه القصة فكيف يخص عبد الله بن
حذافة بالطاعة دون غيره، وإن كانت بعد فإنما قيل لهم إنما
الطاعة في المعروف وما قيل لهم لم لم تطيعوه؟.
وأجاب في الفتح بأن المراد من قصة ابن حذافة قوله تعالى:
{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59]
لأن أهل السرية تنازعوا في امتثال ما أمرهم به فالذين هموا
أن يطيعوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة والذين امتنعوا
عارض عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما
يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع وهو الرد إلى الله إلى
رسوله.
11 - باب {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({فلا وربك}) أي فوربك
ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله: ({لا
يؤمنون}) لأنها تزاد أيضًا في الإثبات كقوله تعالى: {لا
أقسم بهذا البلد} [البلد: 1] قاله في الأنوار كالكشاف
وعبارته بعد ذكره نحو ما سبق.
فإن قلت: هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في لا يؤمنون قلت:
يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه وذلك قوله تعالى: {فلا
أقسم بما تبصرون قومًا لا تبصرون إنه لقول رسول كريم}
[الحاقة: 38 - 40] انتهى.
قال في الانتصاف: أراد الزمخشري أنها لما زيدت حيث لا يكون
القسم نفيًا دلت على أنها إنما تزاد لتأكيد القسم فجعلت
كذلك في النفي والظاهر عندي أنها هنا لتوطئة القسم وهو لم
يذكر مانعًا منه إنما ذكر محملًا لغير هذا وذلك لا يأبى
مجيئها في النفي على الوجه الآخر
(7/85)
من التوطئة على أن دخولها على المثبت فيه
نظر فلم تأت في الكتاب العزيز إلا مع القسم بالفعل {لا
أقسم بهذا البلد} [البلد: 1] {لا أقسم بيوم القيامة}
[القيامة: 1] {فلا أقسم بمواقع النجوم} [الواقعة: 75] {فلا
أقسم بما تبصرون} [الحاقة: 38] ولم يأت إلا في القسم بغير
الله وله سرّ يأبى أن يكون هاهنا لتأكيد القسم، وذلك أن
المراد بها تعظيم المقسم به في الآيات المذكورة فكأنه
بدخولها يقول إعظامي لهذه الأشياء المقسم بها كلا إعظام إذ
هي تستوجب فوق ذلك وإنما يذكر هذا لتوهم وقوع عدم تعظيمها
فيؤكد بذلك وبفعل القسم
ظاهرًا، وفي القسم بالله الوهم زائل فلا يحتاج إلى تأكيد
فتعين حملها على التوطئة ولا تكاد تجدها في غير الكتاب
العزيز داخلة على قسم مثبت أما في النفي فكثير اهـ.
وقيل: إن لا الثانية زائدة والقسم معترض بين حرف النفي
والمنفي، وكان التقدير فلا يؤمنون وربك ({حتى يحكموك فيما
شجر بينهم}) [النساء: 65] أي فيما اختلف بينهم واختلط وحتى
غاية متعلقة بقوله لا يؤمنون أي ينتفي عنهم الإيمان إلى
هذه الغاية وهي تحكيمك وعدم وجدانهم الحرج وتسليمهم لأمرك.
4585 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَاصَمَ
الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ فِي شَرِيجٍ مِنَ
الْحَرَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ
إِلَى جَارِكَ» فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ
ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ
حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ
إِلَى جَارِكَ» وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ
الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الأَنْصَارِيُّ كَانَ أَشَارَ
عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ قَالَ
الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَاتِ إِلاَّ
نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
محمد بن جعفر) هو غندر قال: (أخبرنا معمر) بميمين مفتوحتين
بينهما عين مهملة ساكنة ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم
بن شهاب (عن عروة) بن الزبير أنه (قال: خاصم الزبير) بن
العوّام (رجلًا من الأنصار) هو ثابت بن قيس بن شماس وقيل
حميد وقيل حاطب بن أبي بلتعة (في شريج) بفتح الشين المعجمة
وكسر الراء آخره جيم مسيل الماء يكون فى الجبل وينزل إلى
السهل (من الحرة) بفتح الحاء وتشديد الراء المهملتين خارج
المدينة زاد في باب سكر الأنهار من الشرب، فقال الأنصاري
سرّح الماء فأبى عليه فاختصما عند النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: اسق يا زبير ثم أرسل الماء) بهمزة قطع مفتوحة
في أرسل (إلى جارك) الأنصاري (فقال الأنصاري: يا رسول الله
أن كان) بفتح الهمزة أي حكمت له بالتقديم والترجيح لأن كان
(ابن عمتك) صفية بنت عبد المطلب، ولأبي ذر عن الكشميهني:
آن كان بهمزة مفتوحة ممدودة استفهام إنكاري وله عن الحموي
والمستملي وأن كان بواو وفتح الهمزة، ووقع عند الطبري
فقال: اعدل يا رسول الله وأن كان ابن عمتك أي من أجل هذا
حكمت له عليّ (فتلون وجهه) عليه الصلاة والسلام أي تغيّر
من الغضب لانتهاك حرمة النبوّة، ولأبوي ذر والوقت: فتلون
وجه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ثم
قال: اسق يا زيير ثم احبس الماء) بهمزة وصل فيهما (حتى
يرجع) يصير الماء (إلى الجدر) بفتح الجيم وسكون المهملة ما
وضع بين شربات النخل كالجدار والمراد به جدران الشربات وهي
الحفر التي تحفر في أصول النخل (ثم أرسل الماء إلى جارك)
بهمزة قطع في أرسل (واستوعى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للزبير حقه) أي استوفاه كله كاملًا
حتى كأنه
جمعه في وعاء بحيث لم يترك منه شيئًا (في صريح الحكم حين
أحفظه) بالحاء المهملة والفاء والظاء المعجمة أي أغضبه
(الأنصاري وكان) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(أشار عليهما) في أوّل الأمر (بأمر لهما) ولأبي ذر عن
الكشميهني له أي للأنصاري (فيه سعة) وهو الصلح على ترك بعض
حق الزبير، فلما لم يرض الأنصاري استقصى عليه الصلاة
والسلام للزبير حقه وحكم له به على الأنصاري.
(قال الزبير: فما أحسب هله الآيات إلا نزلت) وفي باب شرب
الأعلى من الأسفل من كتاب الشرب فقال الزبير: والله إن هذه
الآية أنزلت (في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما
شجر بينهم}) قيل: وكان هذا الرجل يهوديًّا. وعورض بأنه وصف
بكونه أنصاريًّا ولو كان يهوديًا لم يوصف بذلك إذ هو وصف
مدح ولا يبعد أن يبتلي غير المعصوم بمثل ذلك عند الغضب مما
هو من الصفات البشرية.
وفي المفاتح كالبغوي في معالم التنزيل، وروي أنه لما خرجا
مرّا على المقداد فقال: لمن كان القضاء؟ قال الأنصاري لابن
عمته ولوى شدقيه ففطن له
(7/86)
يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل الله
هؤلاء يشهدون أنه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم، وايم الله لقد
أذنبنا ذنبًا مرة في حياة موسى عليه الصلاة والسلام فدعانا
إلى التوبة فقال: اقتلوا أنفسكم فبلغ قتلانا سبعين ألفًا
في طاعة ربنا حتى رضي عنا، فقال ثابت بن قيس بن شماس: إن
الله ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعل.
12 - باب {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({فأولئك}) أي من أطاع
الله والرسول ({مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين})
[النساء: 69] في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية
الآخر لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وليس المراد
كون الكل في درجة واحدة لأن ذلك يقتضي التسوية في الدرجة
بين الفاضل والمفضول وهو غير جائز، والأظهر أن قوله: من
النبيين بيان للذين أنعم الله عليهم، وجوّز تعلق من
النبيين بيطع أي: {ومن يطع الله والرسول} من النبيين ومن
بعدهم ويكون قوله: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم}
إشارة إلى الملأ الأعلى ثم قال: {وحسن أولئك رفيقًا}.
ويبين ذلك قوله عليه الصلاة والسلام عند الموت "اللهم
ألحقني بالرفيق الأعلى" قاله الراغب، وتعقبه أبو حيان
فأفسده معنى وصناعة، أما المعنى فلأن الرسول هنا هو محمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد أخبر تعالى أنه
من يطع الله ورسوله فهو مع من ذكر ولو جعل من النبيين
متعلقًا بيطع لكان من النبيين تفسيرًا لمن الشرطية، فيلزم
أن يكون في زمانه عليه الصلاة والسلام أو بعده أنبياء
يطيعونه وهذا غير ممكن لقوله تعالى: {وخاتم النبيين}
ولقوله عليه الصلاة والسلام "لا نبي بعدي".
وأما الصناعة؛ فلأن ما قبل الفاء الواقعة جوابًا للشرط لا
يعمل فيما بعدها. لو قلت إن تضرب يقم عمرو زيدًا لم يجز،
وسقط قوله باب لغير أبي ذر.
4586 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-
قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ
إِلاَّ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»، وَكَانَ
فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ
شَدِيدَةٌ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " {مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}
[النساء: 69] " فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله بن حوشب) بفتح الحاء
المهملة والشين المعجمة بينهما واو ساكنة الطائفي نزيل
الكوفة قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ولأبي ذر
عن إبراهيم بن سعد (عن أبيه) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن
بن عوف الزهري (عن عروة) بن الزبير (عن عائشة رضي الله
تعالى عنها) أنها (قالت: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبوي ذر والوقت النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(ما من نبي يمرض) بفتح التحتية والراء بينهما ميم ساكنة
(إلا خير بين) المقام في (الدنيا و) الرحلة إلى (الآخرة)
(وكان في شكواه الذي قبض فيه) ولأبي ذر عن الكشميهني. التي
قبض فيها (أخذته بحة شديدة) بضم الموحدة وتشديد الحاء
المهملة غلظ صوت وخشونة حلق فسمعته يقول: ({مع الذين أنعم
الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}
فعلمت أنه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (خُير)
بضم الخاء المعجمة أي بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة،
وهذا معنى قوله في الحديث الآخر: (اللهم الرفيق الأعلى)
ثلاثًا.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن رجلًا من الأنصار جاء
إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو محزون
فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا
فلان ما لي أراك محزونًا"؟ فقال: يا نبي الله شيء فكرت
فيه. قال: "وما هو"؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح وننظر إلى
وجهك ونجالسك غدًا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فلم يرد
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا فأتاه
جبريل بهذه الآية {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين
أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين
وحسن أولئك رفيقًا} قال: فبعث إليه النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبشره. رواه ابن جرير من حديث سعيد بن
جبريل مرسلًا.
ورواه الطبراني عن عائشة مرفوعًا بلفظ فقال: يا رسول الله
إنك لأحب إليّ من نفسي وأهلي ومالي وإني لأكون في البيت
فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فانظر إليك وإذا ذكرت موتك عرفت
أنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة خشيت أني لا أراك،
فلم يرد عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حتى نزل عليه جبريل عليه السلام بهذه الآية. وقد سمى
الواحدي وغيره الرجل ثوبان. وقد ثبت في غير ما حديث من طرق
كثيرة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(7/87)
قال: "المرء مع من أحب".
13 - باب قَوْلُهُ: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِيَن مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ) الآيَةَ
(قوله) تعالى: ({وما لكم}) ولأبي ذر باب بالتنوين في قوله
تعالى: {وما لكم} وما مبتدأ ولكم خبره وجملة ({لا تقاتلون
في سبيل الله}) الأظهر أنها في موضع نصب على الحال أي ما
لكم غير مقاتلين والعامل في هذه الحال الاستقرار القدر
({والمستضعفين}) جر على الأظهر بالعطف على سبيل الله أي في
سبيل الله وفي خلاص المستضعفين وهم الذين أسلموا بمكة
ومنعهم المشركون من الهجرة ({من الرجال والنساء}) فبقوا
بين أظهرهم مستذلين يلقون منهم الأذى الشديد (الآية) كذا
لأبي ذر ولغيره بعد قوله: {من الرجال والنساء} إلى {الظالم
أهلها} الظالم: صفة للقرية وهي مكة، وأهلها رفع به على
الفاعلية وهم كفرة قريش وأل في الظالم موصولة بمعنى التي
أي التي ظلم أهلها بالكفر، فالظالم جار علي القرية لفظًا
وهو لما بعدها معنى.
4587 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ:
سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي
مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن محمد) المسندي
قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عبيد الله) بضم العين
مصغرًا ابن أبي يزيد المكي أنه (قال: سمعت ابن عباس) رضي
الله تعالى عنهما (قال: كنت أنا وأمي) أم الفضل لبابة بنت
الحرث الهلالية، (من المستضعفين) في مكة، وزاد أبو ذر من
الرجال والنساء والولدان، ومراده حكاية الآية، وإلا فهو من
الولدان جمع وليد وهو الصغير وأمه من المستضعفين.
4588 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَلاَ {إِلاَّ
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ} قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ
عَذَرَ اللَّهُ. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَصِرَتْ:
ضَاقَتْ. تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ الْمُرَاغَمُ: الْمُهَاجَرُ. رَاغَمْتُ:
هَاجَرْتُ قَوْمِي. مَوْقُوتًا: مُوَقَّتًا وَقْتَهُ
عَلَيْهِمْ.
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي بشين معجمة وحاء
مهملة قال: (حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم الجهضمي
الأزدي (عن أيوب) السختياني (عن ابن أبي مليكة) عبد الله
بن عبد الرحمن (أن ابن عباس) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (تلا) قرأ قوله تعالى: ({إلا
المستضعفين من الرجال والنساء والولدان} قال: كنت أنا وأمي
ممن عذر الله) بالذال المعجمة أي ممن جعلهم الله تعالى من
المعذورين المستضعفين.
(ويذكر عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما مما وصله ابن
أبي حاتم في تفسيره في قوله تعالى: {حصرت} [النساء: 90] أي
(ضاقت) صدورهم وعنه أيضًا مما وصله الطبري في قوله
تعالى: ({وإن} {تلووا}) [النساء: 135] أي (ألسنتكم
بالشهادة) أو تعرضوا عنها وسقط قوله تلووا الخ لأبي ذر
(وقال غيره) أي غير ابن عباس في قوله تعالى: {مراغمًا
كثيرًا} [النساء: 100] وسعة (المراغم) بفتح الغين المعجمة
هو (المهاجر) بفتح الجيم. قال أبو عبيدة: المراغم والمهاجر
واحد تقول: (راغمت) أي (هاجرت قومي). وقال أبو عبيدة في
قوله تعالى: {كتابًا} ({موقوتًا}) [النساء: 103] أي
(موقتًا وقته عليهم) تبارك وتعالى وسقط قوله موقوتًا الخ
لأبي ذر.
14 - باب {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بَدَّدَهُمْ. فِئَةٌ: جَمَاعَةٌ
({فما لكم}) ولأبي ذر باب بالتنوين أي في قوله تعالى: {فما
لكم} مبتدأ وخبر ({في المنافقين}) يجوز تعلقه بما تعلق به
الخبر وهو لكم ويجوز تعلقه بمحذوف على أنه حال من
({فئتين}) والمعنى ما لكم لا تتفقون في شأنهم بل افترقتم
في شأنهم بالخلاف في نفاقهم مع ظهوره ({والله أركسهم})
ردهم في حكم المشركين كما كانوا ({بما كسبوا}) الباء سببية
وما مصدرية أو بمعنى الذي والعائد محذوف على الثاني لا
الأوّل وسقط لغير أبوي ذر والوقت بما كسبوا.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما وصله الطبري في قوله:
({أركسهم}) أي (بددهم) يعني فرقهم ومزق شملهم وقوله: (فئة)
واحد فئتين ومعناه (جماعة) كقوله تعالى: {كم من فئة قليلة}
[البقرة: 249] {وفئة تقاتل في سبيل الله} [آل عمران: 13].
4589 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالاَ: حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- {فَمَا
لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} رَجَعَ نَاسٌ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مِنْ أُحُدٍ وَكَانَ النَّاسُ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ،
فَرِيقٌ يَقُولُ: اقْتُلْهُمْ، وَفَرِيقٌ يَقُولُ: لاَ.
فَنَزَلَتْ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ
فِئَتَيْنِ} وَقَالَ: إِنَّهَا طَيْبَةُ، تَنْفِي
الْخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) هو بندار
العبدي قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر (وعبد الرحمن) بن
مهدي (قالا: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عدي) بفتح العين
وكسر الدال المهملتين ابن ثابت التابعي (عن عبد الله بن
يزيد) الخطمي الصحابي (عن زيد بن ثابت) الأنصاري (رضي الله
تعالى عنه) أنه قال في قوله تعالى: ({فما لكم في المنافقين
فئتين} رجع ناس من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من أحد) وهم عبد الله بن أبيّ المنافق وأتباعه
وكانوا ثلاثمائة وبقي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في سبعمائة (وكان الناس فيهم فرقتين فريق يقول
اقتلهم) يا رسول الله فإنهم منافقون
(وفريق يقول لا) تقتلهم فإنهم تكلموا بكلمة الإسلام
(فنزلت: {فما لكم في المنافقين
(7/88)
فئتين} وقال): أي النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولأبي ذر: فقال:
(إنها) أي المدينة (طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث
الفضة) ولأبي ذر عن الحموي خبث الحديد بدل الفضة، وقيل
نزلت في قوم رجعوا إلى مكة وارتدوا وقيل في عبد الله بن
أبي المنافق لما تكلم في حديث الإفك وتقاولت الأوس والخزرج
بسببه. قال ابن كثير: وهذا غريب وقيل غير ذلك.
0000 - باب {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ
الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} أَيْ أَفْشَوْهُ.
يَسْتَنْبِطُونَهُ: يَسْتَخْرِجُونَهُ. حَسِيبًا:
كَافِيًا. إِلاَّ إِنَاثًا: يَعْنِي الْمَوَاتَ حَجَرًا
أَوْ مَدَرًا وَمَا أَشْبَهَهُ. مَرِيدًا: مُتَمَرِّدًا.
فَلَيُبَتِّكُنَّ: بَتَّكَهُ قَطَّعَهُ. قِيلًا وَقَوْلًا:
وَاحِدٌ. طُبِعَ: خُتِمَ.
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وإذا جاءهم}) أي
ضعفاء المؤمنين أو المنافقين ({أمر من الأمن}) كفتح أو
غنيمة ({أو الخوف}) كقتل وهزيمة عن سرايا رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعوثه ({أذاعوا به}
أي أفشوه) بين الناس قبل أن يخبر به الرسول -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيضعف بذلك قلوب المؤمنين؛
ولو ردّوا ذلك الأمر إلى الرسول وإلى كبار الصحابة
العارفين بمصالح الأمور ومفاسدها لعلم تدبير ما أخبروا به
الذين ({يستنبطونه}) [النساء: 83] أي (يستخرجونه) وفيه
إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها
ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها صحة. وفي حديث أبي هريرة
مرفوعًا (كفى بالمرء إثمًا أن يحدّث بكل ما سمع) رواه مسلم
وسقط التبويب، وقوله: ({وإذا جاءهم أمر من الأمن}) لغير
أبوي ذر والوقت ولغير أبي ذر لفظة أي من قوله أي أفشوه.
({حسيبًا}) يريد قوله تعالى: {إن الله كان على كل شيء
حسيبًا} [النساء: 86] أي (كافيًا) وسقط هذا لأبي ذر ({إلا
إناثًا}) يريد قوله تعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثًا}
[النساء: 117] أي ما يعبدون من دون الله إلا إناثًا لأن كل
من عبد شيئًا فقد دعاه لحاجته وإناثًا (يعني الموات حجرًا
أو مدرًا وما أشبهه) قال الحسن: كل شيء لا روح فيه كالحجر
والخشبة في إناث، وقد كانوا يسمون أصنامهم بأسماء الإناث
فيقولون: اللات والعزى ومناة، وعن الحسن أن لكل قبيلة
صنمًا يدعى أنثى بني فلان وذلك لقولهم: هنهن بنات الله أو
قولهم الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله
زلفى اتخذوا أربابًا وصوروهن صور الجواري وقالوا هؤلاء
يشبهن بنات الله الذي نعبده يعنون الملائكة. وعن كعب في
الآية قال: مع كل صنم جنية. رواه ابن أبي حاتم وسقط لفظ
يعني لغير أبي ذر.
({مريدًا}) يريد قوله تعالى: {وإن يدعون} أي ما يدعون
بعبادة الأصنام {إلا شيطانًا مريدًا} [النساء: 117] أي
(متمردًا) قال قتادة فيما رواه ابن أبي حاتم متمردًا على
معصية الله
تعالى. قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا
تعبدوا الشيطان} [يس: 60] وسقط قوله: {مريدًا} متمردًا
للكشميهني والحموي.
({فليبتكن}) هو من حكاية قول الشيطان في قوله تعالى: {وقال
لأتخذنّ من عبادك نصيبًا مفروضًا} [النساء: 118] أي حظًّا
مقدرًا معلومًا {ولأضلّنهم} أي عن طريق الحق {ولأمنينّهم}
من طول العمر وبلوغ الأمل وتوقع الرحمة للمذنب بغير توبة
أو الخروج من النار بالشفاعة {ولآمرنهم فليبتكن آذان
الأنعام} [النساء: 118، 119] (بتكه) أي (قطعه) وقد كانوا
يشقون أذني الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرًا
وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ولا يردونها عن ماء ولا
مرعى.
({قيلًا}) يريد قوله تعالى: {ومن أصدق من الله قيلًا}
[النساء: 122] والنصب على التمييز وقيلًا (وقولًا واحد)
وقالًا الثلاثة مصادر بمعنى (طبع) بضم الطاء وكسر الموحدة
أي (ختم) يريد تفسير قوله تعالى: {طبع الله على قلوبهم}
[النحل: 158] ولم يذكر المؤلّف حديثًا في هذا الباب.
قال الحافظ ابن كثير: فنذكر هنا عند تفسير آية الباب حديث
عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- المتفق عليه حين بلغه أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طلّق نساءه
فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك فلم
يصبر حتى استأذن على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فاستفهمه أطلقت نساءك؟ قال "لا" فقلت الله أكبر
وذكر الحديث بطوله: وعند مسلم فقلت: أطلقتهن؟ فقال: "لا"
فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق نساءه
ونزلت هذه الآية {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا
به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم} فكنت أنا أستنبط ذلك الأمر.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه القصة عند
(7/89)
البخاري لكن بدون هذه الزيادة فليست على
شرطه فكأنه أشار إليها بهذه الترجمة اهـ.
وظاهر قول المفسرين السابق أن سبب نزول هذه الآية الإخبار
عن السرايا والبعوث بالأمن أو الخوف وهو خلاف ما في حديث
مسلم.
15 - باب {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ومن يقتل مؤمنًا})
حال كونه ({متعمدًا فجزاؤه جهنم}) [النساء: 93] خبر ومن
يقتل ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وتمام الآية
{خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا
عظيمًا} [النساء: 93] وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد. اشتمل
على أنواع من العذاب لم تجتمع في غير هذا الذنب العظيم
المقرون بالشرك في غير ما آية، ومن ثم قال ابن عباس: إن
قاتل المؤمن عمدًا لا تقبل توبته.
4590 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ:
سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: آيَةٌ اخْتَلَفَ
فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ
الآيَةُ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] هِيَ آخِرُ مَا
نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ.
وبه قال: (حدّثنا آدم بن أبي إياس) العسقلاني الخراساني
الأصل قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا مغيرة بن
النعمان) النخعي الكوفي (قال: سمعت سعيد بن جبير) الأسدي
مولاهم الكوفي (قال: آية اختلف فيها) أي في حكمها (أهل
الكوفة) وسقط قوله آية لغير أبوي ذر والوقت (فرحلت فيها)
بالراء والحاء المهملة ولأبي ذر فدخلت بالدال والخاء
المعجمة أي بعد رحلتي (إلى ابن عباس فسألته عنها؟ فقال:
نزلت هده الآية: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} هي
آخر ما نزل) في هذا الباب (وما نسخها شيء).
وروى أحمد والطبري من طريق يحيى الجابر والنسائي وابن ماجة
من طريق عمار الذهبي كلاهما عن سالم بن أبي الجعد قال: كنا
عند ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه: يا عبد
الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال:
{جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له
عذابًا عظيمًا}. قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحًا ثم اهتدى؟
قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى والذي نفسي
بيده لقد سمعت نبيكم يقول: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدًا
جاء يوم القيامة آخذ بيمينه تشخب أوداجه، ثم قال: وايم
الذي نفسي بيده لقد أنزلت هذه الآية وما نسختها من آية حتى
قبض نبيكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة وقال به جماعة من
السلف وهو محمول عند الجمهور على الزجر والتغليظ للدلائل
الدالة على خلافه، وإلاّ فكل ذنب ممحوّ بالتوبة وناهيك
بمحو الشرك دليلًا فهو في التغليظ كحديث "لزوال الدنيا
أهون عند الله من قتل رجل مسلم" وحديث "من أعان على قتل
مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه
آيسًا من رحمة الله" وكقوله تعالى: ({ومن كفر فإن الله غني
عن العالمين}) [آل عمران: 97] أي لم يحج تغليظًا وتشديدًا،
وكل ذلك لا يعارض نصوص الكتاب الدالة على عموم العفو فلا
بد من التخصيص بمن لم يتب أو فعله مستحلًا أو الخلود المكث
الطويل، فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم
عذابهم والحق أنه متى صدر عن المؤمن مثل هذا الذنب فمات
ولم يتب فحكمه إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر
ما يشاء ثم يخرجه إلى الجنة وفي سنن أبي داود عن أبي مجلز
هي جزاؤه فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعل قال الواحدي
والأصل أن الله تعالى يجوز أن يخلف الوعيد وإن كان لا يجوز
أن يخلف الوعد وبهذا وردت السنة فإذن لا مدخل لذكر التوبة
وتركها في الآية ولا يفتقر إخراج المؤمن من النار إلى دليل
ولا إلى تخصيص عام ولا إلى تفسير الخلود بالمكث الطويل
قاله في فتوح الغيب، وسيكون لنا إن شاء الله عودة إلى
البحث في ذلك في سورة الفرقان بعون الله وقوته.
16 - باب {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] السِّلْمُ
وَالسَّلَمُ وَالسَّلاَمُ: وَاحِدٌ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وَلاَ تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا})
[النساء: 94] اللام في لمن للتبليغ، ومن موصولة أو موصوفة
وألقى ماضي اللفظ لكنه بمعنى المستقبل أي لمن يلقي لأن
النهي لا يكون عما انقضى أي لا تقولوا لمن حياكم بتحية
السلام أنه وإنما قالها تعوذًا فتقدموا عليه بالسيف
لتأخذوا ماله ولكن كفوا واقبلوا منه ما أظهر لكم (السلم)
بكسر السين وسكون اللام وهي قراءة رويس عن عاصم بن أبي
النجود (والسلم)
(7/90)
بفتحهما من غير ألف وهي قراءة نافع وابن
عامر وحمزة وفي الفرع والسلم بسكون اللام بعد فتح وروي عن
عاصم الجحدري (والسلام) بفتحهما ثم ألف وهي قراءة الباقين
(واحد) أي في المعنى وهو الاستسلام والانقياد واستعمال ذي
الألف في التحتية أكثر.
4591 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرو، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ
أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قَالَ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ
فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ
فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: {عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا} تِلْكَ الْغُنَيْمَةُ قَالَ: قَرَأَ ابْنُ
عَبَّاسٍ السَّلاَمَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (علي بن عبد
الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو
ابن دينار (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن ابن عباس -رضي
الله عنهما-) في قوله تعالى: ({ولا تقولوا لمن ألقى إليكم
السلام لست مؤمنًا} قال) عطاء: (قال ابن عباس: كان رجل) هو
عامر بن الأضبط (في غنيمة له) بضم الغين وفتح النون تصغير
غنم (فلحقه المسلمون) وكانوا في سرية (فقال) أي الرجل لهم
(السلام عليكم) وعند أحمد والترمذي من طريق سماك عن عكرمة
عن ابن عباس قالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا (فقتلوه)
وكان الذي قتله محلم بن جثامة كما ذكره البغوي في معجم
الصحابة وكان أمير السرية أبو قتادة كذا نقله في المقدمة،
وكذا رواه ابن إسحاق في المغازي وأحمد من طريقه عن عبد
الله بن أبي حدرد الأسلمي بلفظ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة
ومحلم بن جثامة فأمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم
علينا فحمل عليه محلم فقتله (وأخذوا غنيمته) وفي رواية
سماك وأتوا بغنمه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فأنزل الله في ذلك) يعني قوله: {يا أيها الذين
آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله} ولأبي ذر وذلك (إلى قوله:
{عرض الحياة}) ولأبي ذر إلى قوله تبتغون عرض الحياة
({الدنيا}) أي حطامها وهو (تلك الغنيمة).
وروى الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن
اسم المقتول مرداس بكسر الميم وسكون الراء وبالمهملتين ابن
نهيك بفتح النون وكسر الهاء آخره كاف قبلها تحتية ساكنة من
أهل فدك، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد وأن اسم أمير السرية
غالب بن فضالة الكعبي، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي وحده
وكان ألجأ غنمه إلى جبل فلما لحقوه قال لا إله إلا الله
محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد فلما
رجعوا نزلت الآية. وأخرج عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه
وكذا الطبري من طريق السدي ولا مانع من التعدد ونزول الآية
مرتين.
(قال) عطاء بن أبي رباح: (قرأ ابن عباس) -رضي الله عنهما-
(السلام) بألف بعد اللام المفتوحة وهو موصول بالإسناد
السابق.
وحديث الباب أخرجه مسلم في آخر كتابه وأبو داود في الحروب
والنسائي في السير والتفسير.
17 - باب {لاَ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
[النساء: 95]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({لا يستوي القاعدون من
المؤمنين} {والمجاهدون في سبيل الله}) [النساء: 95] كذا في
الفرع وأصله وغيرهما بإسقاط {غير أولي الضرر} وثبت ذلك في
بعضها، ولأبي ذر {من المؤمنين} الآية وسقط ما بعد ذلك.
4592 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ
بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُ رَأَى مَرْوَانَ
بْنَ الْحَكَمِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى
جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْلَى عَلَيْهِ {لاَ
يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
{وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَجَاءَهُ ابْنُ
أُمِّ مَكْتُومٍ وَهْوَ يُمِلُّهَا عَلَىَّ قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ
لَجَاهَدْتُ وَكَانَ أَعْمَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَخِذُهُ
عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ
تُرَضَّ فَخِذِي ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{غَيْرَ أُولِى الضَّرَرِ}.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) الأويسي المدني
(قال: حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن صالح بن كيسان) بفتح
الكاف التابعي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه
(قال: حدّثني) بالإفراد (سهل بن سعد الساعدي) الصحابي (أنه
رأى مروان بن الحكم) بن أبي العاص التابعي (في المسجد)
قال: (فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا) بفتح الراء (أن
زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أملى عليه {لا يستوي القاعدون من المؤمنين}
{والمجاهدون في سبيل الله}) بدون {غير أولي الضرر} (فجاءه)
عليه الصلاة والسلام (ابن أم مكتوم) عبد الله أو عمرو واسم
أبيه زائدة (وهو) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(يملها) بضم التحتية وكسر الميم وتشديد اللام أي يلقي
الآية (عليّ قال): ولأبي ذر فقال: (يا رسول الله والله لو
أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفخذه على فخذي فثقلت
عليّ) فخذه من ثقل الوحي (حتى خفت أن ترضّ) بضم الفوقية
وفتح الراء وتشديد الضاد المعجمة في الفرع كأصله بفتح
التاء وضم الراء أي تدق (فخذي
(7/91)
ثم سري) بضم المهملة وتشديد الراء المكسورة
انكشف (عنه) وأزيل يقال سروت الثوب وسريته إذا خلعته
والتشديد فيه للمبالغة أي أزيل عنه ما نزل به من برحاء
الوحي (فأنزل الله {غير أولي الضرر}) بالحركات الثلاث في
غير بالنصب نافع وابن عامر والكسائي على الاستثناء أو على
الحال، وبالرفع ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم على الصفة
للقاعدون لأن القاعدون غير معين فهو مثل قوله:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبني.
قال الزجاج: غير صفة للقاعدين وإن كان أصلها أن تكون صفة
للنكرة. المعنى: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي
الضرر أي الأصحاء والمجاهدون وإن كانوا كلهم مؤمنين،
وبالجر في الشاذ على الصفة للمؤمنين أو البدل منه.
وهذا الحديث سبق في الجهاد.
4593 - حَدَّثَنَي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ -رضي الله
عنه- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدًا فَكَتَبَهَا فَجَاءَ
ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضَرَارَتَهُ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ {غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ}.
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحارث الحوضي قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله
السبيعي (عن البراء) بن عازم (رضي الله تعالى عنه) أنه
(قال: لما نزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} دعا رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيدًا) هو ابن
ثابت كاتب الوحي فأمره بكتابتها (فكتبها فجاء ابن أم
مكتوم) الأعمى (فشكا) إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ضرارته) بفتح الضاد المعجمة أي عماه.
قال الراغب: الضرر اسم عام لكل ما يضر بالإنسان في بدنه
ونفسه وعلى سبيل الكناية عبر عن الأعمى بالضرير (فأنزل
الله {غير أولي الضرر}).
وسبق هذا الحديث في الجهاد.
4594 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ
إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ،
قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ادْعُوا فُلاَنًا» فَجَاءَهُ
وَمَعَهُ الدَّوَاةُ وَاللَّوْحُ أَوِ الْكَتِفُ فَقَالَ:
«اكْتُبْ: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
وَخَلْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا
ضَرِيرٌ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لاَ يَسْتَوِى
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى
الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
[النساء: 95].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي (عن إسرائيل) بن
يونس (عن) جده (أبي
إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن البراء) بن عازب -رضي
الله عنه- أنه (قال: لما نزلت {لا يستوي القاعدون من
المؤمنين} قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(ادعوا فلانًا) أي زيد بن ثابت فدعوه (فجاءه ومعه الدواة
واللوح أو الكتف) شك من الراوي (فقال: اكتب ولا يستوي
القاعدون من المؤمنين} {والمجاهدون في سبيل الله} وخلف
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابن أم مكتوم)
ويجمع بين قوله هنا أن ابن أم مكتوم كان خلف النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين قوله في رواية شعبة
السابقة دعا زيدًا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم بأنه قام من
مقامه خلف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى
جاء مواجهه فخاطبه (فقال: يا رسول الله أنا ضرير) أي لا
أستطيع الجهاد (فنزلت مكانها) أي في مكان الكتابة في الحال
قيل قبل أن يجف القلم ({لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير
أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله}) لم يقتصر الراوي هنا
على ذكر الكلمة الزائدة وهي غير أولي الضرر كما في
السابقة، فيحتمل أن يكون الوحي نزل بإعادة الآية بالزيادة
بعد أن نزل بدونها، فحكى الراوي صورة الحال أو نزل بقوله
(غير أولي الضرر) فقط وأعاد الراوي الآية من أوّلها حتى
يتصل المستثنى بالمستثنى منه قاله ابن التين، وأيد الأخير
الحافظ ابن حجر برواية خارجة بن زيد عن أبيه عند أحمد فإن
فيها: ثم سري عنه فقال: اقرأ فقرأت عليه ({لا يستوي
القاعدون من المؤمنين}) فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ({غير أولي الضرر}) قال زيد فألحقتها
فوالله لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف، وعند
الطبراني والبزار وصححه ابن حبان من حديث الفلتان بالفاء
واللام والفوقية المفتوحات ابن عاصم فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للكاتب: اكتب غير أولي الضرر.
4595 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَهُمْ ح
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ
الْكَرِيمِ، أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- أَخْبَرَهُ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى
بَدْرٍ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (إبراهيم بن
موسى) بن يزيد الفراء الرازي الصغير قال: (أخبرنا هشام) هو
ابن يوسف (أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبرهم
ح) لتحويل السند قال المؤلّف:
(وحدّثني) بالإفراد (إسحاق) هو ابن منصور لا ابن راهويه
قال: (أخبرنا عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا ابن جريج)
عبد الملك قال: (أخبرني) بالإفراد (عبد الكريم) الجزري
بالجيم والزاي والراء (أن مقسمًا) بكسر الميم وسكون القاف
وفتح السين المهملة ابن بجرة بضم الموحدة وسكون الجيم
ويقال نجدة بفتح النون وبدال (مولى عبد الله بن الحارث) بن
نوفل بن عبد المطلب
(7/92)
(أخبره أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أخبره) عن قوله تعالى: ({لا يستوي القاعدون من المؤمنين})
أي (عن) غزوة (بدر والخارجون إلى بدر) انفرد بإخراجه
المؤلّف دون مسلم.
وأخرجه الترمذي من طريق حجاج عن ابن جريج عن عبد الكريم
وزاد لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم
إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة؟ فنزلت: ({لا يستوي
القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر}) و {فضل الله
المجاهدين على القاعدين درجة} فهؤلاء القاعدون غير أولي
الضرر فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات
منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر، وقال: حسن
غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس، ومن قوله: {درجة} الخ
مدرج من قول ابن جريج كما بيّنه الطبري، وقال بدل قوله في
رواية الترمذي عبد الله بن جحش أبو أحمد بن جحش وهو الصواب
واسم أبي أحمد هذا عبد بغير إضافة وهو مشهور بكنيته،
والمعنى لا مساواة بين القاعدين من غير عذر وبين المجاهدين
وإن كان هذا معلومًا، لكن فائدته كما في الكشاف التذكير
بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد والتحريك إلى
الجهاد، وقوله: إن جملة فضل الله المجاهدين موضحة لما نفى
من استواء القاعدين والمجاهدين، والمعنى على القاعدين غير
أولي الضرر مع قوله بعد والمفضلون درجة واحدة هم الذين
فضلوا على القاعدين الأضراء والمفضلون درجات الذين فضلوا
على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم لأن
الغزو فرض كفاية.
تعقبه في التقريب فقال: فيه نظر لأنه فسر القاعدين بغير
أولي الضرر وإنما يستقيم على تفسيره بالأضراء كما في
المعالم وقال غيره: ولقائل أن يقول فعلى هذا لم يبق
للاستثناء معنى، لأن التقدير وفضل الله المجاهدين على
القاعدين إلا أولي الضرر فإنهم ليسوا بمفضلين.
لكن قال في فتوح الغيب: إن قوله فضل الله المجاهدين جملة
موضحة الخ المراد منه وما عطف عليه من قوله وفضل الله
الثاني كلاهما بيان للجملة الأولى ولا بد من التطابق بين
البيان والمبين والمذكور في البيان شيئان وليس في المبين
سوى ذكر غير أولي الضرر فالواجب أن يقدر ما يوافقه في
قوله: لا يستوي القاعدين أي أولو الضرر غير أولي الضرر وهو
من أسلوب الجمع التقديري لدلالة التفضيل على المفضل.
وقال الراغب: إن قيل لِمَ كرر الفضل وأوجب في الأول درجة
وفي الثاني درجات وقيدها بقوله منه وأردفها بالمغفرة
والرحمة؟ قيل: عنى بالدرجة ما يؤتيه في الدنيا مرة من
الغنيمة ومن السرور بالظفر وجميل الذكر وبالدرجات ما
يتخوّلهم في الآخرة ونبه بالإفراد في الأول وبالجمع في
الثاني على أن ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير،
وقيدها بقوله منه لتعظيمها، وأردفها بالمغفرة والرحمة
إيذانًا بالوصول إلى الدرجات بعد الخلاص من التبعات.
قال في فتوح الغيب: والذي تقتضيه البلاغة هذا وبيانه أن
قوله فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفى الاستواء فيه
والقاعدون على التقييد السابق من أن المراد به غير الأضراء
فحسب، وإنما كرر فضل الله المجاهدين ليناط به من الزيادة
ما لم ينط به أولًا فالفضل الأول الظفر والغنيمة والذكر
الجميل في الدنيا والثاني المقامات السنية والدرجات
العالية والفوز بالرضوان في العقبى، ثم
قال: هذا تفسير متين موافق للنظم لا تعقيد فيه غير محتاج
إلى جعل المجاهدين صنفين كما ينبئ عنه ظاهر الكشاف،
ويطابقه سبب النزول ويلائم حديث أنس مرفوعًا: "لقد خلفتم
في المدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا
كانوا معكم" قاله حين رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة،
والحديثان يؤذنان بالمساواة بين المجاهدين والأضراء وعليه
دلالة مفهوم الصفة والاستثناء في غير أولي الضرر، وكلام
الزجاج إلا أولو الضرر فإنهم يساوون المجاهدين يعني في أصل
الثواب لا في المضاعفة لأنها تتعلق بالفعل.
18 - باب {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ
ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ
تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}
[النساء: 97] الآيَةَ
هذا (باب)
(7/93)
بالتنوين في قوله تعالى: ({إن الذين توفاهم
الملائكة}) ملك الموت وأعوانه وهم ستة ثلاثة لقبض أرواح
المؤمنين وثلاثة للكفار أو المراد ملك الموت وحده وذكر
بلفظ الجمع للتعظيم أي توفاهم الملائكة بقبض أرواحهم حال
كونهم ({ظالمي أنفسهم}) ويصلح توفاهم أن يكون للماضي وذكر
الفعل لأنه فعل جمع وللاستقبال أي الذين تتوفاهم حذفت
التاء الثانية لاجتماع المثلين. قال في فتوح الغيب: إذا
حمل على الاستقبال يكون من باب حكاية الحال الماضية
({قالوا}) أي الملائكة لهم ({فيم كنتم}) من أمر الدين في
فريق المسلمين أو المشركين؟ والسؤال للتوبيخ يعني لِمَ
تركتم الجهاد والهجرة والنصرة؟ ({قالوا كنا مستضعفين}) أي
عاجزين ({في الأرض}) لا نقدر على الخروج من مكة ({قالوا})
أي الملائكة ({ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}
[النساء: 97] الآية). أي إلى المدينة وتخرجوا من بين أظهر
المشركين وسقط لأبي ذر قوله: كنا الخ وسقط الباب من أكثر
النسخ وثبت في بعضها.
4596 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ
الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ قَالاَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو
الأَسْوَدِ، قَالَ: قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ
بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى
ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ
أَشَدَّ النَّهْيِ ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ
عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ
الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَي بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ
فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ} الآيَةَ. رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي
الأَسْوَدِ. [الحديث 4596 - طرفه في: 7085].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يزيد المقرئ) بالهمزة أبو
عبد الرحمن المكي أصله من البصرة أو الأهواز أقرأ القرآن
نيفًا وسبعين سنة وهو من كبار شيوخ البخاري قال: (حدّثنا
حيوة) بفتح المهملة وسكون التحتية وفتح الواو ابن شريح
بالشين المعجمة المضمومة والراء المفتوحة وبعد
التحتية الساكنة مهملة أبو زرعة التجيبي بضم الفوقية وكسر
الجيم المصري (وغيره) هو ابن لهيعة المصري كما أخرجه
الطبراني في الصغير (قالا: حدّثنا محمد بن عبد الرحمن) بن
نوفل الأسدي (أبو الأسود) يتيم عروة بن الزبير (قال: قطع
على أهل المدينة بعث) بضم القاف وكسر الطاء مبنيًّا
للمفعول أي الزموا بإخراج جيش لقتال أهل الشام في خلافة
عبد الله بن الزبير على مكة (فاكتتبت فيه) بضم المثناة
الفوقية الأولى وكسر الثانية وسكون الموحدة مبنيًّا
للمفعول (فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته) بأني اكتتبت
في ذلك البعث (فنهاني عن ذلك أشد النهي ثم قال: أخبرني ابن
عباس أن ناسًا من المسلمين) سمى ابن أبي حاتم في تفسيره من
طريق ابن جريج عن عكرمة. ومن طريق ابن عيينة عن ابن إسحاق
عمرو بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج والحارث بن
زمعة وأبا قيس بن الفاكه، وعند ابن جريج أبا قيس بن الوليد
بن المغيرة، وعند ابن مردويه من طريق أشعث بن سوار عن
عكرمة عن ابن عباس الوليد بن عتبة بن ربيعة والعلاء بن
أمية بن خلف (كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبى ذر
عن الكشميهني على عهد رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وفي رواية أشعث المذكورة أنهم خرجوا إلى بدر
فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا غرّ هؤلاء دينهم
فقتلوا ببدر (يأتي السهم فيرمى به) بضم التحتية وفتح الميم
مبنيًّا للمفعول وفي نسخة يرمى بإسقاط الفاء ولأبي ذر:
يدمى بالدال بدل الراء (فيصيب أحدهم) نصب على المفعولية
(فيقتله أو يضرب فيقتل) بضم حرف المضارعة من الفعلين وفتح
ثالثهما. قال في الكواكب الدراري: وغرض عكرمة أن الله ذم
من كثر سواد المشركين مع أنهم كانوا لا يريدون بقلوبهم
موافقتهم فكذلك أنت لا تكثر سواد هذا الجيش وإن كنت لا
تريد موافقتهم لأنهم لا يقاتلون في سبيل الله (فأنزل الله
تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} الآية) أي
بخروجهم مع المشركين وتكثير سوادهم حتى قتلوا معهم.
(رواه) أي الحديث المذكور (الليث) بن سعد مما وصله
الإسماعيلي والطبراني في الأوسط من طريق أبي صالح كاتب
الليث عن الليث (عن أبي الأسود) عن عكرمة لكن بدون قصة أبي
الأسود، وعند الطبراني وابن أبي حاتم من طريق عمرو بن
دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة
أسلموا وكانوا يخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم
بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين
فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت فكتبوا بها إلى من بقي من
المسلمين وأنه لا عذر لهم فخرجوا
(7/94)
فلحقهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت:
{ومن الناس من يقول آمنا بالله} [البقرة: 8] الآية فكتب
إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل وعن
سمرة قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" رواه أبو داود.
19 - باب {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً
وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98]
({إلا المستضعفين}) وفي بعض النسخ باب بالتنوين أي في قوله
تعالى: {إلا المستضعفين}
استثناء من قوله: {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا} فيكون
الاستثناء متصلًا كأنه قيل فأولئك في جهنم إلا المستضعفين،
والصحيح أنه منقطع لأن الضمير في مأواهم عائد على أن الذين
توفاهم وهؤلاء المتوفون إما كفارًا أو عصاة بالتخلف وهم
قادرون على الهجرة فلم يندرج فيهم المستضعفون فكان منقطعًا
({من الرجال والنساء والولدان}) الذين ({لا يستطيعون
حيلة}) في الخروج من مكة لعجزهم وفقرهم ({ولا يهتدون
سبيلا}) [النساء: 98]. ولا معرفة لهم بالمسالك من مكة إلى
المدينة. واستشكل إدخال الولدان في جملة المستثنين من أهل
الوعيد لأنه يوهم دخول الولدان فيه إذا استطاعوا واهتدوا،
وأجيب: بأن العجز متمكن من الولدان لا ينفك عنهم فكانوا
خارجين من جملتهم في الوعيد ضرورة فإذا لم يدخلوا فيه لم
يخرجوا بالاستثناء.
فإن قلت: فإذا لم يخرجوا بالاستثناء كيف قرنهم في جملة
المستثنين؟ أجيب: ليبين أن الرجال والنساء الذين لا
يستطيعون صاروا في انتفاء الذنب كالولدان مبالغة لأن
المعطوف عليه يكتسب من معنى المعطوف لمشاركتهما في الحكم
أو المراد بالولدان العبيد أو البالغون وهو أولى من إرادة
المراهقين لعدم توبيخ نحوهم، وكذا هو أولى من حمل البيضاوي
ذلك على المبالغة في الأمر باعتبار أنهم على صدد وجوب
الهجرة فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة فلا محيص لهم
عنها فإن قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت. قال
الطيبي: وعلى هذا المبالغة راجعة إلى وجوب الهجرة وأنها
خارجة عن حكم سائر التكاليف حيث أوجبت على من لم يجب عليه
شيء.
4597 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- {إِلاَّ
الْمُسْتَضْعَفِينَ} قَالَ: كَانَتْ أُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ
اللَّهُ.
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال:
(حدّثنا حماد) هو ابن زيد (عن أيوب) السختياني (عن ابن أبي
مليكة) عبد الله (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) في قوله
تعالى: ({إلا المستضعفين} قال: كانت أمي) أي أم الفضل
لبابة بنت الحارث (ممن عذر الله) أي ممن جعله الله من
المعذورين.
وسبق هذا الحديث في هذه السورة.
20 - باب قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99] الآيَةَ
(باب قوله) تعالى: ({فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم}) أي
يتجاوز عنهم بتركهم الهجرة وعسى من الله واجب لأنه إطماع
والله تعالى إذا أطمع عبدًا في شيء أوصله إليه، (الآية)
كذا في رواية أبي ذر، ولغيره فعسى الله أن يعفو عنهم وليس
هو لفظ القرآن وكان الله عفوًّا غفورًا.
4598 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ
عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي الْعِشَاءَ إِذْ قَالَ:
«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ
يَسْجُدَ:
«اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ،
اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ نَجِّ
الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ نَجِّ
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ
اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا
سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
شيبان) بن عبد الرحمن النحوي التميمي مولاهم البصري (عن
يحيى) بن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أنه (قال: بينا) بغير ميم
(النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلّي العشاء
إذ قال):
(سمع الله لمن حمده)، ثم قال قبل أن يسجد (اللهم نج عياش
بن أبي ربيعة) أخا أبي جهل لأمه (اللهم نج سلمة بن هشام)
أخا أبي جهل (اللهم نج الوليد بن الوليد) بن المغيرة
المخزومي أخا خالد بن الوليد وهؤلاء قوم من أهل مكة أسلموا
ففتنتهم قريش وعذبوهم ثم نجوا منهم ببركته عليه الصلاة
والسلام ثم هاجروا إليه (اللهم نج المستضعفين من المؤمنين)
عام بعد خاص ونج بفتح النون وتشديد الجيم ثم دعا على من
عوّقهم عن الهجرة فقال: (اللهم اشدد وطأتك) بفتح الواو
وسكون الطاء أي عقوبتك (على) كفار قريش أولاد (مضر اللهم
اجعلها) أي وطأتك (سنين) أعوامًا مجدبة (كسني يوسف) عليه
الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى: {ثم يأتي من بعد
ذلك سبع شداد} [يوسف: 48] وأصل السنة سنهة على وزن جبهة
فحذفت لامها ونقلت حركتها إلى النون فإذا أضفتها حذفت نون
الجمع للإضافة جريًا على اللغة العالية فيه
(7/95)
وهو إجراؤه مجرى جمع المذكر السالم لكنه
شاذ لأنه غير عاقل ولتغييره مفرده بكسر أوله.
وقد سبق هذا الحديث في باب يهوي بالتكبير حين يسجد وفي
أوائل الاستسقاء.
21 - باب قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ
بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ
تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102]
(باب قوله) تعالى: كذا للمستملي بالإضافة ولأبي ذر تنوين
باب وحذف تاليه ({ولا جناح عليكم}) أي لا إثم عليكم ({إن
كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم})
[النساء: 102] فيه بيان الرخصة في وضع الأسلحة إن ثقل
عليهم حملها بسبب ما يبلهم من مطر أو يضعفهم من مرض وأمرهم
مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدوّ، ودلّ
ذلك على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة، ومن ثم علم
أن العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء والتحرز عن الجلوس
تحت الجدار المائل واجب، وسقط لأبي ذر من قوله: {أو كنتم
مرضى} الخ وقال بعد قوله: {من مطر} الآية.
4599 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو
الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: {إِنْ كَانَ بِكُمْ
أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ: كَانَ جَرِيحًا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن) الكسائي نزيل
بغداد ثم مكة قال: (أخبرنا حجاج) هو ابن محمد الأعور (عن
ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز أنه (قال: أخبرني)
بالإفراد (يعلى) بن مسلم بن هرمز (عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما) في قوله تعالى: ({إن كان بكم
أذي من مطر أو كنتم مرضى} قال) أي ابن عباس (عبد الرحمن بن
عوف كان جريحًا) ولأبي ذر: وكان جريحًا أي فنزلت الآية
فيه، وعبد الرحمن مبتدأ خبره كان جريحًا والجملة من قول
ابن عباس.
وهذا الحديث أخرجه النسائي -رحمه الله تعالى-.
22 - باب قَوْلِهِ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}
[النساء: 127]
(باب قوله) كذا للمستملي وسقط ذلك لغيره ({ويستفتونك})
بالواو ولأبوي الوقت وذر بإسقاطها أي يسألونك الفتوى ({في
النساء}) أي في ميراثهن ({قل الله يفتيكم فيهن}) وكانت
العرب لا تورثهن شيئًا ({وما يتلى عليكم في الكتاب في
يتامى النساء} [النساء: 127] موضع ما إما رفع عطفًا على
المستكن في يفتيكم العائد عليه تعالى، وجاز ذلك للفصل
بالمفعول والجار والمجرور والمتلوّ في الكتاب في معنى
اليتامى قوله تعالى: {وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى}
[النساء: 3] باعتبارين مختلفين نحو أغناني زيد وعطاؤه
وأعجبني زيد وكرمه، وذلك أن قوله: {الله يفتيكم فيهن}
بمنزلة أعجبني زيد جيء به للتوطئة والتمهيد، وقوله: {وما
يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء} بمنزلة وكرمه لأنه
المقصود بالذكر أو مبتدأ وفي الكتاب خبره، والمراد به
اللوح المحفوظ تعليمًا للمتلوّ عليهم وإن العدل والنصفة في
حقوق اليتامى من عظائم الأمور والمخل بها ظالم متهاون بما
عظمه الله تعالى أو نصب على تقدير ويبين لكم ما يتلى أو جر
بالقسم أي وأقسم بما يتلى عليكم ولا يصح العطف على الضمير
المجرور في فيهن من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأنه لا
يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار وأما
المعنى فلأنه يلزم أن يكون الإفتاء في شأن المتلوّ مع أنه
ليس السؤال عنه.
4600 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْغَبُونَ
أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ عَائِشَةُ: هُوَ الرَّجُلُ
تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّهَا
وَوَارِثُهَا فَأَشْرَكَتْهُ فِي مَالِهِ حَتَّى فِي
الْعِذْقِ فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ
يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ بِمَا
شَرِكَتْهُ، فَيَعْضُلَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ
إِعْرَاضًا} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شِقَاقٌ: تَفَاسُدٌ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عبيد بن
إسماعيل) بضم العين مصغرًا أبو محمد القرشي الهباري الكوفي
واسمه عبد الله وعبيد لقبه قال: (حدّثنا أبو أسامة) بن
حماد وأسامة (قال: حدّثنا هشام بن عروة) وسقط قال لغير أبي
ذر (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام، ولأبي ذر: حدّثني
بالإفراد أبي (عن عائشة -رضي الله عنها-) في قوله تعالى:
({ويستفتونك في النساء}) سقطت الواو لغير أبي ذر. ({قل
الله يفتيكم فيهن}) إلى قوله: ({وترغبون أن تنكحوهن}) أي
في نكاحهن (قالت عائشة): وسقط لغير أبي ذر عائشة (هو الرجل
تكون عنده اليتبمة هو وليها) القائم بأمورها (ووارثها
فأشركته) بفتح الهمزة والراء ولأبي ذر فتشركه بفتح التاء
والراء (في ماله حتى في العذق) بفتح العين وسكون المعجمة
أي في النخلة والأصيلي في العذق بكسر العين أي في الكباسة
وهي عنقود التمر (فيرغب أن ينكحها) أي عن نكاحها (ويكره أن
يزوّجها رجلًا) غيره (فيشركه) أي الرجل الذي يتزوجها (في
ماله بما شركته) أي بالذي شركته فيه (فيعضلها) بضم الضاد
المعجمة نصب عطفًا على المنصوب السابق، وكذا فيشركها،
ويجوز رفعها عطفًا على يرغب ويكره أي يمنعها من التزوّج،
وروى ابن
(7/96)
أبي حاتم من طريق السدي قال: كان لجابر بنت
عم دميمة ولها مال ورثته عن أبيها، وكان جابر يرغب عن
نكاحها ولا يُنكحها خشية أن يذهب الزوج بمالها فسأل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك (فنزلت هذه
الآية).
وهذا الحديث سبق في باب {وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى}
أول هذه السورة.
({وإن امرأة خافت من بعلها}) أي زوجها ({نشوزًا}) بأن
يتجافى عنها ويمنعها نفقته ونفسه أو يؤذيها بشتم أو ضرب
({أو إعراضًا}) [النساء: 128] بتقليل المحادثة والمؤانسة
بسبب طعن في سن أو دمامة أو غيرهما أو امرأة فاعل بفعل
مضمر واجب الإضمار وهو من باب الاشتغال والتقدير وإن خافت
امرأة خافت ولا يجوز رفعه بالابتداء لأن أداة الشرط لا
يليها إلا الفعل عند جمهور البصريين.
(وقال ابن عباس): فيما وصله ابن أبي حاتم {شقاق} يريد قوله
تعالى: {إن خفتم شقاق بينهما} [النساء: 35] أي (تفاسد)
وأصل الشقاق المخالفة وكون كل واحد من المتخالفين في شق
غير صاحبه ومحل ذكر هذه الآية قبل على ما لا يخفى.
23 - باب {وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء:
128]
هَوَاهُ فِي الشَّيْءِ يَحْرِصُ عَلَيْهِ.
{كَالْمُعَلَّقَةِ} لاَ هِيَ أَيِّمٌ وَلاَ ذَاتُ زَوْجٍ
{نُشُوزًا}: بُغْضًا.
({وأحضرت الأنفس الشح}) قال الإمام: المعنى أن الشح جعل
كالأمر المجاور للنفوس
اللازم لها يعني أن النفوس مطبوعة على الشح، وهذا معنى قول
الكشاف: إن الشح قد جعل
حاضرًا لها لا يغيب عنها أبدًا ولا تنفك عنه يعني أنها
مطبوعة عليه، فالمرأة لا تكاد تسمح
بقسمتها وبغير قسمتها والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم
لها وأن يمسكها إذا رغب عنها
وأحب غيرها، وجملة وأحضرت كقوله: {والصلح خير} اعتراض. قال
أبو حيان: كأنه يريد أن قوله: {وإن يتفرقا} معطوف على
قوله: {فلا جناح عليهما} فجاءت الجملتان بينهما اعتراضًا،
وتعقبه بعضهم فقال فيه نظر فإن بعدهما جملًا أُخر ينبغي أن
يقول الزمحشري في الجميع إنها اعتراض ولا يخص {والصلح خير
وأحضرت الأنفس} بذلك، وإنما أراد الزمخشري بذلك الاعتراض
بين قوله: {وإن امرأة خافت} وقوله: ({وأن تحسنوا} [النساء:
128] فإنهما شرطان متعاطفان ويدل عليه تفسيره بما يفيد هذا
المعنى فلينظر من موضعه، وقد فسر المؤلّف الشح بما فسره به
ابن عباس مما وصله ابن أبي حاتم حيث قال: (هواه في الشيء
يحرص عليه) وقيل: الشح البخل مع الحرص، وقيل الإفراط في
الحرص.
({كالمعلقة}) يريد: {فلا تميلوا كل الميل فتذروها
كالمعلقة} [النساء: 129] قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي
حاتم: (لا هي أيم) بهمزة مفتوحة وتحتية مشددة مكسورة أي لا
زوج لها (ولا ذات زوج) وقال ابن عباس أيضًا مما وصله ابن
أبي حاتم أيضًا من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله:
({نشوزًا}) أي (بغضًا).
4601 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: {وَإِنِ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ
إِعْرَاضًا} قَالَتِ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ
الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ
يُفَارِقَهَا فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي
حِلٍّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) أبو الحسن المجاور بمكة
قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا
هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله
عنها-) في قوله تعالى: ({وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا
أو إعراضًا} قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر
منها) أي في المحبة والمعاشرة والملازمة (يريد أن يفارقها
فتقول أجعلك من شأني) من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك
من حقوقي (في حل) أي وتتركني بغير طلاق (فنزلت هذه الآية)
زاد أبوا الوقت وذر عن الحموي: {وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا} الآية. (في ذلك) فإذا تصالح الزوجان
على أن تطيب له نفسًا في القسمة أو عن بعضها فلا جناح
عليهما كما فعلت سودة بنت زمعة فيما رواه الترمذي عن ابن
عباس بلفظ: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل
يومي لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية وقال: حسن غريب. وكان
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقسم
لعائشة يومين يومها ويوم سودة وترك سودة في جملة نسائه
وفعل ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه.
24 - باب {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرَكِ
الأَسْفَلِ} [النساء: 145] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَسْفَلَ: النَّارِ. نَفَقًا: سَرَبًا
({إن المنافقين}) وفي نسخة باب بالتنوين أي في قوله تعالى:
({إن المنافقين في الدرك
الأسفل}) [النساء: 145]. زاد أبوا ذر والوقت ({من النار}
وقال): بالواو ولأبي ذر: قال (ابن عباس): مما وصله ابن أبي
حاتم أي (أسفل النار)، وللنار سبع دركات
(7/97)
والمنافق في أسفلها. وقال أبو هريرة فيما
رواه ابن أبي حاتم: الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق
عليها فتوقد من فوقهم ومن تحتهم، ولعل ذلك لأجل أنه في
أسفل السافلين من درجات الإنسانية، وكيف لا وقد ضم إلى
الكفر السخرية بالإسلام وأهله والمنافق هو المظهر للإسلام
المبطن للكفر فلذا كان عذابه أشد من الكفار وتسمية غيره
بالمنافق كما في الحديث الصحيح (ثلاث من كن فيه كان
منافقًا خالصًا) فللتغليظ.
({نفقًا}) يريد قوله تعالى في سورة الأنعام: ({إن استطعت
أن تبتغي نفقًا في الأرض} [الأنعام: 35] قال ابن عباس فيما
وصله ابن أبي حاتم أيضًا أي: (سربًا).
4602 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ
عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: كُنَّا فِي حَلْقَةِ عَبْدِ
اللَّهِ، فَجَاءَ حُذَيْفَةُ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا
فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى
قَوْمٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ، قَالَ الأَسْوَدُ: سُبْحَانَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]
فَتَبَسَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَلَسَ حُذَيْفَةُ فِي
نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ فَتَفَرَّقَ
أَصْحَابُهُ فَرَمَانِي بِالْحَصَا فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ
حُذَيْفَةُ: عَجِبْتُ مِنْ ضَحِكِهِ، وَقَدْ عَرَفَ مَا
قُلْتُ لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ كَانُوا
خَيْرًا مِنْكُمْ ثُمَّ تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ.
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال: (حدّثنا أبي) حفص بن
غياث الكوفي قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران (قال:
حدّثني) بالإفراد (إبراهيم) النخعي (عن الأسود) بن يزيد
النخعي وهو خال إبراهيم أنه (قال: كنا في حلقة عبد الله)
أي ابن مسعود وحلقة بسكون اللام (فجاء حذيفة) بن اليمان
(حتى قام علينا فسلم ثم قال: لقد أنزل النفاق على قوم خير
منكم). أي ابتلوا به والخيرية باعتبار أنهم كانوا من طبقة
الصحابة فهم خير من طبقة التابعين لكن الله تعالى ابتلاهم
فارتدوا أو نافقوا فذهبت الخيرية منهم (قال الأسود) بن
يزيد متعجبًا من كلام حذيفة: (سبحان الله إن الله) تعالى
(يقول: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} فتبسم عبد
الله) بن مسعود متعجبًا من كلام حذيفة وبما قام به من قول
الحق وما حذر منه (وجلس حذيفة) بن اليمان (في ناحية المسجد
فقام عبد الله) بن مسعود (فتفرق أصحابه) قال الأسود:
(فرماني) أي حذيفة بن اليمان (بالحصى) أي ليستدعيني
(فأتيته فقال حذيفة: عجبت من ضحكة) أي ضحك عبد الله بن
مسعود مقتصرًا عليه أي على الضحك (وقد عرف ما قلت لقد أنزل
النفاق على قوم كانوا خيرًا منكم ثم تابوا)، أي رجعوا عن
النفاق (فتاب الله عليهم) واستدلّ به كقوله: {إلا الذين
تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع
المؤمنين} [النساء:146] على صحة توبة الزنديق وقبولها كما
عليه الجمهور.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في التفسير.
25 - باب قَوْلِهِ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا
أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} -إِلَى قَوْلِهِ- {وَيُونُسَ
وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} [النساء: 163]
هذا (باب) بالتنوين (قوله) عز وجل ({إنا أوحينا إليك كما
أوحينا إلى نوح}) إلى قوله: ({ويونس وهارون وسليمان})
[النساء: 163] وسقط لفظ باب لغير أبي ذر وقوله كما أوحينا
إلى نوح لغير أبوي ذر والوقت والكاف في كما أوحينا نصب
بمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا أو على أنه حال من ذلك
المصدر المحذوف وما تحتمل المصدرية فلا تفتقر إلى عائد على
الصحيح والموصولية فيكون العائد محذوفًا.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما رواه ابن إسحاق أن
سكينًا وعدي بن زيد قالا: يا محمد ما نعلم أن الله أنزل
على بشر من شيء من بعد موسى فأنزل الله تعالى في ذلك {إنا
أوحينا إليك}.
وعن محمد بن كعب القرظي أنزل الله {يسألك أهل الكتاب أن
تنزل عليهم كتابًا من السماء} إلى قوله: {بهتانًا عظيمًا}
[النساء: 153 - 156] فلما تلاها عليهم يعني اليهود وأخبرهم
بأعمالهم الخبيثة جحدوا كل ما أنزل الله تعالى وقالوا: {ما
أنزل الله على بشر من شيء} فقال: ولا على أحد فأنزل الله
{وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91] إذ قالوا ما أنزل
الله على بشر من شيء.
قال ابن كثير وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب نظر فإن هذه
الآية مكية في سورة الأنعام وهذه الآية التي في النساء
مدنية وهي ردّ عليهم لما سألوه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أن ينزل عليهم كتابًا من السماء قال الله تعالى
فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم ثم
ذكر أنه أوحى إلى عبده كما أوحى إلى غيره من النبيين فقال
مخاطبًا حبيبه وآثر صيغة التعظيم تعظيمًا للموحي والموحى
إليه {إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} أي لك أسوة
بالأنبياء السالفة فتأس بهم {وكلاًّ نقص عليك من أنباء
الرسل ما نثبت به فؤادك} لأن شأن وحيك كشأن وحيهم، وبدأ
بنوح لأنه أوّل نبي قاسى الشدة من الأمة وعطف عليه النبين
من بعده وخص منهم إبراهيم إلى داود عليه السلام تشريفًا
لهم وترك ذكر موسى ليبرزه مع ذكرهم بقوله: {وكلم الله موسى
تكليمًا} على نمط
(7/98)
أعم من الأوّل لأن قوله: {ورسلًا قد
قصصناهم عليك من قبل ورسلًا لم نقصصهم} من التقسيم الخاص
مزيدًا لشرفه واختصاصه بوصف التكليم دونهم أي رسلًا فضلهم
واختارهم وآتاهم الآيات البينات والمعجزات القاهرات
الباهرات إلى ما لا يحصى، وخص موسى بالتكليم وثلث ذكرهم
على أسلوب يجمعهم في وصف عام على جهة المدح والتعظيم سار
في غيرهم وهو كونهم مبشرين ومنذرين وجعلهم حجة الله على
الخلق طرًا لقطع معاذيرهم فيدخل في هذا القسم كل من دعا
إلى
هدى وبشر وأنذر كالعلماء وظهر من هذا التقرير طبقات
الداعين إلى الله بأسرهم قاله في فتوح الغيب.
4603 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي
وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا يَنْبَغِى
لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ
مَتَّى».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن سفيان) الثوري أنه (قال: حدّثني)
بالإفراد (الأعمش) سليمان (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن
عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما ينبغي لأحد) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي لعبد بدل
قوله لأحد، وسقط لأبي ذر قال: (أن يقول أنا خير من يونس بن
متى) بفتح الميم والمثناة الفوقية المشددة مقصورًا اسم
أبيه وقيل اسم أمه أي ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس أو
ليس لأحد أن يفضلني عليه وهذا منه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على طريق التواضع فلا يعارض بحديث
"أنا سيد ولد آدم" الصادر منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على طريق التحدث بالنعمة والإعلام للأمة برفيع
منزلته ليعتقدوه أو قال الأوّل قبل أن يعلم الثاني.
4604 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَالَ
أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سنان) بكسر السين وتخفيف النون
العوقي بفتح العين المهملة والواو بعدها قاف الباهلي قال:
(حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام آخره حاء مهملة مصغرًا
ابن سليمان قال: (حدّثنا هلال) هو ابن علي (عن عطاء بن
يسار) ضد اليمين (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(من قال أنا خير) يعني نفسه أو النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (من يونس بن متى فقد كذب) لعله قال
ذكر زجرًا عن توهم حط مرتبة يونس لما في قوله تعالى: {ولا
تكن كصاحب الحوت} [القلم: 48] فقاله سدًّا للذريعة، وهذا
هو السبب في تخصيص يونس بالذكر من بين سائر الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام.
وهذا الحديث قد ذكره في أحاديث الأنبياء.
26 - باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176].
وَالْكَلاَلَةُ: مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أَبٌ أَوِ ابْنٌ
وَهْوَ مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ
هذا (باب) بالتنوين وسقط لغير أبي ذر لفظ باب في قوله
تعالى: ({يستفتونك}) أي في
الكلالة حذف لدلالة الثاني عليه في قوله: ({قل الله يفتيكم
في الكلالة إن امرؤ هلك}) أي مات وارتفع امرؤ بالمضمر
المفسر بالمذكور ({ليس له ولد}) أي ابن صفة لامرؤ واستدلّ
به من قال ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد بل يكفي
انتفاء الولد وهو رواية عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه لكن الذي عليه
الجمهور من الصحابة والتابعين أنه من لا ولد له ولا والد
وهو قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أخرجه ابن أبي شيبة
ويدل على ذلك قوله تعالى: ({وله أخت فلها نصف ما ترك}) ولو
كان معها أب لم ترث شيئًا لأنه يحجبها بالإجماع فدلّ على
أنه من لا ولد له بنص القرآن ولا والد بالنص عند التأمل
أيضًا لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها
ميراث بالكلية والمراد الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل
أخوها عصبة وابن الأم لا يكون عصبة ({وهو}) أي والمرء
({يرثها}) أي جميع مال الأخت إن كان الأمر بالعكس ({إن لم
يكن لها ولد}) [النساء: 176] ذكرًا كان أو أنثى أي ولا
والد لأنه لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئًا (والكلالة:
من لم يرثه أبّ أو ابن) كما مر (وهو) كما قال أبو عبيدة
(مصدر من تكلله النسب) أي تعطف النسب عليه وقال في الصحاح
ويقال هو مصدر من تكلله النسب أي تطرفه كأنه أخذ طرفيه من
جهة الولد والوالد وليس له منهما أحد فسمى بالمصدر اهـ.
وقال غيره، والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب
القوة من الإعياء، وعلى هذا فقول العيني متعقبًا على
الحافظ ابن حجر عزوه ما ذكره البخاري من كونه مصدرًا لأبي
عبيدة فيه نظر لأن
(7/99)
تكلل على وزن تفعل ومصدره تفعل وليس بمصدر
بل هو اسم لا يخفى ما فيه وقيل كل ما احتف بالشيء من
جوانبه فهو إكليل وبه سميت لأن الوراث يحيطون به من جوانبه
وقيل الأب والابن طرفان للرجل فإذا مات ولم يخلفهما فقد
مات عن ذهاب طرفيه فسمي ذهاب الطرفين كلالة.
4605 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي
الله عنه- قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةَ
وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ}.
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قاضي مكة قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله
السبيعي أنه قال: (سمعت البراء) بن عازب (رضي الله تعالى
عنه قال: آخر سورة نزلت) على النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (براءة) بالتنوين (وآخر آية نزلت
{يستفتونك}) زاد أبو ذر {قل الله يفتيكم في الكلالة} وقد
سبق في البقرة من حديث ابن عباس آخر آية نزلت آية الربا
فيحتمل أن يقال آخرية الأولى باعتبار نزول أحكام الميراث
والأخرى باعتبار أحكام الربا.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الفرائض وكذا أبو داود
والنسائي.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
([5] سورة الْمَائِدَةِ)
وهي مدنية إلا {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]
فبعرفة عشيتها. قال في الينبوع: ومن نسب هذه السورة إلى
عرفة فقدسها بل نزلت بالمدينة سوى الآيات من أوّلها فإنهن
نزلن في حجة الوداع وهو على راحلته بعرفة بعد العصر انتهى.
وقد روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة
بزمام العضباء ناقة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق
عضد الناقة. وعن ابن عمر آخر سورة أنزلت المائدة والفتح،
قال الترمذي حسن غريب، وثبتت البسملة بعد قوله المائدة
لأبي ذر.
1 - باب
{حُرُمٌ} وَاحِدُهَا حَرَامٌ {فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقِهِمْ} بِنَقْضِهِمْ {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ}
جَعَلَ اللَّهُ {تَبُوءَ} تَحْمِلُ {دَائِرَةٌ} دَوْلَةٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الإِغْرَاءُ: التَّسْلِيطُ.
{أُجُورَهُنَّ}: مُهُورَهُنَّ الْمُهَيْمِنُ: الأَمِينُ،
الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ، قَالَ
سُفْيَانُ: مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ
{لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ
وَالإِنجِيلَ وَمَا أَنزَلَ إِلَيْكُم مِن رَبِّكُمْ}.
مَخْمَصَةٌ: مَجَاعَةٌ، مَنْ أَحْيَاهَا: يَعْنِي مَنْ
حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلاَّ بِحَقٍّ حَيِيِّ النَّاسُ مِنْهُ
جَمِيعًا. شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سَبِيلًا وَسُنَّةً،
فَإِنْ عُثِرَ ظَهَرَ، الأَوْلَيَانِ: وَاحِدُهُمَا
أَوْلَى.
({حرم}) يريد قولها {غير محليّ الصيد وأنتم حرم} [المائدة:
1] قال أبو عبيدة (واحدهما حرام) والمعنى وأنتم محرمون
وهذه الجملة ساقطة لغير أبوي الوقت وذر.
({فبما نقضهم ميثاقهم}) [المائدة: 13] قال قتادة وغيره أي
(بنقضهم) فما صلة نحو فبما رحمة من الله وهو القول
المشهور، وقيل ما اسم نكرة أبدل منها نقضهم على إبدال
المعرفة من النكرة أي بسبب نقضهم ميثاق الله وعهده بأن
كذبوا الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى وكتموا نعت محمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعدناهم من الرحمة أو
مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية.
({التي كتب الله}) يريد قوله تعالى: {ادخلوا الأرض المقدسة
التي كتب الله لكم} [المائدة: 21] أي التي (جعل الله) لكم
وثبت هنا قوله حرم واحدها حرام لأبوي الوقت وذر.
({تبوء}) يريد قوله تعالى: {إني أريد أن تبوء بإثمي}
[المائدة: 29] معناه (تحمل) كذا فسره مجاهد.
({دائرة}) يريد قوله تعالى: {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}
[المائدة: 52] أي: (دولة) كذا فسره السدي (وقال غيره): قيل
هو غير السدي أو غير من فسر السابق وسقط للنسفي وقال
غيره فلا إشكال (الإغراء) المذكور في قوله تعالى: {فأغرينا
بينهم العداوة} [المائدة: 14] هو (التسليط) وقيل أغرينا
ألقينا.
(أجورهن) يريد {إذا آتيتموهن أجورهن} [المائدة: 5]
(مهورهن) وهذا تفسير أبي عبيدة.
(المهيمن) يريد قوله تعالى: {ومهيمنًا عليه} [المائدة: 48]
قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة
عنه ومهيمنًا عليه قال المهيمن (الأمين القرآن أمين على كل
كتاب قبله) وقال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة
فما وافقه منها فحق وما خالفه منها فهو باطل وقال العوفي
عن ابن عباس ومهيمنًا أي حاكمًا على ما قبله من الكتب.
(قال) وفي الفرع وقال: (سفيان) هو الثوري (ما في القرآن
آية أشد عليّ من) قوله تعالى: ({لستم على شيء حتى تقيموا
التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}) [المائدة: 68]
لما فيها من التكليف من العمل بأحكامها.
({مخمصة}) قال ابن عباس (مجاعة). وقال أيضًا فيما وصله ابن
أبي حاتم في قوله تعالى: ({من أحياها} يعني من حرّم قتلها
إلا بحق حيي الناس منه جميعًا). وقال أيضًا في قوله تعالى:
{لكل جعلنا منكم} ({شرعة ومنهاجًا}) [المائدة: 48] يعني
(سبيلًا وسنة) وسقط قوله قال سفيان إلى هنا لغير أبوي ذر
والوقت.
({فإن عثر}) {على أنهم استحقا إثمًا} [المائدة: 107] أي
(ظهر) وقوله تعالى: {من الذين استحق عليهم الأوليان}
[المائدة: 107] (واحدهما
(7/100)
أولى) وهذا ثابت في بعض النسخ ساقط من
الفرع وأصله.
2 - باب {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
[المائدة: 3] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَخْمَصَةٌ:
مَجَاعَةٌ
(باب قوله) تعالى: ({اليوم أكملت لكم دينكم}) [المائدة: 3]
وزاد غير أبي ذر هنا (وقال ابن عباس مخمصة مجاعة) وقد سبق
فلا فائدة في ذكره وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
4606 - حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسٍ،
عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَتِ الْيَهُودُ: لِعُمَرَ
إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينَا
لاَتَّخَذْنَاهَا عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لأَعْلَمُ
حَيْثُ أُنْزِلَتْ وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ وَأَيْنَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ
أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَإِنَّا وَاللَّهِ
بِعَرَفَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَأَشُكُّ كَانَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ أَمْ لاَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ}.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة
والمعجمة المشدّدة العبدي البصري أبو بكر بندار قال:
(حدّثنا عبد الرحمن) هو ابن مهدي قال: (حدّثنا سفيان) هو
الثوري (عن قيس)
هو ابن مسلم (عن طارق بن شهاب) البجلي الأحمسي الكوفي له
رؤية أنه قال: (قالت اليهود) كعب الأحبار قبل أن يسلم ومن
معه من اليهود وكان إسلام كعب في خلافة عمر على المشهور
(لعمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (إنكم) معشر
المسلمين (تقرؤون آية لو نزلت فينا) معشر اليهود
(لاتخذناها عيدًا) نسر فيه لكمال الدين وزاد في الإيمان.
قال: أيّ؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3] (فقال عمر: إني
لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت) قال في المغني وحيث للمكان
اتفاقًا، وقال الأخفش قد ترد للزمان وأين قال في الصحاح
هذا قلت أين يزيد فإنما تسأل عن مكانه فتكون حيث هنا
للزمان وأين للمكان فلا تكرار، وعند أحمد عن عبد الرحمن بن
مهدي حيث أنزلت وأيّ يوم أنزلت (وأين رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين) ولأبي ذر حيث (أنزلت)
زاد أحمد أنزلت (يوم عرفة وإنا) بكسر الهمزة وتشديد النون
(والله بعرفة) إشارة إلى المكان، ولمسلم: ورسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واقف بعرفة.
(قال سفيان) الثوري بالسند السابق: (وأشك كان يوم الجمعة
أم لا) سبق في الإيمان من وجه آخر عن قيس بن مسلم الجزم
بأنه كان يوم الجمعة ({اليوم أكملت لكم دينكم}).
وهذا الحديث قد مرّ في كتاب الإيمان.
3 - باب قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا} تَيَمَّمُوا: تَعَمَّدُوا، آمِّينَ:
عَامِدِينَ، أَمَّمْتُ وَتَيَمَّمْتُ وَاحِدٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَسْتُمْ وَتَمَسُّوهُنَّ
وَاللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ. وَالإِفْضَاءُ:
النِّكَاحُ
(باب قوله) تعالى: وثبت باب قوله لأبي ذر عن المستملي
({فلم تجدوا ماء}) معطوف على ما قبله والمعنى أو جاء أحد
منكم من الغائط أو لامستم النساء فطلبتم الماء لتتطهروا به
فلم تجدوه بثمن ولا بغيره ({فتيمموا صعيدًا}) ترابًا
({طيبًا}) ولعل ذكر الكلام في التيمم ثانيًا لتحقيق شموله
للجنب والمحدث حيث ذكر عقيب {وإن كنتم جنبًا فاطهروا}
[المائدة: 7] فإنه نقل عن عمر وابن مسعود عند ذكر الأولى
التخصيص بالمحدث (تيمموا) أي (تعمدوا) وسقط تيمموا تعمدوا
لغير المستملي، وقوله تعالى: {ولا آمين البيت الحرام}
[المائدة: 2] أي (عامدين أممت وتيممت واحد) قاله أبو عبيدة
(وقال ابن عباس: لمستم وتمسوهن) وفي الفرع ولمستموهن
والأوّل هو الذي في أصله (واللاتي دخلتم بهن والإفضاء)
الأربعة معناها (النكاح) فالأول وصله إسماعيل القاضي في
أحكام القرآن من طريق مجاهد عنه، والثاني وصله ابن المنذر،
والثالث ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه،
والرابع ابن أبي حاتم من طريق بكر بن عبد الله المزني عن
ابن عباس.
4607 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي
مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ
أَبِيهِ عَنْ
عائشة -رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ
أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ -أَوْ
بِذَاتِ الْجَيْشِ- انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا
عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ
إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى
مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِالنَّاسِ
وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ
أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ
فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ،
وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي
أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ:
وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي وَلاَ
يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى
فَخِذِي فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ
حُضَيْرٍ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي
بَكْرٍ قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ
عَلَيْهِ فَإِذَا الْعِقْدُ تَحْتَهُ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن عبد الرحمن بن القاسم) بن محمد
بن أبي بكر الصديق (عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنها (قالت: خرجنا
مع رسول الله) ولأبي ذر عن النبي (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره) هو غزوة بني المصطلق
وكانت سنة ست أو خمس (حتى إذا كنا بالبيداء) بفتح الموحدة
والمد (أو بذات الجيش) بفتح الجيم وبعد الياء الساكنة شين
معجمة موضعين بين مكة والمدينة والشك من عائشة (انقطع عقد
لي) بكسر العين وسكون القاف أي قلادة وإضافته دها باعتبار
استيلائها لمنفعته وإلا فهو لأسماء استعارته منها (فأقام
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على
التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء
فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق) -رضي الله عنه- وسقط لفظ
الصديق لأبي ذر (فقالوا) له: (ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت
برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالناس)
بحرف الجر (وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر
ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واضع رأسه
على فخذي) بالذال
(7/101)
المعجمة (قد نام. فقال): ولأبي ذر وقال:
(حبست رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و)
حبست (الناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. قالت) ولأبوي
ذر والوقت فقالت (عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله
أن يقول) قال حبست الناس في قلادة وفي كل مرة تكونين عناء
(وجعل يطعنني بيده في خاصرتي) بضم عين يطعنني وقد تفتح
(ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على فخذي فقام رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أصبح) ولغير أبوي ذر
والوقت فنام حتى أصبح (على غير ماء فأنزل الله آية التيمم)
التي بالمائدة. زاد أبو ذر فتيمموا بلفظ الماضي أي تيمم
الناس لأجل الآية أو هو أمر على ما هو لفظ القرآن ذكره
بيانًا أو بدلًا من آية التيمم أي أنزل الله فتيمموا وفي
نسخة فتيممنا (فقال أسيد بن حضير): بضم الحاء وفتح الضاد
المعجمة مصغرًا كسابقه الأنصاري الأشهلي (ما هي) أي البركة
التي حصلت للمسلمين برخصة التيمم (بأوّل بركتكم يا آل أبي
بكر) بل هي مسبوقة بغيرها (قالت) عائشة: (فبعثنا) أي أثرنا
(البعير الذي كنت) راكبة (عليه) حالة السير (فإذا العقد
تحته).
وهذا الحديث قد سبق في التيمم.
4608 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- سَقَطَتْ
قِلاَدَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ، وَنَحْنُ دَاخِلُونَ
الْمَدِينَةَ، فَأَنَاخَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَزَلَ فَثَنَى رَأْسَهُ فِي
حَجْرِي رَاقِدًا أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَكَزَنِي
لَكْزَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ فِي
قِلاَدَةٍ فَبِي الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ أَوْجَعَنِي
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- اسْتَيْقَظَ وَحَضَرَتِ الصُّبْحُ فَالْتُمِسَ
الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ}
[المائدة: 6] الآيَةَ. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ
لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ يَا آلَ أَبِي
بَكْرٍ مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَرَكَةٌ لَهُمْ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (يحيى بن
سليمان) الجعفي الكوفي نزيل مصر (قال: حدّثني) بالإفراد
(ابن وهب) عبد الله (قال أخبرني) بالإفراد (عمرو) بفتح
العين ابن الحارث المصري (أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن
أبيه) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (عن عائشة -رضي
الله عنها-) أنها قالت: (سقطت قلادة) بكسر القاف (لي
بالبيداء) ليس في هذه الرواية أو بذات الجيش (ونحن داخلون
المدينة) الواو للحال (فأناخ النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) راحلته (ونزل) عنها (فثنى رأسه) أي
وضعها (في حجري) حال كونه عليه الصلاة والسلام (راقدًا.
أقبل أبو بكر فلكزني لكزة) بالزاي أي دفعني في صدري بيده
دفعة (شديدة وقال: حبست الناس في قلادة فبي الموت لمكان
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد
أوجعني، ثم إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
استيقظ وحضرت الصبح) أي صلاة الصبح (فالتمس الماء) بالرفع
مفعولًا ناب عن الفاعل أي التمس الناس الماء (فلم يوجد
فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية.
فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم) أي بسببكم
(يا أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم).
4 - باب قَوْلِهِ: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ
إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]
(باب قوله) عز وجل، وسقط لفظ باب لغير أبي ذر وقوله
للكشميهني والحموي ({فاذهب أنت وربك}) رفع عطفًا على
الفاعل المستتر في اذهب وجاز ذلك للتأكيد بالضمير ويحتمل
أنهم أرادوا حقيقة الذهاب على الله لأن مذهب اليهود
التجسيم، ويؤيده مقابلة الذهاب بالقعود في قولهم ({فقاتلا
إنا هاهنا قاعدون}) [المائدة: 24] وظاهر الكلام إنهم قالوا
ذلك استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما.
وأصل هذا أن موسى عليه السلام أمر أن يدخلوا مدينة
الجبارين وهي أريحاء فبعث إليهم اثني عشر عينًا من كل سبط
منهم عين ليأتوه بخبر القوم فلما دخلوها رأوا أمرًا عظيمًا
من هيئتهم وعظمتهم فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط
ليجتني الثمار من حائطه فنظر إلى آثارهم
فتتبعهم فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع
الفاكهة حتى التقطهم كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة، وذهب
إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك: قد رأيتم شأننا
فاذهبوا وأخبروا صاحبكم رواه ابن جرير عن عبد الكريم بن
الهيثم، حدّثنا إبراهيم بن بشار، حدّثنا سفيان عن أبي سعيد
عن عكرمة عن ابن عباس.
قال ابن كثير: وفي هذا الإسناد نظر وقد ذكر كثير من
المفسرين أخبارًا من وضع بني إسرائيل في عظمة خلق هؤلاء
الجبارين وأنه كان فيهم عوج بن عنق بنت آدم عليه الصلاة
والسلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة
وثلاثين ذراعًا وثلث ذراع تحرير الحساب وهذا شيء يستحيى
منه، ثم هو مخالف لما في الصحيح أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال "إن الله خلق آدم طوله
(7/102)
ستون ذراعًاً ثم لم يزل الخلق ينقص حتى
الآن" ثم ذكروا أن عوجًا كان كافرًا وأنه امتنع من ركوب
السفينة وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته وهذا كذب وافتراء
فإن الله تعالى ذكر أن نوحًا دعا على أهل الأرض من
الكافرين فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا}
[نوح: 26] وقال تعالى: {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون
ثم أغرقنا بعد الباقين} [الشعراء: 119] وقال تعالى {لا
عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} [هود: 43] وإذا كان
ابن نوح غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر هذا لا يسوغ في
عقل ولا في شرع ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر،
والله أعلم اهـ.
4609 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ
سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: شَهِدْتُ
مِنَ الْمِقْدَادِ ح وَحَدَّثَنِي حَمْدَانُ بْنُ عُمَرَ،
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ،
عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ
بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ امْضِ
وَنَحْنُ مَعَكَ فَكَأَنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَرَوَاهُ وَكِيعٌ
عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقٍ، أَنَّ
الْمِقْدَادَ قَالَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
إسرائيل) بن يونس السبيعي (عن مخارق) بضم الميم وتخفيف
الخاء المعجمة آخره قاف ابن عبد الله الأحمسي الكوفي (عن
طارق بن شهاب) الأحمسي البجلي الكوفي أنه قال: (سمعت ابن
مسعود) عبد الله (-رضي الله عنه- قال: شهدت من المقداد) هو
ابن الأسود وكان قد تباه فنسب إليه واسم أبيه عمرو (ح)
لتحويل السند.
قال المؤلّف بالسند السابق.
(وحدّثني) بالإفراد (حمدان) هو أحمد (بن عمر) بضم العين
البغدادي ليس له في البخاري إلا هذا الموضع قال: (حدّثنا
أبو النضر) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة هاشم بن القاسم
التميمي الخراساني نزيل بغداد قال: (حدّثنا الأشجع) بالشين
المعجمة والجيم والعين المهملة عبيد الله بن
عبد الرحمن الكوفي (عن سفيان) الثوري (عن مخارق) هو ابن
عبد الله (عن طارق) هو ابن شهاب (عن عبد الله) هو ابن
مسعود أنه (قال: قال المقداد) هو المعروف بابن الأسود (يوم
بدر): ولأبي ذر عن الحموي والمستملي يومئذٍ (يا رسول الله
إنّا لا نقول لك) سقط لفظ لك لأبي ذر (كما قالت بنو
إسرائيل لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون،
ولكن امض ونحن معك). وعند أحمد: ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا
إنا معكم مقاتلون (فكأنه سرّي عن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي أزيل عنه المكروهات كلها.
(ورواه) أي الحديث المذكور (وكيع) هو ابن الجراح الرؤاسي
فيما وصله أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه (عن سفيان) هو
الثوري (عن مخارق عن طارق أن المقداد قال ذلك) القول وهو
يا رسول الله إنا لا نقول لك إلخ (للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). ومراد البخاري أن صورة سياق هذا أنه
مرسل بخلاف سياق الأشجع واستظهر لرواية الأشجع الموصلة
برواية إسرائيل، وقد وقع قوله ورواه وكيع الخ مقدمًا على
قوله حدّثنا أبو نعيم عند أبي ذر مؤخرًا عند غيره. قال في
الفتح: وهو أشبه بالصواب، وعند ابن جرير عن قتادة قال: ذكر
لنا أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال
لأصحابه يوم الحديبية حين صدّ المشركون الهدي وحيل بينهم
وبين مناسكهم "إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت" فقال
المقداد: إنا والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ
قالوا لنبيهم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون، فلما سمعها
أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
تتابعوا على ذلك. قال الحافظ ابن كثير: وهذا إن كان
محفوظًا يوم الحديبية فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذٍ
كما قالها يوم بدر وسقط قوله ذلك لأبي ذر.
5 - باب {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} -إِلَى قَوْلِهِ- {أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] الْمُحَارَبَةُ
لِلَّهِ: الْكُفْرُ بِهِ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: {إنما جزاء الذين
يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا}) مفعول من
أجله أي: يحاربون لأجل الفساد أو حال أي مفسدين ({أن
يقتلوا}) خبر المبتدأ وهو جزاء الذين ({أو يصلبوا} -إلى
قوله- {أو ينفوا من الأرض}) [المائدة: 33] أي من أرض
الجناية إلى غيرها. وقال أبو حنيفة بالحبس لأن المحبوس لا
يرى أحدًا من أحبابه ولا ينتفع بلذات الدنيا وأو قيل
للتخيير أي للإمام أن يفعل بهم أيّ خصلة شاء وهو مروي عن
ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة فيما رواه ابن جرير.
قال شارح البزدوي فيما حكاه الطيبي نظر هذا القائل أن كلمة
أو للتخيير حقيقة فيجب العمل بها إلى أن يقوم دليل المجاز
ولأن قطع الطريق في ذاته جناية واحدة
(7/103)
وهذه الأجزية ذكرت بمقابلتها فيصلح كل واحد
جزاء له فيثبت التخيير كما في كفارة اليمين اهـ.
والجمهور أنها للتنويع. قال إمامنا الشافعي أخبرنا إبراهيم
هو ابن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس في قطاع
الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا
ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم
يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل
ولم يأخذوا مالًا نفوا من الأرض، ورواه ابن أبي شيبة عن
عطية عن ابن عباس بنحوه.
وأجاب في فتوح الغيب عما سبق من القول بالتخيير بأنه غير
ممكن لأن الجزاء على حسب الجناية ويزداد بزيادتها وينقص
بنقصانها قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40]
فيبعد أن يقال عند غلظ الجناية يعاقب بأخف الأنواع وعند
خفتها بأغلظها وذلك أن المحاربة تتفاوت أنواعها في صفة
الجناية من تخويف أو أخذ مال أو قتل نفس أو جمع بين القتل
وأخذ المال، والمذكور في الآية أجزية متفاوتة في معنى
التشديد والغلظة فوقع الاستغناء بتلك المقدّمة عن بيان
تقسيم الأجزية على أنواع الجناية نصًّا وهذا التقسيم يرجع
إلى أصل لهم وهو أن الجملة إذا قوبلت بالجملة ينقسم البعض
على البعض اهـ.
واختلف في كيفية الصلب فقيل يصلب حيًّا ثم يطعن في بطنه
برمح حتى يموت، وعن الشافعي يقتل أوّلًا ثم يصلّى عليه ثم
يصلب وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يتهرى ويسيل
صديده، وسقط قولها {أن يقتلوا} إلى آخره لأبي ذر وقال بعد
قوله تعالى: {فسادًا} الآية.
(المحاربة لله) قال سعيد بن جبير فيما وصله ابن أبي حاتم
من طريق ابن لهيعة عن عطاء بن يسار عنه في (الكفر به)
تعالى. وقال غيره: هو من باب حذف المضاف أي يحاربون أولياء
الله وأولياء رسوله وهم المسلمون ففيه تعظيم لهم، ومنه
قوله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب، وأصل
الحرب السلب والمحارب يسلب الروح والمال والمراد هنا قطع
الطريق وهو أخذ المال مكابرة اعتمادًا على الشوكة وإن كان
في مصر.
4610 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ،
حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ
أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا خَلْفَ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذَكَرُوا وَذَكَرُوا فَقَالُوا:
وَقَالُوا قَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ، فَالْتَفَتَ
إِلَى أَبِي قِلاَبَةَ وَهْوَ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَقَالَ:
مَا تَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ -أَوْ قَالَ:
مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلاَبَةَ-؟ قُلْتُ: مَا عَلِمْتُ
نَفْسًا حَلَّ قَتْلُهَا فِي الإِسْلاَمِ إِلاَّ رَجُلٌ
زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ
نَفْسٍ، أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ عَنْبَسَةُ: حَدَّثَنَا
أَنَسٌ بِكَذَا وَكَذَا، قُلْتُ إِيَّايَ حَدَّثَ أَنَسٌ
قَالَ: قَدِمَ قَوْمٌ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَلَّمُوهُ فَقَالُوا: قَدِ
اسْتَوْخَمْنَا هَذِهِ الأَرْضَ فَقَالَ: «هَذِهِ نَعَمٌ،
لَنَا تَخْرُجُ فَاخْرُجُوا فِيهَا فَاشْرَبُوا مِنْ
أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» فَخَرَجُوا فِيهَا
فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا
وَاسْتَصَحُّوا وَمَالُوا عَلَى
الرَّاعِي فَقَتَلُوهُ، وَاطَّرَدُوا النَّعَمَ فَمَا
يُسْتَبْطَأُ مِنْ هَؤُلاَءِ قَتَلُوا النَّفْسَ
وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَخَوَّفُوا رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
"سُبْحَانَ اللَّهِ" فَقُلْتُ: تَتَّهِمُنِي قَالَ:
حَدَّثَنَا بِهَذَا أَنَسٌ قَالَ: وَقَالَ يَا أَهْلَ
كَذَا إِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا أُبْقِىَ
هَذَا فِيكُمْ أَوْ مِثْلُ هَذَا.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
محمد بن عبد الله الأنصاري) أحد شيوخ المؤلّف روى عنه هنا
بواسطة قال: (حدّثنا ابن عون) هو عبد الله بن عون بن
أرطبان المزني البصري (قال: حدّثني) بالإفراد (سلمان) بفتح
السين وسكون اللام مكبرًا ولأبي ذر عن الكشميهني سليمان
بضم السين وفتح اللام مصغرًا والصواب الأول كما ذكره ابن
طاهر وعبد الغني المقدسي وغيرهما (أبو رجاء مولى أبي
قلابة) بكسر القاف عبد الله بن زيد (عن أبي قلابة أنه كان
جالسًا خلف عمر بن عبد العزيز) وكان قد أبرز سريره للناس
ثم أذن لهم فدخلوا (فذكروا) القسامة لما استشارهم عمر فيها
(وذكروا) له شأنها (فقالوا) نقول فيها القود (وقالوا قد
أقادت بها الخلفاء) قبلك. وفي المغازي من طريق أيوب
والحجاج الصواف عن أبي رجاء فقالوا حق قضى بها رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقضت بها الخلفاء
قبلك (فالتفت) عمر رحمة الله عليه (إلى أبي قلابة وهو خلف
ظهر. فقال: ما تقول يا عبد الله بن زيد، أو قال ما تقول يا
أبا قلابة؟) شك الراوي. زاد في الدّيات من طريق الحجاج عن
أبي عثمان عن أبي رجاء فقلت: يا أمير المؤمنين عندك رؤوس
الأجناد وأشراف العرب أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على
رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا.
قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق
كنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا. (قلت) زاد في الدّيات أيضًا
والله (ما علمت نفسًا حلّ قتلها في الإسلام إلا رجل زنى
بعد إحصان، أو قتل نفسًا بغير نفس، أو حارب الله ورسوله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي
ذر وزاد في الدّيات وارتد عن الإسلام.
(فقال عنبسة) بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الموحدة
والسين المهملة ابن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي
(حدّثنا أنس) هو ابن مالك (بكذا وكذا) يعني بحديث العرنيين
قال أبو قلابة (قلت): ولأبي ذر فقلت: (إياي حدث
(7/104)
أنس قال: قدم قوم}) من عكل أو عرينة ثمانية
سنة ست (على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فكلموه) بعد أن بايعوه على الإسلام (فقالوا: قد استوخمنا
هذه الأرض) أي استثقلنا المدينة فلم يوافق هواؤها أبداننا
وكانوا قد سقموا (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-:
(هذه نعم) أي إبل (لنا تخرج) لترعى مع إبل الصدقة (فأخرجوا
فيها فاشربوا من ألبانها وأبوالها) للتداوي فليس فيه دليل
على الإباحة في غير حال الضرورة. وعن ابن عباس مرفوعًا
فيما رواه ابن المنذر أن "في أبوال الإبل شفاء للذربة
بطونهم" والذرب فساد المعدة فلا دلالة فيه على الطهارة
(فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحوا) أي
حصلت لهم الصحة من ذلك الداء (ومالوا على الراعي) يسار
النوبي (فقتلوه واطردوا النعم) بتشديد الطاء أي ساقوها
سوقًا شديدًا (فما يستبطأ) بضم أوّله وسكون المهملة وبعد
الفوقية موحدة ساكنة فطاء مهملة فهمزة مبنيًا
للمفعول استفعال من البطء الذي هو نقيض السرعة أي شيء
يستبطأ به (من هؤلاء) العكليين.
وفي نسخة أخرى فما يستبقي بالقاف بدل الطاء من غير همز أي
ما يترك من هؤلاء استفهام فيه معنى التعجب كالسابق (قتلوا
النفس وحاربوا الله ورسوله) في رواية حميد عن أنس عند
الإمام أحمد وهربوا محاربين (وخوّفوا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال): أي عنبسة متعجبًا من
أبي قلابة (سبحان الله) قال أبو قلابة (فقلت) لعنبسة
(تتهمني) فيما رويته من حديث أنس، وفي الدّيات فقال عنبسة
بن سعيد والله أن سمعت كاليوم قط فقلت: أتردّ عليّ حديثي
يا عنبسة؟ (قال): لا ولكن جئت بالحديث على وجهه (حدّثنا
بهذا أنس قال) أبو قلابة: (وقال) عنبسة: (يا أهل كذا) أي
يا أهل الشام لأن وقوع ذلك كان بها وقول الحافظ ابن حجر
أنه وقع التصريح به في رواية الدّيات لم أره فلعله سهو
(إنكم لن تزالوا بخير ما أبقى الله) بفتح الهمزة والقاف
مبنيًّا للفاعل (هذا) أبا قلابة (فيكم ومثل هذا) ولأبي ذر
أو وهو شك من الراوي، ولأبي ذر أيضًا عن الحموي والمستملي:
ما أبقى مثل هذا فيكم برفع مثل وضم همزة أبقى وكسر قافه
وللكشميهني ما أبقى الله مثل هذا فيكم بإظهار الفاعل، وفي
نسخة ما بقي بإسقاط الألف، وفي الدّيات والله لا يزال هذا
الجند بخير ما عاش هذا الشيخ بين أظهرهم.
وهذا الحديث مرّ في الطهارة في أبوال الإبل والمغازي،
ويأتي إن شاء الله تعالى بعون الله في الدّيات مع بقية
مباحثه.
6 - باب قَوْلِهِ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]
(باب قوله) تعالى: ({والجروح قصاص}) [المائدة: 45] أي ذات
قصاص فيما يمكن أن يقتص منه، وهذا تعميم بعد التخصيص لأن
الله تعالى ذكر النفس والعين والأنف والأذن فخص الأربعة
بالذكر، ثم قال والجروح قصاص على سبيل العموم فيما يمكن أن
يقتص منه كاليد والرجل، وأما ما لا يمكن ككسر في عظم أو
جراحة في بطن يخاف منها التلف فلا قصاص فيه بل فيه الأرش
والحكومة وسقط لفظ باب لغير أبي ذر وقوله للكشميهني
والحموي.
4611 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، أَخْبَرَنَا
الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ وَهْيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَطَلَبَ
الْقَوْمُ الْقِصَاصَ فَأَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقِصَاصِ. فَقَالَ أَنَسُ
بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لاَ وَاللَّهِ
لاَ تُكْسَرْ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» فَرَضِيَ
الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ
اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن سلام) السلمي مولاهم
البخاري البيكندي قال: (أخبرنا الفزاري) بفتح الفاء والزاي
وبعد الألف راء مروان بن معاوية بن الحارث (عن حميد)
الطويل (عن أنس) هو ابن مالك الأنصاري (رضي الله تعالى
عنه) أنه (قال: كسرت الربيع) بضم
الراء وفتح الموحدة وبعد التحتية المكسورة المشدّدة عين
مهملة (وهي عمة أنس بن مالك ثنية جارية من الأنصار) أي
شابة غير رقيقة ولم تسم (فطلب القوم) أي قوم الجارية
(القصاص) من الربيع (فأتوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ليحكم بينهم (فأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقصاص) من الربيع (فقال أنس بن
النضر) بالضاد الساكنة (عم أنس بن مالك: لا والله لا تكسر
سنها) ولأبي ذر: ثنيتها (يا رسول الله) ليس ردًّا للحكم بل
نفي لوقوعه لما كان له عند الله من القرب والثقة بفضل الله
تعالى ولطفه أنه لا يخيبه بل يلهمهم العفو (فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(7/105)
(يا أنس كتاب الله القصاص) بالرفع مبتدأ
وخبر قال تعالى: {والسن بالسن} إن قلنا شرع من قبلنا شرع
لنا ما لم يرد ناسخ (فرضي القوم) فتركوا القصاص عن الربيع
(وقبلوا الأرش فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) في
قسمه.
وهذا الحديث قد سبق في باب الصلح في الدّية من كتاب الصلح.
7 - باب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({يا أيها الرسول بلغ})
جميع ({ما أنزل إليك من ربك}) [المائدة: 67] إلى كافة
الناس مجاهرًا به غير مراقب أحدًا ولا خائف مكروهًا قال
مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم: لما نزلت يا أيها الرسول
بلّغ ما أنزل إليك من ربك قال: يا رب كيف أصنع وأنا وحدي
يجتمعون عليّ؟ فنزلت {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} أي فإن
أهملت شيئًا من ذلك فما بلغت رسالته لأن ترك إبلاغ البعض
محبط للباقي لأنه ليس بعضه أولى من بعض وبهذا تظهر
المغايرة بين الشرط والجزاء.
قال ابن الحاجب: الشرط والجزاء إذا اتحدا كان المراد
بالجزاء المبالغة فوضع قوله فما بلغت رسالته موضع أمر عظيم
أي: فإن لم تفعل فقد ارتكبت أمرًا عظيمًا.
وقال في الانتصاف قال: وإن لم تفعل ولم يقل وإن لم تبلغ
ليتغايرًا لفظًا وإن اتحدا معنى وهي أحسن بهجة من تكرار
اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذا من محاسن علم البيان
وقدّر المضاف وهو قوله جميع ما أنزل لأنه صلوات الله
وسلامه عليه كان مبلغًا، فعلى هذا فائدة الأمر المبالغة
والكمال يعني ربما أتاك الوحي بما تكره أن تبلغه خوفًا من
قومك فبلغ الكل ولا تخف.
وقال الراغب فيما حكاه الطيبي فإن قيل: كيف قال وإن لم
تفعل فما بلغت رسالته وذلك كقولك إن لم تبلغ فما بلغت قيل:
معناه وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك تكون في حكم من لم يبلغ
شيئًا مما أنزل الله بخلاف ما قالت الشيعة، إنه قد كتم
أشياء على سبيل التقية. وعن بعض الصوفية ما يتعلق به مصالح
العباد وأمر بإطلاعهم عليه فهو منزه عن كتمانه، وأما ما خص
به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه.
4612 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: مَنْ
حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
فَقَدْ كَذَبَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن إسماعيل) هو ابن أبي خالد البجلي الكوفي
(عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن
عائشة رضي الله عنها) أنها (قالت: من حدثك أن محمدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتم شيئًا مما أنزل
عليه) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ولأبي ذر عن الكشميهني
مما أنزل الله عليه (فقد كذب والله يقول {يا أيها الرسول
بلّغ ما أنزل إليك من ربك} الآية) وسقط لفظ من ربك لغير
أبي ذر.
وفي الصحيحين عنها: لو كان محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كاتمًا شيئًا لكتم هذه الآية {وتخفي في نفسك ما
الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37]
وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة واستنطقهم
بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان
هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفًا كما ثبت في صحيح مسلم.
وحديث الباب أخرجه المؤلّف هنا مختصرًا وفي مواضع أخر
مطولًا، ومسلم في كتاب الإيمان، والترمذي والنسائي في كتاب
التفسير من سننهما من طريق عن الشعبي.
8 - باب قَوْلِهِ: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ
فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89]
(باب قوله) عز وجل ({لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم})
[المائدة: 89] هو قول المرء بلا قصد لا والله وبلى والله،
وهذا مذهب الشافعي، وقيل الحلف على غلبة الظن وهو مذهب أبي
حنيفة، وقيل اليمين في الغضب، وقيل في النسيان، وقيل الحلف
على ترك المأكل والمشرب والملبس، والصحيح أنه اليمين من
غير قصد.
4613 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا
مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنِ أَبِيهِ
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ} فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لاَ وَاللَّهِ،
وَبَلَى وَاللَّهِ. [الحديث 4613 - طرفه في: 6663].
وبه قال: (حدّثنا علي بن سلمة) بفتح اللام اللبقي بفتح
اللام والموحدة المخففة وبعد القاف تحتية وللحموي
والكشميهني علي بن عبد الله قيل وهو خطأ قال: (حدّثنا مالك
بن سعير) بسين مضمومة فعين مفتوحة مهملتين مصغرًا ابن
الخمس بكسر الخاء المعجمة وسكون الميم بعدها سين مهملة
الكوفي صدوق وضعفه أبو داود، وليس له في البخاري سوى هذا
الحديث وآخر في الدعوات وكلاهما قد توبع عليه عنده، وروى
له أصحاب السنن قال
(7/106)
(حدّثنا هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن
العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها قالت: (أنزلت هذه
الآية {لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم} في قول الرجل لا والله وبلى
والله) أي كل واحدة منهما إذا قالها مفردة لغو فلو قالهما
معًا فالأولى لغو والثانية منعقدة لأنها استدراك مقصود
قاله الماوردي فيما نقله عنه في الفتح ومباحث ذلك تأتي إن
شاء الله تعالى في الإيمان.
4614 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ،
حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي
أَبِي عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ أَبَاهَا
كَانَ لاَ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ
كَفَّارَةَ الْيَمِينِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لاَ أَرَى
يَمِينًا أُرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ قَبِلْتُ
رُخْصَةَ اللَّهِ وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. [الحديث
4614 - أطرافه في: 6621].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (أحمد بن أبي
رجاء) ضد الخوف واسمه عبد الله بن أيوب الحنفي الهروي قال:
(حدّثنا النضر) بالضاد المعجمة ابن شميل المازني (عن هشام)
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير (عن
عائشة -رضي الله عنها- أن أباها) أبا بكر الصديق رضي الله
تعالى عنه (كان لا يحنث في يمين). وعند ابن حبان كان رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا حلف على
يمين لم يحنث وما في البخاري هو الصحيح كما في الفتح (حتى
أنزل الله كفارة اليمين) في القرآن فكفارته إطعام عشرة
مساكين الخ (قال أبو بكر: لا أرى) بفتح الهمزة أي لا أعلم
(يمينًا أرى) بضم الهمزة أي أظن (غيرها) ولأبي ذر عن
الكشميهني أن غيرها (خيرًا منها إلا قبلت رخصة الله وفعلت
الذي هو خير) أي وكفرت عن يميني، وعن ابن جريج مما نقله
الثعلبي في تفسيره أنها نزلت في أبي بكر حلف أن لا ينفق
على مسطح لخوضه في الإفك فعاد إلى مسطح بما كان ينفقه وسقط
لغير أبي ذر باب قوله وثبت له والله أعلم.
9 - باب قوله: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]
(باب قوله) عز وجل: ({يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا
طيبات ما أحل الله لكم}) [المائدة: 87] أي ما طاب ولذ منه،
وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يأكل
الدجاج ويحب الحلو أو العسل، وحكي عن الحسن أنه قال لبعض
الأولياء لما منع نفسه أكل الدجاج والفالوذج: أترى لعاب
النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم ولما نقل له عن
بعضهم أنه لا يأكل الفالوذج ويقول لا أؤدّي شكره قال:
أيشرب الماء البارد؟ قيل: نعم. قال: إنه جاهل أن نعمة الله
تعالى فيه أكثر من الفالوذخ اهـ.
نعم من ترك لذات الدنيا وشهواتها وانقطع إلى الله تعالى
متفرغًا لعبادته من غير ضرر نفس ولا تفويت حق ففضيلة لا
منع منها بل هو مأمور بها وقد سقط ({يا أيها الذين آمنوا})
لأبي ذر وثبت لفظ باب له.
4615 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا
خَالِدٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَيْسَ
مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا: أَلاَ نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا
عَنْ ذَلِكَ فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ
نَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأَ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ
مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [الحديث 4615 - طرفاه في:
5071 - 5075].
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن عون) بفتح العين فيهما السلمي
الواسطي نزيل البصرة قال: (حدّثنا خالد) هو ابن عبد الله
الطحان (عن إسماعيل) هو ابن أبي خالد (عن قيس) هو ابن أبي
حازم (عن عبد الله) هو ابن مسعود (رضي الله تعالى عنه) أنه
(قال: كنا نغزو مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وليس معنا نساء فقلنا: ألا نختصي) بالخاء
المعجمة والصاد المهملة أي ألا نستدعي من يفعل بنا الخصاء
أو نعالج ذلك بأنفسنا والخصاء الشق على الأنثيين
وانتزاعهما (فنهانا عن ذلك) نهي تحريم لما فيه من تغيير
خلق الله وقطع النسل وكفر النعمة لأن خلق الشخص رجلًا من
النعم العظيمة وقد يفضي ذلك بفاعله إلى الهلاك، (فرخص لنا
بعد ذلك أن نتزوّج المرأة بالثوب) أي إلى أجل وهو نكاح
المتعة وليس قوله بالثوب قيدًا فيجوز بغيره مما يتراضيان
عليه (ثم قرأ) ابن مسعود ({يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا
طيبات ما أحل الله لكم}) قال النووي: في استشهاد ابن مسعود
بالآية أنه كان يعتقد إباحة المتعة كابن عباس، ولعله لم
يكن حينئذٍ بلغه الناسخ ثم بلغه فرجع بعد.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في النكاح وكذا مسلم وأخرجه
النسائي في التفسير.
10 - باب قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الأَزْلاَمُ: الْقِدَاحُ يَقْتَسِمُونَ بِهَا فِي
الأُمُورِ، وَالنُّصُبُ: أَنْصَابٌ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الزُّلَمُ الْقِدْحُ لاَ رِيشَ لَهُ
وَهُوَ وَاحِدُ الأَزْلاَمِ، وَالإِسْتِقْسَامُ: أَنْ
يُجِيلَ الْقِدَاحَ فَإِنْ نَهَتْهُ انْتَهَى وَإِنْ
أَمَرَتْهُ فَعَلَ مَا تَأْمُرُهُ. وَيُجِيلُ يُدِيرُ
وَقَدْ أَعْلَمُوا الْقِدَاحَ أَعْلاَمًا بِضُرُوبٍ
يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا، وَفَعَلْتُ مِنْهُ قَسَمْتُ
وَالْقُسُومُ الْمَصْدَر
(باب قوله) جل وعلا ({إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس}) خبر عن الأشياء المتقدمة وإنما أخبر عن جمع
بمفرد لأنه على حذف مضاف أي إنما تعاطي الخمر الخ ({من عمل
الشيطان}) [المائدة: 90] لأنه مسبب من تسويله وتزيينه
والظرف في موضع رفع صفة لرجس.
(وقال) بالواو ولأبي ذر قال: (ابن عباس) رضي الله تعالى
عنهما مما وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عنه
(الأزلام) هي (القداح) أي السهام التي (يقتسمون بها في
الأمور) في الجاهلية (والنُّصب) ولأبي ذر بإسقاط الواو.
والنصب بضم النون والصاد قال ابن عباس مما وصله
ابن أبي حاتم هي
(7/107)
(أنصاب) كانوا ينصبونها (يذبحون عليها)
وقال ابن قتيبة حجارة ينصبونها ويذبحون عندها فتنصب عليها
دماء الذبائح.
(وقال غيره) أي غير ابن عباس (الزلم) بفتحتين هو (القدح)
بكسر القاف وسكون الدال وهو السهم الذي (لا ريش له وهو
واحد الأزلام) ويقال للسهم أوّل ما يقطع قطع ثم ينحت ويبرى
فيسمى بريًا ثم يقوّم فيسمى قدحًا، ثم يراش ويركب نصله
فيسمى سهمًا (والاستقسام) هو (أن يجيل) بالجيم (القداح)
قيمها (فإن نهته) بأن خرج نهاني ربي (انتهى) وترك (وإن
أمرته) بأن خرج أمرني ربي (فعل ما تأمره) زاد أبو ذر به
وأن معنى قوله (يجيل) بضم التحتية وكسر الجيم أي (يدير) من
الإدارة وكانوا يعطون القيم على إجالتها مائة درهم (وقد
أعلموا القداح) وكانت سبعة مستوية موضوعة في جوف الكعبة
عند هبل أعظم أصنامهم (أعلامًا) يكتبونها عليها (بضروب) أي
بأنواع من الأمور، فعلى واحد أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني
ربي، وعلى آخر واحد منكم، وعلى آخر من غيركم، وعلى آخر
ملصق، وعلى آخر العقل والسابع غفل أي ليس عليه شيء. وكانوا
(يستقسمون) أي يطلبون (بها) بيان قسمهم من الأمر الذي
يريدونه كسفر أو نكاح أو تجارة أو اختلفوا فيه من نسب أو
أمر قتيل أو حمل عقل وهو الدّية أو غير ذلك من الأمور
العظيمة، فإن أجالوه على نسب وخرج منكم كان وسطًا فيهم وإن
خرج من غيركم كان حلفًا فيهم وإن خرج ملصقًا كان على حاله،
وإن اختلفوا في العقل فمن خرج عليه قدحه يحمله وإن خرج
الغفل الذي لا علامة عليه أجالوا ثانيًا حتى يخرج المكتوب
عليه وقد نهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقًا.
ووقع في رواية يستقسمون به بتذكير الضمير أي يستقسمون بذلك
الفعل (وفعلت منه قسمت) قال في العمدة: أشار به إلى أن من
أراد أن يخبر عن نفسه من لفظ الاستقسام يقول قسمت بضم
التاء (والقسوم) بضم القاف على وزن فعول (المصدر).
4616 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ:
حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-
قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ فِي
الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا
شَرَابُ الْعِنَبِ. [الحديث 4616 - أطرافه في: 5579].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (إسحاق بن
إبراهيم) المعروف بابن راهويه قال: (أخبرنا محمد بن بشر)
بكسر الموحدة وسكون المعجمة ابن الفرافصة أبو عبد الله
العبدي الكوفي قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد
العزيز) بن مروان بن الحكم القرشي الأموي المدني (قال:
حدّثني) بالإفراد (نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما)
أنه (قال: نزل تحريم الخمر وإن في المدينة) ولأبي ذر لأن
بالمدينة بالموحدة بدل في (يومئذٍ) قبل تحريمها (لخمسة
أشربة) شراب العسل والتمر والحنطة والشعير والذرة (ما فيها
شراب العنب).
وهذا الحديث من أفراده.
4617 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي
الله عنه-: مَا كَانَ لَنَا خَمْرٌ غَيْرُ فَضِيخِكُمْ
هَذَا الَّذِي تُسَمُّونَهُ الْفَضِيخَ، فَإِنِّى
لَقَائِمٌ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا
إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: وَهَلْ بَلَغَكُمُ الْخَبَرُ؟
فَقَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ،
قَالُوا اهْرِقْ هَذِهِ الْقِلاَلَ يَا أَنَسُ، قَالَ:
فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا وَلاَ رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ
الرَّجُلِ.
وبه قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) الدورقي قال: (حدّثنا
ابن علية) بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد التحتية
إسماعيل بن إبراهيم وعلية أمه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن
صهيب) بضم المهملة وفتح الهاء آخره موحدة مصغرًا البناني
البصري (قال: قال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ما كان
خمر غير فضيخكم) بفتح الفاء وكسر الضاد وبالخاء المعجمتين
شراب يتخذ من البسر وحده من غير أن تمسه النار والفضخ
الكسر لأن البسر يشدخ ويترك في وعاء حتى يغلي (هذا الذي
تسمونه الفضيخ فإني لقائم أسقي أبا طلحة) زيد بن سهل
الأنصاري زوج أم أنس (وفلانًا وفلانًا) وقع من تسمية من
كان مع أبي طلحة عند مسلم أبو دجانة وسهيل ابن بيضاء وأبو
عبيدة وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو أيوب (إذ جاء رجل)
لم يسم (فقال): وفي الفرع قال: (وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا:
وما ذاك؟ قال: حرمت الخمر) أي حرمها الله تعالى على لسان
رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: (أهرق)
بهمزة مفتوحة فهاء ساكنة فراء مكسورة أمر من أهراق، ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي: هرق بفتح الهاء وكسر الراء من غير
همز وله أيضًا عن الكشميهني أرق بهمزة مفتوحة فراء مكسورة
من غير هاء.
قال السفاقسي: الجمع بين الهاء والهمزة ليس بجيد لأن الهاء
بدل من الهمزة فلا يجمع بينهما. وأجيب: بأنهم قد جمعوا
بينهما كما في الصحاح وغيره، وصرح به سيبويه أي
(7/108)
صب (هله القلاب يا أنس) بكسر القاف أي
الجرار التي لا يقل أحدها إلا القوي من الرجال (قال) أي
أنس: (فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل). ففيه
قبول خبر الواحد.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأشربة.
4618 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا
ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:
صَبَّحَ أُنَاسٌ غَدَاةَ أُحُدٍ الْخَمْرَ فَقُتِلُوا مِنْ
يَوْمِهِمْ جَمِيعًا شُهَدَاءَ وَذَلِكَ قَبْلَ
تَحْرِيمِهَا.
وبه قال: (حدّثنا صدقة بن الفضل) المروزي قال: (أخبرنا ابن
عيينة) سفيان (عن عمرو) هو ابن دينار (عن جابر) هو ابن عبد
الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أنه (قال: صبح أناس)
بفتح الصاد وتشديد الموحدة (غداة أُحد) سنة ثلاث (الخمر)
وفي الجهاد من طريق علي بن عبد الله المديني اصطبح ناس
الخمر يوم أُحد أي شربوه صبوحًا أي بالغداة (فقتلوا من
يومهم جميعًا شهداء) وعند الإسماعيلي من طريق القواريري عن
سفيان اصطبح قوم الخمر أول النهار
وقتلوا آخر النهار شهداء (وذلك قبل تحريمها) وزاد البزار
في مسنده فقالت اليهود: قد مات بعض الدين قتلوا وهي في
بطونهم فأنزل الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93] وفي سياق هذا
الحديث غرابة وفي مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص قال: صنع
رجل من الأنصار طعامًا فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرّم
حتى سكرنا فتفاخرنا الحديث، وفيه فنزلت {إنما الخمر
والميسر} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون}.
وحديث الباب أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد والمغازي.
4619 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عِيسَى وَابْنُ إِدْرِيسَ
عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ -رضي الله عنه- عَلَى مِنْبَرِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ
الْخَمْرِ، وَهْيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ،
وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ،
وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. [الحديث 4619 - أطرافه
في: 5581، 5588، 5589، 7337].
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه (الحنظلي)
قال: (أخبرنا عيسى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي (وابن
إدريس) عبد الله الأودي الكوفي كلاهما (عن أبي حيان) بفتح
الحاء المهملة وتشديد التحتية يحيى بن يزيد التيمي (عن
الشعبي) عامر بن شراحيل (عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- أنه
(قال: سمعت عمر -رضي الله عنه- على منبر النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: أما بعد أيها الناس إنه
نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل
والحنطة والشعير) وفي هذا بيان حصول الخمر مما ذكر وليس
للحصر لخلوّ التركيب عن أداته، ولتعقيبه بقوله (والخمر ما
خامر العقل) أي ستره وغطاه كالخمار سواء كان مما ذكر أو من
غيره كأنواع الحبوب والنبات كالأفيون والحشيش، ولا تعارض
بين قول ابن عمر أوّلًا نزل تحريم الخمر وأن بالمدينة
يومئذٍ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب، وبين قول عمر نزل
تحريم الخمر وهي من خمسة الخ لأن الأوّل أفاد أن التحريم
نزل في حالة لم يكن شراب العنب فيها بالمدينة، والقول
الثاني وهو قول عمر لا يقتضي أن شراب العنب كان بالمدينة
إذ ذاك بوجه وحيئنذٍ فلا تعارض كما لا يخفى.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الاعتصام والأشربة، ومسلم في
آخر الكتاب، وأبو داود في
الأشربة وكذا الترمذي والنسائي فيه وفي الوليمة.
11 - باب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} -إِلَى قَوْلِهِ-
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله عز وجل: ({ليس على الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جناح}) إثم ({فيما طعموا}) تقول طعمت
الطعام والشراب ومن الشراب والمراد ما لم يحرم عليهم لقوله
إذا ما اتقوا أي اتقوا المحرم (إلى قوله: {والله يحب
المحسنين}) وسقط لأبي ذر قوله إلى قوله الخ وقال بعد طعموا
الآية وسقط لغيره لفظ باب.
4620 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ
-رضي الله عنه-: أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي أُهْرِيقَتِ
الْفَضِيخُ. وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ
قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي
طَلْحَةَ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَأَمَرَ
مُنَادِيًا فَنَادَى فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ
فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ قَالَ: فَخَرَجْتُ
فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ
قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا،
قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، قَالَ:
وَكَانَتْ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَقَالَ
بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهْيَ فِي بُطُونِهِمْ
قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا} [المائدة: 93].
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي عارم
قال: (حدّثنا حماد بن زيد) اسم جدّه درهم الجهضمي قال:
(حدّثنا ثابت) هو ابن أسلم البناني (عن أنس -رضي الله عنه-
أن الخمر التي أهريقت) بضم الهمزة وسكون الهاء آخره تاء
تأنيث ولأبي ذر هريقت بضم الهاء من غير همزة (الفضيخ)
بالضاد والخاء المعجمتين مرفوع خبر أن وهو المتخذ من البسر
كما مرّ قريبًا.
قال البخاري: (وزادني محمد) هو ابن سلام لا ابن يحيى
الذهلي ووهم من قال إنه هو ويؤيده ما في رواية أبي ذر حيث
قال، محمد البيكندي: وقد تبين بهذا أن قول صاحب المصابيح
تبعًا لما في التنقيح أن القائل زادني هو الفربري ومحمد هو
البخاري سهو وظهر أن البخاري سمع هذا الحديث من أبي
النعمان مختصرًا ومن محمد بن سلام البيكندي مطوّلًا (عن
أبي النعمان قال): أي أنس
(7/109)
(كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة)
الأنصاري (فنزل تحريم الخمر فأمر) أي النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (مناديًا) قال الحافظ ابن حجر
لم أر التصريح باسمه (فنادى) بتحريمها وكان ذلك عام الفتح
سنة ثمان لحديث ابن عباس عند أحمد ولفظه: قال سألت ابن
عباس عن بيع الخمر فقال: كان لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صديق من ثقيف أو دوس فلقيه يوم الفتح
براوية خمر يهديها إليه فقال: يا فلان أما علمت أن الله
حرمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: بعها. فقال: إن الذي
حرم شربها حرم بيعها (فقال أبو طلحة): أي لأنس (أخرج فانظر
ما هذا الصوت. قال) أنس: (فخرجت) أي فسمعت ثم عدت إلى أبي
طلحة (فقلت) له: (هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت)
حرمها الله على لسان رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فقال لي: اذهب فأهرقها) بهمزة مفتوحة فهاء
ساكنة مجزوم على الأمر، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
فهرقها بفتح الهاء من غير همز وله أيضًا عن الكشميهني
فأرقها بهمزة مفتوحة فراء مكسورة (قال): فأرقتها (فجرت) أي
سالت (يفي سكك المدينة) أي طرقها (قال) أنس (وكانت خمرهم
يومئذٍ الفضيخ فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم).
وعند النسائي والبيهقي من طريق ابن عباس قال نزل تحريم
الخمر في ناس شربوا فلما ثملوا عبثوا فلما صحوا جعل بعضهم
يرى الأثر بوجه الآخر فنزلت فقال ناس من المتكلفين، وعند
البزار أن الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود، وأفاد في
الفتح أن في رواية الإسماعيلي عن ابن ناجية عن أحمد بن
عبدة ومحمد بن موسى عن حماد في آخر هذا الحديث قال حماد:
فلا أدري هذا يعني قوله فقال بعض القوم الخ في الحديث أي
عن أنس أو قاله ثابت أي مرسلًا (قال: فأنزل الله تعالى:
{ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا})
والمعنى بيان أنه لا جناح عليهم فيما طعموه إذا ما اتقوا
المحارم، والحكم عام وإن اختص السبب فالجناح مرتفع عن كل
من يطعم شيئًا من المستلذات إذا اتقى الله فيما حرم عليه
منها ودام على الإيمان أو ازداد إيمانًا عند من يقول به.
وقال في فتوح الغيب: والمعنى ليس المطلوب من المؤمنين
الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات وإنما المطلوب منهم
الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص ومعارج
القدس والكمال وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى
الإيمان بما يجب الإيمان به، وعلى الأعمال الصالحة لتحصل
الاستقامة التامة فيتمكن بالاستقامة من الترقي إلى مرتبة
المشاهدة ومعارج أن تعبد الله كأنك تراه وهو المعنى بقوله
وأحسنوا وبها يمنح الزلفى عند الله ويحقه أن الله يحب
المحسنين اهـ.
وقال غيره: والتفسير باتقاء الشرك لا يلائم صفة الكمال وأن
قوله وعملوا الصالحات أي باشروا الأعمال الصالحة واتقوا
الخمر والميسر بعد تحريمهما أو داوموا على التقوى والإيمان
ثم اتقوا سائر المحرمات أو ثبتوا على التقوى وأحسنوا
أعمالهم وأحسنوا إلى الناس بالمواساة معهم في الإنفاق
عليهم من الطيبات، وقيل: التقوى عن الكفر والكبائر
والصغائر وأضعف ما قيل فيه أنه للتكرار والتأكيد.
قال القاضي: ويحتمل أن يكون هذا التكرار باعتبار الأوقات
الثلاثة أو باعتبار الحالات الثلاثة استعمال الإنسان
التقوى والإيمان بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبينه
وبين الله، ولذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة
إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسيره أو
باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى، أو
باعتبار ما يتقى فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيًا من
العذاب والشبهات تحرزًا عن الوقوع في الحرام وبعض المباحات
تحفظًا للنفس عن الخسة وتهذيبًا لها عن دنس الطبيعة اهـ.
وختم الكلام يشعر بأن من فعل ذلك من المحسنين وأنه يستجلب
المحبة الإلهية وسيأتي مزيد لشرح حديث الباب إن شاء الله
تعالى في الأشربة.
12 - باب قَوْلِهِ: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ
تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]
(باب قوله) عز وجل ({لا تسألوا}) الرسول -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ({عن أشياء أن تبد لكم}) أي تظهر
لكم ({تسؤكم}) [المائدة: 101] والجملة الشرطية وما عطف
(7/110)
عليها وهو أن تسألوا عنها صفة لأشياء،
ومعنى حين ينزل القرآن أي ما دام النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحياة فإنه قد يؤمر بسبب سؤالكم
بتكاليف تسوءكم وتتعرضون لشدائد العقاب بالتقصير في أدائها
وسقط لفظ باب قوله لغير أبي ذر.
4621 - حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْجَارُودِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله
عنه- قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا
قَطُّ قَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ
قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» قَالَ: فَغَطَّى
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ فَقَالَ رَجُلٌ
مَنْ أَبِي؟ قَالَ: فُلاَنٌ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:
{لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ}. رَوَاهُ النَّضْرُ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ
عَنْ شُعْبَةَ.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (منذر بن الوليد
بن عبد الرحمن الجارودي) بالجيم العبدي البصري قال:
(حدّثنا أبي) الوليد قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن
موسى بن أنس عن) أبيه (أنس) هو ابن مالك (-رضي الله عنه-)
أنه (قال: خطب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خطبة ما سمعت مثلها قط) وكان فيما رواه النضر
بن شميل عن شعبة عند مسلم قد بلغه عن أصحابه شيء فخطب بسبب
ذلك (قال):
(لو تعلمون) من عظمة الله وشدّة عقابه بأهل الجرائم وأهوال
القيامة (ما أعلم لضحكتم كثيرًا) (قال) أنس (فغطى أصحاب
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجوههم لهم
خنين) بالخاء المعجمة للكشميهني أي صوت مرتفع من الأنف
بالبكاء مع غنة، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: حنين
بالحاء المهملة أي صوت مرتفع بالبكاء من الصدر وهو دون
الانتحاب (فقال رجل) هو عبد الله بن حذافة أو قيس بن حذافة
أو خارجة بن حذافة وكان يطعن فيه (من أبي؟ قال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبوك (فلان) أي حذافة (فنزلت
هذه الآية {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}).
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الرقاق والاعتصام ومسلم في
فضائل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والترمذي
في التفسير والنسائي في الرقائق.
(رواه) أي حديث الباب (النضر) بن شميل فيما وصله مسلم
(وروح بن عبادة) مما وصله البخاري في الاعتصام كلاهما (عن
شعبة) بن الحجاج بإسناده وعند ابن جرير عن قتادة عن أنس أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سألوه حتى
أحفوه بالمسألة فصعد المنبر فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء
إلاّ بينته لكم فأشفق الصحابة أن يكون بين يدي أمر قد حضر
قال: فجعلت لا ألتفت يمينًا وشمالًا إلاّ وجدت كلاًّ
لافًّا رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعى لغير
أبيه فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: "أبوك حذافة" ثم قام
عمر فقال: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا
عائذًا بالله من شر الفتن الحديث.
4622 - حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ
حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
-رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتِهْزَاءً
فَيَقُولُ الرَّجُلُ مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ
تَضِلُّ نَاقَتُهُ أَيْنَ نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّهَا.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (الفضل بن
سهل) البغدادي (قال: حدّثنا أبو النضر) بإسكان الضاد
المعجمة هاشم بن القاسم الخراساني قال: (حدّثنا أبو خيثمة)
بفتح الخاء المعجمة والمثلثة بينهما تحتية ساكنة زهير بن
معاوية الجعفي الكوفي قال: (حدّثنا أبو الجويرية) بضم
الجيم مصغرًا حطان بكسر الحاء وتشديد الطاء المهملتين ابن
خفاف بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء الجرمي بفتح الجيم
(عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: كان قوم يسألون
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استهزاء
فيقول الرجل) له عليه الصلاة والسلام: (من أبي؟ ويقول
الرجل تضل ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية:
{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم
تسؤكم} حتى فرغ من الآية كلها) سقط إن تبد لكم تسؤكم في
رواية أبي ذر.
وهذا الحديث من أفراد البخاري، وقيل نزلت في شأن الحج فعن
علي لما نزلت {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97]
قالوا: يا رسول الله أي كل عام؟ فسكت فقالوا: يا رسول الله
أفي كل عام؟ قال "لا، ولو قلت نعم لوجبت" لا فأنزل الله عز
وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم
تسؤكم} رواه الترمذي وقال حديث غريب.
13 - باب {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ
سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} [المائدة: 103]
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ {وَإِذْ}
هَا هُنَا صِلَةٌ (الْمَائِدَةُ) أَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ:
كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ وَالْمَعْنَى
مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ خَيْرٍ يُقَالُ: مَادَنِي
يَمِيدُنِي، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُتَوَفِّيكَ
مُمِيتُكَ.
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ما جعل الله من بحيرة
ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}) [المائدة: 103] ويجوز كون
جعل بمعنى سمى فيتعدى لاثنين أحدهما محذوف أي ما سمى الله
حيوانًا بحيرة، ومنع أبو حيان كون جعل هنا بمعنى شرع أو
وضع أو أمر، وخرج الآية على التصيير وجعل المفعول الثاني
محذوفًا أي ما صير الله بحيرة مشروعة.
({وإذ قال الله}) {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس}
[المائدة: 116] معناه (يقول قال الله) غرضه أن لفظ قال
الذي هو ماض بمعنى يقول المضارع لأن الله تعالى إنما يقول
هذا القول يوم
(7/111)
القيامة توبيخًا للنصارى وتقريعًا، ويؤيده
قوله: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وذلك في القيامة
({وإذ} هاهنا صلة) أي زادة لأن إذ للماضي والقول في
المستقبل، وقال غيره إذ قد تجيء
بمعنى إذا كقوله: {ولو ترى إذ فزعوا} [سبأ: 51] وقوله:
ثم جزاك الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السماوات العلا
وصوّب ابن جرير قول السدي أن هذا كان في الدنيا حين رفع
إلى السماء الدنيا.
(المائدة) في قوله: {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من
السماء} [المائدة: 112] (أصلها مفعولة)، مراده أن لفظ
المائدة وإن كان على لفظ فاعلة فهو بمعنى مفعولة يعني
ميمودة لأن ماد أصله ميد قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح
ما قبلها والمفعول منها للمؤنث مميودة (كعيشة راضية) وإن
كانت على وزن فاعلة فهي بمعنى مرضية لامتناع وصف المعيشة
بكونها راضية وإنما الرضا وصف صاحبها (وتطليقة بائنة)
التمثيل بهذه غير واضح لأن لفظ بائنة هنا على أصله بمعنى
قاطعة لأن التطليقة البائنة تقطع حكم العقد (والمعنى) من
حيث اللغة (ميد بها صاحبها من خير)، يعني امتير بها لأن
ماده يميده لغة في ماره يميره من الميرة ومن حيث الاشتقاق
(يقال مادني يميدني). من باب فعل يفعل بفتح العين في
الماضي وكسرها في المستقبل وقال أبو حاتم المائدة الطعام
نفسه والناس يظنونها الخوان. اهـ.
لكن قال في الصحاح: المائدة خوان عليه طعام فإذا لم يكن
عليه طعام فليس بمائدة وإنما هو خوان.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما رواه ابن أبي حاتم
من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: {يا عيسى إني}
({متوفيك}) [آل عمران: 55] معناه (مميتك) وهذه الآية من
سورة آل عمران. قيل: وذكرها هنا لمناسبة {فلما توفيتني}
وكلاهما في قصة عيسى.
4623 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا
لِلطَّوَاغِيتِ فَلاَ يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ
وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ لاَ
يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ: وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ
الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ
أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ» وَالْوَصِيلَةُ:
النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ
الإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّى بَعْدُ بِأُنْثَى وَكَانُوا
يُسَيِّبُونَهُمْ لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ
إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ
وَالْحَامِ فَحْلُ الإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ
الْمَعْدُودَ فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ
لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنَ الْحَمْلِ فَلَمْ
يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ. وَقَالَ
أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ،
سَمِعْتُ سَعِيدًا قَالَ: يُخْبِرُهُ بِهَذَا قَالَ:
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ
الْهَادِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي البصري قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد)
بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو
إسحاق المدني نزيل بغداد (عن صالح بن كيسان) بفتح الكاف
المدني مؤدّب ولد عمر بن عبد العزيز (عن ابن شهاب) محمد بن
مسلم الزهري (عن سعيد بن المسيب) بن حزن القرشي المخزومي
قال ابن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه أنه
(قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت) أي لبنها لأجل
الأصنام (فلا يحلبها أحد من الناس) ذكر أو أنثى، وخص أبو
عبيدة المنع بالنساء دون الرجال، وقال غيره: البحيرة فعيلة
بمعنى مفعولة واشتقاقها من البحر وهو الشق يقال بحر ناقته
إذا شق أذنها، واختلف فيها فقيل: هي الناقة تنتج خمسة أبطن
آخرها ذكر فتشق أذنها وتترك فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن
مرعى ولا ماء.
(والسائبة) بوزن فاعلة بمعنى مسيبة (كانوا يسيبونها
لآلهتهم) لأجلها تذهب حيث شاءت (لا يحمل عليها شيء) ولا
تحبس عن مرعى ولا ماء، وذلك أن الرجل كان إذا مرض أو غاب
له قريب نذر إن شفاه الله أو مريضه أو قدم غائبه فناقته
سائبة فهي بمنزلة البحيرة، وقيل: هي من جميع الأنعام.
(قال) أي سعيد بن المسيب بالسند المذكور (وقال أبو هريرة)
رضي الله تعالى عنه (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(رأيت عمرو بن عامر الخزاعي) بضم الخاء المعجمة وتخفيف
الزاي، وسبق في باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة ورأيت
فيها عمرو بن لحيّ بضم اللام وفتح الحاء المهملة. قال
الكرماني: عامر اسم ولحيّ لقب أو بالعكس أو أحدهما اسم
الجدّ، وقال البرماوي: إنما هو عمرو بن لحيّ اسمه ربيعة بن
حارثة بن عمرو اهـ.
وعند أحمد من حديث ابن مسعود مرفوعًا: إن أول من سيب
السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وعند عبد
الرزاق من حديث زيد بن أسلم مرفوعًا: عمرو بن لحي أخو بني
كعب. قال ابن كثير: فعمرو هذا ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء
خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم.
وعند ابن جرير عن أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لأكتم بن الجون "يا أكتم رأيت
عمرو بن لحيّ بن قمعة
(7/112)
بن خندف" (يجر قصبه) بضم القاف وسكون الصاد
المهملة وبعدها موحدة يعني أمعاءه (في النار كان أوّل من
سيب السوائب). قال سعيد بن المسيب: مما هو موقوف مدرج لا
مرفوع (والوصيلة) فعيلة بمعنى فاعلة هي (الناقة البكر
تبكر) أي تبادر (في أوّل نتاج الإبل) بأنثى (ثم تثنى) بفتح
المثلثة وتشديد النون المكسورة (بعد بأنثى) ليس بينهما ذكر
(وكانوا يسيبونهم) ولأبي ذر يسيبونها أي الوصيلة
(لطواغيتهم) بالمثناة الفوقية من أجل (أن وصلت) بفتح الواو
في الفرع كأصله وفي نسخة بضمها (إحداهما) أي إحدى الأنثيين
(بـ) الأنثى (الأخرى ليس بينهما ذكر) ويجوز كسر الهمز من
أن وصلت وهو الذي في الفرع ولم يضبطها في الأصل، وقيل
الوصيلة من جنس الغنم فقيل هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين
عناقين فإذا ولدت في آخرها عناقًا وجديًا قيل وصلت أخاها
فجرت مجرى السائبة وقيل غير ذلك.
(والحام) هو (فحل الإبل يضرب الضراب المعدود) فينتج من
صلبه بطن بعد بطن إلى عشرة أبطن (فإذا قضى ضرابه ودعوه)
بتخفيف الدال ولأبي ذر ودّعوه بتشديدها (للطواغيت) أي
تركوه لأجل الطواغيت (وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء
وسموه الحامي) لأنه حمى ظهره وقيل الحام الفحل يولد لولده،
وقيل الذي يضرب في إبل الرجل عشر سنين.
(وقال أبو اليمان) الحكم بن نافع ولأبي ذر وقال لي أبو
اليمان (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة الحمصي (عن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب أنه قال: (سمعت سعيدًا) يعني ابن
المسيب (قال يخبره بهذا) بتحتية مضمومة فحاء معجمة ساكنة
فموحدة من الإخبار أي سعيد بن المسيب يخبر الزهري، ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي قال: بحيرة بهذا بموحدة مفتوحة
فحاء مهملة فتحتية ساكنة إشارة إلى تفسير البحيرة وغيرها
كما في رواية إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري.
(قال): أي سعيد بن المسيب (وقال أبو هريرة) -رضي الله عنه-
(سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحوه) أي
المذكور في الرواية السابقة وهو قوله البحيرة التي يمنع
درها للطواغيت.
(ورواه) أي الحديث المذكور (ابن الهاد) يزيد بن عبد الله
بن أسامة الليثي (عن ابن شهاب) الزهري (عن سعيد) هو ابن
المسيب (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أنه قال: (سمعت
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهذا رواه ابن
مردويه من طريق حميد بن خالد المهري عن ابن الهاد ولفظه:
رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من
سيب السوائب، والسائبة التي كانت تسيب فلا يحمل عليها شيء
إلى آخر التفسير المذكور، وقال الحافظ ابن كثير فيما رأيته
في تفسيره قال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله
بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بخت عن الزهري كذا حكاه
شيخنا أبو الحجاج المزي في الأطراف وسكت ولم ينبه عليه،
وفيما قاله الحاكم نظر فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير
روياه من حديث الليث بن سعد عن ابن الهاد عن الزهري نفسه
والله أعلم.
4624 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْكَرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا،
وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهْوَ أَوَّلُ مَنْ
سَيَّبَ السَّوَائِبَ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن أبي يعقوب) إسحاق
(أبو عبد الله الكرماني) بكسر الكاف وضبطه النووي بفتحها
والأول هو المشهور قال: (حدّثنا حسان بن إبراهيم) بن عبد
الله الكرماني أبو هشام العنزي بنون مفتوحة بعدها زاي
مكسورة قال: (حدّثنا يونس) بن يزيد الأيلي
(عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن عروة) بن الزبير بن
العوّام (أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(رأيت جهنم) حقيقة أو عرض عليه مثالها وكان ذلك في كسوف
الشمس (يحطم) بكسر الطاء أي يأكل (بعضها بعضًا ورأيت
عمرًا) هو ابن عامر الخزاعي (يجر قصبه) بضم القاف وسكون
المهملة أمعاءه أي في النار وسقط للعلم به (وهو أول من
سيّب السوائب).
وقد سبق هذا الحديث مطوّلًا في أبواب العمل في الصلاة من
وجه آخر عن يونس بن يزيد.
14 - باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ
فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ
عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
[المائدة: 117]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وكنت عليهم شهيدًا})
رقيبًا كالشاهد لم أمكنهم من هذا القول الشنيع
(7/113)
وهو المذكور في قوله تعالى: {أأنت قلت
للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} فضلًا عن أن
يعتقدوه ({ما دمت فيهم فلما توفيتني}) أي بالرفع إلى
السماء لقوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك} [آل عمران: 55]
والمتوفى أخذ الشيء وافيًا والموت نوع منه ({كنت أنت
الرقيب عليهم}) المراقب لأحوالهم فتمنع من أردت عصمته
بأدلة العقل والآيات التي أنزلت إليهم ({وأنت على كل شيء
شهيد}) [المائدة: 117] مطلع عليه مراقب له.
قال في فتوح الغيب: فإن قلت: إذا كان الشهيد بمعنى الرقيب
فلمَ عدل عنه إلى الرقيب في قوله تعالى: {كنت أنت الرقيب
عليهم} مع أنه ذيل الكلام بقوله: {وأنت على كل شيء شهيد}؟
وأجاب: بأنه خولف بين العبارتين ليميز بين الشهيدين
والرقيبين فيكون عيسى عليه السلام رقيبًا ليس كالرقيب الذي
يمنع ويلزم بل هو كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد
القول، وأنه تعالى هو الذي يمنع منع إلزام بنصب الأدلة
وإنزال البينات وإرسال الرسل، وسقط لأبي ذر قوله: {فلما
توفيتني} الخ ... وقال بعد قوله: {ما دمت فيهم} الآية.
4625 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ:
سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي
الله عنهما- قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً
عُرَاةً غُرْلًا» ثُمَّ قَالَ: «{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ
خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا
فَاعِلِينَ}» إِلَى آخِرِ الآيَةِ. ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ
وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِبْرَاهِيمُ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ
أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ:
يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِى
مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: كَمَا قَالَ:
الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا
دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ
يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ
فَارَقْتَهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (أخبرنا المغيرة بن النعمان)
النخعي الكوفي (قال: سمعت سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم
الكوفي (عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما) أنه (قال: خطب
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(يا أيها الناس إنكم محشورون) أي مجموعون يوم القيامة (إلى
الله) تعالى حال كونكم (حفاة عراة غرلًا) بضم الغين وسكون
الراء جمع أغرل وهو الأقلف، والغرلة القلفة التي تقطع من
ذكر الصبي. قال ابن عبد البر: يحشر الآدمي عاريًا ولكل من
الأعضاء ما كان له يوم ولد فمن قطع له شيء يرد حتى الأقلف.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: حشفة الأقلف موقاة بالقلفة فلما
أزالوها في الدنيا أعادها الله في الآخرة ليذيقها من حلاوة
فضله، وسقط لأبي ذر: عراة (ثم قال) عليه الصلاة والسلام:
ولأبي ذر عن الكشميهني ثم قرأ: ({كما بدأنا أول خلق نعيده
وعدًا علينا إنا كنا فاعلين}) [الأنبياء: 104] (إلى آخر
الآية). قال في شرح المشكاة: إن قيل سياق الآية في إثبات
الحشر والنشر لأن المعنى نوجدكم عن العدم كما أوجدناكم
أولًا عن العدم فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور؟ وأجاب:
بأن سياق الآية دل على إثبات الحشر وأشارتها على المعنى
المراد من الحديث فهو من باب الإدماج.
(ثم قال) عليه الصلاة والسلام: (ألا) بالتخفيف للاستفتاح
(وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم) الخليل
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه أول من عري في
ذات الله حين أرادوا إلقاءه في النار ولا يلزم من أوليته
لذلك تفضيله على نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لأنا نقول إذا استأثر الله عبدًا بفضيلة على
آخر واستأثر المستأثر عليه على المستأثر بتلك الواحدة
بغيرها أفضل منها كانت الفضيلة له، فحلة نبينا -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي يكساها بعد الخليل حلة
خضراء وهي حلة الكرامة بقرينة إجلاسه عند ساق العرش فهي
أعلى وأكمل فتجبر بنفاستها ما فات من الأولية ولا خفاء بأن
منصب الشفاعة حيث لا يؤذن لأحد غير نبينا فيه لم يبق سابقة
لأولي السابقة ولا فضيلة لذوي الفضائل إلا أتت عليها وكم
له من فضائل مختصة به لم يسبق إليها ولم يشارك فيها (ألا)
بالتخفيف أيضًا (وإنه يجاء) بضم الياء وفتح الجيم (برجال
من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال) جهة النار (فأقول: يا رب
أصيحابي) بضم الهمزة وفتح المهملة مصغرًا والتصغير يدل على
التقليل والمراد أنهم تأخروا عن بعض الحقوق وقصروا فيها أو
من ارتد من جفاة الأعراب ولأبي ذر عن الكشميهني أصحابي
بالتكبير (فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: كما
قال العبد الصالح) عيسى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: ({وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتني
كنت أنت الرقيب عليهم) وزاد أبو ذر {وأنت على كل شيء
شهيد}.
وهذا موضع الترجمة على ما لا يخفى.
(فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ)
بالنون لأبي ذر عن الكشميهني مذ (فارقتهم) لم يرد به خواص
الصحابة الذين لزموه
(7/114)
وعرفوا بصحبته فقد صانهم الله تعالى وعصمهم
من ذلك وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب من المؤلّفة قلوبهم
ممن لا بصيرة له في الدين.
وهذا الحديث يأتي إن شاء الله تعالى في الرقاق بعون الله
تعالى وقوته.
15 - باب قَوْلِهِ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]
(باب قوله) عز وجل: ({وإن تعذبهم فإنهم عبادك}) أي إن
عذبتهم فلا تعذب إلا عبادك ولا اعتراض على المالك فيما
يتصرف فيه من ملكه وهم يستحقون ذلك حيث عبدوا غيرك ({وإن
تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}) [المائدة: 118]. إن
قيل: كيف جاز أن يقول وأن تغفر لهم فتعرّض بسؤاله العفو
عنهم مع علمه أنه تعالى قد حكم بأنه من يشرك بالله فقد
حرّم الله عليه الجنة؟ أجيب: بأن هذا ليس بسؤال وإنما هو
كلام على طريق إظهار قدرته تعالى على ما يريد وعلى مقتضى
حكمه وحكمته، ولذا قال: فإنك أنت العزيز الحكيم تنبيهًا
على أنه لا امتناع لأحد من عزته ولا اعتراض في حكمه وحكمته
فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل. قال:
أذنبت ذنبًا عظيمًا ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت ففضل ... وإن جزيت فعدل
وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته وسط
قوله: {وإن تغفر لهم} الخ لأبي ذر وقال بعد قوله: {فإنهم
عبادك} الآية.
4626 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ،
قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ، وَإِنَّ
نَاسًا يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: كَمَا
قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} -إِلَى قَوْلِهِ-
{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) العبدي البصري قال:
(حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا (سفيان) الثوري قال: (حدّثنا)
ولأبي ذر: أخبرنا (المغيرة بن النعمان) النخعي (قال:
حدّثني) بالإفراد (سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم (عن ابن
عباس) رضي الله تعالى عنهما (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إنكم محشورون) أي يوم القيامة وزاد في الرواية السابقة
إلى الله (وإن ناسًا) ولأبي ذر عن الكشميهني وأن رجالًا
(يؤخذ بهم ذات الشمال) جهة النار (فأقول كما قال العبد
الصالح) عيسى ابن مريم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: ({وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} -إلى قوله-
{العزيز الحكيم}).
فإن قلت: ما وجه مناسبة العزيز الحكيم بعد التعذيب
والمغفرة وبالنظر إلى القسم الآخر الغفور أنسب ظاهرًا؟
أجيب: بأن مجموع الوصفين لمجموع الحكمين كأنه قال: إن
تعذبهم فإنهم
عبادك ولا يفوتك ولا يؤدك تعذيبهم وأن تغفر لهم فإنك أنت
الحكيم الذي لا يفعل إلا بمقتضى الحكمة لا بالنظر إلى أنهم
يستحقون المغفرة بل باعتبار أن فعلك لا يكون إلا على وجه
الصواب.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الرقاق وأحاديث الأنبياء،
ومسلم في صفة القيامة، والترمذي في الزهد، والنسائي في
الجنائز والتفسير.
([6] سورة الأنعام)
عن ابن عباس فيما رواه الطبراني نزلت سورة الأنعام بمكة
ليلًا جملة حرلها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح.
وروى الحاكم في مستدركه عن جعفر بن عون، حدّثنا إسماعيل بن
عبد الرحمن، حدّثنا محمد بن المنكدر عن جابر لما نزلت سورة
الأنعام سبح رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ثم قال: (لقد شيع هذه السورة ما سدّ الأفق) ثم
قال: صحيح على شرط مسلم فإن إسماعيل هو السدي. قال الذهبي:
لا والله لم يدرك جعفر السدي وأظن هذا موضوعًا، وعند ابن
مردويه عن أنس بن مالك مرفوعًا: نزلت سورة الأنعام معها
موكب من الملائكة سدّ ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح
والأرض بهم ترتج ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول: سبحان الله الملك العظيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[6]- سورة الأَنْعَامِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِتْنَتَهُمْ مَعْذِرَتَهُمْ
مَعْرُوشَاتٍ: مَا يُعْرَشُ مِنَ الْكَرْمِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، حَمُولَةً: مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا،
وَلَلَبَسْنَا: لَشَبَّهْنَا، يَنْأَوْنَ، يَتَبَاعَدُونَ،
تُبْسَلُ: تُفْضَحُ، أُبْسِلُوا: أُفْضِحُوا، بَاسِطُو
أَيْدِيهِمْ: الْبَسْطُ الضَّرْبُ، اسْتَكْثَرْتُمْ:
أَضْلَلْتُمْ كَثِيرًا. ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ: جَعَلُوا
لِلَّهِ مِنْ ثَمَرَاتِهِمْ وَمَالِهِمْ نَصِيبًا
وَلِلشَّيْطَانِ وَالأَوْثَانِ نَصِيبًا. أَكِنَّةً
وَاحِدُهَا: كِنَانٌ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ يَعْنِي هَلْ
تَشْتَمِلُ إِلاَّ عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى؟ فَلِمَ
تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا. مَسْفُوحًا:
مُهْرَاقًا، صَدَفَ: أَعْرَضَ. أُبْلِسُوا: أُويِسُوا.
وَأُبْسِلُوا: أُسْلِمُوا. سَرْمَدًا: دَائِمًا.
اسْتَهْوَتْهُ: أَضَلَّتْهُ. تَمْتَرُونَ: تَشُكُّونَ،
وَقْرًا: صَمَمٌ، وَأَمَّا الْوِقْرُ الْحِمْلُ.
أَسَاطِيرُ: وَاحِدُهَا أُسْطُورَةٌ وَإِسْطَارَةٌ وَهِيَ
التُّرَّهَاتُ، الْبَأْسَاءُ: مِنَ الْبَأْسِ وَيَكُونُ
مِنَ الْبُؤْسِ. جَهْرَةً: مُعَايَنَةً، الصُّوَرُ:
جَمَاعَةُ صُورَةٍ كَقَوْلِهِ: سُورَةٌ وَسُوَرٌ،
مَلَكُوتٌ: مُلْكٌ مِثْلُ رَهَبُوتٍ خَيْرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ
وَيَقُولُ تُرْهَبُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُرْحَمَ، جَنَّ:
أَظْلَمَ، تَعَالَى: عَلاَ، وَإِن تَعْدِلْ: تُقْسِطْ، لاَ
يُقْبَلْ مِنْهَا فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، يُقَالُ: عَلَى
اللَّهِ حُسْبَانُهُ أَيْ حِسَابُهُ، وَيُقَالُ
حُسْبَانًا: مَرَامِيَ وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ.
مُسْتَقَرٌّ: فِي الصُّلْبِ، وَمُسْتَوْدَعٌ: فِي
الرَّحِمِ، الْقِنْوُ الْعِذْقُ وَالاِثْنَانِ قِنْوَانِ
وَالْجَمَاعَةُ أَيْضًا قِنْوَانٌ مِثْلُ صِنْوٍ
وَصِنْوَانٍ.
(بسم الله الرحْمن الرحيم) سقطت البسملة لغير أبي ذر.
(قال ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما فيما وصله ابن أبي
حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عنه: ({ثم لم تكن فتنتهم})
[الأنعام: 23] أي (معذرتهم) أي التي يتوهمون أنهم يتخلصون
بها، وسقط {ثم لم تكن} لغير أبي ذر، وقال ابن عباس فيما
وصله ابن أبي حاتم أيضًا في قوله تعالى: {وهو الذي أنشأ
جنات} ({معروشات}) [الأنعام: 141] أي (ما يعرش من الكرم
وغير ذلك) وسقط هذا لأبي ذر. وقال ابن عباس أيضًا فيما
وصله ابن أبي حاتم في قوله تعالى: ({حمولة}) (وفرشًا}
[الأنعام: 142] هي (ما يحمل
(7/115)
عليها) كذا في اليونينية يحمل بالتحتية
وسقطت في فرعها أي الأثقال وفي قوله: ({وللبسنا}) {عليهم}
[الأنعام: 9] (لشبهنا) عليهم فيقولون: ما هذا إلا بشر
مثلكم، وفي قوله تعالى: ({وينأون}) [الأنعام: 26] عنه
(يتباعدون) عنه أي عن أن يؤمنوا به عليه الصلاة والسلام
وفي ({تبسل}) من قوله: {أن تبسل نفس} [الأنعام: 7] (تفضح)
وفي قوله: ({أبسلوا}) أي (أفضحوا) همزة مضمومة وكسر الضاد
المعجمة ولأبي ذر فضحوا بغير همزة وفي قوله تعالى:
{والملائكة} ({باسطو أيديهم}) [الأنعام: 93] (البسط:
الضرب) من قوله تعالى: {لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني}
[المائدة: 28] وليس البسط الضرب نفسه وفي قوله: {قد}
({استكثرتم}) أي (أضللتم كثيرًا) منهم وكذلك قال مجاهد
والحسن وقتادة: ولأبي ذر وقوله: استكثرتم من الإِنس وسقط
لغيره وفي قوله: ({ذرأ}) ولأبي ذر: {مما ذرأ} ({من الحرث})
[الأنعام: 136] قال: (جعلوا لله من ثمراتهم وما لهم نصيبًا
وللشيطان والأوثان نصيبًا).
وروي أنهم كانوا يصرفون ما عينوه لله إلى الضيفان
والمساكين والذي لأوثانهم ينفقونه على سدنتها ثم إن رأوا
ما عينوه لله أزكى بذلوه لآلهتهم وإن رأوا ما آلهتهم أزكى
تركوه لها حبًّا لها وفي قوله: {مما ذرأ} تنبيه على فرط
جهالتهم فإنهم أشركوا الخالق في خلقه جمادًا لا يقدر على
شيء ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له، وسقط لغير أبي ذر
لفظ مما من قوله: {مما ذرأ}.
وقال ابن عباس أيضًا في قوله تعالى: {على قلوبهم} ({أكنة})
[الأنعام: 25] أن يفقهوه (واحدها كنان) وهو ما يستر الشيء
وهذا ثابت لأبي ذر عن المستملي ساقط لغيره وفي قوله:
({أما}) بإدغام الميم في الأخرى وحذفها من الكتابة ولأبي
ذر: أم ما ({اشتملت}) [الأنعام: 143] عليه أرحام الأنثيين
(يعني هل تشتمل إلا على ذكر أو أنثى فلم تحرمون بعضًا
وتحلّون بعضًا) وهو رد عليهم في قولهم: ({ما في بطون هذه
الأنعام خالصة لذكورنا} ومحرم على أزواجنا. وفي قوله: {أو
دمًا} ({مسفوحًا}) أي (مهراقًا) يعني مصبوبًا كالدم في
العروق لا كالكبد والطحال وهذا ثابت للكشميهني ساقط لغيره،
وفي قوله: ({صدف}) أي (أعرض) عن آيات الله، وفي قوله
تعالى: ({أبلسوا}) من قوله تعالى: {فإذا هم مبلسون} أي
(أويسوا) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي أيسوا بفتح الهمزة وإسقاط الواو مبنيًّا للفاعل
من أيس إذا انقطع رجاؤه، وفي قوله: {أبلسوا} بما كسبوا أي
(أسلموا) أي إلى الهلاك بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم
الزائغة وقد ذكر هذا قريبًا بغير هذا التفسير وفي قوله في
سورة
القصص (سرمدًا) إلى يوم القيامة أي (دائمًا) قيل وذكره هنا
لمناسبة قوله في هذه السورة وجاعل الليل سكنًا. وفي قوله:
({استهوته}) أي (أضلته) الشياطين، وفي قوله: {ثم أنتم}
({تمترون}) أي (تشكون) وفي قوله: {وفي آذانهم} ({وقر}) أي
(صم وأما الوقر) بكسر الواو (فإنه الحمل) بكسر الحاء
المهملة وسقط لغير أبي ذر فإنه وقوله: ({أساطير}) الأولين
(واحدها أسطورة) بضم الهمزة وسكون السين وضم الطاء
(وإسطارة) بكسر الهمزة وفتح الطاء ويعدها ألف (وهي
الترهات) بضم الفوقية وتشديد الراء أي الأباطيل وقوله:
({البأساء}) في قوله: {فأخذناهم بالبأساء} (من البأس) وهو
الشدّة (ويكون من البؤس) بالضم وهو ضدّ النعيم وقوله: {أو}
({جهرة}) أي (معاينة) وقوله: ({الصور}) بضم الصاد وفتح
الواو في قوله: {يوم ينفخ في الصور} أي (جماعة صورة) أي
يوم ينفخ فيها فتحيا (كقوله: سورة وسور) بالسين المهملة
فيهما. قال ابن كثير: والصحيح أن المراد بالصور القرن الذي
ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام للأحاديث الواردة فيه،
وقوله: ({ملكوت}) بفتح التاء في اليونينية في قوله تعالى:
{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} [الأنعام: 75]
أي (ملك) وقيل الواو والتاء زائدتان (مثل رهبوت) كذا في
نسخة آل ملك بكسر ميم مثل والإضافة لتاليه والذي في
اليونينية مثل بفتح الميم والمثلثة وتنوين اللام ورهبوت
رفع (خبر من رحموت) أي في الوزن (وتقول: ترهب خير من أن
ترحم) ولأبي ذر ملكوت وملك رهبوت رحموت والصواب الأول فإنه
فسر ملكوت بملك وأشار إلى أن وزن ملكوت مثل رهبوت ورحموت،
ويؤيده قول أبي عبيدة
(7/116)
في تفسيره الآية حيث قال أي ملك السماوّات
والأرض خرجت مخرج قولهم في المثل رهبوت خير من رحموت أي
رهبة خير من رحمة وقوله: {فلما} ({جن}) {عليه الليل} أي
(أظلم) وقوله: ({تعالى}) {ما يصفون} أي (علا) وهذا ثابت
لأبي ذر ساقط لغيره كقوله: ({وأن تعدل}) كل عدل لا يؤخذ
منها أي (تقسط) بضم الفوقية من الأقساط وهو العدل والضمير
في أن تعدل يرجع إلى النفس الكافرة المذكورة قبل ({لا يقبل
منها} في ذلك اليوم) هو يوم القيامة لأن التوبة إنما تنفع
في حال الحياة قبل الموت وقوله: وإن تعدل الخ ... ثابت
لأبي ذر، وفي قوله: {والشمس والقمر حسبانًا} (يقال على
الله حسبانه أي حسابه) كشهبان وشهاب أي يجريان بحساب متقن
مقدر لا يتغير ولا يضطرب بل كل منهما له منازل يسكنها في
الصيف والشتاء فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولًا
وقصرًا (ويقال حسبانًا) أي (مرامي) أي سهامًا (ورجومًا
للشياطين) وسقط قوله ويقال لأبي ذر.
وقوله: ({مستقر}) في قوله تعالى: {أنشأكم من نفس واحدة
فمستقر} [الأنعام: 98] أي (في الصلب ومستودع في الرحم) كذا
وقع هنا ومثله قول أي عبيدة مستقر في صلب الأب ومستوع في
رحم الأم، وكذا أخرجه عبد بن حميد من حديث محمد ابن
الحنفية، وقال معمر عن قتادة عن عبد الرزاق مستقر في الرحم
ومستوع في الصلب، وأخرج سعيد بن منصور مثله من حديث ابن
عباس بإسناد صحيح، وأخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال
مستقرها في الدنيا ومستودعها في الآخرة، وعند الطبراني من
حديثه المستقر الرحم والمستودع الأرض وقوله: القنو
في قوله: {ومن النخل من طلعها قنوان} [الأنعام: 99] أي
(العذق) بكسر العين المهملة وسكون الذال المعجمة آخره قاف
وهو العرجون بما فيه من الشماريخ (والاثنان قنوان) بكسر
القاف (والجماعة أيضًا قنوان) فيستوي فيه التثنية والجمع.
نعم يظهر الفرق بينهما في رواية أبي ذر حيث تكرر عنده
صنوان مع كسر نون الأولى ورفع الثانية التي هي نون الجمع
الجاري عليها الإعراب تقول في التثنية هذان قنوان بالكسر،
وأخذت قنوين في النصب، وضربت بقنوين في الجر فنقلب ألف
التثنية فيهما وتقول في الجمع هذه قنوان بالرفع لأنه في
حالة الرفع وأخذت قنوانًا بالنصب وضربت بقنوان بالجرّ ولا
تتغير فيه الألف والإعراب يجري على النون ويحصل الفرق
أيضًا بالإضافة فإن نون التثنية تحذف دون نون الجمع وسقطت
قنوان الثانية لغير أبي ذر (مثل صنو وصنوان) في التثنية
والجمع والكسر في التثنية والحركات الثلاث في الجمع وهو
بكسر الصاد المهملة وسكون النون وأصله أن تطلع نخلتان من
عرق واحد، ولأبي ذر: وصنوان بالرفع والتنوين، وهذه
التفاسير المذكورة مقدم بعضها على بعض في بعض النسخ ومؤخر
في أخرى وساقط في بعضها من بعض.
1 - باب {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا
إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وعنده مفاتح الغيب لا
يعلمها إلا هو}) [الأنعام: 59] المفاتح: جمع مفتح بفتح
الميم وهو الخزانة أو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح
بإثبات الألف وجمعه مفاتيح بياء بعد الألف وقرأ بها ابن
السميقع وهو الآلة التي يفتح بها، فعلى الأول يكون المعنى
وعنده خزائن الغيب وهذا منقول عن السدي فيما رواه الطبري،
وعلى الثاني يكون قد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة
لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن
المستوثق منها بالإغلاق فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل إلى
ما فيها فهو عالم وكذلك هاهنا إن الله تعالى لما كان
عالمًا بجميع المعلومات ما غاب منها وما لم يغب عبّر عنه
بهذه العبارة إشارة إلى أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده
لا يتوصل إليها غيره وهذا هو الفائدة في التعبير بعند،
وفيه ردّ على المنجم المخذول الذي يدعي علم الغيب والفلسفي
المطرود الذي يزعم أن الله تعالى لا يعلم الجزئيات، وجوّز
الواحدي أنه جمع مفتح بفتح الميم على أنه مصدر بمعنى الفتح
أي وعنده فتوح الغيب أي يفتح الغيب على من يشاء من عباده
ويطلق المفتاح على المحسوس والمعنوي، وفي حديث أنس
(7/117)
مما صححه ابن حبان "أن من الناس مفاتح
للخير".
4627 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ {إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:
34]».
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) بن يحيى القرشي
العامري الأويسي قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين
ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن ابن شهاب) محمد بن
مسلم الزهري (عن سالم بن عبد الله عن أبيه) عبد الله بن
عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- (أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(مفاتح الغيب) بوزن مساجد أي خزائن الغيب (خمس) لا يعلمها
إلا الله فمن ادّعى علم شيء منها فقد كفر بالقرآن العظيم
وذكر خمسًا، وإن كان الغيب لا يتناهى لأن العدد لا ينفي
زائدًا عليه أو لأن هذه الخمس هي التي كانوا يدّعون علمها
({إن الله عنده علم الساعة}) أي علم قيامها فلا يعلم ذلك
نبي مرسل ولا ملك مقرب لا يجلبها لوقتها إلا هو ومن ثمّ
أنكر الداودي على الطبري دعواه أنه بقي من الدنيا من هجرة
المصطفى نصف يوم وهو خمسمائة عام قال: وتقوم الساعة لأن
دعواه مخالفة لصريح القرآن والسنّة ويكفي في الردّ عليه أن
الأمر وقع بخلاف ما قال فقد مضت خمسمائة سنة ثم ثلاثمائة
وزيادة لكن الطبري تمسك بحديث أبي ثعلبة رفعه: "لن تعجز
هذه الأمة أن يؤخرها الله نصف يوم". الحديث ... أخرجه أبو
داود وغيره لكنه ليس صريحًا في أنها لا تؤخر أكثر من ذلك
({وينزل الغيث}) فلا يعلم وقت إنزاله من غير تقديم ولا
تأخير وفي بلد لا يجاوز به إلا هو لكن إذا أمر به علمته
ملائكته الموكلون به ومن شاء الله من خلقه ({ويعلم ما في
الأرحام}) مما يريد أن يخلقه أذكر أم أنثى أتام أم ناقص لا
أحد سواه لكن إذا أمر بكونه ذكرًا أو أنثى أو شقيًّا أو
سعيدًا علمه الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء من خلقه ({وما
تدري نفس ماذا تكسب غدًا) في دنياها أو أخراها من خير أو
شر ({وما تدري نفس بأي أرض تموت}) أفي بلدها أم في غيرها
فليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أو بر
سهل أو جبل ({إن الله عليم خبير}) [لقمان: 34]. والاستدراك
من نفي علم غير البارئ تعالى بوقت إنزال المطر قوّلنا لكن
إذا أمر به علمته ملائكته الموكلون به الخ ... مستفاد من
قوله: علم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من
رسول الآية. ومقتضاه إطلاع الرسول على بعض المغيب والولي
تابع للرسول يأخذ عنه، وسقط قوله: {ويعلم ما في الأرحام}
الخ لأبي ذر وقال إلى آخر السورة.
وهذا الحديث قد سبق في الاستسقاء ويأتي إن شاء الله تعالى
في سورة الرعد ولقمان والله المستعان.
2 - باب قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] يَلْبِسَكُمْ:
يَخْلِطَكُمْ مِنَ الاِلْتِبَاسِ. يَلْبِسُوا: يَخْلِطُوا.
شِيَعًا: فِرَقًا
(باب قوله) تعالى: ({قل هو القادر على أن يبعث عليكم
عذابًا من فوقكم}) كما فعل بقوم
نوح ولوط وأصحاب الفيل ({أو من تحت أرجلكم}) [الأنعام: 65]
كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وعند ابن مردويه من حديث أبي
بن كعب ({عذابًا من فوقكم}) قال: الرجم ({أو من تحت
أرجلكم}) الخسف. وقيل من فوقكم أكابركم وحكّامكم أو من تحت
أرجلكم سفلتكم وعبيدكم، وقيل المراد بالفوق حبس المطر
وبالتحت منع الثمرات وسقط لغير أبي ذر: أو من تحت أرجلكم،
وقالوا: الآية، وثبت قوله: باب قوله لأبي ذر، وسقط
للباقين.
({يلبسكم}) [الأنعام: 65] في قوله: {أو يلبسكم} أي (يخلطكم
من الالتباس يلبسوا يخلطوا) وهذا كاللاحق من قول أبي
عبيدة، وقوله: ({شيعا}) [الأنعام: 65] أي (فرقًا) أي لا
تكونوا شيعة واحدة يعني يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط
اتفاق يقاتل بعضكم بعضًا.
4628 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الآيَةُ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَعُوذُ
بِوَجْهِكَ» قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}
قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَذَا
أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ». [الحديث 4628 - طرفاه في:
7313، 7406].
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل عارم قال:
(حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم الجهضمي (عن عمرو بن
دينار عن جابر) الأنصاري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: لما
نزلت هذه الآية {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من
فوقكم} قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(أعوذ بوجهك) بذاتك. وزاد الإسماعيلي من طريق حماد بن زيد
عن عمرو الكريم (قال: {أو من تحت أرجلكم}) وسقطت قال لأبي
ذر (قال) عليه الصلاة والسلام: (أعوذ بوجهك) زاد
الإسماعيلي الكريم أيضًا ({أو يلبسكم}) يخلطكم في ملاحم
القتال ({شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض}) أي يقاتل بعضكم
بعضًا. وقال مجاهد: يعني أهواء
(7/118)
متفرقة وهو ما كان فيهم من الفتن
والاختلاف. وقال بعضهم: هو ما فيه الناس الآن من الاختلاف
والأهواء وسفك الدماء (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هذا أهون) لأن الفتن بين المخلوقين
وعذابهم أهون من عذاب الله فابتليت هذه الأمة بالفتن ليكفر
بها عنهم (أو) قال: (هذا أيسر) شك الراوي.
وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دعوت الله أن يرفع عن أمتي
أربعًا فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين دعوت
الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وأن لا
يلبسهم شيعًا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم
الخسف والرجم، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين" فيستفاد منه أن
الخسف والرجم لا يقعان في هذه الأمة، لكن روى أحمد من حديث
أبيّ بن كعب في هذه الآية قال: هن أربع وكلهن واقع لا
محالة فمضت اثنتان بعد وفاة نبيهم بخمس وعشرين سنة ألبسوا
شيعًا وذاق بعضهم بأس بعض، وبقيت
اثنتان واقعتان. لا محالة الخسف والرجم، لكنه أعلّ بأنه
مخالف لحديث جابر وغيره، وبأن أبيّ بن كعب لم يدرك سنة خمس
وعشرين من الوفاة النبوية فكأن حديثه انتهى عند قوله: لا
محالة، والباقي كلام بعض الرواة، وجمع بينهما بأن حديث
جابر مقيد بزمان وجود الصحابة وبعد ذلك يجوز وقوعهما، وعند
أحمد بإسناد صحيح من حديث صحار بضم الصاد وبالحاء المخففة
المهملتين العبدي رفعه: "لا تقوم الساعة حتى يخسف بقبائل"
الحديث ... ذكره في فتح الباري، وفي حديث ربيعة الجرشي عند
ابن أبي خيثمة رفعه: "يكون في أمتي الخسف والقذف والمسخ".
وحديث الباب أخرجه المؤلّف أيضًا في التوحيد والنسائي في
التفسير.
3 - باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
[الأنعام: 82]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] أي بشرك، وسقط لفظ
باب لغير أبي ذر.
4629 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
-رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَيُّنَا
لَمْ يَظْلِمْ فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ}.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة
والمعجمة المشددة بندار العبدي قال: (حدّثنا ابن أبي عدي)
هو محمد واسم أبي عدي إبراهيم البصري (عن شعبة) بن الحجاج
(عن سليمان) بن مهران الأعمش (عن إبراهيم) النخعي (عن
علقمة) بن قيس (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-)
أنه (قال: لما نزلت {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}) أي عظيم أي
لم يخلطوه بشرك كما سيأتي، واستشكل تصوير خلط الإيمان
بالشرك وحمله بعضهم على خلطهما ظاهرًا وباطنًا أي لم
ينافقوا؛ أو المراد بالإيمان مجرد التصديق بالصانع وحده
فيكون لغويًّا وحينئذ فلا إشكال. (قال أصحابه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورضي الله عنهم: (وأينا لم
يظلم) وفي نسخة لأبي ذر عن الحموي: لا يظلم (فنزلت) عقب
ذلك ({إِن الشرك لظلم عظيم}) [لقمان: 13] فبيّن أن عموم
الظلم المفهوم من الإتيان به نكرة في سياق النفي غير مراد
بل هو من العام الذي أريد به الخاص وهو الشرك الذي هو أعلى
أنواع الظلم.
وهذا الحديث قد سبق في باب الإيمان.
4 - باب قَوْلِهِ: {وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ
فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86]
(باب قوله) جل وعلا: ({ويونس ولوطًا}) هو ابن هاران ابن
أخي إبراهيم الخليل عليه السلام ({وكلاًّ فضلنا على
العالمين}) [الأنعام: 86] أي عالمي زمانهم، وتمسك به من
قال: إن الأنبياء أفضل من الملائكة لدخولهم في عموم الجمع
المحلى.
4630 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ
نَبِيِّكُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَا يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن
بشار) بندار العبدي قال: (حدّثنا ابن مهدي) عبد الرحمن
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (عن أبي
العالية) رفيع بضم الراء وفتح الفاء وبعد التحتية الساكنة
عين مهملة ابن مهران الرياحي أنه (قال: حدّثني) بالإفراد
(ابن عم نبيكم يعني ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى) بفتح
الميم والفوقية المشددة وضمير المتكلم يحتمل أن يعود إلى
كل قائل، أي: لا يقول بعض الجاهلين من المجتهدين في
العبادة أو العلم أو غير ذلك من الفضائل فإنه ولو بلغ لم
يبلغ درجة النبوة، ويؤيده ما في بعض الروايات ما ينبغي
لعبد أن يقول: وقيل يعود إلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي لا ينبغي لأحد أن يفضلني عليه قاله
(7/119)
على سبيل التواضع أو قبل أن يعلم أنه سيد
ولد آدم وفيه نظر من جهة معرفة المتقدم تاريخيًّا.
4631 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:
سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا
يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى».
وبه قال: (حدّثنا آدم بن أبي إياس) بكسر الهمزة وتخفيف
التحتية قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (أخبرنا سعد بن
إبراهيم) بسكون العين (قال: سمعت حميد بن عبد الرحمن بن
عوف عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى) فيه الكف
عن الخوض في التفضيل بين الأنبياء بالرأي فيوقف عند المروي
من ذلك والدلائل متظافرة على تفضيل نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على جميع الأنبياء، وخص يونس بالذكر
خوفًا من توهم حط مرتبته العلية بقصة الحوت.
وهذا الحديث قد سبق مرارًا وقد ثبت باب قوله لأبي ذر عن
المستملي وسقط لغيره.
5 - باب قَوْلِهِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]
(باب قوله) سبحانه وتعالى: ({أولئك الذين هدى الله}) قال
الزجاج الأنبياء الذين ذكرهم ({فبهداهم اقتده}) [الأنعام:
90] الهاء من اقتده للوقف ومن أثبتها في الوصل ساكنة.
كالحرمين، والبصري وعاصم أجرى الوصل مجرى الوقف وأشبعها
ابن عامر على أنها كناية المصدر أي اقتد اقتداء وحذفها
الأخوان على أنها هاء السكت وقياسها في الوصل الحذف.
وفي هذه الآية دلالة على فضل نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على سائر الأنبياء لأنه سبحانه أمره
بالاقتداء بهداهم، ولا بد من امتثاله لذلك الأمر فوجب أن
يجتمع فيه جميع فضائلهم وأخلاقهم المتفرقة، فثبت بهذا أنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفضل الأنبياء وتقديم
قوله: {فبهداهم اقتده} يفيد حصر الأمر في هذا الاقتداء
وأنه لا هدى غيره، والمراد أصول الدين وهو الذي يستحق أن
يسمى الهدى المطلق فإنه لا يقبل النسخ، وكذا في مكارم
الأخلاق والصفات الحميدة المشهورة عن كل واحد من هؤلاء
الأنبياء ولو أمر بالاقتداء في مشروع تلك الأديان لم يكن
دينًا ناسخًا وكان يجب محافظة كتبهم ومراجعتها عند الحاجة
وبطلان اللازم بالاتفاق يدل على بطلان الملزوم، وسقط لغير
أبي ذر قوله: باب قوله.
4632 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ مُجَاهِدًا
أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَفِي (ص)
سَجْدَةٌ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلاَ: {وَوَهَبْنَا}
-إِلَى قَوْلِهِ- {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ثُمَّ قَالَ:
هُوَ مِنْهُمْ. زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ عُبَيْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الْعَوَّامِ
عَنْ مُجَاهِدٍ، قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: فَقَالَ
نَبِيُّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّنْ
أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِىَ بِهِمْ.
وبه قال: (حدّثني) بالتوحيد (إبراهيم بن موسى) الفراء
الرازي الصغير قال: (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني
(أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبرهم قال:
أخبرني) بالإفراد (سليمان) بن أبي مسلم (الأحول) المكي قيل
اسم أبيه عبد الله (أن مجاهدًا) هو ابن جبر بفتح الجيم
وسكون الموحدة المخزومي مولاهم المكي الإمام في التفسير
(أخبره أنه سأل ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أفي) سورة (ص
سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا {ووهبنا}) زاد أبو ذر: {له إسحاق
ويعقوب} (- إلى قوله- {فبهداهم اقتده} ثم قال: هو منهم).
أبي داود من الأنبياء المذكورين في هذه الآية.
(زاد) على الرواية الماضية (يزيد بن هارون) الواسطي فيما
وصله الإسماعيلي (ومحمد بن عبيد) مصغرًا من غير إضافة
الطيالسي الكوفي فيما وصله البخاري في سورة ص (وسهل بن
يوسف) بسكون الهاء الأنماطي فيما وصله المؤلّف في أحاديث
الأنبياء ثلاثتهم (عن العوام) بتشديد الواو ابن حوشب بفتح
الحاء المهملة وسكون الواو وفتح المعجمة آخره موحدة (عن
مجاهد) المذكور آنفًا أنه قال: (قلت لابن عباس: فقال:
نبيكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممن أمر أن
يقتدي بهم) أي وقد سجدها داود فسجدها رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقتداء به، واستدلّ بهذا على
أن شرع من قبلنا شرع لنا وهي مسألة مشهورة في الأصول.
ويأتي هذا الحديث إن شاء الله تعالى في سورة ص بعون الله
تعالى وقوته.
6 - باب قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}
[الأنعام: 146] الآيَةَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلَّ
ذِى ظُفُرٍ: الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ. الْحَوَايَا:
الْمَبْعَرُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هَادُوا: صَارُوا
يَهُودًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ هُدْنَا: تُبْنَا. هَائِدٌ:
تَائِبٌ
(باب قوله) عز وجل ({وعلى الذين هادوا}) أي وعلى اليهود
({حرمنا كل ذي ظفر}) أي لم يكن منفرج الأصابع مشقوقها.
رواه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس
بإسناد حسن وذلك لشؤم ظلمهم لقوله تعالى: {فبظلم من الذين
هادوا حرمنا عليهم} [النساء: 160] ({ومن البقر والغنم
حرمنا عليهم شحومهما} [الأنعام: 146] (الآية). أي الثروب
بالثاء المثلثة المضمومة والراء آخره موحدة وهو شحم قد غشي
الكرش والأمعاء رقيق وشحم الكلى وترك البقر والغنم على
(7/120)
التحليل لم يحرم منها إلا الشحوم الخاصة،
واستثنى من الشحم ما علق بظهورهما أو ما اشتمل على الأمعاء
فإنه غير محرم، وهو المراد بقوله: {أو الحوايا} جمع حاوية
أو حاوياء كقاصعاء وقواصع أو حوية كسفينة وسفائن. ومن عطف
على شحومهما جعل أو بمعنى الواو فهي بمنزلة قولك: لا تطع
زيدًا أو عمرًا أو خالدًا أي هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع
فلا تطع واحدًا منهم ولا تطع الجماعة، ومثله الحسن أو ابن
سيرين أو الشعبي فليس المعنى أني أمرتك بمجالسة واحد منهم
بل المعنى كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحدًا منهم فأنت
مصيب وإن جالست الجماعة فأنت مصيب.
وقال ابن الحاجب: أو في قوله: {ولا تطع منه آثمًا وكفورًا}
[الإنسان: 24] بمعناها وهو أحد الأمرين وإنما جاء التعميم
من النهي الذي فيه معنى النفي، لأن المعنى قبل وجود النهي
فيهما تطيع آثمًا أو كفورًا أي واحدًا منهما فإذا جاء
النهي ورد على ما كان ثابتًا في المعنى، فيصير المعنى ولا
تطع أحدًا منهما فيجيء العموم فيهما من جهة النهي الداخل
بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر وهو معنى
دقيق، والحاصل أنك إذا عطفت أو الحوايا أو ما اختلط بعظم
على شحومهما دخلت الثلاث تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما
استثني منها وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم
وأو على الأول للإباحة وعلى الثاني للتنويع قاله في فتوح
الغيب، وسقط في رواية أبي ذر قوله: {ومن البقر} إلى آخره،
وقال بعد قوله: {ظفر} إلى قوله: {وإنا لصادقون}.
(وقال ابن عباس): فيما وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي
طلحة عنه في تفسير قوله: ({كل ذي ظفر} البعير والنعامة})
ونحوهما (الحوايا المبعر) بفتح الميم وصله ابن جرير عن ابن
عباس من طريق علي بن أبي طلحة وعبد الرزاق عن معمر عن
قتادة، وفي رواية أبي الوقت المباعر بالجمع، وكذا قاله
سعيد بن جبير فيما أخرجه ابن جرير. وقال: الحوايا جمع حوية
وهي ما تحوّى
واجتمع واستدار من البطن وهو بنات اللبن وهي المباعر وفيها
الأمعاء.
(وقال غيره): غير ابن عباس في قوله تعالى: {وعلى الذين
هادوا} [الأنعام: 146] (صاروا يهودًا. وأما قوله) تعالى:
إنّا ({هدنا}) إليك بالأعراف فمعناه (تبنا هائد تائب) كذا
نقل ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وغيره الخ لأبي ذر.
4633 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ
عَطَاءٌ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله
عنهما- سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ لَمَّا
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ
بَاعُوهُ فَأَكَلُوهَا» وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ كَتَبَ إِلَىَّ
عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين ابن فروخ بن
سعيد الحراني التميمي نزيل مصر قال: (حدّثنا الليث) بن سعد
الإمام المصري (عن يزيد بن أبي حبيب) أبي رجاء البصري واسم
أبيه سويد أنه قال: (قال عطاء): هو ابن أبي رباح (سمعت
جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما-) يقول:
(سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في
باب بيع الميتة من كتاب البيع عام الفتح وهو بمكة (قال):
(قاتل الله اليهود) أي لعنهم (لما حرم الله عليهم شحومها)
أي أكل شحوم الميتة (جملوه) أي أذابوا المذكور واستخرجوا
دهنه (ثم باعوه) ولأبي الوقت وأبي ذر عن الكشميهني: جملوها
على الأصل (فأكلوها) أي أثمانها.
(وقال أبو عاصم) الضحاك النبيل شيخ البخاري مما وصله أحمد
(حدّثنا عبد الحميد) بن جعفر الأنصاري قال: (حدّثنا يزيد)
بن أبي حبيب قال: (كتب إليّ) بتشديد الياء (عطاء) هو ابن
أبي رباح قال: (سمعت جابرًا) هو ابن عبد الله رضي الله
تعالى عنهما (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-). زاد أبو ذر مثله أي مثل المذكور من الحديث.
7 - باب قَوْلِهِ: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]
(باب قوله) تعالى: ({ولا تقربوا الفواحش}) الكبائر أو
الزنا ({ما ظهر منها وما بطن}) [الأنعام: 151] في محل نصب
بدل اشتمال من الفواحش أي لا تقربوا ظاهرها وباطنها وهو
الزنا سرًا أو جهرًا أو عمل الجوارح والنية أو عموم الآثام
ولفظ الباب ثابت لأبي ذر.
4634 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ
-رضي الله عنه- قَالَ: «لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ
وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ
مِنَ اللَّهِ لِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ». قُلْتُ
سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ:
وَرَفَعَهُ قَالَ: نَعَمْ. [الحديث 4634 - أطرافه في:
4637، 5220، 7403].
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بضم العين الحوضي قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عمرو) بفتح العين بن مرة
المرادي الكوفي الأعمى (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد
الله) بن مسعود (رضي الله تعالى عنه) أنه (قال: لا أحد
أغير من الله) أفعل التفضيل من الغيرة بفتح الغين وهي
الأنفة والحمية في حق المخلوق
(7/121)
وفي حق الخالق تحريمه ومنعه أن يأتي المؤمن
ما حرمه عليه. قال ابن جني: تقول لا أحد أفضل منك برفع
أفضل لأنه خبر لا كما يرفع خبر إن وتقول لا غلام لك فإن
فصلت بينهما بطل عملها تقول لا لك غلام، فإن وصفت اسم لا
كان لك ثلاثة أوجه النصب بغير تنوين وبتنوين والرفع
بتنوين، (ولذلك) أي ولأجل غيرته (حرم الفواحش ما ظهر منها
وما بطن ولا شيء أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه)
بالرفع والنصب في أحب وهو أفعل تفضيل بمعنى المفعول والمدح
فاعله نحو: ما رأيت رجلًا أحسن في عينه الكحل منه في عين
زيد، ونقل البرماوي كالزركشي أن عبد اللطيف البغدادي
استنبط من هذا جواز قول مدحت الله. قال: وليس صريحًا
لاحتمال أن يكون المراد أن الله يحب أن يمدح غيره ترغيبًا
للعبد في الازدياد مما يقتضي المدح، ولذلك مدح نفسه لا أن
المراد يحب أن يمدحه غيره.
قال في المصابيح: وما اعترض به الزركشي على عدم الصراحة
بإبداء الاحتمال المذكور ليس من قبل نفسه بل ذكره الشيخ
بهاء الدين السبكي في أوّل شرح التلخيص اهـ.
وهذا الذي قاله عبد اللطيف هو في شرحه على الخطب النباتية
وعبارة شرح التلخيص المذكور ومراد عبد اللطيف بقوله قد
يطلق المدح على الله تعالى إنك تقول: مدحت الله وما ذكره
هو ما فهمه النووي وليس صريحًا لاحتمال أن يكون المراد
الخ. قال في المصابح: الظاهر الجواز ولذلك مدح نفسه شاهد
صدق على صحته وحبه تعالى المدح ليثيب عليه فينتفع المكلف
لا لينتفع هو بالمدح تعالى الله علوًّا كبيرًا.
قال عمرو بن مرة (قلت): لأبي وائل هل (سمعته) أي هذا
الحديث (من عبد الله) بن مسعود (قال) أبو وائل (نعم).
سمعته من عبد الله (قلت ورفعه) عبد الله إلى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال: نعم) رفعه إليه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في التوبة والنسائي في التفسير
والترمذي في الدعوات.
8 - باب وَكِيلٌ: حَفِيظٌ وَمُحِيطٌ بِهِ. قُبُلًا: جَمْعُ
قَبِيلٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ضُرُوبٌ لِلْعَذَابِ، كُلُّ
ضَرْبٍ مِنْهَا قَبِيلٌ. زُخْرُفَ القَوْلِ: كُلُّ شَيْءٍ
حَسَّنْتَهُ وَوَشَّيْتَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَهْوَ
زُخْرُفٌ. وَحَرْثٌ حِجْرٌ: حَرَامٌ وَكُلُّ مَمْنُوعٍ
فَهْوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ وَالْحِجْرُ كُلُّ بِنَاءٍ
بَنَيْتَهُ وَيُقَالُ لِلأُنْثَى مِنَ الْخَيْلِ حِجْرٌ
وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ: حِجْرٌ وَحِجًى وَأَمَّا الْحِجْرُ
فَمَوْضِعُ ثَمُودَ، وَمَا حَجَّرْتَ عَلَيْهِ مِنَ
الأَرْضِ فَهُوَ حِجْرٌ وَمِنْهُ سُمِّىَ حَطِيمُ
الْبَيْتِ حِجْرًا، كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُور
مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ وَأَمَّا حَجْرُ
الْيَمَامَةِ فَهْوَ مَنْزِلٌ.
({وكيل}) ولأبي ذر: ووكيل بزيادة واو ومراده تفسير {وهو
على كل شيء وكيل} أي (حفيظ ومحيط به). كذا فسره أبو عبيدة.
وقوله: {وحشرنا عليهم كل شيء} ({قبلًا}) [الأنعام: 111].
هو (جمع قبيل، والمعنى أنه ضروب للعذاب كل ضرب منها قبيل).
قال أبو عبيدة: وحشرنا جمعنا. وقبلًا جمع قبيل أي صنف.
وقال مجاهد: قبلًا أفواجًا قبيلًا قبيلًا أي تعرض عليهم كل
أمة من الأمم فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به ما كانوا
ليؤمنوا إلا أن يشاء الله. وقال ابن جرير ويحتمل أن يكون
القبل جمع قبيل وهو الضمين والكفيل أي وحشرنا عليهم كل شيء
كفلاء يكفلون لهم أن الذي نعدهم حق وهو معنى قوله في الآية
الأخرى: أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا. اهـ.
وبالكفيل فسره البيضاوي كالزمخشري والسمرقندي وابن عادل
وغيرهم. قال في الفتح: ولم أر من فسره بأصناف العذاب
فليحرر.
({زخرف القول}) [الأنعام: 112] (كل شيء حسنته ووشيته)
بتشديد السين المهملة في الأولى والشين المعجمة في الثانية
من التوشية أي زينته وكل شيء مبتدأ وتاليه عطف عليه (وهو
باطل) جملة حالية (فهو زخرف) خبر المبتدأ ودخلت الفاء فيه
لتضمن المبتدأ معنى الشرط وسقط قوله وكيل حفيظ إلى هنا
للحموي، وثبت للمستملي والكشميهني.
({وحرث حِجْرٌ}) [الأنعام: 138] أي (حرام) والإشارة إلى ما
عينوا من الحرث والأنعام للأصنام أو البحيرة ونحوها (وكل
ممنوع فهو حجر محجور)، بمعنى مفعول ويطلق على المذكر
والمؤنث والواحد والجمع (والحجر: كل بناء بنينه، ويقال
للأنثى من الخيل حجر) بغير هاء تأنيث (ويقال: للعقل حجر
وحجى) بالحاء المكسورة والجيم (وأما الحجر فموضع ثمود وما
حجرت عليه من الأرض فهو حجر، ومنه سمي حطيم البيت) الحرام
(حجرًا كأنه مشتق من محطوم مثل قتيل من مقتول، وأما حجر
اليمامة) بفتح الحاء (فهو منزل) وسقط قوله وحرث حجر إلى
هنا لأبي ذر والنسفيّ. قال في الفتح: وهو أولى.
9 - باب قَوْلِهِ: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150]
لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ هَلُمَّ لِلْوَاحِدِ
وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ
(باب قوله) تعالى ({هلم شهداءكم}) [الأنعام: 150] (لغة أهل
الحجاز هلم للواحد والاثنين والجمع) وأهل نجد
(7/122)
يقولون للاثنين هلما، وللجمع هلموا،
وللمرأة هلمي، وللنساء هلممن، والمعنى هاتوا شهداءكم
وأحضروهم وسقط قوله: باب قوله لغير أبي ذر.
10 - باب {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام:
158]
(باب قوله) تعالى ({لا ينفع نفسًا إيمانها}) [الأنعام:
158] أي: يوم يأتي بعض آيات ربك كالدخان ودابة الأرض
والدجال ويأجوج ومأجوج وحضور الموت {لا ينفع نفسًا
إيمانها} إذا صار الأمر عيانًا والإيمان برهانيًا. وقول
الزمخشري فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في
غير وقت الإيمان وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب
خيرًا، ومراده بذلك كما في الانتصاف الاستدلال على أن
الكافر والعاصي في الخلود سواء حيث سوّى في الآية بينهما
في عدم الانتفاع بما يستدر كأنه بعد ظهور الآيات مدفوع بما
قاله المحققون أن التقدير: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع
نفسًا إيمانها} أو كسبها في إيمانها حينئذٍ لم تكن آمنت من
قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا من قبل، فيوافق الآيات
والأحاديث المشاهدة بأن مجرد الإيمان ينفع ويورث النجاة
ولو بعد حين، وفي الآية لف وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك
لا ينفع نفسًا لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد ولا نفسًا لم
تكسب في إيمانها خيرًا قبل ما تكسبه من الخير بعد، لكن حذف
إحدى القرينتين. وحاصله أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع
الساعة نافع وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع وأما
بعدها فلا ينفع شيء أصلًا ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله
تعالى في كتاب الفتن بعون الله وقوته.
4635 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ حَدَّثَنَا أَبُو
زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ
آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا فَذَاكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا
إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
عبد الواحد) بن زياد قال: (حدّثنا عمارة) بضم العين وتخفيف
الميم ابن القعقاع الضبي الكوفي قال: (حدّثنا أبو زرعة)
هرم بن عمرو البجلي الكوفي قال: (حدّثنا أبو هريرة -رضي
الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها) غاية لعدم قيام
الساعة، ويؤيده ما رواه البيهقي في كتاب البعث والنشور عن
الحاكم أبي عبد الله: أن أوّل الآيات ظهور الدجال ثم نزول
عيسى، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، ثم طلوع
الشمس من مغربها وهو أوّل
الآيات العظام المؤذنة بتغيير أحوال العالم العلوي، وذلك
أن الكفار يسلمون في زمن عيسى، ولو لم ينفع الكفار هيمانهم
أيام عيسى لما صار الذين واحدًا فإذا قبض عيسى عليه السلام
ومن معه من المسلمين رجع أكثرهم إلى الكفر فعند ذلك تطلع
الشمس من مغربها (فإذا رآها الناس آمن من عليها) أي من على
الأرض (فذاك حين {لا ينفع نفسًا إيمانها} لم تكن آمنت من
قبل) أي لا ينفع كافرًا لم يكن آمن قبل طلوعها إيمان بعد
الطلوع ولا ينفع مؤمنًا لم يكن عمل صالحًا قبل الطلوع عمل
صالح بعد الطلوع، لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذٍ
حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة وذلك لا يفيد شيئًا ما قال
تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} [غافر:
85].
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الإيمان وأبو داود في الملاحم
والنسائي في الوصايا وابن ماجه في الفتن.
4636 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ
تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ
مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا
أَجْمَعُونَ وَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا
إِيمَانُهَا» ثُمَّ قَرَأَ الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسحاق) هو ابن نصر أبو
إبراهيم السعدي كما جزم به خلف أو هو ابن منصور أبو يعقوب
المروزي الكوسج كما جزم به أبو مسعود الدمشقي، لكن قال
الحافظ ابن حجر: إن الأوّل أقوى قال: (أخبرنا عبد الرزاق)
بن همام الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن
همام) هو ابن منبه الصنعاني (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-)
أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها) وآية ذلك أن
تطول الليلة حتى تكون قدر ليلتين. رواه ابن مردويه من حديث
حذيفة مرفوعًا (فإذا طلعت) من مغربها (ورآها الناس آمنوا
أجمعون وذلك حين {لا ينفع نفسًا إيمانها} ثم قرأ الآية)
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعًا: "إن أوّل الآيات خروجًا طلوع
الشمس من مغربها" الحديث.
واستشكل بأن طلوع الشمس ليس بأوّل الآيات لأن الدخان
والدجال قبله
(7/123)
وأجيب: بأن الآيات إما أمارات دالة على قرب
قيام الساعة، وإما أمارات دالة على وجود قيام الساعة
وحصولها، ومن الأوّل الدخان وخروج الدجال ونحوهما، ومن
الثاني طلوع الشمس من مغربها وسمي أوّلًا لأنه مبدأ القسم
الثاني.
ويأتي إن شاء الله تعالى نبذة من فرائد الفوائد المتعلقة
بهذه المباحث في محالها من هذا الكتاب وبالله المستعان
وعليه التكلان.
7 - سورة الأَعْرَافِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرِيَاشًا: الْمَالُ {إِنَّهُ لاَ
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاءِ وَفِي غَيْرِهِ:
عَفَوْا كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ. الْفَتَّاحُ:
الْقَاضِي. افْتَحْ بَيْنَنَا: اقْضِ بَيْنَنَا. نَتَقْنَا
الجَبَلَ: رَفَعْنَا. انْبَجَسَتْ: انْفَجَرَتْ.
مُتَبَّرٌ: خُسْرَانٌ. آسَى: أَحْزَنُ: تَأْسَ: تَحْزَنْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ
يُقَالُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ؟ يَخْصِفَانِ:
أَخَذَا الْخِصَافَ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ. يُؤَلِّفَانِ
الْوَرَقَ: يَخْصِفَانِ الْوَرَقَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ.
سَوْآتِهِمَا: كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا. وَمَتَاعٌ
إِلَى حِينٍ: هُوَ هَا هُنَا إِلَى الْقِيَامَةِ
وَالْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَا لاَ
يُحْصَى عَدَدُهَا. الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ: وَاحِدٌ وَهْوَ
مَا ظَهَرَ مِنَ اللِّبَاسِ. قَبِيلُهُ: جِيلُهُ الَّذِي
هُوَ مِنْهُمْ. إِدَّارَكُوا: اجْتَمَعُوا. وَمَشَاقُّ
الإِنْسَانِ وَالدَّابَّةِ كُلُّهُمْ يُسَمَّى سُمُومًا
وَاحِدُهَا سَمٌّ وَهْيَ عَيْنَاهُ وَمَنْخِرَاهُ وَفَمُهُ
وَأُذُنَاهُ وَدُبُرُهُ وَإِحْلِيلُهُ. غَوَاشٍ: مَا
غُشُّوا بِهِ. نُشُرًا: مُتَفَرِّقَةً. نَكِدًا: قَلِيلًا.
يَغْنَوْا: يَعِيشُوا. حَقِيقٌ: حَقٌّ. اسْتَرْهَبُوهُمْ:
مِنَ الرَّهْبَةِ. تَلَقَّفُ: تَلْقَمُ. طَائِرُهُمْ:
حَظُّهُمْ. طُوفَانٌ مِنَ السَّيْلِ وَيُقَالُ لِلْمَوْتِ
الْكَثِيرِ الطُّوفَانُ. الْقُمَّلُ: الْحُمْنَانُ
يُشْبِهُ صِغَارَ الْحَلَمِ. عُرُوشٌ وَعَرِيشٌ: بِنَاءٌ.
سُقِطَ كُلُّ مَنْ نَدِمَ: فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ.
الأَسْبَاطُ: قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. يَعْدُونَ فِي
السَّبْتِ: يَتَعَدَّوْنَ لَهُ يُجَاوِزُونَ. تَعْدُ:
تُجَاوِزْ. شُرَّعًا: شَوَارِعَ. بَئِيسٍ: شَدِيدٍ.
أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ: قَعَدَ وَتَقَاعَسَ.
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ: أَيْ نَأْتِيهِمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ
لَمْ يَحْتَسِبُوا}. مِنْ جِنَّةٍ: مِنْ جُنُونٍ. أَيَّانَ
مُرْسَاهَا: مَتَى خُرُوجُهَا. فَمَرَّتْ بِهِ: اسْتَمَرَّ
بِهَا الْحَمْلُ فَأَتَمَّتْهُ. يَنْزَغَنَّكَ:
يَسْتَخِفَّنَّكَ. طَيْفٌ: مُلِمٌ بِهِ لَمَمٌ. وَيُقَالُ
طَائِفٌ: وَهْوَ وَاحِدٌ. يَمُدُّونَهُمْ: يُزَيِّنُونَ.
وَخِيفَةً: خَوْفًا. وَخُفْيَةً: مِنَ الإِخْفَاءِ.
وَالآصَالُ: وَاحِدُهَا أَصِيلٌ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ
إِلَى الْمَغْرِبِ كَقَوْلِكَ: بُكْرَةً، وَأَصِيلًا.
([7]] سورة الأعراف)
مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى: {واسألهم} -إلى قوله-
{وإذ نتقنا الجبل} [الأعراف: 163 - 171] وزاد أبو ذر هنا
بسم الله الرحمن الرحيم.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله ابن جرير من
طريق عليّ بن أبي طلحة عنه (ورياشًا) بالجمع وهي قراءة
الحسن جمع ريش كشعب وشعاب وقراءة الباقين وريشًا بالإفراد
(المال) يقال: قريش أي تموّل. وعند ابن جرير من وجه آخر عن
ابن عباس: الرياش اللباس والعيش والنعيم، وقيل: الريش لباس
الزينة استعير من ريش الطير بعلاقة الزينة.
وعن ابن عباس أيضًا من طريق ابن جريج عن عطاء عنه مما وصله
ابن جرير أيضًا في قوله تعالى: ({إنه لا يحب المعتدين})
[الأعراف: 55] أي (في الدعاء) كالذي يسأل درجة الأنبياء أو
على من لا يستحقه أو الذي يرفع صوته عند الدعاء.
وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي داود أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "سيكون قوم
يعتدون في الدعاء" وقرأ هذه الآية.
وعند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه
يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا
دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وَعِذْ به من النار
فإني سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يقول: "يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور". وهكذا أخرجه
ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان به.
(وفي غيره) أي غير الدعاء. وسقط: إنه لا يحب لغير أبوي ذر
والوقت، وقوله وفي غيره للمستملي.
وقوله تعالى: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى} ({عفوا})
[الأعراف: 95] أي (كثروا وكثرت أموالهم) يقال: عفا الشعر
إذا كثر.
وقوله تعالى في سورة سبأ: ({الفتاح}) أي (القاضي) قيل
وذكره هنا توطئة لقوله في هذه السورة ({افتح بيننا}) أي
(اقض بيننا) وسقط قوله بيننا لأبي ذر.
وقوله: ({نتقنا الجبل}) أي (رفعنا) الجبل وسقط قوله الجبل
لغير أبوي ذر والوقت.
وقوله: ({انبجست}) أي (انفجرت).
وقوله: ({متبر}) أي (خسران).
وقوله: ({آسى}) أي فكيف (أحزن) على قوم كافرين.
وقوله في سورة المائدة: ({تأس}) أي (تحزن) ذكره استطرادًا
هذا كله تفسير ابن عباس.
(وقال غيره): أي غير ابن عباس في قوله تعالى: ({ما منعك
ألاّ تسجد}) [الأعراف: 12] (يقال: ما منعك أن تسجد) فلا
صلة مثلها في لئلا يعلم مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه
ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود.
وقوله: وطفقا ({يخصفان}: أخذا}) أي آدم وحوّاء (الخصاف)
بكسر الخاء ({من ورق الجنة}) [الأعراف: 22] (يؤلفان الورق
يخصفان الورق بعضه إلى بعض) لما ذاقا طعم الشجرة آخذين في
الأكل نالهما شؤم المخالفة، وسقطت عنهما ثيابهما وظهرت
لهما سوآتهما، وقيل كانت من نور، وكان أحدهما لا يرى سوأة
الآخرة فأخذا يجعلان ورقة على ورقة لستر السوأة كما تخصف
النعل بأن تجعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور حتى صارت
الأوراق كالثوب وهو ورق التين، وقيل اللوز. والخصفة
بالتحريك الجلة أي القفة الكبيرة التي تعمل من الخوص للتمر
وجمعها خصف وخصاف. قال أبو البقاء: يخصفان ماضيه خصف وهو
متعد إلى مفحول واحد والمفعول شيئًا من ورق الجنة.
وقال أبو عبيدة في قوله: ({سوآتهما} كناية عن فرجيهما)
وسقط هذا لأبي ذر.
({ومتاع إلى حين}) [الأعراف: 24] (هو هاهنا إلى يوم
القيامة) وثبت للأبوين هو وسقط لأبي ذر يوم (والحين عند
العرب من ساعة إلى ما لا يحصى عددها) ولأبوي ذر والوقت
عدده وأقله ساعة (الرياش والريش واحد وهو ما ظهر من
اللباس) وذكره قريبًا مفسرًا بالمال
(7/124)
وغيره.
وقوله تعالى عن إبليس: {إنه يراكم هو و} ({قبيله})
[الأعراف: 27] أي (جيله) بالجيم المكسورة وهم الجن
والشياطين (الذي هو منهم) وثبت للأبوين هو وهو من كلام أبي
عبيدة، وعند المعتزلة أن سبب عدم رؤيتنا إياهم لطافتهم
ورؤيتهم إيانا لكثافتنا، واستدلوا بالآية على امتناع
رؤيتهم، ولا يخفى أن ما قالوه مجرد دعوى من غير دليل وأن
الخبر عن عدم الرؤية من حيث لا ترونهم لا يدل على
استحالته، ويمكن أن يستدل على فساد مذهبهم بقوله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تفلت عليّ البارحة عفريت
فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد لتنظروا إليه
فذكرت دعوة أخي سليمان فرددته خاسئًا".
وقوله تعالى: حتى إذا ({إدّاركوا}) [الأعراف: 38] أي
(اجتمعوا) فيها جميعًا.
(ومشاق الإنسان) بتشديد القاف، وفي نسخة ومسام الإنسان
بالسين المهملة والميم المشددة بدل المعجمة والقاف وهما
بمعنى واحد (و) مسام (الدابة كلهم) وللأبوين كلها (يسمى
سمومًا) بضم السين المهملة (واحدها سم وهي) تسعة (عيناه
ومنخراه وفمه وأذناه ودبره وإحليله) قاله أبو عبيدة. وقال
الراغب: السم والسم كل ثقب ضيق كخرم الإبرة وثقب الأنف
وجمعه سموم وقد سمه أدخله فيه، وفي السم ثلاث لغات فتح
سينه وضمها وكسرها، ومراد المؤلّف بذلك تفسير قوله تعالى:
{ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف:
40] ودخل تحت عموم قوله تعالى: {إن الذين كذبوا بآياتنا
واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء} [الأعراف: 40]
الدهرية منكرو دلائل الذات والصفات ومنكرو دلائل التوحيد
وهم المشركون والبراهمة منكرو صحة النبوّات ومنكرو صحة
المعاد الذين استكبروا عن الإيمان بها لا تفتح أبواب
السماء لأرواحهم ولا لأدعيتهم كما تفتح لأرواح المؤمنين
وأعمالهم، والولوج الدخول وسم الخياط ثقب الإبرة، فإذا علق
على محال كان محالًا لأن الجمل أعظم الحيوانات عند العرب
وثقب الإبرة أضيق الثقب، وقوله تعالى: ومن فوقهم ({غواش})
[الأعراف: 41] أي (ما غشوا) أي غطوا (به). قال محمد بن كعب
القرظي: {لهم من جهنم مهاد} الفرش {ومن فوقهم غواش} اللحف.
وقوله: {الرياح} ({نشرًا}) [الأعراف: 57] بالنون المضمومة
أي (متفرقة) قيل لا تقع قطرة من الغيث إلا بعد عمل أربع
رياح: الصباح تهيج السحاب، والشمال تجمعه، والجنوب تدره،
والدبور تفرّقه.
وقوله: {والذي خبث لا يخرج إلا} ({نكدًا}) [الأعراف: 58]
أي (قليلًا) عديم النفع ونصبه على الحال وتقدير الكلام
والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدًا فحذف المضاف
وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعًا مستترًا وهذا مثل من
يسمع الآيات وينتفع بها ومن لا يرفع رأسه ولم يتأثر
بالمواعظ.
وقوله تعالى: كأن لم ({يغنوا}) أي (يعيشوا) فيها والغناء
بالفتح النفع.
وقوله تعالى: {إني رسول من رب العالمين} ({حقيق}) أي (حق)
واجب عليّ. وقوله: ({استرهبوهم} من الرهبة) وهي الخوف.
وقوله: {فإذا هي} ({تلقف}) أي (تلقم) تأكل ما يلقوله
ويوهمون أنه حق.
وقوله: {ألا إنما} ({طائرهم}) أي (حظهم) ونصيبهم عند الله.
({طوفان}) يشير إلى قوله تعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفان}
أي (من السيل) المتلف للزرع والثمار (ويقال) أيضًا (للموت
الكثير الطوفان) وهو مروي عن ابن عباس ورواه ابن مردويه
بإسنادين ضعيفين عن عائشة مرفوعًا.
({القمل}) هو (الحمنان) بفتح الحاء المهملة ضبطه البرماوي
والدماميني كالكرماني وضبطه ابن حجر بضمها كالفرع وأصله
وسكون الميم (يشبه) ولأبي ذر شبه (صغار الحلم) بفتح الحاء
واللام قال الأصمعي فيما ذكره الجوهري أوّله قمقامة ثم
حمنانة ثم قرادة ثم حلمة وهي القراد العظيم.
(عروش وعريش) يريد تفسير قوله تعالى: {وما كانوا يعرشون}
أي (بناء، سقط من كل من ندم. فقد سقط في يده). قال ابن
عباس فيما رواه الطبري وما كانوا يعرشون أي يبنون ولا
مطابقة بين قوله يعرشون وقول البخاري عروش وعريش لأن
العروش جمع عرش وهو سرير الملك ولو قال يعرشون يبنون لكان
أنسب.
(7/125)
(الأسباط) يريد قوله تعالى: {وقطعناهم
اثنتي عشرة أسباطًا} [الأعراف: 160] قال أبو عبيدة: هم
(قبائل بني إسرائيل) والسبط من السبط بالتحريك وهو شجر
تعتلفه الإبل وكذلك القبيلة جعل الأب كالشجرة والأولاد
كالأغصان.
وقوله تعالى: ({يعدون في السبت}) [الأعراف: 163] قال أبو
عبيدة أي (يتعدون له) وسقط لأبي ذر لفظ له وفي نسخة به
بالموحدة بدل اللام (يجاوزون). وفي نسخة يتجاوزون أي حدود
الله بالصيد فيه وقد نهوا عنه، ولأبي ذر: تجاوز بفتح
الفوقية وضم الواو بعد تجاوز بموحدة وسكون العين ({تعد})
بفتح الفوقية وسكون العين المهملة (تجاوز) بضم أوّله وكسر
الواو وفي نسخة تعدّ تجاوز بتشديد الدال وتجاوز بفتح الواو
والزاي.
وقوله: ({شرعًا}) أي (شوارع) ظاهرة على وجه الماء من شرع
علينا إذا دنا وأشرف.
وقوله: {بعذاب} ({بئيس}) أي (شديد) فعيل من بؤس يبؤس بأسًا
إذا اشتد.
وقوله: ({أخلد إلى الأرض} قعد وتقاعس}) أي تأخر وأبطأ وهو
عبارة عن شدة ميله إلى زهرة الدنيا وزينتها وإقباله على
لذاتها ونعيمها وقوله: (إلى الأرض) ثابت لأبوي ذر والوقت.
وقوله: ({سنستدرجهم} أي نأتيهم من مأمنهم) أي من موضع
أمنهم وثبت قوله أي للأبوين (كقوله تعالى: {فأتاهم الله من
حيث لم يحتسبوا}) [الحشر: 2] وجه التشبيه أخذ الله إياهم
بغتة، وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد
درجة أي نأخذهم قليلًا إلى أن تدركهم العقوبة وذلك أنهم
كلما جدّدوا خطيئة لهم نعمة فظنوا ذلك تقريبًا من الله
تعالى وأنساهم الاستغفار.
وقوله: {أو لم يتفكّروا ما بصاحبهم} ({من جنة}) [الأعراف:
184] أي (من جنون) والاستفهام بمعنى التقريع أو التحريض أي
أولم ينظروا بعقولهم لأن الفكر طلب المعنى بالقلب، وذلك
أنه كما يتقدم رؤية البصر بقلب الحدقة نحو المرئي تتقدم
رؤية البصيرة بقلب حدقة العقل إلى الجوانب أي أنه كيف
يتصور منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجنون وهو
يدعوهم إلى الله تعالى، ويقيم على ذلك الدلائل القاطعة
بألفاظ بلغت في الفصاحة إلى حقيقة يعجز عنها الأوّلون
والآخرون.
وقوله: ({أيان مرساها}) [الأعراف: 187] أي (متى خروجها)
واشتقاق أيان من أي لأن معناه أي وقت وسقط لغير أبوي ذر
والوقت: أيان مرساها الخ.
وقوله: {حملًا خفيفًا} ({فمرت به}) [الأعراف: 189] أي
(استمر بها) أي بحواء (الحمل فأتمته) وعن ابن عباس استمرت
به فشكت أحبلت أم لا وسقط قوله فمرت الخ من رواية أبي ذر.
قوله: ({وإما}) ({ينزغنك}) قال أبو عبيدة: أي (يستخفنك)
وقال غيره: وإما ينخسنك من الشيطان نخس أي وسوسة تحملك على
خلاف ما أرمت به فاستعذ بالله من نزغه.
وقوله: {إن الذين اتقوا إذا مسهم} ({طيف}) [الأعراف: 201]
من الشيطان قال أبو عبيدة (ملم) يقال (به لمم) صرع منه أو
إصابة ذنب أوهم به (ويقال طائف) بالألف اسم فاعل من طاف
يطوف كأنها طافت بهم ودارت حولهم وهي قراءة نافع وابن عامر
وعاصم وحمزة (وهو) كالسابق (واحد) في المعنى.
وقوله: {وإخوانهم} ({يمدونهم}) قال أبو عبيدة أي وإخوان
الشياطين الذين لم يتقوا (يزينون) لهم الغيّ والكفر.
وقوله: {واذكر ربك في نفسك تضرعًا} ({وخيفة}) [الأعراف:
205] أي خوفًا. قال أبو عبيدة وقال ابن جريج في قوله
تعالى: {ادعوا ربكم تضرعًا} ({وخفية}) أي سرًّا (من
الإخفاء) المشهور أن المزيد فيه مأخوذ من الثلاثي وهو
الخفاء دون العكس وإنما قال من الإخفاء نظرًا إلى أن
الاشتقاق أن تنتظم الصيغتان معنًى واحدًا.
وقوله: ({والآصال}) في قوله تعالى: {بالغدو والآصال}
[الأعراف: 205] قال أبو عبيدة: (واحدها أصيل وهو ما بين
العصر إلى المغرب كقولك) وفي نسخة وهي التي في اليونينية
كقوله: (بكرة وأصيلا) والتقييد بالوقتين لأن بالغداة ينقلب
من الموت إلى الحياة ومن الظلمة التي تشاء كل العدم إلى
النور المناسب للوجود وفي الآخر بالعكس وثبت قوله وهو
للأبوين.
1 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ} [الأعراف: 33]
({إنما}) وفي نسخة قل إنما، ولأبي ذر باب قول الله عز وجل:
قل إنما ({حرم
(7/126)
ربي الفواحش}) ما تزايد قبحه وقيل ما يتعلق
بالفروج وقيل الكبائر وقيل الطواف بالبيت عراة وهو قول ابن
عباس ويؤيده السياق فإن قوله: {ينزع عنهما لباسهما ليريهما
سوآتهما} يدل على وجه التشبيه في قوله: {لا يفتننكم
الشيطان} أي لا تتصفوا بصفة يوقعكم الشيطان بسببها في
الفتنة وهي العري في الطواف فتحرموا دخول الجنة كما حرمها
على أبويكم حين أخرجهما من الجنة وقد يقال الحمل على الأعم
من جميعها أولى محافظة على الحصر المستفاد من إنما لكن إن
فسر الإثم بكل الذنوب كما قيل لم يحتج إليه وقيل الخمر
وعورض بأن تحريمها بالمدينة وهذه مكية ({ما ظهر منها وما
بطن}) [الأعراف: 33] جهرها وسرها وعن ابن عباس فيما رواه
ابن جرير قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسًا في
السر ويستقبحونه في العلانية فحرم الله الزنا في السر
والعلانية.
4637 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ أَنْتَ
سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ،
وَرَفَعَهُ قَالَ: لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ
فَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ
اللَّهِ فَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن عمرو بن مرة) بفتح العين الأعمى
الكوفي (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد الله) بن مسعود
(-رضي الله عنه- قال) عمرو بن مرة: (قلت) لأبي وائل (أنت
سمعت هذا) الحديث (من عبد الله) يعني ابن مسعود (قال) أبو
وائل (نعم) سمعته منه (ورفعه) إلى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال: لا أحد) بالنصب من غير
تنوين على أن لا نافية للجنس و (أغير من الله) خبرها ولأبي
ذر لا أحد بالرفع منوّنًا (فلذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها
وما بطن)، قال قتادة فيما ذكره ابن جرير المراد سر الفواحش
وقال سعيد بن جبير ومجاهد: ما ظهر نكاح الأمهات وما بطن
الزنا والحمل على العموم أولى كما مرّ آنفًا (ولا أحد)
ولأبي ذر أحد بالرفع (أحب إليه المدحة) بكسر الميم آخره
تاء تأنيث (من الله فلذلك) أي فلأجل حبه المدحة من خلقه
ليثيبهم عليها (مدح نفسه) المقدسة.
2 - باب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ
رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ
تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ
اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى
صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَرِنِي} أَعْطِنِي.
({ولما جاء موسى}) ولأبي ذر باب بالتنوين في قوله جل ذكره:
ولما جاء موسى أي حضر ({لميقاتنا}) للوقت الذي عيناه له
واللام للاختصاص كهي في قوله أتيته لعشر خلون من رمضان
وليست بمعنى عند قيل لا بدّ هنا من تقدير مضاف أي لآخر
ميقاتنا ولا لانقضاء ميقاتنا ({وكلمه ربه}) من غير واسطة
على جبل الطور كلامًا مغايرًا لهذه الحروف والأصوات قديمًا
قائمًا بذاته تعالى وخلق فيه إدراكًا سمعه به، وكما ثبتت
رؤية ذاته جل وعلا مع أنه ليس بجسم ولا عرض فكذلك كلامه
وإن لم يكن صوتًا ولا حرفًا صح أن يسمع. وروي أن موسى عليه
السلام كان يسمع كلام الله من كل جهة وفيه إشارة إلى أن
سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين وجواب لما
قوله ({قال}) أي لما كلمه وخصه بهذه المرتبة طمحت همته إلى
رقبة الرؤية وتشوّق إلى ذلك فسأل ربه أن يريه ذاته المقدسة
فقال ({رب أرني أنظر إليك}) أي أرني نفسك أنظر إليك فثاني
مفعولي أرى محذوف والرؤية عين النظر، لكن المعنى اجعلني
متمكنًا من رؤيتك بأن تتجلى لي فانظر إليك وأراك، والآية
تدل على جواز رؤية الله تعالى لأن موسى عليه الصلاة
والسلام سألها وكان عارفًا بالجائز والممتنع، فلو كانت
محالًا لما طلبها. ولذلك ({قال}) الله تعالى جوابًا له
({لن تراني}) ولم يقل لن أرى ولن أريك ولن تنظر إليّ كأنه
قال: إن المانع ليس إلا من جانبك وإني غير محجوب بل محتجب
بحجاب منك وهو كونك فان في فان وأنا باق ووصفي باق فإذا
جاوزت قنطرة الفناء ووصلت إلى دار البقاء فزت بمطلوبك ولا
يلزم من نفي لمن التأبيد، إذ لو قلنا به لقضينا أن موسى لا
يراه أبدًا ولا في الآخرة، وكيف وقد ثبت في الحديث
المتواتر أن المؤمنين يرون الله تعالى في القيامة فموسى
عليه السلام أحرى بذلك، وما قيل إنه سأل عن لسان قوم
فمردود بأن القوم إن كانوا كفاهم منع موسى وإلاّ لم يفدهم
ذلك كإنكارهم أنه قول الله. وروى محيي السنة عن الحسن قال:
هاج بموسى الشوق فسأل الرؤية فقال: إلهي قد سمعت كلامك
فاشتقت إلى النظر إليك فأرني أنظر إليك فلأن أنظر إليك ثم
أموت
(7/127)
أحبّ إليّ من أن أعيش ولا أراك ({ولكن انظر
إلى الجبل}) زبير الذي هو أشد منك خلقًا ({فإن استقر}) ثبت
({مكانه فسوف تراني}) إشارة إلى عدم قدرته على الرؤية على
وجه الاستدراك، وفي تعليق الرؤية على استقرار الجبل دليل
للجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن ({فلما تجلّى ربه
للجبل}) أي ظهرت عظمته له وقدرته وأمره، وحمل اللفظ على
المعهود والأكمل أولى فيجوز أن يخلق الله له حياة وسمعًا
وبصرًا كما جعله محلاًّ لخطابه بقوله: {يا جبالُ أوّبي
معه} [سبأ: 10] وكما جعل الشجرة محلًا لكلامه وكل هذا لا
يحيله من يؤمن بأن الله على كل شيء قدير ({جعله دكًّا})
مدكوكًا مفتتًا. وعن ابن عباس صار ترابًا. وعند ابن مردويه
أنه ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة، وعند ابن
أبي حاتم من حديث أنس بن مالك مرفوعًا: لما تجلى ربه للجبل
طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة.
بالمدينة أُحد وورقان ورضوى، وبمكة حراء وثبير وثور. قال
ابن كثير: وهو حديث غريب بل منكر ({وخرّ موسى صعقًا})
مغشيًا عليه من شدة هول ما رأى ({فلما أفاق}) أي من الغشي
({قال: سبحانك تبت إليك}) أي أنزهك وأتوب إليك عن أن أطلب
الرؤية في الدنيا أو بغير إذنك وحسنات الأبرار سيئات
المقربين فكانت التوبة لذلك فإن التوبة في حق الأنبياء لا
تكون عن ذنب لأن منزلتهم العلية تصان عن كل ما يحط عن
مرتبة الكمال ({وأنا أوّل المؤمنين}) [الأعراف: 143] بأنها
لا تطلب في الدنيا أو بغير الإذن، وسقط لأبي ذر: قال لن
تراني الخ، وقال بعد قوله: {أرني أنظر إليك} الآية.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما-: فيما وصله ابن جرير من
طريق علي بن أبي طلحة عنه في تفسير قوله: (أرني) أنظر إليك
أي (أعطني).
4638 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ
وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ
مِنَ الأَنْصَارِ لَطَمَ وَجْهِي قَالَ: «ادْعُوهُ»
فَدَعَوْهُ قَالَ: «لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟» قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِ
فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى
الْبَشَرِ. فَقُلْتُ: وَعَلَى مُحَمَّدٍ؟! وَأَخَذَتْنِي
غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ قَالَ: «لاَ تُخَيِّرُونِي مِنْ
بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا
أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ
الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُزِيَ
بِصَعْقَةِ الطُّورِ». المَنَّ والسَّلْوَى.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) البيكندي قال: (حدّثنا
سفيان) هو ابن عيينة (عن عمرو بن يحيى) بفتح العين
(المازني) بالزاي والنون الأنصاري المدني (عن أبيه) يحيى
بن عمارة (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-) أنه (قال:
جاء رجل من اليهود) قيل اسمه فنحاص بكسر الفاء وسكون النون
وبعد الحاء المهملة ألف فصاد مهملة، وعزاه ابن بشكوال لابن
إسحاق وفيه نظر سبق في الأشخاص (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد لطم وجهه) بضم اللام وكسر الطاء
المهملة مبنيًّا للمفعول ووجهه رفع مفعول نائب عن الفاعل
(وقال: يا محمد إن رجلًا من أصحابك من الأنصار لطم في
وجهي) وهذا يضعف قول الحافظ أبي بكر بن أبي الدنيا أن الذي
لطم اليهودي في هذه القصة هو أبو بكر الصديق لأن ما في
الصحيح أصح وأصرح (قال) عليه الصلاة والسلام: (ادعوه
فدعوه) فلما حضر (قال) عليه الصلاة والسلام مستفهمًا منه
(لم لطمت وجهه؟ قال) الأنصاري: (يا رسول الله إني مررت
باليهود) الذي هذا كان فيهم (فسمعته يقول): أي في حلفه
(والذي اصطفى موسى على البشر فقلت): ولأبي ذر عن الكشميهني
قلت (وعلى محمد) زاد أبو ذر عن
الحموي والمستملي قال: فقلت وعلى محمد (وأخذتني غضبة) من
ذلك (فلطمته قال) عليه الصلاة والسلام، ولأبي ذر فقال على
طريق التواضع أو قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم (لا تخيروني
من بين الأنبياء) أو تخييرًا يؤدّي إلى تنقيص أو لا تقدموا
على ذلك بأهوائكم وآرائكم بل بما آتاكم الله من البيان أو
بالنظر إلى النبوّة والرسالة فإن شأنهما لا يختلف باختلاف
الأشخاص بل كلهم في ذلك سواء وإن اختلفت مراتبهم (فإن
الناس يصعقون يوم القيامة).
قال الحافظ ابن كثير: الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات
القامة يحصل أمر يصعقون منه الله أعلم به وقد يكون ذلك إذا
جاء الرب لفصل القضاء وتجلى للخلائق الملك الديان كما صعق
موسى من تجلي الرب عز وجل، ولذا قال نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة
الطور" اهـ.
لكن في رواية عبد الله بن الفضل ينفخ في الصور فيصعق من في
السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى
فأكون أوّل من بعث
(7/128)
وهو معنى قوله هنا (فأكون أوّل من يفيق
فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق
قبلي) فيكون له فضيلة ظاهرة (أم جزي) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي: جوزي بإثبات الواو (بصعقة الطور) فلم يصعق لكن
لفظ يفيق وأفاق إنما يستعمل في الغشي، وأما الموت فيقال
فيه بعث منه وصعقة الطور لم تكن موتًا ويحتمل أن يكون
اللفظ على ظاهره ويكون قاله قبل أن يعلم أنه أوّل من تنشق
عنه الأرض. قال الداودي وقوله: أوّل من يفيق ليس بمحفوظ
والصحيح أوّل من تنشق عنه الأرض.
({المن والسلوى}) [الأعراف: 160] وفي نسخة باب: المن
والسلوى.
4639 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ
وَمَاؤُهَا شِفَاءُ الْعَيْنِ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم) بن إبراهيم الفراهيدي قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن عبد الملك) بن عمير بضم العين وفتح
الميم القرشي الكوفي (عن عمرو بن حريث) بضم الحاء آخره
مثلثة مصغرًا (عن سعيد بن زيد) أحد العشرة -رضي الله عنهم-
(عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال): (الكمأة) بفتح الكاف وسكون الميم نوع (من المن)
لأنه ينبت بنفسه من غير علاج ولا مؤونة كما كان ينزل على
بني إسرائيل (وماؤها شفاء العين) إما بخلطه بدواء آخر وإما
بمجرده وصوّبه النووي، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: من
العين، وله عن الكشميهني شفاء للعين.
وهذا الحديث أخرجه في الأدب ومسلم في الأطعمة والترمذي
والنسائي وابن ماجة في الطب.
3 - باب {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِى
وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ
الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]
(باب) بالتنوين وهو ثابت لأبي ذر ({قل يا أيها الناس})
شامل للعرب وغيرهم كأهل الكتاب ({إني رسول الله إليكم
جميعًا}) حال من المجرور بلى وفيه ردّ على العيسوية من
اليهود أتباع عيسى الأصبهاني الزاعمين تخصيص إرساله عليه
السلام بالعرب، وقيل المراد بالناس العقلاء ومن تبلغه
الدعوة ({الذي له ملك السماوات والأرض}) نصب بأعني أو جر
نعت للجلالة وإن حيل بين النعت والمنعوت بما هو متعلق
المضاف إليه ومناسبة ذكر السماوات والأرض هنا الإشعار بأن
له تخصيص من شاء بما شاء من تخصيص الرسالة وتعميمها ({لا
إله إلا هو}) جملة لا محل لها من الإعراب أو بدل من الصلة
التي هي له ملك السماوات والأرض ولقائل أن يقول الأولى
الاستئناف ويكون كالجواب لمن سأل لماذا اختص بذلك فأجيب
بأنه المتوحد بالألوهية وقوله: ({يحيي ويميت}) يجري مجرى
الدليل على ذلك ({فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي}) الذي
لا يخط كتابًا بيده ولا يقرؤه وقد ولد في قوم أميين ونشأ
بين أظهرهم في بلد ليس به عالم يعرف أخبار الماضين ولم
يخرج في سفر ضاربًا إلى عالم فيعكف عليه فجاءهم بأخبار
التوراة والإنجيل والأمم الماضية إلى غير ذلك من العلوم
التي تعجز عن بلوغها القوى البشرية مما لا يرتاب أنه أمر
إلهي ووحي سماوي ({الذي يؤمن بالله وكلماته}) المنزلة عليه
وعلى سائر الرسل من كتب ووحي وقراءة وكلمته بالإفراد يراد
بها الجن أو القرآن أو عيسى.
وفي حديث عبادة بن الصامت عند البخاري مرفوعًا "من قال
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده
ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته" الحديث. قال في
الأنوار: أريد بالكلمة في الآية عيسى تعريضًا باليهود
وتنبيهًا على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه وقال غيره
لعله أراد كلمة كن، وخصّ بها عيسى لأنه لم يوجد بغيرها لأن
كان غيره كذلك لكنه ينسب إلى نطفة الأب في الجملة
({واتبعوه}) اسلكوا طريقه واقتفوا أثره ({لعلكم تهتدون})
[الأعراف: 158] إلى الصراط المستقيم وسقط لغير أبي ذر لفظ
باب وله من قوله: {لا إله الا هو} إلى آخرها. وقال بعد
قوله: {والأرض} الآية. وثبت ذلك للباقين.
4640 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْعَلاَءِ بْنِ زَبْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو
إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ
فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا فَاتَّبَعَهُ أَبُو
بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ
حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو
بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ
فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ» قَالَ وَنَدِمَ
عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ
وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْخَبَرَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:
وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا
رَسُولَ اللَّهِ لأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَلْ
أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو
لِي صَاحِبِي إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ:
كَذَبْتَ» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ قَالَ أَبُو
عَبْدُ اللهِ: غَامَرَ سَبَقَ بِالْخَيْرِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عبد الله)
غير منسوب عند الأكثرين وعند ابن السكن عن الفربري عن
البخاري عبد الله بن حماد وبذلك جزم أبو نصر الكلاباذي
وغيره وعبد الله هذا هو الآملي بمد الهمزة وضم الميم
المخففة وهو من تلامذة البخاري وكان يورق بين يديه وكان
حافظًا وشارك البخاري في كثير من شيوخه وروايته عنه هنا من
رواية الأكابر عن الأصاغر قال: (حدّثنا سليمان
(7/129)
بن عبد الرحمن) الدمشقي من شيوخ المؤلّف
(وموسى بن هارون) البني بضم الموحدة وتشديد النون المكسورة
والبردي بضم الموحدة وسكون الراء الكوفي قدم مصر وسكن
الفيوم وليس له في البخاري غير هذا الحديث (قالا: حدّثنا
الوليد بن مسلم) أبو العباس الدمشقي قال: (حدّثنا عبد الله
بن العلاء) بفتح العين والمد (ابن زبر) بفتح الزاي وسكون
الموحدة الربعي بفتح الراء والموحدة وبالعين المهملة (قال:
حدّثني) بالإفراد (بسر بن عبيد الله) بضم الموحدة وسكون
المهملة وعبيد الله بضم العين مصغرًا الحضرمي الشامي (قال:
حدّثني) بالإفراد (أبو إدريس) عائذ الله (الخولاني) بالخاء
المعجمة المفتوحة والنون (قال: سمعت أبا الدرداء) عويمرًا
الأنصاري -رضي الله عنه- (يقول: كانت بين أبي بكر وعمر)
-رضي الله عنهما- (محاورة) بالحاء والراء المهملتين (فأغضب
أبو بكر عمر) -رضي الله عنهما- (فانصرف عنه عمر) حال كونه
(مغضبًا فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له فلم يفعل حتى
أغلق بابه في وجهه) غاية لسؤال أبي بكر عمر (فأقبل أبو بكر
إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال
أبو الدرداء ونحن عنده) عليه الصلاة والسلام (فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أما صاحبكم هذا) يعني أبا بكر (فقد غامر) بالغين المعجمة
وبعدها ألف فميم ثم راء أي خاصم وغاضب وحاقد. وفي مناقب
أبي بكر أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته
فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أما
صاحبكم هذا فقد غامر فسلم". وقال: إني كان بيني وبين ابن
الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى
عليّ فأقبلت إليك فقال: "يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا".
(قال) أبو الدرداء (وندم عمر على ما كان منه) من عدم
استغفاره لأن بكر -رضي الله عنهما- (فأقبل حتى سلم وجلس
إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقص على
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الخبر)
الذي وإن بينه وبين الصديق (قال أبو الدرداء: وغضب رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي المناقب
فجعل وجه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يتمعر أي يتغير من شدة الغضب (وجعل أبو بكر يقول): وهو جاث
على ركبتيه مشفقًا أن ينال
عمر من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يكره
(والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم) من عمر في ذلك (فقال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هل أنتم
تاركو لي صاحبي هل أنتم تاركو لي صاحبي) مرتين وتاركو بغير
نون مضافًا لصاحبي مع الفصل بين المضاف والمضاف إليه
بالجار والمجرور كقراءة ابن عامر {زين لكثير من المشركين
قتل أولادهم شركائهم} [الأنعام: 137] ببناء زين للمفعول
ورفع قتل ونصب أولادهم وجر شركائهم وهي قراءة متواترة
وتضعيف أهل العربية لها للفصل إنما هو لاعتقادهم أن
القراءات بحسب وجوه العربية وهو خطأ فالعربية تصحح
بالقراءة لا القراءة بالعربية وقد أشبعت الكلام في مبحث
ذلك في كتابي في القراءات الأربعة عشر، وتقديم الجار يفيد
الاختصاص، وفي رواية أبي ذر تاركون لي بالنون على الأصل
(إني قلت: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا}
فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت). وهذا كما مرّ قريبًا
خطاب عام يردّ على العيسوية من اليهود المصدقين ببعثته إلى
العرب لا إلى بني إسرائيل لأنا نقول إنهم أقرّوا بأنه رسول
وإذا كان كذلك كان صادقًا في كل ما يدعيه وقد ثبت بالتواتر
وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي عموم رسالته فوجب تصديقه
وبطل قولهم إنه كان مبعوثًا للعرب لا لبني إسرائيل.
وهذا الحديث من أفراد المؤلّف.
(قال أبو عبد الله): هو البخاري في تفسير (فأمر) أي (سبق
بالخير) بالتحتية الساكنة كذا فسره والذي في الصحاح
والنهاية أي خاصم أي دخل في غمرة الخصومة وهي معظمها،
والمغامر الذي يرمي بنفسه في الأمور المهلكة، وقيل هو من
الغمر بالكسر وهي الحقد أي حاقد غيره وقد مر نحوه، وهذا
ثابت في رواية أبوي الوقت وذر ساقط لغيرهما. قال في
المشارق: كذا فسره المستملي عن البخاري وهو يدل على أنه
ساقط للحموي
(7/130)
والكشميهني على ما لا يخفى.
4 - باب قَوْلِهِ: {حِطَّةٌ}
باب قوله: ({حطة}) كذا لأبي ذر ولغيره {وقولوا حطة} بغير
ذكر باب وبزيادة وقولوا وحطة رفع خبر مبتدأ محذوف أي
مسألتنا حطة، والأصل حط عنا ذنوبنا.
4641 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ
مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ {ادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطَايَاكُمْ} فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى
أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (إسحاق)
الحنظلي بن راهويه قال: (أخبرنا عبد الرزاق) بن همام قال:
(أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن همام بن منبه) بتشديد الميم
الأولى ومنبه بتشديد الموحدة المكسورة أخي وهب (أنه سمع
أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(قيل لبني إسرائيل) لما خرجوا من التيه ({ادخلوا الباب})
باب بيت المقدس (سجدًا) شكرًا لله على نعمة الفتح وإنقاذهم
من التيه. وفسر ابن عباس السجود هنا بالركوع ({وقولوا
حطة}) بالرفع ({نغفر لكم خطاياكم}) [الأعراف: 161] وسقط
قوله: {نغفر لكم خطاياكم} في رواية سورة البقرة (فبدلوا)
أي غيروا (فدخلوا يزحفون على أستاههم) بفتح الهمزة وسكون
المهملة أوراكهم (وقالوا حبة في شعرة) بفتح العين
وللكشميهني في شعيرة بكسر العين وزيادة تحتية فبدّلوا
السجود بالزحف وبدّلوا قول حطة يقول حبة بحاء مهملة مفتوحة
فموحدة وزادوا في شعيرة أو شعرة.
وهذا الحديث قد سبق في البقرة.
5 - باب {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْجَاهِلِينَ} الْعُرْفُ: الْمَعْرُوفُ
(باب) قوله تعالى لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: ({خذ العفو}) أي الفضل وما أتى من غير كلفة
({وأمر بالعرف}) المعروف كما يأتي إن شاء الله تعالى
({وأعرض عن الجاهلين}) كأبي جهل وأصحابه وكان هذا قبل
الأمر بالقتال (العرف) هو (المعروف) المستحسن من الأفعال.
4642 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حدثنا شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي
الله عنهما- قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ
حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ
قَيْسٍ وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ
عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ
وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ
عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي لَكَ وَجْهٌ
عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ:
سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ
الْخَطَّابِ فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلاَ
تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى
هَمَّ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لِنَبِيِّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ وَاللَّهِ مَا
جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ
وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. [الحديث 4642 - طرفاه
في: 7286].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (حدّثنا)
في الفرع كأصله أخبرنا (شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (عبيد
الله) بضم العين (ابن عبد الله بن عتبة) بن مسعود (أن ابن
عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة)
بضم الحاء مصغرًا الفزاري (فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس)
أي ابن حصن (وكان من النفر الذين يدنيهم) أي يقربهم (عمر)
بن الخطاب -رضي الله عنه- (وكان القراء أصحاب مجالس عمر
ومشاورته كهولًا) جمع كهل وهو الذي وخطه الشيب (كانوا أو
شبانًا) بضم الشين
المعجمة وتشديد الموحدة وللكشميهني أو شبابًا بفتح الشين
المعجمة بموحدتين الأولى مخففة (فقال عيينة لابن أخيه)
الحر بن قيس: (يا ابن أخي لك وجه) وجيه ولأبي ذر: هل لك
وجه (عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه. قال) الحر (سأستأذن
لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر،
فلما دخل عليه قال: هي) بكسر الهاء وسكون الياء كلمة تهديد
وقيل هي ضمير وهناك محذوف أي هي داهية (يا ابن الخطاب
فوالله ما تعطينا الجزل) بفتح الجيم وسكون الزاي أي ما
تعطينا العطاء الكثير (ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر)
-رضي الله عنه- (حتى همّ به) وكان شديدًا في الله ولأبي
الوقت حتى هم أن يوقع به (فقال له الحر: يا أمير المؤمنين
وإن الله تعالى قال لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين})
وإن هذا من الجاهلين (والله ما جاوزها) أي ما جاوز الآية
المتلوّة أي لم يتعدّ العمل بها (عمر حين تلاها عليه) الحر
(وكان وقافًا عند كتاب الله) لا يتجاوز حكمه.
وهذا الحديث من أفراده، وأخرجه أيضًا في الاعتصام.
4643 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ
هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}
[الأعراف: 199] قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ فِي
أَخْلاَقِ النَّاسِ. [الحديث 4643 - طرفه في: 4644].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (يحيى) غير
منسوب فقال ابن السكن يحيى بن موسى يعني المعروف بخت، وقال
المستملي يحيى بن جعفر يعني البيكندي ورجحه ابن حجر قال:
(حدّثنا وكيع) هو ابن الجراح الرؤاسي براء مضمومة فهمزة
فسين مهملة الكوفي الحافظ العابد (عن هشام عن أبيه) عروة
بن الزبير بن العوّام (عن) أخيه (عبد الله بن الزبير) بن
العوام وسقط لأبي ذر عبد الله أنه قال في قوله تعالى: ({خذ
العفو وأمر بالعرف} قال ما أنزل الله) أي هذه الآية (إلا
في أخلاق الناس).
4644 - حَدَّثَنَا وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ،
أَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ
أَخْلاَقِ النَّاسِ أَوْ كَمَا قَالَ.
(وقال عبد الله بن براد) بفتح الموحدة وتشديد الراء وبعد
الألف
(7/131)
مهملة وهو عبد الله بن عامر بن براد بن
يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ونسبه إلى جده
لشهرته به (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (حدّثنا
هشام أخبرني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا أبو أسامة قال
هشام: (عن أبيه) عروة بن الزبير (عن) أخيه (عبد الله بن
الزبير) أنه (قال: أمر الله) تعالى (نبيه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يأخذ العفو من أخلاق الناس أو كما
قال).
وقد اختلف على هشام في هذا الحديث فوصله بعضهم
كالإسماعيلي، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة {خذ العفو}
الخ هذه أخلاق أمر الله تعالى بها نبيه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودله عليها فأمره أن يأخذ
الفضل من أخلاقهم بسهولة من غير تشديد ويدخل فيه ترك
التشديد بما يتعلق بالحقوق المالية، وكان هذا قبل الزكاة.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم جميعًا عن أمي قال: لما أنزل
الله على نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {خذ
العفو} الآية قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "ما هذا يا جبريل" قال: إن الله أمرك أن تعفو
عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك. وهو مرسل له شواهد
من وجوه أخر كما قاله الحافظ ابن كثير وهو مطابق للفظ لأن
وصل القاطع عفو عنه وإعطاء من حرم أمر بالمعروف والعفو عن
الظالم إعراض عن الجاهل، فالآية مشتملة على مكارم الأخلاق
فيما يتعلق بمعاملة الناس، ولذا قال جعفر الصادق: ليس في
القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها. قال بعض الكبراء:
الناس رجلان محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلفه فوق
طاقته، ومسيء فمره بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى
عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك يردّه كما قال
تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} [المؤمنون: 96].
([8] سورة الأنفال)
مدنية وآيها ست وسبعون، وثبت لفظ سورة لأبي ذر.
{بسم الله الرحمن الرحيم} سقط لفظ البسملة لغير أبي ذر.
1 - باب قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ
الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: الأَنْفَالُ: الْمَغَانِمُ، قَالَ قَتَادَةُ:
رِيحُكُمْ: الْحَرْبُ. يُقَالُ: نَافِلَةٌ: عَطِيَّةٌ
(قوله) تعالى: ({يسألونك}) من حضر بدرًا ({عن الأنفال}) أي
عن حكمها لاختلاف وقع بينهم فيها يأتي ذكره إن شاء الله
تعالى ({قل الأنفال لله والرسول}) يقسمها -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ما يأمره الله تعالى ({فاتقوا
الله}) في الاختلاف ({وأصلحوا ذات بينكم}) [الأنفال: 1] أي
الحال التي بينكم إصلاحًا يحصل به الألفة والاتفاق وذلك
بالمواساة والمساعدة في الغنائم، وسقط قوله {يسألونك} الخ
لأبي ذر.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله من طريق علي بن
أبي طلحة عنه: (الأنفال) هي (المغانم) كانت لرسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خالصة ليس لأحد فيها
شيء، وقيل سميت الغنائم أنفالًا لأن المسلمين فضلوا بها
على سائر الأمم الذين لم تحل لهم وسمي التطوع نافلة
لزيادته على الفرض، ويعقوب لكونه زيادة على ما سأل، وفي
الاصطلاح ما شرطه الإمام لمن يباشر خطر التقدم طليعة وكشرط
السلب للقاتل.
(قال قتاة) فيما رواه عبد الرزاق في قوله تعالى: وتذهب
({ريحكم}) [الأنفال: 46] أي (الحرب) وقيل: المراد الحقيقة
فإن النصر لا يكون إلا بريح يبعثها الله تعالى وفي الحديث
نصرت بالصبا (يقال نافلة) أي (عطية).
4645 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ،
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا
هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-
سُورَةُ الأَنْفَالِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ،
الشَّوْكَةُ: الْحَدُّ، مُرْدَفِينَ: فَوْجًا بَعْدَ
فَوْجٍ، رَدِفَنِي وَأَرْدَفَنِي جَاءَ بَعْدِي، ذُوقُوا:
بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ
الْفَمِ، فَيَرْكُمَهُ: يَجْمَعُهُ. شَرِّدْ: فَرِّقْ،
وَإِنْ جَنَحُوا: طَلَبُوا، يُثْخِنَ: يَغْلِبَ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: مُكَاءً: إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي
أَفْوَاهِهِمْ، وَتَصْدِيَةً: الصَّفِيرُ، لِيُثْبِتُوكَ:
لِيَحْبِسُوكَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن عبد الرحيم) صاعقة
قال: (حدثنا سعيد بن سليمان) سعدويه البغدادي قال: (أخبرنا
هشيم) بضم الهاء وفتح المعجمة مصغرًا ابن بشير الواسطي
قال: (أخبرنا أبو بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة جعفر بن
أبي وحشية إياس الواسطي (عن سعيد بن جبير) أنه (قال: قلت
لابن عباس -رضي الله عنهما- سورة الأنفال) ما سبب نزولها؟
(قال: نزلت في) غزوة (بدر).
وروى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه واللفظ له
وابن حيان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن
ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من صنع كذا وكذا فله كذا
وكذا" فتسارع في ذلك شبان الرجال وبقي الشيوخ تحت الرايات،
فلما كانت الغنائم جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم
(7/132)
فقال الشيوخ لا تستأثروا علينا فإنا كنا
ردءًا لو انكشفتم فئتم فتنازعوا فأنزل الله {يسألونك عن
الأنفال} إلى قوله: {إن كنتم مؤمنين}.
({الشوكة}) في قوله تعالى: {وتودّون أن غير ذات الشوكة}
[الأنفال: 7] (الحد) بالحاء المهملة أي تحبون أن الطائفة
التي لا حدّ لها ولا منعة ولا قتال وهي العير تكون لكم
وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم وهذا ساقط لأبي ذر.
وقوله: ({مردفين}) بكسر الدال أي متبعين من أردفته إذا
اتبعته أو جئت بعده (فوجًا بعد فوج). يقال: (ردفني) بكسر
الدال (وأردفني) أي (جاء بعدي) وعن ابن عباس وراء كل ملك
ملك وعنه مما روي من طريق علي بن أبي طلحة قال: وأمدّ الله
تعالى نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنين
بألف من الملائكة وكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة
وميكائيل في خمسمائة مجنبة.
(ذوقوا) يريد قوله تعالى: {ذلكم فذوقوه} [الأنعام: 14] أي
(باشروا وجربوا) أي العذاب العاجل من ضرب الأعناق وقطع
الأطراف (وليس هذا من ذوق الفم).
وقوله: ({فيركمه}) قال أبو عبيدة أي (يجمعه) ويضم بعضه على
بعض أو يجعل الكافر مع ما أنفق للصد عن سبيل الله إلى جهنم
ليكون المال عذابًا عليه كقوله تعالى: {فتكوي بها جباهم}
[التوبة: 35].
(شرّد) يريد قوله تعالى: {فإما تثقفنهم في الحرب فشرِّد
بهم من خلفهم} [الأنفال: 57] قال أبو عبيدة أي (فرق). وقال
عطاء: غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلًا ليخاف من سواهم العدو
({وإن جنحوا}) أي (طلبوا السلم والسلم والسلام واحد) وهذا
ثابت للأبوين للسلم للصلح.
({يثخن}) في الأرض قال أبو عبيدة: أي (يغلب) بكثرة القتل
في العدوّ والمبالغة فيه حتى يذل الكفر ويعز الإسلام.
(وقال مجاهد): في قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت
إلاّ} ({مكاء}) [الأنفال: 35] هو (إدخال أصابعهم في
أفواههم، وتصدية الصفير}) كذا رواه عبد بن حميد عن مجاهد،
وعن ابن عمر مما رواه ابن جرير المكاء الصفير والتصدية
التصفيق، وعن ابن عباس مما رواه ابن أبي حاتم كانت قريش
تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق.
({ليثبتوك}) أي (ليحبسوك) وما روي عن عبيد بن عمير أن
قريشًا لما ائتمروا بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبو
طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: (يريدون أن يسجنوني أو
يقتلوني أو يخرجوني) فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "رب الخير"
الخ ...
تعقبه ابن كثير بأن ذكر أبي طالب فيه غريب جدًا بل منكر
لأن هذه الآية مدنية، وهذه القصة إنما كانت ليلة الهجرة
بعد موت أبي طالب بنحو ثلاث سنين.
وذكر ابن إسحاق عن ابن عباس أنهم اجتمعوا في دار الندوة
فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ نجدي فقال بعضهم: تحبسونه في
بيت وتسدّون منافذه غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها
حتى يموت فقال إبليس: بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه
ويخلصه من أيديكم، وقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على
جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضرّكم ما صنع فقال بئس الرأي
يفسد قومًا غيركم ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل: أنا أرى أن
تأخذوا من كل بطن غلامًا وتعطوه سيفًا فيضربه ضربة واحدة
فيتفرق دمه في القبائل، فقال إبليس: صدق هذا الفتى فتفرقوا
على رأيه، فأتى جبريل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وأخبره بالخبر وأمره بالهجرة، وأنزل الله عليه
بعد قدومه المدينة الأنفال يذره نعمته عليه {وإذ يمكر بك
الذين كفروا ليثبتوك} [الأنفال: 30].
وقد منع بعضهم حديث إبليس وتغيير صورته لأن فيه إعانة
للكفار ولا يليق بحكمة الله تعالى أن يجعل إبليس قادرًا
عليه، وأجيب: بأنه إذا لم يبعد أن يسلطه الله على قريش
بالوسوسة فيما صدر منهم فكيف يبعد ذلك.
2 - باب {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ
الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]
({إن شرّ الدواب عند الله}) ما يدب على أرض أو شرّ البهائم
({الصمّ}) عن سماع الحق ({البكم}) عن فهمه ولذا قال
({الذين لا يعقلون}) [الأنفال: 22] أجعلهم من البهائم ثم
جعلهم شرّها وزاد أبو ذر قال قال هم نفر من بني عبد الدار.
4646 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ
الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} قَالَ:
هُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا
ورقاء) بفتح الواو وبعد الراء الساكنة قاف.
(7/133)
ممدود ابن عمر بن كليب (عن ابن أبي نجيح)
عبد الله وأبو نجيح بفتح النون وكسر الجيم آخره حاء مهملة
اسمه يسار الثقفي المكي (عن مجاهد) المفسر (عن ابن عباس)
رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: ({إن شرّ الدواب عند
الله الصم البكم الذين لا يعقلون} قال: هم نفر من بني عبد
الدار) من قريش وكانوا يحملون اللواء يوم أُحُد حتى قتلوا
وأسماؤهم في السير قاله في المقدمة، وهؤلاء شر البرية لأن
كل دابة مما سواهم مطيعة لله فيما خلقت له، وهؤلاء خلقوا
للعبادة فكفروا وهذا يعم كل مشرك من حيث الظاهر وإن كان
السبب خاصًا كما لا يخفى.
2 - باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]
اسْتَجِيبُوا: أَجِيبُوا. لِمَا يُحْيِيكُمْ: يُصْلِحُكُمْ
({يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم})
الاستجابة هي الطاعة والامتثال والدعوة البعث والتحريض
ووحد الضمير ولم يثنه لأن استجابة الرسول كاستجابة الباري
جل وعلا وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد ({لما
يحييكم}) من علوم الديانات والشرائع لأن العلم حياة كما أن
الجهل موت ({واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}) أي
يحول بينه وبين الكفران أراد سعادته وبينه وبين الإيمان إن
قدّر شقاوته والمراد الحث على المبادرة على إخلاص القلب
وتصفيته قبل أن يحول الله بينه وبينه بالموت وفيه تنبيه
على اطّلاعه تعالى على مكنوناته ({وأنه إليه تحشرون})
[الأنفال: 24] فيجازيكم على ما اطلع عليه في قلوبكم وسقط
قوله: {واعلموا} الخ لأبي ذر وقال بعد قوله: {لما يحييكم}
الآية.
({استجيبوا}) قال أبو عبيدة أي (أجيبوا) وقوله: ({لما
يحييكم}) أي (يصلحكم).
4647 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَوْحٌ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ
أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى -رضي الله عنه- قَالَ:
كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ
حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: «مَا
مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ؟ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}» ثُمَّ قَالَ:
«لأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ
أَنْ أَخْرُجَ» فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَخْرُجَ فَذَكَرْتُ لَهُ وَقَالَ
مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبٍ سَمِعَ
حَفْصًا سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا
وَقَالَ: «هِيَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
السَّبْعُ الْمَثَانِي».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إسحاق) بن إبراهيم بن راهويه
أو ابن منصور قال: (أخبرنا روح) بفتح الراء بن عبادة
بتخفيف الموحدة القيسي البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن خبيب بن عبد الرحمن) بضم الخاء المعجمة وبعد
الموحدة الأولى المفتوحة تحتية ساكنة الخزرجي المدني أنه
قال: (سمعت حفص بن عاصم) العمري (يحدث عن أبي سعيد بن
المعلى) بضم الميم وفتح اللام المشددة الأنصاري واسمه حارث
أو رافع أو أوس (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كنت أصلي) زاد
في الفاتحة في المسجد (فمرّ بي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدعاني فلم آته) بمدّ الهمزة (حتى
صليت ثم أتيته فقال):
(ما منعك أن تأتي؟) ولأبي ذر والأصيلي وابن عساكر تأتيني.
زاد في الفاتحة فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي فقال:
(ألم يقل الله {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول
إذا دعاكم}) رجح بعضهم أن إجابته لا تبطل الصلاة لأن
الصلاة إجابة قال: وظاهر الحديث يدل عليه ولذا رجح تفسير
الاستجابة بالطاعة والدعوة بالبعث والتحريض وقيل كان دعاه
لأمر لا يحتمل التأخير فجاز قطع الصلاة (ثم قال) عليه
الصلاة والسلام: (لأعلمنك أعظم سورة في القرآن) من جهة
الثواب على قراءتها لما اشتملت عليه من الثناء والدعاء
والسؤال (قبل أن أخرج) زاد في الفاتحة: من المسجد (فذهب
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليخرج) من
المسجد (فذكرت له) وفي الفاتحة قلت له: ألم تقل لأعلمنك
سورة هي أعظم سورة في القرآن؟.
(وقال معاذ): هو ابن أبي معاذ العنبري (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن خبيب بن عبد الرحمن) وسقط ابن عبد الرحمن لغير
أبي ذر أنه (سمع حفصًا) العمري (سمع أبا سعيد) هو ابن
المعلى (رجلًا من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بهذا) الحديث المذكور (وقال: هي الحمد لله رب
العالمين السبع المثاني) بالرفع بدلًا من الحمد لله أو عطف
بيان، وهذا وصله الحسن بن أبي سفيان وفائدة إيراده هنا ما
فيه من تصريح سماع حفص من أبي سعيد.
3 - باب قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ
هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا
سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَطَرًا فِي الْقُرْآنِ إِلاَّ
عَذَابًا، وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْغَيْثَ وَهْوَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنْزِلُ الْغَيْثَ
مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28]
(باب قوله) عز وجل: ({وإذ قالوا اللهم إن كان هذا}) أي
القرآن ({هو الحق من عندك}) منزلًا ({فأمطر علينا حجارة من
السماء}) عقوبة لنا على إنكاره وفائدة قوله من السماء
والأمطار لا تكون إلا منها المبالغة في العذاب فإنها محل
الرحمة كأنهم قالوا بدّل رحمتك النازلة من السماء بنزول
العذاب منها أو أنها أشد تأثيرًا إذا سقطت من أعلى الأماكن
({أو ائتنا بعذاب أليم}) [الأنفال: 32]. بنوع آخر والمراد
نفي كونه حقًا وإذا انتفى كونه
(7/134)
حقًا لم يستوجب منكره عذابًا فكان تعليق
العذاب بكونه حقًا مع اعتقاده أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال
في قولك إن كان الباطل حقًا فأمطر علينا حجارة وهذا من
عنادهم وتمرّدهم.
روي أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا
عليهم امرأة؟ فقال: أجهل من قومي قومك حين قالوا: إن كان
هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ولم
يقولوا فاهدنا له.
وروي أن النضر بن الحارث لعنه الله لما قال: إن هذا إلا
أساطير الأولين، قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "ويلك إنه كلام الله" فقال هو وأبو جهل: اللهم
إن كان هذا هو الحق من عندك، وإسناده إلى الجمع إسناد ما
فعله رئيس القوم إليهم، وثبت باب قوله لأبي ذر وسقط له من
قوله علينا حجارة الخ. وقال بعد قوله: {فأمطر} الآية.
(قال ابن عيينة) سفيان في تفسيره رواية سعيد بن عبد الرحمن
المخزومي: (ما سمى الله تعالى مطرًا في القرآن إلاّ
عذابًا) أو ردّ عليه قوله تعالى: {إن كان بكم أذى من مطر}
فإن المراد به المطر قطعًا ونسبة الأذى إليه بالبلل والوحل
الحاصل منه لا يخرجه عن كونه مطرًا (وتسمية العرب الغيث
وهو قوله تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا})
[الشورى: 28] وثبت قوله: وهو الذي في الفرع وسقط من أصله.
4648 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
عَبْدِ الْحَمِيدِ - هُوَ ابْنُ كُرْدِيدٍ صَاحِبُ
الزِّيَادِيِّ - سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله
عنه- قَالَ أَبُو جَهْلٍ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا
هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ} فَنَزَلَتْ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَنْ
لاَ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآيَةَ. [الحديث 4648 - أطرافه
في: 4649].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (أحمد) غير منسوب وقد جزم
الحاكمان أبو أحمد وأبو عبد الله أنه ابن النضر بن عبد
الوهاب النيسابوري قال: (حدّثنا عبيد الله بن معاذ) بضم
العين وفتح الموحدة مصغرًا قال: (حدّثنا أبي) معاذ بن معاذ
بن حسان العنبري التميمي البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن عبد الحميد) بن دينار تابعي صغير زاد غير أبي
ذر هو ابن كرديد بكاف مضمومة فراء ساكنة فدالين الأولى
مكسورة بينهما تحتية ساكنة (صاحب الزيادي) بكسر الزاي
وتخفيف التحتية أنه (سمع أنس بن مالك -رضي الله عنه-) يقول
(قال أبو جهل): لعنه الله ({اللهم إن كان هذا هو الحق})
نصب خبرًا عن الكون وهو فصل وقرئ بالرفع على أن هو مبتدأ
غير فصل والحق خبره ({من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
أو ائتنا بعذاب أليم}) قال أبو عبيدة: كل شيء أمطرت فهو من
العذاب وما كان من الرحمة فهو مطرف (فنزلت: {وما كان الله
ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما
لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام}
[الأنفال: 33، 34] الآية). وسقط لأبي ذر {وما كان الله
معذبهم}) إلى {يصدّون} ويقول إلى عن المسجد الحرام، وقد
أورد ابن المنير في تفسيره هنا سؤالًا كما نقله عنه في
المصابيح فقال قد حكى الله عنهم هذا الكلام في هذه الآية
أي قوله: اللهم إن كان هذا هو الحق الآية. وهو من جنس نظم
القرآن فقد وجد فيه بعض التكلم ببعض القرآن فكيف يتم نفي
المعراضة بالكلية وقد وجد بعضها ومنها حكاية الله عنهم في
الإسراء وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعًا. وأجاب: بأن الإتيان بمثل هذا القدر من الكلام لا
يكفي في حصول المعارضة لأن هذا المقدار قليل لا يظهر فيه
وجوه الفصاحة والبلاغة. قال العلامة البدر الدماميني: وهذا
الجواب إنما يتمشى على القول بأن التحدي إنما وقع بالسورة
الطويلة التي يظهر منها قوة الكلام.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في ذكر المنافقين والكفار.
4 - باب قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]
(باب قوله) تعالى: ({وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم})
اللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال،
والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أظهرهم
غير مستقيم في الحكمة خارج عن عادته تعالى في قضائه. قال
ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة: ما كان الله
ليعذب قومًا وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ({وما كان
الله معذبهم وهم يستغفرون}) في موضع الحال ومعناه نفي
الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر
لما عذبهم ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، أو ما كان الله
معذبهم وفيهم من يستغفر وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف
من المستضعفين أو من أولادهم من يستغفر أو يريد إسلام
بعضهم أو استغفار الكفار إذ
(7/135)
كانوا يقولون بعد التلبية غفرانك وفيه أن
الاستغفار أمان من العذاب.
وفي حديث فضالة بن عبيد الله عند الإمام أحمد مرفوعًا:
العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز وجل. وتأملوا
علوّ مرتبة الاستغفار وعظم موقعه كيف قرن حصوله مع وجود
سيد العالمين في استدفاع البلاء. وعن ابن عباس ما رواه ابن
أبي حاتم أن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون
معصومين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم، فأمان قبضه
الله إليه، وأمان بقي فيكم ثم تلا الآية. وروى ابن جرير
أنهم لما قالوا ما قالوا ثم أمسوا ندموا فقالوا: غفرانك
اللهم فأنزل الله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}
وسقط لغير أبي ذر قوله: باب قوله وثبت له.
4649 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ، حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ
الزِّيَادِيِّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ
أَبُو جَهْلٍ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ
السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فَنَزَلَتْ:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
* وَمَا لَهُمْ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ
يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن النضر) بن عبد الوهاب أخو أحمد
السابق قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (عبيد الله بن معاذ)
بتصغير عبد قال: (حدّثنا أبي) معاذ العنبري قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن عبد الحميد) بن دينار (صاحب الزيادي)
أنه (سمع أنس بن مالك قال: قال أبو جهل): لما قال النضر بن
الحارث إن هذا إلا أساطير الأولين ({اللهم إن كان هذا})
يريد القرآن ({هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء أو ائتنا بعذاب أليم}) فنزلت: ({وما كان ليعذبهم
وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}) وليس المراد
نفي مطلق العذاب عنهم بل هم بصدده إذا هاجر عليه الصلاة
والسلام عنهم كما يدل له قوله: ({وما لهم}) استفهام بمعنى
التقرير ({أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام}
الآية) "ما" في وما لهم استفهام بمعنى التقرير و"أن" في أن
لا يعذبهم الظاهر أنها مصدرية وموضعها نصب أو جر لأنها على
حذف حرف الجر والتقدير في أن لا يعذبهم وهذا الجار يتعلق
بما تعلق به لهم من الاستقرار والمعنى، وأي مانع فيهم من
العذاب وسببه واقع وهو صدهم المسلمين عن المسجد الحرام عام
الحديبية وإخراجهم الرسول والمؤمنين إلى الهجرة فالعذاب
واقع لا محالة بهم، فلما خرج الرسول -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم
بدر فقتل صناديدهم وأسر سراتهم.
5 - باب {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} [الأنفال: 39]
({وقاتلوهم}) حث للمؤمنين على قتال الكفار وفي بعض النسخ
باب قوله: {وقاتلوهم} ونسب لأبي ذر ({حتى لا تكون فتنة})
أي إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط ({ويكون الدين كله
لله}) [الأنفال: 39]. ويضمحل عنهم كل دين باطل وسقط ويكون
الدين الخ لغير أبي ذر.
4650 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
حَيْوَةُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ
رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَلاَ تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ {وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إِلَى
آخِرِ الآيَةِ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ لاَ تُقَاتِلَ كَمَا
ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي
أَغْتَرُّ بِهَذِهِ الآيَةِ وَلاَ أُقَاتِلُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَغْتَرَّ بِهَذِهِ الآيَةِ الَّتِي
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا} إِلَى آخِرِهَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ
يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ كَانَ
الإِسْلاَمُ قَلِيلًا، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي
دِينِهِ إِمَّا يَقْتُلُوهُ، وَإِمَّا يُوثِقُوهُ، حَتَّى
كَثُرَ الإِسْلاَمُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فَلَمَّا رَأَى
أَنَّهُ لاَ يُوَافِقُهُ فِيمَا يُرِيدُ قَالَ: فَمَا
قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ:
مَا قَوْلِي فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ أَمَّا عُثْمَانُ
فَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ فَكَرِهْتُمْ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخَتَنُهُ،
وَأَشَارَ بِيَدِهِ وَهَذِهِ ابْنَتُهُ أَوْ بِنْتُهُ
حَيْثُ تَرَوْنَ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (الحسن بن عبد
العزيز) الجروي بالجيم والراء المفتوحتين المصري نزيل
بغداد قال: (حدّثنا عبد الله بن يحيى) المعافري بفتح الميم
والعين المهملة وكسر الفاء وبعدها راء البرلسي قال:
(حدّثنا حيوة) بفتح الحاء المهملة والواو بينهما تحتية
ساكنة ابن شريح بالمعجمة أوله والمهملة آخره (عن بكر بن
عمرو) بفتح الموحدة والعين المعافري (عن بكير) بضم الموحدة
مصغرًا ابن عبد الله الأشج (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله
عنهما- أن رجلًا) هو حبان بالموحدة صاحب الدثنية أو العلاء
بن عرار بمهملات الأولى مكسورة أو نافع بن الأزرق أو
الهيثم بن حنش (جاءه) زاد في البقرة في فتنة ابن الزبير
(فقال) له: (يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في
كتابه: ({وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}) [الحجرات: 9]
باغين بعضهم على بعض (إلى آخر الآية فما يمنعك أن لا تقاتل
كما ذكر الله في كتابه؟) كلمة "لا" زائدة كهي في قوله: ما
منعك أن لا تسجد وكان لم يقاتل في حرب من الحروب الواقعة
بين المسلمين كصفين والجمل ومحاصرة ابن الزبير (فقال: يا
ابن أخي أغتر بهذه الآية ولا أقاتل أحب إليّ من أن اغتر
بهذه الآية التي يقول الله تعالى) فيها: ({ومن يقتل مؤمنًا
متعمدًا}) [النساء: 93] (إلى آخرها) اغتر في هذين الموضعين
بالغين المعجمة والفوقية من الاغترار أي تأويل هذه الآية
{وإن طائفتان} أحب من تأويل الأخرى {ومن يقتل مؤمنًا} التي
فيها تغليظ شديد وتهديد عظيم، ولأبي ذر عن الكشميهني أعير
بضم الهمزة وفتح العين المهملة وتشديد
(7/136)
التحتية في الموضعين (قال) الرجل (فإن
الله) تعالى (يقول: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}) هذا موضع
الترجمة (قال ابن عمر: قد فعلنا) ذلك (على عهد رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ) أي حين (كان
الإسلام قليلًا فكان الرجل يفتن في دينه) بضم الياء
مبنيًّا للمفعول (إما يقتلوه وإما يوثقوه) بحذف نون الرفع
وهو موجود في
الكلام الفصيح نثره ونظمه كما قاله ابن مالك، ولأبي ذر:
إما يقتلونه وإما يوثقونه بإثبات النون فيهما (حتى كثر
الإسلام فلم تكن فتنة، فلما رأى) أي الرجل (أنه) أي ابن
عمر (لا يوافقه فيما يريد) من القتال (قال: فما قولك في
عليّ وعثمان) وكان السائل كان من الخوارج (قال ابن عمر: ما
قولي في عليّ وعثمان أما عثمان فكان الله قد عفا عنه) لما
فرّ يوم أُحُد في قوله: {لقد عفا الله عنكم} [آل عمران:
155] (فكرهتم أن تعفوا عنه) بالفوقية وسكون الواو خطابًا
للجماعة (وأما عليّ فابن عم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وختنه) بفتح الخاء المعجمة والمثناة
الفوقية أي زوج ابنته (وأشار بيده وهذه ابنته) بهمزة وصل
(أو بنته) بتركها، والمراد بها فاطمة. والشك من الراوي
محافظة على نقل اللفظ على وجهه كما سمع أي هذه ابنة أو بنت
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حيث ترون)
منزلها بين منازل أبيها، والذي في اليونينية وفرعها: وهذه
ابنته بالنون أو بيته بالموحدة المكسورة بدلها واحد
البيوت، وشك الراوي فأتى باللفظين مع حرف الشك تحرّجًا من
أن يجزم بلفظ هو فيه شاك، وللكشميهني أو أبيته بهمزة
مفتوحة فموحدة ساكنة فتحتية مضمومة ففوقية بلفظ جمع القلة
في البيت وهو شاذ. قال في المصابيح ويروى هذه أبنيته أو
بيته بفتح الموحدة الأول جمع بناء والثاني واحد البيوت.
وقال الحافظ ابن حجر في مناقب عليّ من وجه آخر: هو ذاك
بيته أوسط بيوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وفي رواية النسائي ولكن انظر إلى منزلته من
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس في
المسجد غير بيته قال: وهذا يدل على أنه تصحف على بعض
الرواة فقرأها بنته بموحدة ثم نون ثم طرأ له الشك فقال
بنته أو بيته والمعتمد أنه البيت فقط لما ذكرنا من
الروايات المصرحة بذلك وتأنيث اسم الإشارة باعتبار البقعة،
وفيه بيان قربه من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مكانه ومكانًا.
4651 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا بَيَانٌ أَنَّ وَبَرَةَ حَدَّثَهُ
قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: خَرَجَ
عَلَيْنَا أَوْ إِلَيْنَا ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ رَجُلٌ:
كَيْفَ تَرَى فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ
تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ كَانَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ
الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ
عَلَى الْمُلْكِ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو ابن عبد الله بن يونس
اليربوعي الكوفي قال: (حدّثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي
قال: (حدّثنا بيان) بفتح الموحدة والتحتية المخففة وبعد
الألف نون ابن بشر بموحدة مكسورة فمعجمة ساكنة (أن وبرة)
بفتح الواو والموحدة والراء وقد تسكن الموحدة ابن عبد
الرحمن المسلمي بضم الميم وسكون المهملة وباللام الحارثي
(حدّثه قال: حدّثني) بالإفراد (سعيد بن جبير قال: خرج
علينا أو إلينا) بالشك (ابن عمر فقال) له (رجل) سبق الخلف
في اسمه قريبًا (كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال) ابن عمر
ولأبي ذر قال (وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقاتل المشركين وكان الدخول
عليهم فتنة وليس) القتال معه (كقتالهم) ولأبي ذر: وليس
بقتالكم (على الملك) بضم الميم بل كان قتالًا على الدين
لأن المشركين كانوا يفتنون المسلمين إما بالقتل واما
بالحبس.
6 - باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({يا أيها النبي حرّض
المؤمنين}) بالغ في حثّهم ({على القتال}) ولذا قال عليه
الصلاة والسلام لأصحابه يوم بدر لما أقبل المشركون في
عددهم وعُددهم: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"
({إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم
مائة}) أي صابرة ({يغلبوا ألفًا من الذين كفروا}) شرط في
معنى الأمر يعني ليصبر عشرون في مقابلة مائتين ومائة في
مقابلة ألف كل واحد لعشرة ({بأنهم قوم لا يفقهون})
[الأنفال: 65]. أي بسبب أنهم جهلة بالله واليوم الآخر
يقاتلون لغير طلب ثواب واعتقاد أجر في الآخرة لتكذيبهم
لها، وسقط: {إن يكن منك عشرون} الخ .. ولأبي ذر وقال بعد
قوله: {القتال} الآية. وسقط لفظ باب لغيره.
4652 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
-رضي الله عنهما- لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَكُتِبَ
عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ
فَقَالَ سُفْيَانُ: غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ لاَ يَفِرَّ
عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ ثُمَّ نَزَلَتِ: {الآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمُ} الآيَةَ، فَكَتَبَ أَنْ لاَ
يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ، زَادَ سُفْيَانُ
مَرَّةً نَزَلَتْ {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ}
قَالَ سُفْيَانُ: وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأُرَى
الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ
مِثْلَ هَذَا. [الحديث 4652 - طرفه في: 4653].
وبه قال: (حدّثنا علي
(7/137)
بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان)
بن عيينة (عن عمرو) بفتح العين ابن دينار (عن ابن عباس
-رضي الله عنهما-) أنه قال: (لما نزلت: {إن يكن منكم عشرون
صابرون يغلبوا مائتين}) زاد أبو ذر: وإن يكن منكم مائة
(فكتب) بضم الكاف أي فرض (عليهم أن لا يفرّ واحد من عشرة)
هو معنى الآية. (فقال سفيان) بن عيينة (غير مرة أن لا يفر
عشرون من مائتين) وهذا يوافق لفظ القرآن، فالظاهر أن سفيان
كان يرويه تارة بالمعنى وتارة باللفظ (ثم نزلت: {الآن خفف
الله عنكم}) [الأنفال: 66] (الآية فكتب) بفتح الكاف أي فرض
الله تعالى (أن لا يفر مائة من مائتين، زاد) ولأبي ذر:
وزاد (سفيان مرة نزلت): ({حرّض المؤمنين على القتال إن يكن
منكم عشرون صابرون}) يريد أنه حدث بالزيادة مرة ومرة
بدونها (قال سفيان: وقال ابن شبرمة) بضم الشين المعجمة
والراء بينهما موحدة ساكنة عبد الله قاضي الكوفة التابعي
(وأرى) بضم الهمزة أي أظن (الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مثل هذا) الحكم المذكور في الجهاد بجامع إعلاء كلمة
الحق وإدحاض كلمة الباطل، وقول صاحب التلويح هذا التعليق
رواه ابن أبي حاتم تعقبه في الفتح بأنه وهم لأن في رواية
ابن أبي عمر عن سفيان
عند أبي نعيم في مستخرجه قال سفيان فذكرته لابن شبرمة فذكر
مثله.
7 - باب {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ
فِيكُمْ ضُعْفًا} [الأنفال: 66] الآيَةَ
({الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا}) في القوة
والجلد (الآية) زاد غير أبي ذر إلى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ}.
4653 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ خِرِّيتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ
وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ:
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضُعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ
مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي) بضم السين وفتح
اللام خاقان البلخي قال: (أخبرنا عبد الله بن المبارك)
المروزي قال: (أخبرنا جرير بن حازم) بفتح جيم جرير وحازم
بالحاء المهملة والزاي (قال: أخبرني) بالإفراد (الزبير)
بضم الزاي (ابن خريت) بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة
وبعد التحتية الساكنة فوقية بصري من صغار التابعين (عن
عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال لما نزلت
{إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} شق ذلك على
المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء
التخفيف) عنهم وعند ابن إسحاق من طريق عطاء عن ابن عباس
فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى (فقال: {الآن خفف
الله عنكم}) وسقط قوله فقال لأبي ذر ({وعلم أن فيكم
ضعفًا}) في البدن أو في البصيرة ({فإن يكن منكم مائة صابرة
يغلبوا مائتين}) أمر بلفظ الخبر إذ لو كان خبرًا لم يقع
بخلاف المخبر عنه، والمعنى في وجوب المصابرة لمثلينا أن
المسلم على إحدى الحسنيين إما أن يقتل فيدخل الجنة أو يسلم
فيفوز بالأجر والغنيمة والكافر يقاتل على الفوز بالدنيا
وقد زاد الإسماعيلي في الحديث ففرض عليهم أن لا يفر رجل من
رجلين ولا قوم من مثليهم، والحاصل أنه يحرم على المقاتل
الانصراف عن الصف إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا فلو
لقي مسلم كافرين فله الانصراف وإن كان هو الذي طلبهما لأن
فرض الجهاد والثبات إنما هو في الجماعة، لكن قال البلقيني
الأظهر بمقتضى نص الشافعي في المختصر أنه ليس له الانصراف.
(قال) ابن عباس (فلما خفف الله عنهم من العدة نقص)
بالتخفيف (من الصبر بقدر ما خفف عنهم).
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في الجهاد.
[9]- سورة بَرَاءَةَ
{وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ،
{الشُّقَّةُ}: السَّفَرُ، الْخَبَالُ: الْفَسَادُ،
وَالْخَبَالُ: الْمَوْتُ، وَلاَ تَفْتِنِّي: لاَ
تُوَبِّخْنِي، كَرْهًا وَكُرْهًا وَاحِدٌ، مُدَّخَلًا:
يُدْخَلُونَ فِيهِ يَجْمَحُونَ: يُسْرِعُونَ،
وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ائْتَفَكَتْ: انْقَلَبَتْ بِهَا
الأَرْضُ، أَهْوَى: أَلْقَاهُ فِي هُوَّةٍ، عَدْنٍ خُلْدٍ
عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَيْ أَقَمْتُ، وَمِنْهُ مَعْدِنٌ
وَيُقَالُ فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ،
{الْخَوَالِفُ}: الْخَالِفُ الَّذِي خَلَفَنِي فَقَعَدَ
بَعْدِي، وَمِنْهُ يَخْلُفُهُ فِي الْغَابِرِينَ وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ مِنَ الْخَالِفَةِ، وَإِنْ كَانَ
جَمْعَ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ
جَمْعِهِ إِلاَّ حَرْفَانِ، فَارِسٌ، وَفَوَارِسُ
وَهَالِكٌ: وَهَوَالِكُ: الْخَيْرَاتُ وَاحِدُهَا
خَيْرَةٌ، وَهْيَ الْفَوَاضِلُ. مُرْجَئُونَ:
مُؤَخَّرُونَ، الشَّفَاشَفِيرٌ وَهْوَ حَدُّهُ،
وَالْجُرُفُ: مَا تَجَرَّفَ مِنَ السُّيُولِ
وَالأَوْدِيَةِ. هَارٍ: هَائِرٍ، لأَوَّاهٌ شَفَقًا
وَفَرَقًا وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ
آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ
يقال: تهورت البئر: إذا وانهدمت وانهار مثله.
([9] سورة براءة)
مدنية ولها أسماء أخر تزيد على العشرة منها: التوبة
والفاضحة والمقشقشة لأنها تدعو إلى التوبة وتفضح المنافقين
وتقشقشهم أي تبرئ منهم وهي من آخر ما نزل ولم يكتبوا بسملة
أو لها أمان وبراءة نزلت لرفعه أو توفي رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يبين موضعها، وكانت قصتها
تشابه قصة الأنفال لأن فيها ذكر العهود وفي براءة نبذها
فضمت إليها.
({وليجة}) يريد قوله تعالى: {ولم يتخذوا من دون الله ولا
رسوله ولا المؤمنين وليجة} [التوبة: 16] (كل شيء أدخلته في
شيء) وهي فعيلة من الولوج
(7/138)
كالدخيلة وهي نظير البطانة والداخلة
والمعنى لا ينبغي أن يوالوهم ويفشوا إليهم أسرارهم وسقط
قوله وليجة الخ لأبي ذر وثبت لغيره.
({الشُّقَّةُ}) في قوله: {بعدت عليهم الشقة} [التوبة: 42]
هي (السفر) وقيل هي المسافة التي تقطع بمشقة يقال شقة شاقة
أي بعدت عليهم الشاقة البعيدة أي يشق على الإنسان سلوكها.
(الخبال) في قوله: {ما زادوكم إلا خبالًا} [التوبة: 47]
(الفساد) والاستثناء يجوز أن يكون منقطعًا أي أنه لم يكن
في عسكر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خبال فيزيد المنافقون فيه، وكأن المعنى ما زادوكم قوّة ولا
شدة لكن خبالًا وأن يكون متصلًا وذلك أن عسكر الرسول
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة تبوك كان
فيهم منافقون كثير ولهم لا محالة خبال فلو خرج هؤلاء
لالتأموا مع الخارجين فزاد الخبال. (والخبال: الموت) كذا
في جميع الروايات والصواب الموتة بضم الميم وزيادة هاء
آخره وهو ضرب من الجنون.
وقوله تعالى: ({ولا تفتني}) أي (لا توبخني) من التوبيخ
ولأبي ذر عن المستملي لا توهني بالهاء وتشديد النون من
الوهن وهو الضعف ولابن السكن ولا تؤثمني بمثلثة مشددة وميم
ساكنة من الإثم وصوبه القاضي عياض.
({كرهًا}) بفتح الكاف (وكرهًا) بضمها (واحد) في المعنى
ومراده قوله تعالى: {قل أنفقوا طوعًا أو كرهًا} وسقط كرهًا
الخ لأبي ذر.
({مدخلًا}) بتشديد الدال يريد لو يجدون ملجأ أو مغارات أو
مدخلًا أي: (يدخلون فيه) والمدخل السرب في الأرض وقوله
تعالى: {لولوا إليه وهم} ({يجمحون}) [التوبة: 57] أي
(يسرعون) إسراعًا لا يردّهم شيء كالفرس الجموح.
وقوله: {وأصحاب مدين} ({والمؤتفكات}) [التوبة:70] وهي
قريات قوم لوط (ائتفكت) أي (انقلبت بها) أي القريات
(الأرض) فصار عاليها سافلها وأمطروا حجارة من سجيل.
({أهوى}) يريد: {والمؤتفكة أهوى} بسورة النجم يقال: (ألقاه
في هوّة) بضم الهاء وتشديد الواو أي مكان عميق وذكرها
استطرادًا.
وقوله تعالى: {في جنات} ({عدن}) [التوبة: 72] أي (خلد) بضم
الخاء المعجمة وسكون اللام يقال (عدنت بأرض أي أقمت) بها
(ومنه معدن) وهو الموضع الذي يستخرج منه الذهب والفضة
ونحوهما (ويقال) فلان (في معدن صدق) أي (في منبت صدق) كأنه
صار معدنًا له للزومه له وسقط لأبي ذر من عدنت الخ.
({الخوالف}) يريد قوله: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف}
[التوبة: 87] وفسره بقوله (الخالف الذي خلفني فقعد بعدى
ومنه) أي من هذا اللفظ (يخلفه في الغابرين). قال عليه
الصلاة والسلام في حديث أم سلمة "اللهم اغفر لأبي سلمة
وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين" رواه
مسلم. قال النووي أي الباقين (ويجوز أن يكون النساء من
الخالفة) وهي المرأة (وإن) بالواو ولأبي ذر: فإن (كان)
خوالف (جمع الذكور فإنه لم يوجد على تقدير جمعه) على فواعل
(الآخر فإن فارس وفوارس وهالك وهوالك) قاله أبو عبيدة.
وزاد ابن مالك شاهق وشواهق وناكس ونواكس وداجن ودواجن وهذه
الخمسة جمع فاعل وهو شاذ ولأبي ذر: وهالك في الهوالك.
والمفهوم من أوّل كلام البخاري أن خوالف جمع خالف وحينئذٍ
إنما يجوز أن يكون النساء إذا كان يجمع الخالفة على خوالف
وإنما الخالف يجمع على الخالفين بالياء والنون والمشهور في
فواعل أنه جمع فاعلة فإن كان من صفة النساء فواضح وقد تحذف
الهاء في صفة المفرد من النساء، وإن كان من صفة الرجال
فالهاء للمبالغة يقال رجل خالفة لا خبر فيه والأصل في جمعه
بالنون كما مرّ، والمراد بالخوالف في الآية النساء والرجال
العاجزون والصبيان فجمع بجمع
المؤنث تغليبًا لكونهن أكثر في ذلك من غيرهن.
قوله: {وأولئك لهم} ({الخيرات}) [التوبة: 88] (واحدها
خيرة) بفتح الخاء وسكون التحتية آخرها هاء تأنيث (وهي
الفواضل) بالضاد المعجمة قاله أبو عبيدة.
قوله: {وآخرون} ({مرجون}) [التوبة: 106] أي (مؤخرون) لأمر
الله ليقضي فيهم ما هو قاض وهذه ساقطة لأبي ذر.
(الشفا) بفتح الشين المعجمة والفاء مقصورًا يريد قوله
تعالى: {على شفا جرف هار} [التوبة: 109] وفسر الشفا بقوله:
(شفير)
(7/139)
ولأبي ذر الشفير ثم قال: (وهو) أي الشفير
(حده) بالدال بعد الحاء المهملتين وللكشميهني وهو حرفه أي
جانبه.
(والجرف ما تجرف من السيول والأودية) أي يحفر بالماء فصار
واهيًا.
({هار}) أي (هائر) يقال انهارت البئر إذا تهدمت. قال
القاضي: وإنما وضع شفا الجرف وهو ما جرفه الوادي الهائر في
مقابلة التقوى تمثيلاً لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان
وسرعة الانطماس ثم رشحه بانهياره به في النار ووضعه في
مقابلة الرضوان تنبيهًا على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه عن
النار ويوصله إلى رضوان الله تعالى ومقتضياته التي الجنة
أدناها وتأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في
النار ساعة فساعدة ثم إن مصيرهم إلى النار لا محالة اهـ.
وقوله: {إن إبراهيم} ({لأوّاه}) [التوبة: 114] أي (شفقًا
وفرقًا) كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه وفيه بيان الحامل له
على الاستغفار لأبيه مع شكاسته عليه.
(وقال الشاعر:) وهو المثقب بتشديد القاف المفتوحة العبدي
واسمه جحاش بن عائذ بن محصن، وسقط لفظ الشاعر لغير أبي ذر.
(إذا ما قمت أرحلها بليل).
بفتح الهمزة والحاء المهملة من رحلت الناقة أرحلها إذا
شددت الرحل على ظهرها والرحل أصغر من القتب.
(تأوّه آهة) بمدّ الهمزة وللأصيلي أهة (الرجل الحزين).
بتشديد الهاء وقصر الهمزة قال الحريري في درة الغوّاص
يقولون في التأوّه أوّه والأفصح أن يقال أوه بكسر الهاء
وضمها وفتحها والكسر أغلب وعليه قول الشاعر:
وقد شدّد بعضهم الواو فقال: أوّه، ومنهم من حذف الهاء وكسر
الواو فقال أوّ، وتصريف الفعل منها أوّه وتأوّه والمصدر
والآهة ومنه قول مثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل.
البيت. وهذا البيت من جملة قصيدة أوّلها:
أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألت كأن تبيني
ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمرّ بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي ... لما أتبعتها أبدًا يميني
(يقال: تهوّرت البئر إذا انهدمت وإنها مثله) كذا لأبوي ذر
والوقت وسقط لغيرهما.
1 - باب قَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
[التوبة: 1] أُذُنٌ: إِعْلاَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أُذُنٌ يُصَدِّقُ، تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَنَحْوُهَا كَثِيرٌ، وَالزَّكَاةُ: الطَّاعَةُ
وَالإِخْلاَصُ. لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ: لاَ يَشْهَدُونَ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. يُضَاهُونَ: يُشَبِّهُونَ
(باب قوله) عز وجل: ({براءة من الله ورسوله}) أي هذه براءة
مبتدأ صدورها من الله تعالى وغاية انتهائها ({إلى الذين
عاهدتم من المشركين}) [التوبة: 1] فبراءة خبر مبتدأ محذوف
وقيل مبتدأ خبره إلى الذين وجاز الابتداء بالنكرة لأنها
تخصصت بالجار بعدها، والمعنى أن الله ورسوله برئا من العهد
الذي عاهدتم به المشركين وذلك أنهم عاهدوا مشركي العرب
فنكثوا ولم يف به إلا بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ
العهد إلى من نقضه وأمروا أن يسيحوا الأربعة الأشهر المحرم
صيانة لها من القتال.
وقوله: ({أذان}) أي (إعلام) يقال آذنته إيذانًا وأذانًا
وهو اسم قام مقام المصدر، وسقط هذا لغير أبي ذر.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما رواه ابن أبي حاتم
من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله ويقولون هو (أذن
يصدق) كل ما سمع وسمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط سمعه
صار جملة آلة السماع ما سمي الجاسوس عينًا لذلك.
وقوله: {خذ من أموالهم صدقة} ({تطهرهم وتزكيهم بها})
[التوبة: 103] بمعنى واحد لأن الزكاة والتزكية في اللغة
الطهارة (ونحوها) وفي نسخة ونحو هذا (كثير) في القرآن أو
في لغات العرب (والزكاة الطاعة والإخلاص) أي تأتي بمعناهما
رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أي طلحة عن ابن عباس في
قوله تعالى: ({تطهرهم وتزكيهم بها}) قال الزكاة طاعة الله
والإخلاص.
وقوله تعالى في سورة فصلت: {وويل للمشركين الذين} ({لا
يؤتون الزكاة}) [فصلت: 6] قال ابن عباس فيما رواه عليّ بن
أبي طلحة عنه (لا يشهدون أن لا إله إلا الله) وهذا ذكره
استطرادًا.
وقوله تعالى: (يضاهون) قال ابن عباس فيما رواه ابن أبي
حاتم عن علي بن أبي طلحة عنه (يشبهون) وقال:
(7/140)
أبو عبيدة هي التشبيه وقال القاضي أي يضاهي
قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه والمضاهاة المشابهة وهذا أخبار من الله تعالى عن قول
اليهود: عزير ابن الله، والنصارى المسيح ابن الله فأكذبهم
الله تعالى بقوله: {وذلك قولهم بأفواههم} [التوبة: 30]
والتقييد بكونه بأفواههم مع أن القول لا يكون إلا بل بالفم
للإشعار بأنه لا دليل عليه فهو كالمهملات لم يقصد بها
الدلالة على المعاني، وقول اليهود هذا كان مذهبًا مشهورًا
عندهم أو قاله بعض من متقدميهم أو من كان بالمدينة، وإنما
ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة
فلما أحياه الله بعد مائة عام وأملى عليهم التوراة حفظًا
فتعجبوا من ذلك، وقالوا ما هذا إلا لأنه ابن الله والدليل
على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا
مع تهالكهم على التكذيب.
4654 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي
الله عنه- يَقُولُ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلاَلَةِ} وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ.
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد
الله السبيعي أنه (قال: سمعت البراء) بن عازب (رضي الله
عنه يقول: آخر آية نزلت) عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ({يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}) في آخر
سورة النساء (وآخر سورة نزلت) عليه عليه الصلاة والسلام
(براءة).
فإن قلت: سبق في آخر سورة البقرة من حديث ابن عباس أن آخر
آية الربا وعند النسائي من حديث ابن عباس أن سورة النصر
آخر سورة نزلت. أجيب: بأن المراد آخرية مخصوصة لأن الأولية
والآخرية من الأمور النسبية، وأما السورة فإن آخرية النصر
باعتبار نزولها كاملة بخلاف براءة فالمراد أوّلها أو
معظمها، وإلاّ ففيها آيات كثيرة نزلت قبل سنة الوفاة
النبوية وسيكون لنا عودة إلى الإلمام بشيء من مبحث ذلك
بسورة النصر إن شاء الله تعالى بعون الله وقوته.
2 - باب قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ
وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} سِيحُوا: سِيرُوا
(باب قوله) تعالى: ({فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}) أوّلها
شوّال وآخرها سلخ المحرم قاله الزهري أو من يوم النحر إلى
عشرين من ربيع الآخر.
واستشكل ابن كثير الأوّل بأنهم كيف يحاسبون بمدّة لم
يبلغهم حكمها وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر كما يأتي إن
شاء الله تعالى. واستشكل غيره القولين بأنه لم يكن ذلك كله
الأشهر الحرم
المشار إليها في قوله: فإذا انسلخ الأشهر الحرم. وأجيب:
باحتمال أن يكون من قبيل التغليب وهذا أمر من الله لناقضي
العهد كما مرّ.
روى سعيد بن منصور والنسائي عن زيد بن يثيع بتحتية مضمومة
وقد تبدل همزة بعدها مثلثة مفتوحة فتحتية ساكنة فعين مهملة
الهمداني الكوفي المخضرم قال: سألت عليًّا بأي شيء بعثت؟
قال: بأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت
عريان ولا يجتمع مسلم ومشرك في الحج بعد عامهم هذا، ومن
كان له عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأربعة أشهر،
واستدلّ بهذا الأخير كما قاله ابن حجر وغيره على أن قوله
تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} مختص بمن لم يكن له
عهد مؤقت أو من لم يكن له عهد أصلاً، وأما من له عهد مؤقت
فهو إلى مدته وروى الطبري من طريق ابن إسحاق قال: هم
صنفان. صنف كان له عهد دون أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة
أشهر وصنف كانت مدة عهده بغير أجل فقصرت على أربعة أشهر
وعن ابن عباس أن الأربعة الأشهر أجل من كان له عهد مؤقت
بقدرها أو يزيد عليها وأن من ليس له عهد فانقضاؤه إلى سلخ
المحرم لقوله: {فإذا انسلخ الأشهر المحرم فاقتلوا
المشركين} [التوبة: 5] وعن الزهري قال: كان أول أربعة
الأشهر عند نزول براءة في شوال، وكان آخرها آخر المحرم
وبذلك يجمع بين الأربعة الأشهر وبين قوله: {فإذا انسلخ
الأشهر المحرم}.
({واعلموا أنكم غير معجزي الله}) أي لا تفوتونه وإن أمهلكم
({وإن الله مخزي الكافرين}) (التوبة: 2] مذلهم بالقتل
والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة.
(سيحوا) قال أبو عبيدة: أي (سيروا) وقال غيره: اتسعوا في
السير وابعدوا عن العمارات وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
4655 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي
مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ
بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ
يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ قَالَ: حُمَيْدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ
النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِبَرَاءَةَ، وَأَنْ لاَ
يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد
(7/141)
(سعيد بن عفير) هو سعيد بن كثير بن عفير
بضم العين المهملة وفتح الفاء المصري (قال: حدّثني)
بالإفراد (الليث) بن سعد الإمام المصري (قال: حدّثني)
بالإفراد أيضًا (عقيل) بضم العين المهملة وفتح القاف ابن
خالد الأيلي ولأبي ذر عن عقيل (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري (وأخبرني) بالإفراد وواو العطف. قال في الكواكب:
إشعارًا بأنه أخبره أيضًا بغير ذلك فهو عطف على مقدر قال
في الفتح: ولم أر في طرق
حديث أبي هريرة عن أبي بكر زيادة إلا ما وقع في رواية شعيب
عن الزهري فإن فيها: كان المشركون يوافون بالتجارة فينتفع
بها المسلمون فلما حرم الله على المشركين أن يقربوا المسجد
الحرام وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عليهم من التجارة
فنزلت {وإن خفتم عيلة} [التوبة: 28] الآية ثم أحل في الآية
الأخرى الجزية الحديث. وأخرجه الطبراني وابن مردويه
مطولاً. وقال في العمدة: ولم يعين الكرماني المقدر،
والظاهر أن المقدر هكذا عن ابن شهاب حدثني وأخبرني (حميد
بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني قال: وتظهر الفائدة
فيه على قول من يقول بالفرق بين حدّثنا وأخبرنا كذا قال
فليتأمل. (أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: بعثني أبو
بكر) الصديق -رضي الله عنه- (في تلك الحجة) زاد في الحج من
طريق يحيى بن بكير التي أمره عليها رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل حجة الوداع (في مؤذنين)
جمع مؤذن من الإيذان وهو الإعلام (بعثهم يوم النحر) سنة
تسع من الهجرة (يؤذنون) أي يعلمون الناس (بمنى أن لا يحج)
بفتح الهمزة وتشديد اللام ونصب يحج بأن ولا نافية (بعد
العام) المذكور (مشرك) هو منتزع من قوله تعالى: {فلا
يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] والمراد
المحرم كله (ولا يطوف بالبيت عريان) بنصب يطوف عطفًا على
يحج واحتج به الأئمة الثلاثة على وجوب ستر العورة في
الطواف خلافًا لأبي حنيفة حيث جوّز طواف العريان ولأبي ذر
لا يحج بالرفع ولا نافية مخففة ويطوف رفع عطفًا على يحج.
(قال حميد بن عبد الرحمن) بالسند السابق (ثم أردف رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أبا بكر (بعلي
بن أبي طالب). وعند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك وقال
الترمذي حسن غريب أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بعث ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: "لا
يبلّغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي" فبعث بها مع علي -رضي
الله عنه- (وأمره) ولأبي ذر: فأمره (أن يؤذن ببراءة) أي
ببعضها وقد نبه في الفتح على أن هذا المقدار من الحديث
مرسل لأن حميد لم يدرك ذلك ولا صرح بسماعه له من أبي
هريرة.
(قال أبو هريرة) -رضي الله عنه- بالإسناد المذكور قال في
الفتح: وكأن حميدًا حمل قصة توجه علي من المدينة إلى أن
لحق أبا بكر عن غير أبي هريرة وحمل بقية القصة كلها عن أبي
هريرة (فأذن معنا علي) رضي الله عنه (يوم النحر في أهل منى
ببراءة) ولأبي ذر عن الكشميهني. قال أبو بكر بدل قال أبو
هريرة. قال الحافظ ابن حجر: وهو غلط فاحش مخالف لرواية
الجميع، وإنما هو كلام أبي هريرة قطعًا فهو الذي كان يؤذن
بذلك (وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان)
وزاد أحمد من رواية محرز بن أبي هريرة عن أبيه: ولا يدخل
الجنة إلا مؤمن.
فإن قلت: فما فائدة قوله ولا يدخل الجنة إلا مؤمن؟ أجيب:
الإعلام بأن المشرك بعدها لا يقبل منه بعد هذا غير الإيمان
لقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر المحرم فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم} [التوبة: 5].
وقد سبق حديث الباب في الصلاة والحج.
3 - باب قَوْلِهِ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ
بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} آذَنَهُمْ: أَعْلَمَهُمْ
(باب قوله) عز وجل ({وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم
الحج أكبر}) يوم عرفة كذا روي عن علي وعمر فيما رواه ابن
جرير وعن ابن عباس ومجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم، وروي
مرسلاً عن مخرمة أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خطب يوم عرفة فقال: هذا يوم الحج الأكبر، وقيل
إنه يوم النحر وإليه ذهب حميد بن عبد الرحمن ما سيأتي إن
شاء الله تعالى قريبًا في باب {إلا الذين عاهدتم من
المشركين} [التوية: 4].
وروي عن ابن عمر وقف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال:
(7/142)
"هذا يوم الحج الأكبر" وبه قال كثيرون لأن
أعمال المناسك تتم فيه والجمهور أن الحج الأصغر العمرة
وقيل الأصغر يوم عرفة والأكبر يوم النحر، وقيل حجة الوداع
هي الأكبر لما وقع فيها من إعزاز الإسلام وإذلال الكفر
({أن الله بريء من المشركين ورسوله}) رفع مبتدأ والخبر
محذوف أي ورسوله بريء منهم أو معطوف على الضمير المستكن في
بريء وجاز ذلك للفصل المسوّغ للعطف فرفعه على هذا
بالفاعلية ({فإن تبتم فهو خير لكم}) أي فالتوب عن الشرك أو
المتاب عن المعصية خير من البقاء عليها وأفعل التفضيل
لمطلق الخيرية ({وإن توليتم}) أعرضتم ({فاعلموا أنكم غير
معجزى الله}) بل هو قادر عليكم وأنتم تحت قهره ({وبشر
الذين كفروا بعذاب أليم}) [التوبة: 3] في الدنيا بالخزى
والنكال وفي الآخرة بالمقامع والأغلال والبشارة تهكم، وسقط
لأبي ذر فإن تبتم الخ وقال بعد قوله ورسوله إلى المتقين
وساق في نسخة الآية كلها إلى آخر المتقين (آذنهم) بمدّ
الهمزة أي (أعلمهم) وسقط ذلك لأبي ذر.
4656 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ
ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي
أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي
الْمُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ
بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ
يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ قَالَ حُمَيْدٌ: ثُمَّ
أَرْدَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِعَلِىِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ
بِبَرَاءَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا
عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ
وَأَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ
يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام (قال حدّثني) بالإفراد (عقيل) بضم
العين المهملة ابن خالد (قال ابن شهاب) الزهري (فأخبرني)
بالإفراد
(حميد بن عبد الرحمن) بن عوف حميد بالحاء المهملة وفي آل
ملك عبيد وهي في اليونينية مصلحة حميد بالحاء المهملة (أن
أبا هريرة) -رضي الله عنه- (قال: بعثني أبو بكر رضي الله
عنه في تلك الحجة) التي كان أبو بكر فيها أميرًا على الحاج
(في المؤذنين) الذين (بعثهم يوم النحر) سمى الحافظ ابن حجر
ممن كان مع الصديق في تلك الحجة سعد بن أبي وقاص وجابرًا
فيما أخرجه الطبري (يؤذنون بمنى أن لا يحج) بتشديد اللام
(بعد العام) الذي وقع فيه الإعلام (مشرك ولا يطوف بالبيت
عريان). بنصب يطوف وإنما كانت مباشرة أبي هريرة لذلك بأمر
الصديق، لأن الصدّيق كان هو الأمير على الناس في تلك
الحجة، وكان عليًّا لم يطق التأذين وحده فاحتاج لمعين على
ذلك، فكان أبو هريرة ينادي بما يلقيه إليه عليّ مما أمر
بتبليغه، ويدل لذلك حديث محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال:
كنت مع علي حين بعثه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ببراءة إلى أهل مكة فكنت أنادي معه بذلك حتى
يصحل صوتي وكان ينادي قبلي حتى يعني.
(قال حميد): هو ابن عبد الرحمن المذكور بالسند المذكور (ثم
أردف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الصديق
(بعليّ بن أبي طالب) وسقط ابن أبي طالب لأبي ذر، وفي نسخة:
ثم أردف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علي بن
أبي طالب بإسقاط حرف الجر (فأمره أن يؤذن ببراءة) أي ببضع
وثلاثين آية منها منتهاها عند قوله: ولو كره المشركون ففيه
تجوز.
(قال أبو هريرة) بالإسناد السابق: (فأذن معنا عليّ في أهل
منى يوم النحر ببراءة) من أولها إلى (ولو كره المشركون)
(و) ببعض ما اشتملت عليه (أن لا يحج بعد العام مشرك) وهو
قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] وبهذا يندفع استشكال أن
عليًّا كان مأمورًا بأن يؤذن ببراءة فكيف أذن بأن لا يحج
بعد العام مشرك كما قاله الكرماني: (ولا يطوف بالبيت
عريان) وبراءة مجرور وعلامة الجر فتحة وهو الثابت في
الروايات ويجوز رفعه منوّنًا على الحكاية.
4 - باب {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ}
({إلا الذين عاهدتم من المشركين}) [التوبة: 1] استثناء من
المشركين والتقدير براءة من الله إلى المشركين إلا من
الذين لم ينقضوا وسقط هذا لأبي ذر.
4657 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ
أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ
الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَنْ لاَ يَحُجَّنَّ
بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ
عُرْيَانٌ، فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ يَوْمُ النَّحْرِ
يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (إسحاق) هو
ابن منصور أبو يعقوب الكوسج المروزي قال: (حدّثنا يعقوب بن
إبراهيم) قال: (حدّثنا أبي) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب)
الزهري (أن حميد بن عبد الرحمن) بن عوف (أخبره أن أبا
هريرة أخبره أن أبا بكر -رضي الله عنه- بعثه) أي بعث أبا
هريرة (في الحجة التي أمره) بتشديد الميم أي جعله (رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أميرًا (قبل
حجة الوداع في رهط)
(7/143)
هو ما دون العشرة من الرجال (يؤذن) ولأبي
ذر عن الكشميهني: يؤذنون (في الناس) بمنى (أن لا يحجن)
بنون التوكيد الثقيلة (بعد العام مشرك ولا يطوف) بالنصب
(بالبيت عريان فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر
من أجل حديث أبي هريرة) وهذه الزيادة أدرجها شعيب عن أبي
هريرة كما في الجزية، ولفظه عن أبي هريرة: بعثني أبو بكر
فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف
بالبيت عريان ويوم الحج أكبر يوم النحر، وإنما قيل أكبر من
أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك
العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مشرك، وقول حميد هذا استنبطه
من قوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج
الأكبر} [التوبة: 3] ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي
بكر يوم النحر، فدلّ على أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم
النحر وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو هريرة
وليس كذلك فقد تظافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان
ينادي به أبو هريرة هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان منع
حج المشركين ومنع طواف العريان، وأن عليًّا أيضًا كان
ينادي بهما وكان يزيد من كان له عهد فعهده إلى مدته وأن لا
يدخل الجنة إلا مسلم وكأن هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج
بعد العام مشرك، وأما التي قبلها فهي التي اختص في
بتبليغها قاله في الفتح.
5 - باب {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ
أَيْمَانَ لَهُمْ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله سبحانه وتعالى: {فقاتلوا أئمة
الكفر}) أي فقاتلوا المشركين الذين نقضوا العهد وطعنوا في
دينكم بصريح التكذيب وتقبيح أحكام الله فوضع أئمة الكفر
موضع المضمر إذ التقدير فقاتلوهم للإشارة إلى أنهم بذلك
صاروا رؤساء الكفرة وقادتهم أو المراد رؤساؤهم وخصوا بذلك
لأن قتلهم أهم ({إنهم لا أيمان لهم}) [التوبة: 12] بفتح
الهمزة جمع يمين وهو المناسب للنكث ومعنى نفيها عنهم أنهم
لا يوفون بها وإن صدرت منهم واستشهد به الحنفية على أن
يمين الكافر لا تكون شرعية، وعند الشافعية يمين شرعية
بدليل وصفها بالنكث وقرأ ابن عامر بكسرها مصدر آمن يؤمن
إيمانًا أي لا تصدق لهم أو لا أمان لهم وسقط باب لغير أبي
ذر.
4658 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ
وَهْبٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: مَا
بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الآيَةِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ
وَلاَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ،
فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنَّكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُخْبِرُونَا فَلاَ
نَدْرِي فَمَا بَالُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ
بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعْلاَقَنَا؟ قَالَ: أُولَئِكَ
الْفُسَّاقُ أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلاَّ
أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ
الْمَاءَ الْبَارِدَ لَمَا وَجَدَ بَرْدَهُ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي الزمن قال:
(حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان قال: (حدّثنا إسماعيل) بن
أبي خالد قال: (حدّثنا زيد بن وهب) الجهني أبو سليمان
الكوفي المخضرم (قال: كنا عند حذيفة) بن اليمان (فقال: ما
بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة)، كذا وقع مبهمًا عند
البخاري، ووافقه النسائي وابن مردويه كلاهما على الإبهام
وإيراد ذلك هنا وهو يومئ إلى أن المراد الآية المسوقة هنا.
وروى الطبري من طريق حبيب بن حسان عن زيد بن وهب قال كنا
عند حذيفة فقرأ هذه الآية: {فقاتلوا أئمة الكفر} قال: ما
قوتل أهل هذه الآية بعد، لكن وقع عند الإسماعيلي من رواية
ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد بلفظ ما بقي من
المنافقين من أهل هذه الآية {لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم
أولياء} [الممتحنة: 1] الآية إلا أربعة نفر، إن أحدهم لشيخ
كبير. قال الإسماعيلي: إن كانت الآية ما ذكر في خبر ابن
عيينة فحق هذا الحديث أن يخرج في سورة الممتحنة، والمراد
بكونهم لم يقاتلوا أن قتالهم لم يقع لعدم وقوع الشرط لأن
لفظ الآية وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم
فقاتلوا فلما لم يقع منهم نكث ولا طعن لم يقاتلوا.
وقوله: إلا ثلاثة سمي منهم في رواية أبي بشر عن مجاهد أبو
سفيان بن حرب وفي رواية معمر عن قتادة أبو جهل بن هشام
وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان وسهيل بن عمرو، وتعقب بأن أبا
جهل وعتبة قتلا ببدر وإنما ينطبق التفسير على من نزلت
الآية المذكورة وهو حي فيصح في أبي سفيان وسهيل بن عمرو
وقد أسلما قاله في الفتح. وقال البرماوي كالكرماني: أي
ثلاثة آمنوا ثم ارتدوا وطعنوا في الإسلام من ذوي الرئاسة
والتقدم فيه أي في الكفر.
(ولا من المنافقين) الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر
(إلا أربعة) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسميتهم
انتهى، وقد كان حذيفة
(7/144)
صاحب سر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شأن المنافقين يعرفهم دون غيره.
(فقال أعرابي): لم يعرف اسمه (إنكم أصحاب محمد -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بنصب أصحاب بدلاً من الضمير
في إنكم أو منادى مضاف منه الأداة (تخبرونا) بسكون الخاء
وبفتحها مع تشديد الموحدة وفي نسخة تخبروننا بنونين على
الأصل لأن النون لا تحذف إلا لناصب أو جازم والأولى لغة
فصيحة لبعض العرب وزاد الإسماعيلي عن أشياء (فلا ندري فما
بال هؤلاء الذين يبقرون) بمثناة تحتية مفتوحة فموحدة ساكنة
فقاف مضمومة وفي رواية غير أبي ذر يبقرون بضم التحتية وفتح
الموحدة وتشديد القاف مكسورة أي يفتحون أو ينقبون (بيوتنا)
وفي نسخة: ينقرون بالنون الساكنة بدل الموحدة وضم القاف
(ويسرقون أعلاقنا)؟ بالعين المهملة والقاف أي نفائس
أموالنا، وفي بعض
النسخ أغلاقنا بالمعجمة وكذا وجد مضبوطًا بخط الحافظ الشرف
الدمياطي، لكن قال السفاقسي: لا أعلم له وجهًا. قال في فتح
الباري: ويمكن توجيهه بأن الإغلاق جمع غلق بفتحتين وهو ما
يغلق ويفتح بالمفتاح، والغلق أيضًا الباب فالمعنى يسرقون
مفاتيح الإغلاق ويفتحون الأبواب ويأخذون ما فيها، أو
المعنى يسرقون الأبواب وتكون السرقة كناية عن قلعها وأخذها
ليتمكنوا من الدخول فيها.
(قال) حذيفة (أولئك) أي الذين يبقرون ويسرقون (الفساق) أي
لا الكفار ولا المنافقون (أجل) أي نعم (لم يبق منهم إلا
أربعة أحدهم شيخ كبير) لم يعرف اسمه (لو شرب الماء البارد
لما وجد برده) لذهاب شهوته وفساد معدته بسبب عقوبة الله له
في الدنيا فلا يفرق بين الأشياء.
6 - باب قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
(باب قوله) عز وجل ({والذين يكنزون الذهب والفضة ولا
ينفقولها في سبيل الله}) والذين بالواو استئنافية مبتدأ
ضمن معنى الشرط ودخلت الفاء في خبره وهو قوله: ({فبشرهم
بعذاب أليم}) [التوبة: 34] لذلك ووحد الضمير والسابق شيئان
الذهب والفضة لأنه يعود على المكنوزات وهي أعم من النقدين
أو عودًا إلى الفضة لأنها أقرب مذكور، واكتفى ببيان حال
صاحبها عن بيان حال صاحب الذهب، أو لأن الفضة أكثر
انتفاعًا في المعاملات من الذهب وتخصيصهما بالذكر مع أن
غيرهما إن لم تؤد زكاته كأموال التجارة يعذب صاحبه لكونهما
ثمنًا له في الغالب، وأصل الكنز الجمع وكل شيء جمع بعضه
إلى بعض فهو مكنوز، وأكثر علماء الصحابة على أن الكنز
المذموم هو المال الذي لا تؤدى زكاته.
وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيما مال أديت زكاته
فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض وأيما مال لم تؤد
زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض، وقيل:
المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم وإن أديت زكاته،
واستدلّ له بعموم اللفظ، وقوله عليه الصلاة والسلام المروي
في حديث علي عند عبد الرزاق ولفظه عن عليّ في قوله تعالى:
{والذين يكنزون الذهب والفضة} الآية قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تبًّا للذهب تبًّا للفضة"
يقولها ثلاثًا. قال: فشق ذلك على أصحابه وقالوا: فأي مال
نتخذ؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: أنا أعلم لكم ذلك فقال: يا
رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم ذلك وقالوا: فأي المال
نتخذ؟ قال: "لسانًا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة تعين أحدكم
على دينه" ويمكن أن يجاب بحمل ذلك على ترك الأولى لا أنه
يعذب الإنسان على مال جمعه من حل وأخرج عنه حق الله تعالى،
وقد قال عليه الصلاة والسلام "نعم المال الصالح للرجل
الصالح" وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
4659 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ
الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «يَكُونُ
كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا
أَقْرَعَ».
وبه قال: (حدّثنا الحكم بن نافع) أبو اليمان الحمصي قال:
(أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد)
عبد الله بن ذكوان (أن عبد الرحمن) بن هرمز (الأعرج حدثه
أنه قال: حدّثني) بالإفراد (أبو هريرة -رضي الله عنه- أنه
سمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(يكون كنز أحدكم) بالكاف كذا في الفرع كأصله وغيرهما وفي
نسخة مكنز أحدهم (يوم القيامة شجاعًا أقرع) أي حيّة تمعط
جلد رأسها لكثرة السم
(7/145)
وطول العمر وزاد أبو نعيم في مستخرجه يفر
منه صاحبه ويطلبه أنا كنزك فلا يزال به حتى يلقمه أصبعه.
وقد سبق الحديث في الزكاة بتمامه من وجه آخر وقد أورده هنا
مختصرًا.
4660 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ:
مَرَرْتُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ فَقُلْتُ: مَا
أَنْزَلَكَ بِهَذِهِ الأَرْضِ قَالَ: كُنَّا بِالشَّأْمِ
فَقَرَأْتُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] قَالَ
مُعَاوِيَةُ: مَا هَذِهِ فِينَا مَا هَذِهِ إِلاَّ فِي
أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: قُلْتُ إِنَّهَا لَفِينَا
وَفِيهِمْ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي قال: (حدّثنا
جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عن حصين) بضم الحاء وفتح
الصاد المهملتين ابن عبد الرحمن السلمي الكوفي (عن زيد بن
وهب) الجهني الهمداني الكوفي أنه (قال: مررت على أبي ذر)
جندب بن جنادة على الأصح (بالربذة) بالراء والموحدة
والمعجمة المفتوحات موضع قريب من المدينة (فقلت) له: (ما
أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت) قوله تعالى:
{والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقولها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم} قال معاوية) بن أبي سفيان حين كان
أميرًا على الشام: (ما هذه) الآية (فينا) نزلت (ما هذه إلا
في أهل الكتاب). نظرًا إلى سياق الآية لأنها نزلت في
الأحبار والرهبان الذين لا يؤتون الزكاة (قال) أبو ذر:
(قلت) لمعاوية: (إنها لفينا وفيهم) نزلت نظرًا إلى عموم
الآية، وزاد في الزكاة فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى
عثمان -رضي الله عنه- يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقدم
المدينة فقدمتها فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل
ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبًا فذاك
الذي أنزلني هذا المنزل.
7 - باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يُحْمَى
عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا
جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا
كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ}
(باب قوله عز وجل {يوم يحمى عليها}) أي المكنوزات أو
الدراهم ({في نار جهنم}) يجوز كون يحمي من حميته أو أحميته
ثلاثيًا أو رباعيًا يقال: حميت الحديدة وأحميتها أي أوقدت
عليها
لتحمي والفاعل المحذوف هو النار تقديره يوم تحمى النار
عليها فلما حذف الفاعل ذهبت علامة التأنيث لذهابه كقولك:
رفعت القصة إلى الأمير ثم تقول رفع إلى الأمير ({فتكوى بها
جباههم وجنوبهم وظهورهم}) تخصيص هذه الأعضاء لأن جمع المال
والبخل به كان لطلب الوجاهة فوقع العذاب بنقيض المطلوب
والظهر لأن البخيل يولي ظهره عن السائل أو لأنها أشرف
الأعضاء لاشتمالها على الدماغ والقلب والكبد ({هذا ما
كنزتم لأنفسكم}) معمول لقول محذوف أي يقال لهم هذا ما
كنزتم لمنفعة أنفسكم فصار مضرة لها وسبب تعذيبها ({فذوفوا
ما كنتم تكنزون}) [التوبة: 35] أي: جزاء الذين كنتم
تكنزونه لأن المكنوز لا يذاق.
وثبت باب قوله عز وجل لأبي ذر وسقط له جباههم الخ وقال بعد
قوله فتكوى بها الآية.
4661 - وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ
الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا
لِلأَمْوَالِ.
وبه قال: (وقال أحمد بن شبيب بن سعيد) بفتح المعجمة وكسر
الموحدة الأولى فيما وصله أبو داود في الناسخ والمنسوخ
ووقع في رواية الكشميهني في باب ما أدى زكاته فليس بكنز
حدّثنا أحمد بن شبيب قال: (حدّثنا أبي) شبيب بن سعيد
البصري (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن
خالد بن أسلم) أخي زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أنه
(قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر) -رضي الله عنهما- زاد في
الزكاة فقال أعرابي أخبرني قول الله {والذين يكنزون الذهب
والفضة ولا ينفقولها في سبيل الله} (فقال هذا قبل أن تنزل
الزكاة) إذ كانت الصدقة فرضًا بما فضل عن الكفاية لقوله
تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219]
قاله ابن بطال: (فلما أنزلت) آية الزكاة (جعلها الله) أي
الزكاة (طُهرًا للأموال) ولمخرجها عن رذائل الأخلاق.
8 - باب قَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ
اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ} الْقَيِّمُ: هُوَ الْقَائِمُ
(باب قوله) جل وعلا ({إن عدة الشهور عند الله}) العدة مصدر
بمعنى العدد وعند الله نصب به أي أن مبلغ عددها عنده
تعالى: ({اثنا عشر شهرًا}) نصب على التمييز (واثنا عشر)
خبر إن ({في كتاب الله}) في اللوح المحفوظ لأنه أصل الكتب
أو القرآن أو فيما حكم به وهو صفة لاثنا عشر ({يوم خلق
السماوات والأرض}) متعلق بكتاب على جعله مصدرًا ({منها
أربعة حرم}) [التوبة: 36] وإنما قيل لهذا المقدار من
الزمان شهر لأنه يشهر بالقمر ومنه ابتداؤه وانتهاؤه والقمر
هو الشهر قال:
فأصبح أجلى الطرف ما يستزيده ... يرى الشهر قبل الناس وهو
كحيل
(7/146)
({القيم}) قال أبو عبيدة في مجازه (هو
القائم) أي المستقيم وزاد أبو ذر ذلك الدين أي تحريم
الأشهر المحرم هو الدين المستقيم دين إبراهيم وتخصيص بعض
الزمان بالحرمة كليلة القدر والجمعة والعيد بالفضل دون بعض
أن النفوس مجبولة على الشر يشق عليها الامتناع عن الشر
بالكلية فمنعت عنه في بعض الأوقات لحرمته وقد كانوا يعظمون
هذه الأشهر حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يقتله فأكد الله
تعالى ذلك بأن منع الظلم فيها بقوله {فلا تظلموا فيهن
أنفسكم} أي لا تحلوا حرامها ولذا قيل لا يحل القتال فيها
ولا في الحرم، والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة،
ويؤيده ما روي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حاصر الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في
الصحيحين أنه حاصرها أربعين يومًا وسقط باب قوله لغير أبي
ذر.
4662 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ
أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ
أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ
كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو
الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ
مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب) الحجبي البصري
قال: (حدّثنا حماد بن زيد) بتشديد الميم ابن درهم الأزدي
الجهضمي البصري (عن أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن
سيرين (عن ابن أبي بكرة) عبد الرحمن (عن) أبيه (أبي بكرة)
نفيع بن الحارث ولأبي ذر عن أبيه بدل عن أبي بكرة (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال) في
خطبته في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق:
أيها الناس (إن الزمان قد استدار) استدارة (كهيئته) أي مثل
حالته (يوم خلق الله السماوات والأرض) أي عالج الحج إلى ذي
الحجة وبطل النسيء وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر وذلك
أنهم كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا
مكانه شهرًا آخر ورفضوا خصوص الأشهر، واعتبروا مجرد العدد،
وقيل: كانوا يستحلون القتال في المحرم لطول مدة التحريم
بتوالي ثلاثة أشهر محرمة ثم يحرمون صفر مكانه فكأنهم
يقترضونه ثم يوفونه، وقيل كانوا يحلون المحرم مع صفر من
عام ويسمونهما صفرين ثم يحرمونها من عام قابل ويسمونها
محرمين، وقيل بل كانوا ربما احتاجوا إلى صفر إيضافًا حلوه
وجعلوا مكانه ربيعًا ثم يدور كذلك التحريم والتحليل
بالتأخير على السنة كلها إلى أن جاء الإسلام فوافق حجة
الوداع رجوع التحريم إلى المحرم الحقيقي وصار الحج مختصًّا
بوقت معين، واستقام حساب السنة ورجع إلى الأصل الموضوع يوم
خلق السموات والأرض.
(السنة) العربية الهلالية (اثنا عشر شهرًا) على ما توارثوه
من إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وذلك بعدد
البروج التي تدور الشمس فيها السنة الشمسية. فإذا دار
القمر فيها
كلها كملت دورته السنوية وإنما جعل الله تعالى الاعتبار
بدور القمر لأن ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا
كتاب بل هو أمر ظاهر مشاهد بالبصر بخلاف سير الشمس فإنه
تحتاج معرفته إلى حساب فلم يحوجنا إلى ذلك كما قال عليه
الصلاة والسلام "إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر
هكذا وهكذا" الحديث.
واعلم أن السنة والحول والعام مترادفة فمعناها واحد كما هو
ظاهر كلام كثير من اللغويين وهي مشتملة على ثلاثمائة
وأربعة وخمسين يومًا وخمس وسدس يوم كذا ذره صاحب المهذّب
من الشافعية في الطلاق قالوا: لأن شهرًا منها ثلاثون
وشهرًا تسع وعشرون إلا ذا الحجة فإنه تسع وعشرون وخمس يوم
وسدس يوم، واستشكله بعضهم وقال: لا أدري ما وجه زيادة
الخمس والسدس: وصحح بعضهم أن السنة الهلالية ثلاثمائة
وخمسة وخمسون يومًا، وبه جزم ابن دحية في كتاب التنوير
وذلك مقدار قطع البروج الاثني عشر التي ذكرها الله تعالى
في كتابه، وفرق بعضهم بين السنة والعام فيكونان متباينين
فقال: إن العام من أول المحرم إلى آخر ذي الحجة والسنة من
كل يوم إلى مثله من القابل نقله ابن الخباز في شرح اللمع
له، وسمي العام عامًّا لأن الشمس عامت فيه حتى قطعت جملة
الفلك لأنها تقطع الفلك كله في السنة مرة وتقطع في كل شهر
برجًا من البروج الاثني عشر وإنما علق الله تعالى على
الشمس أحكام اليوم من الصلاة والصيام حيث كان ذلك
(7/147)
مشاهدًا بالبصر لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب
فالصلاة تتعلق بطلوع الفجر وطلوع الشمس وزوالها ومصير ظل
كل شيء مثله بعد الذي زالت عليه الشمس وبغروب الشمس،
والسنة القمرية أقل من الشمسية بمقدار معلوم وبسبب ذلك
النقصان تنتقل المشهور القمرية من فصل إلى آخر فيقع الحج
في الشتاء تارة وفي الصيف أخرى، وذكر الطبري أنهم كانوا
يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا ومن وجه آخر يجعلونها اثني
عشر شهرًا وخمسة وعشرين يومًا فتدور الأيام والشهور كذلك،
وقول أن حجة الصديق رضي الله تعالى عنه سنة تسع كانت في ذي
القعدة فيه نظر لأن الله تعالى قال: {وأذان من الله ورسوله
إلى الناس يوم الحج الأكبر} الآية وإنما نودي بذلك في حجة
أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى: {يوم الحج
أكبر}.
(منها أربعة حُرُم) لعظم حرمتها وعظم الذنب فيها أو لتحريم
القتال فيها (ثلاث متواليات) أي متتابعات وهو تفسير
للأربعة الحرم. قال ابن التين فيما نقله في الفتح: الصواب
ثلاثة متوالية يعني لأن المميز الشهر قال ولعله أعاد على
المعنى أي ثلاث مدد متواليات لكن إذا لم يذكر التمييز جاز
التذكير والتأنيث، ولأبي ذر: ثلاثة متواليات (ذو القعدة
وذو الحجة) بفتح القاف والحاء (والمحرم ورجب مضر) وهي
القبيلة المشهورة وأضافه إليها لأنهم كانوا متمسكين
بتعظيمه (الذي بين جمادى) الآخرة (وشعبان) وهذا تأكيد
وتصحيح لقول مضر نافيًا به قول ربيعة أن رجبًا المحرم هو
الشهر الذي بين شعبان وشوّال وهو رمضان اليوم، وإنما كانت
الأشهر الأربعة ثلاثة سرد وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج
والعمرة، فحرم قبل شهر الحج شهر ليسار فيه إلى الحج وهو ذو
القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة
لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون
بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه
إلى أقصى بلادهم آمنين وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة
البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب
فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنًا، وقد تمسك من قال بأنها من
سنتين بقوله ثلاث متواليات من حيث كونها ثلاثًا تواليات
وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب، وقد
روي من حديث ابن عمر مرفوعًا أوّلهن رجب لكن في إسناده
ضعف، وعن أهل المدينة أنها من سنتين وأولها ذو القعدة ثم
ذو الحجة ثم المحرم ثم رجب آخرها، وعن بعض أهل المدينة
أيضًا أن أولها رجب ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة ثم المحرم،
وعن أهل الكوفة أنها من سنة واحدة أوّلها المحرم ثم رجب ثم
ذو القعدة ثم ذو الحجة. واختلف أيها أفضل؟ فقال بعض
الشافعية: رجب، وضعفه النووي وغيره وقيل: المحرم قاله
الحسن، ورجحه النووي وقيل ذو الحجة.
وروي عن سعيد بن جبير وغيره قال بعضهم: إذا رأيت العرب
السادات قد تركوا العادات وحرموا الغارات قالوا محرم، وإذا
ضعفت أبدانهم واصفرت ألوانهم قالوا اصفر، إذا زهت البساتين
وظهرت الرياحين قالوا ربيعان، وإذا قلت الثمار وجمد الماء
قالوا جماديان، وإذا هاجت الرياح وجرت الأنهار وترجبت
الأشجار قالوا رجب، وإذا بانت الفصائل وتشعبت القبائل
قالوا شعبان، وإذا حمي الفضا وطغى جمر الغض قالوا رمضان،
إذا قلّ السحاب وكثر الذباب وشالت الأذناب قالوا شوّال،
وإذا تعد التجار عن الأسعار قالوا ذو القعدة، وإذا قصدوا
الحج من كل فج وأظهروا العج والثج قالوا ذو الحجة.
وهذا الحديث ذكره في بدء الخلق.
9 - باب قَوْلِهِ: {ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي
الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ
اللهَ مَعَنَا} نَاصِرُنَا السَّكِينَةُ: فَعِيلَةٌ مِنَ
السُّكُونِ
(باب قوله) تعالى وسقط من اليونينية لغير أبي ذر ({ثاني
اثنين}) نصب على الحال من مفعول أخرجه وهو مثل خامس خمسة
أي أحد اثنين ({إذ هما في الغار}). أي حصلا فيه والغار ثقب
في الجبل يجمع على غيران ({إذ يقول}) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ({لصاحبه}) وهو أبو بكر الصديق فيه
دليل على أن من أنكر كون أبي بكر من الصحابة كفر لتكذيبه
القرآن. فإن قلت: لا دلالة في اللفظ على خصوصه. أجيب: بأن
الإجماع على أنه لم يكن غيره ({لا تحزن إن الله
(7/148)
معنا}) [التوبة: 40] أي (ناصرنا) وسقط لغير
أبي ذر {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} وقال معنا
ناصرنا.
(السكينة: فعيلة من السكون) يريد تفسير قوله تعالى: {فأنزل
الله سكينته عليه} أي على الصديق أي ما ألقى في قلبه من
الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه وقيل
الضمير عائد على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في قال بعضهم وهذا أقوى والسكينة هي ما ينزله
الله على أنبيائه من الحياطة والخصائص التي لا تصلح إلا
لهم كقوله تعالى: {فيه سكينة من ربكم} [البقرة: 248].
4663 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا
ثَابِتٌ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو
بَكْرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْغَارِ
فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا
قَالَ: «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) الجعفي المسندي قال:
(حدّثنا حبان) بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة ابن هلال
الباهلي قال: (حدّثنا همام) بفتح الهاء وتشديد الميم ابن
يحيى بن دينار العوذي بفتح المهملة وسكون الواو وكسر
المعجمة البصري قال: (حدّثنا ثابت) هو ابن أسلم البناني
قال: (حدّثنا أنس) هو ابن مالك (قال: حدّثني) بالإفراد
(أبو بكر) الصديق (-رضي الله عنه- قال: كنت مع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الغار) بثور أطحل
خلف مكة من طريق اليمن (فرأيت آثار المشركين) لما طلعوا
فوق الغار وفي رواية: فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم
(قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه) بالإفراد (رآنا:
قال) عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر (ما ظنك باثنين)
يريد نفسه الشريفة وأبا بكر (الله ثالثهما) بالنصر
والمعونة.
4664 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ
ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- أَنَّهُ قَالَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ قُلْتُ: أَبُوهُ الزُّبَيْرُ، وَأُمُّهُ
أَسْمَاءُ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ، وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ
وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِسْنَادُهُ
فَقَالَ: حَدَّثَنَا فَشَغَلَهُ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلِ
ابْنُ جُرَيْجٍ. [الحديث 4664 - طرفاه في: 4665، 4666].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) الجعفي المسندي قال:
(حدثنا ابن عيينة) سفيان (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد
العزيز (عن ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبد الرحمن (عن ابن
عباس -رضي الله عنهما- أنه قال حين وقع بينه) أي بين ابن
عباس (وبين ابن الزبير) عبد الله بسبب البيعة، وذلك أن ابن
الزبير امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية لما مات أبوه وأصر
على ذلك حتى مات يزيد ثم دعا ابن الزبير إلى نفسه بالخلافة
فبويع بها وأطاعه أهل الحجاز ومصر والعراق وخراسان وكثير
من أهل الشام ثم غلب مروان على الشام وقتل الضحاك بن قيس
الأمير من قبل ابن الزبير، ثم توفي مروان سنة خمس وستين
وقام عبد الملك ابنه مقامه وغلب المختار بن أبي عبيد على
الكوفة ففر منه من كان من قبل ابن الزبير، وكان محمد بن
الحنفية وعبد الله بن عباس مقيمين بمكة مدة قتل الحسين
فدعاهما ابن الزبير إلى البيعة له فامتنعا وقالا: لا نبايع
حتى يجتمع الناس على خليفة وتبعهما على ذلك جماعة فشدد ابن
الزبير عليهم وحصرهم فبلغ ذلك المختار فجهز إليهم جيشًا
فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال ابن الزبير فامتنعا وخرجا
إلى الطائف قال ابن أبي مليكة:
(قلت) أي لابن عباس كالمنكر عليه امتناعه من مبايعة ابن
الزبير معددًا شرفه واستحقاقه للخلافة: (أبوه الزبير) بن
العوّام أحد العشرة المبشرة بالجنة (وأمه أسماء) بنت أبي
بكر الصديق
(وخالته عائشة) أم المؤمنين (وجدّه أبو بكر) صاحب النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الغار (وجدته) أم
أبيه الزبير (صفية) بنت عبد المطلب عمة النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: عبد الله بن محمد
المسندي شيخ المؤلّف (فقلت لسفيان) بن عيينة: (إسناده). أي
هذا الحديث ما هو إسناده؟ ويجوز النصب على تقدير: اذكر
إسناده أي هل العنعنة بواسطة أو بدونها (فقال) أي سفيان:
(حدّثنا فشغله إنسان) بكلام أو نحوه (ولم يقل ابن جريج)
بالرفع أي لم يقل حدّثنا ابن جريج فاحتمل أن يكون أراد أن
يدخل بينهما واسطة، واحتمل أن لا يدخلها، ولذلك استظهر
البخاري فأخرج الحديث من وجه آخر عن ابن جريج ثم من وجه
آخر عن شيخه.
4665 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:
وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَغَدَوْتُ عَلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ فَتُحِلُّ حَرَمَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَنِي
أُمَيَّةَ مُحِلِّينَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُحِلُّهُ
أَبَدًا قَالَ: قَالَ النَّاسُ بَايِعْ لاِبْنِ
الزُّبَيْرِ فَقُلْتُ: وَأَيْنَ بِهَذَا الأَمْرِ عَنْهُ
أَمَّا أَبُوهُ فَحَوَارِيُّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يُرِيدُ الزُّبَيْرَ. وَأَمَّا
جَدُّهُ فَصَاحِبُ الْغَارِ، يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ.
وَأُمُّهُ فَذَاتُ النِّطَاقِ يُرِيدُ أَسْمَاءَ وَأَمَّا
خَالَتُهُ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ عَائِشَةَ،
وَأَمَّا عَمَّتُهُ فَزَوْجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِيدُ خَدِيجَةَ، وَأَمَّا عَمَّةُ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَجَدَّتُهُ، يُرِيدُ صَفِيَّةَ، ثُمَّ عَفِيفٌ فِي
الإِسْلاَمِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ وَاللَّهِ إِنْ
وَصَلُونِي وَصَلُونِي مِنْ قَرِيبٍ وَإِنْ رَبُّونِي
رَبَّنِي أَكْفَاءٌ كِرَامٌ فَآثَرَ التُّوَيْتَاتِ
وَالأُسَامَاتِ وَالْحُمَيْدَاتِ يُرِيدُ أَبْطُنًا مِنْ
بَنِي أَسَدٍ بَنِي تُوَيْتٍ وَبَنِي أُسَامَةَ وَبَنِي
أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَاصِ بَرَزَ يَمْشِى
الْقُدَمِيَّةَ يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ
وَإِنَّهُ لَوَّى ذَنَبَهُ يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن محمد) هو المسندي
السابق (قال: حدثني) بالإفراد (يحيى بن معين) بفتح الميم
البغدادي الحافظ المشهور إمام الجرح والتعديل المتوفى سنة
ثلاث وثلاثين ومائتين بالمدينة النبوية وله بضع وسبعون سنة
قال: (حدّثنا حجاج) هو ابن محمد المصيصي (قال ابن جريج)
عبد الملك (قال ابن أبي مليكة) عبد الله (وكان بينهما) أي
بين ابن الزبير وابن عباس (شيء) مما
(7/149)
يصدر بين المتخاصمين وقيل كان اختلافًا في
بعض قراءات القرآن (فغدوت على ابن عباس فقلت) له: (أتريد
أن تقاتل ابن الزبير) بهمزة الاستفهام الإنكاري (فتحل)
بالنصب وفي اليونينية فتحل بالرفع (حرم الله)؟ وفي نسخة ما
حرم الله أي من القتال في الحرم (فقال) أي ابن عباس (معاذ
الله) أي أتعوّذ بالله عن إحلال ما حرم الله (إن الله كتب)
أي قدر (ابن الزبير وبني أمية محلين) مبيحين القتال في
الحرم. قال في فتح الباري: وإنما نسب ابن الزبير لذلك وإن
كان بنو أمية هم الذين ابتدؤوه بالقتال وحصروه، وإنما بدا
منه أولاً دفعهم عن نفسه لأنه بعد أن ردهم الله عنه حصر
بني هاشم ليبايعوه فشرع فيما يؤذن بإباحة القتال في المحرم
(إني) أي قال ابن عباس وإني (والله لا أحله) أي القتال فيه
(أبدًا) وإن قوتلت فيه.
قال ابن أبي مليكة بالإسناد السابق: (قال) ابن عباس (قال
الناس) الذين من جهة ابن الزبير (بايع) بكسر التحتية
والجزم على الأمر (لابن الزبير) بالخلافة. قال ابن عباس
(فقلت) لهم: (وأين بهذا الأمر عنه؟) أي الخلافة يريد أنها
ليست بعيدة عنه لما له من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم بقوله
(أما أبوه فحواري النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بالحاء المهملة أي ناصره (يريد) بذلك ابن عباس
(الزبير وأما جده فصاحب الغار يريد) بذلك ابن عباس (أبا
بكر) الصديق -رضي الله عنه- (وأما أمه فذات النطاق)
بالإفراد لأنها شقت نطاقها لسفرة رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسقائه عند الهجرة (يريد) ابن
عباس بذلك (أسماء) بنت أبي بكر (وأما خالته فأم المؤمنين
يريد) ابن عباس (عائشة) -رضي الله عنها- (وأما عمته فزوج
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بريد) ابن عباس
(خديجة) وأطلق عليها عمته تجوّزًا وإنما هي عمة أبيه لأنها
خديجة بنت خويلد بن أسد والزبير هو ابن العوّام بن خويلد
بن أسد (وأما عمة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فجدته) أم أبيه (يريد) ابن عباس (صفية) بنت عبد
المطلب ثم ذكر شرفه بصفته الذاتية الحميدة بقوله: (ثم عفيف
في الإسلام) نزيه عما يشين من الرذائل (قارئ للقرآن) زاد
ابن أبي خيثمة في تاريخه هنا وتركت بني عمي أي أذعنت لابن
الزبير وتركت بني عمي بني أمية (والله إن وصلوني) أي بنو
أمية (وصلوني من قريب) أي بسبب القرابة، وذلك لأن عباسًا
هو ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس
بن عبد مناف، فعبد المطلب ابن عم أمية جد مروان بن الحكم
بن أبي العاص، وهذا شكر من ابن عباس لبني أمية وعتب على
ابن الزبير (وإن ربوني) أي كانوا عليّ أمراء (ربوني) بفتح
الراء وضم الموحدة المشددة فيهما وهو في الثاني من باب
أكلوني البراغيث، وللكشميهني ربوني ربني (أكفاء) بالإفراد
على الأصل ورفع أكفاء بسابقه أي أمثال واحدها كفء (كرام)
في أحسابهم.
وعند أبي مخنف الأخباري من طريق أخرى أن ابن عباس لما
حضرته الوفاة بالطائف جمع بنيه فقال: يا بني إن ابن الزبير
لما خرج بمكة شددت أزره ودعوت الناس إلى بيعته وتركت بني
عمنا من بني أمية الذين إن قتلونا أكفاء وإن ربونا ربونا
كرامًا، فلما أصاب ما أصاب جفاني فهذا صريح أن مراد ابن
عباس بنو أمية لا بنو أسد رهط ابن الزبير، وقال الأزرقي:
كان ابن الزبير إذا دعا الناس في الإذن بدأ ببني أسد على
بني هاشم وبني عبد المطلب وغيرهم، فلذا قال ابن عباس:
(فآثر) بالمد والمثلثة أي اختار ابن الزبير بعد أن أذعنت
له وتركت بني عمي على (التويتات) جمع تويت مصغر توت
بمثناتين وواو (والأسامات) بضم الهمزة جمع أسامة
(والحميدات) بضم الحاء المهملة مصغر حمد (يريد) ابن عباس
(أبطنًا) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وضم الطاء المهملة جمع
بطن وهو ما دون القبيلة وفوق الفخذ وقال: أبطنًا ولم يقل
بطونًا لأن الأول جمع قلة فعبّر به تحقيرًا لهم (من بني
أسد بني تويت) كذا في غير ما فرع من الفروع المقابلة على
أصل اليونيني وكذا رأيتها فيه بني تويت. وقال الحافظ ابن
حجر:
(7/150)
قوله ابن تويت كذا وقع أي في روايات
البخاري وصوابه بني تويت فبه عليه عياض وهو في مستخرج أبي
نعيم بني على الصواب اهـ.
وهذا عجيب فإن خط الحافظ ابن حجر على كثير من الفروع
المقابلة على اليونينية بالقراءة والسماع، وتويت هو ابن
الحارث بن عبد العزى بن قصي (و) من (بني أسامة) بن أسد بن
عبد العزى (وبني أسد) ولأبي ذر من أسد. وأما الحميدات:
فنسبه إلى بني حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى
وتجتمع هذه الابطن مع خويلد بن أسد جد الزبير (أن ابن أبي
العاص) بكسر الهمزة (برز) أي ظهر (يمشي القدمية) بضم القاف
وفتح الدال المهملة وكسر الميم وتشديد التحتية مشية
التبختر وهو مثل يريد أنه ركب معالي الأمور وتقدم في الشرف
والفضل على أصحابه (يعني) ابن عباس (عبد الملك بن مروان)
بن الحكم بن أبي العاص (وإنه) بكسر الهمزة (لوى ذنبه)
بتشديد الواو وتخفف (يعني ابن الزبير) يعني تخلف عن معالي
الأمور أو كناية عن الجبن كما تفعل السباع إذا أراد النوم
أو وقف فلم يتقدم ولم يتأخر ولا وضع الأشياء مواضعها فأدنى
الناصح وأقصى الكاشح وهذا قاله الداودي. وفي رواية أبي
مخنف وأن ابن الزبير يمشي القهقرى. قال في فتح الباري: وهو
المناسب لقوله في عبد الملك يمشي القدمية، وكان الأمر كما
قال ابن عباس فإن عبد الملك لم يزل في تقدم من أمره حتى
استنقذ العراق من ابن الزبير وقتل أخاه مصعبًا ثم جهز
العساكر إلى ابن الزبير بمكة فكان من الأمر ما كان، ولم
يزل أمر ابن الزبير في تأخير إلى أن قتل -رحمه الله- ورضي
عنه.
4666 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ
مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَلاَ
تَعْجَبُونَ لاِبْنِ الزُّبَيْرِ قَامَ فِي أَمْرِهِ
هَذَا؟ فَقُلْتُ: لأُحَاسِبَنَّ نَفْسِي لَهُ مَا
حَاسَبْتُهَا لأَبِي بَكْرٍ وَلاَ لِعُمَرَ وَلَهُمَا
كَانَا أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُ وَقُلْتُ ابْنُ
عَمَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنُ أَخِي
خَدِيجَةَ، وَابْنُ أُخْتِ عَائِشَةَ فَإِذَا هُوَ
يَتَعَلَّى عَنِّي وَلاَ يُرِيدُ ذَلِكَ فَقُلْتُ: مَا
كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعْرِضُ هَذَا مِنْ نَفْسِى
فَيَدَعُهُ وَمَا أُرَاهُ يُرِيدُ خَيْرًا وَإِنْ كَانَ
لاَ بُدَّ لأَنْ يَرُبَّنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي غَيْرُهُمْ.
وبه قال: (حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون) بضم العين مصغرًا
من غير إضافة لابن ميمون المدني قال: (حدّثنا عيسى بن
يونس) بن أبي إسحاق الهمداني الكوفي (عن عمر بن سعيد) بضم
العين في الأول وكسرها في الثاني ابن أبي حسين النوفلي
القرشي المكي أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن أبي مليكة)
عبد الله قال: (دخلنا على ابن عباس) -رضي الله عنهما-
(فقال: ألا) بالتخفيف (تعجبون لابن الزبير قام في أمره
هذا؟) يعني الخلافة (فقلت: لأحاسبن نفسي له ما حاسبتها
لأبي بكر ولا لعمر) أي لأناقش نفسي لابن الزبير في معونته
ولأستقصين عليها في النصح له والذب عنه ما ناقشتها
للعمرين، وما نافية، وقال الداودي أي لأذكرن في مناقبه ما
لم أذكر في مناقبهما، وإنما صنع ابن عباس ذلك لاشتراك
الناس في معرفة مناقب أبي بكر وعمر بخلاف ابن الزبير، فما
كانت مناقبه في الشهرة كمناقبهما، فأظهر ذلك ابن عباس
وبينه للناس إنصافًا منه له (ولهما) بلام الابتداء والضمير
للعمرين وفي نسخة، فإنهما (كانا أولى بكل خير منه) أي من
ابن الزبير
(وقلت) وفي نسخة: فقلت هو (ابن عمة النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) صفية بنت عبد المطلب (وابن الزبير)
حواري رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(وابن أبي بكر) الصديق -رضي الله عنه- (وابن أبي خديجة) أم
المؤمنين -رضي الله عنها- (وابن أخت عائشة) أسماء وإنما هو
ابن ابن أخي خديجة العوام وابن ابنة أبي بكر أسماء وابن
ابن صفية فهي جدته لأبيه وعبر بذلك على سبيل المجاز (فإذا
هو) أي ابن الزبير (يتعلّى) بتشديد اللام يترفع معرضًا أو
متنحيًا (عني ولا يريد ذلك) قال العيني كابن حجر أي لا
يريد أن أكون من خاصته. وقال البرماوي كالكرماني: ولا يريد
ذلك القول إذا عاتبته. قال ابن عباس (فقلت: ما كنت أظن أني
أعرض) أي أظهر (هذا) الخضوع (من نفسي) له (فيدعيه) أي
يتركه ولا يرضى به مني (وما أراه) بضم الهمزة أي وما أظنه
(يريد) بي (خيرًا) في الرغبة عني، وللكشميهني وإنما أراه
بدل ما وهو تصحيف كما لا يخفى (وإن كان لا بد) أي الذي صدر
منه لا فراق له منه (لأن) كذا في اليونينية والذي في الفرع
التنكزي أن (يريني) بفتح الموحدة (بنو عمي) بنو أمية أي
يكونوا عليّ أمراء (أحبّ إلىّ من أن يربني غيرهم) إذ هم
أقرب إليّ من بني أسد كما مرّ، ومن زائدة
(7/151)
عند أبي ذر.
10 - باب قَوْلِهِ: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}
[التوبة: 60] قَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَأَلَّفُهُمْ
بِالْعَطِيَّةِ
(باب قوله) عز وجل وسقط لغير أبي ذر ({والمؤلّفة قلوبهم})
[التوبة: 60] بالجر كلفظ التنزيل والرفع على الاستثناف
وحذف باب وتاليه وهم قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستألف
قلوبهم أو أشراف يترقب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظائرهم
(قال مجاهد) المفسر فيما وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن
أبي نجيح عنه (يتألفهم بالعطية).
4667 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: بُعِثَ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَيْءٍ،
فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ وَقَالَ: أَتَأَلَّفُهُمْ
فَقَالَ رَجُلٌ: مَا عَدَلْتَ فَقَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ
ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري
قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن أبيه) سعيد بن مسروق (عن
ابن أبي نعم) بضم النون وسكون العين المهملة عبد الرحمن
(عن أبي سعيد) سعد بن مالك الخدري (-رضي الله عنه-) أنه
(قال: بعث إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بشيء) الباعث عليّ بن أبي طالب كما في البخاري في باب قوله
تعالى: {وأما عاد} من كتاب الأنبياء، وعند مسلم وهو باليمن
والشيء ذهيبة (فقسمه) عليه الصلاة والسلام أي ذلك الشيء
(بين أربعة) سماهم في رواية الباب المذكور الأقرع بن حابس
الحنظلي ثم المجاشعي وعيينة بن زيد الفزاري وزيد الطائي ثم
أحد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب
(وقال) عليه الصلاة والسلام:
(أتألفهم) ليثبتوا على الإسلام رغبة فيما يصل إليهم من
المال (فقال رجل) من بني تميم يقال له ذو الخويصرة واسمه
حرقوص بن زهير (ما عدلت) في العطية (فقال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يخرج من ضئضئ) بكسر الضادين
المعجمتين وسكون الهمزة الأولى أي من نسل (هذا) الرجل
المسمى بحرقوص (قوم يمرقون من الدين) يخرجون منه زاد في
كتاب الأنبياء "مروق السهم من الرمية".
وقول صاحب التنقيح إن المؤلّف كان ينبغي أن يترجم لهذا
الحديث بقوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة:
58]. أجاب في المصابيح بأن ما صنعه ظاهر لأن الحديث اشتمل
على إعطاء المؤلّفة قلوبهم صريحًا واشتمل على لمزه في
الصدقات فإن ترجم له على الأول صح، وعلى الثاني صح ولا
نسلم أولوية أحدهما بالنسبة إلى الآخر فلا وجه للاعتراض.
11 - باب قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ
الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 79]
يَلْمِزُونَ: يَعِيبُونَ وَجُهْدَهُمْ وَجَهْدَهُمْ:
طَاقَتَهُمْ
(باب قوله) عز وجل وسقط لغير أبي ذر ({الذين يلمزون
المطوّعين من المؤمنين}) [التوبة: 79]. زاد أبو ذر في
الصدقات وهذا من صفات المنافقين والذين في موضع رفع
بالابتداء ومن المؤمنين حال من المطوّعين (يلمزون) أي
(يعيبون) وسقط هذا لأبي ذر (وجهدهم) بضم الجيم (وجهدهم)
بفتحها أي (طاقتهم) مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه.
4668 - حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ
سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ
قَالَ: لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ، كُنَّا
نَتَحَامَلُ فَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ وَجَاءَ
إِنْسَانٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ:
إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا وَمَا فَعَلَ
هَذَا الآخَرُ إِلاَّ رِيَاءً فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ
جُهْدَهُمْ}. الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (بشر بن خالد) بسكون الموحدة
وسكون المعجمة العسكري (أبو محمد) الفرائضي نزيل البصرة
قال: (أخبرنا محمد بن جعفر) الملقب بغندر الهذلي مولاهم
البصري (عن شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن مهران الأعمش
(عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن ابن مسعود) عقبة بن عمرو
البدري الأنصاري أنه (قال: لما أمرنا) بضم الهمزة مبنيًا
للمفعول ولأبي ذر أمر (بالصدقة) بحذف الضمير المنصوب وفي
الزكاة في باب اتقوا النار ولو بشق تمرة لما نزلت آية
الصدقة (كنا نتحامل) أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة. وقال
البرماوي الكرماني أي نتكلف في الحمل من حطب وغيره زاد
البرماوي وصوابه كنا نحامل كما سبق في بقية الروايات
انتهى.
ومعناه نؤاجر أنفسنا في الحمل.
(فجاء أبو عقيل) بفتح العين المهملة وكسر القاف حبحاب
بحاءين مهملتين مفتوحتين بينهما
موحدة ساكنة وبعد الألف موحدة أخرى (بنصف صاع) من تمر وفي
الزكاة بصاع، فيحتمل أنه غير أبي عقيل أو هو هو ويكون أتى
بنصف ثم بنصف (وجاء إنسان) قيل هو عبد الرحمن بن عوف
(بأكثر منه) قيل بألفين رواه البزار من حديث أبي هريرة،
وعند ابن إسحاق عن قتادة بأربعة آلاف، وعند الطبري عن ابن
عباس بأربعمائة أوقية من ذهب وعند عبد الرزاق عن معمر عن
قتادة ثمانية آلاف دينار قال في الفتح: وأصح الطرق ثمانية
آلاف درهم (فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا)
الأول (وما فعل هذا الآخر) عبد الرحمن بن عوف ما فعله من
العطية (إلاّ رياء) وقد كذبوا والله بل كان
(7/152)
متطوعًا (فنزلت: {الذين يلمزون المطوّعين
من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلاّ جهدهم}
الآية). فيهما أي ما يعيبون المياسير والفقراء.
4669 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:
قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ زَائِدَةُ عَنْ
سُلَيْمَانَ، عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ
الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ
فَيَحْتَالُ أَحَدُنَا حَتَّى يَجِيءَ بِالْمُدِّ وَإِنَّ
لأَحَدِهِمِ الْيَوْمَ مِائَةَ أَلْفٍ كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ
بِنَفْسِهِ.
وبه قال: (حدّثني) ولغير أبي ذر: حدّثنا بالجمع (إسحاق بن
إبراهيم) بن راهويه (قال: قلت لأبي أسامة) حماد بن أسامة
(أحدثكم) بهمزة الاستفهام (زائدة) بن قدامة أبو الصلت
الكوفي (عن سليمان) بن مهران الأعمش (عن شقيق) هو أبو وائل
بن سلمة (عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (الأنصاري) البدري
أنه (قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يأمر بالصدقة فيحتال) يجتهد ويسعى (أحدنا حتى
يجيء بالمد) من التمر أو القمح أو نحوهما فيتصدق به (وإن
لأحدهم اليوم مائة ألف) من الدراهم أو الدنانير لكثرة
الفتوح والأموال، ومراده كما قال الزين بن المنير أنهم
كانوا يتصدقون مع قلة الشيء ويتكلفون ذلك ثم وسع الله
عليهم فصاروا يتصدقون من يسر مع عدم خشية عسر واليوم نصب
على الظرفية. قال شقيق (كأنه) أي أبا مسعود (يعرض بنفسه)
لكونه من ذوي الأموال الكثيرة.
وهذا الحديث قد سبق في أوائل الزكاة.
12 - باب قَوْلِهِ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [التوية: 80]
(باب قوله) عز وجل، وسقط لغير أبي ذر ({استغفر لهم أو لا
تستغفر لهم}) اللفظ لفظ الأمر ومعناه الخبر أي: إن شئت
استغفر لهم وإن شئت فلا تستغفر لهم، ثم أعلمه الله تعالى
أنه لا يغفر لهم وإن استغفر لهم سبعين مرة فقال: ({إن
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}) [التوبة: 80]
والسبعون للتكثير وسقط {فلن يغفر الله لهم} لغير أبي ذر.
4670 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ
-رضي الله عنهما- قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ
جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ
أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ
عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُصَلِّيَ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ
بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي
عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ:
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وَسَأَزِيدُهُ
عَلَى السَّبْعِينَ» قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ:
فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ
عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عبيد بن
إسماعيل) بضم العين من غير إضافة واسمه عبد الله أبو محمد
القرشي الهباري من ولد هبار بن الأسود (عن أبي أسامة) حماد
بن أسامة (عن عبيد الله) بضم العين ابن عبد الله بن عمر
العمري (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما) أنه (قال: لما توفي عبد الله بن أبيّ) بضم الهمزة
وفتح الموحدة وتشديد التحتية ابن سلول المنافق في ذي
القعدة سنة تسع بعد منصرفهم من تبوك وكان قد تخلّف عنها
كذا نقله في الفتح عن الواقدي وإكليل الحاكم وسقط لغير أبي
ذر ابن أبيّ (جاء ابنه عبد الله بن عبد الله) وكان من
المخلصين وفضلاء الصحابة (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه
فأعطاه) قميصه ليكفن فيه أباه فالإعطاء إنما وقع لابنه
العبد الصالح، وقيل إن عبد الله المنافق كان أعطى العباس
يوم بدر قميصًا لما أسر العباس فكافأه النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ذلك لئلا يكون لمنافق
منّة عليهم (ثم سأله أن يصلّي عليه فقام رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليصل) زاد أبوا الوقت وذر
وابن عساكر والأصيلي عليه (فقام عمر) بن الخطاب -رضي الله
عنه- (فأخد بثوب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله تصلي عليه) وفي نسخة: أتصلي
عليه بإثبات همزة الاستفهام الإنكاري (و) الحال أن (قد
نهاك ربك أن تصلّي عليه) قيل لعله قال ذلك بطريق الإلهام
وإلاّ فلم يتقدم نهي عن الصلاة على المنافقين كما يرشد
إليه قوله في آخر هذا الحديث فأنزل الله: {ولا تصل على أحد
منهم مات أبدًا} [التوبة: 84].
وزعم بعضهم أن عمر اطّلع على نهي خاص في ذلك وأحسن ما قيل
إنه فهم النهي من قوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر
لهم} من حيث إنه سوّى بين الاستغفار وعدمه في عدم النفع
وعلل ذلك بكفرهم، وقد ثبت في الشرع امتناع المغفرة لمن مات
كافرًا والدعاء بوقوع ما علم انتفاء وقوعه شرعًا أو عقلاً
ممتنع ولا ريب أن الصلاة على الميت المشرك استغفار له
ودعاء وقد نهي عنه فتكون الصلاة عليه منهيًا عنها هذا مع
ما عرف من صلابة عمر -رضي الله عنه- في الدين وكثرة بغضه
للمنافقين. وقال الزين بن المنير فيما حكاه عنه في الفتح:
وإنما قال عمر ذلك عرضًا على النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومشورة لا إلزامًا وله عوائد بذلك،
ولا يبعد أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أذن له في مثل ذلك فلا يستلزم ما وقع من عمر
أنه اجتهد مع وجود النص كما تمسك به قوم في جواز ذلك وإنما
أشار بالذي ظهر فقط، ولهذا احتمل منه -صَلَّى
(7/153)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخذه بثوبه
ومخاطبته له في مثل ذلك
المقام حتى التفت إليه متبسمًا كما في حديث ابن عباس في
هذا الباب (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(إنما خيّرني الله) بين الاستغفار وعدمه (فقال {استغفر لهم
أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة} وسأزيده على
السبعين) وعند عبد بن حميد من طريق قتادة فوالله لأزيدن
على السبعين، وسأل الزمخشري فقال فإن قلت: كيف خفي على
رسول الله يعني أن السبعين مثل في التكثير وهو أفصح العرب
وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته. والذي يفهم من ذكر هذا
العدد كثرة الاستغفار كيف وقد تلاه بقوله: {ذلك بأنهم
كفروا} الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: خيرني
وسأزيد على السبعين. وأجاب: بأنه لم يخف عليه ذلك ولكنه
خيل بما قال إظهارًا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه
كقول إبراهيم: {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36]
وفي إظهار النبي الرحمة والرأفة لطف لأمته ودعاء لهم إلى
ترحم بعضهم على بعض اهـ.
قال في فتوح الغيب: قوله خيل أي صوّر في خياله أو في خيال
السامع ظاهر اللفظ وهو العدد المخصوص دون المعنى الخفي
المراد وهو التكثير كما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما
عدّ عصيانه في قوله: {ومن عصاني} عصيان الله المراد منه
عبادة الأصنام قال: وهو من أسلوب التورية وهو أن يطلق لفظ
له معنيان قريب وبعيد فيراد البعيد منهما اهـ.
وتعقب بعضهم ذلك بأنه يجب عليه الصلاة والسلام إظهار ما
علم من الله في أمر الكفر وما يترتب عليه من العقاب للزجر
وبأنه يستلزم جواز الاستغفار للكفار مع العلم بأنه لا
يجوز، ولذلك قيل ما كان يعرف كفره وعند عبد الرزاق عن معمر
والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال: أرسل عبد الله
بن أبيّ إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فلما دخل عليه قال: أهلكك حب يهود، فقال: يا رسول الله
إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخني ثم سأله
أن يعطيه قميصه يكفن فيه، فأجابه. قال الحافظ ابن حجر:
وهذا مرسل مع ثقة رجاله ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق
الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما مرض عبد الله
بن أنس جاءه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول فامتن عليّ فكفّني في قميصك
وصلّ عليّ ففعل قال: وكان عبد الله بن أبيّ أراد بذلك دفع
العار عن ولده وعشيرته بعد موته فأظهر الرغبة في صلاة
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه ووقعت
إجابته إلى سؤاله على حسب ما أظهر من حاله فالنهي عن
الاستغفار لمن مات مشركًا لا يستلزم النهي عن الاستغفار
لمن مات مظهرًا للإسلام.
(قال) أي عمر جريًا على ما يعلمه من أحواله (إنه منافق
قال: فصلى عليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إجراء له على ظاهر حكم الإسلام واستئلافًا
لقومه لا سيما ولم يقع نهي صريح عن الصلاة على المنافقين
فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة حتى كشف الله تعالى عنه
الغطاء ونهي فانتهى (فأنزل الله تعالى: {ولا تصل على أحد
منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره}) زاد مسدد من حديث ابن
عمر فترك الصلاة عليهم وابن أبي حاتم ولا قام على قبره
وعند الطبري من حديث قتادة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
قال: وما يغني عنه قميصي من الله وإني لأرجو أن يسلم بذلك
ألف من قومه، وقد روي أن ألفًا من الخزرج أسلموا لما رأوه
يستشفي بثوبه ويتوقع اندفاع العذاب عنه به.
4671 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدَّثَنِي
اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله
عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ
فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَتُصَلِّى عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ
يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: «أُعَدِّدُ عَلَيْهِ
قَوْلَهُ» فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ»
فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: «إِنِّي خُيِّرْتُ
فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى
السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» قَالَ:
فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ
إِلاَّ يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ
بَرَاءَةَ {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أَبَدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:
84] قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو ابن عبد الله بن بكير
المخزومي مولاهم المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام
(عن عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن خالد بن عقيل بفتح
العين الأيلي (وقال غيره): هو أبو صالح عبد الله بن صالح
كاتب الليث (حدّثني) بالإفراد (الليث) بن سعد قال:
(حدّثني) بالإفراد أيضًا (عقيل) الأيلي (عن ابن شهاب)
الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله بن عبد
الله) بضم العين في الأول ابن عمر بن الخطاب
(7/154)
(عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (عن عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: لما مات عبد الله بن أبيّ
ابن سلول) بفتح السين المهملة وضم اللام وسكون الواو بعدها
لام اسم أم عبد الله المذكور وابن بالرفع صفة عبد الله لا
صفة أبيه (دعي له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بضم الدال مبنيًّا للمفعول (ليصلّي عليه فلما
قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
للصلاة عليه (وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن
أبيّ؟) بهمزة الاستفهام (وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟ قال:
أعدد عليه قوله) بفتح العين وكسر الدال الأولى، ولأبي ذر:
أعدّ بضم العين والدال وإسقاط الثانية يشير بذلك إلى مثل
قوله: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقوله:
ليخرجن الأعز منها الأذل. (فتبسم رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) تعجبًا من صلابة عمر وبغضه
للمنافقين وتأنيسًا له وتطييبًا لقلبه كالمعتذر له عن ترك
قبول كلامه (وقال):
(أخّر) أي تأخر (عني يا عمر) وقيل معناه أخّر عني رأيك
فاختصر إيجازًا وبلاغة (فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت)
بين الاستغفار وعدمه (فاخترت) الاستغفار، وقد أشكل فهم
التخيير من الآية على كثير، وقد سبق جواب الزمخشري عن ذلك.
وقال صاحب الانتصاف: مفهوم الآية قد زلت فيه الأقدام حتى
أنكر القاضي أبو بكر الباقلاني صحة الحديث وقال: لا يجوز
أن يقبل هذا ولا يصح أن الرسول قاله وقال إمام الحرمين في
مختصره هذا الحديث غير مخرّج في
الصحيح، وقال في البرهان: لا يصححه أهل الحديث، وقال
الغزالي في المستصفى: الأظهر أن هذا الخير غير صحيح، وقال
الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ وهذا عجيب من هؤلاء
الأئمة كيف باحوا بذلك وطعنوا فيه مع كثرة طرقه واتفاق
الصحيحين على تصحيحه بل وسائر الدين خرجوا في الصحيح
وأخرجه النسائي وابن ماجه.
(لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له) بجزم يغفر
جوابًا للشرط ولأبي ذر عن الكشميهني فغفر له بفاء وضم
العين وفتح الراء بلفظ الماضي قال في الفتح: والأول أوجه
(لزدت عليها) تردّد هنا وفي الرواية السابقة قال: سأزيده
ووعده صادق ولا سيما وقد ثبت قوله: لأزيدن بصيغة المبالغة
في التأكيد وروى الطبري من طريق مغيرة عن الشعبي قال: قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال الله: {إن
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80]
فأنا أستغفر سبعين وسبعين وسبعين.
وأجيب: باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحابًا للحال لأن جواز
المغفرة بالزيادة كان ثابتاً قبل نزول الآية فجاز أن يكون
باقيًا على أصله في الجواز. قال الحافظ أبو الفضل: وحاصله
أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع المبالغة لا يتنافيان
فكأنه جوّز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه
جازم بذلك ولا يخفى ما فيه أو يكون طلب المغفر لتعظيم
المدعو، فإذا تعذرت المغفرة عوّض الداعي عنها ما يليق به
من الثواب أو دفع السوء كما ثبت في الخبر وقد يحصل بذلك
تخفيف عن المدعو له كما في قصة أبي طالب قاله ابن المنير
وفيه نظر لاستلزامه مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل
المغفرة له شرعًا.
(قال: فصلّى عليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وذكر الواقدي أن مجمع بن حارثة قال: ما رأيت
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أطال على
جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبيّ من الوقوف
(ثم انصرف) من صلاته (فلم يمكث إلاّ يسيرًا حتى نزلت
الآيتان من براءة: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا} إلى
قوله: {وهم فاسقون} قال) عمر رضي الله تعالى عنه (فعجبت
بعد) بالبناء على الضم لقطعه عن الإضافة (من جرأتي) بضم
الجيم وسكون الراء ثم همزة أي من إقدامي (على رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والله ورسوله أعلم).
13 - باب قَوْلِهِ: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ
مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]
(باب قوله) عز وجل وسقط لغير أبي ذر ({ولا تصل على أحد
منهم}) أي من المنافقين صلاة الجنازة ({مات أبدًا}) ظرف
منصوب بالنهي، ومنهم صفة لأحد أو حال من الضمير في مات أي
مات حال كونه منهم أي متصفًا بصفة النفاق كقولهم: أنت مني
أي على طريقتي، وهذا النهي عام في كل من عرف نفاقه وإن كان
سبب
(7/155)
النزول خاصًا بابن أبيّ رأس المنافقين وقد
ورد ما يدل لنزولها في عدد معين منهم: ابن أبي وغيره لعلمه
تعالى بموتهم على الكفر بخلاف غيرهم
فإنهم تابوا، فعند الواقدي عن معمر عن الزهري عن حذيفة قال
لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إني
مسرّ إليك سرًا فلا تذكره لأحد إني نهيت أن أصلي على فلان
وفلان رهط ذوي عدد من المنافقين قال: فلذلك كان عمرًا إذا
أراد أن يصلّي على أحد استتبع حذيفة فإن مشى معه وإلا لم
يصل عليه، ومن طريق أخرى عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر
رجلاً ({ولا تقم على قبره}) [التوبة: 84].
4672 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ
قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ
ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ: تُصَلِّى عَلَيْهِ وَهْوَ
مُنَافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ
لَهُمْ؟ قَالَ: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ -أَوْ
أَخْبَرَنِي اللهُ- فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فَقَالَ:
سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ» قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَصَلَّيْنَا مَعَهُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ
تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}. [التوبة: 84]
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن المنذر) القرشي
الحزامي المدني قال: (حدّثنا أنس بن عياض) الليثي أبو ضمرة
المدني (عن عبيد الله) بضم العين وفتح الموحدة ابن عبد
الله بن عمر بن الخطاب شقيق سالم (عن نافع) مولى ابن عمر
(عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال): وسقط لأبي ذر لفظ
أنه (لما توفي عبد الله بن أبيّ) المنافق (جاء ابنه عبد
الله بن عبد الله إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) زاد في الرواية السابقة من طريق أبي أسامة عن
عبيد الله فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه (فأعطاه
قميصه وأمره) ولأبي ذر فأمره بالفاء بدل الواو (أن يكفنه
فيه ثم قام) عليه الصلاة والسلام (يصلي عليه فأخذ عمر بن
الخطاب بثوبه فقال: تصلي عليه؟) استفهام حذفت منه الأداة
(وهو) أي والحال أنه (منافق وقد نهاك الله أن تستغفر لهم)
أي للمنافقين ومن لازم النهي عن الاستغفار عدم الصلاة وظهر
بهذه الرواية أن في قوله في طريق أبي أسامة عن عبيد الله
وقد نهاك ربك أن تصلي عليه تجوّز أو حينئذ فلا منافاة بين
قوله وقد نهاك ربك أن تصلي عليه وبين إخباره بأن آية النهي
عن الصلاة على كل مشرك والقيام على قبره نزلت بعد ذلك
(قال) عليه الصلاة والسلام:
(إنما خيرني الله) بين الاستغفار وعدمه (أو أخبرني الله)
بالموحدة بدل التحتية وزيادة همزة أوله من الإخبار على
الشك وفي أكثر الروايات بلفظ التخيير بين الاستغفار وعدمه
من غير شك وسقط لفظ الجلالة في قوله: أو أخبرني الله لأبي
ذر (فقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم
سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) سقط لأبي ذر قوله: {فلن}
الخ.
(فقال) عليه الصلاة والسلام: (سأزيده) بضمير المفعول (على
سبعين).
استشكل أخذه بمفهوم العدد حتى قال: سأزيد على السبعين مع
أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة قوله تعالى في حق أبي طالب:
{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو
كانوا أولي قربى} [التوبة: 113] وأجيب: بأن الاستغفار لابن
أبيّ إنما هو لقصد تطييب من بقي منهم وفي ذلك نظر فليتأمل.
(قال: فصلّى عليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وصلينا معه) فيه أن عمر ترك رأي نفسه وتابع
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ثم أنزل الله
عليه) ولأبي ذر: أنزل عليه بضم الهمزة مبنيًا للمفعول
({ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره})
للدفن أو الزيارة ({إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم
فاسقون}) [التوبة: 84] تعليل للنهي والتعليل بالفسق مع أن
الكفر أعظم قيل للإشعار بأنه كان عندهم موصوفًا بالفسق
أيضًا فإن الكافر قد يكون عدلاً عند أهله، وإنما نهي عن
الصلاة دون التكفين لأن البخل به مخلّ بكرمه عليه الصلاة
والسلام أو لإلباسه العباس قميصه حين أُسر ببدر كما مرّ أو
لأنه ما كان يردّ سائلاً وتكفينه فيه وإن علم عليه الصلاة
والسلام أنه لا يردّ عنه العذاب فلأن ابنه قال: لا تشمت به
الأعداء، ولأحمد من حديث قتادة قال ابنه: يا رسول الله إن
لم تأته لم يزل يعير بهذا أو رجا إسلام غيره كما مرّ، وسقط
لأبي ذر قوله: {ولا تقم على قبره} الخ ...
14 - باب قَوْلِهِ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا
انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:
95]
(باب قوله) تعالى، التبويب وتاليه ثابت لأبي ذر ساقط لغيره
({سيحلفون بالله لكم}) أيمانًا كاذبة والمحلوف عليه أنهم
ما قدروا على الخروج في غزوة تبوك ({إذا انقلبتم}) رجعتم
من الغزو ({إليهم لتعرضوا عنهم}) فلا تعاتبوهم ({فأعرضوا
عنهم}) احتقارًا لهم ولا توبخوهم ({إنهم رجس}) قدّر نجس
بواطنهم واعتقاداتهم وهو علة للإعراض وترك المعاتبة
({ومأواهم جهنم})
(7/156)
مصيرهم في الآخرة إليها وهو من تمام
التعليل ({جزاء بما كانوا يكسبون}) [التوبة: 95]. من
النفاق ونصب جزاء على المصدر بفعل من لفظه مقدر أي يجزون
جزاء وسقط قوله فأعرضوا عنهم الخ لأبي ذر وقال ابن حجر:
سقط لكلام أي قوله: {سيحلفون بالله لكم} من رواية الأصيلي
والصواب إثباتها.
4673 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ
عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ
تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ وَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي أَعْظَمَ مِنْ
صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا
هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أُنْزِلَ الْوَحْيُ
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ
إِلَيْهِمْ} -إِلَى قَوْلِهِ- {الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95
- 96].
وبه قال: (حدّثنا يحيى) هو ابن عبد الله بن بكير المخزومي
المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم
العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبد
الرحمن بن عبد الله أن) أباه (عبد الله بن كعب) ولغير أبي
ذر زيادة ابن مالك (قال: سمعت) أبي (كعب بن مالك حين تخلف
عن) غزوة (تبوك) غير منصرف يقول: (والله ما أنعم الله علي
من نعمة بعد إذ هداني) وزاد في المغازي للإسلام، ولأبي ذر
عن المستملي على عبد قال الحافظ ابن حجر: والأول هو الصواب
(أعظم من صدقي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أن لا أكون كذبته) لا زائدة والمعنى أن أكون
كذبته. واستشكل كون أكون مستقبلاً وكذبت ماضيًا وأجيب بأن
المستقبل في معنى الاستمرار المتناول للماضي فلا منافاة
بينهما (فأهلك) بكسر اللام وتفتح والنصب أي فإن أهلك (كما
هلك) أي كهلاك (الذين كذبوا حين أنزل الوحي) بقوله تعالى:
({سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم} -إلى قوله-
{الفاسقين}) [التوبة: 95 - 96] الخارجين عن طاعته وطاعة
رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهذا الحديث قد ذكره المؤلّف في غزوة تبوك مطولاً.
00 - باب قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ
فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} -إِلَى قَوْلِهِ-
{الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96]
(باب قوله) جل وعلا: ({يحلفون لكم لترضوا عنهم}) بحلفهم
({فإن ترضوا عنهم} -الى قوله- {الفاسقين}) [التوبة: 96].
والمراد النهي عن الرضا عنهم. قال في المفاتح: لا تكرار في
هذه المعاني لأن الأول يعني قوله: سيحلفون خطاب منافقي
المدينة وهذه مع المنافقين من الأعراب.
وهذا الباب وتاليه ثابت لأبي ذر وحده من غير ذكر حديث ساقط
لغيره.
15 - باب {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا
عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[التوبة: 102]
({وآخرون}) نسق على قوله منافقون أي وممن حولكم قوم آخرون
غير المذكورين ولأبي ذر قوله: {وآخرون} ({اعترفوا}) أقروا
({بذنوبهم}) ولم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة
({خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا}) الجهاد والتخلف عنه أو
إظهار الندم والاعتراف بآخر سيء وهو التخلف وموافقة أهل
النفاق ومجرد الاعتراف ليس بتوبة لكن روي أنهم تابوا وكان
الاعتراف مقدمة التوبة وكل منهما مخلوط بالآخر كقولك: خلطت
الماء واللبن فكل مخلوط ومخلوط به الآخر، ولو قلت خلطت
الماء باللبن كان الماء مخلوطًا واللبن مخلوطًا به وهو
استعارة عن الجمع بينهما ({عسى الله أن يتوب عليهم}) جملة
مستأنفة وعسى من الله واجب وإنما عبّر بها للإشعار
بأن ما يفعله تعالى ليس إلا على سبيل التفضل منه سبحانه
حتى لا يتكل المرء بل يكون على خوف وحذر والمعنى: عسى الله
أن يقبل توبتهم.
فإن قلت: كيف قال أن يتوب عليهم ولم يسبق للتوبة ذكر؟
أجيب: بأنه مدلول عليها بقوله اعترفوا بذنوبهم قاله في
الأنوار كالكشاف.
({إن الله غفور رحيم}) [التوبة: 102] وسقط قوله خلطوا الخ
لأبي ذر وقال بعد قوله بذنوبهم الآية. قال ابن كثير: وهذه
الآية وإن كانت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل
المذنبين الخطّائين، وقد قال مجاهد نزلت في أبي لبابة لما
قال لبني قريظة أنه الذبح وأشار بيده إلى حلقه.
قال ابن عباس في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن
غزوة تبوك وقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه، وقيل وسبعة،
وقيل وتسعة، فلما رجع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا
يحلهم إلا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فلما أنزل الله الآية أطلقهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وعفا عنهم.
4674 - حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَدَّثَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَنَا أَبُو
رَجَاءٍ حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَنَا: -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
«أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَابْتَعَثَانِي
فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ
ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ
مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ
كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالاَ لَهُمُ: اذْهَبُوا
فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ
رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ،
فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ قَالاَ لِي: هَذِهِ
جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ قَالاَ: أَمَّا
الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ
وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلاً
صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني (مؤمل) بضم
الميم الأولى وفتح الثانية مشددة وقد تكسر بينهما همزة
مفتوحة آخره لام زاد في غير رواية أبي ذر هو ابن هشام وهو
اليشكري بتحتية ومعجمة أبو هشام البصري قال: (حدّثنا
إسماعيل بن إبراهيم) المعروف بابن علية اسم أمه الأسدي
مولاهم البصري قال: (حدّثنا عوف) بفتح العين المهملة وسكون
الواو آخره فاء
(7/157)
ابن أبي جميلة بفتح الجيم الأعرابي العبدي
المصري قال: (حدّثنا أبو رجاء) عمران العطاردي قال:
(حدّثنا سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنا) في حكاية منامه
الطويل:
(أتاني الليلة آتيان) بهمزة ممدودة ففوقية مكسورة فتحتية
أي ملكان (فابتعثاني) من النوم (فانتهيا) وأنا معهما ولغير
أبي ذر: فانتهينا (إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة)
بكسر الموحدتين من لبن (فتلقانا رجال شطر) نصف (من خلقهم
كأحسن ما أنت راء وشطر) أي نصف (كأقبح ما أنت راء قالا)
الملكان (لهم) للرجال (اذهبوا فقعوا في ذلك النهر) بفتح
الهاء (فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم
فصاروا في أحسن صورة قالا) الملكان (لي: هذه جنة عدن وهذاك
منزلك قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم
قبيح) قيل الصواب حسنًا
وقبيحًا لكن كان تامة وشطر مبتدأ وحسن خبره والجملة حال
بدون الواو وهو فصيح كقوله اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ قاله
الكرماني وغيره (فإنهم خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا
تجاوز الله عنهم) كذا أورده مختصرًا هنا، ويأتي بتمامه إن
شاء الله تعالى بعون الله وقوّته في التعبير.
16 - باب قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:
112]
(باب قوله) تعالى ({ما كان}) أي ما ينبغي ({للنبي والذين
آمنوا أن يستغفروا للمشركين}) [التوبة: 112] لأن النبوّة
والإيمان يمنعان من ذلك وسقط باب وتاليه لغير أبي ذر.
4675 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ
دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَيْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ
أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا
أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ
أُنْهَ عَنْكَ» فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (إسحاق بن
إبراهيم) بن نصر أبو إبراهيم السعدي المروزي وقيل البخاري
قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (عبد الرزاق) بن همام
الصنعاني قال: (أخبرنا) ولأبي ذر حدّثنا (معمر) بسكون
العين ابن رشاد البصري (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
(عن سعيد بن المسيب) بفتح التحتية وقد تكسر (عن أبيه)
المسيب بن خزن أنه (قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة) أي
علاماتها (دخل النبي) ولغير أبي ذر دخل عليه النبي
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعنده أبو جهل) عمرو
بن هشام (وعبد الله بن أبي أمية) المخزومي أسلم عام الفتح
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أي عم) أي يا عمي وحذفت ياء الإضافة للتخفيف (قل لا إله
إلا الله) وجواب الأمر قوله (أحاج) بضم الهمزة وتشديد
الجيم آخره (لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن
أبي أمية: يا أبا طالب أترغب) بهمزة الاستفهام الإنكاري أي
أتعرض (عن ملة عبد المطلب؟) أبيك (فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما أبى أن يقول كلمة
الإخلاص (لأستغفرن لك) كما استغفر إبراهيم لأبيه (ما لم
أُنه عنك) بضم الهمزة وسكون النون مبنيًا للمفعول (فنزلت)
في أبي طالب آية: ({ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا
للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم
أصحاب الجحيم}) لموتهم على الشرك.
وقيل: إن سبب نزولها ما في مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود
والنسائي وابن ماجه عن
أبي هريرة -رضي الله عنه- أتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "استأذنت ربي
في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها
فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة" قال في الكشاف:
وهذا أصح لأن موت أبي طالب وإن قبل الهجرة وهذا آخر ما نزل
بالمدينة وتعقبه صاحب التقريب فيما حكاه الطيبي بأنه يجوز
أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يستغفر
لأبي طالب إلى حين نزولها والتشديد مع الكفار إنما ظهر في
هذه السورة. قال في فتوح الغيب: وهذا هو الحق ورواية
نزولها في أبي طالب هي الصحيحة وسقط قوله: ولو كانوا أولي
قربى الخ لأبي ذر وقال بعد قوله للمشركين الآية.
17 - باب قَوْلِهِ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى
النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا
كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]
(باب قوله) سبحانه وتعالى: ({لقد تاب الله على النبي}) من
إذنه للمنافقين في التخلف في غزوة تبوك والأحسن أن يكون من
قبيلاً {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} وقيل هو
بعث على التوبة على سبيل التعريض لأنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممن يستغني عن التوبة فوصف بها ليكون
بعثًا للمؤمنين على التوبة على
(7/158)
سبيل التعريض وإبانة لفضلها ({والمهاجرين
والأنصار}) أي وتاب عليهم حقيقة لأنه لا ينفك الإنسان عن
الزلات أو كانوا يتوبون على وساوس تقع في قلوبهم ({الذين
اتبعوه}) حقيقة بأن خرج أوّلاً وتبعوه أو مجازًا عن
اتباعهم أمره ونهيه ({في ساعة العسرة}) في وقت الشدة
الحاصلة لهم في غزوة تبوك أي من عسرة الزاد والماء والظهر
والقيظ وبعد الشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها
يقع الأجر على الله تعالى وإن كان عرف الساعة لما قل من
الزمن كالقطعة من النهار كساعات الرواح إلى الجمعة،
فالمراد بها هنا من وقت الخروج إلى العود روي أنه لما نفد
زادهم كان النفر منهم يمصون التمرة تداولاً بينهم وإنهم
عطشوا حتى نحروا بعض إبلهم فشربوا عصارة ما في كروشها حتى
استسقى لهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأمطرت
عليهم سحابة لم تتجاوزهم وكان الرجلان والثلاثة يتعقبون
البعير الواحد ({من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم}) عن
الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول ما نالهم من المشقة
والشدة ({ثم تاب عليهم}) تكرير للتوكيد من حيث المعنى
فيكون الضمير للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والمهاجرين والأنصار ويجوز أن يكون الضمير للفريق المذكور
في قوله كاد تزيغ قلوب فريق منهم لصدور الكيدودة منهم
({إنه بهم رؤوف رحيم}) [التوبة: 117] حتى تاب عليهم وسقط
قوله في ساعة العسرة الخ لأبي ذر وقال: بعد قوله {اتبعوه}
الآية.
4676 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا
يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ
كَعْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ،
وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ:
سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ وَعَلَى
الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَالَ فِي آخِرِ
حَدِيثِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ
مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكَ».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) أبو جعفر بن الطبري المصري
(قال: حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (ابن وهب) عبد
الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي
(قال أحمد): هو ابن صالح شيخ المؤلّف المذكور (وحدّثنا)
أيضًا (عنبسة) بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح
الموحدة والسين المهملة ابن خالد بن يزيد الأيلي ابن أخي
يونس قال: (حدّثنا) عمي (يونس) الأيلي (عن ابن شهاب)
الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الرحمن بن كعب)
نسبه لجده واسم أبيه عبد الله ولأبي ذر زيادة ابن مالك
(قال: أخبرني) بالإفراد أيضًا أبي (عبد الله بن كعب)
الأنصاري المدني الشاعر.
قال في فتح الباري: والحاصل أن أحمد بن صالح روى هذا
الحديث عن شيخين عن يونس لكن فرقهما لاختلاف الصيغة، ثم
ظاهره أن السند بينهما متحد وليس كذلك لأن في رواية ابن
وهب أن شيخ ابن شهاب هنا هو عبد الرحمن بن كعب كما في
رواية عنبسة وليس كذلك بل هو في رواية عبد الرحمن بن عبد
الله بن كعب كذلك أخرجه النسائي عن سليمان بن مهران عن ابن
وهب، ولعل البخاري بناه على أن عبد الرحمن نسب لجده فتتحد
الروايتان على ذلك الحافظ أبو علي الصدفي فيما قرأته بخطه
بهامش نسخته وقد أفرد البخاري رواية ابن وهب بهذا الإسناد
في النذر فوقع في رواية أبي ذر عبد الرحمن بن كعب، وإنما
أخرج النسائي بعض الحديث وقد وجدت بعض الحديث أيضًا في سنن
أبي داود عن سليمان بن داود شيخ البخاري فيه كما في
النسائي، وعن أبي الطاهر بن السراج عن ابن وهب كذلك.
وقد تعقبه تلميذه شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي -رحمه
الله تعالى- فيما وجد بخطه في حاشية نسخته من فتح الباري
بأن البخاري قد أخرج حديث عنبسة في وفود الأنصار فيما مضى
ووقع هناك عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، وأخرج
حديث ابن وهب في النذر فيما سيأتي، ووقع أيضًا فيه كذلك
وحينئذٍ فسندهما متحد وكذا رأيت الدمياطي ألحق هنا في
نسخته مما صحح عليه عبد الله في نسب عبد الرحمن وكذا ثبت
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب في سنن أبي داود حسبما ثبت
في رواية اللؤلؤي وابن داسة عنه عن شيخه ابن السراج
وسليمان بن داود المهري كلاهما عن ابن وهب. نعم قيل إن
الذي في رواية ابن داسة عبد الله بن عبد الله بن كعب وهو
وهم لأن عبد الله الأول إنما هو عبد الرحمن وأما روايته
فهي كما مر في روايتي ابن السني وابن الأحمر عن عبد الرحمن
بن كعب بن مالك
(7/159)
بدونها وحينئذٍ فهذا خلاف ما اقتضاه كلام
شيخنا من اتحاد سند أبي داود والنسائي، ثم إن قوله سليمان
بن مهران سهو إما من الكاتب أو من غيره فإنما هو ابن داود
اهـ.
(وكان) أي عبد الله (قائد كعب) أبيه (من) بين (بنيه) بني
بفتح الموحدة وكسر النون وسكون التحتية (حين عمي) وكان
أبناؤه أربعة عبد الله وعبد الرحمن ومحمد وعبيد الله (قال:
سمعت) أبي (كعب بن مالك في حديثه) الطويل في قصة توبته
المسوق هنا مختصرًا مقتصرًا على المحتاج منه كالوصايا
المنزل فيه قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} زاد في
نسخة حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت (قال في آخر
حديثه) يا رسول الله (إن من توبتي أن أنخلع) أن أخرج (من)
جميع (مالي صدقة إلى الله ورسوله) بنصب صدقة أي لأجل
التصدق أو حالاً بمعنى متصدقًا وإلى بمعنى اللام أي صدقة
خالصة لله ولرسوله، ولأبي ذر: وإلى رسوله (فقال) له (النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(امسك) عليك (بعض مالك فهو خير لك) من أن تضرر بالفقر
وتجرع الصبر على الإضاقة.
18 - باب {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا
حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ
مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]
({وعلى الثلاثة}) أي وتاب على الثلاثة فهو نسق على النبي
أو على الضمير في عليهم: أي ثم تاب عليهم وعلى الثلاثة
ولذا كرر حرف الجر والثلاثة هم كعب بن مالك الأسلمي وهلال
بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العمري ({الذين خلفوا})
تخلفوا عن غزوة تبوك أو خلف أمرهم فإنهم المرجون ({حتى إذا
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت}) برحبها أي مع سعتها لشدة
حيرتهم وقلقهم ({وضاقت عليهم أنفسهم}) فلم تتسع لصبر ما
نزل بها من الهم والإشفاق ({وظنوا}) علموا ({أن لا ملجأ من
الله}) أن لا مفر من عذاب الله ({إلا إليه}) بالتوبة
والاستغفار والاستثناء من العام المحذوف أي لا ملجأ لأحد
إلا إليه ({ثم تاب عليهم}) رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة
بعد أخرى ({ليتوبوا}) ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا أو
ليتوبوا أيضًا فيما يستقبل كلما فرطت منهم زلة لأنهم علموا
بالنصوص الصحيحة أن طريان الخطيئة يستدعي تجدد التوبة ({إن
الله هو التوّاب}) على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة
كما روي ما أصرّ من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة
({الرحيم}) [التوبة: 118] به بعد التوبة وسقط قوله وضاقت
عليهم أنفسهم الخ ولأبي ذر وقال بعد قوله رحبت الآية.
4677 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ،
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ
حَدَّثَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَهْوَ أَحَدُ
الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَمْ
يَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ غَيْرَ
غَزْوَتَيْنِ: غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ، وَغَزْوَةِ بَدْرٍ،
قَالَ: فَأَجْمَعْتُ
صِدْقَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ضُحًى وَكَانَ قَلَّمَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ
سَافَرَهُ إِلاَّ ضُحًى، وَكَانَ يَبْدَأُ بِالْمَسْجِدِ
فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ وَنَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ كَلاَمِي وَكَلاَمِ
صَاحِبَيَّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كَلاَمِ أَحَدٍ مِنَ
الْمُتَخَلِّفِينَ غَيْرِنَا فَاجْتَنَبَ النَّاسُ
كَلاَمَنَا فَلَبِثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ
الأَمْرُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
أَمُوتَ فَلاَ يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ يَمُوتَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَكُونَ مِنَ
النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فَلاَ يُكَلِّمُنِي
أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلاَ يُصَلِّي عَلَيَّ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الآخِرُ مِنَ
اللَّيْلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ أُمُّ
سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي مَعْنِيَّةً فِي أَمْرِي
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ تِيبَ عَلَى كَعْبٍ»
قَالَتْ: أَفَلاَ أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ؟ قَالَ:
«إِذًا يَحْطِمَكُمُ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمُ النَّوْمَ
سَائِرَ اللَّيْلَةِ» حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلاَةَ الْفَجْرِ
آذَنَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَكَانَ إِذَا
اسْتَبْشَرَ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ
قِطْعَةٌ مِنَ الْقَمَرِ وَكُنَّا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ
الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنِ الأَمْرِ الَّذِي قُبِلَ مِنْ
هَؤُلاَءِ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ
لَنَا التَّوْبَةَ، فَلَمَّا ذُكِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ
الْمُتَخَلِّفِينَ فَاعْتَذَرُوا بِالْبَاطِلِ ذُكِرُوا
بِشَرِّ مَا ذُكِرَ بِهِ أَحَدٌ قَالَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ
إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ
قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى
اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94] الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد) هو ابن النضر
النيسابوري أو ابن إبراهيم البوشنجي أو ابن يحيى الذهلي
وبالأوّلين قال الحاكم وبالأخير أبو علي الغساني قال:
(حدّثنا أحمد بن أبي شعيب) نسبه لجده واسم أبيه عبد الله
بن أبي شعيب مسلم. قال الحافظ ابن حجر: وقع في رواية ابن
السكن حدّثني أحمد بن أبي شعيب من غير ذكر محمد المختلف
فيه والأوّل هو المشهور وإن كان أحمد بن أبي شعيب من مشايخ
المؤلّف قال: (حدّثنا موسى بن أعين) بفتح الهمزة والتحتية
بينهما عين ساكنة وآخره نون الجزري بالجيم والزاي والراء
قال: (حدّثنا إسحاق بن راشد) الجزري أيضًا (إن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب (حدّثه قال: أخبرني) بالإفراد (عبد
الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه) عبد الله
(قال: سمعت أبي كعب بن مالك وهو) أي كعب (أحد الثلاثة) هو
وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع (الذين تيب عليهم) بكسر
الفوقية وسكون التحتية مجهول تاب يتوب توبة (أنه لم يتخلف
عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة
غزاها قط غير غزوتين غزوة العسرة) بضم العين وسكون السين
المهملتين وهي غزوة تبوك (وغزوة بدر قال: فأجمعت صدق رسول
الله) ولأبي ذر عن الكشميهني صدقي رسول الله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي بعد أن بلغه أنه عليه
الصلاة والسلام توجه قافلاً من الغزو واهتم لتخلفه من غير
عذر وتفكّر فيما يخرج به من سخط الرسول وطفق يتذكر الكذب
لذلك فأزاح الله عنه الباطل فأجمع على الصدق. أي جزم به
وعقد عليه قصده وأصبح رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قادمًا في رمضان (ضحى) وسقطت هذه اللفظة من
كثير من الأصول.
(وكان) عليه الصلاة والسلام (قلما يقدم من سفر
(7/160)
سافره إلا ضحى وكان يبدأ بالمسجد فيركع)
فيه (ركعتين) قبل أن يدخل منزله (ونهى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي بعد أن اعترف بين يديه
أنه تخلف من غير عذر وقوله عليه الصلاة والسلام له قم حتى
يقضي الله فيك (عن كلامي وكلام صاحبي) هلال ومرارة لكونهما
تخلفا من غير عذر واعترفا كذلك (ولم ينه عن كلام أحد من
المتخلفين غيرنا) وهم الذين اعتذروا إليه وقبل منهم
علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى وكانوا
بضعة وثمانين رجلاً (فاجتنب الناس كلامنا) أيها الثلاثة
قال كعب (فلبثت كذلك حتى طال عليّ الأمر وما من شيء أهم
إليّ من أن أموت فلا يصلّي عليّ النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو يموت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا
يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليّ) بكسر لام يصلي، وفي نسخة
يصلى بفتحها ولأبي ذر عن الكشميهني ولا يسلم عليّ بدل
يصلي، وفي نسخة حكاها القاضي عياض عن بعض الرواة ولا
يسلمني والمعروف أن فعل السلام إنما يتعدى بعلى وقد يكون
اتباعًا ليكلمني.
قال القاضي: أو يرجع إلى قول من فسر السلام بأن معناه إنك
مسلم مني. قال في المصابيح: وسقطت ولا يسلمني للأصيلي كذا
قال فليحرر (فأنزل الله) عز وجل (توبتنا على نبيه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين بقي الثلث الآخر من
الليل) بعد مضي خمسين ليلة من النهي عن كلامهم (ورسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند أم سلمة) رضي
الله تعالى عنها والواو للحال، (وكانت أم سلمة محسنة في
شأني معنية) بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر النون
وتشديد التحتية أي ذات اعتناء ولأبي ذر عن الكشميهني معينة
بضم الميم وكسر العين فتحتية ساكنة فنون مفتوحة أي ذات
إعانة (في أمري) قال العيني: وليست بمشتقة من العون كما
قاله بعضهم يريد الحافظ ابن حجر، وقد رأيت في هامش الفرع
مما عزاه لليونينية ورأيته فيها عن عياض معنية يعني بفتح
الميم وسكون العين كذا عند الأصيلي ولغيره معينة بضم الميم
أي وكسر العين من العون قال والأوّل أليق بالحديث.
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا
أم سلمة تيب على كعب، قالت: أفلا) بهمزة الاستفهام (أرسل
إليه فأبشره قال: إذًا يحطمكم الناس) بفتح أوّله وكسر
ثالثه منصوب بإذا من الحطم بالحاء والطاء المهملتين وهو
الدرس وللمستملي والكشميهني يخطفكم بفتح ثالثه والنصب من
الخطف بالخاء المعجمة والفاء وهو مجاز عن الازدحام
(فيمنعونكم النوم) بإثبات النون بعد الواو وللأصيلي
فيمنعوكم بحذفها (سائر الليلة) أي باقيها (حتى إذا صلى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاة الفجر
آذن) بمد الهمزة أي أعلم (بتوبة الله علينا وكان) عليه
الصلاة والسلام (إذا استبشر استنار وجهه حتى كأنه قطعة من
القمر) شبه به دون الشمس لأنه يملأ الأرض بنوره ويؤنس كل
من شاهده ومجمع النور من غير أذى ويتمكن من النظر إليه
بخلاف الشمس فإنها تكل البصر فلا يتمكن البصر من رؤيتها
بالقطعة مع كثرة ما ورد في كثير من كلام البلغاء من
التشبيه بالقمر من غير تقييد، وقد كان كعب قائل هذا من
شعراء الصحابة فلا بد في التقييد بذلك من حكمة وما قيل في
ذلك من أنه احتراز من السواد الذي في القمر ليس بقوي لأن
المراد بتشبيهه ما في القمر من الضياء والاستنارة وهو في
تمامه لا يكون فيها أقل مما في القطعة المجردة فكأن
التشبيه وقع على بعض
الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر.
(وكنا أيها الثلاثة) بلفظ النداء ومعناه الاختصاص (الذين
خلفوا) ولأبي ذر خلفنا (عن الأمر الذي قبل) بضم أوّله
مبنيًّا للمفعول كالسابق (من هؤلاء الذين اعتذروا) ووكّل
سرائرهم إلى الله عز وجل وليس المراد التخلف عن الغزو بل
التخلف عن حكم أمثالهم من المتخلفين عن الغزو الذين
اعتذروا وقبلوا (حين أنزل الله) عز وجل (لنا التوبة، فلما
ذكر) بالضم (الذين كذبوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المتخلفين)
(7/161)
كذب يتعدى بدون الصلة (فاعتذروا بالباطل
ذكروا بشر ما ذكر به أحد قال الله سبحانه وتعالى: {يعتذرون
إليكم}) أي في التخلف ({إذا رجعتم إليهم}) من الغزو ({قل
لا تعتذروا}) بالمعاذير الكاذبة ({لن نؤمن لكم}) لن نصدقكم
أن لكم عذرًا ({قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم
ورسوله}) [التوبة: 94] (الآية) يعني إن تبتم وأصلحتم رأى
الله عملكم وجازاكم عليه وذكر الرسول لأنه شهيد عليهم ولهم
سقط قوله الآية لأبي ذر.
وهذا الحديث قطعة من حديث كعب وقد ذكره المؤلّف تامًّا في
المغازي.
19 - باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}) الذين صدقت نياتهم
واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا إلى الغزو لإخلاص أو
الخطاب للمنافقين أي: {يا أيها الذين آمنوا} في العلانية
اتقوا الله وكونوا مع الذين صدقوا وأخلصوا النية. عن ابن
عمر فيما ذكره ابن كثير {وكونوا مع الصادقين} مع محمد
وأصحابه وسقط التبويب لغير أبي ذر.
4678 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
وَكَانَ قَائِدَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - قَالَ: سَمِعْتُ
كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ
قِصَّةِ تَبُوكَ فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا
أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ مِمَّا
أَبْلاَنِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ} -إِلَى قَوْلِهِ- {وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ}.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير ونسبه لجده قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام
المجتهد (عن عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي (عن ابن
شهاب) الزهري (عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك
أن) أباه (عبد الله بن كعب بن مالك) ولأبي ذر عن عبد الله
بن كعب بن مالك (وكان) عبد الله (قائد كعب بن مالك) زاد في
السابقة من بنيه حين عمي (قال: سمعت كعب بن مالك يحدث) عن
خبره (حين تخلف عن قصة تبوك) وإخباره
الرسول عليه الصلاة والسلام بالصدق من شأنه بأنه لم يكن له
عذر عن التخلف (فوالله ما أعلم أحدًا أبلاه الله) بالموحدة
الساكنة أي أنعم الله عليه (في صدق الحديث أحسن مما أبلاني
ما تعمدت منذ) بالنون ولأبي ذر مذ (ذكرت ذلك) القول الصدق
(لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى يومي
هذا كذبًا وأنزل الله عز وجل على رسوله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {لقد تاب الله على النبي
والمهاجرين}) ولأبي ذر زيادة {والأنصار} (إلى قوله {وكونوا
مع الصادقين}).
20 - باب قَوْلِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:
128] مِنَ الرَّأْفَةِ
(باب قوله) عز وجل ({لقد جاءكم رسول}) يعني محمدًا ({من
أنفسكم}) من جنسكم صفة لرسول أي من صميم العرب وقرأ ابن
عباس وأبو العالية وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو ويعقوب
من بعض طرقه وهي قراءته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وفاطمة وعائشة بفتح الفاء أي من أشرفكم، وقال
الزجاج هي مخاطبة لجميع العالم والمعنى: لقد جاءكم رسول من
البشر وإنما كان من الجنس لأن الجنس إلى الجنس أميل ثم رتب
عليه صفات أخرى لتعداد المنن على المرسل إليهم فقال ({عزيز
عليه}) أي شديد شاق ({ما عنتم}) عنتكم أي إثمكم وعصيانكم
فما مصدرية وهي مبتدأ وعزيز خبر مقدم ويجوز أن يكون ما
عنتم فاعلاً بعزيز وعزيز صفة لرسول ويجوز أن تكون ما
موصولة أي يعز عليه الذي عنتموه أي عنتم بسببه فحذف العائد
على التدريج كقوله:
يسر المرء ما ذهب الليالي ... وكان ذهابهن له ذهابا
أي يسره ذهاب الليالي ({حريص عليكم}) أن تدخلوا الجنة
({بالمؤمنين رؤوف رحيم}) [التوبة: 128] وهي أشد الرحمة ولم
يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاله الحسين بن الفضل وسقط لأبي ذر
قوله: {حريص} الخ وقال بعد قوله: {عنتم} الآية.
4679 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ
أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ -رضي الله عنه-،
وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ: أَرْسَلَ
إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ
وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ
أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ
الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ
يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ
فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنْ
تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ
شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ
خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى
شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى
عُمَرُ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ
جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ
رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، وَلاَ نَتَّهِمُكَ كُنْتَ تَكْتُبُ
الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ
فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ
الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي
بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلاَنِ
شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ أَزَلْ
أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي
شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ،
فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ
الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ
الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ
آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ
أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128] إِلَى آخِرِهَِا.
وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ
عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ
عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ
حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ،
وَاللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. وَقَالَ
اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. وَقَالَ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ
الأَنْصَارِيِّ. وَقَالَ مُوسَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ،
وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ أَبُو ثَابِتٍ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ
مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن السباق) بالسين المهملة
والموحدة المشدّدة المفتوحتين وبعد الألف قاف عبيد المدني
الثقفي أبو سعيد (أن زيد بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه-
وكان ممن يكتب الوحي) لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (قال: أرسل إليّ أبو بكر) الصديق في خلافته.
قال الحافظ أبو الفضل: ولم أقف على اسم الرسول إليه بذلك
(مقتل أهل اليمامة) ظرف زمان أي أيام، والمراد
(7/162)
عقب مقاتلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم
مسيلمة الكذاب سنة إحدى عشرة بسبب ادعائه النبوّة وارتداد
كثير من العرب وقتل كثير من الصحابة (وعنده عمر) بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه (فقال) لي (أبو بكر: إن عمر أتاني
فقال: إن القتل قد استحرّ) بسين مهملة ساكنة ففوقية ثم
مهملة فراء مشددة مفتوحات أي اشتدّ وكثر (يوم) القتال
الواقع في (اليمامة بالناس) قيل قتل بها من المسلمين ألف
ومائة وقيل ألف وأربعمائة منهم سبعون جمعوا القرآن أي
مجموعهم لا إن كل فرد جمعه (وإني أخشى أن يستحر القتل) أي
يكثر (بالقراء في المواطن) التي يقع فيها القتال مع الكفار
(فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمع)
أنت (القرآن) ولأبي ذر: أن يجمع القرآن بضم أوّل يجمع
مبنيًا للمفعول (قال أبو بكر: قلت): ولأبي ذر فقلت (لعمر:
كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فقال) لي (عمر: هو) أي جمع القرآن
(والله خير) من تركه وهو ردّ لقوله كيف أفعل شيئًا لم
يفعله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما
لم يجمعه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لما كان يترقبه من النسخ (فلم يزل عمر يراجعني فيه) في جمع
القرآن (حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر) إذ هو
من النصح لله ولرسوله ولكتابه وأذن فيه عليه الصلاة
والسلام بقوله في حديث أبي سعيد عند مسلم: (لا تكتبوا عني
شيئًا غير القرآن) وغايته جمع ما كان مكتوبًا قبل فلا
يتوجه اعتراض الرافضة على الصديق.
(قال زيد بن ثابت): قال أبو بكر ذلك (وعمر عنده جالس لا
يتكلم) ولأبي ذر جالس عنده
(فقال) ليس (أبو بكر: إنك) يا زيد (رجل شاب) أشار إلى
نشاطه وقوّته فيما يطلب منه وبعده عن النسيان (عاقل) تعي
المراد (ولا نتهمك) بكذب ولا نسيان والذي لا يتهم تركن
النفس إليه وسقطت الواو لأبي ذر (كنت تكتب الوحي لرسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي فهو أكثر
ممارسة له من غيره فجمع هذه الخصوصيات الأربعة فيه يدل على
أنه أولى بذلك ممن لم تجتمع فيه (فتتبع القرآن فاجمعه) وقد
كان القرآن كله كتب في العهد النبوي لكن غير مجموع في موضع
واحد ولا مرتب السور قال زيد: (فوالله لو كلفني) أي أبو
بكر (نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من
جمع القرآن) قال ذلك خوفًا من التقصير في إحصاء ما أمر
بجمعه (قلت) للعمرين (كيف تفعلان شيئًا لم يفعله النبي)
ولأبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟
فقال) لي (أبو بكر: هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح
الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر) لما في ذلك
من المصلحة العامة (فقمت فتتبعت القرآن) حال كوني (أجمعه)
مما عندي وعند غيري (من الرقاع) بكسر الراء جمع رقعة من
أديم أو ورق أو نحوهما (والأكتاف) بالمثناة الفوقية جمع
كتف عظم عريض في أصل كتف الحيوان ينشف ويكتب فيه (والعسب)
بضم العين والسين المهملتين آخره موحدة جمع عسيب وهو جريد
النخل يكشطون خوصه ويكتبون في طرفه العريض (وصدور الرجال)
الذين جمعوا القرآن وحفظوه كاملاً في حياته -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأبيِّ بن كعب ومعاذ بن جبل
فيكون ما في الرقاع والأكتاف وغيرهما تقريرًا على تقرير
(حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري) هو ابن
ثابت بن الفاكه الخطمي ذو الشهادتين (لم أجدهما) أي
الآيتين (مع أحد غيره) كذا بالنصب على كشط في الفرع كأصله
وفي فرع آخر غيره بالجر أي لم أجدهما مع غير خزيمة
مكتوبتين فالمراد بالنفي نفي وجودهما مكتوبتين لا نفي
كونهما محفوظتين.
وعند ابن أبي داود من رواية يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب
فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين لم
تكتبوهما قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ({لقد جاءكم رسول من أنفسكم})
إلى آخر السورة. فقال عثمان:
(7/163)
وأنا أشهد فأين ترى أن نجعلهما. قال: اختم
بهما آخر ما نزل من القرآن.
وعن أبي العالية عن أبي بن كعب عند عبد الله ابن الإمام
أنهم جمعوا القرآن في المصاحف في خلافة أبي بكر، وكان رجال
يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية
ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون فظنوا أن
هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم أبي بن كعب: إن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقرأني بعدها
آيتين {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى {وهو رب العرش
العظيم} [التوبة: 128 - 129].
وعند أحمد قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين {لقد
جاءكم رسول} إلى عمر بن الخطاب فقال: من معك على هذا؟ قال:
لا أدري والله إني أشهد لسمعتهما من رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووعيتهما وحفظتهما فقال عمر:
وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- {لقد جاءكم رسول من
أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} (إلى آخرها) وسقط
لأبي ذر: حريص عليكم (وكانت الصحف التي جمُع فيها القرآن
عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم
عند حفصة بنت عمر) رضي الله تعالى عنهما.
(تابعه) أي تابع شعيبًا في روايته عن الزهري (عثمان بن
عمر) بضم العين وفتح الميم ابن فارس البصري العبدي فيما
وصله أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه (و) تابعه أيضاً (الليث)
بن سعد الإمام فيما وصله المؤلّف في فضائل القرآن وفي
التوحيد كلاهما (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب)
الزهري.
(وقال الليث) بن سعد فيما وصله أبو القاسم البغوي في فضائل
القرآن (حدّثني) بالإفراد (عبد الرحمن بن خالد) الفهمي
أمير مصر (عن ابن شهاب) الزهري فزاد الليث فيه شيخًا آخر
عن الزهري (وقال مع أبي خزيمة الأنصاري) وهو ابن أوس بن
أصرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار بلفظ الكنية فخالف
السابق.
(وقال موسى) بن إسماعيل فيما وصله المؤلّف في فضائل القرآن
(عن إبراهيم) بن سعد أنه قال: (حدّثنا ابن شهاب) الزهري
وقال: (مع أبي خزيمة) بلفظ الكنية. (وتابعه) أي وتابع موسى
بن إسماعيل في روايته عن إبراهيم (يعقوب بن إبراهيم عن
أبيه) إبراهيم بن سعد المذكور على قوله أبي خزيمة بالكنية
وهذه وصلها أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف وغيره.
(وقال أبو ثابت) محمد بن عبيد الله المدني فيما وصله
المؤلّف في الأحكام (حدّثنا إبراهيم) بن سعد المذكور (وقال
مع خزيمة أو أبي خزيمة) بالشك والتحقيق كما قال في فتح
الباري أن آية التوبة مع أبي خزيمة بالكنية، وآية الأحزاب
مع خزيمة.
وهذا الحديث أخرجه الترمذي في التفسير والنسائي في فضائل
القرآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
[10] سُورَةُ يُونُسَ
1 - باب
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَاخْتَلَطَ} [يونس: 24]
فَنَبَتَ بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ وَ {قَالُوا
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِىُّ}
[يونس: 68] وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ {أَنَّ لَهُمْ
قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَيْرٌ. يُقَالُ:
{تِلْكَ آيَاتُ} يَعْنِي هَذِهِ أَعْلاَمُ الْقُرْآنِ،
وَمِثْلُهُ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] الْمَعْنَى بِكُمْ
{دَعْوَاهُمْ} دُعَاؤُهُمْ {أُحِيطَ بِهِمْ} دَنَوْا مِنَ
الْهَلَكَةِ {أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81]
فَاتَّبَعَهُمْ وَأَتْبَعَهُمْ وَاحِدٌ. {عَدْوًا} مِنَ
الْعُدْوَانِ،
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ
اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} [يونس: 11] قَوْلُ
الإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ اللَّهُمَّ
لاَ تُبَارِكْ فِيهِ وَالْعَنْهُ {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ
أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] لأُهْلِكُ مَنْ دُعِيَ عَلَيْهِ
وَلأَمَاتَهُ. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:
26] مِثْلُهَا حُسْنَى {وَزِيَادَةٌ} مَغْفِرَةٌ، وَقَالَ
غَيْرُهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ. {الْكِبْرِيَاءُ}
الْمُلْكُ.
([10] سورة يونس)
مكية وهي مائة وتسع آيات وقدم أبو ذر السورة على البسملة.
(وقال ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، وفي نسخة باب وقال
ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء
عنه ({فاختلط}) [يونس: 24] زاد أبو ذر والوقت {به نبات
الأرض} أي (فنبت بالماء من كل لون) مما يأكل الناس من
الحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض.
({وقالوا اتخذ الله ولدًا}) حين قالوا الملائكة بنات الله
وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى عيسى ابن الله،
وسقطت الواو في بعض النسخ موافقة للفظ التنزيل ({سبحانه})
تنزيهًا له عن اتخاذ الولد ({هو الغني}) [يونس: 68] عن كل
شيء فهو علة للتنزيه عن اتخاذ الولد وسقط وقالوا الخ لأبي
ذر وليس فيه حديث مسوق فيحتمل إرادته لتخريج ما يناسب ذلك
فبيض له ولم يتيسر له إيراده هنا.
(وقال زيد بن أسلم) أبو أسامة مولى عمر بن الخطاب مما وصله
ابن جرير ({أن لهم قدم صدق}) [يونس: 2] هو (محمد -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وأخرج الطبري من طريق الحسن
أو قتادة قال محمد شفيع لهم ووصله ابن مردويه من حديث علي
ومن حديث أبي سعيد لإسنادين ضعيفين.
(وقال مجاهد): هو ابن جبر فيما وصله الفريابي من طريق ابن
أبي نجيح عنه قدم صدق
(7/164)
قال: (خير) ورجحه ابن جرير لقول العرب
لفلان قدم صدق في كذا أي قدّم فيه خير أو قدم سوء في كذا
إذا قدم فيه شرًا (يقال {تلك آيات}) قال أبو عبيدة (يعني
هذه أعلام القرآن) وأراد أن معنى تلك هذه (ومثله) من حيث
صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة كما أن في الأوّل صرف اسم
الإشارة عن الغائب إلى الحاضر ({حتى إذا كنتم في الفلك
وجرين بهم}) [يونس: 22] (المعنى بكم) قال في الكشاف: وتبعه
البيضاوي واللفظ للأوّل وفائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى
الغيبة المبالغ كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها
ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح، وسقط قوله يقال الخ لأبي
ذر.
({دعواهم}) ولأبي ذر يقال دعواهم قال أبو عبيدة: (دعاؤهم)
في الجنة اللهم إنّا نسبحك تسبيحًا.
({أحيط بهم}) [يونس: 22] قال أبو عبيدة (دنوا من الهلكة)
زاد غيره وسدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاط به العدوّ
({أحاطت به خطيئته}) [البقرة: 81] أي من جميع جوانبه.
({فأتبعهم}) بتشديد المثناة الفوقية (وأتبعهم) بفتح الهمزة
وسكون الفوقية (واحد) في المعنى والوصل والقطع والتخفيف
والتشديد وبه قرأ الحسن يريد قوله تعالى: {فأتبعهم فرعون
وجنوده} [يونس: 90].
({عدوًّا}) [يونس: 90] يريد قوله تعالى: بغيًا وعدوًّا (من
العدوان) أي لأجل البغي والعدوان. (وقال مجاهد) فيما وصله
الفريابي وعبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عنه في قوله
تعالى: ({ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير})
[يونس: 11] هو (قول الإنسان لولده وماله إذا غضب اللهم لا
تبارك فيه) وفي الفرع له فيه وليس له في أصله (والعنه
{لقضي إليهم أجلهم} [يونس: 11] (لأهلك من دعي عليه) بضم
همزة أهلك ودال دعي مبنيين للمفعول ولأبي ذر لأهلك من دعا
عليه بفتحهما (ولأماته) قال في فتوح الغيب ({ولو يعجل
الله}) متضمن معنى نفي التعجيل لأن لو لتعليق ما امتنع
بامتناع غيره يعني لم يكن التعجيل ولا قضاء العذاب فيلزم
من ذلك حصول المهلة وهذا لطف من الله تعالى بعباده ورحمة.
وفي حديث مسلم عن جابر مرفوعًا لا تدعوا على أنفسكم ولا
تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من
الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم ففيه النهي عن ذلك.
({للذين أحسنوا الحسنى}) [يونس: 26] قال مجاهد فيما وصله
الفريابي وعد أي (مثلها حسنى {وزيادة}) أي (مغفرة) ولأبوي
الوقت وذر ورضوان (وقال غيره): قيل هو أبو قتادة (النظر
إلى وجهه) تعالى. وقد رواه مسلم والترمذي وغيرهما من حديث
صهيب مرفوعًا وروي عن الصديق وحذيفة وابن عباس وغيرهم من
السلف والخلف.
({الكبرياء}) قال مجاهد في قوله تعالى: {وتكون لكما
الكبرياء} [يونس: 78] هو (الملك) بضم الميم لأن النبي إذا
صدق صارت مقاليد أمته وملكهم إليه.
2 - باب {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا
حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]
{نُنَجِّيكَ} [يونس: 92]: نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ
الأَرْضِ وَهْوَ النَّشَزُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِع
({وجاوزنا}) وفي نسخة: باب وجاوزنا ({ببني إسرائيل البحر})
بحر القلزم حافظين لهم وكانوا فيما قيل ستمائة ألف وعشرين
ألف مقاتل لا يعدون فيهم ابن عشر سنين لصغره ولا ابن
ستين لكبره ({فأتبعهم}) أي أدركهم ({فرعون وجنوده بغيًا
وعدوًّا}) عند شروق الشمس وكانوا فيما قيل ألف ألف وستمائة
ألف وفيهم مائة ألف حصان أدهم ليس فيها أنثى.
وعن ابن عباس فيما رواه ابن مردويه بسنده كان مع فرعون
سبعون قائدًا مع كل قائد سبعون ألفًا وكان فرعون في الدهم
وهارون على مقدمة بني إسرائيل وموسى في الساقة فلما قربت
مقدمة فرعون منهم قال بنو إسرائيل لموسى: هذا البحر أمامنا
إن دخلناه غرقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا قال: {كلا
إن معي ربي سيهدين} فأوحى الله إليه {أن اضرب بعصاك البحر}
فضربه {فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم} وصار اثني عشر
طريقًا لكل سبط واحد، وأمر الله الريح فنشفت أرضه وتخرق
الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ليرى كل قوم الآخرين لئلا
يظنوا أنهم هلكوا وجاوزت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج
آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى
فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهمّ بالرجوع وهيهات ولات
(7/165)
حين مناص نفذ القدر واستجيبت الدعوة وجاء
جبريل على فرس أنثى وخاض البحر فلما شم أدهم فرعون ريح فرس
جبريل اقتحم وراءه ولم يملك فرعون من أمره شيئًا واقتحمت
الخيول خلفه في البحر وميكائيل في ساقتهم يسوقهم ولا يترك
أحدًا منهم إلا ألحقه بهم فلما تكاملوا وهمّ أوّلهم
بالخروج منه أمر الله القادر القاهر البحر فانطبق عليهم
فلم ينج منهم أحد وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم وتراكمت
الأمواج فوق فرعون ({حتى إذا أدركه الغرق}) وغشيته سكرات
الموت ({قال}) وهو كذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها ({آمنت
أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من
المسلمين}) [يونس: 90] وما علم اللعين أن التوبة عند
المعاينة غير نافعة فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا
ولذا قال الله تعالى في جواب فرعون {الآن} أي أتؤمن وقت
الاضطرار {وقد عصيت قبل} [يونس: 90].
وفي حديث ابن عباس عند أحمد وغيره مرفوعًا: لما قال فرعون
{آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} قال لي
جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسته في فيه
مخافة أن تناله الرحمة. ورواه الترمذي وقال حسن وحال البحر
هو طينه الأسود، والمعنى لو رأيتني لرأيت أمرًا عجيبًا
يبهت الواصف عن كنهه، فإني لما شاهدت تلك الحالة بهت غضبًا
على عدوًا الله لادعائه تلك العظمة فعمدت إلى حال البحر
فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة لسعتها، والحاصل أنه
إنما فعل ذلك غضبًا لله وعلمًا منه أنه لا ينفعه الإيمان
لا أنه كره إيمانه لأن كراهة الإيمان من الكافر كفر، لكن
قال أبو منصور الماتريدي في التأويلات: الرضا بالكفر ليس
بكفر مطلقًا إنما يكون كذلك إذا رضي بكفر نفسه لا بكفر
غيره، ويؤيده قصة ابن أبي سرح المروية في سنن أبي داود
والنسائي لما جاء يوم الفتح بين يدي النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطلب المبايعة ثلاث مرات وكل ذلك يأبى
ثم بايعه ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد
يقوم إلى هذا حين رآني كففت عن بيعته فيقتله الحديث.
وقيل إنما قصد فرعون بقوله الخلاص أو لأنه كان لمجرد
التعليق كما قال: آمنت به بنو إسرائيل فكأنه قال لا أعرفه
فكيف يزول كفره بهذا التقليد، وقد روي أن جبريل استفتاه ما
قولك في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته وجحد حقه وادعى
السيادة دونه، فكتب يقول الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج
على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر فلما ألجمه الغرق
ناوله جبريل خطه فعرفه، وسقط لأبي ذر {فأتبعهم} الخ وقال
إلى قوله: {وأنا من المسلمين}.
({ننجيك}) [يونس: 92] بسكون النون وتخفيف الجيم من أنجى
وهي قراءة يعقوب وفي نسخة ننجيك بتخفيف الجيم أي (نلقيك
على نجوة من الأرض وهو) أي النجوة (النشز) بفتح النون
والمعجمة آخره زاي وهو (المكان المرتفع). وقرأ ابن السميقع
ننحيك بالحاء المهملة المشدّدة أي نلقيك بناحية مما يلي
البحر ليراك بنو إسرائيل. قال كعب: رماه إلى الساحل كأنه
ثور.
وروى ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: لما
خرج موسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه قال: من تخلف من قوم
فرعون ما غرق فرعون وقومه، ولكنهم في خزائن البحر يتصيدون
فأوحى الله تعالى إلى البحر أن الفظ فرعون عريانًا فلفظه
عريانًا أصلع أخينس قصيرًا. ومن طريق ابن أبي نجيح عن
مجاهد {ببدنك} قال بجسدك. ومن طريق أبي صخر المدني قال:
البدن الدرع الذي كان عليه قيل، وكانت له درع من ذهب يعرف
بها وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأنًا من أن يغرق.
4680 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ عَاشُورَاءَ
فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى
فِرْعَوْنَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لأَصْحَابِهِ: «أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى
مِنْهُمْ فَصُومُوا».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة
والمعجمة المشددة بندار العبدي البصري قال: (حدّثنا غندر)
محمد بن جعفر البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي
بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة جعفر بن أبي وحشية واسمه
إياس اليشكري البصري (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما) أنه (قال: قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة) فأقام بها إلى عاشوراء من
السنة
(7/166)
الثانية (و) إذا (اليهود تصوم عاشوراء)
فسألهم (فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون) وفي
رواية فقال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا
يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه
موسى شكرًا فنحن نصومه (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم
فصوموا).
ومطابقته للترجمة في رواية أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه
فرعون وقومه كما لا يخفى، وسبق حديث الباب في الصيام
بنحوه.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم
[11]- سورة هُودٍ عليه الصلاة والسلام
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَصِيبٌ: شَدِيدٌ، لاَ جَرَمَ:
بَلَى. (وَقَالَ غَيْرُهُ: وَحَاقَ: نَزَلَ، يَحِيقُ:
يَنْزِلُ، يَؤُوسٌ، فَعُولٌ مِنْ يَئِسْتُ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: تَبْتَئِسْ: تَحْزَنْ، يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ
شَكٌّ وَافْتِرَاءٌ فِي الحَقِّ، لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ
مِنَ اللهِ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ
الأَوَّاهُ الرَّحِيمُ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بَادِئَ الرَّأْيِ مَا ظَهَرَ لَنَا، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: الْجُودِيُّ: جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ، وَقَالَ
الْحَسَنُ: إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ يَسْتَهْزِئُونَ
بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْلِعِي: أَمْسِكِي،
عَصِيبٌ: شَدِيدٌ، لاَ جَرَمَ: بَلَى، وَفَارَ
التَّنُّورُ: نَبَعَ الْمَاءُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَجْهُ
الأَرْضِ).
[11]- سورة هُودٍ عليه الصلاة والسلام
(بسم الله الرحمن الرحيم)
مائة وثلاث وعشرون آية [بسم الله الرحمن الرحيم] سقطت
البسملة لغير أبي ذر.
(قال ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما فيما وصله ابن أبي
حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى حكاية عن
لوط عليه الصلاة والسلام حين جاءته الملائكة في صورة غلمان
وظن أنهم أناس فخاف عليهم أن يقصدهم قومه فيعجز عن
مدافعتهم هذا يوم ({عصيب}) أي (شديد) وفي قوله: ({لا جرم})
أي (بلى) أي حقًّا أنهم في الآخرة هم الأخسرون (وقال غيره)
في قوله تعالى: ({وحاق}) أي (نزل) بهم وأصابهم (يحيق) أي
(ينزل) وفي قوله تعالى: ({إنه ليؤوس} يؤوس فعول من يئست)
والمعنى ولئن أذقنا الإنسان حلاوة نعمة يجد لذتها ثم
سلبناها منه أنه لقطوع رجاءه من فضل الله لقلة صبره وعدم
ثقته به كفور لأن الوصف باليؤوس لا يليق إلا بالكافر فإنه
يقع في الياس إذا سلبت نعمته والمسلم يثق بالله أن يعيدها
أحسن ما كانت.
(وقال مجاهد) في قوله تعالى: فلا ({تبتئس}) أي لا (تحزن)
وهذا وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد كقوله في
قوله تعالى: {ألا أنهم} ({يثنون صدروهم} شك وافتراء)
بالفاء والذي في أكثر الفروع المقابلة على اليونينية
وامتراء (في الحق) بالميم ({ليستخفوا منه}) [هود: 5] أي
(من الله إن استطاعوا) وهذه الألفاظ المفسرة كلها من
البسملة إلى هنا ثابتة في رواية الأبوين ومقدمة عندهما
ومؤخرة في رواية غيرهما عن تاليها.
(وقال أبو ميسرة) ضد الميمنة عمرو بن شرحبيل الهمداني
التابعي في قوله عز وجل {إن إبراهيم لأوّاه} (الأوّاه:
الرحيم بالحبشية) بالتحتية المشددة والذي في اليونينية
بإسقاطها وهذا
ذكره المؤلّف في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء.
(وقال ابن عباس) في قوله تعالى: ({بادئ الرأي}) أي (ما ظهر
لنا) من غير تعمق.
(وقال مجاهد) في قوله جل وعز: {واستوت على ({الجوديّ})
[هود: 44] (الجوديّ جبل بالجزيرة) التي بين دجلة والفرات
قرب الموصل تشامخت الجبال يومئذٍ من الغرق وتطاولت وتواضع
هو لله عز وجل فلم يغرق. وقال قتادة: استوت عليه شهرًا
يعني حتى نزلوا منها (وقال الحسن) البصري ({إنك لأنت
الحليم}) باللام (يستهزئون به. وقال ابن عباس {أقلعي}
أمسكي) عن المطر ({عصيب}) أي (شديد) ولأبي ذر وقال ابن
عباس عصيب شديد ({لا جرم}) أي (بلى) ({وفار التنور} نبع
الماء) فيه وارتفع كالقدر يفور والتنور تنور الخبز وابتداء
النبوع منه خارق للعادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها أو
في الهند وقيل في غيرهما. (وقال عكرمة): التنور (وجه
الأرض) وقيل: هو أشرف موضع فيها.
1 - باب
{أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا
مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ
مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ} [هود: 5] وَقَالَ غَيْرُهُ: وَحَاقَ: نَزَلَ،
يَحِيقُ: يَنْزِلُ. يَؤُوسٌ: فَعُولٌ مِنْ يَئِسْتُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَبْتَئِسْ: تَحْزَنْ، يَثْنُونَ
صُدُورَهُمْ: شَكٌّ وَامْتِرَاءٌ فِي الْحَقِّ،
لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، مِنَ اللَّهِ إِنِ اسْتَطَاعُوا.
({ألا إنهم يثنون صدورهم}) مضارع ثنى يثني ثنيًا أي طوى
وانحرف وصدورهم مفعول، والمعنى يحرفون صدورهم ووجوههم عن
الحق وقبوله ({ليستخفوا منه}) اللام متعلقة بيثنون كما
قاله الحوفي وغيره والمعنى إنهم يفعلون ثني الصدور لهذه
العلة. وقال الزمخشري ومن تبعه: متعلقة بمحذوف تقديره
ويريدون ليستخفوا من الله فلا يطلع رسوله والمؤمنين على
ازورارهم ونظير اضمار يريدون لعود المعنى إلى إضماره
الإضمار في قوله: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} معناه فضرب
فانفلق، لكن قال في الدر ليس المعنى الذي يقودنا إلى إضمار
الفعل هناك كالمعنى هنا لأن ثم لا بدّ من حذف معطوف عليه
يضطر العقل إلى تقديره لأنه ليس من لازم الأمر بالضرب
انفلاق البحر
(7/167)
فلا بدّ أن يتعقل فضرب فانفلق، وأما في هذه
فالاستخفاء علة صالحة لثنيهم صدورهم فلا اضطرار بنا إلى
إضمار الإرادة. قال في فتوح الغيب: شبهه بقوله (اضرب
بعصاك) في مجرد إرادة التقدير ليستقيم المعنى وروي عنه في
الحاشية ثني الصدر بمعنى الإعراض إظهار للنفاق فلم يصح أن
يتعلق به لام التعليل، فوجب إضمار ما يصح تعلقها به من شيء
يستوي معه المعنى فلذلك قدر ويريدون ليستخفوا من الله أي
يظهرون النفاق ويريدون مع ذلك أن يستخفوا منه ({ألا حين
يستغشون ثيابهم}) يجعلونها أغشية وأغطية والناصب للظرف
مضمر قدره في الكشاف بيريدون أي يريدون الاستخفاء حين
يستغشون ثيابهم كراهة أن يسمعوا القرآن أو الناصب
له قوله ({يعلم}) أي ألا يعلم ({ما يسرون}) في قلوبهم
({وما يعلنون}) بأفواههم فلا تفاوت في علمه بين سرهم
وعلنهم ({إنه عليم بذات الصدور}) [هود: 5] بأسرار ذوات
الصدور.
(وقال غيره): أي غير عكرمة ({وحاق}) أي (نزل يحيق ينزل
بؤوس فعول من يئست) بسكون السين (وقال مجاهد: تبتئس)
بفوقيتين مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة أي (تحزن {يثنون
صدورهم} شك وامتراء في الحق {ليستخفوا منه}) أي (من الله
إن استطاعوا).
4681 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ
جَعْفَرٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: {أَلاَ
إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ} [هود: 5] قَالَ:
سَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ: أُنَاسٌ كَانُوا
يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى
السَّمَاءِ وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا
إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ. [الحديث 4681 -
أطرافه في: 4682 - 4683].
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن محمد بن صباح) بالصاد المهملة
والموحدة المشددة وبعد الألف حاء مهملة الزعفراني قال:
(حدّثنا حجاج) هو ابن محمد الأعور (قال قال ابن جريج) عبد
الملك (أخبرني) بالإفراد (محمد بن عباد بن جعفر) المخزومي
(أنه سمع ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما (يقرأ: ({ألا
أنهم تثنوني}) بفتح الفوقية والنون الأولى بينهما مثلثة
ساكنة وبعد الواو الساكنة نون أخرى مكسورة ثم ياء تحتية
مضارع اثنوني على وزن افعوعل يفعوعل كاعشوشب يعشوشب من
الثني وهو بناء مبالغة لتكرير العين ({صدورهم}) بالرفع على
الفاعلية ولأبي ذر يثنوني بالتحتية بدل الفوقية صدورهم
بالنصب (قال) أبي محمد بن عباد (سألته عنها فقال: أناس
كانوا يستحيون) من الحياء ولأبي ذر يستخفون من الاستخفاء
(أن يتخلوا) أي أن يدخلوا في الخلاء (فيفضوا إلى السماء
وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء) بعوراتهم مكشوفات
فيميلون صدورهم ويغطون رؤوسهم استخفاء (فنزل ذلك فيهم)
{ألا إنهم يثنون صدورهم} [هود: 5] الآية. إلى آخرها.
4682 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ
{أَلاَ إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ} قُلْتُ: يَا
أَبَا الْعَبَّاسِ مَا تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ؟ قَالَ:
كَانَ الرَّجُلُ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فَيَسْتَحِي أَوْ
يَتَخَلَّى فَيَسْتَحِي، فَنَزَلَتْ {أَلاَ إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن موسى) الفراء
الرازي الصغير قال: (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني
(عن ابن جريج) عبد الملك (وأخبرني محمد بن عباد بن جعفر)
بالواو عطفًا على مقدر أي أخبرني غير محمد بن عباد ومحمد
بن عباد (أن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما قرأ: ({ألا
أنهم تثنوني}) بفتح الفوقية والنون الأولى وكسر الثانية
كذا في الفرع وأصله وبعدها تحتية ({صدورهم}) بالرفع ولأبي
ذر: يثنون بضم النون الأولى وفتح الثانية وإسقاط
التحتية بعدها صدورهم نصب على المفعولية قال محمد بن عباد
(قلت: يا أبا العباس) هي كنية عبد الله بن عباس (ما
تثنوني) بفتح النون الأولى وبعد الثانية تحتية (صدورهم)
بالرفع (قال: كان الرجل يجامع امرأته فيستحي) وفي نسخة
فيستحيي بمثناتين تحتيتين (أو يتخلى فيستحي) من كشف عورته
(فنزلت): ({ألا إنهم يثنون صدورهم}) ولأبي ذر: تثنوني بفتح
الفوقية والنون صدورهم رفع.
4683 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَلاَ
إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ
أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} [هود: 5] وَقَالَ
غَيْرُهُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْتَغْشُونَ: يُغَطُّونَ
رُءُوسَهُمْ، سِيءَ بِهِمْ: سَاءَ ظَنُّهُ بِقَوْمِهِ،
وَضَاقَ بِهِمْ: بِأَضْيَافِهِ. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ:
بِسَوَادٍ. إِلَيْهِ أُنِيبُ: أَرْجِعُ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال: (حدثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو) هو ابن دينار (قال:
قرأ ابن عباس {إلا أنهم يثنون}) بالتحتية المفتوحة وضم
النون الأولى وفتح الأخرى من غير تحتية ({صدورهم}) نصب على
المفعولية ولأبي ذر يثنوني بإثبات التحتية بعد النون وضم
النون الأولى صدورهم بالنصب والتأنيث مجازي فجاز تذكير
الفعل باعتبار تأويل فاعله بالجمع وتأنيثه باعتبار تأويله
بالجماعة، وفي بعض الحواشي الموثوق بها وهو في اليونينية
قال الحموي يروى عن ابن عباس ثلاثة أوجه. تثنون أي
بالفوقية وضم النون الأولى وفتح الثانية وهي قراءة
(7/168)
الجمهور، ويثنوني أي بالتحتية وضم النون
الأولى وبعد الثانية تحتية، وتثنوني أي بالفوقية وفتح
النون الأولى وتحتية بعد الثانية ({ليستخفوا منه إلا حين
يستغشون ثيابهم}) [هود: 5].
(وقال غيره): أي غير عمرو بن دينار فيما وصله الطبري من
طريق علي بن أبي طلحة (عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما
في قوله تعالى: يستغشون أي (يغطون رؤوسهم) قال الحافظ ابن
حجر: وتفسير التغشي بالتغطية متفق عليه وتخصيص ذلك بالرأس
يحتاج إلى توقيف وهو مقبول من ابن عباس.
وقوله في قصة لوط: ({سيء بهم}) أي (ساء ظنه بقومه {وضاق
بهم}) [هود: 77].
أي (بأضيافه) فالضمير الأول للقوم والثاني للأضياف فاختلف
الضميران وأكثرون على اتحادهما كما مرّ قريبًا.
وقوله تعالى للوط: {فأسر بأهلك} ({بقطع من الليل}) [هود:
81] أي (بسواد) وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس وقال قتادة فيما وصله عبد الرزاق بطائفة من
الليل.
({إليه أنيب}) ولغير أبي ذر: وقال مجاهد أنيب (أرجع) زاد
في نسخة إليه وسقط لغير أبوي ذر والوقت إليه الأولى.
2 - باب قَوْلِهِ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}
[هود: 7]
(باب قوله) جل وعلا: ({وكان عرشه على الماء}) [هود: 7] قبل
خلق السماوات والأرض. وعن ابن عباس وكان الماء على متن
الريح.
4684 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»
وَقَالَ: «يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ
سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». وَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ
مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ
فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ
وَيَرْفَعُ». اعْتَرَاكَ: افْتَعَلْتَ مِنْ عَرَوْتُهُ
أَيْ أَصَبْتُهُ. وَمِنْهُ يَعْرُوهُ، وَاعْتَرَانِي.
آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا: أَيْ فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ.
عَنِيدٌ وَعَنُودٌ وَعَانِدٌ وَاحِدٌ. هُوَ تَأْكِيدُ
التَّجَبُّرِ. وَيَقُولُ الأَشْهَادُ وَاحِدُهُ شَاهِدٌ
مِثْلُ: صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ. اسْتَعْمَرَكُمْ: جَعَلَكُمْ
عُمَّارًا أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهْيَ عُمْرَى
جَعَلْتُهَا لَهُ، نَكِرَهُمْ وَأَنْكَرَهُمْ
وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ. حَمِيدٌ مَجِيدٌ كَأَنَّهُ
فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ. مَحْمُودٌ: مِنْ حَمِدَ. سِجِّيلٌ:
الشَّدِيدُ الْكَبِيرُ، سِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ وَاللاَّمُ
وَالنُّونُ أُخْتَانِ وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ:
وَرَجْلَةٍ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا
تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّينَا
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر عن رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(قال الله عز وجل أََنفق أُنفق عليك) بفتح الهمزة في
الأولى وضمها في الثانية وجزم الأول بالأمر والثاني
بالجواب. (وقال يد الله ملأى) كناية عن خزائنه التي لا
تنفذ بالعطاء أي (لا يغيضها) بفتح التحتية وكسر الغين
وبالضاد المعجمتين بينهما تحتية ساكنة أي لا ينقصها (نفقة
سحاء الليل والنهار) بنصبهما على الظرفية وسحاء بسين وحاء
مشددة مهملتين ممدودًا يقال سح يسح فهو ساح وهي سحاء وهي
فعلاء لا أفعل لها كهطلاء، ويروى سحاب بالتنوين على المصدر
أي دائمة الصب والهطل بالعطاء ووصفها بالامتلاء لكثرة
منافعها فجعلها كالعين التي لا يغيضها الاستقاء ولا ينقصها
الامتياح قاله ابن الأثير. ولفظ بيده حكمه حكم سائر
المتشابهات تأويلاً وتفويضاً (وقال أرأيتم) أي أخبروني (ما
أنفق) أي الذي أنفاقه (منذ) بالنون ولأبي ذر مذ (خلق
السماء والأرض فإنه لم يغض) بفتح التحتية وكسر الغين
وبالضاد المعجمتين لم ينقص (ما في يده وكان عرشه على الماء
وبيده الميزان) كناية عن العدل بين الخلق (يخفض ويرفع) من
باب مراعاة النظير أي يخفض من يشاء ويرفع من يشاء ويسمع
الرزق على من يشاء ويقتره على من يشاء.
وهذا الحديث أخرجه في التوحيد والنسائي في التفسير ببعضه.
({اعتراك}) [هود: 54] من باب (افتعلت) وفي رواية عن
الكشميهني أيضًا افتعلك بكاف الخطاب من باب الافتعال. قال
العيني: والصواب أن يقال اعترى افتعل فلا يحتاج لكاف
الخطاب في الوزن (من عروته أي أصبته). قال الجوهري: عروت
الرجل أعروه عروًا إذا ألممت به وأتيته طالبًا فهو معروّ
وفلان تعروه الأضياف وتعتر به أي تغشاه (ومنه) أي ومن هذا
الأصل قولهم فلان (يعروه) أي يصيبه (واعتراني) أي تغشاني.
({آخذ بناصيتها}) [هود: 56] (أي في ملكه) بضم الميم في
الفرع وفي اليونينية بكسرها (وسلطانه) فهو مالك لها قادر
عليها يصرفها على ما يريد بها وهذا كله من قوله اعتراك إلى
هنا ثابت في رواية الكشميهني فقط.
({عنيد}) بالياء في قوله: {واتبعوا أمر كل جبار عنيد}
[هود: 59]. (وعنود) بالواو (وعاند) بالألف (واحد) قال أبو
عبيدة (هو تأكيد التجبر) وقال غيره هو من عند عندًا وعندًا
وعنودًا إذا طغى، والمعنى عصوا من دعاهم إلى الإيمان،
وأطاعوا من دعاهم إلى الكفران.
({ويقول الأشهاد}) [هود: 18] قال أبو عبيدة (واحده شاهد
مثل صاحب وأصحاب) وهذا ثابت هنا لأبي ذر فقط وسيأتي بعد إن
شاء الله تعالى، والمراد بالأشهاد هنا الملائكة والنبيون
والمؤمنون وعن قتادة
(7/169)
الخلائق وهو أعم وقيل الجوارح.
({استعمركم}) [هود: 61] (جعلكم عمارًا) يقال (يعمرته الدار
فهي عمرى) أي (جعلتها له) ملكًا مدة عمره وهذا تفسير أبي
عبيدة وقيل استعمركم فيها أقدركم على عمارتها وأمركم بها.
وقوله: ({فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم}) [هود: 70]
قال أبو عبيدة {نكرهم} أي الثلاثي المجرد (وأنكرهم)
الثلاثي المزيد فيه (واستنكرهم) الذي هو من باب الاستفعال
كلها (واحد) في المعنى وهو الإنكار، وذلك أن الخليل عليه
الصلاة والسلام لما جاءه الرسل كلها جبريل ومن معه من
الملائكة وجاء بعجل مشوي ورأى أيديهم لا ئصل إليه أنكر
ذلك، وخاف أن يريدوا به مكروهًا فقالوا له: لا تخف إنّا
ملائكة مرسلة بالعذاب إلى قوم لوط عليه الصلاة والسلام
وإنما لم نمد أيدينا إليه لأنا لا نأكل.
({حميد مجيد}) [هود: 73] (كأنه) أي مجيد على وزن (فعيل من)
صيغة (ماجد) والتعبير بكأن فيه شيء فإنه بوزن فعيل من غير
شك، وقال القشيري قيل هو بمعنى العظيم الرفيع القدر فهو
فعيل بمعنى مفعول وقيل معناه الجزيل العطاء فهو فعيل بمعنى
فاعل وحميد أي (محمود) لفعل ما يستحق به الحمد يوصل العبد
إلى مراده فلا يبعد أن يرزق الولد في ابان الكبر وهو مأخوذ
(من حمد) بفتح الحاء وفي نسخة حمد بضمها مبنيًا للمجهول
فهو حامد.
({سجيل}) يريد قوله تعالى: {وأمطرنا عليها حجارة من سجيل}
[هود: 82] قال أبو عبيدة هو (الشديد الكبير) بالموحدة من
الحجارة الصلبة. واستشكله السفاقسي كابن قتيبة بأنه لو
كان معنى السجيل الشديد لما دخلت عليه من وكان يقال حجارة
سجيلاً لأنه لا يقال حجارة من شديد. وأجيب: باحتمال حذف
الموصوف أي وأرسلنا عليهم حجارة كائنة من شديد كبير أي من
حجر قوي شديد صلب (سجيل) باللام (وسجين) بالنون بمعنى واحد
(واللام والنون أختان) من حيث إنهما من حروف الزوائد وكل
منهما يقلب عن الآخر.
(وقال تميم بن مقبل): العامري العجلاني الشاعر المخضرم مما
يشهد لذلك:
(ورجلة) بفتح الراء وسكون الجيم والجر أي ورب رجلة جمع
راجل خلاف الفارس (يضربون البيض) بفتح الموحدة في الفرع
جمع بيضة وهي الخوذة أي يضربون مواضع البيض وهي الرؤوس،
وفي نسخة البيض بكسر الموحدة جمع أبيض وهو السيف أي يضربون
بالبيض على نزع الخافض (ضاحية) بالضاد المعجمة أي في وقت
الضحوة أو ظاهرة (ضربًا تواصى) بحذف إحدى التاءين إذ أصله
تتواصى (به الأبطال) أي الشجعان (سجينًا) بكسر السين
وتشديد الجيم وبالنون أي شديدًا.
3 - باب
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيبًا} [هود: 84] أي إلى
أَهْلِ مَدْيَنَ لأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ وَمِثْلُهُ
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] {وَاسْأَلِ الْعِيرَ}
يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ والعير {وَرَاءَكُمْ
ظِهْرِيًّا} [هود: 92] يَقُولُ: لَمْ تَلْتَفِتُوا
إِلَيْهِ. وَيُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ الرَّجُلُ
حَاجَتَهُ ظَهَرْتَ بِحَاجَتِي وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا
وَالظِّهْرِيُّ هَا هُنَا أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً
أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ، أَرَاذِلُنَا:
سُقَاطُنَا، إِجْرَامِي: هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ أَجْرَمْتُ
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: جَرَمْتُ. الْفُلْكُ وَالْفَلَكُ:
وَاحِدٌ وَهْيَ السَّفِينَةُ، وَالسُّفُنُ. مُجْرَاهَا:
مَدْفَعُهَا وَهْوَ مَصْدَرُ أَجْرَيْتُ، وَأَرْسَيْتُ
حَبَسْتُ وَيُقْرَأُ مَرْسَاهَا مِنْ رَسَتْ هِيَ
وَمَجْرَاهَا مِنْ جَرَتْ هِيَ وَمُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا
مِنْ فُعِلَ بِهَا الرَّاسِيَاتُ ثَابِتَاتٌ. [الحديث 4684
- أطرافه في: 5352، 7411، 7419، 7496].
((وإلى مدين أخاهم شعيبًا}) [هود: 84] أي وأرسلنا (إلى أهل
مدين) أخاهم شعيبًا (لأن مدين بلد) بناه مدين فسمى باسمه
فهو على حذف مضاف (ومثله) في ذلك ({واسأل القرية}) [يوسف:
82] أي واسأل العير يعني أهل (القرية والعير) ولأبي ذر
وأصحاب العير وكان أهل قرية شعيب مطففين فأمرهم بالتوحيد
أولاً لأنه للأصل ثم إن يوفوا حقوق الناس ولا ينقصوهم.
((وراءكم ظهريًا}) [هود: 92] يريد قول شعيب لما قال له
قومه: {ولولا رهطك لرجمناك} [هود: 91] {يا قوم أرهطي أعز
عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًا} [هود: 92] (يقول
لم تلتفتوا إليه) أي جعلتم أمر الله خلف ظهوركم تعظمون أمر
رهطي وتتركون تعظيم الله تعالى ولا تخافونه (ويقال: إذا لم
يقض الرجل حاجته) أي حاجة زيد مثلاً (ظهرت بحاجتى) ولأبي
ذر لحاجتي باللام بدل
الموحدة كأنه استخف بها (وجعلتني) ولأبي ذر عن الكشميهني
وجعلني بإسقاط الفوقية (ظهريًا) أي خلف ظهرك (والظهري: ها
هنا أن تأخذ معك دابة أو وعاء تستظهر به) عند الحاجة إن
احتجت لكن هذا لا يصح أن يفسر به ما في القرآن فحذف ها هنا
كما لأبي ذر أوجه.
({أراذلنا}) يريد قول قوم نوح عليه السلام: {وما نراك
اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} [هود: 27] أي (سقاطنا) بضم
السين وتخفيف القاف وهو الذي في اليونينية وفي بعضها
سقاطنا بتشديدها وفي نسخة أسقاطنا أي أخساؤنا وهذا كله من
قوله: {وإلى مدين} إلى هنا ثابت للكشميهني فقط وسقط لأبي
ذر وقوله أخاهم شعيبًا.
(7/170)
({إجرامي}) يريد قوله: {قل إن افتريته
فعليّ إجرامي} (هو مصدر من أجرمت) بالهمزة (وبعضهم يقول):
من (جرمت) ثلاثي مجرد والمعنى إني صح أني افتريته فعليّ
وبال إجرامي وحيث لم يصح فأنا بريء من نسبة الافتراء إليّ
وأم في قوله أم يقولون منقطعة تفيد الإضراب عن النصح فيكون
نسبة الافتراء إلى نوح، وذهب بعضهم إلى أنه اعتراض خوطب به
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسقط لفظ هو
الذي بعد إجرامي لأبي ذر.
({الفلك}) بضم الفاء وسكون اللام (والفلك واحد) بفتحتين
كذا في الفرع وأصله وفي نسخة الفلك والفلك بضم الفاء فيهما
وإسكان اللام وفتحها في الثاني، وفي نسخة الفلك والفلك
بفتحتين في الأول وبضم ثم سكون في الثاني ورجحه السفاقسي
وقال الأول واحد، والثاني جمع مثل أسد وأسد، وفي أخرى
الفلك والفلك بضم ثم سكون فيهما جمعًا، وصوبه القاضي عياض
والمراد أن الجمع والواحد بلفظ واحد في التنزيل في المفرد
{في الفلك المشحون} وفي الجمع {حتى إذا كنتم في الفلك
وجرين بهم} (وهي السفينة) في الواحد (والسفن) في الجمع
واللفظ وإن كان واحدًا لكنه مختلف بحسب التقدير فضمة فلك
للواحد كضمة قفل وضمة فلك للجمع كضمة أُسد.
({مجراها}) بضم الميم يريد قوله تعالى: {وقال اركبوا فيها
بسم الله مجراها} [هود: 41].
أي (مدفعها) بفتح الميم وفي بعض الأصول موقفها بالواو
والقاف والفاء وعزي لرواية القابسي قال الحافظ ابن حجر:
وهو تصحيف لم أره في شيء من النسخ وهو فاسد المعنى (وهو)
أي مجراها (مصدر أجريت وأرسيت) أي (حبست ويقرأ) بالتحتية،
ولأبي ذر: وتقرأ بالفوقية ({مرساها}) بفتح الميم (من رست
هي) أي السفينة أي ركدت واستقرت (ومجراها) بفتح الميم (من
جرت هي) وفتح الميمين وهي قراءة المطوّعي عن الأعمش (و)
يقرأ أيضًا (مجريها ومرسيها) بضم الميم وياء ساكنة فيهما
بدل الألف مع كسر الراء والسين وهي قراءة الحسن، والمعنى
الله مجريها ومرسيها وهي مأخوذة (من فعل بها) بكسر ميم من
وضم فاء فعل مبنيًا للمفعول ولأبي ذر ومجراها ومرسيها بضم
الميمين وهي قراءة الحرمين والبصري والشامي وأبي بكر وقرأ
حفص والأخوان بفتح الميم في الأول وضمها في الثاني فالفتح
من الثلاثي والضم من الرباعي.
(الراسيات) ولأبي ذر: راسيات (ثابتات) يريد قوله تعالى في
سورة سبأ: {قدور راسيات} [سبأ: 13]. وذكره استطرادًا لذكر
مرساها.
4 - باب قَوْلِهِ: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] وَاحِدُ
الأَشْهَادِ شَاهِدٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ
(باب قوله) عز وجل: ({ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على
ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}) [هود: 18]. وسقط لأبي
ذر ({على ربهم}) الخ وقال الآية. (واحد الأشهاد) ولأبي ذر:
واحدة الأشهاد (شاهد) بتاء التأنيث في الفرع والذي في
اليونينية واحده بضم الدال والهاء شاهد (مثل صاحب وأصحاب)
وقد ثبت ذكر هذا بلفظ: ويقول الأشهاد واحدها شاهد مثل صاحب
وأصحاب في رواية أبي ذر في غير هذا الموضع قريبًا.
4685 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، وَهِشَامٌ قَالاَ:
حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ:
بَيْنَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ:
يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، - أَوْ قَالَ يَا ابْنَ
عُمَرَ - سَمِعْتَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «يُدْنَى
الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ وَقَالَ هِشَامٌ: «يَدْنُو
الْمُؤْمِنُ - حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ
فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا يَقُولُ
أَعْرِفُ رَبِّ يَقُولُ: أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ، فَيَقُولُ:
سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا وَأَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ،
ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الآخَرُونَ
أَوِ الْكُفَّارُ فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ
هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ». وَقَالَ
شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يزيد بن
زريع) بضم الزاي مصغرًا قال: (حدّثنا سعيد) هو ابن أبي
عروبة (وهشام) هو ابن أبي عبد الله الدستوائي (قالا:
حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن صفوان بن محرز) بضم الميم
وسكون الحاء المهملة وكسر الراء آخره زاي أنه (قال: بينا)
بغير ميم (ابن عمر) عبد الله (يطوف) بالكعبة (إذ عرض) له
(رجل) لم يسم (فقال) له (يا أبا عبد الرحمن أو قال يا ابن
عمر) وسقط لأبي ذر لفظ قال (هل سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النجوى؟) التي تكون في القيامة بين
الله تعالى وبين المؤمنين (فقال): ولأبي ذر قال: (سمعت
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(يدنى المؤمن من ربه) بضم الياء وفتح النون من يدني مبنيًا
للمفعول أي يقرب منه.
(وقال هشام) الدستوائي: (يدنو المؤمن) بفتح الياء وضم
النون أي يقرب من ربه (حتى يضع عليه) ربه (كنفه) بنون
مفتوحة أي جانبه والدنو والكنف مجازان والمراد الستر
والرحمة (فيقرره بذنوبه) ولأبي ذر فيقرره بنصب الراء يقول
له (تعرف ذنب كذا؟ يقول) العبد (أعرف رب يقول
(7/171)
أعرف مرتين) بحذف أداة النداء من الأولى
وهي المنادى في الثانية (فيقول) الله جل وعلا (سترتها)
أي عليك (في الدنيا وأغفرها لك اليوم ثم تطوى صحيفة
حسناته) بضم التاء الفوقية وفتح الواو مبنيًا للمفعول من
الطيّ ولأبي ذر عن الكشميهني ثم يعطى من الإعطاء مبنيًا
للمفعول صحيفة نصب على المفعولية أي يعطى هو صحيفة حسناته
(وأما الآخرون) بالمد وفتح الخاء المعجمة (والكفار) بالشك
من الراوي (فينادى) بالتحتية وفتح الدال (على رؤوس الأشهاد
هؤلاء الذين كذبوا ربهم) زاد أبو ذر: ألا لعنة الله على
الظالمين، وهذا وعيد شديد.
(وقال شيبان) بن عبد الرحمن النحوي مما وصله ابن مردويه
(عن قتادة حدّثنا صفوان) أي عن ابن عمر.
وهذا الحديث سبق في المظالم.
5 - باب قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا
أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ
شَدِيدٌ} [هود: 102] الرِّفْدُ: الْمَرْفُودُ: الْعَوْنُ
الْمُعِينُ: رَفَدْتُهُ: أَعَنْتُهُ، تَرْكَنُوا:
تَمِيلُوا، فَلَوْلاَ كَانَ: فَهَلاَّ كَانَ، أُتْرِفُوا:
أُهْلِكُوا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ
(باب قوله) سبحانه وتعالى: ({وكذلك أخذ ربك إذا أخذ
القرى}) وكذلك خبر مقدم وأخذ مبتدأ مؤخر والتقدير ومثل ذلك
الأخذ أي أخذ الله الأمم السالفة أخذ ربك وإذا ظرف ناصبة
المصدر قبله والمسألة من باب التنازع فإن الأخذ بطلب القرى
وأخذ الفعل أيضًا يطلبها فالمسألة من أعمال الثاني للحذف
من الأول ({وهي ظالمة}) جملة حالية ({إنّ أخذه أليم شديد})
[هود: 102] وجيع صعب على المأخوذ وفيه تحذير عظيم عن الظلم
كفرًا كان أو غيره لغيره أو لنفسه ولكل أهل قرية ظالمة.
({الرفد المرفود}) [هود: 99] قال أبو عبيدة (العون المعين)
بضم الميم وكسر العين فسر المرفود بالمعين. قال في
المصابيح وفيه نظر، وقال البرماوي: والوجه المعان، ثم وجهه
كالكرماني بأن يكون الفاعل فيه بمعنى المفعول أو يكون من
باب ذي كذا أي عون ذي إعانة وفي نسخة المعان بالألف بدل
المعين (رفدته) أي (أعنته).
وقوله تعالى: ({ولا} {تركنوا}) {إلى الذين ظلموا} [هود:
113] أي لا (تميلوا) إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل
اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم أو لا ترضوا أعمالهم.
روى عبد بن حميد من طريق الربيع بن أنس: لا تركنوا إلى
الذين ظلموا لا ترضوا أعمالهم فمن استعان بظالم فكأنه قد
رضي بفعله وإذا كان في الركون إلى من وجد منه ما يسمى
ظلمًا هذا الوعيد الشديد فما ظنك بالركون إلى الموسومين
بالظلم ثم بالميل إليهم كل الميل ثم بالظلم نفسه والانهماك
فيه أعاذنا الله من كل مكروه بمنّه وكرمه.
({فلولا كان}) [هود: 116] أي (فلا كان) وهي في حرف ابن
مسعود رواه عبد الرزاق وسقط من تركنوا إلى هنا لأبي ذر.
({أترفوا}) أي (أهلكوا) قال في الفتح: هو تفسير باللازم أي
كان الترف سببًا لإهلاكهم.
(وقال ابن عباس: زفير وشهيق) الزفير صوت (شديد و) الشهيق
(صوت ضعيف) وقال في الأنوار الزفير إخراج النفس والشهيق
ردّه وسقط لأبي ذر قول ابن عباس هذا الخ.
4686 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي
بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي
الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي
لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» قَالَ
ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ
الْقُرَى وَهْيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ
شَدِيدٌ}.
وبه قال: (حدّثنا صدقة بن الفضل) المروزي قال: (أخبرنا أبو
معاوية) محمد بن خازم بالخاء والزاي المعجمتين بينهما ألف
وآخره ميم الضرير قال: (حدّثنا بريد بن أبي بردة) بضم
الموحدة وفتح الراء في الأول وضم الموحدة وسكون الراء في
الثاني وهو جد بريد واسم أبيه عبد الله بن أبي بردة (عن)
جده (أبي بردة) عامر (عن) أبيه (أبي موسى) عبد الله بن قيس
الأشعري (رضي الله تعالى عنه) أنه (قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن الله ليملي) اللام للتأكيد ويملي أي يمهل (للظالم حتى
إذا أخذه لم يفلته) بضم أوله أي لم يخلصه أبدًا لكثرة ظلمه
بالشرك فإن كان مؤمنًا لم يخلصه مدة طويلة بقدر جنايته.
(قال) أي أبو موسى (ثم قرأ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ({وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن
أخذه أليم شديد}).
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأدب والترمذي والنسائي في
التفسير وابن ماجه في الفتن.
6 - باب قَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}
[هود: 114]
وَزُلَفًا سَاعَاتٍ: بَعْدَ سَاعَاتٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ
الْمُزْدَلِفَةُ. الزُّلَفُ مَنْزِلَةٌ: بَعْدَ
مَنْزِلَةٍ، وَأَمَّا زُلْفَى فَمَصْدَرٌ مِنَ الْقُرْبَى،
ازْدَلَفُوا: اجْتَمَعُوا، أَزْلَفْنَا: جَمَعْنَا
(باب قوله) تعالى: ({وأقم الصلاة}) المفروضة ({طرفي
النهار}) ظرف لأقم قال في الدر: ويضعف أن يكون ظرفًا
للصلاة كأنه قيل أقم الصلاة الواقعة في هذين الوقتين
والطرف وإن لم يكن ظرفًا لكنه لما أضيف إلى الظرف أعرب
بإعرابه كقوله: أتيت أول النهار وآخره ونصف الليل بنصب هذه
كلها على الظرف لما أضيفت إليه وإن كانت ليست
(7/172)
موضوعة للظرفية ({وزلفًا من
الليل}) نصب على طرفي فينتصب على الظرف إذ المراد به ساعات
الليل القريبة أو على المفعول به نسقًا على الصلاة واختلف
في طرفي النهار وزلف الليل فقيل الطرف الأول الصبح والثاني
الظهر والعصر والزلف المغرب والعشاء وقيل الطرف الأول
الصبح والثاني العصر والزلف المغرب والعشاء وليست الظهر في
هذه الآية على هذا القول بل على غيرها وقيل الطرفان الصبح
والمغرب وقيل غير ذلك وأحسنها الأول ({إنّ الحسنات يذهبن
السيئات}) أي تكفرها ({ذلك ذكرى للذاكرين}) [هود: 114] عظة
لمن يتعظ إذا وعظ.
({وزلفًا}): بفتح اللام أي (ساعات بعد ساعات) واحدتها زلفة
أي ساعدة ومنزلة (ومنه سميت المزدلفة) أي لمجيء الناس
إليها في ساعات من الليل أو لازدلافهم يعني لاقترابهم إلى
الله وحصول المنزلة لهم عنده فيها (الزلف منزلة بعد منزلة)
فتكون بمعنى المنازل (وأما زلفى فمصدر من القربى) قال الله
تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} [ص: 25] (ازدلفوا)
بالدال بعد الزاي أي (اجتمعوا أزلفنا) أي (جمعنا) قال
تعالى: {وأزلفنا ثمّ الآخرين} [الشعراء: 64]. أي جمعنا.
4687 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ هُوَ
ابْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ،
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله
عنه- أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً
فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ
{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قَالَ الرَّجُلُ: أَلِىَ
هَذِهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يزيد بن
زريع) مصغرًا ولغير أبي ذر هو ابن زريع قال: (حدّثنا
سليمان التيمي عن أبي عثمان) عبد الرحمن النهدي (عن ابن
مسعود) عبد الله (رضي الله تعالى عنه أن رجلاً) هو أبو
اليسر كعب بن عمرو وقيل نبهان التمار وقيل عمرو بن غزية
(أصاب من امرأة) من الأنصار كما عند ابن مردويه (قبلة فأتى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر ذلك
له).
وعند مسلم وأصحاب السنن من طريق سماك بن حرب عن إبراهيم
النخعي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود: جاء رجل إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله
إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم
أجامعها قبلتها ولزمتها فافعل بي ما شئت.
(فأنزلت عليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والفاء
عاطفة على مقدر أي فذكر له فسكت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصلى الرجل مع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في حديث أنس فأنزل الله: ({وأقم
الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن
السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} قال الرجل: ألي هذه؟) بفتح
الهمزة للاستفهام أي أهذه الآية بأن صلاتي مذهبة لمعصيتي
مختصة بي أو عامة للناس كلهم (قال) عليه الصلاة والسلام:
(لمن عمل بها من أمتي).
واستنبط ابن المنذر منه أنه لا حدّ على من وجد مع أجنبية
في لحاف واحد وفيه عدم الحدّ في القبلة ونحوها وسقوط
التعزير عمن أتى شيئًا منها وجاء تائبًا نادمًا.
وهذا الحديث قد سبق في باب الصلاة كفارة من المواقيت من
كتاب الصلاة.
12 - سورة يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةِ وَالسَّلاَمُ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَقَالَ فُضَيْلٌ:
عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مُتْكًا الأُتْرُجُّ، قَالَ
فُضَيْلٌ: الأُتْرُجُّ بِالْحَبَشِيَّةِ: مُتْكًا، وَقَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مُتْكًا
الأُتْرُجُّ، بِالْحَبَشِيَّةِ: مُتْكًا، كُلُّ شَيْءٍ
قُطِعَ بِالسِّكِّينِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَذُو عِلْمٍ
عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: صُوَاعٌ
مَكُّوكُ الْفَارِسِيِّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ،
كَانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الأَعَاجِمُ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: تُفَنِّدُونِ تُجَهِّلُونِ، وَقَالَ غَيْرُهُ:
غَيَابَةٌ كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئًا فَهْوَ
غَيَابَةٌ، وَالْجُبُّ الرَّكِيَّةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ،
بِمُؤْمِنٍ لَنَا: بِمُصَدِّقٍ، أَشُدَّهُ قَبْلَ أَنْ
يَأْخُذَ فِي النُّقْصَانِ يُقَالُ: بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغُوا أَشُدَّهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاحِدُهَا
شَدٌّ. وَالْمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأْتَ عَلَيْهِ لِشَرَابٍ
أَوْ لِحَدِيثٍ أَوْ لِطَعَامٍ وَأَبْطَلَ الَّذِي قَالَ
الأُتْرُجُّ: وَلَيْسَ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ الأُتْرُجُّ
فَلَمَّا احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ الْمُتَّكَأُ مِنْ
نَمَارِقَ فَرُّوا إِلَى شَرٍّ مِنْهُ فَقَالُوا: إِنَّمَا
هُوَ الْمُتْكُ سَاكِنَةَ التَّاءِ وَإِنَّمَا الْمُتْكُ
طَرَفُ الْبَظْرِ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهَا: مَتْكَاءُ
وَابْنُ الْمَتْكَاءِ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ أُتْرُجٌّ
فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمُتَّكَإِ، شَغَفَهَا يُقَالُ: بَلَغَ
إِلَى شِغَافِهَا وَهْوَ غِلاَفُ قَلْبِهَا وَأَمَّا
شَعَفَهَا: فَمِنَ الْمَشْعُوفِ، أَصْبُ: أَمِيلُ،
أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ: مَا لاَ تَأْوِيلَ لَهُ،
وَالضِّغْثُ: مِلْءُ الْيَدِ مِنْ حَشِيشٍ وَمَا
أَشْبَهَهُ وَمِنْهُ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا لاَ مِنْ
قَوْلِهِ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَاحِدُهَا: ضِغْثٌ،
نَمِيرُ: مِنَ الْمِيرَةِ. وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ:
مَا يَحْمِلُ بَعِيرٌ، آوَى إِلَيْهِ: ضَمَّ إِلَيْهِ،
السِّقَايَةُ: مِكْيَالٌ. اسْتَيْأَسُوا: يَئِسُوا. وَلاَ
تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ: مَعْنَاهُ الرَّجَاءُ،
خَلَصُوا نَجِيًّا: اعْتَرَفُوا نَجِيًّا وَالجَمْعُ
أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجُونَ الوَاحِدُ نَجِيٌّ وَالاثْنَانِ
وَالجَمْعُ نَجِيٌّ وَأَنْجِيَةٌ: تَفْتَأُ لاَ تَزَالُ
{حَرَضًا} مُحْرَضًا يُذِيبُكَ الْهَمُّ {تَحَسَّسُوا}
تَخَبَّرُوا {مُزْجَاةٍ} قَلِيلَةٍ {غَاشِيَةٌ مِنْ
عَذَابِ اللَّهِ} عَامَّةٌ مُجَلِّلَةٌ.
([12] سورة يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةِ وَالسَّلاَمُ)
مكية وهي مائة إحدى عشرة آية.
(بسم الله الرحمن الرحيم) كذا لأبي ذر وسقطت لغيره.
(وقال فضيل): بضم الفاء وفتح المعجمة ابن عياض بن موسى
الزاهد المتوفى بمكة سنة سبع وثمانين ومائة مما وصله ابن
المنذر ومسدد في مسنده (عن حصين) بضم الحاء وفتح الصاد
المهملتين ابن عبد الرحمن السلمي (عن مجاهد) هو ابن جبر
المفسر (متكأ) بضم الميم وسكون الفوقية وتنوين الكاف من
غير همز وهي قراءة ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة
والجحدري (الأترج) بضم
الهمزة وسكون الفوقية وضم الراء وتشديد الجيم، ولأبي ذر
الأترنج بزيادة نون بعد الراء وتخفيف الجيم لغتان وأنشدوا:
فأهدت متكة لبني أبيها ... تخب بها العثمثمة الوقاح
والعثمثمة من النوق الشديدة والذكر عثمثم الأسد والوقاح
بالواو المفتوحة والقاف الناقة الصلبة (قال فضيل): هو ابن
عياض فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق يحيى بن يمان عنه
(7/173)
(الأترج) أي بتشديد الجيم وسقط لأبي ذر قال
فضيل: الأترج (بـ) ـاللغة (الحبشية متكًا) بضم الميم وسكون
التاء وتنوين الكاف من غير همز.
(وقال ابن عيينة) سفيان مما وصله في مسنده (عن رجل) لم يسم
(عن مجاهد متكًا) بسكون التاء من غير همز كالسابق (كل شيء)
ولأبي ذر قال كل شيء (قطع بالسكين) كالأترج وغيره من
الفواكه وأنشدوا:
نشرب الإثم بالصواع جهارًا ... ونرى المتك بيننا مستعارا
قيل: وهو من متك بمعنى بتك الشيء أي قطعه، فعلى هذا يحتمل
أن تكون الميم بدلاً من الباء وهو بدل مطرد في لغة قوم،
ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقت هذه.
(وقال قتادة) في قوله تعالى: {وإنه} ({لذو علم}) [يوسف:
68] وزاد أبو ذر: لما علمناه أي (عامل بما علم) وصله ابن
أبي حاتم والضمير في وأنه ليعقوب كما يرشد إليه قوله: {إلا
حاجة في نفس يعقوب قضاها}.
(وقال ابن جبير): فيما رواه ابن منده وابن مردويه ولأبي ذر
سعيد بن جبير ({صواع}) ولأبي ذر: صواع الملك (مكوك
الفارسي) بفتح الميم وتشديد الكاف الأولى مضمومة مكيال
معروف لأهل العراق وهو (الذي يلتقي طرفاه كانت تشرب به
الأعاجم) وكان من فضة وزاد ابن إسحاق مرصعًا بالجواهر كان
يسقى به الملك ثم جعل صاعًا يكال به.
(وقال ابن عباس): في قوله: {لولا أن} ({تفندون}) أي
(تجهلون) وقال الضحاك: تهرمون فتقولون شيخ كبير قد ذهب
عقله. وعند ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {ولما فصلت
العير} [يوسف: 94] لما خرجت العير هاجت ريح فأتت يعقوب
بريح يوسف فقال: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} قال
لولا أن تسفهون قال: فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة أيام.
(وقال غيره): أي غير ابن عباس في قوله تعالى: {وألقوه في
غيابة الجب} [يوسف: 10] (غيابة) بالرفع (كل شيء) مبتدأ وفي
نسخة غيابة بالجر والذي في اليونينية غيابة بالرفع وبالفتح
(غيب عنك شيئًا) في محل جر صفة لشيء وشيئًا مفعول غيب (فهو
غيابة) خبر المبتدأ أو المبتدأ إذا
تضمن معنى الشرط تدخل الفاء في خبره (والجب) بالجيم
(الركية التي لم تطو) قاله أبو عبيدة وسمي به لكونه
محفورًا في جبوب الأرض أي ما غلظ منها والغيابة قال الهروي
شبه طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه من العيون. وقال
الكلبي: تكون في قعر الجب لأن أسفله واسع ورأسه ضيق فلا
يكاد الناظر يرى ما في جوانبه، والألف واللام في الجب
للعهد فقيل: هو جب بيت المقدس، وقيل بأرض الأردن، وقيل على
ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب.
وقوله: {وما أنت} ({بمؤمن لنا}) أي (بمصدق) لسوء ظنك بنا.
وقوله تعالى: {ولما بلغ} ({أشدّه}) [يوسف: 22] أي (قبل أن
يأخذ في النقصان) وهو ما بين الثلاثين والأربعين وقيل في
سن الشباب ومبدؤه قبل بلوغ الحلم (يقال: بلغ أشدّه وبلغوا
أشدّهم) أي فيكون أشد في المفرد والجمع بلفظ واحد (وقال
بعضهم: واحدها) أي الأشد (شد) بفتح الشين من غير همزة وهو
قول سيبويه والكسائي.
(والمتكأ) بتشديد الفوقية وبعد الكاف همزة على قراءة
الجمهور اسم مفعول (ما اتكأت عليه لشراب أو لحديث أو
لطعام) أي لأجل شراب الخ. (وأبطل) قول (الذي قال): إن
المتكأ هو (الأترج) بتشديد الجيم للإدغام، ولأبي ذر
الأترنج بالنون للفك. (وليس في كلام العرب الأترج) أي ليس
مفسرًا في كلامهم به وهذا أخذه من كلام أبي عبيدة ولفظه
وزعم قوم أنه الترنج وهذا أبطل باطل في الأرض اهـ.
وتعقب بما في المحكم حيث قال: المتكأ الأترنج، ونقله
الجوهري في صحاحه عن الأخفش، وقال أبو حنيفة الدينوري:
بالضم الأترنج وبالفتح السوسن، وعن أبي علي القالي وابن
فارس في مجمله نحوه، وعند عبد بن حميد أن ابن عباس كان
يقرأ متكأ مخففة ويقول هو الأترج.
(فلما احتج عليهم) بضم التاء أي على القائلين بأنه الأترج،
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فيما احتج بالمثناة التحتية
بدل اللام (بأنه) ولأبي ذر: بأن (المتكأ) بالتشديد والهمزة
(من نمارق) يعني وسائد (فرّوا إلى شرّ منه فقالوا) بالفاء
(7/174)
ولأبي ذر وقالوا (إنما هو المتك ساكنة
التاء) مخففة وساكنة نصب (وإنما المتك) المخفف (طرف البظر)
بفتح الموحدة وسكون المعجمة وهو موضع الختان من المرأة
(ومن ذلك) اللفظ (قيل لها) أي للمرأة (متكاء وابن المتكاء)
بفتح الميم والتخفيف والمد فيهما وهي التي لم تختن ويقال
البظراء أيضًا (فإن كان ثمّ) بفتح المثلثة أي هناك (أترج)
بتشديد الجيم (فإنه) كان (بعد المتكأ) وقيل المتكأ طعام
يحز حزًّا، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة
ومجاهد: متكأ طعامًا سماه متكأ لأن أهل الطعام إذا جلسوا
يتكئون على الوسائد فسمي الطعام متكأ على الاستعارة، وقيل
المتكأ طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكين لأنه متى كان كذلك
احتاج الإنسان إلى أن يتكئ عليه عند القطع وقد علم مما مرّ
أن المتك المخفف يكون بمعنى الأترج وطرف البظر وأن المشدد
ما يتكأ عليه من وسادة وحينئذ فلا تعارض بين النقلين
كما لا يخفى وكان الأولى سياق قوله والمتكأ ما اتكأت عليه
عقب قوله متكا كل شيء قطع بالسكين ويشبه أن يكون من ناسخ
كغيره مما يقع غير مرتب.
وقوله: ({قد} {شغفها}) [يوسف: 35] (يقال بلغ إلى شغافها)
قال السفاقسي بكسر الشين المعجمة ضبطه المحدثون في كتب
اللغة بفتحها، وسقط لفظ (إلى) لأبي ذر وثبت له بلغ (وهو
غلاف قلبها) وهو جلدة رقيقة، وزاد القاضي كغيره حتى وصل
إلى فؤادها حبًا وقال غيره: أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف
بالقلب يعني أن اشتغالها بحبه صار حجابًا بينها وبين كل ما
سوى هذه المحبة فلا يخطر ببالها سواه. (وأما شعفها) بالعين
المهملة وهي قراءة الحسن وابن محيصن (فمن المشعوف) وهو
الذي أحرق قلبه الحب وهو من شعف البعير إذا هنأه أي طلاه
بالقطران فأحرقه، وقد كشف أبو عبيد عن هذا المعنى فقال:
الشعف بالمهملة إحراق الحب القلب مع لذة يجدها كما أن
البعير إذا طلي بالقطران بلغ منه مثل ذلك ثم يسترجع إليه.
وقوله: ({أصب} {إليهن}) أي (أميل) إلى إجابتهن زاد أبو ذر
صبا مال.
وقوله: ({أضغاث أحلام}) هي (ما لا تأويل له) وقال قتادة
فيما رواه عبد الرزاق هي الأحلام الكاذبة وسقط لأبي ذر
أحلام (والضغث) بكسر الضاد وسكون الغين المعجمتين وسقط
الواو من قوله والضعث لأبي ذر (ملء اليد من حشيش وما
أشبهه) جنسًا واحدًا أو أجناسًا مختلطة وخصه في الكشاف بما
جمع من أخلاط النبات فقال وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط
النبات، وحزم فاستعيرت لذلك أي استعيرت الأضغاث للتخاليط
والأباطيل والجامع الاختلاط من غير تمييز بين جيد ورديء
والإضافة في أضغاث أحلام بمعنى من التقدير أضغاث من أحلام
(ومنه): {وخذ بيدك ضغثًا} [ص: 44] مما هو ملء الكف من
الحشيش وهو من جنس واحد روي أنه أخذ عثكالاً من نخلة (لا
من قوله) {أضغاث أحلام} [يوسف: 44] الذي هو بمعنى لا تأويل
له (واحدها) أي الأضغاث (ضغث).
وقوله: ({نمير}) يريد قوله: {هذه بضاعتنا ردّت إلينا ونمير
أهلنا} [يوسف: 65] (من الميرة) بكسر الميم وهي الطعام أي
نجلب إلى أهلينا الطعام ({ونزداد كيل بعير}) أي (ما يحمل
بعير) بسبب حضور أخينا لأنه كان يكيل لكل رجل حمل بعير
وقال مجاهد فيما رواه الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه
كيل بعير أي كيل حمار وأيّده ابن خالويه بأن إخوة يوسف
كانوا بأرض كنعان ولم يكن بها إبل. قال ابن عادل: وكونه
البعير المعروف أصح.
وقوله: ({آوى إليه}) أي (ضم إليه) أخاه بنيامين على الطعام
أو إلى المنزل روي أنه أجلس كل اثنين على مائدة فبقي
بنيامين وحده فقال لو كان أخي يوسف حيًّا لأجلست معه؟ فقال
يوسف: بقي أخوكم وحيدًا فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله
فلما كان الليل أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتًا وقال هذا
لا ثاني له آخذه معي فآواه إليه.
(السقاية) يريد قوله: {فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية}
[يوسف: 70] (مكيال) إناء كان يوسف عليه الصلاة والسلام
يشرب به فجعله مكيالاً لئلا يكتالوا بغيره فيظلموا.
قوله: فلما ({استيأسوا}) [يوسف: 80] أي (يئسوا) من يوسف
وإجابته إياهم وزيادة السين
(7/175)
والتاء للمبالغة.
قوله: {ولا تيأسوا من روح الله} [يوسف: 87] (معناه الرجاء)
وروح الله تعالى بفتح الراء رحمته وتنفيسه وعن قتادة من
فضل الله وقيل من فرج الله.
وقوله: ({خلصوا نجيًّا}) أي (اعترفوا) وللكشميهني اعتزلوا
(نجيا) وهو الصواب أي انفردوا وليس معهم أخوهم أو خلا
بعضهم إلى بعض يتشاورون ولا يخالطهم غيرهم ونجيًا حال من
فاعل خلصوا والنجي يستوي فيه المذكر والمؤنث (والجمع
أنجية) بالهمز (يتناجون الواحد نَجيّ والاثنان والجمع
نجيّ) إما لأن النجي فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والخليط
بمعنى المخال والمعاشر كقوله تعالى: {وقربناه نجيًا}
[مريم: 52] أي مناجيًا وهذا في الاستعمال يفرد مطلقًا يقال
هم خليطك وعشيرك أي مخالطوك ومعاشروك، وإما لأنه صفة على
فعيل بمنزلة صديق وبابه يوحد لأنه بمنزلة المصادر كالصهيل
والوخيد، وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل النجوى
بمعناه قال تعالى: {وإذ هم نجوى} [الإسراء: 47] وحينئذٍ
فيكون فيه التأويلات المذكورة في عدل وبابه (و) قد يجمع
فيقال: (أنجية) بالهمزة كما مرّ قال:
إني إذا ما القوم كانوا أنجية
وقال لبيد:
وشهدت أنجية الافاقة عاليًا ... كعبي وأرداف الملوك شهود
وكان من حقه إذا جعل وصفًا أن يجمع على أفعلاء كغني
وأغنياء وشقي وأشقياء. وقال البغوي النجي يصلح للجماعة كما
قال وقربناه نجيًا، وإنما جاز للواحد والجمع لأنه مصدر جعل
نعتًا كالعدل ومثله النجوى يكون اسمًا ومصدرًا قال تعالى:
{وإذ هم نجوى} أي متناجون وقال: ما يكون من نجوى ثلاثة.
وقال في المصدر إنما النجوى من الشيطان. قال في المفاتيح:
وأحسن الوجوه أن يقال: إنهم تمحضوا تناجيًا لأن من كمل
حصول أمر من الأمور فيه وصف بأنه صار عين ذلك الشيء، فلما
أخذوا في التناجي إلى غاية الجد صاروا كأنهم في أنفسهم نفس
التناجي وحقيقته وسقط من قوله: استيأسوا يئسوا الخ في
رواية أبي ذر عن الحموي وثبت له عن الكشميهني والمستملي.
وقوله تعالى: {تالله} ({تفتأ}) بالألف صورة الهمزة ولأبي
ذر: تفتئوا بالواو وهو جواب القسم على حذف لا وهي ناقصة
بمعنى (تزال) ومنه قول الشاعر:
تالله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس
أي لا يبقى. وقوله:
فقلت يمين الله أبرح قاعدًا
ويدل على حذفها أنه لو كان مثبتًا لاقترن بلام الابتداء
ونون التوكيد عند البصريين أو بأحدهما عند الكوفيين وتقول:
والله أحبك تريد لا أحبك وهو من التورية فإن كثيرًا من
الناس يتبادر ذهنه إلى إثبات المحبة.
وقوله: {حتى تكون} ({حرضًا}) أي (محرضًا) بضم الميم وفتح
الراء (يذيبك الهم) والمعنى لا تزال تذكر يوسف بالحزن
والبكاء عليه حتى تموت من الهم والحرض في الأصل مصدر ولذلك
لا يثنى ولا يجمع تقول هو حرض وهم حرض وهي حرض وهن حرض.
({تحسسوا}) يريد قوله تعالى: {يا بني اذهبوا فتحسسوا}
[يوسف: 87] أي (تخبروا) خبرًا من أخبار يوسف وأخيه والتحسس
طلب الشيء بالحاسة.
({مزجاة}) بالرفع لأبي ذر ولغيره مزجاة بالجر حكاية قوله:
{وجئنا ببضاعة مزجاة} [يوسف: 88] أي (قليلة) بالرفع لأبي
ذر ولغيره قليلة بالجر وقيل رديئة وقوله تعالى: {أفأمنوا
أن تأتيهم} ({غاشية}) (من عذاب الله) أي عقوبة (عامة
مجللة) بفتح الجيم وكسر اللام الأولى مشددة من جلل الشيء
إذا عمه صفة لغاشية.
1 - باب قَوْلِهِ: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى
آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 6]
(باب قوله) جل وعلا خطابًا ليوسف عليه الصلاة والسلام
({ويتم نعمته عليك}) بالنبوّة أو بسعادة الدارين ({وعلى آل
يعقوب}) سائر بنيه بالنبوّة وكرر على ليمكن العطف على
الضمير المجرور ({كما أتمها على أبويك}) جدك وجد أبيك
بالرسالة ({من قبل}) أي من قبلك ({إبراهيم وإسحاق}) [يوسف:
6] بدل من أبويك أو عطف بيان وقيل إتمام النعمة على
إبراهيم بالخلة وعلى إسحاق لإخراج يعقوب والأسباط من صلبه
وسقط لأبي ذر
(7/176)
إبراهيم إسحاق وقال بعد قوله من قبل الآية.
4688 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«الْكَرِيمُ بْنُ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ بْنِ
الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ».
وبه قال: (قال: حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (عبد الله
بن محمد) المسندي وفي الفرع كأصله، وقال حدّثنا عبد الله
بن محمد بواو العطف قبل قال وعند خلف في الأطراف كما نبه
عليه في الفتح، وقال عبد الله قال الحافظ ابن حجر: والأوّل
أولى أي لأن الثاني يقتضي المذاكرة لا التحديث قال:
(حدّثنا عبد الصمد) بن عبد الوارث التنوري (عن عبد الرحمن
بن عبد الله بن دينار عن أبيه) عبد الله (عن عبد الله بن
عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف) رفع خبر
المبتدأ وهو قوله الكريم (ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم).
وقد جمع يوسف عليه الصلاة والسلام مكارم الأخلاق مع شرف
النبوّة وكونه ابنًا لثلاثة أنبياء، وقد وقع قوله الكريم
ابن الكريم الخ موزونًا مقفى وهو لا ينافي قوله تعالى:
{وما علمناه الشعر} [يس: 69] إذ لم يقع هذا منه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قصدًا وسقط باب قوله لغير أبي
ذر وسقط له إبراهيم إسحاق وقال بعد قوله من قبل الآية.
وسبق الحديث عند المؤلّف في باب الأنبياء.
2 - باب قَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ
آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]
(باب قوله) جل وعز ({لقد كان في يوسف وإخوته}) قيل: هم
يهوذا وروبيل وشمعون ولاوى وربالون ويشجر ودنية ودان
ونفتالي وجاد وآشر والسبعة الأوّلون كانوا من ليا بنت خالة
يعقوب والأربعة الآخرون من سريتين زلفة وبلهة، فلما توفيت
ليا تزوّج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف ولم يقم
دليل على نبوّة أخوة يوسف، وذكر بعضهم أنه أوحي إليهم بعد
ذلك ولم يذكر مستندًا سوى قوله تعالى: {قولوا آمنًا بالله
وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم إسماعيل وإسحاق
ويعقوب والأسباط} [البقرة: 136] وهذا لا ينهض أن يكون
دليلاً لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط كما يقال
للعرب قبائل وللعجم شعوب ففيه أنه تعالى أوحى إلى الأنبياء
من أسباط بني إسرائيل فذكرهم إجمالاً لأنهم كثيرون، ولكن
لم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم بل ظاهر ما
في هذه السورة من أحوالهم وأفعالهم يدل على أنهم لم يكونوا
أنبياء على ما لا يخفى أي في قصصهم وحديثهم ({وآيات})
علامات ودلائل على قدرة الله وحكمته في كل شيء ولأبي ذر
آية بالتوحيد على إرادة الجنس وهي قراءة ابن كثير
({للسائلين}) [يوسف: 7] عن قصتهم أو على نبوّة محمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وثبت لفظ باب قوله
لأبي ذر عن المستملي وسقط لغيره.
4689 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا، عَبْدَةُ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ
النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: «أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاهُمْ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ؟
قَالَ: «فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ
ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ
خَلِيلِ اللَّهِ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ؟
قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟»
قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَخِيَارُكُمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا
فَقِهُوا». تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد) هو ابن سلام قال:
(أخبرنا عبدة) بفتح العين وسكون الموحدة وبعد الدال
المفتوحة هاء تأنيث ابن سليمان (عن عبيد الله) بضم العين
مصغرًا وهو العمري ولغير أبي ذر عبد الله بفتح العين (عن
سعيد بن أبي سعيد) كيسان المقبري (عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه) أنه (قال: سئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي الناس أكرم؟ قال):
(أكرمهم عند الله أتقاهم) قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله
أتقاكم} [الحجرات: 13] (قالوا ليس عن هذا نسألك؟ قال:
فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن
خليل الله) فضيلة خاصة بيوسف عليه الصلاة والسلام لم يشركه
فيها أحد ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضل من غيره مطلقًا
(قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فعن معادن العرب) أي عن
أصول العرب التي ينسبون إليها ويتفاخرون بها (تسألوني)
ولأبي ذر: تسألونني بنونين (قالوا: نعم) وإنما جعل الأنساب
معادن لما فيها من الاستعدادات المتفاوتة فمنها قابلة لفيض
الله تعالى على مراتب المعدنيات ومنها غير قابلة له وشبههم
بالمعادن لأنها أوعية للعلوم كما أن المعادن أوعية للجواهر
(قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)
بضم القاف ولأبي ذر فقهوا بكسرها فالوضيع العالم خير من
الشريف الجاهل، ولذا قيد بقوله إذا فقهوا (تابعه) أي تابع
عبدة (أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن عبيد الله) بضم العين
العمري وهذه المتابعة وصلها المؤلّف في أحاديث الأنبياء.
3 - باب قَوْلِهِ: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]
سَوَّلَتْ: زَيَّنَتْ
(باب قوله) تعالى: ({قال}) أي يعقوب لبنيه ({بل سوّلت})
(7/177)
قبل هذه الجملة جملة محذوفة تقديرها لم
يأكله الذئب بل سوّلت ({لكم أنفسكم أمرًا}) في شأنه ({فصبر
جميل}) [يوسف: 18] مبتدأ حذف خبره أي صبر جميل أمثل بي أو
خبر حذف مبتدؤه أي أمري صبر جميل وروي مرفوعًا الصبر
الجميل هو الذي لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر ويدل له {إنما
أشكو بثي وحزني إلى الله} [يوسف: 86] ودل قوله جميل على أن
الصبر قسمان.
جميل وهو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو الله تعالى المالك
الذي لا اعتراض عليه في تصرفه فيستغرق قلبه في هذا المقام
ويكون مانعًا له من الشكاية.
وغير الجميل هو الصبر لسائر الأغراض لا لأجل الرضا بقضاء
الله سبحانه وثبت قوله فصبر جميل لأبي ذر وقوله باب ولفظ
قوله له عن المستملي وسقط لغيره {سوّلت} (زينت) وسهلت قاله
ابن عباس.
4690 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ عَنِ
ابْنِ
شِهَابٍ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا
يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ
الزُّهْرِيَّ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ،
وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ،
وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا
فَبَرَّأَهَا اللَّهُ كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ
الْحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «إِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ
اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي
اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ» قُلْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لاَ
أَجِدُ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]
وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِنكُمْ} [النور: 11] الْعَشْرَ الآيَاتِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف الزهري وسقط ابن سعد لأبي ذر (عن صالح) هو
ابن كيسان (عن ابن شهاب) الزهري (قال) المؤلّف: (وحدّثنا
الحجاج) بن منهال السلمي الأنماطي البصري قال: (حدّثنا عبد
الله بن عمر النميري) بضم النون مصغرًا لنمر الحيوان
المشهور قال (حدّثنا يونس بن يزيد الأيلي) بفتح الهمزة
وسكون التحتية (قال سمعت الزهري) بن شهاب يقول (سمعت عروة
بن الزبير) بن العوّام (وسعيد بن المسيب) بفتح التحتية وقد
تكسر (وعلقمة بن وقاص) الليثي (وعبيد الله بن عبد الله)
بضم العين في الأول ابن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة
(عن حديث عائشة) -رضي الله عنها- (زوج النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال لها أهل الإفك) مسطح
وحمنة وحسان وعبد الله بن أبي وزيد بن رفاعة وغيرهم (ما
قالوا) من أبلغ ما يكون من الافتراء والكذب وسقط لأبي ذر
ما قالوا (فبرأها الله) تعالى من ذلك بما أنزله في سورة
النور قال الزهري (كل حدثني طائفة من الحديث) أي بعضًا منه
ولا يضر عدم التعيين إذ كل ثقة حافظ (قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لعائشة بعد أن أفاض الناس في
قول أصحاب الإفك كما بسط في غير ما موضع كباب تعديل النساء
بعضهن بعضًا وعقب غروة أنمار.
(إن كنت بريئة) مما نسب إليك (فسيبرئك الله) تعالى منه
(وإن كنت ألممت بذنب) أي أتيته من غير عادة (فاستغفري الله
وتوبي إليه) منه. قالت عائشة: (قلت إني والله لا أجد
مثلاً) وفي الشهادات: لا أجد لي ولكم مثلاً (إلا أبا يوسف)
يعقوب عليهما الصلاة والسلام إذ قال: ({فصبر جميل والله
المستعان على ما تصفون}) وكأنها من شدة كربها لم تتذكر اسم
يعقوب (وأنزل الله) عز وجل: ({إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة
منكم} العشر الآيات) من سورة النور وسقط لغير أبي ذر:
{عصبة منكم}.
4691 - حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
مَسْرُوقُ بْنُ الأَجْدَعِ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ
رُومَانَ وَهْيَ أُمُّ عَائِشَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا
وَعَائِشَةُ أَخَذَتْهَا الْحُمَّى فَقَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَعَلَّ فِي
حَدِيثٍ تُحُدِّثَ» قَالَتْ: نَعَمْ، وَقَعَدَتْ عَائِشَةُ
قَالَتْ: مَثَلِي
وَمَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ {بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
وبه قال: (حدّثنا موسى) هو ابن إسماعيل المنقري قال:
(حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن حصين) بضم الحاء
وفتح الصاد المهملتين ابن عبد الرحمن السلمي (عن أبي وائل)
شقيق بن سلمة أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (مسروق بن
الأجدع) بالجيم والدال والعين المهملتين (قال: حدّثتني)
بالإفراد أيضًا (أم رومان) بضم الراء وتفتح بنت عامر بن
عويمر بن عبد شمس.
قال الحافظ أبو نعيم: بقيت بعد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دهرًا طويلاً وفيه تأييد لتصريحه
بسماع مسروق منها فيكون الحديث متصلاً، وأما قول ابن سعد
أنها توفيت سنة ست ونزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قبرها، وقول الخطيب أن مسروقًا لم يسمع منها
فقال الحافظ ابن حجر: الراجح أن مستند قائل ذلك إنما هو ما
روي عن علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف أن أم رومان ماتت سنة
ست، وقد نبه البخاري في تاريخيه الأوسط والصغير على أنها
رواية ضعيفة فقال في فضل من مات في خلافة عثمان. قال علي
بن زيد عن القاسم: ماتت أم رومان في زمن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سنة ست. قال البخاري: وفيه
نظر وحديث مسروق أسند أي أصح إسنادًا، وقد جزم إبراهيم
الحربي
(7/178)
الحافظ بأن مسروقًا إنما سمع من أم رومان
في خلافة عمر فقد ظهر أن الذي وقع في الصحيح هو الصواب.
(وهي أم عائشة) رضي الله تعالى عنهما (قالت: بينا) بغير
ميم (أنا وعائشة أخذتها الحمى) في أحاديث الأنبياء بينا
أنا مع عائشة جالسة إذ ولجت علينا امرأة من الأنصار وهي
تقول فعل الله بفلان وفعل بفلان قالت فقلت لم؟ قالت: إنه
نمي ذكر الحديث، فقالت عائشة: أي حديث فأخبرتها قالت:
فسمعه أبو بكر -رضي الله عنه- ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: نعم فخرت مغشيًا عليها فما
أفاقت إلا وعليها حمى بنافض (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لعل) الذي حصل لها (في حديث) أي من أجل حديث (تحدث) به في
حقها وهو حديث الإفك وتحدث بضم أوّله مبنيًّا للمفعول
(قالت) أم رومان (نعم وقعدت عائشة قالت: مثلي ومثلكم
كيعقوب وبنيه {بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل والله
المستعان على ما تصفون}) أي صفتي كصفة يعقوب عليه الصلاة
والسلام حيث صبر صبرًا جميلاً وقال: والله المستعان، وسقط
قوله: {بل سوّلت لكم أنفسكم إلى جميل} لغير أبي ذر.
4 - باب قَوْلِهِ: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي
بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]
وَقَالَ عِكْرِمَةُ هَيْتَ لَكَ بِالْحَوْرَانِيَّةِ:
هَلُمَّ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: تَعَالَهْ
(باب قوله) عز وجل: ({وراودته}) امرأة العزيز ({التي هو في
بيتها}) بمصر ({عن
نفسه}) وذلك أنه كان في غاية الجمال والبهاء والكمال
فدعاها ذلك إلى أن طلبت منه برفق ولين قول أن يواقعها
والمراودة المصدر والريادة طلب النكاح يقال: راود فلان
جاريته على نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد
منهما الوطء، وتعد هنا بعن لأنه ضمن معنى خادعته أي خادعته
عن نفسه، والمفاعلة هنا من واحد نحو داويت المريض، ويحتمل
أن تكون على بابها فإن كلًا منهما كان يطلب من صاحبه شيئًا
برفق هي تطلب منه الفعل وهو يطلب منها الترك ({وغلقت
الأبواب}) قيل كانت سبعة والتشديد للتكثير ({وقالت هيت
لك}) [يوسف: 23] ولأبي ذر: هيت بكسر الهاء وهما لغتان.
(وقال عكرمة) مولى ابن عباس: (هيت لك بـ) اللغة
(الحورانية) بالحاء المهملة (هلم) وهذا وصله ابن جرير عن
عكرمة عن ابن عباس وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وكان
الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز وسقط
لك لابن عساكر.
(وقال ابن جبير): سعيد أي (تعاله) بهاء السكت وهذا وصله
الطبري وأبو الشيخ من طريقه. وقال السدي: معرّبة من
القبطية بمعنى هلم لك، وقال ابن عباس والحسن من السريانية،
وقيل من العبرانية والجمهور على أنها عربية، وقال مجاهد هي
كلمة حث وإقبال أي أقبل وبادر، ثم هي في بعض اللغات تتعين
فعليتها وفي بعضها اسميتها وفي بعضها يجوز الأمران كما
ستعرفه من القراءات إن شاء الله تعالى.
4692 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ: قَالَتْ: هَيْتَ لَكَ، قَالَ: وَإِنَّمَا
نَقْرَؤُهَا كَمَا عُلِّمْنَاهَا، مَثْوَاهُ: مُقَامُهُ،
وَأَلْفَيَا: وَجَدَا. أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ: أَلْفَيْنَا،
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}
[الصافات: 12].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (أحمد بن سعيد) بكسر العين أبو
جعفر الدارمي المروزي قال: (حدّثنا بشر بن عمر) بكسر
الموحدة وسكون المعجمة وعمر بضم العين الأزدي البصري قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن مهران الأعمش (عن
أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد الله بن مسعود) رضي الله
تعالى عنه وسقط لفظ عبد الله لأبي ذر (قالت: هيت لك) بفتح
الهاء والفوقية، ولأبي ذر: هيت بكسر الهاء وضم الفوقية من
غير همز فيهما (قال: وإنما نقرؤها) بالنون لأبي ذر ولغيره
يقرؤها بالياء (كما علمناها) بضم العين مبنيًّا للمفعول
وهذا قد أورده المؤلّف مختصرًا.
وقد أخرجه عبد الرزاق كما قاله الحافظان ابن كثير وابن حجر
عن الثوري عن الأعمش بلفظ: إني سمعت القراءة فسمعتهم
متقاربين فاقرؤوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف
فإنما هو كقول الرجل هلم وتعال ثم قرأ ({وقالت هيت لك})
فقلت إن ناسًا يقرؤنها هيت لك قال
لأن أقرأها كما علمت أحب إليّ، وكذا أخرجه ابن مردويه من
طريق طلحة بن مصرف عن أبي وائل أن ابن مسعود قرأها هيت لك
بالفتح ومن طريق سليمان التيمي عن الأعمش بإسناده لكن قال:
بالضم، وروى عبد بن حميد من طريق أبي وائل قال: قرأها عبد
الله بالفتح فقلت له: إن الناس يقرؤونها بالضم
(7/179)
فذكره قال في الفتح وهذا أقوى وقراءة ابن
مسعود بكسر الهاء وبالضم أو بالفتح بغير همز وروى عبد بن
حميد عن أبي وائل أنه كان يقرؤها كذلك لكن بالهمز اهـ.
وفي هذه اللفظة خمس قراءات فنافع وابن ذكوان وأبو جعفر
بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة، وابن كثير بفتح الهاء
وياء ساكنة وتاء مضمومة، وهشام بهاء مكسورة وهمزة ساكنة
وتاء مفتوحة أو مضمومة، والباقون بفتح الهاء وياء ساكنة
وتاء مفتوحة. وعن ابن محيصن فتح الهاء وسكون الياء وكسر
التاء وكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة وكسر الهاء
وسكون الياء وضم التاء وعن ابن عباس هييت بضم الهاء وكسر
الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بوزن حييت فهي أربعة
في الشاذ فصارت تسعة فيتعين كونها اسم فعل في غير قراءة
ابن عباس بزنة حييت، وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كان ذلك
بالياء أو بالهمز فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفًا
نحو أين وكيف، ومن ضمها فتشبيهًا بحيث، ومن كسر فعلى أصل
التقاء الساكنين وتتعين فعليتها في قراءة ابن عباس فإنها
فيها فعل ماضٍ مبني للمفعول مسند لضمير المتكلم من هيأت
الشيء وتحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء وضم التاء
فيحتمل أن تكون فيه اسم فعل بنيت على الضم كحيث وأن تكون
فعلاً مسند الضمير المتكلم من هاء الرجل يَهيءُ كجاء يجيء.
وقوله تعالى: أكرمي ({مثواه}) أي (مقامه) بضم الميم قاله
أبو عبيدة.
({وألفيا}) أي (وجدا ألفوا آباءهم ألفينا. وعن ابن مسعود)
عبد الله مما وصله الحاكم في مستدركه من طريق جرير عن
الأعمش في قوله تعالى في سورة الصافات ({بل عجبت ويسخرون})
[الصافات: 12] بضم التاء كما يقرأ هيت بالضم. وعند ابن أبي
حاتم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ بل
عجبتُ بالرفع وعن سعيد بن جبير بل عجبت الله عجب، وإذا ثبت
الرفع فليس لإنكاره معنى بل يحمل على ما يليق به تعالى.
4693 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا
أَبْطَئُوا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِالإِسْلاَمِ قَالَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ
بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ» فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ
حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ حَتَّى
جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِثْلَ الدُّخَانِ قَالَ اللَّهُ:
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ
مُبِينٍ} [الدخان: 15] قَالَ اللَّهُ: {إِنَّا كَاشِفُو
الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ أَفَيُكْشَفُ
عَنْهُمُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ} [الدخان: 15]
وَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَمَضَتِ الْبَطْشَةُ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير المكي قال
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن
الأعمش) سليمان (عن مسلم) هو ابن صبيح بضم الصاد المهملة
وفتح الموحدة آخره حاء مهملة مصغرًا (عن مسروق) هو ابن
الأجدع (عن عبد الله) هو ابن مسعود (رضي الله تعالى عنه)
ذكر (أن قريشًا لما أبطؤوا عن النبي) ولأبي ذر على النبي
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالإسلام) زاد في
الاستسقاء دعا عليهم (قال):
(اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة) بفتح السين
أي جدب وقحط (حصّت) بالحاء والصاد المشدّدة المهملتين أي
أذهبت (كل شيء حتى أكلوا العظام) زاد في الاستسقاء والميتة
(حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها مثل
الدخان) من ضعف بصره بسبب الجوع (قال الله) عز وجل، وفي
الاستسقاء فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة
الرحم وإن قومك هلكوا فادع الله تعالى فقرأ: ({فارتقب يوم
تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 15] (قال الله) عز وجل:
({إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون}) [الدخان: 15] أي
إلى الكفر وفي الاستسقاء في باب دعاء النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجعلها سنين كسني يوسف يوم
تأتي السماء بدخان مبين إلى قوله عائدون وفي سورة الدخان
فاستسقى فسقوا فنزلت {إنكم عائدون} فلما أصابتهم الرفاهية،
فأنزل الله عز وجل: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون}
[الدخان: 16] قال عبد الله ({أفيكشف}) بضم الياء وفتح
الشين مبنيًّا ({عنهم العذاب يوم القيامة} وقد مضى الدخان)
الحاصل بسبب الجوع (ومضت البطشة) الكبرى يوم بدر وعن الحسن
البطشة الكبرى يوم القيامة.
ووجه المناسبة بين الحديث والترجمة في قوله: فجاء أبو
سفيان، فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك قد
هلكوا فادع الله فدعا ففيه أنه عفا عن قومه كما عفا يوسف
عليه الصلاة والسلام عن امرأة العزيز.
5 - باب قَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ:
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ
اللاَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي
بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ
رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ}
[يوسف: 50، 51] وَحَاشَ وَحَاشَا: تَنْزِيهٌ
وَاسْتِثْنَاءٌ: حَصْحَصَ: وَضَحَ
(باب قوله) جل وعلا ({فلما جاءه الرسول}) رسول الملك
ليخرجه من السجن ({قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة
اللاتي قطعن أيديهن}) أي سله
(7/180)
عن حقيقة شأنهن ليعلم براءتي عن تلك التهمة
وأراد بذلك حسم مادّة الفساد عنه لئلا ينحط قدره عند الملك
ولعل معظم غرضه عليه الصلاة والسلام أن لا يقع خلل في
الدعوة وإظهار النبوّة وقال فاسأله ما بال النسوة ولم يقل
فاسأله أن يفتش عن حالهن تهييجًا له على البحث وتحقيق
الحال ولم يتعرض لامرأة العزيز مع ما صنعت به كرمًا
ومراعاة للأدب وعبر بما التي يسأل بها عن حقيقة الشيء
ظاهرًا ({إن ربي}) العالم بخفيات الأمور ({بكيدهن عليم})
حين قلن أطع مولاتك أو أن كل واحدة منهن طمعت فيه فلما لم
تجد مطلوبها منه طعنت فيه ونسبته إلى القبيح، فرجع الرسول
من عند يوسف إلى الملك
فدعا النسوة وامرأة العزيز فلما حضرن ({قال}) لهن ({ما
خطبكن}) أي ما شأنكن ({إذ روادتن يوسف عن نفسه}) هل وجدتن
منه ميلاً إليكن فنزّهنه، متعجبات من كمال عفته حيث ({قلن
حاش لله}) [يوسف: 50، 51] (وحاش) بغير ألف بعد الشين
(وحاشا) بها لفظًا (تنزيه) فتكون اسمًا ويدل له قراءة
بعضهم حاشا لله بالتنوين (واستثناء) وذهب سيبويه وأكثر
البصريين إلى أنها حرف بمنزلة إلا لكنها تجر المستثنى.
وقوله: ({حصحص}): أي (وضح) الحق بانكشاف ما يغمره وهو معنى
قول بعض المفسرين، وقيل ظهر من حص شعره أي استأصل قطعه
بحيث ظهرت بشرته وهذا إنما قالته امرأة العزيز لما علمت أن
هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها، وقيل: إن
النسوة أقبلن عليها يقررنها وقيل خافت أن يشهدن عليها
فاعترفت وهذه شهادة جازمة لما راعى جانبها ولم يذكرها
البتة فعرفت أنه ترك ذكرها تعظيمًا لها فكافأته على ذلك
فكشفت الغطاء واعترفت أن الذنب كله من جانبها وأنه كان
مبرأ عن الكل وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
4694 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ
مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى
رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ
يُوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ مِنْ
إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لَهُ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ
بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (سعيد بن
تليد) بفتح الفوقية وكسر اللام وبعد التحتية الساكنة دال
مهملة هو سعيد بكسر العين ابن عيسى بن تليد المصري قال:
(حدّثنا عبد الرحمن بن القاسم) المصري العتقي صاحب الإمام
مالك (عن بكر بن مضر) بفتح الموحدة وسكون الكاف ومضر بضم
الميم وفتح المعجمة ابن محمد المصري (عن عمرو بن الحارث)
بفتح العين ابن يعقوب بن عبد الله مولى قيس بن سعد بن
عبادة الأنصاري المصري الفقيه المقري أحد الأئمة الأعلام
(عن يونس بن يزيد) الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن سعيد
بن المسيب) المخزومي أحد الأعلام (وأبي سلمة بن عبد
الرحمن) بن عوف (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يرحم الله لوطاً) هو ابن أخي إبراهيم الخليل وكان ممن آمن
وهاجر معه إلى مصر (لقد كان يأوي إلى ركن شديد) يشير إلى
قوله تعالى: {قال لو أن لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد}
[هود: 80] (ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف) ولأبي ذر: ولو
لبثت في السجن ما لبث يوسف بضم اللام وسكون الموحدة، وكان
قد لبث سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات كما قيل
(لأجبت الداعي) لأسرعت إلى الإجابة إلى الخروج من السجن.
قال محيي السنّة إنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وصف يوسف عليه الصلاة والسلام بالأناة والصبر حيث لم يبادر
إلى الخروج حين جاءه رسول الملك فعل المذنب حين يعفى عنه
مع طول لبثه في السجن، بل قال {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال
النسوة اللاتي قطعن أيديهن} [يوسف: 50] أراد أن يقيم الحجة
في حبسهم إياه ظلمًا فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على سبيل التواضع لا أنه صلوات الله وسلامه
عليه كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتواضع لا يصغر
كبيرًا ولا يضع رفيعًا ولا يبطل لذي حق حقًّا لكنه يوجب
لصاحبه فضلاً ويكسبه جلالاً وقدرًا (ونحن أحق من إبراهيم)
في سورة البقرة وغيرها ونحن أحق بالشك من إبراهيم يعني لو
كان الشك متطرقًا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به وقد علمتم
أني لم أشك فإبراهيم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لم يشك ({إذ قال له}) ربه جل وعلا ({أولم تؤمن}) بعد قوله:
{رب أرني كيف تحيي الموتى}
(7/181)
({قال بلى}) آمنت ({ولكن}) سألتك أن تريني
كيف الإحياء ({ليطمئن قلبي}) [البقرة: 260] فلم يكن شك في
القدرة على الإحياء، بل أراد الترقي من علم اليقين إلى عين
اليقين مع مشاهدة الكيفية.
6 - باب قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}
[يوسف: 110]
(باب قوله) تعالى: ({حتى إذا استيأس الرسل}) [يوسف: 110]
ليس في الكلام شيء تكون حتى غاية له ولذا اختلف في تقدير
شيء يصح تغييته بحتى فقدره الزمخشري وما أرسلنا من قبلك
إلا رجالاً فتراخى نصرهم حتى وقدره القرطبي وما أرسلنا من
قبلك يا محمد إلا رجالاً ثم لم نعاقب أمتهم بالعقاب حتى
إذا وقدره ابن الجوزي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً فدعوا
قومهم فكذبوهم وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى. قال في
اللباب وأحسنها الأول اهـ.
4695 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ لَهُ
وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى
إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قَالَ: قُلْتُ أَكُذِبُوا
أَمْ كُذِّبُوا؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: كُذِّبُوا، قُلْتُ:
فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ،
فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ قَالَتْ: أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدِ
اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهَا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا، قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ
تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا قُلْتُ: فَمَا
هَذِهِ الآيَةُ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ
الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الْبَلاَءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ
حَتَّى اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ
قَوْمِهِمْ وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ
كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ.
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) بن أويس أبو
القاسم القرشي الأويسي المدني الأعرج قال: (حدّثنا إبراهيم
بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف
الزهري (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب) الزهري أنه
(قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (عن
عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت له) أي لعروة وسقط لفظ
له
لأبي ذر: (وهو) أي والحال أنه (يسألها عن قول الله تعالى
{حتى إذا استيأس الرسل} قال) أي عروة: (قلت) لها: (أكذبوا)
بتخفيف المعجمة المكسورة بعد ضم الكاف (أم كذبوا) بتشديدها
(قالت عائشة كذبوا) مشددة كما صرح به في الثلاثة في رواية
الإسماعيلي تخفيفًا وتشديدًا قال عروة (قلت) لها: (فقد
استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن قالت) أي عائشة
(أجل) تعني نعم (لعمري لقد استيقنوا بذلك) ولم يظنوا قال
عروة (فقلت لها وظنوا أنهم قد كذبوا) بالتخفيف فردت عليه
حيث (قالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها) وهذا
ظاهره أنها أنكرت قراءة التخفيف بناء على أن الضمير للرسل
ولعلها لم تبلغها، فقد ثبتت متواترة في قراءة الكوفيين في
آخرين ووجهت بأن الضمير في وظنوا عائد على المرسل إليهم
لتقدمهم في قوله: كيف كان عاقبة الدين من قبلهم، والضمير
أي في أنهم وكذبوا على الرسل أي وظن المرسل إليهم أن الرسل
قد كذبوا أي كذبهم من أرسلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم أو
أن الضمائر كلها ترجع إلى المرسل إليهم أي ظن المرسل إليهم
أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوا من النبوّة فيما يوعدون به
من لم يؤمن من العقاب أو كذبهم المرسل إليهم بوعد الإيمان،
وقول الكرماني لم تنكر عائشة القراءة وإنما أنكرت التأويل
خلاف الظاهر.
قال عروة: (قلت) لها: (فما هذه الآية؟ قالت هم أتباع الرسل
الذين آمنوا بربهم وصدقوهم) أي وصدقوا الرسل (فطال عليهم
البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم
من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم) فالضمائر كلها
على قراءة التشديد عائدة على الرسل أي وظن الرسل أنهم قد
كذبهم أممهم فيما جاؤوا به لطول البلاء عليهم (جاءهم نصر
الله عند ذلك) وحصلت النجاة لمن تعلقت به مشيئته وهم النبي
والمؤمنون والظن هنا بمعنى اليقين أو على حقيقته وهو رجحان
أحد الطرفين.
4696 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ
فَقُلْتُ لَعَلَّهَا كُذِبُوا مُخَفَّفَةً قَالَتْ:
مَعَاذَ اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة) بن الزبير (فقلت) أي
لعائشة (لعلها كذبوا مخففة قالت معاذ الله نحوه) أي فذكرت
نحو حديث صالح بن كيسان، وقد ساقه المؤلّف مختصرًا وأورده
أبو نعيم في مستخرجه تامًّا ولفظه عن عروة أنه سأل عائشة
فذكره نحو السابقة.
[13]- سورة الرَّعْدِ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ}: مَثَلُ الْمُشْرِكِ
الَّذِي عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ كَمَثَلِ
الْعَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى خَيَالِهِ فِي
الْمَاءِ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ
وَلاَ
يَقْدِرُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَخَّرَ: ذَلَّلَ،
{مُتَجَاوِرَاتٌ}: مُتَدَانِيَاتٌ {الْمَثُلاَتُ}:
وَاحِدُهَا مَثُلَةٌ، وَهْيَ الأَشْبَاهُ وَالأَمْثَالُ.
وَقَالَ: {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا}
[يونس: 102] بِمِقْدَارٍ: بِقَدَرٍ {مُعَقِّبَاتٌ}:
مَلاَئِكَةٌ حَفَظَةٌ تُعَقِّبُ الأُولَى مِنْهَا
الأُخْرَى وَمِنْهُ قِيلَ الْعَقِيبُ يُقَالُ: عَقَّبْتُ
فِي إِثْرِهِ. {الْمِحَالُ}: الْعُقُوبَةُ. {كَبَاسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ}: لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ.
{رَابِيًا}: مِنْ رَبَا يَرْبُو. {أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ}:
مِثْلُهُ الْمَتَاعُ، مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ. {جُفَاءً}:
أَجْفَأَتِ الْقِدْرُ: إِذَا غَلَتْ فَعَلاَهَا الزَّبَدُ
ثُمَّ تَسْكُنُ فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ بِلاَ مَنْفَعَةٍ
فَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ.
{الْمِهَادُ}: الْفِرَاشُ. {يَدْرَءُونَ}: يَدْفَعُونَ
دَرَأْتُهُ دَفَعْتُهُ. {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}: أَيْ
يَقُولُونَ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ. {وَإِلَيْهِ مَتَابِ}:
تَوْبَتِى. {أَفَلَمْ يَيْأَسْ}: لَمْ يَتَبَيَّنْ.
{قَارِعَةٌ}: دَاهِيَةٌ. {فَأَمْلَيْتُ}: أَطَلْتُ مِنَ
الْمَلِيِّ وَالْمُلاَوَةُ وَمِنْهُ. {مَلِيًّا}:
وَيُقَالُ لِلْوَاسِعِ الطَّوِيلِ مِنَ الأَرْضِ مَلًى
مِنَ الأَرْضِ. {أَشَقُّ}: أَشَدُّ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
{مُعَقِّبَ}: مُغَيِّرٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
{مُتَجَاوِرَاتٌ}: طَيِّبُهَا وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ.
{صِنْوَانٌ}: النَّخْلَتَانِ، أَوْ أَكْثَرُ فِي أَصْلٍ
وَاحِدٍ. {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}: وَحْدَهَا. {بِمَاءٍ
وَاحِدٍ}: كَصَالِحِ بَنِي آدَمَ وَخَبِيثِهِمْ أَبُوهُمْ
وَاحِدٌ. {السَّحَابُ الثِّقَالُ}: الَّذِي فِيهِ
الْمَاءُ. {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ}: يَدْعُو الْمَاءَ
بِلِسَانِهِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ فَلاَ يَأْتِيهِ أَبَدًا.
{سَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}: تَمْلأُ بَطْنَ وَادٍ.
{زَبَدًا رَابِيًا}: زَبَدُ السَّيْلِ خَبَثُ الْحَدِيدِ
وَالْحِلْيَةِ.
([13] سورة الرعد)
مكية في قول ابن عباس ومجاهد وابن جبير مدنية في قول قتادة
إلا {ولا يزال الذين كفروا} وعنه من أولها إلى {ولو أن
قرآنًا} وهي خمس وأربعون آية.
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(قال ابن عباس): سقطت البسملة لغير أبي ذر وزاد واوًا قبل
قال ابن عباس: ({كباسط كفيه}) يريد قوله تعالى: {له
(7/182)
دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا
يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما
هو ببالغه} [الرعد: 14] أي (مثل المشرك الذي عبد مع الله
إلهًا غيره) ولأبي ذر إلهًا آخر غيره (كمثل العطشان الذي
ينظر إلى خياله) ولأبي ذر: إلى ظل خياله (في الماء من بعيد
وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر) أي عليه وهذا وصله ابن أبي
حاتم وابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ويجوز
أن يراد بالموصول في قوله والذين يدعون المشركون فالواو في
يدعون عائده ومفعوله محذوف وهو الأصنام والواو في لا
يستجيبون عائد على مفعول يدعون المحذوف وعاد عليه الضمير
كالعقلاء لمعاملتهم إياه معاملتهم، والتقدير والمشركون
الذين يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام إلا استجابة
كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه
والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه ولا يقدر أن
يجيبه ويبلغ فاه فوجه التشبيه عدم قدره المدعو على تحصيل
مراده بل عدم العلم بحال الداعي أو شبهوه في عدم فائدة
دعائهم بمن بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء قد
وضعهما لا يبلغان فاه رواه
الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس أو كطالب الماء من
البئر بلا دلو ولا رشاء يمدّ يده إليها ليرتفع الماء إليه.
رواه الطبري أيضًا من طريق أبي أيوب عن علي.
(وقال غيره) أي غير ابن عباس في قوله تعالى: ({سخر}) أي
(ذلل) الشمس والقمر لما يقصد منهما كتذليل المركوب للراكب
أو لنيل منافعهما، وسقط هذا لأبي ذر، وفي اليونينية سخر
ذلك بكاف بعد اللام وهي مصلحة في الفرع لامًا هو الذي
رأيته في النسخ المعتمدة كنسخة آل ملك.
({متجاورات}) ومراده قوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات}
[الرعد: 4] أي (متدانيات) في الأوضاع مختلفة باعتبار كونها
طيبة وسبخة رخوة وصلبة صالحة للزرع والشجر أو لأحدهما وغير
صالحة لشيء مع أن تأثير الشمس وسائر الكواكب فيها على
السواء فلم يكن ذلك بسبب الاتصالات الفلكية والحركات
الكوكبية وكذلك أشجارها وزروعها مختلفة جنسًا ونوعًا
وطعمًا مع أنها تسقى بماء واحد فلا بد من مخصص يخصص كلاًّ
منها بخاصية دون أخرى وما ذلك إلا إرادة الفاعل المختار
وفي نسخة هنا وقال مجاهد متجاورات طيبها عذبها وخبيثها
السباخ هذا وصله أبو بكر بن المنذر من طريق ابن أبي نجيح
عن مجاهد.
({المثلات}) في قوله: {وقد خلت من قبلهم المثلات} [الرعد:
6] ولأبي ذر وقال غيره المثلات (واحدها مثلة) بفتح الميم
وضم المثلثة كسمرة وسمرات (وهي الأشباه والأمثال) قال أبو
عبيدة وعند الطبري من طريق معمر عن قتادة قال: المثلات
العقوبات. وقال ابن عباس: العقوبات المستأصلات كمثلة قطع
الأذن والأنف ونحوهما وسميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب
من المماثلة كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40]
(وقال) تعالى: ({إلا مثل أيام الذين خلوا}) [يونس: 102].
وقوله تعالى: {وكل شيء عنده} ({بمقدار}) [الرعد: 8] أي
(بقدر) لا يجاوزه ولا ينقص عنه والعندية يحتمل أن يكون
المراد بها أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة
بمشيئته الأزلية وإرادته السردية وعند حكماء الإسلام أنه
تعالى وضع أشياء كلية وأودع فيها قوى وخواص وحرّكها بحيث
يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية
متعينة ومناسبات مخصوصة متقدرة ويدخل في هذه الآية أفعال
العباد وأحوالهم وخواطرهم وهي من أدل الدلائل على بطلان
قول المعتزلة.
وقوله: له ({معقبات}) ولأبي ذر يقال معقبات أي (ملائكة
حفظة) يحفظونه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام من
بين يديه ومن خلفه ليلاً ونهارًا (تعقب) في حفظه (الأولى
منها الأخرى) فإذا صعدت ملائكة النهار عقبتها ملائكة الليل
وبالعكس.
وأخرج الطبري من طريق كنانة العدوي أن عثمان سأل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن عدد الملائكة
الموكلين بالآدمي فقال: لكل آدمي عشرة بالليل وعشرة
(7/183)
بالنهار واحد عن يمينه وآخر عن شماله
واثنان من بين يديه ومن خلفه واثنان على جبينه وآخر قابض
على ناصيته فإن تواضع رفعه وإن تكبر وضعه واثنان على شفتيه
ليس يحفظان عليه إلا الصلاة على محمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والعاشر يحرسه من الحية أن تدخل فاه
يعني إذا نام.
(ومنه) أي ومن أصل المعقبات (قيل العقيب) للذي يأتي في أثر
الشيء (يقال عقبت) ولأبي ذر قيل العقيب أي عقبت (في أثره)
بتشديد القاف في الفرع كأصله وضبطه الدمياطي.
قال الزمخشري: وأصل معقبات متعقبات فأدغمت التاء في القاف
كقوله وجاء المعذرون أي المعتذرون ويجوز معقبات بكسر العين
وتعقبه أبو حيان فقال هذا وهم فاحش فإن التاء لا تدعم في
القاف ولا القاف في التاء لا من كلمة ولا من كلمتين وقد نص
التصريفيون على أن القاف والكاف كل منهما يدغم في القاف
ولا يدغمان في غيرها ولا يدغم غيرهما فيهما، وأما تشبيهه
بقوله تعالى: {وجاء المعذرون} [التوبة: 90] فلا يتعين أن
يكون أصله المعتذرون، وأما قوله ويجوز معقبات بكسر العين
فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات فأدغمت التاء
في القاف، وقد بينا أن ذلك وهم فاحش والضمير في له يعود
على المكررة أي لمن أسر القول ولمن جهر به ولمن استخفى
ولمن سرب جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضًا أو يعود على
من الأخيرة وهو قول ابن عباس. قال ابن عطية: فالمعقبات على
هذا حرس الرجل الذين يحفظونه. قالوا: والآية على هذا في
الرؤساء الكفار، واختاره الطبري في آخرين إلا أن الماوردي
ذكر على هذا التأويل أن الكلام نفي والتقدير لا يحفظونه،
وهذا ينبغي أن لا يسمع البتة كيف يبرز كلام موجب ويراد به
نفي وحذف لا إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعًا في جواب قسم
نحو تالله تفتأ وقد تقدم تحريره وإنما معنى الكلام كما قال
المهدوي يحفظونه من أمر الله في زعمه وظنه اهـ.
ومن إما للسبب أي بسبب أمر الله أو على بابها. قال أبو
البقاء: من أمر الله من الجن والإنس وذكر الفراء أنه على
التقديم والتأخير أي له معقبات من أمر الله يحفظونه لكن
قال في الدر: والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه وأخرج
الطبري من طريق سعيد بن جبير قال حفظهم إياه من أمر الله.
({المحال}) يريد قوله: {وهم يجادلون في الله وهو شديد
المحال} [الرعد: 13] هو (العقوبة) قاله أبو عبيدة.
(وقوله تعالى: {كباسط كفيه على الماء} [الرعد: 14] ليقبض
على الماء) فلا يحصل منه على شيء قال:
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الودّ مثل القابض الماء
باليد
والمعنى أن الذي يبسط يده إلى الماء ليقبضه كما لا ينتفع
به كذلك المشركون الذين يعبدون مع الله آلهة غيره لا
ينتفعون بها أبدًا وقد مر قريبًا مزيد لهذا.
وقوله تعالى: {فاحتمل السيل زبدًا} ({رابيًا}) [الرعد: 17]
(من ربا يربو) أي إذا زاد وقال الزجاج: طافيًا فوق الماء
والزبد وضر الغليان وخبثه أو ما يحمله السيل من غثاء
ونحوه.
({أو متاع زبد} مثله المتاع ما تمتعت به) كالأواني وآلات
الحرث والحرب.
({جفاء}) قال أبو عمرو بن العلاء (أجفأت القدر) ولأبي ذر
يقال أجفأت القدر (إذا غلت فعلاها الزبد ثم تسكن فيذهب
الزبد بلا منفعة فكذلك يميز الحق من الباطل) وذلك أن هذا
الكلام ضربه للحق وأهله الشامل للقرآن وغيره والباطل وحزبه
فقوله: {أنزل من السماء ماء} مثل للقرآن والأودية مثل
للقولب أي أنزل القرآن فاحتملت منه القلوب على قدر اليقين
فالقلب الذي يأخذ منه ما ينتفع به فيحفظه ويتدبره تظهر
عليه ثمرته ولا يخفى أن بين القلوب في ذلك تفاوتًا عظيمًا
وقوله: {وأما الزبد} فهو مثل الباطل في قلة نفعه وسرعة
زواله.
({المهاد}) في قوله: {ومأواهم جهنم وبئس المهاد} [الرعد:
18] هو (الفراش) وهذا ساقط لأبي ذر ثابت لغيره.
(يدرؤون) في قوله: ({ويدرؤون}) [الرعد: 22] أي (يدفعون)
السيئة بمقابلتها بالحسنة وهذا وصف سيدنا رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التوراة
(7/184)
فيندرج تحته الدفع بالحسن من الكلام والوصل
في مقابلة قطع الأرحام وغيرهما من أخلاق الكرام وتغيير
منكرات أفعال اللئام (درأته عني) أي (دفعته) وسقط لغير أبي
ذر عني.
({سلام عليكم}) يريد قوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم
من كل باب سلام عليكم} [الرعد: 23] (أي يقولون سلام عليكم)
فأضمر القول ها هنا لأن في الكلام دليلاً عليه والقول
المضمر حال من فاعل يدخلون أي يدخلون قائلين سلام عليكم
بشارة بدوام السلامة.
({وإليه متاب}) [الرعد: 35] أي (توبتي). ومرجعي فيثيبني
على المشاق أو إليه أتوب عن سالف خطيئتي ولأبي ذر والمتاب
إليه توبتي.
وقوله: ({أفلم ييأس}) [الرعد: 31] أي (لم) ولأبي ذر فلم
(يتبين) وبها قرأ عليّ وابن عباس وغيرهما وردّه الفرّاء
بأنه لم يسمع يئست بمعنى علمت وأجيب: بأن من حفظ حجة على
من لم يحفظ ويدل على ذلك قراءة عليّ وغيره كما مر وقد قال
القاسم بن معن وهو من ثقات الكوفيين: هي لغة هوازن وقال
ابن الكلبي: هي لغة حيّ من النخع ومنه قول رباح بن عدي:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة
نائيا
وقول سحيم الرياحي:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس
زهدم
والمعنى أفلم يعلم المؤمنون أنه لو تعلقت مشيئة الله تعالى
على وجه الإلجاء بإيمان الناس جميعًا لآمنوا.
({قارعة}) أي (داهية) تقرعهم وتقلقلهم.
({فأمليت}) أي (أطلت) للذين كفروا المدة بتأخير العقوبة
(من الملي) بفتح الميم وكسر اللام
وتشديد التحتية قال في الصحاح الهويّ من الدهر يقال أقام
مليًا من الدهر قال تعالى: {واهجرني مليًا} [مريم: 46] أي
طويلاً ومضى مليّ من النهار أي ساعة طويلة (والملاوة) بكسر
الميم ولأبي ذر والملاوة بضمها يقال أقمت عنده ملاوة من
الدهر أي حينًا وبرهة (ومنه {مليًّا}) كما مر (ويقال
للواسع الطويل من الأرض): وهو الصحراء (ملى) بفتح الميم
مقصورًا كما في اليونينية وفرعها لأبي ذر وفي أصل
اليونينية ملى كذا (من الأرض) وسقط لأبي ذر من الأرض
الثاني.
({أشق}) أي (أشد من المشقّة) قاله أبو عبيدة.
({معقب} مغير) يريد قوله: {لا معقب لحكمه} [الرعد: 41] أي
لا مغير لإرادته ولا يعقبه أحد بالرد والإبطال.
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي في قوله تعالى:
({متجاورات} طيبها وخبيثها السباخ) وهذا قد ثبت في نسخة
قبل قوله المثلات كما مر.
({صنوان}) جمع صنو كقنوان جمع قنو (النخلتان أو أكثر في
أصل واحد) وفي الحديث "عم الرجل صنو أبيه" أي يجمعهما أصل
واحد ({وغير صنوان}) النخلة (وحدها {بماء واحد} كصالح بني
آدم وخبيثهم) قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم
فقلب يرق فيخشع ويخضع وقلب يسهو ويلهو والكل (أبوهم واحد).
وقوله: ({السحاب الثقال}) يريد قوله تعالى: {وينشئ السحاب
الثقال} [الرعد: 12] أي (الذي فيه الماء) قال: والسحاب اسم
جنس والواحد سحابة والثقال جمع ثقيلة لأنك تقول سحابة
ثقيلة وسحاب ثقال كما تقول امرأة كريمة ونساء كرام وقال
عليّ: السحاب غربال الماء.
وقوله تعالى: ({كباسط كفيه}) زاد أبو ذر إلى الماء أي
(يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدًا) إذ
لا إشعار له به وهذا وصله الفريابي والطبري من طرق عن
مجاهد وهو مثل الذين يدعون آلهة غير الله وسبق هذا في
موضعين من هذه السورة ({سالت}) ولأبي ذر: فسالت ({أودية
بقدرها} تملأ بطن واد) ولأبي ذر كل واد بحسبه فهذا كبير
يسع كثيرًا من الماء وهذا صغير يسع بقدره ({زبدًا رابيًا}
زبد السيل): ولأبي ذر الزبد زبد السيل ولأبي ذر زبد مثله
أي ومما توقدون عليه من الذهب والفضة والحديد وغيرهما زبد
مثل زبد الماء هو (خبث الحديد والحلية) وقوله زبد مثله
ثابت لأبي ذر وسبق ما في ذلك من البحث قريبًا.
1 - باب قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ
أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} [الرعد: 8] غِيضَ
نُقِصَ
(باب قوله {الله يعلم ما تحمل كل أنثى}) أي الذي تحمله أو
حملها
(7/185)
فعلى الموصولية فالمعنى أنه تعالى يعلم ما
تحمله من الولد أهو ذكر أم أنثى وتام أم ناقص وحسن أم قبيح
وطويل أم قصير
أو غير ذلك من الأحوال ({وما تغيض الأرحام}) [الرعد: 8]
(غيض) أي (نقص) بضم النون وكسر القاف سواء كان لازمًا أو
متعديًا يقال غاض الماء وغضته أنا والمعنى وما تغيضه
الأرحام وما تزداد أي تأخذه زائدًا، والمعنى يعلم ما تنقصه
وما تزداده في الجثة والمدة والعدد فإن الرحم قد تشتمل على
واحد وعلى اثنين وعلى ثلاثة وأربعة يروى أن شريكًا كان
رابع أربعة في بطن أمه، وعن الشافعي أن شيخًا باليمن أخبره
أن امرأة ولدت بطونًا في كل بطن خمسة. وعن العوفي عن ابن
عباس مما ذكره ابن كثير (وما تغيض الأرحام) يعني السقط وما
تزداد يقول وما زاد الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته
تمامًا، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ومن تحمل
تسعة أشهر ومنهن من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص، وأقصى
مدة الحمل أربع سنين عندنا وخمس عند مالك وسنتان عند أبي
حنيفة. وقال الضحاك: وضعتني أن في بطنها سنتين وولدتني وقد
نبتت ثنيتي انتهى.
وأقول في سنة ثمان وثمانين وثمانمائة غرة يوم السبت مستهل
جمادى الأولى ولدت ابنتي زينب وفقها الله تعالى لكل خير
وأحسن عواقبها وجعل لها الذرية الصالحة لتسعة أشهر من
ابتداء حملها وقد نبتت ثنيتها ثم سقطت بعد نحو سبعة أشهر.
وقال مكحول: الجنين في بطن أمه لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم
وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضها فمن ثم لا تحيض
الحامل، فإذا وقع إلى الأرض استهل واستهلاله استنكار
لمكانه فإذا قطعت سرته حوّل الله رزقه إلى ثدي أمه حتى لا
يطلب ولا يحزن ولا يغتم ثم يصير طفلاً يتناول الشيء بكفّه
فيأكل فإذا بلغ قال هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ يقول
مكحول: يا ويحك غذاك وأنت في بطن أمك وأنت طفل صغير حتى
إذا اشتددت وعقلت قلت هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ ثم
قرأ مكحول {يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما
تزداد} [الرعد: 8] انتهى.
والإسناد إلى الرحم لا يخفى أنه مجازي إذ الفاعل حقيقة هو
الله تعالى وكل كائن بقدر معين عند الله تعالى لا يجاوز
ولا ينقص عنه.
4697 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله
عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، لاَ
يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ
إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ
إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ
أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِى نَفْسٌ بِأَيِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ. وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ
إِلاَّ اللَّهُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم بن المنذر) الحزامي
بالحاء المهملة والزاي المعجمة قال: (حدّثنا معن) بفتح
الميم وسكون العين آخره نون ابن عيسى القزاز بالقاف والزاي
المشددة وبعد
الألف زاي أخرى (قال حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن
عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) قال
أبو مسعود: تفرد به إبراهيم بن المنذر وهو غريب عن مالك.
قال في الفتح: قد أخرجه الدارقطني من رواية عبد الله بن
إبراهيم بن المنذر وهو غريب عن مالك. قال في الفتح: قد
أخرجه الدارقطني من رواية عبد الله بن جعفر البرمكي عن معن
ورواه أيضًا من طريق القعنبي عن مالك لكنه اختصره وكذا
أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن القاسم عن مالك، قال
الدارقطني: ورواه أحمد بن أبي طيبة عن مالك عن نافع عن ابن
عمر فوهم فيه إسنادًا ومتنًا (أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(مفاتيح الغرب) بوزن مصابيح ولأبي ذر مفاتح بوزن مساجد جمع
مفتح بفتح الميم أي خزائن الغيب (خمس لا يعلمها إلا الله)
ذكر خمسًا لأن كان الغيب لا يتناهى لأن العدد لا ينفي
الزائد أو لأنهم كانوا يعتقدون معرفتها (لا يعلم ما في غد
إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام) أي ما تنقصه (إلا الله
ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله) أي إلا عند أمر
الله به فيعلم حينئذٍ كالسابق إذا أمر تعالى به (ولا تدري
نفس بأي أرض تموت) أي في بلدها أم في غيرها كما لا تدري في
أي وقت تموت (ولا يعلم متى تقوم الساعة) أحد (إلا الله)
إلا من ارتضى من رسول فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه
والولي التابع له يأخذ عنه.
وقد سبق شيء من فوائد هذا الحديث في سورة الأنعام، فالتفت
إليه كالاستسقاء ويأتي الإلمام بشيء منه إن شاء الله تعالى
في آخر سورة لقمان وبالله المستعان.
(7/186)
[14]- سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه
الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ هَادٍ: دَاعٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ صَدِيدٌ: قَيْحٌ
وَدَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيَادِيَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ
وَأَيَّامَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ، يَبْغُونَهَا
عِوَجًا: يَلْتَمِسُونَ لَهَا عِوَجًا. وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ: أَعْلَمَكُمْ آذَنَكُمْ. رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ
فِي أَفْوَاهِهِمْ هَذَا مَثَلٌ كَفُّوا عَمَّا أُمِرُوا
بِهِ. مَقَامِي حَيْثُ يُقِيمُهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
مِنْ وَرَائِهِ: قُدَّامِهِ. لَكُمْ تَبَعًا وَاحِدُهَا
تَابِعٌ مِثْلُ غَيَبٍ وَغَائِبٍ. بِمُصْرِخِكُمْ:
اسْتَصْرَخَنِي اسْتَغَاثَنِي يَسْتَصْرِخُهُ مِنَ
الصُّرَاخِ. وَلاَ خِلاَلَ مَصْدَرُ خَالَلْتُهُ خِلاَلاً
وَيَجُوزُ أَيْضًا جَمْعُ خُلَّةٍ وَخِلاَلٍ. اجْتُثَّتْ:
اسْتُؤْصِلَتْ.
[14]- سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ
مكية وهي إحدى وخمسون آية.
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(باب) وسقطت البسملة لغير أبي ذر وكذا باب.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- في قوله تعالى في سورة
الرعد: (ولكل قوم ({هاد}) [الرعد: 7] أي (داع) يدعوهم إلى
الصواب ويهديهم إلى الحق والمراد نبي مخصوص بمعجزات من جنس
ما هو الغالب عليهم، والظاهر أن وقوع ذلك هنا من ناسخ.
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي ({صديد}) من قوله تعالى:
{ويسقى من ماء صديد} [إبراهيم: 16] هو (قيح ودم) وقال
قتادة هو ما يسيل من لحمه وجلده وفي رواية عنه ما يخرج من
جوف الكافر قد خالط القيح والدم وقيل ما يخرج من فروج
الزناة وهل الصديد نعت أم لا؟ فقيل نعت لماء وفيه تأويلان:
أحدهما: أنه على حذف أداة التشبيه أي ماء مثل صديد وعلى
هذا فليس الماء الذي يشربونه صديدًا بل مثله في النتن
والغلظ والقذارة كقوله: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل}
[الكهف: 29] والثاني: إن الصديد لما كان يشبه الماء أطلق
عليه ماء وليس هو بماء حقيقة وعلى هذا فيشربون نفس الصديد
المشبه بالماء وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره وفيه نظر إذ
ليس بمشتق إلا على قول من فسره بأنه صديد بمعنى مصدود أخذه
من الصد وكأنه لكراهته مصدود عنه أي يمتنع عنه كل أحد يدل
عليه يتجرعه أي يتكلف جرعه وكذا لا يكاد، وسقط وقال مجاهد
الخ لأبي ذر.
(وقال ابن عيينة) سفيان مما وصله في تفسيره والطبري أيضًا:
({اذكروا نعمة الله عليكم}) [المائدة: 20] أي (أيادي الله
عندكم وأيامه) أي بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة.
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي في قوله تعالى: وآتاكم
({من كل ما سألتموه}) [إبراهيم: 34] أي (رغبتم إليه فيه)
وفي من قولان قيل زائدة في المفعول الثاني، وهذا إنما يأتي
على قول الأخفش، وقيل تبعيضية أي آتاكم بعض جميع ما
سألتموه نظرًا لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف أي
وآتاكم شيئًا من كل ما سألتموه وهو رأي سيبويه.
({يبغونها عوجًا) قال مجاهد فيما وصله عبد بن حميد
(يلتمسون) ولأبي ذر تبعونها تلتمسون بالفوقية بدل التحتية
فيهما (لها عوجًا) أي زيغًا ونكوبًا عن الحق ليقدحوا فيه
وأشار بقوله لها إلى الأصل ولكنه حذف الجار وأوصل الفعل
والإضلال يكون بالسعي في صدّ الغير وبإلقاء الشك والشبهات
في المذهب الحقة ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه وهذا
النهاية.
({وإذ تأذن ربكم}) أي (أعلمكم آذنكم) بمدّ الهمزة والمعنى
آذن إيذانًا بليغًا لما في تفعل من التكلف وفي رواية أبي
ذر كما في فتح الباري أعلمكم ربكم أي إن شكرتم نعمتي من
الإنجاء وغيره بالإيمان وصالحات الأعمال لأزيدنكم النعم
وإن جحدتموها فإن عذابي بسلبها في الدنيا والنار في العقبى
في غاية الشدة.
({ردّوا}) يريد قوله تعالى: فردّوا ({أيديهم في أفواههم})
قال أبو عبيدة (هذا مثل) ومعناه (كفوا عما أمروا به) من
الحق ولم يؤمنوا به قال في الفتح وقد تعقبوا كلام أبي
عبيدة بأنه لم يسمع
من العرب ردّ يده في فيه إذا ترك الشيء الذي كان يفعله
اهـ.
وهذا الذي قاله أبو عبيدة قاله أيضًا الأخفش وأنكره
القتيبي ولفظه كما في اللباب لم يسمع أحد يقول ردّ يده إلى
فيه إذا ترك ما أمر به. وأجيب: بأن المثبت مقدم على النافي
قال في الدر: والضمائر الثلاثة يجوز أن تكون للكفار أي فرد
الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ كقوله تعالى: {عضوا
عليكم الأنامل من الغيظ} [آل عمران: 119] ففي على بابها من
الظرفية أو فردوا أيديهم على أفواههم ضحكًا واستهزاء ففي
بمعنى على أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقوا به من
قولهم إنّا كفرنا ففي بمعنى إلى وأن يكون الأوّلان للكفار
والأخير للرسل أي فرد الكفار أيديهم في أفواه الرسل أي
أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسكوت.
وقوله: ذلك لمن خاف ({مقامي}) [إبراهيم: 14] قال ابن عباس:
(حيث يقيمه الله بين يديه)
(7/187)
يوم القيامة للحساب.
وقوله: ({من ورائه}) أي من (قدامه) ولأبي ذر قدامه جهنم
بنصب ميم قدامه وهذا قول الأكثر وهو من الأضداد وعليه
قوله:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
أي قدامه وقول الآخر:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها
الأضالع
وقيل: بعد موته.
وقوله تعالى: ({إنا كنا لكم تبعًا}) قال أبو عبيدة:
(واحدها تابع مثل غيب وغائب) وخدم وخادم أي يقول الضعفاء
للذين استكبروا أي لرؤسائهم الذين استتبعوهم إنّا كنا لكم
تبعًا في التكذيب للرسل والإعراض عنهم.
وقوله تعالى: ({ما أنا بمصرخكم}) يقال: (استصرخني) أي
(استغاثني) فكان همزته للسلب أي أزال صراخي (يستصرخه من
الصراخ) والمعنى ما أنا بمغيثكم من العذاب وسقط لأبي ذر
قوله: بمصرخكم الخ ({ولا خلال} مصدر خاللته خلالاً}) قال
طرفة:
كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه
(ويجوز أيضًا جمع خلة وخلال) كبرمة وبرام وهذا قاله الأخفش
والجمهور على الأوّل والمخاللة المصاحبة.
({اجتثت}) من قوله تعالى: {كشجرة: خبيثة اجتثت} [إبراهيم:
26] أي (استؤصلت) وأخذت جثتها بالكلية قال لقيط الأيادي:
هذا الخلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا آت ومن
سمعا
1 - باب قَوْلِهِ: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكْلَهَا
كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 24، 25]
(باب قوله) تعالى: ({كشجرة طيبة}) مثمرة طيبة الثمار
كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان ({أصلها ثابت}) راسخ
في الأرض ضارب بعروقه فيها آمن من الانقطاع والزوال
({وفرعها}) أعلاها ({في السماء}) لأن ارتفاع الأغصان يدل
على ثبات الأصل ومتى ارتفعت كانت بعيدة عن عفونات الأرض
فثمارها نقية طاهرة عن جميع الشوائب ({تؤتي أكلها}) تعطي
ثمرها ({كل حين}) [إبراهيم: 24، 25] أقته الله تعالى
لأثمارها.
وقال الربيع بن أنس: كل حين أي غدوة وعشية لأن ثمر النخل
يؤكل أبدًا ليلاً ونهارًا صيفًا وشتاءً إما تمرًا أو رطبًا
أو بسرًا كذلك عمل المؤمن يصعد أوّل النهار وآخره وبركة
إيمانه لا تنقطع أبدًا بل تتصل إليه في كل وقت والاستفهام
في قوله: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً} [إبراهيم: 24]
للتقرير وفائدته الإيقاظ له أي ألم تعلم والكلمة الطيبة
كلمة التوحيد أو كل كلمة حسنة كالحمد والاستغفار والتهليل.
وعن ابن عباس هي شجرة في الجنة أصلها ثابت في الأرض
وأعلاها في السماء كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن
بالمعرفة والتصديق فإذا تكلم بها عرجت ولا تحجب حتى تنتهي
إلى الله تعالى قال عز وجل: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل
الصالح يرفعه} [فاطر: 10] وسقط قوله: باب قوله لغير أبي ذر
وله وفرعها الخ وقال بعد قوله ثابت الآية.
4698 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: «أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أَوْ
كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ لاَ يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا وَلاَ
وَلاَ وَلاَ تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ» قَالَ ابْنُ
عُمَرَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ
وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لاَ يَتَكَلَّمَانِ
فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا
شَيْئًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «هِيَ النَّخْلَةُ» فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ
لِعُمَرَ: يَا أَبَتَاهُ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ
فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ. فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ
أَنْ تَكَلَّمَ؟ قَالَ: لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ
فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا. قَالَ
عُمَرُ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
كَذَا وَكَذَا.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (عبيد بن
إسماعيل) القرشي الهباري اسمه عبد الله وعبيد لقب غلب عليه
(عن أبي أسامة) حماد بن أسامة (عن عبيد الله) بضم العين
مصغرًا ابن عمر العمري (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما) أنه (قال: كنا عند رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(أخبروني بشجرة تشبه) ولأبي ذر: شبه (أو كالرجل المسلم) شك
من الراوي (لا يتحات) بتشديد الفوقية آخره أي لا يتناثر
(ورقها ولا ولا ولا) ذكر ثلاث صفات أخر للشجرة لم يبينها
الراوي واكتفى بذكر كلمة لا ثلاثًا وقد ذكروا في تفسيره
ولا ينقطع ثمرها ولا يعدم فيئها ولا يبطل نفعها (تؤتي
أكلها كل حين) وقت (قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة
ورأيت أبا بكر وعمر) رضي الله تعالى عنهما (لا يتكلمان
فكرهت أن أتكلم) هيبة منهما وتوقيرًا (فلما لم يقولوا) أي
الحاضرون، ولأبي ذر عن
(7/188)
الكشميهني فلم يقولا أي العمران (شيئًا قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هي
النخلة) والحكمة في تمثيل الإسلام بالشجرة أن الشجرة لا
تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم وفرع عال،
كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب وقول
باللسان وعمل بالأبدان (فلما قمنا قلت لعمر يا أبتاه)
بسكون الهاء مصححًا عليها في الفرع وأصله وفي غيرهما بضمها
(والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة فقال) أي عمر (ما
منعك أن تكلم) بحذف إحدى التاءين (قال) أي ابن عمر قلت:
(لم أركم تكلمون) بحذف إحدى التاءين أيضًا (فكرهت أن أتكلم
أو أقول شيئًا. قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إليّ من كذا
وكذا) أي من حمر النعم كما في الرواية الأخرى، وقد وضح أن
المراد بالشجرة في الآية النخلة لا شجرة الجوز الهندي.
نعم أخرج ابن مردويه من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف في
الآية قال: هي شجرة جوز الهند لا تتعطل من ثمرة تحمل كل
شهر اهـ.
ونفع النخلة موجود في جميع أجزائها مستمر في جميع أحوالها
فمن حين تطلع إلى حين تيبس تؤكل أنواعًا ثم ينتفع بجميع
أجزائها حتى النوى في علف الإبل والليف في الحبال وغير ذلك
مما لا يخفى.
وقد سبق هذا الحديث في كتاب العلم.
2 - باب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت}) [إبراهيم: 27] كلمة التوحيد لا إله
إلا الله لأنها رسخت في القلب بالدليل أي يديمهم الله
عليها كما اطمأنت إليها نفوسهم في الدنيا والجمهور على
أنها نزلت في سؤال المكلفين في القبر فيلقن الله المؤمن
كلمة الحق عند السؤال فلا يزل وسقط باب لغير أبي ذر.
4699 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي
الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}.
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج
(قال: أخبرني) بالإفراد (علقمة بن مرثد) بفتح الميم
والمثلثة بينهما راء ساكنة الحضرمي أبو الحارث الكوفي
(قال: سمعت سعد بن عبيدة) بسكون عين سعد وضمها في عبيدة
مصغرًا غير مضاف (عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(المسلم إذا سئل في القبر) أي بعد إعادة روحه إلى جسده عن
ربه ودينه ونبيه (يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذلك قوله) عز
وجل: ({يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}) الذي ثبت
بالحجة عندهم ({في الحياة الدنيا}) قبل الموت كما ثبت في
الذين فتنهم أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ({وفي
الآخرة}) في القبر بعد إعادة روحه في جسده وسؤال الملكين
له، وإنما حصل لهم الثبات في القبر بسبب مواظبتهم في
الدنيا على هذا القول، ولا يخفى أن كل شيء كانت المواظبة
عليه أكثر كان رسوخه في القلب أتم ثبتنا الله بالقول
الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة بمنه وكرمه وقيل في
الحياة الدنيا في القبر عند السؤال وفي الآخرة عند البعث
إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف فلا يتلعثمون ولا تدهشهم
أهوال القيامة.
وهذا الحديث قد سبق في باب ما جاء في عذاب القبر من
الجنائز.
3 - باب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28]
أَلَمْ تَعْلَمْ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} {الْبَوَارُ}: الْهَلاَكُ
بَارَ يَبُورُ بَوْرًا. {قَوْمًا بُورًا}: هَالِكِينَ
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط لغير أبي ذر في قوله: ({ألم
تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا}) [إبراهيم: 28] قال
أبو عبيدة: (ألم تعلم) ولأبي ذر: ألم تر (كقوله) تعالى:
({ألم تر كيف} {ألم تر إلى الذين خرجوا}) إذ الرؤية
بالأبصار غير حاصلة إما لتعذرها أو لتعسرها عادة وفي الآية
حذف مضاف أي غيروا شكر نعمة الله كفرًا بأن وضعوه مكانه
وقول صاحب الأنوار كالكشاف أو بدلوا نفس النعمة كفرًا
فإنهم لما كفروها سلبت منهم فصاروا تاركين لها محصلين
الكفر بدلها تعقب بأنه ليس بقوي لأنه يقتضي حدوث الكفر
حينئذٍ وهم قد كانوا كفارًا من قبل وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
({البوار}) في قوله تعالى: {وأحلوا قومهم دار البوار}
[إبراهيم: 28] هو (الهلاك) قال:
فلم أر مثلهم أبطال حرب ... غداة الروع إذ خيف البوار
وأصله من الكساد كما قيل:
كسد حتى فسد، ولما كان الكساد يؤدي إلى الفساد والهلاك
أطلق
(7/189)
عليه البوار والفعل منه (بار يبور بورًا)
بفتح الموحدة وسكون الواو ({قومًا بورً}) أي (هالكين) قاله
أبو عبيدة وغيره،
ويحتمل أن يكون بورًا مصدرًا وصف به الجمع وأن يكون جمع
بائر في المعنى ومن وقوع البور على الواحد قوله:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
وثبت قوله قومًا بورًا لأبي ذر.
4700 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ
ابْنَ عَبَّاسٍ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] قَالَ: هُمْ
كُفَّارُ أَهْلِ مَكَّةَ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو ابن دينار (عن عطاء) هو ابن
أبي رباح أنه (سمع ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما يقول في
قوله تعالى: ({ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا}
قال: هم كفار أهل مكة) وعند الطبري من طريق أخرى عن ابن
عباس أنه سأل عمر عن هذه الآية فقال من هم؟ قال هم
الأفجران من بني مخزوم وبني أمية أخوالي وأعمامك فأما
أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر وأما أعمامك فأملى الله لهم
إلى حين والمراد كما في الفتح بعض بني أمية وبني مخزوم فإن
بني مخزوم لم يستأصلوا يوم بدر بل المراد بعضهم كأبي جهل
من بني مخزوم وأبي سفيان من بني أمية وعنده أيضًا من وجه
آخر ضعيف عن ابن عباس هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من
العرب فلحقوا بالروم. قال الحافظ ابن كثير والمشهور الصحيح
عن ابن عباس هو القول الأول وإن كان المعنى يعم جميع
الكفار فإن الله تعالى بعث محمدًا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رحمة للعالمين ونعمة للناس.
وهذا الحديث ذكره في غزوة بدر.
[15]- سورة الْحِجْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ الْحَقُّ
يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ. لَبِإِمَامٍ
مُبِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لَعَمْرُكَ: لَعَيْشُكَ، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أَنْكَرَهُمْ
لُوطٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كِتَابٌ مَعْلُومٌ: أَجَلٌ. لَوْ
مَا تَأْتِينَا: هَلاَّ تَأْتِينَا. شِيَعٌ: أُمَمٌ.
وَلِلأَوْلِيَاءِ أَيْضًا شِيَعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يُهْرَعُونَ: مُسْرِعِينِ. لِلْمُتَوَسِّمِينَ:
لِلنَّاظِرِينَ. سُكِّرَتْ: غُشِّيَتْ. بُرُوجًا:
مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. لَوَاقِحَ: مَلاَقِحَ
مُلْقَحَةً. حَمَإٍ: جَمَاعَةُ حَمْأَةٍ وَهْوَ الطِّينُ
الْمُتَغَيِّرُ. وَالْمَسْنُونُ: الْمَصْبُوبِ. تَوْجَلْ:
تَخَفْ. دَابِرَ: آخِرَ. لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ: الإِمَامُ
كُلُّ مَا ائْتَمَمْتَ وَاهْتَدَيْتَ بِهِ. الصَّيْحَةُ:
الْهَلَكَةُ.
[15]- سورة الْحِجْرِ
ولأبي ذر عن المستملي تفسير سورة الحجر وهي مكية وآيها تسع
وتسعون، وزاد أبو ذر: بسم الله الرحمن الرحيم.
(وقال مجاهد) هو ابن جبر فيما وصله الطبري من طرق عنه في
قوله تعالى: هذا ({صراط عليّ مستقيم}) [الحجر: 41] معناه
(الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه) لا يعرّج على شيء. وقال
الأخفش: عليّ الدلالة علي الصراط المستقيم، وقال غيرهما أي
من مر عليه مرّ علي أي على رضواني وكرامتي وقيل علي بمعنى
إليّ وهذا إشارة إلى الإخلاص المفيض من المخلصين وقيل إلى
انتفاء تزيينه وإغوائه.
وقوله: وإنهما ({لبإمام مبين}) [الحجر: 79] أي (على
الطريق) الواضح والإمام اسم لما يؤتم به. قال الفراء
والزجاج: إنما جعل الطريق إمامًا لأنه يؤم ويتبع. قال ابن
قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي
يريده ومبين أي في نفسه أو مبين لغيره لأن الطريق يهدي إلى
المقصد وضمير التثنية في وإنهما الأرجح أنه لقريتي قوم لوط
وأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب لتقدمهما ذكرًا وقوله (لبإمام
مبين على الطريق) ثابت لأبي ذر عن المستملي.
(وقال ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما فيما وصله ابن أبي
حاتم في قوله ({لعمرك}) معناه (لعيشك) والعمر والعمر بفتح
العين وضمها واحد وهما مدة الحياة ولا يستعمل في القسم إلا
بالفتح. وفي هذه الآية شرف نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الله تعالى أقسم بحياته ولم يفعل ذلك
لبشر سواه على ما نقل عن ابن عباس، أو الخطاب هنا للوط
عليه الصلاة والسلام. قالت الملائكة له ذلك، والتقدير
لعمرك قسمي والقسم بالعمر في القرآن وأشعار العرب وفصيح
كلامها في غير موضع، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة فلا
يقطع عنها ويضاف لكل شيء، لكن منع بعض أصحاب المعاني فيما
ذكره الزهراوي إضافته إلى الله لأنه لا يقال لله تعالى
عمر، وإنما هو بقاء أزلي وقد سمع إضافته إلى الله تعالى
قال:
إذا رضيت عليّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلم قال لأنه حلف بحياة
المقسم وقد ورد ذلك قال النابغة:
لعمري وما عمري عليّ بهين ... لقد نطقت بطلاً عليّ الأقارع
(7/190)
({قوم منكرون} [الحجر: 62] أنكرهم لوط) قيل
لأنهم سلموا ولم يكن من عادتهم وقيل لأنهم كانوا على صورة
الشباب المرد فخاف هجوم القوم فقال هذه الكلمة يعني تنكركم
نفسي وتنفر عنكم فقالت الملائكة ما جئناك بما تنكر بل
جئناك بما يسرك ويشفي لك من عدوّك وهو العذاب الذي توعدتهم
به فيمترون فيه وسقط قوله لعمرك إلى هنا لأبي ذر إلا في
رواية المستملي.
(وقال غيره) غير ابن عباس في قوله تعالى: ({إلا ولها كتاب
معلوم}) [الحجر: 4] أي (أجل) أي أن الله تعالى لا يهلك أهل
قرية إلا ولها أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ أو كتاب مختص
به.
({لو ما تأتينا}) أي (هلا تأتينا) يا محمد بالملائكة
لتصديق دعواك إن كنت صادقًا أو
لتعذيبنا على تكذيبك كما جاءت الأمم السابقة فإنا نصدقك
حينئذٍ فقال الله تعالى ما تنزل الملائكة إلا تنزيلاً
ملتبسًا بالحق أي الوجه الذي قدرناه واقتضته حكمتنا ولا
حكمة في إتيانكم فإنكم لا تزدادون إلا عنادًا وكذا لا حكمة
في استئصالكم مع أنه سبقت كلمتنا بإيمان بعضكم أو أولادكم
وسقط لفظ تأتينا لأبي ذر.
({شيع}) في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع
الأولين} [الحجر: 10] معناه (أمم)، قاله أبو عبيدة (و)
يقال (للأولياء أيضًا شيع). وقال: غيره: شيع جمع شيعة وهي
الفرقة المتفقة على طريق ومذهب من شاعه إذا تبعه ومفعول
أرسلنا في قوله (ولقد أرسلنا من قبلك) محذوف أي أرسلنا
رسلاً من قبلك دل الإرسال عليهم وفيه تسلية للنبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث نسبوه إلى الجنون أي عادة
هؤلاء مع الرسل ذلك.
(وقال ابن عباس) فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن
أبي طلحة عنه في قوله تعالى في سورة هود: {وجاءه قومه}
{يهرعون} [هود: 78] أي (مسرعين) إليه.
وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات} ({للمتوسمين}) [الحجر: 75]
أي (للناظرين) قال ثعلب الواسم الناظر إليك من قرنك إلى
قدمك وفيه معنى التثبت الذي هو الأصل في التوسم وقال
الزجاج: حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتين في نظرهم حتى
يعرفوا سمة الشيء وعلامته وهو استقصاء وجوه التعرف قال:
أوكلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثت إليّ عريفها يتوسم
وقال مجاهد: معنى الآية للمتفرسين، وقال قتادة للمعتبرين،
وقال مقاتل للمتفكّرين، والمراد صيحة العذاب الذي أخذ قوم
لوط داخلين في شروق الشمس رفع جبريل عليه الصلاة والسلام
مدينتهم إلى السماء ثم قلبها وسقط قوله وقال ابن عباس إلى
للناظرين لأبي ذر.
وقوله تعالى: {لقالوا إنما} ({سكرت}) [الحجر: 15] بتشديد
الكاف أي (غُشيت) بضم الغين وتشديد الشين المكسورة
المعجمتين وقيل سدت يعني لو فتحنا على هؤلاء المقترحين
بابًا من السماء فظلوا صاعدين إليها مشاهدين لعجائبها أو
مشاهدين لصعود الملائكة وهو جواب لقوله: {لو ما تأتينا
بالملائكة} لقولوا لشدة عنادهم إنما غشيت أو سدت أبصارنا
بالسحر وسقط من قوله وقال مجاهد إلى هنا للحموي
والكشميهني.
وقوله: {أرسلنا ولقد جعلنا في السماء} ({بُروجًا}) [الحجر:
16] أي (منازل للشمس والقمر). قال عطية هي قصور في السماء
عليها الحرس.
وقوله: {أرسلنا الرياح} ({لواقح}) [الحجر: 22] أي (ملاقح)
و (ملقحة) بفتح القاف وكسرها جمعه لأنه من ألقح يلقح فهو
ملقح فحقه ملاقح فحذفت الميم تخفيفًا وهذا قول أبي عبيدة
قال الجوهري ولا يقال ملاقح وهو من النوادر وقيل لواقح جمع
لاقح يقال لقحت الريح إذا حملت
الماء وقال الأزهري حوامل السحاب كقولك ألقحت الناقة فلقحت
إذا حملت الجنين في بطنها فشبهت الريح بها قال:
إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهرّ الناس أنيابها عصل
قال ابن عباس: الرياح لواقح الشجر والسحاب. وقال عبيد بن
عمير: يبعث الله الريح المبشرة فتقم الأرض قمًّا ثم يبعث
المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث المؤلّفة فتؤلف السحاب بعضه
إلى بعض
(7/191)
فتجعله ركامًا ثم يبعث اللواقح فتلقح
الشجر، وقال أبو بن بن عياش: لا تقطر قطرة من السماء إلا
بعد أن تعمل الرياح الأربعة فيه فالصبا تهيجه والشمال
تجمعه والجنوب تذره والدبور تفرقه.
وقوله: من ({حمأ}) هو (جماعة حمأة) بفتح الحاء وسكون الميم
(وهو الطين المتغير) الذي اسودّ من طول مجاورة الماء.
(والمسنون) هو (المصبوب) لييبس كأنه أفرغ الحمأ فصور فيه
تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل ثم غيره بعد ذلك
طورًا بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه.
لا ({توجل}) أي لا (تخف) وكان خوفه من توقع مكروه حيث
دخلوا بغير إذن في غير وقت الدخول.
(دابر) في قوله: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء}
[الحجر: 66] أي (آخر) هؤلاء مقطوع مستأصل يعني يستأصلون عن
آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد.
({لبإمام مبين} [الحجر: 79] قال أبو عبيدة (الإمام كل ما
ائتممت واهتديت به) وسبق فيه زيادة حيث ذكر في هذه السورة
فالتفت إليه وسقط قوله {لبإمام} إلى هنا للحموي
والكشميهني.
(الصيحة) أي أخذتهم (الهلكة) وزاد أبو ذر هنا باب قوله جل
وعلا:
1 - باب {إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ
شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18]
({إِلا من استرق السمع}) [الحجر: 18] الاستثناء منقطع أي
لكن من استرق السمع أو متصل، والمعنى أنها لم تحفظ منه
ومحل الاستثناء على الوجهين نصب ويجوز أن يكون في محل جر
بدلاً من كل شيطان أو رفع بالابتداء وخبره الجملة من قوله
فاتبعه فيكون منقطعًا واستراقهم اختلاسهم سرًّا ({فأتبعه
شهاب مبين}) شعلة من نار تظهر للناظر على شكل العمود وتطلق
للكوكب والسنان لما فيهما من البريق.
4701 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ
يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي
السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا
خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ»
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالَ غَيْرُهُ: صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ
ذَلِكَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا
قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ:
وَهْوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو
السَّمْعِ: وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ
فَوْقَ آخَرَ وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ وَفَرَّجَ
بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى نَصَبَهَا بَعْضَهَا
فَوْقَ بَعْضٍ فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ
الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى
صَاحِبِهِ، فَيُحْرِقَهُ وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ
حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ إِلَى
الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى
الأَرْضِ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: حَتَّى تَنْتَهِىَ
إِلَى الأَرْضِ فَتُلْقَى عَلَى فَمِ السَّاحِرِ
فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيَصْدُقُ
فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا،
يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلْكَلِمَةِ
الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ.
وبه قال: (حدّثنا علي من عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) هو ابن عيينة (عن عمرو) هو ابن دينار (عن عكرمة)
مولى ابن عباس (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه (يبلغ به
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لم يقل سمعت
بدل يبلغ لاحتمال الواسطة أو نسي كيفية التحمل أنه (قال):
(إذا قضى الله الأمر) أي إذا حكم الله بأمر من الأمور (في
السماء) ولأبي ذر إذا قضي بضم القاف مبنيًا للمفعول الأمر
رفع نائب عن الفاعل (ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا) بضم
الخاء وسكون الضاد المعجمتين مصدر بمعنى خاضعين أي منقادين
طائعين (لقوله) تعالى ({كالسلسلة}) أي القول المسموع يشبه
صوت وقع السلسلة (على صفوان) بسكون الفاء وهو الحجر
الأملس، ولأبي ذر وأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر: كأنه
سلسلة وللأصيلي أيضًا كأنها وفي حديث ابن مسعود مرفوعًا
عند ابن مردويه: (إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماوات
صلصلة كصلصلة السلسلة على الصوفان فيفزعون ويرون أنه من
أمر الساعة).
(قال علي) قال الكرماني هو ابن المديني شيخ المؤلّف (وقال
غيره) أي غير سفيان بن عيينة ولم يعرف الحافظ ابن حجر هذا
الغير (صفوان) بفتح الفاء (ينفذهم) بفتح التحتية وضم الفاء
بعدها ذال معجمة (ذلك) القول ولا ضمير في ينفذهم إلى
الملائكة أي ينفذ الله القول إليهم (فإذا فزع) أي أزيل
الخوف (عن قلوبهم قالوا) أي الملائكة (ماذا قال ربكم:
قالوا) أي المقربون من الملائكة كجبريل وميكائيل مجيبين
(للذي قال) يسأل قال الله القول (الحق وهو العلي الكبير).
وفي حديث النوّاس بن سمعان عند الطبراني مرفوعًا: "إذا
تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله فإذا
سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا فيكون أوّلهم يرفع
رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به على
الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا؟ قال
الحق فينتهي به حيث أمر".
(فيسمعها) أي تلك الكلمة وهي القول الذي قاله الله (مشرقو
السمع) بحذف النون للإضافة (ومسترقو السمع) ولأبي ذر:
ومسترق السمع بالإفراد مبتدأ خبره (هكذا واحد فوق آخر
ووصف سفيان) بن عيينة كيفية المستمعين بركوب بعضهم على بعض
(بيده وفرج) ولأبي ذر ففرّج بالفاء بدل الواو (بين أصابع
يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض) والجملة اعتراض بين قوله
فوق آخر وبين قوله (فربما أدرك الشهاب المستمع
(7/192)
قبل أن يرمي بها) أي بالكلمة (إلى صاحبه)
ولأبي ذر يرمى بالبناء للمجهول به بالتذكير (فيحرقه)
بالنصب عطفًا على السابق ولأبي ذر فيحرقه بالرفع (وربما لم
يدركه) الشهاب (حتى يرمي بها) ولأبي ذر حتى يرمى بها بضم
الياء وفتح الميم مبنيًّا للمفعول (إلى الذي يليه إلى
الذين هو أسفل) بالرفع (منه) ولأبي ذر: أسفل بالنصب على
الظرفية وقوله إلى الذي هو أسفل بدل من سابقه (حتى يلقوها
إلى الأرض، وربما قال سفيان) بن عيينة (حتى تنتهي إلى
الأرض) جملة اعتراض (فتلقى) بضم التاء مبنيًّا للمفعول أي
الكلمة (على فم الساحر) وهو المنجم (فيكذب معها) أي مع تلك
الكلمة الملقاة (مائة كذبة) بفتح الكاف وسكون المعجمة
(فيصدق) بفتح التحتية وسكون الصاد ولأبي ذر فيصدّق مبنيًا
للمفعول الساحر في كذباته (فيقولون) أي السامعون منه: (ألم
يخبرنا) الساحر ولأبي ذر عن الكشميهني: ألم يخبرونا أي
السحرة فيكون لفظ المفرد في الأوّل للجنس (يوم كذا وكذا
يكون كذا وكذا) كناية عن الخرافات التي أخبر بها الساحر
(فوجدناه) أي الخبر الذي أخبر به (حقًّا للكلمة) أي لأجل
الكلمة (التي سمعت من السماء).
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف في التفسير أيضًا وفي التوحيد،
وأبو داود في الحروف، والترمذي في التفسير، وأخرجه ابن
ماجه في السنّة.
0000 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا قَضَى اللَّهُ
الأَمْرَ وَزَادَ الْكَاهِنِ، وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ
فَقَالَ: قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، حَدَّثَنَا
أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ
وَقَالَ: عَلَى فَمِ السَّاحِرِ قُلْتُ لِسُفْيَانَ أأنت
سمعت عمرًا قال سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ
إِنْسَانًا رَوَى عَنْكَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَرَأَ
فُزِّعَ قَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو فَلاَ
أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لاَ. قَالَ سُفْيَانُ:
وَهْيَ قِرَاءَتُنَا. [الحديث 4701 - طرفاه في: 4800،
7481].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو) هو ابن دينار (عن
عكرمة) مولى ابن عباس (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (إذا
قضى الأمر، وزاد) على قوله فم الساحر (والكاهن) وسقط لغير
أبي ذر الواو من قوله والكاهن.
(حدثنا سفيان) بن عيينة، ولأبي ذر: حدّثنا علي بن عبد الله
أي المديني قال: حدّثنا سفيان (فقال) في حديثه (قال عمرو)
هو ابن دينار (سمعت عكرمة) يقول (حدّثنا أبو هريرة) رضي
الله تعالى عنه (قال: إذا قضى الله الأمر وقال على فم
الساحر) كالرواية السابقة لكنه في هذه صرح هنا بالتحديث
والسماع قال علي بن عبد الله (قلت لسفيان) بن عيينة (أأنت
سمعت عمرًا) ثبت لأبي
ذر أأنت سمعت عمرًا وسقط لغيره (قال: سمعت عكرمة. قال:
سمعت أبا هريرة) رضي الله عنه؟ (قال: نعم) قال علي بن
المديني (قلت لسفيان: إن إنسانًا) لم أعرف اسمه (روى عنك
عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة ويرفعه) أي الحديث أبو
هريرة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أنه
قرأ فزع) بالزاي والعين المهملة ولأبي ذر عن المستملي
والكشميهني فرغ بالراء والغين المعجمة مبنيًّا للمفعول
فيهما.
(قال سفيان) بن عيينة (هكذا) بالراء والمعجمة أو بالعكس
والظاهر الأول (قرأ عمرو) هو ابن دينار (فلا أدري سمعه
هكذا) بالراء (أم لا؟ قال سفيان: وهي) بالراء (قراءتنا)
وهي قراءة الحسن أيضًا أي حتى إذا أفنى الله الرجل انتفى
بنفسه.
2 - باب قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ
الْمُرْسَلِينَ} [الحجر: 80]
(باب قوله) عز وجل: ({ولقد كذب أصحاب الحجر}) وادي ثمود
بين المدينة والشأم ({المرسلين}) [الحجر: 80] صالحًا ومن
كذب واحدًا من المرسلين فكأنما كذب الجميع أو صالحًا ومن
معه من المؤمنين وسقط قوله: باب قوله لغير أبي ذر.
4702 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لأَصْحَابِ الْحِجْرِ:
«لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ إِلاَّ أَنْ
تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ
تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا
أَصَابَهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (إبراهيم بن
المنذر) الحزامي قال: (حدّثنا معن) بفتح الميم وبعد العين
المهملة الساكنة نون ابن يحيى القزاز أبو عيسى المدني
(قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن عبد الله بن
دينار) العدوي مولاهم أبي عبد الرحمن المدني مولى ابن عمر
(عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لأصحاب الحجر):
أي لأصحابه عليه الصلاة والسلام الذين قدموا الحجر لما
مروا به معه في حال توجههم إلى تبوك:
(لا تدخلوا على هؤلاء القوم) المعذبين في ديارهم (إلاّ أن
تكونوا باكين) من الخوف (فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا
عليهم أن يصيبكم) أي خشية أن يصيبكم (مثل ما أصابهم) من
العذاب لأن من دخل عليهم ولم يبك اعتبارًا بأحوالهم فقد
شابههم
(7/193)
في الإهمال ودل على قساوة قلبه فلا يأمن أن
يجرّه ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه مثل ما أصابهم.
وهذا الحديث قد مرّ في باب الصلاة في مواضع الخسف من كتاب
الصلاة.
3 - باب قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ
الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]
(باب قوله) تعالى: ({ولقد آتيناك سبعًا من المثاني}) صيغة
جمع واحدة مثناةٍ والمثناة كل شيء
يثنى من قولك ثنيت الشيء ثنيًا أي عطفته وضممت إليه آخر
والمراد سبع من الآيات أو من السور أو من الفوائد ليس في
اللفظ ما يعين أحدها ({والقرآن العظيم}) [الحجر: 87]. من
عطف العام على الخاص إذ المراد بالسبع إما الفاتحة أو
السور الطوال أو من عطف بعض الصفات على بعض أو الواو
مقحمة.
4703 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي
سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا أُصَلِّي
فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ
فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ؟» فَقُلْتُ: كُنْتُ
أُصَلِّي فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ}» [الأنفال: 24] ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ
أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ
أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟» فَذَهَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ
فَذَكَّرْتُهُ فَقَالَ: «{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ}» هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ
الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن
بشار) بفتح الموحدة وتشديد المعجمة بندار العبدي البصري
قال: (حدّثنا غندر) هو لقب محمد بن جعفر الهذلي البصري
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن خبيب بن عبد الرحمن) بضم
الخاء المعجمة وفتح الموحدة الأولى مصغرًا الأنصاري المدني
(عن حفص بن عاصم) هو ابن عمر بن الخطاب (عن أبي سعيد بن
المعلى) بضم الميم وفتح العين واللام المشددة اسمه الحارث
أو رافع أو أوس الأنصاري أنه (قال: مرّ بي النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي في المسجد (وأنا أصلي
فدعاني فلم آته) بمد الهمزة (حتى صليت ثم أتيت) بحذف ضمير
النصب (فقال):
(ما منعك أن تأتي) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: أن
تأتيني (فقلت: كنت أصلي فقال: ألم يقل الله تعالى: {يا
أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول}) [الأنفال: 24]
زاد أبو ذر هنا {إذا دعاكم لما يحييكم} فيه وجوب إجابته
عليه الصلاة والسلام ونص جماعة من الأصحاب على عدم بطلان
الصلاة وفيه بحث سبق في البقرة فالتفت إليه (ثم قال) عليه
الصلاة والسلام وسقطا لأبي ذر (ألا أعلمك أعظم سورة في
القرآن) فيه جواز تفضيل بعض القرآن على بعض. واستشكل،
وأجيب: بأن التفضيل إنما هو من حيث المعاني لا من حيث
الصفة فالمعنى أن ثواب بعضه أعظم من بعض (قبل أن أخرج من
المسجد فذهب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ليخرج) زاد غير أبي ذر من المسجد (فذكرته) بذلك بتشديد
الكاف (فقال): هي ({الحمد لله رب العالمين}) يعني الفاتحة
(هي السبع) لأنها سبع آيات بالبسملة (المثاني) لأنها تثنى
كل ركعة أو غير ذلك مما مرّ بالبقرة (والقرآن العظيم الذي
أوتيته) وسبق الحديث بالبقرة.
4704 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ،
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ
السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا ابن أبي
ذئب) محمد بن عبد الرحمن قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني
بالإفراد (سعيد) هو ابن أبي سعيد كيسان (المقبري عن أبي
هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أم القرآن) مبتدأ خبره (هي السبع المثاني والقرآن العظيم)
عطف على أم القرآن لا على السبع المثاني وإفراد الفاتحة
بالذكر في الآية مع كونها جزءًا من القرآن يدل على مزيد
اختصاصها بالفضيلة.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في الصلاة والترمذي في
التفسير.
4 - باب قَوْلِهِ: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ
عِضِينَ} [الحجر: 91]
{الْمُقْتَسِمِينَ}: الَّذِينَ حَلَفُوا، وَمِنْهُ لاَ
أُقْسِمُ أَيْ أُقْسِمُ، وَتُقْرَأُ: لأُقْسِمُ،
قَاسَمَهُمَا حَلَفَ لَهُمَا وَلَمْ يَحْلِفَا لَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَقَاسَمُوا: تَحَالَفُوا
(قوله) ولأبي ذر باب قوله عز وجل: ({الذين جعلوا القرآن
عضين}) [الحجر: 91] نعت للمقتسمين أو بدل منه أو بيان
({المقتسمين}) أي (الذين حلفوا) جعله من القسم لا من
القسمة أي مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن
يبيتوا صالحًا وذلك في قوله تعالى: {قالوا تقاسموا بالله
لنبيتنه} [النمل: 49] وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك
أهله. قال في الكشاف: والاقتسام بمعنى التقاسم ولعل المؤلف
اعتمد في هذا القول على ما رواه الطبري عن مجاهد أن المراد
بقوله المقتسمين قوم صالح الذي تقاسموا على إهلاكه (ومنه)
أي من معنى المقتسمين ({لا أقسم} أي أقسم) فلا مقحمة
(وتقرأ لأقسم) بغير مد وهي قراءة ابن كثير على أن اللام
جواب لقسم مقدر تقديره لأنا أقسم أو والله لأنا أقسم.
({قاسمهما}) ولأبي ذر وقاسمهما أي (حلف لهما) أي حلف إبليس
لآدم وحوّاء (ولم يحلفا له) فليس هو من باب المفاعلة.
(وقال مجاهد): فيما أخرجه الفريابي ({تقاسموا}) بالله
لنبيتنه أي (تحالفوا) وقد مرّ والجمهور على أنه من القسمة.
4705 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله
عنهما: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قَالَ:
هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا
بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولغير أبي ذر: حدّثني بالإفراد
(7/194)
(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي قال: (حدّثنا
هشيم) بضم الهاء مصغرًا ابن بشير بضم الموحدة وفتح المعجمة
الواسطي قال: (أخبرنا أبو
بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة جعفر بن أبي وحشية إياس
اليشكري (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما) في قوله تعالى: ({الذين جعلوا القرآن عضين} قال: هم
أهل الكتاب جزؤوه) وفي نسخة الذين جزؤوه (أجزاء فآمنوا
ببعضه) مما وافق التوراة (وكفروا ببعضه) مما خالفها.
4706 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
-رضي الله عنهما- {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ} قَالَ: آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا
بِبَعْضٍ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (عبيد الله
بن موسى) بضم العين وفتح الموحدة مصغرًا ابن باذام العبسي
الكوفي (عن الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي (عن أبي ظبيان)
بفتح الظاء المعجمة وسكون الموحدة حصين بضم الحاء وفتح
الصاد المهملتين مصغرًا ابن جندب المذحجي بفتح الميم
وإسكان المعجمة وكسر المهملة وبالجيم (عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما) في قوله تعالى: ({كما أنزلنا على
المقتسمين}) [الحجر: 90] (قال: آمنوا ببعض وكفروا ببعض) أي
(اليهود والنصارى).
وعن ابن عباس أيضًا المقتسمين الذين اقتسموا طرق مكة
يصدّون الناس عن الإيمان برسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل يقرب عددهم من أربعين، وقيل كانوا
خمسة. الأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والعاص بن
وائل؛ والحارث بن قيس، والوليد بن المغيرة وقيل غير ذلك.
5 - باب قَوْلِهِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ} [الحجر: 99] قَالَ سَالِمٌ الْيَقِينُ:
الْمَوْتُ
(باب قوله) تعالى: ({واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}) [الحجر:
99]. (قال سالم): هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب مما
وصله إسحاق بن إبراهيم البستي والفريابي وعبد بن حميد
(اليقين) هو (الموت) لأنه أمر متيقن وهو مروي عن ابن عباس
أيضًا.
فإن قيل: ما الفائدة في هذا التوقيت مع أن كل واحد يعلم
أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ أجيب: بأن المراد واعبد
ربك في جميع زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من
العبادات.
وروى جبير بن نفير مرسلاً أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما أوحي إليّ أن أجمع المال
وأكون من التاجرين ولكن أوحي إليّ أن سبّح بحمد ربك وكن من
الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" رواه البغوي في شرح
السنّة وسقط باب قوله لغير أبي ذر كقوله: اليقين من قوله
اليقين الموت.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[16]- سورة النَّحْلِ
رُوحُ الْقُدُسِ. جِبْرِيلُ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الأَمِينُ. فِي ضَيْقٍ يُقَالُ: أَمْرٌ ضَيْقٌ، وَضَيِّقٌ
مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ، وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ، وَمَيْتٍ
وَمَيِّتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ:
تَتَهَيَّأُ. سُبُلَ رَبِّكَ: ذُلُلاً لاَ يَتَوَعَّرُ
عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ في
تَقَلُّبِهِمْ: اخْتِلاَفِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
تَمِيدُ: تَكَفَّأُ. مُفْرَطُونَ: مَنْسِيُّونَ، وَقَالَ
غَيْرُهُ: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ هَذَا مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ وَذَلِكَ أَنَّ
الاِسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَمَعْنَاهَا
الاِعْتِصَامُ بِاللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
تَسِيمُونَ: تَرْعَوْنَ. شَاكِلَتِهِ: نَاحِيَتِهِ. قَصْدُ
السَّبِيلِ: الْبَيَانُ. الدِّفْءُ: مَا اسْتَدْفَأْتَ،
تُرِيحُونَ بِالْعَشِيِّ، وَتَسْرَحُونَ بِالْغَدَاةِ،
بِشِقِّ: يَعْنِي الْمَشَقَّةَ، عَلَى تَخَوُّفٍ:
تَنَقُّصٍ، الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً وَهْيَ تُؤَنَّثُ
وَتُذَكَّرُ كَذَلِكَ النَّعَمُ لِلأَنْعَامِ: جَمَاعَةُ
النَّعَمِ. أَكْنَانًا وَاحِدُهَا كِنٌّ. مِثْلُ حِمْلٍ
وَأَحْمَالٍ، سَرَابِيلَ: قُمُصٌ، تَقِيكُمُ الْحَرَّ.
وَأَمَّا سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ. فَإِنَّهَا
الدُّرُوعُ، دَخَلاً بَيْنَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ لَمْ
يَصِحَّ: فَهْوَ دَخَلٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَفَدَةً:
مَنْ وَلَدَ الرَّجُلُ. السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ
ثَمَرَتِهَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ،
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ: أَنْكَاثًا هِيَ
خَرْقَاءُ كَانَتْ إِذَا أَبْرَمَتْ غَزْلَهَا نَقَضَتْهُ،
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الأُمَّةُ: مُعَلِّمُ الْخَيْرِ.
وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
([16]- سورة النَّحْلِ)
سقطت البسملة لغير أبي ذر.
ولغير أبي ذر باب تفسير سورة النحل. ({روح القدس}) من ربك
هو (جبريل) قاله ابن مسعود فيما رواه ابن أبي حاتم وأضيف
جبريل إلى القدس وهو الطهر كما تقول: حاتم الجود وزيد
الخير، والمراد الروح المقدس قاله الزمخشري، ثم استشهد
المؤلّف لقوله روح القدس جبريل بقوله: ({نزل به الروح
الأمين}) [الشعراء: 193] وهو يردّ ما رواه الضحاك أن ابن
عباس فيما رواه ابن أبي حاتم بإسناد ضعيف قال: روح القدس
الاسم الذي كان عيسى عليه الصلاة والسلام يحيي به الموتى.
وقوله: {ولا تك} ({في ضيق}) (النحل: 27] (يقال أمر ضيق)
بسكون التحتية (وضيق) بتشديدها (مثل هين وهين ولين ولين
وميت وميت) لغتان وكسر الضاد ابن كثير وفتحها غيره فقيل
هما بمعنى في هذا المصدر كالقول والقيل؛ وقيل المفتوح مخفف
من ضيق كميت في ميت.
قال في اللباب؛ هذا من الكلام المقلوب لأن الضيق صفة
والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصوف حاصلًا في
الصفة فكأن المعنى ولا يكون الضيق فيك إلا أن الفائدة في
قوله: {ولا تك في ضيق} [النحل: 27] هو أن الضيق إذا عظم
وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب وصار
كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا
المعنى.
(قال ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى:
({يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ}) [النحل: 48] أي (تتهيأ) كذا نقل
والصواب تتميل.
وقوله تعالى: ({فاسلكي سبل ربك ذللًا}) (النحل: 69] قال
مجاهد فيما رواه الطبري (لا يتوعر) بالعين المهملة (عليها
مكان سلكته) وذللًا جمع ذلول ويجوز أن يكون حالًا من السبل
أي ذللها لها الله تعالى كقوله: {جعل لكم الأرض ذلولًا}
[الملك: 15] وأن يكون حالًا من فاعل اسلكي أي مطيعة منقادة
بمعنى
(7/195)
أن أهلها ينقلونها من مكان إلى مكان ولها
يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت وانتصاب سبل مفعولًا به
أي اسلكي في طلب تلك الثمرات سبل ربك الطرق التي أفهمك
وعلمك في عمل العسل أو على الظرفية أي فاسلكي ما أكلت في
سبل ربك أي في مسالكه التي تحيل فيها قدرته النور ونحوه
عسلًا.
(وقال ابن عباس): فيما وصله الطبري ({في تقلبهم}) أي
(اختلافهم) وقال غيره في أسفارهم وقال ابن جريج في إقبالهم
وإدبارهم.
(وقال مجاهد): فيما وصله الفريابي ({تميد}) من قوله:
{وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15] أي (تكفأ)
بتشديد الفاء وتتحرك وتميل بما عليها من الحيوان فلا يهنأ
لهم عيش بسبب ذلك. قال الحسن: فيما رواه عبد الرزاق لما
خلقت الأرض كانت تميد فقالوا ما هذه بمقرة على ظهرها أحدًا
فأصبحوا وقد خلقت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال.
وفي حديث أنس مرفوعًا عند الترمذي نحوه.
({مفرطون}) قال مجاهد: فيما وصله الطبري (منسيون) فيها.
(وقال غيره): أي غير مجاهد في وقوله تعالى: ({فإذا قرأت
القرآن فاستعذ بالله}) زاد أبو ذر: {من الشيطان الرجيم}
[النحل: 98]. (هذا مقدم ومؤخر وذلك أن الاستعاذة قبل
القراءة).
وهذا قاله أبو عبيدة. وقال ابن عطية: فإذا وصلة بين
الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا وتقدير الآية فإذا
أخذت في قراءة القرآن فاستعذ.
وقال في الأنوار كالكشاف: أي فإذا أردت قراءة القرآن فأضمر
الإرادة. قال الزمخشري:
لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة من غير فاصل وعلى حسبه
فكان منه بسبب قوي وملابسة ظاهرة، وهذا مذهب الجمهور من
القراء وغيرهم.
قال الشيخ بهاء الدين السبكي: في شرح التلخيص وعليه سؤال
وهو أن الإرادة إن أخذت مطلقًا لزم استحباب الاستعاذة
بمجرد ذلك وإن أخذت الإرادة بشرط اتصالها بالقراءة استحال
تحقق العلم بوقوعها ويمتنع حينئذ استحباب الاستعاذة قبل
القراءة.
قال في المصابيح: بقي عليه قسم آخر باختياره يزول الإشكال
وذلك أنا لا نأخذ الإرادة مطلقًا ولا نشترط اتصالها
بالقراءة وإنما نأخذها مقيدة بأن لا يعن له صارف عن
القراءة فلا يلزم حينئذ استحباب الاستعاذة بعد طروء العزم
على عدم القراءة ولا يلزم أيضًا استحالة تحقق العلم
بوقوعها فزال الإشكال ولله الحمد.
(ومعناها) أي الاستعاذة (الاعتصام بالله) من وساوس
الشيطان، والجمهور على أن الأمر بها للاستحباب والخطاب
للرسول، والمراد منه الكل لأن الرسول إذا كان محتاجًا
للاستعاذة عند القراءة فغيره أولى.
(وقال ابن عباس): فيما وصله الطبري ({تسيمون}) أي (ترعون)
من سامت الماشية أو أسامها صاحبها.
({شاكلته}) في سورة الإسراء أي على (ناحيته) ولأبي ذر عن
الحموي نيته بدل ناحيته أي التي تشاكل حاله في الهدى
والضلال وذكر هذا هنا لعله من ناسخ.
وقوله: وعلى الله ({قصد السبيل} البيان). [النحل: 5]
للطريق الموصل إلى الحق رحمة منه وفضلًا.
(الدفء) في قوله تعالى: {لكم فيها دفء} [النحل: 5] (ما
استدفأت) به مما يقي البرد.
({تريحون}) تردّونها من مراعيها أو من مراحها. (بالعشي
{وتسرحون}) تخرجونها (بالغداة) إلى المرعى.
({بشق}) الأنفس (يعني المشقّة) والكلفة.
({على تخوف}) أي (تنقص) شيئًا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم
حتى يهلكوا من تخوّفته إذا تنقصته.
وروي بإسناد فيه مجهول عن عمر أنه قال على المنبر: ما
تقولون فيها؟ فسكتوا. فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا
التخوّف التنقص. فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال:
نعم. قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته:
تخوّف الرحل منها تامكًا قردًّا ... كما تخوّف عود النبعة
السفن
فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا وما
ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم.
وقوله تعالى: {وإن لكم في} ({الأنعام لعبرة}) [النحل: 66].
(وهي) أي الأنعام (تؤنث وتذكر وكذلك النعم)
(7/196)
تذكر وتؤنث (الأنعام) هي (جماعة النعم)
ولغير أبي ذر وكذلك النعم للأنعام بحرف الجر جماعة النعم
ومعنى لعبرة أي دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم وذكر
الضمير ووحده هنا في قوله: {نسقيكم مما في بطونه} [النحل:
66] للفظ وأنثه في سورة المؤمنين للمعنى فإن الأنعام اسم
جمع ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال
كأخلاق، ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن
لبعضها دون جميعها أو لواحده أو له على المعنى فإن المراد
به الجنس قاله في الأنوار.
({أكنانًا}) يشير إلى قوله: {وجعل لكم من الجبال أكنانًا}
[النحل: 81] (واحدها كن) بكسر الكاف (مثل حمل وأحمال) بكسر
الحاء المهملة أي جعل مواضع تسكنون بها من الكهوف والبيوت
المنحوتة فيها، وهذا ثابت لأبي ذر.
({سرابيل}) هي (قمص) بضم القاف والميم جمع قميص ({تقيكم
الحر}) أي والبرد وخص الحر بالذكر اكتفاء بأحد الضدين عن
الآخر أو لأن وقاية الحر كانت عندهم أهم ولأبي ذر هنا
والقانت المطيع قاله ابن مسعود فيما رواه ابن مردويه وفي
رواية أبي ذر في نسخة أخرى بعد قوله وقال ابن مسعود الأمة
معلم الخير وهي الأولى (وأما {سرابيل تقيكم بأسكم} فإنها
الدروع) [النحل: 81] والسربال يعم كل ما لبس من قميص أو
درع أو جوشن أو غيره.
({دخلًا بينكم}) [النحل: 92]. قال أبو عبيدة (كل شيء لم
يصح فهو دخل) بفتح الخاء وقيل الدخل والدغل الغش والخيانة
وقيل الدخل ما أدخل في الشيء على فساد وقيل أن يظهر الوفاء
ويبطن الغدر والنقص.
(قال) ولأبي ذر وقال: (ابن عباس) فيما وصله الطبري بإسناد
صحيح في قوله تعالى: ({حفدة} من ولد الرجل) أي ولد ولده أو
بناته فإن الحافد هو المسرع في الخدمة والبنات يخدمن في
البيوت أتم خدمة أو هم البنون أنفسهم والعطف لتغاير
الوصفين أي جعل لكم بنين خدمًا وقيل الحفدة الأصهار قال:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد مما يعدّ كثير
لكنها نفس عليّ أبية ... عيوف لأصهار اللئام قذور
({السكر}) في قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب
تتخذون منه سكرًا} [النحل: 67] (ما حرم من ثمرتها) أي من
ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما والسكر مصدر سمي به
الخمر يقال: سكر يسكر سكرًا وسكرًا نحو: رشد يرشد رشدًا
ورشدًا قال:
وجاؤونا لهم سكر علينا ... فأجلى اليوم والسكران صاحي
(والرزق الحسن) في قوله تعالى: {ورزقًا حسنًا} (ما أحل
الله) ولأبي ذر ما أحل بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول وحذف
الفاعل للعلم به وهو كالتمر والزبيب والدبس والخل والآية
إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهتها وإلا
فجامعة بين العتاب والمنّة.
(وقال ابن عيينة): سفيان مما وصله ابن أبي حاتم (عن صدقة)
أبي الهذيل لا صدقة ابن الفضل المروزي أي عن السدي كما عند
ابن أبي حاتم في قوله تعالى: ({أنكاثًا}) قال (هي) امرأة
اسمها (خرقاء) كانت بمكة (كانت إذا أبرمت غزلها نفضته).
وفي تفسير مقاتل أن اسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن
زيد مناة بن تميم وعند البلاذري أنها والدة أسد بن عبد
العزى بن قصي وأنها بنت سعد بن تميم بن مرّة عند غيره؛
وكان بها وسوسة وأنها اتخذت مغزلًا بقدر ذراع وصنارة مثل
الأصبع وفلكة عظيمة على قدرهما، وفي غرر التبيان أنها كان
تتغزل هي وجواريها من الغداة إلى نصف النهار ثم تأمرهن
بنقض ذلك كله، فهذا كان دأبها، والمعنى أنها لم تكف عن
العمل ولا حين عملت كفت عن النقض فكذلك أنتم إذا نقضتم
العهد لا كففتم عن العهد ولا حين عهدتم وفيتم به أنكاثًا
نصب على الحال من غزلها أو مفعول ثان لنقضت فإنه بمعنى
صيرت.
(وقال ابن مسعود): فيما وصله الحاكم والفريابي (الأمة) من
قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120]. هو (معلم
الخير) وفي الكشاف وغيره أنه بمعنى
(7/197)
مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير أو
بمعنى مؤتم به قال في الأنوار: فإن الناس كانوا يؤمونه
للاستفادة ويقتدون بسيرته لقوله: {إني جاعلك للناس إمامًا}
[البقرة: 124] فهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين.
(والقانت) هو (المطيع) كما فسره به ابن مسعود أو هو القائم
بأمر الله.
وسبق ذكر هذا قريبًا وهذا ثابت لأبي ذر.
1 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ
إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70]
(باب قوله تعالى: {ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر}) [النحل:
70] أي أردئه أو تسعون سنة أو ثمانون أو خمس وتسعون أو خمس
وثمانون أو خمس وسبعون، وروى ابن مردويه من حديث أنس أنه
مائة سنة.
4707 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
هَارُونُ بْنُ مُوسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الأَعْوَرُ،
عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَانَ يَدْعُو: «أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ
وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ،
وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا
وَالْمَمَاتِ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور) النحوي البصري (عن
شعيب) هو ابن الحبحاب بحاءين مهملتين مفتوحتين
بينهما موحدة ساكنة وبعد الألف موحدة أخرى (عن أنس بن مالك
-رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان يدعو):
(أعوذ بك من البخل) أي في حقوق المال (و) من (الكسل) وهو
التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه ويكون لعدم انبعاث النفس
للخير مع ظهور الاستطاعة (و) من (أرذل العمر) أي أخسّه وهو
الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان القوّة والعقل وإنما
استعاذ منه لأنه من الأدواء التي لا دواء لها. وروى ابن
أبي حاتم من طريق السدي قال: أرذل العمر هو الخرف، والحاصل
أن كبر السن ربما يورث نقص العقل وتخابط الرأي وغير ذلك
مما يسوء به الحال (و) أعوذ بك من (عذاب القبر) الإضافة
هنا إضافة المظروف إلى ظرفه فهو على تقدير في، أي من
العذاب في القبر والأحاديث الصحيحة في إثباته متظاهرة
فالإيمان به واجب (و) من (فتنة الدجال) في حديث أبي أمامة
عند أبي داود وابن ماجة خطبنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر الحديث وفيه: أنه لم تكن فتنة في
الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال (و) من
(فتنة المحيا والممات) أي زمان الحياة والموت وهو من أوّل
النزع وهلم جرا وأصل الفتنة الامتحان والاختبار، واستعملت
في الشرع في اختبار كشف ما يكره يقال فتنت الذهب إذا
أدخلته النار لتختبر جودته وفتنة المحيا هو ما يعرض
للإنسان في مدّة حياته من الافتتان بالدنيا وشهواتها
وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت وفتنة
الممات قيل كسؤال الملكين ونحو ذلك مما يقع في القبر،
والمراد من شر سؤالهما وإلاّ فأصل السؤال واقع لا محالة
فلا يدعى برفعه فيكون عذاب القبر مسببًا عن ذلك، والسبب
غير المسبب. وقيل: المراد الفتنة قبيل الموت وأضيفت إليه
لقربها منه، وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يتعوّذ من المذكورات دفعًا عن أمته وتشريعًا لهم ليبين لهم
صفة المهم من الأدعية جزاه الله عنا ما هو أهله. وهذا
الحديث أخرجه مسلم في الدعوات.
[17]- سورة بَنِي إِسْرَائِيلَ
[17]- سورة بَنِي إِسْرَائِيلَ
مكية قيل إلا قوله: {وإن كادوا ليفتنونك} [الإسراء: 73]
إلى آخر ثمان آيات، وهي مائة وعشر آيات، وزاد أبو ذر: بسم
الله الرحمن الرحيم وسقطت لغيره.
1 - باب
4708 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-
قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ، وَمَرْيَمَ
إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ
تِلاَدِي {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيكَ رُؤُوسَهُمْ} [الإسراء:
51] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَهُزُّونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ
نَغَضَتْ سِنُّكَ: أَيْ تَحَرَّكَتْ. [الحديث 4708 -
أطرافه في: 4739، 4994].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي أنه (قال:
سمعت عبد الرحمن بن يزيد) النخعي الكوفي (قال: سمعت ابن
مسعود) عبد الله (-رضي الله عنه- قال): سورة (بني إسرائيل
و) سورة (الكهف و) سورة (مريم) وزاد في سورة الأنبياء
وفضائل القرآن وطه والأنبياء (إنهن من العتاق الأول) بكسر
العين المهملة وتخفيف الفوقية جمع عتيق والعرب تجعل كل شيء
بلغ الغاية في الجودة عتيقًا، والأول بضم الهمزة وفتح
الواو المخففة والأولية باعتبار حفظها أو باعتبار نزولها
لأنها مكيات ومراده تفضيل هذه السور لما يتضمن مفتتح كل
منها بأمر غريب وقع في العالم خارق للعادة وهو الإسراء
وقصة أصحاب الكهف وقصة مريم قاله الكرماني (وهن من تلادي)
بكسر
(7/198)
الفوقية وتخفيف اللام وبعد الألف دال مهملة
فتحتية مما حفظته قديمًا ضد الطارف ومراده أنهن من أول ما
تعلم من القرآن وأن لهن فضلًا لما فيهن من القصص وأخبار
الأنبياء والأمم كما مرّ، وفي حديث عائشة عند الإمام أحمد
كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ
كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
({فسينغضون إليك رؤوسهم}) [الإسراء: 51]. (قال ابن عباس):
فيما وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه معناه
(يهزون) رؤوسهم ومن طريق العوفي عنه يحركونها استهزاء،
ولغير أبي ذر قال ابن عباس فسينغضون يهزون.
(وقال غيره): أي غير ابن عباس (نغضت سنك) بفتح الغين
المعجمة ولأبي ذر: نغضت بكسرها (أي تحركت) قاله أبو عبيدة
وزاد وارتفعت من أصلها.
2 - باب
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4]
أَخْبَرْنَاهُمْ أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ وَالْقَضَاءُ
عَلَى وُجُوهٍ. وَقَضَى رَبُّكَ أَمَرَ رَبُّكَ، وَمِنْهُ
الْحُكْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ. وَمِنْهُ
الْخَلْقُ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ. نَفِيرًا: مَنْ
يَنْفِرُ مَعَهُ، مَيْسُورًا: لَيِّنًا. وَلِيُتَبِّرُوا.
يُدَمِّرُوا مَا عَلَوْا، حَصِيرًا: مَحْبِسًا: مَحْصَرًا،
حَقَّ: وَجَبَ، مَيْسُورًا: لَيِّنًا، خِطْأً إِثْمًا
وَهْوَ اسْمٌ مِنْ خَطِئْتُ وَالْخَطَأُ مَفْتُوحٌ
مَصْدَرُهُ مِنَ الإِثْمِ خَطِئْتُ بِمَعْنَى أَخْطَأْتُ.
تَخْرِقَ: تَقْطَعَ، وَإِذْ هُمْ نَجْوَى مَصْدَرٌ مِنْ
نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ.
رُفَاتًا: حُطَامًا، وَاسْتَفْزِزْ: اسْتَخِفَّ بِخَيْلِكَ
الْفُرْسَانِ، وَالرَّجْلُ الرَّجَّالَةُ وَاحِدُهَا
رَاجِلٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَصَحْبٍ وَتَاجِرٍ: وَتَجْرٍ:
حَاصِبًا: الرِّيحُ الْعَاصِفُ. وَالْحَاصِبُ أَيْضًا: مَا
تَرْمِي بِهِ الرِّيحُ وَمِنْهُ حَصَبُ جَهَنَّمَ يُرْمَى
بِهِ فِي جَهَنَّمَ وَهْوَ حَصَبُهَا، وَيُقَالُ: حَصَبَ
فِي الأَرْضِ ذَهَبَ، وَالْحَصَبُ مُشْتَقٌّ مِنَ
الْحَصْبَاءِ وَالْحِجَارَةِ. تَارَةً: مَرَّةً
وَجَمَاعَتُهُ تِيَرَةٌ وَتَارَاتٌ. لأَحْتَنِكَنَّ:
لأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ يُقَالُ: احْتَنَكَ فُلاَنٌ مَا
عِنْدَ فُلاَنٍ مِنْ عِلْمٍ اسْتَقْصَاهُ. طَائِرَهُ:
حَظُّهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ سُلْطَانٍ فِي
الْقُرْآنِ فَهُوَ حُجَّةٌ. وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ. لَمْ
يُخالِفْ أَحَدًا.
({وقضينا إلى بني إسرائيل}) [الإسراء: 4]. قال أبو عبيدة
أي (أخبرناهم أنهم سيفسدون) والمرتين في الآية أولاهما قتل
زكريا وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله والآخرة قتل يحيى
بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم (والقضاء) يأتي (على
وجوه) كثيرة ({وقضى ربك}) [الإسراء: 3] أي (أمر ربك) أمرًا
مقطوعًا به، وسقط: ربك لأبي ذر (ومنه الحكم) كقوله تعالى:
({وإن ربك يقضي بينهم}) [يونس: 93]. أي يحكم بينهم (ومنه
الخلق) كقوله تعالى: ({فقضاهن سبع سماوات}) [فصلت: 12].
زاد أبو ذر: خلقهن.
({نفيرًا}) في قوله: {وجعلناكم أكثر نفيرًا} [الإسراء: 16]
قال أبو عبيدة أصله (من ينفر معه) أي مع الرجل من قومه
وعشيرته وقيل جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدوّ،
وفاء ينفر بالكسر والضم.
({ميسورًا}) في قوله تعالى: {فقل لهم قولًا ميسورًا
[الإسراء: 28] (ليّنًا) ابتغاء رحمة الله برحمتك عليهم
وثبتت هذه هنا لأبي ذر وتأتي بعد إن شاء الله تعالى.
({وليتبروا}) أي (يدمروا {ما علوا}) من التدمير وهو
الإهلاك أي ليهلكوا ما غلبوه واستولوا عليه.
({حصيرًا}) في قوله: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا}
[الإسراء: 8] أي (محبسًا) بفتح الميم وكسر الموحدة لا
يقدرون على الخروج منها أبد الآباد (محصرًا) بفتح الميم
والصاد المهملة اسم لموضع الحصر.
({حق}) عليها القول أي (وجب) عليها كلمة العذاب السابقة
(ميسورًا) أي (لينًا) وسبق قريبًا.
(خطأ) من قوله: {إن قتلهم كان خطأ} [الإسراء: 31] أي
(إثمًا وهو) أي الخطأ (اسم من خطئت والخطأ مفتوح مصدره من
الإثم خطئت) بكسر الطاء (بمعنى أخطأت) كذا قاله أبو عبيدة
وتبعه المؤلّف رحمهما الله وتعقب بأن جعله خطأ بكسر الخاء
اسم مصدر ممنوع وإنما هو مصدر خطئ يخطأ كأثم يأثم إثمًا
إذا تعمد الذنب وبأن دعواه أن خطأ المفتوح الخاء والطاء،
وبها قرأ ابن ذكوان مصدر بمعنى الإثم ليس كذلك، وإنما هو
اسم مصدر من أخطأ يخطئ إخطاء إذا لم يصب والمعنى فيه أن
قتلهم كان غير صواب وبأن قوله خطئت بمعنى أخطأت خلاف قول
أهل اللغة خطئ أثم وتعمد الذنب وأخطأ إذا لم يتعمد.
({تخرق}) في قوله: {إنك لن تخرق الأرض} [الإسراء: 137 أي
لن (تقطع) الأرض لشدة وطأتك وسقط هذا لأبي ذر.
({وإذ هم نجوى} مصدر من ناجيت فوصفهم بها) أي بالنجوى
فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة أو على حذف مضاف
أي ذو نجوى ويجوز أن يكون جمع نجيٌّ كقتيل وقتلى. (والمعنى
يتناجون).
وقوله: ({رفاتًا}) يريد قوله تعالى: {وقالوا أئذا كنا
عظامًا ورفاتًا} [الإسراء: 49] أي (حطامًا). وقال الفراء
هو التراب، ويؤيده أنه قد تكرر في القرآن ترابًا وعظامًا.
({واستفزز}) أي (استخف) الذي استطعت استفزازه منهم
({بخيلك} الفرسان) بالجر فالخيل الخيالة ومنه قوله عليه
الصلاة والسلام: "يا خيل الله اركبي" ({والرجل}) بفتح
الراء وسكون الجيم يريد قوله تعالى: {واجلب عليهم بخيلك
ورجلك} [الإسراء: 64] ولأبي ذر والرجال بكسر الراء وتخفيف
الجيم هو (الرجالة) بفتح الراء وتشديد الجيم (واحدها راجل)
ضد الفارس (مثل صاحب وصحب وتاجر وتجر) قاله أبو عبيدة.
({حاصبًا}) في قوله تعالى: {أو يرسل عليكم حاصبًا}
[الإسراء: 68] هو (الريح العاصف) أي الشديد ولم يؤنثه لأنه
مجازي (والحاصب أيضًا ما ترمي به الريح ومنه: {حصب جهنم})
أي (يرمى به
(7/199)
في جهنم) بضم الياء وفتح الميم مبنيًّا
للمفعول (وهو) أي الشيء الذي يرمى به، ولأبي ذر وهم أي
القوم الذين يرمون فيها (حصبها ويقال حصب في الأرض) أي
(ذهب) فيها (والحصب) محركًا (مشتق من الحصباء الحجارة).
قال العيني لم يرد بالاشتقاق الاشتقاق المصطلح عليه أعني
الاشتقاق الصغير لعدم صدقه عليه وتفسير الحصباء بالحجارة
هو من تفسير الخاص بالعام قالوا والحصب الرمي بالحصباء وهي
الحجارة الصغار قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربهم ... حصباء مثل نديف القطن
منثور
ولغير أبي ذر الحصباء والحجارة بزيادة واو.
({تارة}) في قوله تعالى: {أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة}
[الإسراء: 69] أي (مرة) فهي مصدر (وجماعته) أي لفظ تارة
(تيرة) بكسر الفوقية وفتح التحتية (وتارات) قال الشاعر:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ... فيبدو تارات يجم فيغرق
وألفها يحتمل أن تكون عن واو أو ياء. قال الراغب: هو فيما
قيل من تار الجرح بمعنى التأم.
({لأحتنكن}) في قوله: {لأحتنكن ذريته} [الإسراء: 62] أي
(لأستأصلنهم) أي بالإغواء وقيل لاستولين عليهم استيلاء من
جعل في حنك الدابة حبلًا يقودها فلا تأبى ولا تشمس عليه
(يقال احتنك فلان ما عند فلان من علم) أي (استقصاه) وعن
مجاهد فيما رواه سعيد بن منصور لأحتنكن لأحتوين قال: يعني
شبه الزناق، وقال ابن زيد لأضلنهم وكلها متقاربة.
({طائره}) في قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في
عنقه} [الإسراء: 13] هو (حظه) بالحاء المهملة والظاء
المعجمة وقال ابن عباس خيره وشره مكتوب عليه لا يفارقه.
وقال الحسن فيما رواه السمرقندي: عمله. زاد في الأنوار وما
قدر له كأنه طير إليه من عش الغيب،
والمعنى أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه
وخص العنق حيث قال في عنقه من بين سائر الأعضاء لأن الذي
عليه إما أن يكون خيرًا يزينه أو شرًّا يثينه وما يزين
يكون كالطوق والحلي وما يشين يكون كالغل.
(قال) ولأبي ذر وقال: (ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما
وصله ابن عيينة في تفسيره في قوله: {واجعل لي من لدنك
سلطانًا نصيرًا} [الإسراء: 82] وقوله: {فقد جعلنا لوليه
سلطانًا} [الإسراء: 33] (كل سلطان) ذكر (في القرآن فهو
حجة) فمعنى سلطانًا نصيرًا حجة ينصرني على من خالفني،
وجعلنا لوليه سلطانًا حجة يتسلط بها على المؤاخذة بمقتضى
القتل.
({ولي من الذل}) أي (لم يحالف) بالحاء المهملة أي لم يوال
(أحدًا) من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته.
3 - باب قَوْلِهِ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]
(باب قوله) جل وعلا: ({أسرى بعبده}) محمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بجسده وروحه يقظة ({ليلًا من المسجد
الحرام}) [الإسراء: 1] مسجد مكة بعينه لحديث أنس المروي في
الصحيحين، وسرى وأسرى بمعنى وقال (ليلًا) بلفظ التنكير.
قال الزمخشري: ليفيد تقليل مدّة الإسراء وأنه أسري به في
بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة فدلّ على أن
التنكير دل على البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة
من الليل أي بعضه كقوله: {ومن الليل فتهجد به} [الإسراء:
79] اهـ.
قال صاحب الدر: فيكون سرى وأسرى كسقى وأسقى والهمزة ليست
للتعدية وإنما المعدي الباء في بعبده وقد تقرر أنها لا
تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور خلافًا للمبرد،
وزعم ابن عطية أن مفعول أسرى محذوف وأن التعدية بالهمزة أي
أسرى الملائكة بعبده لأنه يبعد أن يسند أسرى، وهو بمعنى
سرى إلى الله تعالى إذ هو فعل يقتضي النقلة كمشى وانتقل
فلا يحسن إسناد شيء من هذا مع وجود مندوحة عنه، فإذا وقع
في الشريعة شيء من ذلك تأوّلناه نحو أتيته هرولة.
قال شهاب الدين: وهذا كله إنما بناه اعتقادًا على أن
التعدية بالباء تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في ذلك وهذا
شيء ذهب إليه المبرد، فإذا قلت: قمت بزيد لزم منه قيامك
وقيام زيد عنده، وهذا ليس كذلك التبست عنده باء التعدية
بباء الحال فباء الحال تلزم فيها
(7/200)
المشاركة إذ المعنى قمت ملتبسًا بزيد وباء
التعدية مرادفة للهمزة فقمت بزيد والباء للتعدية كقولك:
أقمت زيدًا ولا يلزم من إقامتك هو أن تقوم أنت وأيضًا
فموارد القرآن في فأسر بقطع الهمزة ووصلها تقتضي أنهما
بمعنى واحد ألا ترى أن قوله: فاسر باهلك وأن أسر بعبادي
قرئ بالقطع والوصل ويبعد
مع القطع تقدير مفعول محذوف إذ لم يصرح به في موضع فيستدل
بالمصرح على المحذوف قاله أبو حبان وقد تقدم الردّ على هذا
المذهب.
وقال صاحب فتوح الغيب: ويمكن أن يراد بالتنكير في ليلًا
التعظيم والتفخيم والمقام يقتضيه. ألا ترى كيف افتتح
السورة بالكلمة المنبئة عنه ثم وصف المسرى به بالعبودية ثم
أردف تعظيم المكانين بالحرام وبالبركة لما حوله تعظيمًا
للزمان، ثم تعظيم الآيات بإضافتها إلى صيغة التعظيم وجمعها
ليشمل جميع أنواع الآيات وكل ذلك شاهد صدق على ما نحن
بصدده والمعنى ما أعظم شأن من أسرى بمن حقق له مقام
العبودية وصحح استئهاله للعناية السرمدية أي ليل له شأن
جليل ليل دنا فيه الحبيب من المحبوب وفاز في مقام الشهود
بالمطلوب فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما
أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى، فحينئذ ينطبق عليه التعليل
بقوله: إنه هو السميع البصير أي السميع بأحوال ذلك العبد
والبصير لأفعاله العالم بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الهوى
مقرونة بالصدق والصفاء مستأهلة للقرب، وسقط لفظ باب لغير
أبي ذر.
4709 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ،
أَخْبَرَنَا يُونُسُ ح وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ
بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا
فَأَخَذَ اللَّبَنَ قَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ
غَوَتْ أُمَّتُكَ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) لقب عبد الله بن عثمان المروزي
قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا (عبد الله) بن المبارك
المروزي قال: (أخبرنا) ولأبي ذر: حدّثنا (يونس) بن يزيد
الأيلي (ح) مهملة لتحويل السند قال المؤلّف بالسند:
(وحدّثنا أحمد بن صالح) أبو جعفر المصري قال: (حدّثنا
عنبسة) بن خالد بن أبي النجاد الأيلي قال: (حدّثنا يونس)
بن يزيد (عن ابن شهاب) الزهري (قال ابن المسيب) سعيد (قال
أبو هريرة) -رضي الله عنه- (أُتي) بضم الهمزة مبنيًا
للمفعول (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ليلة أسري به) من المسجد الحرام وهو (بإيلياء) بكسر الهمزة
واللام بينهما تحتية ساكنة ممدودًا بيت المقدس (بقدحين)
أحدهما (من خمر و) الآخر من (لبن فنظر) عليه الصلاة
والسلام (إليهما فأخذ اللبن}) وترك الخمر، وإسقاط إناء
العسل المذكور في الروايات الأخرى اختصار من الراوي أو
نسيان ولا تنافي في ذلك (قال): ولأبوي ذر والوقت فقال
(جبريل الحمد لله الذي هداك للفطرة) الإسلامية (لو أخذت
الخمر غوت أمتك) بحذف اللام من لغوت. قال ابن مالك فيما
نقله عنه في المصابيح يظن بعض النحويين أن لام جواب لو في
نحو لو فعلت لفعلت لازمة والصحيح جواز حذفها في أفصح
الكلام نحو: {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} {أنطعم من لو
يشاء الله أطعمه} [يس: 47].
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الأشربة وكذا مسلم
والنسائي فيه.
4710 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
«لَمَّا كَذَّبَنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ،
فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ
أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ».
زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ «لَمَّا كَذَّبَنِي
قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ»
نَحْوَهُ قَاصِفًا: رِيحٌ تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) المصري قال: (حدّثنا ابن
وهب) عبد الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) بن
يزيد (عن ابن شهاب) الزهري أنه قال: (قال أبو سلمة) بن عبد
الرحمن بن عوف (سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي
الله عنهما- قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(لما كذبني قريش) في خبر الإسراء كما سيأتي إن شاء الله
قريبًا وللحموي والكشميهني كذبتني بتاء التأنيث (قمت في
الحجر) بكسر الحاء وسكون الجيم الذي أكثره من الكعبة
وكانوا سألوه أن ينعت لهم المسجد الأقصى وفيهم من رآه
وعرفه (فجلّى الله) بالجيم وتشديد اللام أي كشف (لي بيت
المقدس فطفقت) أي شرعت وأخذت (أخبرهم عن آياته) أي علاماته
(وأنا أنظر إليه) زاد في حديث ابن عباس عند النسائي فقال
القوم: أما النعت فقد أصاب.
(زاد يعقوب بن إبراهيم) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن
بن عوف فقال: (حدّثنا ابن أخي ابن شهاب) محمد بن عبد الله
بن مسلم (عن عمه) محمد بن مسلم الزهري (لما كذبني) ولأبي
ذر: كذبتني (قريش حين
(7/201)
أُسري بي إلى بيت المقدس نحوه) أي نحو
الحديث السابق. وهذه الرواية وصلها الذهلي في الزهريات عن
يعقوب.
(قاصفًا) من الريح هو (ريح تقصف كل شيء) تمرّ به من قصف
متعديًا وهذه ساقطة لأبي ذر.
4 - باب
{كَرَّمْنَا} وَأَكْرَمْنَا وَاحِدٌ، ضِعْفَ الْحَيَاةِ:
عَذَابَ الْحَيَاةِ وَعَذَابَ الْمَمَاتِ. خِلاَفَكَ
وَخَلْفَكَ: سَوَاءٌ، وَنَأَى: تَبَاعَدَ: شَاكِلَتِهِ:
نَاحِيَتِهِ وَهْيَ مِنْ شَكْلِهِ. صَرَّفْنَا:
وَجَّهْنَا، قَبِيلًا مُعَايَنَةً وَمُقَابَلَةً وَقِيلَ:
الْقَابِلَةُ لأَنَّهَا مُقَابِلَتُهَا وَتَقْبَلُ
وَلَدَهَا. خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ: أَنْفَقَ الرَّجُلُ
أَمْلَقَ وَنَفِقَ الشَّيْءُ ذَهَبَ. قَتُورًا:
مُقَتِّرًا، لِلأَذْقَانِ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ،
وَالْوَاحِدُ ذَقَنٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَوْفُورًا:
وَافِرًا. تَبِيعًا: ثَائِرًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
نَصِيرًا. خَبَتْ: طَفِئَتْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ
تُبَذِّرْ: لاَ تُنْفِقْ فِي الْبَاطِلِ.
ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ: رِزْقٍ مَثْبُورًا: مَلْعُونًا. لاَ
تَقْفُ: لاَ تَقُلْ، فَجَاسُوا: تَيَمَّمُوا. يُزْجِي
الْفُلْكَ: يُجْرِي الْفُلْكَ، يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ:
لِلْوُجُوهِ.
({كرمنا}) ولأبي ذر باب قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم}
[الإسراء: 70] كرمنا (وأكرمنا واحد) وهو من كرم بالضم كشرف
والمعنى جعلنا لهم كرمًا أي شرفًا وفضلًا وهذا كرم نفي
النقصان لا كرم المال وتكريمهم كما قال في الأنوار بحسن
الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة والتمييز بالعقل
والإفهام بالنطق والإشارة والخط والهدى إلى أسباب المعاش
والمعاد والتسلط على ما في الأرض والتمكن من الصناعات إلى
ما يعود عليهم بالمنافع إلى غير ذلك مما يقف الحصر دون
إحصائه، واستدلّ بالآية على طهارة ميتة الآدمي لأن قضية
تكريمه أن لا يحكم بنجاسته بالموت كما نص عليه في الأم
ولأنه، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل عثمان بن
مظعون بعد موته ودموعه تجري على خده فلو كان نجسًا لما
قبّله مع ظهور رطوبته ولأنا تعبدنا بغسله والنجس لا يتعبد
بغسله لأن غسله يزيد النجاسة وسواء المسلم والكافر، وأما
قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28] فالمراد
نجاسة الاعتقاد أو اجتنابهم كالنجس لا نجاسة الأبدان.
({ضعف الحياة}) في قوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت
تركن إليهم شيئًا قليلًا إذًا لأذقناك ضعف الحياة}
[الإسراء: 74] أي لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة لأذقناك
(عذاب الحياة) أي (وعذاب الممات) ولأبي ذر: وضعف الممات
بدل وعذاب الممات أي ضعف ما يعذب به في الدارين بمثل هذا
الفعل غيرك لأن خطأ الخطير أخطر. وكان أصل الكلام عذابًا
ضعفًا في الحياة وعذابًا ضعفًا في الممات بمعنى مضاعفًا ثم
حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، ثم أضيفت الصفة إضافة
الموصوف فقيل ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل: لأذقناك
أليم الحياة وأليم الممات، في قوله: {ولولا أن ثبتناك}
[الإسراء: 74] تصريح بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ما همّ بإجابتهم مع قوّة الداعي إليها وفيه
تخويف لأمته لئلا يركن أحد من المسلمين إلى أحد من
المشركين فافهم واعلم.
(خلافك وخلفك) في قوله تعالى: {وإذًا لا يلبثون خلافك إلا
قليلًا} [الإسراء: 76] والأولى بكسر الخاء وفتح اللام وألف
بعدها وهي قراءة ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي والأخرى
بفتح فسكون وهما (سواء) في المعنى أي لا يبقون بعد خروجك
من مكة إلا زمنًا قليلًا وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر
بعد هجرته بسنة.
({ونأى}) في قوله تعالى: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض
ونأى} [الإسراء: 83] قال أبو عبيدة أي (تباعد) ومنه النؤي
لحفرة حول الخباء تباعد الماء عنه وقرأ ابن ذكوان بتقديم
الألف على الهمزة بوزن شاء من ناء ينوء إذا نهض وأظنها
رواية غير أبي ذر في البخاري.
({شاكلته}) في قوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته}
[الإسراء: 84] قال ابن عباس فيما وصله الطبري من طريق علي
بن أبي طلحة عنه أي على (ناحيته)، وزاد أبو عبيدة وخليقته
(وهي) أي الشاكلة مشتقة (من شكله) بفتح الشين وهو المثل
قال امرؤ القيس:
حيّ المحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي
أي: لا يلائم مثلها مثلي، ولأبي ذر من شكلته إذا قيدته.
قال في الدر: والشاكلة أحسن ما قيل فيها ما قاله في الكشاف
إنها مذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم:
طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه، والدليل عليه
قوله: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلًا} [الإسراه: 84] وقال
الراغب: على شاكلته أي سجيته التي قيدته من شكلت الدابة
وذلك أن سلطان السجية على الإنسان قاهر.
({صرّفنا}) للناس قال أبو عبيدة أي (وجهنا) وبيَّنَّا وفي
مفعوله وجهان:
أحدهما؛ أنه مذكور وفي مزيدة أي ولقد صرفنا هذا القرآن.
والثاني؛ أنه محذوف أي ولقد صرفنا أمثاله ومواعظه وقصصه
وأخباره وأوامره.
({قبيلًا}) في قوله تعالى: {أو تأتي بالله والملائكة
قبيلًا} [الإسراه: 92] قال أبو عبيدة أي
(7/202)
(معاينة ومقابلة) أو معناه كفيلًا بما
تدّعيه (وقيل القابلة) المرأة التي تتولى ولادة المرأة
(لأنها مقابلتها وتقبل ولدها) أي تتلقاها عند الولادة. قال
الأعشى:
كصرخة حبلى بشرتها قبيلها
أي قابلتها.
({خشية الإنفاق}) في قوله: {إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق}
[الإسراء: 100] يقال (أنفق الرجل) أي (أملق) والإملاق
الفاقة (ونفق الشيء) بكسر الفاء مصححًا عليها في الفرع
كأصله أي (ذهب) وفي حاشية موثوق بها في اليونينية نفق
الشيء بفتح الفاء هي اللغة الفصحى ويقال بكسرها وليست
بالعالية. وفي الصحاح أنفق الرجل أي افتقر وذهب ماله ومنه
قوله تعالى: {إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق}.
({قتورًا}) في قوله تعالى: {وكان الإنسان قتورًا}
[الإسراء: 102] قال أبو عبيدة أي (مقترًا) من الإقتار أي
بخيلًا يريد أن في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى
وتفنى فهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر.
({للأذقان}) في قوله: {ويخرّون للأذقان سُجدًا} [الإسراء:
107] هي (مجتمع اللحيين) اسم مكان بضم الميم الأولى وفتح
الثانية أي على اجتماع اللحيين بفتح اللام وقد تكسر تثنية
لحي وهو العظم الذي عليه الأسنان (والواحد ذقن). بفتح
المعجمة والقاف والمعنى يسقطون على وجوههم تعظيمًا لأمر
الله وشكرًا لإنجاز وعده في تلك الكتب ببعثة محمد -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على فترة من الرسل وإنزال
القرآن عليه قاله القاضي وسقط واو والواحد لأبي ذر.
(وقال مجاهد): فيما وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه
في قوله تعالى: {فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورًا} [الإسراء:
63] أي (وافرًا) مكملًا والمراد جزاؤك وجزاؤهم لكنه غلب
المخاطب على الغائب.
({تبيعًا}) في قوله تعالى: {ثم لا تجدوا لكم علينا به
تبيعًا} [الإسراء: 69] أي (ثائرًا) أي طالبًا للثأر
منتقمًا وهذا تفسير مجاهد وصله عنه الطبري من الطريق
السابق.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله ابن أبي حاتم
من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله تبيعًا أي (نصيرًا).
وقوله تعالى: {كلما} ({خبت}) أي (طفئت) بفتح الطاء وكسر
الفاء وفتح الهمزة قالوا خبت النار إذا سكن لهبها والجمر
على حاله وخمدت إذا سكن الجمر وضعف وهمدت إذا طفئت جملة،
والمعنى كلما أكلت النار جلودهم ولحومهم زدناهم سعيرًا أي
توقدًا بأن تبدّل جلودهم ولحومهم فترجع ملتهبة مستعرة
كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله بأن لا
يزالوا على الإعادة والإفناء.
(وقال ابن عباس): فيما وصله الطبري من طريق عطاء عنه في
قوله تعالى: {ولا تبذر} أي (لا تنفق في الباطل) وأصل
التبذير التفريق ومنه البذر لأنه يفرق في الأرض للزراعة
قال:
ترائب يستضيء الحلي فيها ... كجمر النار بذر في الظلام
ثم غلب في الإسراف فيها النفقة وسقط لأبي ذر قوله خبت
طفئت.
وقال ابن عباس: ({ابتغاء رحمة}) في قوله: ({وإما تعرضنّ
عنهم ابتغاء رحمة} [الإسراء: 28] قال ابن عباس فيما رواه
الطبري أي ابتغاء (رزق) من الله ترجوه أن يأتيك.
({مثبورًا}) في قوله تعالى: {وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا}
[الإسراء: 36] قال ابن عباس أي (ملعونًا) وقال مجاهد
هالكًا ولا ريب أن الملعون هالك.
({لا تقف}) في قوله تعالى: {ولا تقف} أي (لا تقل) {ما ليس
لك به علم} [الإسراء: 36] تقليدًا ورجمًا بالغيب وهذا ساقط
لأبي ذر.
({فجاسوا}) في قوله تعالى: {فجاسوا خلال الديار} [الإسراء:
5] أي (تيمموا) أي قصدوا وسطها للقتل والإغارة.
({يزجي الفلك}) في قوله تعالى: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك}
[الإسراء: 66] أي (يجري الفلك) قاله ابن عباس فيما وصله
الطبري.
({يخرون للأذقان}) قال ابن عباس فيما وصله الطبري أي
(للوجوه) وعن معمر عن الحسن للحي وهذا موافق لما مرّ في
تفسيره قريبًا.
000 - باب قَوْلِهِ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ
قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16]
(باب قوله) جل وعلا: ({وإذا أردنا أن نهلك قرية}) أي أهلها
({أمرنا مترفيها}) [الإسراء: 16] (الآية). واختلف في متعلق
الأمر هنا فعن ابن عباس وغيره أنه أمرنا متنعميها بالطاعة
أي على لسان رسول بعثناه إليهم ففسقوا ورده في الكشاف
ردًّا شديدًا وأنكره إنكارًا بليغًا في كلام
(7/203)
طويل حاصله أنه حذف ما لا دليل عليه وهو
غير جائز وقدّر هو متعلق الأمر الفسق أي أمرناهم بالفسق
ففعلوا والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم
افسقوا وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازًا، ووجه المجاز أنه
صب عليهم النعمة صبًّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتّباع
الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إبلاء النعمة فيه وإنما
قولهم إياها ليشكروا فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليها
القول وهي كلمة العذاب فدمرهم، وأجاب في البحر بأن قوله
لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن
بسبيله، بل ثم ما يدل على حذفه لأن حذف الشيء تارة يكون
لدلالة موافقه عليه ومنه ما مثل به هو في قوله في جملة هذا
المبحث أمرته فقام وأمرته فقرأ وتارة يكون لدلالة خلافه أو
ضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى: {وله ما سكن في الليل
والنهار} [الأنعام: 13] أي ما سكن وما تحرّك. و {سرابيل
تقيكم الحر} أي والبرد وتقول: أمرته فلم يحسن وهذه الآية
من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه ودلالة
النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير وهذا الباب مع
ما ذكره من قوله: وإذا أردنا الخ. ثابت عن أبي ذر بهامش
الفرع هنا وبعد قوله السابق مثبورًا ملعونًا ونبّه محرره
ومقابله العلاّمة محمد المزي أنه وجد كذا في الموضعين من
اليونينية.
4711 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي
وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ
لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمِرَ
بَنُو فُلاَنٍ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (أخبرنا منصور) هو ابن المعتمر (عن
أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله
عنه- أنه (قال: كنا نقول للحي) أي للقبيلة (إذا كثروا في
الجاهلية أمر) بفتح الهمزة وكسر الميم (بنو فلان).
000 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
وَقَالَ: أَمِرَ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير المكي قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (وقال) أي الحميدي عن سفيان (أمر)
بكسر الميم كالأول كذا في فرعين لليونينية كالأصل وقال
الحافظ ابن حجر وغيره: إن الأولى بكسر الميم والثانية
بفتحها وهما لغتان وبالفتح قرأ الجمهور الآية وقرأها ابن
عباس بالكسر ويعقوب بمدّ الهمزة وفتح الميم ومجاهد بتشديد
الميم من الإمارة والحاصل أن سياق المؤلّف لحديث ابن مسعود
لينبه على أن معنى أمرنا في الآية كثرنا مترفيها
وهي لغة حكاها أبو حاتم ونقلها الواحدي عن أهل اللغة وقال
أبو عبيدة من أنكرها لم يلتفت إليه لثبوتها في اللغة.
5 - باب: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ
كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]
(باب) قوله تعالى: ({ذرية من حملنا مع نوح}) بنصب ذرية على
الاختصاص أو على البدل من وكيلًا أي لا تتخذوا من دوني
وكيلًا ذرية من حملنا مع نوح ({إنه}) أي إن نوحًا ({كان
عبدًا شكورًا}) [الإسراء: 3] قال الحافظ ابن كثير: وقد ورد
في الحديث والأثر عن السلف أن نوحًا عليه السلام كان يحمد
الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله فلهذا سمي عبدًا
شكورًا، وصحح ابن حبان من حديث سلمان كان نوح إذا طعم أو
لبس حمد الله فسمي عبدًا شكورًا، وله شاهد عند ابن مردويه
من حديث معاذ بن أنس وفيه تهييج على الشكر على النعم لا
سيما نعمة الإسلام ومحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وسقط باب لغير أبي ذر.
4712 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ،
عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلَحْمٍ
فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ
فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، ثُمَّ قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ
النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ
ذَلِكَ يُجْمَعُ النَّاسُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي
صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ
الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ
الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ
يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا
قَدْ بَلَغَكُمْ أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ
إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ
عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السلام
فَيَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ
اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ
الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى
رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى
إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي
قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ
مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ
نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي
نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ
فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ إِنَّكَ أَنْتَ
أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَقَدْ سَمَّاكَ
اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ
أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ
رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ
يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ
مِثْلَهُ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا
عَلَى قَوْمِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى
غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَيَأْتُونَ
إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ
نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ اشْفَعْ
لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟
فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ
غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ
بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاَثَ
كَذَبَاتٍ" فَذَكَرَهُنَّ أَبُو حَيَّانَ فِي الْحَدِيثِ
"نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي،
اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ
يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَّلَكَ اللَّهُ
بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ اشْفَعْ لَنَا
إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟
فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا
لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ
مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ
بِقَتْلِهَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى
غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى، فَيَأْتُونَ عِيسَى
فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ
وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا اشْفَعْ
لَنَا أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ
عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ
يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ
مِثْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا نَفْسِي نَفْسِي
نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى
مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ
اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ
لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ اشْفَعْ
لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟
فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا
لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ
مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا
لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا
مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ
تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا
رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ
أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ
الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ
شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ،
ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ
الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ
مَكَّةَ وَحِمْيَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي قال: (أخبرنا عبد
الله) بن المبارك المروزي أيضًا قال: (أخبرنا أبو حيان)
بفتح الحاء المهملة والتحتية المشدّدة يحيى بن سعيد بن
حيان (التيمي) تيم الرباب الكوفي (عن أبي زرعة) هرم (بن
عمرو بن جرير) البجلي الكوفي (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه-) أنه (قال: أُتي) بضم الهمزة مبنيًا للمفعول (رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر عن
أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتي (بلحم فرفع إليه الذراع) قال
السفاقسي: الصواب فرفعت إليه الذراع (وكانت تعجبه) لزيادة
لذتها (فنهس منها نهسة) بالسين المهملة فيهما أي أخذ منها
بأطراف أسنانه ولأبي ذر: فنهش منها نهشة بالمعجمة أي
بأضراسه أو بجميع أسنانه (ثم قال): إعلامًا لأمته بقدره
(7/204)
عند الله ليؤمنوا به كغيره مما جاء به من
الواجبات:
(أنا سيد الناس) آدم وجميع ولده (يوم القيامة) وتخصيصه
بالقيامة يلزم منه ثبوت سيادته في الدنيا بطريق الأولوية،
ونهيه عن التفضيل على طريق التواضع (وهل تدرون ممّ ذلك)
ولأبي ذر: مم ذاك بالألف بدل اللام (يجمع الناس) بضم
التحتية مبنيًّا للمفعول وللكشميهني والمستملي يجمع الله
الناس (الأولين والآخرين في صعيد واحد) أرض واسعة مستوية
(يسمعهم الداعي) بضم الياء من الإسماع (وينفذهم البصر)
بفتح الياء وسكون النون والذال المعجمة أي يحيط بهم لا
يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض وعدم الحجاب (وتدنو
الشمس).
وفي الزهد لابن المبارك ومصنف ابن أبي شيبة واللفظ له بسند
جيد عن سلمان قال: تعطي الشمس يوم القيامة حرّ عشر سنين،
ثم تدنو من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين فيعرقون
حتى يرشح العرق في الأرض قامة ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل.
زاد ابن المبارك في روايته ولا يضر حرها يومنذ مؤمنًا ولا
مؤمنة.
(فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون
فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم
إلى ربكم؟) بفتح همزة ألا وتخفيف لامها في الموضعين وهي
للعرض والتخصيص (فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون
آدم عليه السلام، فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله
بيده ونفخ فيك من روحه) قال الكرماني: الإضافة إلى الله
تعالى لتعظيم المضاف وتشريفه (وأمر الملائكة فسجدوا لك)
وزاد في رواية همام في التوحيد وأسكنك جنته وعلمك أسماء كل
شيء (اشفع لنا إلى ربك) حتى يريحنا مما نحن فيه (ألا ترى
إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟) بتخفيف لام ألا
ترى في الموضعين وتحريك غين بلغنا وسقط للحموي والمستملي
لفظة إلى الأخيرة (فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا
لم يغضب قبله مثله ولن يغضب) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
ولا يغضب (بعده مثله) والمراد من الغضب كما قال الكرماني
لازمه وهو إرادة إيصال العذاب وقال النووي: المراد بغضب
الله ما يظهر من انتقامه فيمن عصاه وما يشاهده أهل الجمع
من الأهوال التي لم يكن ولا يكون مثلها (وأنه نهاني) ولأبي
ذر وأنه قد نهاني (عن الشجرة) أي عن أكلها (فعصيته)
وأكلتها (نفسي نفسي نفسي)، كررها ثلاثًا أي هي التي تستحق
أن يشفع لها إذ المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد
بعض لوازمه أو نفسي مبتدأ والخبر محذوف (اذهبوا إلى غيري
اذهبوا إلى نوح) بيان لقوله اذهبوا إلى غيري (فيأتون نوحًا
فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض).
واستشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل وكذا شيث وإدريس
وهم قبل نوح. وأجيب: بأن الأولية مقيدة بأهل الأرض لأن آدم
ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض ويشكل عليه حديث جابر
وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة. وأجيب: بأن بعثته إلى أهل
الأرض باعتبار الواقع لصدق أنهم قومه بخلاف بعثة نبينا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقومه وغيرهم أو
الأولية مقيدة بكونه أهلك قومه أو أن الثلاثة كانوا أنبياء
ولم يكونوا رسلًا لكن في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر ما
يقتضي أنه كان مرسلًا والتصريح بنزال الصحف على شيث.
(وقد سماك الله) أي في القرآن في سورة بني إسرائيل (عبدًا
شكورًا) وهذا موضع الترجمة (اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى
ما نحن فيه فيقول: إن ربي عز وجل) ولأبي ذر فيقول رب عز
وجل (قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده
مثله وإنه قد كانت) ولأبي ذر قد كان (لي دعوة دعوتها على
قومي) هي التي أغرق بها الأرض يعني أن له دعوة واحدة محققة
الإجابة، وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض فخشي أن يطلب
فلا يجاب، وفي حديث أنس عند الشيخين: ويذكر خطيئته التي
أصاب سؤاله ربه بغير علم، فيحتمل أن يكون اعتذر بأمرين:
أحدهما أنه استوفى دعوته المستجابة، وثانيهما:
(7/205)
سؤاله ربه بغير علم بحيث قال: رب إن ابني
من
أهلي فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك (نفسي نفسي
نفسي) ثلاثًا أي هي التي تستحق أن يشفع لها (اذهبوا إلى
غيري اذهبوا إلى إبراهيم) زاد في رواية أن خليل الرحمن
(فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله
من أهل الأرض) لا ينفي وصف نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بمقام الخلة الثابت له على وجه أعلى من إبراهيم
(اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه) من الكرب
(فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله
ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات) بفتحات
(فذكرهن أبو حيان) يحيى بن سعيد التيمي الراوي عن أبي زرعة
(في الحديث) واختصرهن من دونه وهي قوله: إني سقيم، وبل
فعله كبيرهم، وقوله لسارة هي أختي والحق أنها معاريض لكن
لما كانت صورتها صورة كذب سماها به وأشفق منها استقصارًا
لنفسه عن مقام الشفاعة مع وقوعها لأن من كان بالله أعرف
وأقرب منزلة كان أعظم خطرًا وأشد خشية قاله البيضاوي.
(نفسي نفسي نفسي) ثلاثًا (اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى
موسى. فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضّلك
الله برسالته) بالإفراد (وبكلامه على الناس) عام مخصوص على
ما لا يخفى فقد ثبت أنه تعالى كلّم نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة المعراج ولا يلزم من قيام وصف
التكلم به أن يشتق له منه اسم الكليم كموسى إذ هو وصف غلب
على موسى كالحبيب لنبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وإن كان شارك الخليل في الخلة على وجه أكمل منه
(اشفع لنا إلى ربك ألا) بتخفيف اللام ولأبي ذر عن المستملي
والكشميهني أما بميم مخففة بدل اللام (ترى إلى ما نحن فيه)
من الكرب (فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله
مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم أومر
بقتلها) بضم الهمزة وسكون الواو يريد قتله القبطي المذكور
في آية القصص وإنما استعظمته واعتذر به لأنه لم يؤمر بقتل
الكفار أو لأنه كان مؤمنًا فيهم فلم يكن له اغتياله ولا
يقدح في عصمته لكونه خطأ وعدّه من عمل الشيطان في الآية،
وسماه ظلمًا واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات
فرطت منهم (نفسي نفسي نفسي) ثلاثًا (اذهبوا إلى غيري
اذهبوا إلى عيسى) وفي رواية أبي ذر زيادة ابن مريم (فيأتون
عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى
مريم) أي أوصلها إليها وحصلها فيها (وروح منه) أي وذو روح
صدر منه لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له (وكلمت
الناس في المهد) حال كونك (صبيًّا) أي طفلًا والمهد مصدر
سمي به ما يمهد للصبي من مضجعه وسقط صبيًّا لأبي ذر (اشفع
لنا) أي إلى ربك حتى يريحنا مما نحن فيه (ألا ترى إلى ما
نحن فيه) من الكرب (فيقول عيسى: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم
يغضب قبله مثله) زاد أبو ذر قط (ولن يغضب بعده مثله ولم
يذكر ذنبًا) وفي رواية أحمد والنسائي من حديث ابن عباس إني
اتخذت إلهًا من دون الله، وفي رواية ثابت عند سعيد بن
منصور نحوه وزاد وإن يغفر لي اليوم حسبي (نفسي نفسي نفسي)
ثلاثًا (اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في حديث أنس الطويل في الرقاق
فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (فيأتون محمدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية في
الموضعين لأبي ذر (فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم
الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) يعني
أنه غير مؤاخذ بذنب ولو وقع.
قال في فتح الباري: ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا هذا
ومن قول موسى إني قتلت نفسًا وأن يغفر لي اليوم حسبي مع أن
الله غفر له بنص القرآن التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم
يقع منه شيء أصلًا، فإن موسى مع وقوع المغفرة له لم يرتفع
إشفاقه من المؤاخذة بذلك أو رأى في نفسه تقصيرًا عن مقام
الشفاعة مع وجود ما صدر منه بخلاف نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى
(7/206)
بأنه صاحب الشفاعة لأنه غفر له ما تقدم من
ذنبه وما تأخر بمعنى أن الله أخبر أن لا يؤاخذه بذنب، ولو
وقع منه، قال وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح
الباري فله الحمد، وقال القاضي عياض: ويحتمل أنهم علموا أن
صاحبها محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معينًا
وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في
ذلك إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إظهارًا
لشرفه في ذلك المقام العظيم.
(اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه) من الكرب
(فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي عز وجل) زاد في
حديث أبي بكر الصديق عند أبي عوانة قدر جمعة (ثم يفتح الله
عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد
قبلي) وفي حديث أبيّ بن كعب عند أبي يعلى رفعه: يعرفني
الله نفسه فأسجد له سجدة يرضى بها عني ثم أمتدحه بمدحة
يرضى بها عني (ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه) بسكون
الهاء (واشفع تشفع) مبني للمفعول من التشفيع أي تقبل
شفاعتك (فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب) مرتين
ولأبي ذر أمتي يا رب فزاد ثالثة (فيقال: يا محمد أدخل من
أمتك) بكسر الخاء أمر من الإدخال أي الجنة (من لا حساب
عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة) وهم سبعون ألفًا
وهم أول من يدخلها (وهم) أيضًا (شركاء الناس فيما سوى ذلك
من الأبواب ثم قال: و) الله (الذي نفسي بيده إن ما بين
المصراعين من مصاريع الجنة) بكسر الميم من مصراعين وهما
جانبا الباب (كما بين مكة وحمير) بكسر الحاء المهملة وفتح
التحتية بينهما ميم ساكنة آخره راء أي صنعاء لأنها بلد
حمير (أو كما بين مكة وبصرى) بضم الموحدة مدينة بالشام
بينها وبين دمشق ثلاث مراحل والشك من الراوي.
وهذا الحديث قد مرّ باختصار في أحاديث الأنبياء.
6 - باب قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}
[الإسراء: 55]
(باب قوله) تعالى: {وآتينا داود زبورًا} [الإسراء: 55]
كتابًا مزبورًا أي مكتوبًا أو هو اسم للكتاب الذي أنزل
عليه وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام
بل كلها تسبيح وتقديس وتحميد وثناء على الله عز وجل
ومواعظ، ونكره هنا لدلالته على التبعيض أي زبورًا من الزبر
أو زبورًا فيه ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فأطلق على القطعة منه زبور كما يطلق على بعض
القرآن، وفيه تنبيه على وجه تفضيل نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أنه خاتم النبيين وأمته خير الأمم
المدلول عليه بما كتب في الزبور وسقط قوله لغير أبي ذر.
4713 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ بْنِ
مُنَبِّهٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقِرَاءَةُ فَكَانَ يَأْمُرُ
بِدَابَّتِهِ لِتُسْرَجَ فَكَانَ يَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ
يَفْرُغَ» يَعْنِي: الْقُرْآنَ.
وبه قال: (حدّثنا) لغير أبي ذر حدّثني بالإفراد (إسحاق بن
نصر) هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم ونسبه إلى جده
لشهرته به السعديّ المروزيّ وقيل البخاري قال: (حدّثنا عبد
الرزاق) بن همام الصنعاني (عن معمر) هو ابن راشد (عن همام
بن منبه) بفتح الموحدة المشددة وسقط لغير أبي ذر ابن منبه
(عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(خفف) بضم الخاء وتشديد الفاء مكسورة مبنيًا للمفعول (على
داود) عليه السلام (القراءة) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
القرآن وقد يطلق على القراءة والأصل فيه الجمع وكل شيء
جمعته فقد قرأته وسمي القرآن قرآنًا لأنه جمع الأمر والنهي
وغيرهما وقيل المراد الزبور والتوراة وكان الزبور ليس فيه
أحكام كما مرّ بل كان اعتمادهم في الأحكام على التوراة كما
أخرجه ابن أبي حاتم وغيره وقرآن كل نبي يطلق على كتابه
الذي أوحي إليه وإنما سماه قرآنًا للإشارة إلى وقوع
المعجزة به كوقوع المعجزة بالقرآن فالمراد به مصدر القراءة
لا القرآن المعهود لهذه الأمة (فكان يأمر بدابته لتسرج)
بالإفراد وفي أحاديث الأنبياء بدوابه بالجمع فالإفراد على
الجنس أو ما يختص بركوبه وبالجمع ما يضاف إليها مما يركبه
أتباعه (فكان) داود (يقرأ قبل أن يفرغ) الذي يسرج من
الإسراج (يعني القرآن) وفيه أن البركة قد تقع في الزمن
اليسير حتى يقع فيه العمل الكثير فمن ذلك أن بعضهم كان
يقرأ أربع ختمات بالليل وأربعًا بالنهار، وقد أنبئت عن
الشيخ أبي الطاهر المقدسي أنه يقرأ في اليوم والليلة خمس
عشرة ختمة، وهذا
(7/207)
الرجل قد رأيته بحانوته بسوق القماش في
الأرض المقدسة سنة سبع وستين وثمانمائة وقرأت في الإرشاد
أن الشيخ نجم الدين الأصبهاني رأى رجلًا من اليمن بالطواف
ختم في شوط أو في أسبوع شك وهذا لا سبيل إلى إدراكه إلا
بالفيض الرباني والمدد الرحماني.
وهذا الحديث قد مرّ في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام.
7 - باب: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ
فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ
تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({قل ادعوا الذين
زعمتم}) أي زعمتموهم آلهة فمفعولا الزعم حذفًا اختصارًا
({من دونه}) كالملائكة والمسيح وعزير ({فلا يملكون}) فلا
يستطيعون ({كشف الضرّ عنكم}) كالمرض والفقر والقحط ({ولا
تحويلًا}) [الإسراء: 56] أي ولا أن يحوّلوه إلى غيركم وسقط
قوله فلا يملكون الخ. لأبي ذر وقال بعد قوله: ({من دونه})
الآية.
4714 - حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ {إِلَى رَبِّهِمِ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: كَانَ
نَاسٌ مِنَ الإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِنَ الْجِنِّ
فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَتَمَسَّكَ هَؤُلاَءِ بِدِينِهِمْ
زَادَ الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الأَعْمَشِ {قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ}. [الحديث 4714 - أطرافه في:
4715].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (عمرو بن علي)
بفتح العين وسكون الميم ابن بحر الباهلي الصيرفي البصري
قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان قال: (حدّثنا سفيان)
الثوري قال: (حدّثني) بالإفراد (سليمان) هو الأعمش (عن
إبراهيم) النخعي (عن أبي معمر) عبد الله بن سخبرة الأزدي
الكوفي (عن عبد الله) هو ابن سعود -رضي الله عنه- أنه قال
في قوله تعالى: ({إلى ربهم}) فيه حذف بينه في رواية
النسائي من هذا الوجه فقال عن عبد الله في قوله: {أولئك
الذين يدعون يبتغون إلى ربهم} (الوسيلة) [الإسراء: 57] أي
القربة كما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة (قال: كان ناس من
الإنس يعبدون ناسًا من الجن) استشكله السفاقسي من حيث إن
الناس ضد الجن. وأجيب: بأنه على قول من قال إنه من ناس إذا
تحرّك. وقال الجوهري في صحاحه: والناس قد يكون من الإنس
والجن فهو صريح في استعمال ذلك، ولئن سلمنا أن الجن لا
يسمون ناسًا فهذا يكون من المشاكلة نحو تعلم ما في نفسي
ولا أعلم ما في نفسك على ما تقرر في علم البديع. (فأسلم
الجن، وتمسك هؤلاء) الإنس العابدون (بدينهم) ولم يتابعوا
المعبودين في إسلامهم والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا.
وزاد الطبري من وجه آخر عن ابن مسعود والإنس الذن كانوا
يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم (زاد الأشجعي) بفتح الهمزة
وسكون الشين المعجمة وبالجيم والعين المهملة عبيد الله
مصغرًا الكوفي المتوفى في سنة ثنتين وثمانين ومائة في
روايته (عن سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمان ({قل ادعوا
الذين زعمتم}) وبهذه الزيادة تقع المطابقة بين الحديث
والترجمة.
8 - باب قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمِ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]
(باب قوله) تعالى: (أولئك) الأنبياء كعيسى ({الذين يدعون})
أي يدعونهم المشركون لكشف ضرّهم أو يدعونهم آلهة فأولئك
مبتدأ والموصول نعت أو بيان أو بدل والمراد باسم الإشارة
الأنبياء الذين عبدوا من دون الله وبالواو العباد لهم
ومفعولًا يدعون محذوفان كالعائد على الموصول والخبر جملة
({يبتغون إلى ربهم الوسيلة}) القربة بالطاعة أو الخبر نفس
الموصول ويبتغون حال من فاعل يدعون أو بدل منه (الآية)
وسقط لغير أبي ذر باب قوله.
4715 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ
عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ -رضي الله عنه- فِي هَذِهِ الآيَةِ {الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمِ الْوَسِيلَةَ}
قَالَ نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ: يُعْبَدُونَ فَأَسْلَمُوا.
وبه قال: (حدّثنا بشر بن خالد) بموحدة مكسورة فشين معجمة
ساكنة أبو محمد الفرائضي العسكري قال: (أخبرنا محمد بن
جعفر) الملقب بغندر (عن شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن
مهران الأعمش (عن إبراهيم) النخعي (عن أبي معمر) عبد الله
بن سخبرة بفتح السين المهملة وسكون الخاء المعجمة بعدها
موحدة (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه قال:
(في هذه الآية {الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة}
قال): ولأبي ذر عن المستملي كان (ناس من الجن يعبدون) بضم
أوله وفتح ثالثه مبنيًا للمفعول ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي كانوا يعبدون (فأسلموا) وهذا طريق آخر للحديث
السابق ذكره مختصرًا.
9 - باب: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ
إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وما جعلنا الرؤيا
التي أريناك}) ليلة المعراج ({إلا فتنة للناس}) [الإسراء:
60] أي اختبارًا وامتحانًا ولذا رجع ناس عن دينهم لأن
عقولهم لم تحمل ذلك بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وسقط لفظ
باب لغير أبي ذر.
4716 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- {وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً
لِلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ
أُسْرِيَ بِهِ {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ.
وبه قال: (حدّثنا
(7/208)
علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو ابن دينار (عن عكرمة) مولى
ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه قال: في قوله
تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}).
وهذه الجملة من قوله: حدّثنا علي بن عبد الله إلى هنا
ساقطة من الفرع المعتمد المقابل على اليونينية وقف تنكزبغا
ثابتة في غيره من الفروع المعتمدة (قال) أي ابن عباس (هي
رؤيا عين) لا منام وفيه رد صريح على من أنكر مجيء المصدر
من رأى البصرية على رؤيا كالحريري وغيره وقالوا إنما يقال
في البصرية رؤية وفي الحلمية رؤيا (أريها رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الهمزة وكسر
الراء من الإراءة (ليلة أسري به) ولم يصرح بالمرئي وعند
سعيد بن منصور من طريق أبي مالك قال هو ما أري في طريقه
إلى بيت المقدس ({والشجرة الملعونة}) عطف على الرؤيا
والملعونة نعت زاد في نسخة في القرآن هي (شجرة الزقوم)
وكذا رواه أحمد وعبد الرزاق عن ابن عيينة به روى أنه لما
سمع المشركون ذكرها قالوا: إن محمدًا يزعم أن الجحيم تحرق
الحجارة ثم يقول تنبت فيها الشجرة رواه بمعناه عبد الرزاق
عن معمر عن قتادة ولم يعلموا أن من قدر أن يحمي وبر
السمندل من أن تأكله النار وأحشاء النعامة من أدّى الحجر
وقطع الحديد المحماة التي تبتلعها قادر أن يخلق في النار
شجرة لا تحرقها ولعنها في القرآن قيل هو مجاز إذ المراد
طاعموها لأن الشجرة لا ذنب لها وقيل على الحقيقة ولعنها
إبعادها من رحمة الله لأنها تخرج في أصل الجحيم فإنه أبعد
مكان من الرحمة.
10 - باب قَوْلِهِ: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] قَالَ مُجَاهِدٌ: صَلاَةَ
الْفَجْرِ
(باب قوله) تعالى: ({إن قرآن الفجر كان مشهودًا})
[الإسراء: 78] (قال مجاهد) فيما وصله ابن المنذر عن ابن
أبي نجيح عنه في قوله قرآن الفجر أي (صلاة الفجر) عبر عنها
ببعض أركانها وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
4717 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فَضْلُ
صَلاَةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلاَةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ
وَعِشْرُونَ دَرَجَةً وَتَجْتَمِعُ مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ
وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ» يَقُولُ:
أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (عبد الله بن
محمد) المسندي بفتح النون قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن
همام قال: (أخبرنا معمر) بسكونه العين المهملة وفتح
الميمين هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن
أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف اسمه عبد الله أو إسماعيل
(وابن المسيب) بفتح التحتية المشددة سعيد كلاهما (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه- عن النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال): وسقط لفظ قال لأبي ذر عن الحموي
والكشميهني.
(فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد) منفردًا (خمس وعشرون
درجة) وفي نسخة خمس بفتح السين كذا في الفرع كأصله مصححًا
عليه أي تزيد خمس درجات وعشرين بالياء أي درجة (وتجتمع
ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح) لأنه وقت
صعودهم بعمل الليل ومجيء الطائفة الأخرى لعمل النهار ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي في صلاة الفجر (يقول) وفي فضل صلاة
الفجر في جماعة من كتاب الصلاة من طريق شعيب عن الزهري ثم
يقول (أبو هريرة) مستشهدًا لذلك (اقرؤوا إن شئتم {وقرآن
الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا}) أي تشهده ملائكة الليل
وملائكة النهار رواه أحمد عن ابن مسعود مرفوعًا وفي
الأنوار أو شواهد القدرة من تبذل الظلمة بالضياء والنوم
الذي هو أخو الموت بالانتباه أو كثير من المصلين أو من حقه
أن يشهده الجم الغفير.
11 - باب قَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ
مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]
(باب قوله) تعالى: ({عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا})
[الإسراء: 79] يحمده فيه الأوّلون والآخرون والمشهور أنه
مقام الشفاعة للناس ليريحهم الله من كرب ذلك اليوم وشدته.
4718 - حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حَدَّثَنَا
أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ:
سَمِعْتُ
ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ
يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ
تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلاَنُ اشْفَعْ
حَتَّى تَنْتَهِىَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ
اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولغير أبي ذر حدّثني (إسماعيل بن
أبان) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة أخره نون منصرف وغير
منصرف أبو إسحاق الوراق الأزدي الكوفي قال: (حدّثنا أبو
الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين سلام بتشديد اللام ابن
سليم الحنفي الكوفي (عن آدم بن علي) العجلي بكسر العين
المهملة وسكون الجيم أنه (قال: سمعت ابن عمر -رضي الله
عنهما- يقول: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثّا) بضم الجيم
وفتح المثلثة المخففة منوّنًا مقصورًا جمع جثوة كخطوة
وخطًا
(7/209)
أي جماعات (كل أمة تتبع نبيها يقولون يا
فلان اشفع) أي لنا وزاد أبو ذر يا فلان اشفع فيكون مرتين
(حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) زاد في الرواية المعلقة في الزكاة فيشفع ليقضي
بين الخلق (فذلك) أي مقام الشفاعة (يوم يبعثه الله المقام
المحمود) وفي المقام المحمود أقوال أخر تأتي إن شاء الله
تعالى بعون الله في الرقاق.
4719 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا
شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي
الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ
النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ
التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا
الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا
مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عياش) بتشديد التحتية آخره شين
معجمة الألهاني الحمصي قال: (حدّثنا شعيب بن أبي حمزة)
بالحاء المهملة والزاي الحمصي (عن محمد بن المنكدر) بن عبد
الله بن الهدير بالتصغير التيمي المدني (عن جابر بن عبد
الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(من قال حين يسمع النداء) أي الأذان (اللهم رب هذه الدعوة
التامة) لجمعها العقائد بتمامها (والصلاة القائمة) الدائمة
التي لا تغيرها ملة ولا تنسخها شريعة (آت محمدًا) ولأبي ذر
عن الحموي والمستملي ائت محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (الوسيلة) المنزلة العلية في الجنة التي لا
تنبغي إلا له (والفضيلة) المرتبة الزائدة على سائر
المخلوقين (وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته) بقولك
تباركت وتعاليت {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا}
[الإسراء: 79] والموصول مع الصلة إما بدل من النكرة على
طريق إبدال المعرفة من النكرة أو صفة لها على رأي الأخفش
لأنها وصفت وإنما نكر لأنه أفخم وأجزل كأنه قيل مقامًا وأي
مقام يغبطه فيه الأوّلون والآخرون محمودًا تأكل عن أوصافه
ألسنة الحامدين وتشرت به على جميع العالمين تسأل فتعطى
وتشفع فتشفع وليس أحد إلا تحت لوائك (حلت) أي وجبت (له
شفاعتي يوم القيامة) الشاملة للأوّلين والآخرين في خلاصهم
من كرب يوم الدين وتوصيلها إلى جنات النعيم ولقاء الله رب
العالمين جعلنا الله منهم بمنه وكرمه (رواه) أي الحديث
المذكور
(حمزة بن عبد الله عن أبيه) عبد الله بن عمر فيما وصله
الإسماعيلي (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
وهذا الحديث قد سبق في باب الدعاء عند الأذان من كتاب
الصلاة.
12 - باب: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ
إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
يَزْهَقُ: يَهْلِكُ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وقل جاء الحق})
الإسلام ({وزهق الباطل}) أي ذهب وهلك الشرك وقال قتادة
الحق القرآن والباطل الشيطان وقال ابن جريج الحق الجهاد
والباطل الشرك وقيل غير ذلك والصواب تعميم اللفظ بالغاية
الممكنة فيكون التعبير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه
والباطل كل ما لا تنال به غاية نافعة ({إن الباطل كان
زهوقًا}) [الإسراء: 81] مضمحلًا ذاهبًا غير ثابت قال:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... إقدامه من آلة لم تزهق
وقال أبو عبيدة (يزهق) بفتح أوّله وثالثه معناه (يهلك)
بفتح أوّله وكسر ثالثه، والمراد بهلكته وضوحه فيكون هالكًا
لا يعمل به المحق وسقط لأبي ذر أن الباطل كان زهوقًا وقال
بعد الباطل الآية وسقط لغيره لفظ باب.
4720 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي
مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله
عنه- قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ
وَثَلاَثُمِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ
فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} {جَاءَ
الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن ابن أبي نجيح) عبد الله واسم
أي نجيح بفتح النون وكسر الجيم يسار ضد اليمين (عن مجاهد)
هو ابن جبر (عن أبي معمر) بفتح الميمين عبد الله بن سخبرة
الأزدي الكوفي (عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-) أنه
(قال: دخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة)
أي عام الفتح (وحول البيت) أي والحال أن البيت حوله (ستون
وثلاثمائة نصب) بضم النون والصاد ولأبي ذر نصب بفتح النون
وسكون الصاد مجرور فيهما وقد تسكن الصاد مع ضم النون.
قال في فتح الباري: كتنقيح الزركشي والسفاقسي واللفظ للأول
كذا للأكثر هنا بغير ألف وكذا وقع في رواية سعيد بن منصور
لكن وقع بلفظ صنم والأوجه نصبه على التمييز إذ لو كان
مرفوعًا لكان صفة والواحد لا يقع صفة للجمع اهـ قال في
المصابيح متعقبًا لما قاله في التنقيح من ذلك هنا عدد أن
كل منهما
(7/210)
يحتاج إلى مميز فالأول مميزه منصوب يعني
ستون نصبًا والثاني مميزه مجرور يعني ثلاثمائة نصب فإن عنى
أنه مميز لكلا العددين فخطأ والظاهر أنه مجرور كما وقع في
بعض النسخ تمييز لثلاثمائة ومميز ستون محذوف لوجود الدال
عليه وأما قوله ولا وجه للرفع إذ لو كان مرفوعًا لكان صفة
الخ فلم ينحصر وجه الرفع فيما ذكر حتى يتعين فيه الخطأ
لجواز أن يكون نصب خبر مبتدأ محذوف أي كل منها نصب انتهى.
وقال العيني النصب واحد الأنصاب قال الجوهري وهو ما يعبد
من دون الله وكذلك النصب بالضم واحد الأنصاب قال وفي دعوى
الأوجهية نظر لأنه إنما يتجه إذا جاءت الرواية بالنصب على
التمييز وليست الرواية إلا بالرفع فحينئذٍ الوجه أن يقال
النصب ما نصب أعم من أن يكون واحدًا أو جميعًا وأيضًا هو
في الأصل مصدر نصبت الشيء إذا أقمته فيتناول عموم الشيء
اهـ ومراده الاستدلال على كون النصب هنا جمعًا فيصح أن
يكون صفة للجمع لكن قوله وليست الرواية إلا بالرفع فيه نظر
فليحرر.
والذي رأيته في جملة من الفروع المعتمدة المقابلة على
اليونينية المجمع عليها في الإتقان وتحرير الضبط بالجر ولم
أر غيره في نسخة ومن علم حجة على من لم يعلم لكن قول
الحافظ ابن حجر بعد ذكره ما مر أو هو منصوب لكنه كتب بغير
ألف على بعض اللغات يدل على أنه لم يثبت عنده فيه رواية
فيجزم بها فتأمله.
(فجعل) عليه الصلاة والسلام (يطعنها) بضم العين (بعود في
يده) وفي الفرع كأصله فتح العين من يطعنها أيضًا لكن
المعروف أن المفتوح للطعن في القول (ويقول: {جاء الحق وزهق
الباطل إن الباطل كان زهوقًا}) الواو للعطف على فجعل يطعن
أو للحال ({جاء الحق}) أي القرآن أو التوحيد أو المعجزات
الدالة على نبوّته عليه الصلاة والسلام ({وما يبدئ الباطل
وما يعيد}) يجوز في ما أن تكون نفيًا وأن تكون استفهامًا
ولكن يؤول معناها إلى النفي ولا مفعول للفعلين إذ المراد
لا يوقع هذين الفعلين كقوله:
أقفر من أهله عبيد ... أصبح لا يبدي ولا يعيد
أو حذفًا أي ما يبدئ لأهله خبرًا ولا يعبده والمعنى ذهب
الباطل وزهق فلم تبق منه بقية تبدئ شيئًا أو تعيد.
13 - باب: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ويسألونك عن الروح})
[الإسراء: 85] وسقط باب لغير أبي ذر.
4721 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي
الله عنه- قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَرْثٍ وَهْوَ مُتَّكِئٌ
عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ فَقَالَ: مَا رَابَكُمْ
إِلَيْهِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ
لاَ يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالُوا
سَلُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ
فَقُمْتُ مَقَامِي فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْىُ قَالَ:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا}
[الإسراء: 85].
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) بكسر الغين المعجمة
وآخره مثلثة ابن طلق بفتح الطاء وسكون اللام الكوفي قال:
(حدّثنا أبي) حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران
قال: (حدّثني) بالإفراد (إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن
قيس النخعي (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه
(قال بينا) بغير ميم (أنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حرث) بفتح الحاء المهملة آخره
مثلثة وفي العلم من وجه آخر في قرب المدينة بخاء معجمة ثم
موحدة آخره بدل المثلثة، وعند مسلم في نخل (وهو متكئ على
عسيب) بفتح العين وكسر السين المهملتين وبعد التحتية
الساكنة وحدة عصًا من جريد النخل (إذ مرّ اليهود) رفع على
الفاعلية (فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح) الذي يحيا به
بدن الإنسان ويدبره أو جبريل أو القرآن أو الوحي أو ملك
يقوم وحده صفًّا يوم القيامة أو ملك له أحد عشر ألف جناح
ووجه أو ملك له سبعون ألف لسان أو خلق كخلق بني آدم يقال
لهم الروح يأكلون ويشربون أو سلوه عن كيفية مسلك الروح في
البدن وامتزاجها به أو عن ماهيتها وهل هي متحيزة أم لا وهل
هي حالة في متحيز أم لا وهل هي قديمة أو حادثة وهل تبقى
بعد انفصالها من الجسد أو تفنى وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها
وغير ذلك من متعلقاتها قال الإمام فخر الدين وليس في
السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني إلا أن الأظهر أنهم سألوه
عن الماهيّة وهل الروح قديمة أو حادثة (فقال) أي بعضهم (ما
رأبكم إليه) بلفظ الفعل الماضي من غير همز من الريب ولأبي
ذر عن الحموي كما قال في فتح الباري ما رأبكم بهمزة مفتوحة
وضم الموحدة من
(7/211)
الرأب وهو الإصلاح يقال فيه رأب بين القوم
إذا أصلح بينهم قال وفي توجيهه هنا بعد. وقال الخطابي:
الصواب ما أربكم بتقديم الهمزة وفتحتين من الأرب وهو
الحاجة. قال الحافظ ابن حجر: وهذا واضح المعنى لو ساعدته
الرواية نعم رأيته في رواية المسعودي عن الأعمش عند الطبري
كذلك، وذكر ابن التين أن في رواية القابسي كرواية الحموي
لكن بتحتية بدل الموحدة ما رأيكم أي بسكون الهمزة من الرأي
انتهى. وهذا الذي حكاه عن رواية القابسي رأيته كذلك في فرع
اليونينية كأصله عن أبي ذر عن الحموي.
(وقال بعضهم لا يستقبلكم بشيء) بالرفع على الاستئناف ويجوز
الجزم على النهي وفي العلم وقال بعضهم لا تسألوه لا يجيء
فيه بشيء (تكرهونه) إن لم يفسره لأنهم قالوا إن فسره فليس
بنبي وذلك أن في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه
ولا يطلع عليه أحدًا من عباده فإذا لم يفسره دل على نبوّته
وهم يكرهونها وفيه قيام الحجة عليهم في نبوّته (فقالوا:
سلوه فسألوه عن الروح، فأمسك النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يرد عليهم) ولأبي ذر عن الكشميهني
فلم يرد عليه (شيئًا) بالإفراد أي على
السائل وفي العلم فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما
الروح؟ قال ابن مسعود (فعلمت أنه يوحى إليه) في التوحيد
فظننت بدل فعلمت وإطلاق الظن على العلم معروف (فقمت مقامي)
أي في مقامي أي لأحول بينه وبين السائلين أو فقمت عنه أي
لئلا يتشوش بقربي منه وفي الاعتصام فتأخرت عنه (فلما نزل
الوحي) عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال:
{ويسألونك عن الروح}) قال البرماوي وغيره ظاهر السياق
يقتضي أن الوحي لم يتأخر لكن في مغازي ابن إسحاق أنه تأخر
خمس عشرة ليلة، وكذا قال القاضي عياض أنه ثبت كذلك في مسلم
أي ما يقتضي الفورية وهو وهم بين لأنه إنما جاء هذا القول
عند انكشاف الوحي وفي البخاري في كتاب الاعتصام فلما صعد
الوحي وهو صحيح، قال في المصابيح: هذه الإطلاقات صعبة في
الأحاديث لا سيما ما اجتمع على تخريجه الشيخان ولا أدري ما
هذا الوهم ولا كيف هو ولما حرف وجود لوجود أي أن مضمون
الجملة الثانية وجد لأجل مضمون الأولى كما تقول لما جاءني
زيد أكرمته فالإكرام وجد لوجود المجيء كذلك تلاوته عليه
الصلاة والسلام لقوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} الآية
كانت لأجل وجود إنزالها ولا يضر في ذلك كون الإنزال تأخر
عن وقت السؤال وأما قوله أن هذا القول إنما كان بعد انكشاف
الوحي فمسلم إذ هو لا يتكلم بالمنزل عليه في نفس وقت
الإنزال، وإنما يتكلم به بعد انقضاء زمن الوحي واتحاد زمني
الفعلين الواقعين في جملتي لما غير شرط كما إذا قلت لما
جاءني زيد أكرمته فلا يشترط في صحة هذا الكلام أن يكون
الإكرام والمجيء واقعين في زمن واحد لا يتقدم أحدهما على
الآخر ولا يتأخر بل هذا التركيب صحيح إذا كان الإكرام
متعقبًا للمجيء.
فإن قلت: لعله بناه على رأي الفارسي ومن تبعه في أن لما
ظرف بمعنى حين فيلزم أن يكون الفعل الثاني واقعًا في حين
الفعل الأول؟ قلت: ليس مراد الفارسي ولا غيره من كونها
بمعنى حين ما فهمته من اتحاد الزمنين باعتبار الابتداء
والانتهاء إلا أنه يصح أن تقول جئت حين جاء زيد وإن كان
ابتداء مجيئك في آخر مجيء زيد ومنتهاه بعد ذلك والمشاحة في
مثل هذا والمضايقة فيه مما لم تبن لغة العرب عليه اهـ.
({قل الروح من أمر ربي}) أي مما استأثر الله بعلمه فهو من
أمر رب لا من أمري فلا أقول لكم ما هي والأمر بمعنى الشأن
أي معرفة الروح من شأن الله لا من شأن غيره ولا يلزم من
عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء
وماهيتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها ويؤيده
قوله تعالى: ({وما أوتيتم من العلم إلا}) علمًا أو إيتاءً
({قليلًا}) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وما أوتوا بضمير
الغائب وهي قراءة شاذة مروية عن الأعمش مخالفة للمصحف ليست
من طرق كتابي الذي جمعته في القراءات الأربعة عشر وإنما
(7/212)
رأيتها في كتب التفسير قيل: وليس في الآية
دلالة على أن الله تعالى لم يطلع نبيه على حقيقة الروح بل
يحتمل أن يكون أطلعه ولم يأمره أن يطلعهم، وقد قالوا في
علم الساعة نحو هذا فالله أعلم.
وقد قرر السهيلي فيما ذكره ابن كثير أن الروح هي ذات لطيفة
كالهواء سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر وإن
الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها
بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم فهي إما نفس مطمئنة
أو أمارة بالسوء كما أن الماء حياة الشجر ثم يكتسب بسبب
اختلاطه معها اسمًا خاصًا فماذا اتصل بالعنبة وعصر منها
صار ماء مصطارًا وخمرًا ولا يقال له ماء حينئذٍ إلا على
سبيل المجاز وهكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو
وكذلك لا يقال للروح نفس إلا على هذا النحو باعتبار ما
تؤول إليه فحاصل ما نقول إن الروح هي أصل النفس ومادّتها
والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن فهي هي من وجه لا من
كل وجه وهذا معنى حسن انتهى. ثم إن ظاهر سياق هذا الحديث
يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن نزولها إنما كان حين سأل
اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية وقد يجاب
باحتمال أن تكون نزلت مرة ثانية بالمدينة كما نزلت بمكة
قبل.
وهذا الحديث سبق في كتاب العلم وأخرجه أيضًا في التوحيد
والاعتصام ومسلم في التوبة والترمذي والنسائي في التفسير.
14 - باب: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ
بِهَا} [الإسراء: 110]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ولا تجهر بصلاتك ولا
تخافت بها}) [الإسراء: 110] سقط لفظ باب لغير أبي ذر.
4722 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْهَرْ
بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: نَزَلَتْ
وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ
رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا سَمِعَ
الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ
وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَلاَ تَجْهَرْ
بِصَلاَتِكَ} أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ
الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلاَ تُخَافِتْ
بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلاَ تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}. [الحديث 4722 - أطرافه في: 7490،
7525، 7547].
وبه قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) الدورقي قال: (حدّثنا
هشيم) بضم الهاء مصغرًا ابن بشير مصغر بشر الواسطي قال:
(حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (أبو بشر) بكسر الموحدة وسكون
المعجمة جعفر بن أبي وحشية الواسطي (عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه قال: (في قوله تعالى: {ولا
تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} قال: نزلت ورسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مختف بمكة) يعني في أوّل
الإسلام ولأبي ذر عن الحموي والمستملي مختفي بإثبات
التحتية بعد الفاء (كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن
فإذا سمع) ولأبي ذر سمعه (المشركون سبوا القرآن ومن أنزله
ومن جاء به فقال الله تعالى) ولأبي ذر عز وجل (لنبيه) محمد
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {ولا تجهر بصلاتك}
أي بقراءتك) أي بقراءة صلاتك فهو على حذف المضاف (فيسمع
المشركون فيسبوا القرآن) وللطبري
من وجه آخر عن سعيد بن جبير فقالوا له أي المشركون لا تجهر
فتؤذي آلهتنا فنهجو إلهك ({ولا تخافت}) لا تخفض صوتك (بها
عن أصحابك فلا تسمعهم) وإنما حذف المضاف لأنه لا يلبس من
قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير
والصلاة أفعال وأذكار ({وابتغ بين ذلك}) الجهر والمخافتة
({سبيلًا}) وسطًا.
4723 - حَدَّثَنِا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، حَدَّثَنَا
زَائِدَةُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي
الله عنها- قَالَتْ: أُنْزِلَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ.
[الحديث 4723 - أطرافه في: 6327، 7526].
وبه قال: (حدّثنا) ولغير أبي ذر حدثني بالإفراد (طلق بن
غنام) بفتح الطاء المهملة وسكون اللام ثم قاف وغنام بالغين
المعجمة والنون المشدّدة وبعد الألف ميم أبو محمد النخعي
الكوفي قال: (حدّثنا زائدة) بن قدامة (عن هشام عن أبيه)
عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت:
أنزل ذلك) أي قوله ولا تجهر الخ (في الدعاء) من باب إطلاق
الكل على الجزء إذ الدعاء من بعض أجزاء الصلاة. وأخرج
الطبري وابن خزيمة والحاكم من طريق حفص بن غياث عن هشام
الحديث وزاد فيه في التشهد وهو مخصص لحديث عائشة إذ ظاهره
أعم من أن يكون داخل الصلاة وخارجها. وعند ابن مردويه من
حديث أبي هريرة كان رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذا صلى عند البيت رفع صوته بالدعاء فنزلت أو
مراده معناها اللغوي على ما لا يخفى.
وهذا الحديث من أفراده.
[18]- سورة الْكَهْفِ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَقَالَ مُجَاهِدٌ
{تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} ذَهَبٌ
وَفِضَّةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: جَمَاعَةُ الثَّمَرِ
{بَاخِعٌ} مُهْلِكٌ {أَسَفًا} نَدَمًا {الْكَهْفُ}
الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ، {وَالرَّقِيمُ} الْكِتَابُ:
مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مِنَ الرَّقْمِ {رَبَطْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ} أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا. {لَوْلاَ أَنْ
رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}: {شَطَطًا} إِفْرَاطًا
{الْوَصِيدُ} الْفِنَاءُ، جَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ
وَيُقَالُ الْوَصِيدُ الْبَابُ، مُؤْصَدَةٌ مُطْبَقَةٌ
آصَدَ الْبَابَ وَأَوْصَدَ {بَعَثْنَاهُمْ}
أَحْيَيْنَاهُمْ. أَزْكَى: أَكْثَرُ وَيُقَالُ أَحَلُّ
وَيُقَالُ أَكْثَرُ رَيْعًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
{أُكْلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ} لَمْ تَنْقُصْ، وَقَالَ
سَعِيدٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {الرَّقِيمُ} اللَّوْحُ مِنْ
رَصَاصٍ كَتَبَ عَامِلُهُمْ أَسْمَاءَهُمْ ثُمَّ طَرَحَهُ
فِي خِزَانَتِهِ {فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ}
فَنَامُوا. وَقَالَ غَيْرُهُ وَأَلَتْ تَئِلُ تَنْجُو
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَوْئِلًا: مَحْرِزًا {لاَ
يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} لاَ يَعْقِلُونَ.
[18]- سورة الْكَهْفِ
مكية قيل إلا قوله: {واصبر نفسك} الآية وهي مائة وإحدى
عشرة آية.
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(7/213)
قال الحافظ ابن حجر ثبتت البسملة لجر أبي
ذر اهـ. أي وسقطت له والذي رأيته في الفرع كأصله ثبوتها له
فقط مصححًا على علامته فالله أعلم.
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي في قوله تعالى:
({تقرضهم}) أي (تتركهم) وروى عبد الرزاق عن قتادة نحوه،
وقول مجاهد هذا ساقط عند أبي ذر.
({وكان له ثمر}) بضم المثلثة قال مجاهد فيما وصله الفريابي
أي (ذهب وفضة) وعن مجاهد أيضًا ما كان في القرآن ثمر بالضم
فهو المال وما كان بالفتح فهو النبات وقال ابن عباس بالضم
جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك قال
النابغة:
مهلًا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد
(وقال غيره) غير مجاهد الثمر بالضم (جماعة الثمر) بالفتح.
({باخع}) في قوله تعالى: {لعلك باخع} [الكهف: 6] قال أبو
عبيدة (مهلك) نفسك إذا ولوا عن الإيمان.
({أسفًا}) أي (ندمًا) كذا فسره أبو عبيدة وعن قتادة حزنًا
وعن غيره فرط الحزن.
({الكهف}) في قوله: {أم حسبت أن أصحاب الكهف} هو (الفتح في
الجبل) ({والرقيم}) [الكهف: 9] هو (الكتاب مرقوم) أي
(مكتوب من الرقم) بسكون القاف قيل هو لوح رصاصي أو حجري
رقمت فيه أسماؤهم وقصصهم وجعل على باب الكهف، وقيل الرقيم
اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم أو اسم قريتهم أو
كلبهم وقيل غير ذلك وقيل مكانهم بين غضبان وأيلة دون
فلسطين وقيل غير ذلك مما فيه تباين وتخالف ولم ينبئنا الله
ولا رسوله عن ذلك في أي الأرض هو إذ لا فائدة لنا فيه ولا
غرض شرعي.
({ربطنا على قلوبهم}) [الكهف: 14] أي (ألهمناهم صبرًا) على
هجر الوطن والأهل والمال والجراءة على إظهار الحق والرد
على دقيانوس الجبار ومن هذه المادة قوله تعالى: في سورة
القصص {لولا أن ربطنا على قلبها} [القصص: 10] أي أم موسى
وذكره استطرادًا.
(شططا) في قوله تعالى: {لقد قلنا إذا شططا} [الكهف: 14] أي
(إفراطًا) في الظلم ذا بعد عن الحق.
({الوصيد}) في قوله تعالى: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد}
[الكهف: 18] هو (الفناء) بكسر الفاء تجاه الكهف (جمعه
وصائد) كمساجد (ووصد) بضمتين (ويقال الوصيد) هو (الباب)
وهو مروي عن ابن عباس وعن عطاء عتبة الباب وقوله تعالى في
الهمزة مما ذكره استطرادًا (مؤصدة) أي (مطبقة) يعني النار
على الكافرين واشتقاقه من قوله (آصد الباب) بمد الهمزة
(وأوصد) أي أطبقه وحذف المفعول من الثاني للعلم به من
الأوّل.
({بعثناهم}) في قوله تعالى: {ثم بعثناهم لنعلم أيّ
الحزبين} [الكهف: 12] أي (أحييناهم) قاله أبو عبيدة
والمراد أيقظناهم من نومهم إذ النوم أخو الموت وقوله:
{لنعلم أي الحزبين أحصى} عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى
الوجود أي لنعلم ذلك موجودًا وإلا فقد كان الله تعالى علم
أي الحزبين أحصى الأمد.
({أزكى}) في قوله تعالى: {فلينظر أيها أزكى طعامًا}
[الكهف: 19] معناه (أكثر) أي أكثر أهلها طعامًا (ويقال
أحل) وهذا أولى لأن مقصودهم إنما هو الحلال سواء كان
كثيرًا أو قليلًا وقيل المراد أحل ذبيحة قاله ابن عباس
وسعيد بن جبير قيل لأن عامتهم كانوا مجوسًا وفيهم قوم
مؤمنون يخفون إيمانهم (ويقال أكثر ريعًا) أي نماء على
الأصل.
(قال ابن عباس {أكلها} سقط لأبي ذر من قوله الكهف إلى هنا
({ولم تظلم}) أي (لم تنقص) بفتح أوّله وضم ثالثه أي من
أكلها شيئًا يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام
وتنقص في عام غالبًا.
(وقال سعيد) هو ابن جبير مما وصله ابن المنذر (عن ابن
عباس) -رضي الله عنهما- ({الرقيم} اللوح من رصاص كتب
عاملهم}) فيه (أسماءهم ثم طرحه في خزانته) بكسر الخاء
المعجمة وسبب ذلك أن الفتية طلبوا فلم يجدوهم فرفع أمرهم
للملك فقال ليكونن لهؤلاء شأن فدعا باللوح وكتب ذلك (فضرب
الله على آذانهم) يريد تفسير قوله: {فضربنا على آذانهم}
(فناموا) نومة لا تنبههم فيها الأصوات كما ترى المستثقل في
نومه يصاح به فلا ينتبه.
(وقال غيره) أي غير ابن عباس وسقط وقال سعيد عن ابن عباس
إلى هنا لأبي ذر في قوله تعالى: {بل
(7/214)
لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلًا} [الكهف:
58] مشتق من (وألت تئل) من باب فعل يفعل بفتح العين في
الماضي وكسرها في المستقبل أي (تنجو) يقال وأل إذا نجا
ووأل إليه إذا لجأ إليه والموئل الملجأ (وقال مجاهد
موئلًا) أي (محرزًا) بفتح الميم وكسر الراء بينهما حاء
مهملة ساكنة.
({لا يستطيعون سمعًا}) في قوله تعالى: {الذين كانت أعينهم
في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعًا} [الكهف: 101]
أي (لا يعقلون) وهذا وصله الفريابي عن مجاهد أي لا يعقلون
عن الله أمره ونهيه والأعين هنا كناية عن البصائر لأن عين
الجارحة لا نسبة بينها وبين الذكر والمعنى الذين فكرهم
بينها وبين ذكري والنظر في شرعي حجاب وعليها غطاء ولا
يستطيعون سمعًا لإعراضهم ونفارهم عن الحق لغلبة الشقاء
عليهم.
1 - باب قَوْلِهِ: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ
جَدَلًا}
(باب قوله) ولأبي ذر باب بالتنوين أي في قوله تعالى:
({وكان الإنسان}) يريد الجنس أو النضر بن الحارث أو أبي بن
خلف ({أكثر شيء}) يتأتى منه الجدل ({جدلًا}) [الكهف: 54]
خصومة ومماراة بالباطل وانتصابه على التمييز يعني أن جدل
الإنسان أكثر من جدل كل شيء ونحوه {فإذا هو خصيم مبين}
[يس: 77] وفي حديث مرفوع "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه
إلا أوتوا الجدل".
4724 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ
بْنَ عَلِيٍّ، أَخْبَرَهُ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ قَالَ: «أَلاَ
تُصَلِّيَانِ؟» رَجْمًا بِالْغَيْبِ لَمْ يَسْتَبِنْ
فُرُطًا: نَدَمًا. سُرَادِقُهَا مِثْلُ السُّرَادِقِ
وَالْحُجْرَةِ الَّتِي تُطِيفُ بِالْفَسَاطِيطِ.
يُحَاوِرُهُ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ
رَبِّي أَيْ لَكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ثُمَّ
حَذَفَ الأَلِفَ وَأَدْغَمَ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي
الأُخْرَى، وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرًا يَقُولُ:
زَلَقًا: لاَ يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ، هُنَالِكَ
الْوَلاَيَةُ: مَصْدَرُ الْوَلِيِّ عُقُبًا: عَاقِبَةٌ
وَعُقْبَى وَعُقْبَةٌ وَاحِدٌ وَهْيَ الآخِرَةُ، قِبَلًا
وَقُبُلًا وَقَبَلًا اسْتِئْنَافًا. لِيُدْحِضُوا
لِيُزِيلُوا الدَّحْضُ الزَّلَقُ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
يعقوب بن إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف قال: (حدّثنا أبي) إبراهيم (عن صالح) هو ابن
كيسان (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال:
أخبرني) بالإفراد (علي بن حسين) بضم الحاء هو زين العابدين
(أن) أباه (حسين بن علي أخبره عن) أبيه (علي -رضي الله
عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
طرقه وفاطمة) أي أتاهما ليلًا (قال) ولأبي ذر وقال أي لهما
حثًّا وتحريضًا (ألا تصليان) كذا ساقه مختصرًا ولم يذكر
المقصود منه هنا جريًا على عادته في التعمية وتشحيذ
الأذهان فأشار بطرفه إلى بقيته وهو قول علي فقلت: يا رسول
الله أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف
حين قلنا ذلك ولم يرجع إليّ شيئًا ثم سمعته وهو مول يضرب
فخذه وهو يقول {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا} وهذا يدل على
أن المراد بالإنسان الجنس ففيه ردّ على من قال المراد
بالإنسان هنا الكافر لكن في الآية مع قوله: ويجادل الذين
كفروا بالباطل إشعار بالتخصيص لأن ذلك صفة ذم ولا يستحقه
إلا من هو له أهل وهم الكفار.
وهذا الحديث قد مر في التهجد من أواخر كتاب الصلاة.
({رجمًا بالغيب}) في قوله: {ويقولون خمسة سادسهم كلبهم
رجمًا بالغيب} [الكهف: 22] أي (لم يستبن) لهم فهو قول بلا
علم وقد حكي ثلاثة أقوال في اختلاف الناس
في عددهم، فمنهم من قال ثلاثة رابعهم كلبهم قيل وهو قول
اليهود، وقيل هو قول السيد من نصارى نجران وكان يعقوبيًا.
وقال النصارى أو العاقب منهم خمسة سادسهم كلبهم وقد أتبع
هذين القولين بقوله رجمًا بالغيب، وقال المسلمون بأخبار
الرسول سبعة وثامنهم كلبهم ورجمًا يجوز كونه مفعولًا من
أجله وكونه في موضع الحال أي ظانين وقوله رجمًا الخ ساقط
لأبي ذر.
(يقال {فرطًا}) يريد قوله تعالى: {وكان أمره فرطًا}
[الكهف: 28] أي (ندمًا) وهذا وصله الطبري من طريق داود بن
أبي هند بلفظ ندامة وقال أبو عبيدة تضييعًا وإسرافًا وسقط
قوله يقال لغير أبي ذر.
({سرادقها}) في قوله: {إنّا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط
بهم سرادقها} [الكهف: 29] والضمير يرجع إلى النار والمعنى
أن سرادق النار (مثل السرادق والحجرة) بالراء (التي تطيف
بالفساطيط) أي تحيط بها والفساطيط جمع فسطاط وهي الخيمة
العظيمة والسرداق الذي يمدّ فوق صحن الدار ويطيف به وقيل
سرادقها دخانها وقيل حائط من نار.
({يحاوره}) في قوله تعالى: {قال له صاحبه وهو يحاوره}
[الكهف: 37] هو (من المحاورة) وهي المراجعة.
({لكنا هو الله ربي} أي لكن أنا هو الله ربي) كما كتبت في
مصحف أبي بإثبات أنا (ثم حذف الألف) التي هي صورة الهمزة
والهمزة (وأدغم إحدى النونين في الأخرى) عند التقاء
المثلين وقوله ثم حذف الألف يحتمل أن يكون بنقل حركة
الهمزة لنون لكن أو حذفت من غير نقل على غير قياس قال
(7/215)
في الدور الأول: أحسن الوجهين. وقال في
المصابيح: قول بعضهم نقلت حركة الهمزة إلى النون ثم حذفت
على القياس في التخفيف ثم سكنت النون وأدغمت مردود لأن
المحذوف لعلة بمنزلة الثابت ولهذا تقول هذا قاض بالكسر لا
بالرفع لأن حذف الياء للساكنين فهي مقدرة الثبوت فيمتنع
الإدغام لأن الهمزة فاصلة في التقدير.
({وفجرنا خلالهما نهرًا}) [الكهف: 33] (يقول بينهما نهرًا)
وهذه ساقطة لغير أبي ذر.
({زلقًا}) في قوله تعالى: {فتصبح صعيدًا زلقًا} [الكهف:
40] (لا يثبت فيه قدم) لكونها أرضًا ملساء بل يزلق عليها
وهذه ساقطة لأبي ذر أيضًا.
({هنالك الولاية}) بكسر الواو ولأبي ذر الولاية بفتحها
لغتان بمعنى أو الكسر من الإمارة والفتح من النصرة وبالكسر
قرأ حمزة والكسائي وهي (مصدر الولي) ولأبي ذر مصدر ولي
بغير ألف ولام وفي رواية مصدر ولي الولي ولاء قال في الفتح
والأول أصوب والمعنى النصرة في ذلك المقام لله وحده لا
يقدر عليها غيره.
({عقبًا}) في قوله: {هو خير ثوابًا وخير عقبًا} [الكهف:
44] أي (عاقبة وعقبى وعقبة واحد وهي الآخرة) وقرأ عاصم
وحمزة عقبًا بسكون القاف والباقون بضمها فقيل هما لغتان
كالقدس والقدس أو الضم الأصل والسكون تخفيف منه وكلاهما
بمعنى العاقبة وهذا ساقط لأبي ذر.
(قبلًا) بكسر القاف وفتح الموحدة ({وقبلًا}) بضمهما وبه
قرأ الكوفيون وبالأول الباقون (وقبلًا) بفتحهما
(استئنافًا) قال أبو عبيدة قوله أو يأتيهم العذاب قبلًا أي
أوّلًا فإن فتحوا أوّلها فالمعنى استئنافًا، فقول السفاقسي
لا أعرف هذا التفسير إنما هو استقبالًا وهو عود على قبلًا
بفتح القاف يقال عليه قد عرفه أبو عبيدة ومن عرف حجة على
من لم يعرف وفسر الجمهور الأول بمعنى عيان والضم بأنه جمع
قبيل بمعنى أنواع وانتصابه على الحال من الضمير أو العذاب.
({ليدحضوا}) أي (ليزيلوا) بالجدال الحق عن موضعه ويبطلوه
(الدحض) بفتح الحاء هو (الزلق) الذي لا يثبت فيه خف ولا
حافر وسقط لأبي ذر الدحض الزلق.
2 - باب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ
حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ
حُقُبًا} زَمَانًا وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: {وإذ قال موسى} نصب
باذكر مقدرًا ({لفتاه}) يوشع بن نون وإنما قيل فتاه لأنه
كان يخدمه ويتبعه أو كان يأخذ منه العلم ({لا أبرح}) يجوز
أن تكون ناقصة فتحتاج إلى خبر أي لا أبرح أسير فحذف الخبر
لدلالة حاله وهو السفر عليه لكن نص بعضهم أن حذف خبر هذا
الباب لا يجوز ولو بدليل إلا لضرورة كقوله:
لهفي عليك كلهفة من خائف ... يبغي جوارك حين لات مجير
ويجوز أن تكون تامة فلا تحتاج إلى خبر والمعنى لا أبرح ما
أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب حتى أبلغ كما تقول لا
أبرح المكان قيل فعلى هذا يحتاج إلى حذف مفعول به فالحذف
لا بد منه على التقديرين ({حتى أبلغ مجمع البحرين}) المكان
الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر وهو ملتقى بحري فارس والروم
مما يلي المشرق، وقول القرطبي وغيره من المفسرين والشراح
نقلًا عن ابن عباس المراد بمجمع البحرين اجتماع موسى
والخضر لأنهما بحرا علم أحدهما في الشرعيات والآخر في
الباطن وأسرار الملكوت غير ثابت ولا يقتضيه اللفظ ولا ينفي
عن موسى علم أسرار الملكوت كما لا يخفى وقد قال الزمخشري
أنه من بدع التفاسير ({أو أمضي حقبًا}) [الكهف: 60] أي
(زمانًا) طويلًا (وجمعه أحقاب) أو الحقب ثمانون سنة أو
سبعون أو الدهر.
4725 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ
إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى
صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَ عَدُوُّ
اللَّهِ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ:
أَنَا
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ
إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا
بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ
مُوسَى: يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ
مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا
فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهْوَ ثَمَّ فَأَخَذَ حُوتًا
فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ
مَعَهُ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، حَتَّى إِذَا
أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا
وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ
فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ سَرَبًا وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ
جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ
فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِىَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ
بِالْحُوتِ فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا
وَلَيْلَتَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ
مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ
سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى
النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ
وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ، أَنْ أَذْكُرَهُ
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ:
فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا
فَقَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا
عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا قَالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ
آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِذَا
رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى،
فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ قَالَ:
أَنَا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ:
نَعَمْ. أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ
رَشَدًا قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا
يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ
عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ
مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَ اللَّهُ لاَ أَعْلَمُهُ
فَقَالَ مُوسَى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا
وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ:
فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ
حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فَانْطَلَقَا
يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ
فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ
فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ فَلَمَّا رَكِبَا فِي
السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلاَّ وَالْخَضِرُ قَدْ
قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ
فَقَالَ لَهُ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ
عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ
أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ: أَلَمْ
أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا؟ قَالَ:
لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ
أَمْرِي عُسْرًا»، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَكَانَتِ الأُولَى مِنْ
مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ
عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ
نَقْرَةً فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ
مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا
الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ ثُمَّ خَرَجَا مِنَ
السَّفِينَةِ فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى
السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلاَمًا يَلْعَبُ
مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ
فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى
أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً؟ بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ
جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا؟ قَالَ: وَهَذَا أَشَدُّ
مِنَ الأُولَى قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ
بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي
عُذْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ
قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ قَالَ: مَائِلٌ فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ
بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ
يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا لَوْ شِئْتَ
لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ: هَذَا فِرَاقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ إِلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا
لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}»
[الكهف: 82] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ
صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ
خَبَرِهِمَا» قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَكَانَ ابْنُ
عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَكَانَ يَقْرَأُ
{وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف: 85].
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو بن دينار قال:
أخبرني) بالإفراد (سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس إن
نوفًا البكالي) بفتح النون وسكون الواو وبالفاء المفتوحة
والبكالي بكسر الموحدة وتخفيف الكاف وتشدّد وهو الذي في
اليونينية وغيرها ابن فضالة بفتح الفاء والمعجمة ابن امرأة
كعب ولأبي ذر البكالي بفتح الموحدة (يزعم أن موسى صاحب
الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل) وإنما هو موسى بن
ميشا بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب (فقال ابن
(7/216)
عباس: كذب عدوّ الله) نوف خرج منه مخرج
الزجر والتحذير لا القدح في نوف لأن ابن عباس قال ذلك في
حال غضبه وألفاظ الغضب تقع على غير الحقيقة غالبًا وتكذيبه
له لكونه قال غير الواقع ولا يلزم منه تعمده (حدّثني)
بالإفراد (أبي بن كعب) الأنصاري (أنه سمع رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل) نص في أن موسى صاحب
بني إسرائيل ففيه رد على نوف البكالي (فسئل أي الناس أعلم)
أي منهم (فقال أنا) أي أعلم الناس قاله بحسب اعتقاده لأنه
نبي ذلك الزمان ولا أحد في زمانه أعلم منه فهو خبر صادق
على المذهبين على قول من قال صدق الخبر مطابقته لاعتقاد
الخبر ولو أخطأ وهذا في غاية الظهور وعلى قول من قال صدق
الخبر مطابقته للواقع فهو إخبار عن ظنه الواقع له إذ معناه
أنا أعلم في ظني واعتقادي وهو كان يظن ذلك قطعًا فهو مطابق
للواقع وهذا الذي قالوه هنا أبلغ من قوله في باب الخروج في
طلب العلم هل تعلم أن أحدًا أعلم منك فقال لا فإنه نفي
هناك علمه وهنا على البت (فعتب الله عليه إذ) بسكون الذال
للتعليل (لم يردّ العلم إليه) فيقول نحو الله أعلم كما
قالت الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا وعتب الله عليه
لئلا يقتدي به فيه من لم يبلغ كماله في تزكية نفسه وعلوّ
درجته من أمته فيهلك لما تضمنه من مدح الإنسان نفسه ويورثه
ذلك من الكبر والعجب والدعوى وإن نزه عن هذه الرذائل
الأنبياء فغيرهم بمدرجة سيلها ودرك ليلها إلا من عصمه الله
فالتحفظ منها أولى لنفسه وليقتدى به، ولهذا قال نبينا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحفظًا من مثل هذا
مما قد علم به أنا سيد ولد آدم ولا فخر ووجه الرد عليه
فيما ظنه كما ظن نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه لم يقع منه نسيان في قصة ذي اليدين (فأوحى
الله) عز وجل (إليه) إلى موسى (إن لي عبدًا بمجمع البحرين)
هو الخضر عليه السلام ولأبي ذر عن الحموي والمستملي عند
مجمع البحرين (هو أعلم منك) بشيء مخصوص لا يقتضي أفضليته
به على موسى كيف وموسى عليه السلام جمع له بين الرسالة
والتكليم والتوراة وأنبياء بني إسرائيل داخلون كلهم تحت
شريعته وغاية الخضر أن يكون كواحد منهم (قال موسى: يا رب
فكيف لي به؟) أي كيف يتهيّأ ويتيسر لي أن أظفر به (قال:
تأخذ معك حوتًا) من السمك (فتجعله في مكتل) بكسر
الميم وفتح الفوقية الزنبيل الكبير ويجمع على مكاتل
(فحيثما فقدت الحوت) بفتح القاف أي تغيب عن عينيك (فهو) أي
الخضر (ثم) بفتح المثلثة أي هناك (فأخذ) موسى (حوتًا فجعله
في مكتل) كما وقع الأمر به (ثم انطلق وانطلق معه بفتاه)
ولأبي ذر عن الكشميهني معه فتاه (يوشع بن نون) بالصرف كنوح
(حتى إذا أتيا الصخرة) التي عند مجمع البحرين (وضعا
رؤوسهما فناما) بالفاء ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وناما
(واضطرب الحوت) أي تحرّك (في المكتل) لأنه أصابه من ماء
عين الحياة الكائنة في أصل الصخرة شيء إذ إصابتها مقتضية
للحياة (فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله) أي طريقه (في
البحر سربًا) أي مسلكًا (وأمسك الله عن الحوت جرية الماء
فصار عليه مثل الطاق) أي مثل عقد البناء وعند مسلم من
رواية أبي إسحاق فاضطرب الحوت في الماء فجعل يلتئم عليه
حتى صار مثل الكوّة (فلما استيقظ) موسى (نسي صاحبه) يوشع
(أن يخبره بالحوت) أي بما كان من أمره (فانطلقا) سائرين
(بقية يومهما وليلتهما) بنصب الفوقية (حتى إذا كان من الغد
قال موسى لفتاه) يوشع (آتنا غداءنا) بفتح الغين ممدود أي
طعامنا الذي نأكله أوّل النهار (لقد لقينا من سفرنا هذا
نصبًا) أي تعبًا ومراده السير بقية اليوم والذي يليه وفي
الإشارة بهذا إشعار بأن هذا المسير كان أتعب لهما مما سبق
فإن رجاء المطلوب يقرب البعيد والخيبة تبعد القريب ولذا
(قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله
به) فألقى عليه الجوع والنصب (فقال له فتاه) يوشع (أرأيت
إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت) أي
(7/217)
فإني نسيت أن أخبرك بخبر الحوت ونسب
النسيان لنفسه لأن موسى كان نائمًا إذ ذاك، وكره يوشع أن
يوقظه ونسي أن يعلمه بعد لما قدره الله تعالى عليهما من
الخطى.
ومن كتبت عليه خطى مشاها.
(وما أنسانيه) أي وما أنساني ذكره (إلا الشيطان أن أذكره)
نسبه للشيطان تأدّبًا مع الباري تعالى إذ نسبة النقص للنفس
والشيطان أليق بمقام الأدب (واتخذ سبيله في البحر عجبًا)
يجوز أن يكون عجبًا مفعولًا ثانيًا لاتّخذ أي واتّخذ سبيله
في البحر سبيلًا عجبًا وهو كونه كالسرب والجار والمجرور
متعلق باتّخذ وفاعل اتخذ قيل الحوت وقيل موسى أي اتخذ موسى
سبيل الحوت في البحر عجبًا (قال فكان) دخول الحوت في الماء
(للحوت سربًا) مسلكًا (ولموسى ولفتاه عجبًا) وهو أن أثره
بقي إلى حيث سار أو جمد الماء تحته أو صار صخرًا أو ضرب
بذنبه فصار المكان يبسًا وعند ابن أبي حاتم من طريق قتادة
قال: عجب موسى أن تسرب حوت مملح في مكتل (فقال موسى) ليوشع
(ذلك) الذي ذكرته من حياة الحوت ودخوله في البحر (ما كنا
نبغي) أي الذي نطلبه إذ هو آية على المطلوب (فارتدا على
آثارهما قصصًا قال رجعا) في الطريق الذي جاءا فيه (يقصان
آثارهما) قصصًا أي يتبعان آثار سيرهما اتباعًا. قال صاحب
الكشف فيما حكاه الطيبي عنه قصصًا مصدر لفعل مضمر يدل عليه
فارتدا على آثارهما إذ معنى فارتدا على آثارهما واقتصا
الأثر واحد (حتى انتهيا إلى الصخرة) أي التي فعل فيها
الحوت ما فعل كما عند النسائي في روايته فذهبا يلتمسان
الخضر (فإذا رجل) نائم (مسجّى ثوبًا) بضم الميم وفتح
المهملة وتشديد الجيم منوّنة ولأبي ذر عن
الكشميهني بثوب أي مغطى كله به، ولمسلم مسجى ثوبًا
مستلقيًا على القفا ولعبد بن حميد من طريق أبي العالية
فوجده نائمًا في جزيرة من جزائر البحر ملتفًا بكساء (فسلّم
عليه موسى فقال الخضر) أي بعد أن كشف وجهه كما في الرواية
الآتية هنا إن شاء الله تعالى (وأني) بفتح الهمزة والنون
المشدّدة أي وكيف (بأرضك السلام) وفي الرواية الآتية وهل
بأرضي من سلام وفيه دلالة على أن أهل تلك الأرض لم يكونوا
مسلمين أو كانت تحيتهم غيره (قال أنا موسى) في الآتية قال:
من أنت؟ قال: أنا موسى (قال): أي الخضر أنت (موسى بني
إسرائيل قال): أي موسى (نعم أتيتك لتعلمني) وفي الرواية
الآتية قال: ما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني (مما علمت رشدًا)
قال أبو البقاء: رشدًا مفعول لتعلمني ولا يجوز أن يكون
مفعول علمت لأنه لا عائد إذن على الموصول أي علمًا ذا رشد
(قال): أي الخضر لموسى (إنك لن تستطيع معي صبرًا) نفى عنه
استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد وهو علة لمنعه من
اتّباعه فإن موسى عليه الصلاة والسلام لما قال هل أتبعك
على أن تعلمني كأنه قال: لا لأنك لن تستطيع معي صبرًا
وعبّر بالصيغة الدالة على استمرار النفي لما أطلعه الله
عليه من أن موسى لا يصبر على ترك الإنكار إذا رأى ما يخالف
الشرع لمكان عصمته. قال الخضر عليه الصلاة والسلام: (يا
موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه) جميعه (أنت
وأنت على علم من علم الله علمك الله) ولأبي ذر عن
الكشميهني علمكه الله (لا أعلمه) جميعه وهذا التقدير أو
نحوه واجب لا بدّ منه، وقد غفل بعضهم عن ذلك فقال في مجموع
له لطيف في الخصائص النبوية أن من خصائص نبينا -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه جمعت له الشريعة والحقيقة
ولم يكن للأنبياء إلا إحداهما بدليل قصة موسى مع الخضر،
وقوله: إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه وأنت على علم لا
ينبغي لي أن أعلمه وهذا الذي قاله يلزم منه خلوّ أولي
العزم عليهم الصلاة والسلام غير نبينا من علم الحقيقة الذي
لا ينبغي خلو بعض آحاد الأولياء عنه وإخلاء الخضر عليه
الصلاة والسلام من علم الشريعة الذي لا يجوز لآحاد
المكلفين الخلوّ عنه، وهذا لا يخفى ما فيه من الخطر
العظيم، واحتج لذلك بقوله: إنه أراد الجمع في الحكم
والقضاء تمسكًا بحديث السارق في زمنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال اقتلوه فقيل: إنما
(7/218)
سرق فقال اقطعوه إلى أن أتى على قوائمه
الأربع ثم سرق في زمن الصديق بفيه فأمر بقتله. قلت: وهو
مروي عند الدارقطني من حديث جابر بلفظ: إن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتي بسارق فقطع يده ثم أُتي
به ثانيًا فقطع رجله ثم أتي به ثالثًا فقطع يده ثم أتي به
رابعًا فقطع رجله ثم أتي به خامسًا فقتله، وفيه محمد بن
يزيد بن سبأ، وقال الدارقطني فيما حكاه الحافظ ابن حجر في
أمالي الرافعي أنه ضعيف قال: ورواه أبو داود والنسائي
بلفظ: جيء بسارق إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق
قال اقطعوه فقطع ثم جيء به الثانية فقال: اقتلوه، فقالوا:
يا رسول الله إنما سرق قال: اقطعوه فذكره كذلك قال: فجيء
به الخامسة فقال: اقتلوه. قال جابر: فانطلقنا به إلى مربد
النعم فاستلقى على ظهره فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في
بئر ورمينا عليه الحجارة، وفي إسناده مصعب بن ثابت، وقد
قال النسائي ليس بالقوي، وهذا الحديث منكر ولا أعلم فيه
حديثًا صحيحًا. ورواه النسائي والحاكم عن الحارث بن حاطب
الجمحي وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن زيد الجهني،
وقال ابن عبد البر: حديث القتل منكر لا أصل له، وقال
الشافعي: منسوخ لا خلاف فيه عند أهل العلم اهـ.
وهذا لا دلالة فيه أصلًا على ما ادّعاه من مراده على ما لا
يخفى، ولئن سلمنا ذلك كان عليه أن يلحق ذلك في مجموعه
المذكور عقب قوله ذلك ليسلم من وصمة الإطلاق إذ المراد لا
يدفع الإيراد لكنا لا نسلمه فتأمله.
(فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرًا) على ما أرى منك
غير منكر عليك وعلق الوعد بالمشيئة للتيمن أو علمًا منه
بشدّة الأمر وصعوبته فإن مشاهدة الفساد شيء لا يطاق. (ولا
أعصي لك أمرًا) أي ولا أخالفك في شيء (فقال له الخضر فإن
اتبعتني فلا تسألني عن شيء) تنكره مني ولم تعلم وجه صحته
(حتى أحدث لك منه ذكرًا) حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني
(فانطلقا) لما توافقا واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء
أنكره عليه حتى يبدأ به (يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة
فكلموهم) أي موسى والخضر ويوشع كلموا أصحاب السفينة (أن
يحملوهم فعرفوا) أي أصحاب السفينة (الخضر فحملوه) أي الخضر
ومن معه ولأبي ذر فحملوهم، وله أيضًا فحملوا أي الثلاثة
وهو مبني لما لم يسم فاعله (بغير نول) بفتح النون بغير أجر
إكرامًا للخضر (فلما ركبا) موسى والخضر (في السفينة) لم
يذكر يوشع لأنه تابع غير مقصود بالإصالة (لم يفجأ) موسى
عليه الصلاة والسلام بعد أن صارت السفينة في لجّة البحر
(إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم) بفتح
القاف وضم الدال المهملة المخففة فانخرقت (فقال له موسى)
منكرًا عليه بلسان الشريعة هؤلاء (قوم حملونا) ولأبي ذر:
قد حملونا (بغير نول عمدت) بفتح الميم (إلى سفينتهم
فخرقتها لتغرق أهلها) قيل اللام في لتغرق للعلة ورجح كونها
للعاقبة كقوله:
لدوا للموت وابنوا للخراب
(لقد جئت شيئًا إمرًا) عظيمًا أو منكرًا (قال) الخضر
مذكرًا لما مر من الشرط (ألم أقل أنك لن تستطيع معي صبرًا)
استفهام إنكاري. (قال) موسى للخضر (لا تؤاخذني بما نسيت)
من وصيتك.
وفي هذا النسيان أقوال:
أحدها: أنه على حقيقته لما رأى فعله المؤدي إلى إهلاك
الأموال والأنفس فلشدة غضبه لله نسي ويؤيده قوله عليه
الصلاة والسلام في هذا الحديث قريبًا وكانت الأولى من موسى
نسيانًا.
الثاني: أنه لم ينس ولكنه من المعاريض وهو مروي عن ابن
عباس لأنه إنما رأى العهد في أن يسأل لا في إنكار هذا
الفعل فلما عاتبه الخضر بقوله: إنك لن تستطيع قال: لا
تؤاخذني بما نسيت أي في الماضي ولم يقل أني نسيت وصيتك.
الثالث: أن النسيان بمعنى الترك وأطلقه عليه لأن النسيان
سبب للترك إذ هو من ثمراته أي لا تؤاخذني بما تركته مما
عاهدتك عليه فإن المرة الواحدة معفوّ عنها ولا سيما إذا
كان لها سبب ظاهر.
(ولا ترهقني من أمري عسرًا) لا تضايقني بهذا القدر فتعسر
مصاحبتك أو لا تكلفني
(7/219)
ما لا أقدر عليه (قال) أبي بن كعب (وقال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكانت
الأولى) ولأبي ذر عن الكشميهني وكانت في الأولى (من موسى
نسيانًا. قال وجاء عصفور) بضم العين (فوقع على حرف السفينة
فنقر في البحر نقرة فقال له) أي لموسى (الخضر ما علمي
وعلمك من علم الله) أي من معلومه، ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي في علم الله (إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا
البحر) ونقص العصفور لا تأثير له فكأنه لم يأخذ شيئًا ولا
ريب أن علم الله لا يدخله نقص (ثم خرجا من السفينة) بعد أن
اعتذر موسى له وسأله أن لا يرهقه من أمره عسرًا وقبل عذره
وأجاب سؤاله وأدامه على الصحبة (فبينا) بغير ميم (ما
يمشيان على الساحل إذ بصر الخضر) بفتح الموحدة وضم الصاد
المهملة (غلامًا يلعب مع الغلمان) قيل اسمه جيسور وقيل
حيسور وقيل حنسور وقيل حيسون وقيل شمعون وقيل غير ذلك مما
لم يثبت ولعل المفسرين نقلوه من كتب أهل الكتاب (فأخذ
الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده) ولأبي ذر عن الحموي
والكشميهني برأسه فاقتلعه (فقتله فقال له موسى) لما شاهد
ذلك منه منكرًا عليه أشد من الأول (أقتلت نفسًا زاكية)
بالألف والتخفيف وهي قراءة الحرميين وأبي عمرو واسم فاعل
من زكا أي طاهرة من الذنوب ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها
أذنبت أو لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث لكن قوله (بغير نفس)
يردّه إذ لو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس
وقرأه الباقون بالتشديد من غير ألف أخرجوه إلى فعيلة
للمبالغة لأن فعيلًا المحوّل من فاعل يدل على المبالغة.
وحكى القرطبي عن صاحب العروس والعرائس أن موسى عليه الصلاة
والسلام لما قال للخضر أقتلت نفسًا زاكية غضب الخضر واقتلع
كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه وإذا في عظم كتفه مكتوب
كافر لا يؤمن بالله أبدًا. (لقد جئت شيئًا نكرًا) منكرًا
تنكره العقول وتنفر عنه النفوس وهو أبلغ في تقبيح الشيء من
الأمر وقيل بالعكس لأن الأمر هو الداهية العظيمة (قال)
الخضر (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا) قال في
الكشاف: فإن قلت: ما معنى زيادة لك قلت زيادة المكافحة
بالعتاب على رفض الوصية والوسم بقلة الصبر عند الكرة
الثانية. (قال) أبي سفيان بن عيينة كما في كتاب العلم
(وهذا) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي هذه (أشد من الأولى) لما
فيها من زيادة لك (قال) موسى له (إن سألتك عن شيء بعدها)
أي بعد هذه المرة أو بعد هذه القصة فأعاد الضمير عليها وإن
كانت لم يتقدم لها ذكر صريح حيث كانت في ضمن القول (فلا
تصاحبني) وإن طلبت صحبتك (قد بلغت من لدني عذرًا) أي قد
أعذرت إليّ مرة بعد أخرى فلم يبق موضع للاعتذار (فانطلقا)
بعد المرتين الأوليين (حتى إذا أتيا أهل قرية) قيل هي
أنطاكية أو أذربيجان أو الأبلّة أو بوقة أو ناصرة أو جزيرة
الأندلس. قال في الفتح وهذا الاختلاف قريب من الاختلاف في
المراد بمجمع البحرين وشدّة التباين في ذلك تقتضي أن لا
يوثق بشيء من ذلك وعند مسلم من رواية أبي إسحاق أهل قرية
لئامًا أي بخلاء فطافا المجالس (استطعما أهلها) واستضافوهم
(فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارًا) عرضه خمسون ذراعًا
في مائة ذراع بذراعهم قاله الثعلبي وقال غيره سمكه مائتا
ذراع وظله
على وجه الأرض خمسمائة ذراع وعرضه خمسون (يريد أن ينقض)
إسناده الإرادة إلى الجدار على سبيل الاستعارة فإن الإرادة
للجدار لا حقيقة لها وقد كان أهل القرية يمرون تحته خائفين
(قال) في معنى ينقض أنه (مائل فقام الخضر فأقامه بيده) أي
فردّه إلى حالة الاستقامة وهذا خارق ولأبي ذر فقال الخضر
بيده فأقامه (فقال موسى) لما رأى من شدة الحاجة والاضطرار
والافتقار إلى المطعم وحرمان أصحاب الجدار لهم (قوم
أتيناهم) فاستطعمناهم واستضفناهم (فلم يطعمونا ولم يضيفونا
لو شئت لاتخذت) بهمزة وصل وتشديد الفوقية وفتح الخاء وهي
قراءة غير أبي عمرو وابن
(7/220)
كثير (عليه أجرًا) أي جعلًا نستعين به في
عشائنا (قال) الخضر له (هذا فراق بيني وبينك) بإضافة
الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع (إلى
قوله ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرًا) أي هذا التفسير أي
المذكور في الآية ما ضقت به ذرعًا ولم تصبر حتى أخبرك به
ابتداء (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: وددنا) بفتح الواو وكسر الدال الأولى وسكون
الثانية (أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما)
إذ لو صبر لرأى أعجب الأعاجيب. (قال سعيد بن جبير) بالسند
السابق (فكان ابن عباس يقرأ: {وأما الغلام فكان كافرًا
وكان أبواه مؤمنين}) [الكهف: 80] وهذه قراءة شاذة
لمخالفتها المصحف العثماني لكنها كالتفسير.
وهذا الحديث سبق في كتاب العلم وأخرجه المؤلّف في أكثر من
عشرة مواضع من كتابه الجامع.
3 - باب قَوْلِهِ: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا
نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ
سَرَبًا} [الكهف: 61] سَرَبًا مَذْهَبًا يَسْرُبُ يَسْلُكُ
وَمِنْهُ {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}
هذا (باب) بالتنوين (قوله) عز وجل: ({فلما بلغا مجمع
بينهما}) أي مجمع البحرين وبينهما ظرف أضيف إليه على
الاتساع ({نسيا حوتهما}) نسي يوشع أن يذكر لموسى ما رأى من
حياة الحوت ووقوعه في البحر ونسي موسى أن يطلبه ويتعرف
حاله ليشاهد منه تلك الأمارة التي جعلت لها وذلك أن موسى
عليه السلام وعد أن لقاء الخضر عند مجمع البحرين كما مرّ
وأن فقد الحوت علامة للقائه، فلما بلغ الموعد كان من حقهما
أن يتفقد أمر الحوت أما الفتى فلكونه كان خادمًا له وكان
عليه أن يقدمه بين يديه، وأما موسى فلكونه كان أميرًا عليه
أن يأمره بإحضاره فنسي كل واحد ما عليه وإنما احتيج إلى
التأويل لأن النسيان لا يتعلق بالذوات كما سبق عن الراغب
في تعريفه النسيان ترك ضبط ما استودع إما لضعف قلبه وإما
عن غفلة أو عن قصد حتى يحذف عن القلب ذكره قاله في فتوح
الغيب. ({فاتخذ سبيله في البحر سربًا}) [الكهف: 61] بسكون
الراء في الفرع كأصله ولأبي ذر سربًا بفتحها أي (مذهبًا
يسرب يسلك ومنه) أي ومن سربًا قوله: ({وسارب بالنهار}) قال
أبو عبيدة أي سالك في سربه أي مذهبه وسقط لفظ باب لغير أبي
ذر وسقط له لفظ قوله.
4726 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَهُمْ
قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ
دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا
عَلَى صَاحِبِهِ وَغَيْرَهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ
يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ إِذْ قَالَ: سَلُونِي؟ قُلْتُ: أَيْ
أَبَا عَبَّاسٍ -جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ- بِالْكُوفَةِ
رَجُلٌ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ نَوْقٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ
لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَّا عَمْرٌو
فَقَالَ لِي قَالَ: قَدْ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ وَأَمَّا
يَعْلَى فَقَالَ لِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ -
عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ: ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا
حَتَّى إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ
وَلَّى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ
هَلْ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لاَ،
فَعَتَبَ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى
اللَّهِ قِيلَ: بَلَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ؟ قَالَ
بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ: أَيْ رَبِّ اجْعَلْ لِي
عَلَمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ -فَقَالَ لِي عَمْرٌو:-
فَقَالَ لِي عَمْروٌ: حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ
-وَقَالَ لِي يَعْلَى: قَالَ: «خُذْ نُونًا مَيِّتًا
حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَأَخَذَ حُوتًا
فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ فَقَالَ: لِفَتَاهُ لاَ
أُكَلِّفُكَ إِلاَّ أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ
الْحُوتُ قَالَ: مَا كَلَّفْتَ كَثِيرًا؟ فَذَلِكَ
قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} لِفَتَاهُ
يُوشَعَ بْنِ نُونٍ" لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ:
"فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ
ثَرْيَانَ إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ
فَقَالَ فَتَاهُ: لاَ أُوقِظُهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ
فَنَسِىَ أَنْ يُخْبِرَهُ وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ حَتَّى
دَخَلَ الْبَحْرَ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ
الْبَحْرِ حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ- قَالَ لِي
عَمْرٌو هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ وَحَلَّقَ
بَيْنَ إِبْهَامَيْهِ وَاللَّتَيْنِ تَلِيانِهِمَا "لَقَدْ
لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ: قَدْ
قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ" -لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ
سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ- "فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا" قَالَ
لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى طِنْفِسَةٍ
خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ -قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ- "مُسَجًّى بِثَوْبِهِ قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ
تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَسَلَّمَ
عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: هَلْ
بِأَرْضِي مِنْ سَلاَمٍ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى،
قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا
عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ: أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ
التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ يَا
مُوسَى إِنَّ لِي عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ
تَعْلَمَهُ وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ
أَعْلَمَهُ فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ
وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَمَا عِلْمُكَ فِي جَنْبِ
عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ
بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي
السَّفِينَةِ وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ أَهْلَ
هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الآخَرِ
عَرَفُوهُ فَقَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ قَالَ:
قُلْنَا لِسَعِيدٍ خَضِرٌ قَالَ: نَعَمْ لاَ نَحْمِلُهُ
بِأَجْرٍ فَخَرَقَهَا وَوَتَدَ فِيهَا وَتِدًا قَالَ
مُوسَى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ
جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} "قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْكَرًا، "
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي
صَبْرًا} كَانَتِ الأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى
شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا، " {قَالَ لاَ
تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ
أَمْرِي عُسْرًا} {لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} قَالَ
يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ: "وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ
فَأَخَذَ غُلاَمًا كَافِرًا ظَرِيفًا
فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ قَالَ:
{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:
74] لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ؟ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
قَرَأَهَا زَكِيَّةً. زَاكِيَةً - مُسْلِمَةً "
{فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ
فَأَقَامَهُ} " [الكهف: 77] قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ
هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ قَالَ يَعْلَى:
حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ "فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ
فَاسْتَقَامَ {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}
[الكهف: 77] قَالَ سَعِيدٌ أَجْرًا نَأْكُلُهُ {وَكَانَ
وَرَاءَهُمْ} وَكَانَ أَمَامَهُمْ قَرَأَهَا ابْنُ
عَبَّاسٍ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ
سَعِيدٍ أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدٍ وَالْغُلاَمُ
الْمَقْتُولُ اسْمُهُ يَزْعُمُونَ جَيْسُورٌ {مَلِكٌ
يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا فَأَرَدْتُ} [الكهف: 79]
إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا
فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِالْقَارِ كَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ وَكَانَ كَافِرًا فَخَشِينَا أَنْ
يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا أَنْ يَحْمِلَهُمَا
حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبَدِّلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا
مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا لِقَوْلِهِ:
{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74] وَأَقْرَبَ
رُحْمًا هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالأَوَّلِ
الَّذِي قَتَلَ خَضِرٌ وَزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدٍ أَنَّهُمَا
أُبْدِلاَ جَارِيَةً وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ
فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إِنَّهَا جَارِيَةٌ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر بالإفراد (إبراهيم بن موسى)
الفراء الصغير الرازي قال: (أخبرنا هشام بن يوسف) اليماني
قاضيها (أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبرهم
قال: أخبرني) بالإفراد (يعلى بن مسلم) بن هرمز المكي
البصري الأصل (وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما
على صاحبه) قال الحافظ ابن حجر: فتستفاد زيادة أحدهما على
الآخر من الإسناد الذي قبله فإن الأوّل من رواية سفيان عن
عمرو بن دينار فقط وهو أحد شيخي ابن جريج فيه (وغيرهما) هو
من كلام ابن جريج أي وغير يعلى وعمرو (قد سمعته) حال كونه
(يحدثه) أي يحدث الحديث المذكور (عن سعيد) وكان الأصل أن
يقول يحدث به لكنه عداه بغير الباء، ولأبي ذر عن الكشميهني
يحدث بحذف الضمير المنصوب، وقد عين ابن جريج بعض من أبهمه
في قوله وغيرهما كعثمان بن أبي سليمان، وروى شيئًا من هذه
القصة عن سعيد بن جبير من مشايخ ابن جريج عبد الله بن
عثمان بن خثيم وعبد الله بن هرمز وعبد الله بن عبيد بن
عمير، وممن روى هذا الحديث عن سعيد بن جبير أبو إسحاق
السبيعي وروايته عند مسلم وأبي داود وغيرهما والحكم بن
عتيبة وروايته في السيرة الكبرى لابن إسحاق كما نبه على
ذلك في الفتح وفي رواية أبي ذر عن سعيد بن جبير أنه (قال:
إنا لعند ابن عباس) حال كونه (في بيته) واللام في لعند
للتأكيد (إذ قال: سلوني) قال سعيد بن جبير (قلت أي أبا
عباس) يعني يا أبا عباس وهي كنية عبد الله بن عباس (جعلني
الله فداك بالكوفة رجل قاص) بتشديد الصاد المهملة يقص على
الناس الأخبار من المواعظ وغيرها ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي أن بالكوفة رجلًا قاصًّا (يقال له نوف) بفتح
النون وسكون الواو آخره فاء منونًا منصرفًا في الفصحى
(7/221)
بطن من العرب وعلى تقدير أن يكون أعجميًّا
فمنصرف نوح لسكون وسطه واسمه فضالة وهو ابن امرأة كعب
الأحبار (يزعم أنه) أي موسى صاحب الخضر (ليس بموسى بن
إسرائيل) المرسل إليهم والباء زائدة للتوكيد وأضيف إلى بني
إسرائيل مع العلمية لأنه نكر بأن أول بواحد من الأمة
المسماة به ثم أضيف إليه قال ابن جريج (أما عمرو) يعني ابن
دينار (فقال لي) في تحديثه لي عن سعيد (قال) أي ابن عباس
(قد كذب عدوّ الله) يعني نوفًا وسقط لأبي ذر قال قد (وأما
يعلى) بن مسلم (فقال لي) في تحديثه لي عن سعيد (قال ابن
عباس حدثني) بالإفراد (أبي بن كعب قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
هو (موسى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
وفي الفرع أصله عليه السلام (قال ذكر الناس يومًا) بتشديد
الكاف من التذكير أي وعظهم (حتى إذا فاضت العيون) بالدموع
(ورقت القلوب) لتأثير وعظه في قلوبهم (ولى) تخفيفًا لئلا
يملوا وهذا ليس في رواية سفيان فظهر أنه من رواية يعلى بن
مسلم عن عمرو وقال العوفي عن ابن عباس فيما ذكره ابن كثير
لما ظهر موسى وقومه على مصر أمره الله أن يذكرهم بأيام
الله فخطبهم فذكرهم إذ أنجاهم الله من آل فرعون وذكرهم
هلاك عدوّهم وقال كلم الله موسى نبيكم تكليمًا واصطفاه
لنفسه وأنزل عليه محبة منه وآتاكم من كل ما سألتموه فنبيكم
أفضل أهل الأرض (فأدركه رجل) لم يسم (فقال) موسى (أي رسول
الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا).
فإن قلت: هل بين هذا وبين قوله في رواية سفيان السابقة هنا
فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فرق؟ أجيب بأن بينهما فرقًا
لأن رواية سفيان تقتضي الجزم بالأعلمية له وهذه تنفي
الأعلمية عن غيره عليه فيبقى احتمال المساواة قاله في
الفتح.
(فعتب) بفتح العين (عليه إذ لم يردّ العلم إلى الله) في
الرواية السابقة وغيرها فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم
إليه على التقديم والتأخير (قيل بلى) زاد في رواية الحر بن
قيس عبدنا خضر ولمسلم من رواية أبي إسحاق أن في الأرض
رجلًا هو أعلم منك (قال) موسى (أي رب فأين) أي فأين أجده
أو فأين هو وللنسائي فادللني على هذا الرجل حتى أتعلم منه
ولأبي ذر وأين (قال بمجمع البحرين) بحري فارس والروم أو
بحري الشرق والمغرب المحيطين بالأرض أو العذب والملح (قال)
موسى (أي رب اجعل لي علمًا أعلم ذلك) المطلوب (منه) وفي
نسخة به قال ابن جريج (فقال) ولأبي ذر قال (لي عمرو) هو
ابن دينار (قال): العلم على ذلك المكان (حيث يفارقك الحوت)
فإنك تلقاه (وقال لي يعلى) بن مسلم (قال: خذ نونًا) ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي خذ حوتًا (ميتًا) ولمسلم في رواية
أبي إسحاق فقيل له تزود حوتًا مالحًا فإنه حيث يفقد الحوت
(حيث ينفخ فيه) أي في الحوت (الروح) بيان لقوله حيث يفارقك
الحوت (فأخذ) موسى (حوتًا) ميتًا مملوحًا وقيل شق حوت مملح
ولابن أبي حاتم أن موسى وفتاه اصطاداه (فجعله في مكتل فقال
لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال) فتاه
(ما كلفت) أي ما كلفتني (كثيرًا) بالمثلثة ولأبي ذر عن
الكشميهني كبيرًا بالموحدة (فذلك قوله جل ذكره {وإذ قال
موسى لفتاه} يوشع بن نون) بالصرف قال ابن جريج (ليست)
تسمية الفتى (عن سعيد) هو ابن جبير (قال فبينما) بالميم
(هو) أي موسى وفتاه تبع له (في ظل صخرة) حال كونه (في مكان
ثريان) بمثلثة مفتوحة وراء ساكنة فتحتية
مفتوحة وبعد الألف نون صفة لمكان مجرور بالفتحة لا ينصرف
لأنه من باب فعلان فعلى أو منصوب حالًا من الضمير المستتر
في الجار والمجرور ويجوز ثريانًا بالنصب حالًا كما مر
وبالتنوين منصرفًا على لغة بني أسد لأنهم يصرفون كل صفة
على فعلان ويؤنثونه بالتاء ويستغنون فيه بفعلاته عن فعلى
فيقولون سكرانة وغضبانة فلم تكن الزيادة عندهم في فعلان
شبيهة بألفي حمراء فلم تمنع من الصرف وفي بعض الأصول ثريان
بالجر صفة لمكان وبالتنوين ما مر وهو من الثرى قال:
(7/222)
في النهاية يقال مكان ثريان وأرض ثريى إذا
كان في ترابهما بلل وندى (إذ تضرب الحوت) بضاد معجمة وراء
مشددة تفعل أي اضطرب وتحرك إذ حيي في المكتل (و) الحال إن
(موسى نائم) عند الصخرة (فقال فتاه) يوشع (لا أوقظه حتى
إذا استيقظ) سار (فنسي) بالفاء ولغير أبي ذر نسي بحذفها
(أن يخبره) بحياة الحوت (وتضرب الحوت) أي اضطرب سائرًا من
المكتل (حتى دخل البحر) وفي نسخة في البحر (فأمسك الله
عنه) عن الحوت (جرية البحر حتى كأن أثره) نصب بكأن (في
حجر) بفتح الحاء والجيم خبرها.
قال ابن جريج: (قال لي عمرو) هو ابن دينار (هكذا كأن أثره
في حجر) بتقديم الجيم المفتوحة على الحاء المفتوحة على كشط
في الفرع مصححًا عليها وفي اليونينية وغيرها بتقديم
المهملة وفتحهما وفي نسخة بالفرع وأصله حجر بجيم مضمومة
فمهملة ساكنة قال ابن حجر وهي أوضح (وحلق بين إبهاميه
واللتين تليانهما) يعني الوسطى والتي بعدها ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي والتي ولأبي ذر أيضًا أخرة تليانهما بفتح
الهمزة والخاء المعجمة والراء يعني الوسطي (لقد لقينا) فيه
حذف اختصره وقع مبينًا في رواية سفيان فانطلقا بقية يومهما
وليلتهما حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا
لقد لقينا (من سفرنا هذا نصبًا) تعبًا ولم يجد موسى النصب
حتى جاوز المكان الذي أمر الله به (قال) فتى موسى له: (فد
قطع الله عنك النصب).
قال ابن جريج: (ليست هذه عن سعيد) هو ابن جبير (أخبره)
بسكون المعجمة وموحدة مفتوحة من الإخبار أي أخبر يوشع موسى
بقصة تضرب الحوت وفقده الذي هو علامة على وجود الخضر
(فرجعا) في الطريق الذي جاءا فيه يقصان آثارهما قصصًا حتى
انتهيا إلى الصخرة التي حيي الحوت عندها (فوجدا خضرًا)
نائمًا في جزيرة من جزائر البحر.
قال ابن جريج: (قال لي عثمان بن أبي سليمان) بن جبير بن
مطعم وهو ممن أخذ هذا الحديث عن سعيد بن جبير (على طنفسة
خضراء) بكسر الطاء المهملة والفاء بينهما نون ساكنة ولأبي
ذر طنفسة بفتح الفاء ويجوز ضم الطاء والفاء وكلها لغات أي
فرش صغير أو بساط له خمل (على كبد البحر) أي وسطه وعند عبد
بن حميد من طريق ابن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي
سليمان قال: رأى موسى الخضر على طنفسة خضراء على وجه الماء
وعند ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه وجده في
جزيرة في البحر (قال) ولأبي ذر فقال: (سعيد بن جبير)
بالإسناد السابق (مسجى) بضم الميم وفتح المهملة وتشديد
الجيم منونة أي مغطى كله (بثوبه
قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه) الآخر (تحت رأسه) وعند ابن
أبي حاتم عن السدي فرأى الخضر وعليه جبة من صوف وكساء من
صوف ومعه عصا قد ألقى عليها طعامه (فسلم عليه موسى فكشف)
الثوب (عن وجهه) زاد مسلم في رواية أبي إسحاق وقال وعليكم
السلام (وقال: هل بأرضي من سلام) لأنهم كانوا كفارًا أو
كانت تحيتهم غير السلام ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني هل
بأرض بالتنوين ثم قال الخضر لموسى (من أنت؟ قال: أنا موسى
قال) له: (أموسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك)؟
أي ما الذي تطلب (قال: جئت) إليك (لتعلمني مما علمت رشدًا)
أي علمًا ذا رشد (قال) الخضر يا موسى (أما يكفيك أن
التوراة بيديك) بالتثنية (وأن الوحي يأتيك) من الله على
لسان جبريل وهذه الزيادة ليست في رواية سفيان فالظاهر أنها
من رواية يعلى بن مسلم (يا موسى إن لي علمًا لا ينبغي لك
أن تعلمه) أي كله (وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه) أي
كله وتقدير هذا ونحوه متعين كما قال في الفتح لأن الخضر
كان يعرف من الحكم الظاهر ما لا غنى للمكلف عنه وموسى كان
يعرف من الحكم الباطن ما يأتيه بطريق الوحي. وقال البرماوي
كالكرماني: وإنما قال لا ينبغي لي أن أعلمه لأنه إن كان
نبيًا فلا يجب عليه تعلم شريعة نبي آخر
(7/223)
وإن كان وليًا فلعله مأمور بمتابعة نبي
غيره وقوله يا موسى ثابت لأبي ذر عن الحموي ساقط لغيره
(فأخذ طائر) عصفور (بمنقاره من البحر) ماء (وقال) بالواو
ولأبي ذر فقال أي الخضر: (والله ما علمي وما علمك في جنب
علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر).
وفي الرواية السابقة ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما
نقص هذا العصفور من هذا البحر ولفظ النقص ليس على ظاهره،
وإنما معناه أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله تعالى
كنسبة ما أخذه العصفور بمنقاره إلى ماء البحر وهذا على
التقريب إلى الإفهام وإلاّ فنسبة علمهما إلى علم الله أقل.
وروى النسائي من وجه آخر عن ابن عباس أن الخضر قال لموسى
أتدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: لا. قال: يقول ما علمكما
الذي تعلمان في علم الله إلا مثل ما نقص منقاري من جميع
هذا البحر وظاهر هذه الرواية كما في الفتح أن الطائر نقر
في البحر عقب قول الخضر لموسى يا موسى إن لي علمًا. وفي
رواية سفيان أن ذلك وقع بعد ما خرق السفينة فيجمع بأن قوله
فأخذ طائر بمنقاره معقب بمحذوف وهو ركوبهما السفينة لتصريح
سفيان بذكر السفينة.
(حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر) بفتح الميم والعين
المهملة وبعد الألف موحدة مكسورة فراء غير منصرف أي سفنًا
(صغارًا) قال في الفتح وجدا معابر تفسير لقوله ركبا في
السفينة لا جواب إذا لأن وجودهما المعابر كان قبل ركوبهما
السفينة وقال ابن إسحاق بسنده إلى ابن عباس فيما ذكره ابن
كثير في تفسيره فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان
الناس يلتمسان من يحملهما حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة
لم يمر بهما من السفن شيء أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها
(تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر عرفوه) أي
أهل السفينة عرفوا
الخضر (فقالوا) هو (عبد الله الصالح قال): يحتمل أن يكون
القائل يعلى بن مسلم (قلنا لسعيد) هو ابن جبير (خضر) أي هو
خضر (قال: نعم) هو خضر (لا نحمله بأجر) أي بأجرة (فخرقها)
بأن قلع لوحًا من ألواحها بالقدوم (ووتد فيها وتدًا)
بتخفيف الفوقية الأولى مفتوحة وكسر الثانية مخففة ولأبي ذر
وتد فيها بإسقاط الواو الأولى أي جعل فيها وتدًا مكان
اللوح الذي قلعه (قال موسى) له: (أخرقتها لتغرق أهلها)
اللام للعاقبة (لقد جئت شيئًا إمرًا).
(قال مجاهد) فيما رواه ابن جريج عنه في قوله إمرًا
(منكرًا) ووصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عنه مثله
قيل ولم يسمع ابن جريج من مجاهد (قال) الخضر: ({ألم أقل
إنك لن تستطيع معي صبرًا}) أي لما ترى مني من الأفعال
المخالفة لشريعتك لأني على علم من علم الله ما علمكه الله
وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله فكل منا مكلف
بأمور من الله دون صاحبه قاله ابن كثير (كانت الأولى) في
رواية سفيان قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وكانت بإثبات الواو (نسيانا) أي من موسى حيث
قال لا تؤاخذني بما نسيت (والوسطى) حيث قال إن سألتك عن
شيء بعدها (شرطًا، والثالثة) حيث قال لو شئت لاتخذت عليه
أجرًا (عمدًا قال) موسى (لا تؤاخذني بما نسيت) أي تركت من
وصيتك (ولا ترهقني من أمري عسرًا) أي لا تشدد علي ({لقيا
غلامًا) في رواية سفيان السابقة فبينما هما يمشيان على
الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا ({فقتله}) الفاء للدلالة على
أنه لما لقيه قتله من غير ترو واستكشاف حال فالقتل تعقب
اللقاء.
(قال يعلى) بن مسلم بالإسناد السابق (قال سعيد) هو ابن
جبير (وجد) أي الخضر (غلمانًا يلعبون فأخذ غلامًا) منهم
(كافرًا ظريفًا) بالظاء المعجمة (فأضجعه ثم ذبحه بالسكين)
بكسر المهملة (قال) موسى منكرًا عليه أشد من الأولى (أقتلت
نفسًا زكية) بحذف الألف والتشديد وهي قراءة ابن عامر
والكوفيين (بغير نفس لم تعمل بالحنث) بالحاء المهملة
المكسورة والنون الساكنة لأنها لم تبلغ الحلم وهو تفسير
لقوله زكية أي أقتلت نفسًا زكية لم تعمل الحنث بغير نفس
ولأبي ذر
(7/224)
لم تعمل الخبث بخاء معجمة وموحدة مفتوحتين.
(وكان ابن عباس) ولأبي ذر وابن عباس (قرأها زكية) بالتشديد
(زاكية) بالتخفيف والمشددة أبلغ لأن فعيلًا المحوّل من
فاعل يدل على المبالغة كما مر (زاكية) أي (مسلمة) بضم
الميم وكسر اللام (كقولك غلامًا زكيًّا) بالتشديد وهذا
تفسير من الراوي وأطلق ذلك موسى على حسب ظاهر حال الغلام
لكن قال البرماوي وفي بعضها مسلمة بفتح المهملة واللام
المشددة قال السفاقسي وهو أشبه لأنه كان كافرًا (فانطلقا
فوجدا جدارًا يريد أن ينقض) أن يسقط والإرادة هنا على سبيل
المجاز (فأقامه) الخضر (قال سعيد) من رواية ابن جريج عن
عمرو بن دينار عنه (بيده) بالإفراد أي أقامه الخضر بيده
(هكذا ورفع يده فاستقام. قال يعلى) بن مسلم (حسبت أن
سعيدًا) يعني ابن جبير (قال فمسحه بيده) بالإفراد أيضًا
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بيديه بالتثنية (فاستقام)،
وقيل دعمه بدعامة تمنعه من السقوط أو هدمه وبل طينًا وأخذ
في بنائه إلى أن كمل وعاد كما كان وكلها
حكايات حال لا تثبت إلا بنقل صحيح والذي دل عليه القرآن
الإقامة لا الكيفية وأحسن هذه الأقوال أنه مسحه أو دفعه
بيده فاعتدل لأن ذلك أليق بحال الأنبياء وكرامات الأولياء
إلا أن يصح عن الشارع أنه هدمه وبناه فيصار إليه (لو شئت)
أي قال موسى للخضر: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا
كما في رواية سفيان لو شئت (لاتخذت) بتشديد التاء بعد وصل
الهمزة (عليه) أي على تسوية الجدار (أجرًا قال سعيد أجرًا
نأكله) أي جعلا نأكل به وإنما قال موسى: ذلك لأنه كان حصل
له جهد كبير من فقد الطعام وخشى أن يختلط قوام البنية
البشرية (وكان وراءهم) أي (وكان) ولأبي ذر وكان وراءهم ملك
وكان (أمامهم قرأها ابن عباس أمامهم ملك) وهي قراءة شاذة
مخالفة للمصحف لكنها مفسرة كقوله من ورائه جهنم وقول لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها
الأصابع
قال أبو عليّ: إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على
الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة وكانت كل واحدة من الجهتين
وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة والآية دالة على أن
معنى وراء أمام لأنه لو كان بمعنى خلف كانوا قد جاوزوه فلا
يأخذ سفينتهم قال ابن جريج: (يزعمون عن غير سعيد) يعني ابن
جبير (أنه) أي الملك الذي كان يأخذ السفن غصبًا اسمه (هدد
بن بدد) بضم الهاء وفتح الدال الأولى وبدد بضم الموحدة
وفتح الدال الأولى أيضًا مصروف ولأبي ذر بدد غير مصروف.
وحكى ابن الأثير فتح هاء هدد وباء بدد قال الحافظ ابن
كثير: وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق وهو من
الملوك المنصوص عليهم في التوراة (الغلام) بغير واو وفي
اليونينية والغلام (المقتول اسمه يزعمون جيسور) بجيم
مفتوحة فتحتية ساكنة فسين مهملة وبعد الواو الساكنة راء،
ولأبي ذر عن الكشميهني حيسور بالحاء بدل الجيم وعند
القابسي حنسور بنون بدل التحتية وعند عبدوس حيسون بنون بدل
الراء ({ملك يأخذ كل سفينة غصبًا}) وفي قراءة أبي كل سفينة
صالحة غصبًا رواه النسائي وكان ابن مسعود يقرأ كل سفينة
صحيحة غصبًا (فأردت إذا هي مرّت به أن يدعها لعيبها فإذا
جاوزوا) أي جاوزوا الملك (أصلحوها فانتفعوا بها) وبقيت لهم
(ومنهم من يقول سدوها بقارورة ومنهم من يقول بالقار) وهو
الزفت واستشكل التعبير بالقارورة إذ هي من الزجاج وكيف
يمكن السد به فقيل يحتمل أن توضع قارورة بقدر الموضع
المخروق فيه أو يسحق الزجاج ويخلط بشيء كالدقيق فيسد به
وهذا قاله الكرماني. قال في الفتح: ولا يخفى بعده قال: وقد
وجهت بأنها فاعولة من القار (كان أبواه) يعني الغلام
المقتول (مؤمنين) بالتثنية للتغليب يريد أباه وأمه فغلب
المذكر كالقمرين (وكان) هو (كافرًا) طبع على الكفر وهذا
موافق لمصحف
(7/225)
أبيّ وقوّة الكلام تشعر به لأنه لو لم يكن
الولد كافرًا لم يكن لقوله وكان أبواه مؤمنين فائدة إذ لا
مدخل لذلك في القصة لولا هذه الفائدة والمطبوع على الكفر
الذي لا يرجى إيمانه كان قتله في تلك الشريعة واجبًا لأن
أخذ الجزية لم يشرع إلا في شريعتنا وكان أبواه قد عطفا
عليه.
(فخشينا أن يرهقهما) أي أن يغشاهما وعظم نفسه لأنه اختص من
عند الله بموهبة لا يختص بها إلا من هو من خواص الحضرة
وقال بعضهم لما ذكر العيب أضافه إلى نفسه وأضاف الرحمة في
قوله أراد ربك إلى الله تعالى وعند القتل عظم نفسه تنبيهًا
على أنه من العظماء في علوم الحكمة، ويجوز أن يكون فخشينا
حكاية لقول الله تعالى، والمعنى أن الله تعالى أعلمه بحاله
وأطلعه على سره وقال له اقتل الغلام لأنا نكره كراهية من
خاف سوء العاقبة أن يغشى الغلام الوالدين المؤمنين
(طغيانًا وكفرًا) قال ابن جريج عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن
جبير معناه (أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه) فإن
حب الشيء يعمي ويصم، وقال أبو عبيدة في قوله يرهقهما أي
يغشاهما.
وقال قتادة فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو
بقي كان فيه هلاكهما فليرض المرء بقضاء الله فإن قضاء الله
للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب وصح في الحديث
"لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له" (فأردنا أن
يبدلهما ربهما خيرًا منه) أي أن يرزقهما بدله ولذا خيرًا
منه (زكاة) طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة (وأقرب
رحمًا) وذكر هذا مناسبة (لقوله: {أقتلت نفسًا زكية})
بالتشديد (وأقرب رحمًا) أي (هما) أي الأبوان (به) أي
بالولد الذي سيرزقانه (أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر).
وقيل رحمة وعطفًا على والديه، وسقط لأبي ذر وأقرب رحمًا
واقتصر على واحدة منهما. قال ابن جريج (وزعم غير سعيد) أي
ابن جبير (أنهما أبدلا جارية) مكان المقتول فولدت نبيًّا
من الأنبياء رواه النسائي ولابن أبي حاتم من طريق السدي
قال: ولدت جارية فولدت نبيًّا وهو الذي كان بعد موسى
فقالوا له ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله واسم هذا
النبي شمعون واسم أمه حنة. وفي تفسير ابن الكلبي فولدت
جارية ولدت عدة أنبياء فهدى الله بهم أممًا وقيل عدة من
جاء من ولدها من الأنبياء سبعون نبيًّا وعند ابن مردويه من
حديث أبيّ بن كعب أنها ولدت غلامًا لكن إسناده ضعيف كما
قاله في الفتح قال ابن جريج.
(وأما داود بن أبي عاصم) أي ابن عروة الثقفي التابعي
الصغير (فقال: عن غير واحد أنها جارية) وهذا هو المشهور
وروي مثله عن يعقوب أخي داود مما رواه الطبري، وقال ابن
جريج لما قتله الخضر كانت أمه حاملًا بغلام مسلم ذكره ابن
كثير وغيره ويستنبط من الحديث فوائد لا تخفى على متأمل فلا
نطيل بها.
4 - باب قَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ
آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا
نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ} [الكهف: 62، 63]
صُنْعًا: عَمَلًا، حِوَلًا: تَحَوُّلًا. قَالَ: {ذَلِكَ
مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}
[الكهف: 64] إِمْرًا وَنُكْرًا دَاهِيَةً، يَنْقَضَّ
يَنْقَاضُ كَمَا تَنْقَاضُ السِّنُّ. لَتَخِذْتَ
وَاتَّخَذْتَ وَاحِدٌ. رُحْمًا مِنَ الرُّحْمِ وَهْيَ
أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنَ الرَّحْمَةِ وَنَظُنُّ أَنَّهُ
مِنَ الرَّحِيمِ وَتُدْعَى مَكَّةُ أُمَّ رُحْمٍ أَيِ
الرَّحْمَةُ تَنْزِلُ بِهَا
هذا (باب) بالتنوين وهو ثابت في رواية أبي ذر ساقط لغيره
(قوله: {فلما جاوزا}) موسى
وفتاه مجمع البحرين ({قال}) موسى ({لفتاه}) يوشع ({آتنا
غداءنا}) ما نتغدى به ({لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا})
قيل لم يعن موسى في سفر غير ما ساره من مجمع البحرين
ويؤيده التقييد باسم الإشارة ({قال}) يوشع ({أرأيت إذ
أوينا إلى الصخرة}) يعني الصخرة التي رقد عندها موسى
({فإني نسيت الحوت}) [الكهف: 62، 63] أي نسيت أن أخبرك بما
رأيت منه وسقط قوله قال أرأيت لأبي ذر قال بعد نصبًا إلى
قوله عجبًا.
({صنعًا}) في قوله: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا}
[الكهف: 104] أي (عملًا) وذلك لاعتقادهم أنهم على الحق
({حولًا}) في قوله: {لا يبغون عنها حولًا} أي (تحولًا)
لأنهم لا يجدون أطيب منها أو المراد به تأكيد الخلود وسقط
قول صنعًا الخ لأبي ذر ({قال}) أي موسى ({ذلك}) أي أمر
الحوت ({ما كنا نبغ}) بغير تحتية بعد الغين أي نطلب لأنه
علامة على المطلوب ({فارتدا على آثارهما قصصًا}) [الكهف:
64] أي يتبعان آثار مسيرهما اتباعًا.
({إمرًا}) في قوله: ({لقد جئت شيئًا إمرًا}) [الكهف: 71] و
({نكرًا}) في قوله: {لقد جئت شيئًا نكرًا} [الكهف: 74]
معناهما (داهية) وسقط قوله إمرًا وواو ونكرًا لأبي ذر وقال
أبو عيدة إمرًا داهية ونكرًا أي عظيمًا ففرق بينهما.
(7/226)
({ينقض}) بتشديد الضاد في قوله: {فوجد فيها
جدارًا يريد أن ينقض} [الكهف: 77] (ينقاض كما ينقاض السن)
بألف بعد القاف مع تخفيف الضاد المعجمة فيهما حكاه الحافظ
شرف الدين اليونيني عن أئمة اللغة قال: ونبهني عليه شيخنا
الإمام جمال الدين بن مالك وقت قراءتي بين يديه وهو الذي
في المشارق للإمام أبي الفضل ولأبي ذر كما قاله البرماوي
والدماميني ينقاض بتشديد المعجمة فيهما. قال أبو البقاء.
بوزن يحمار ومقتضى هذا التشبيه أن يكون وزنه يفعال والألف
قراءة الزهري. قال الفارسي: هو من قولهم قضته فانقاض أي
هدمته فانهدم. قال في الدر: فعلى هذا يكون وزنه ينفعل
والأصل انقيض فأبدلت الياء ألفًا أي فصار بعد الإبدال
انقاض والسن بالسين المهملة المكسورة والنون، ولأبي ذر عن
الكشميهني الشيء بالشين المعجمة والتحتية الساكنة والهمزة
بدل السن ومعنى ينقض ينكسر وينقاض ينقلع من أصله وعن علي
أنه قرأ ينقاض بالصاد المهملة. قال ابن خالويه أي انشقت
طولًا ({لتخذت}) بالتخفيف في قوله: {لتخذت عليه أجرًا}
(واتخذت) بالتشديد (واحد) في المعنى.
({رحمًا}) بضم الراء وسكون الحاء المهملة في قوله: {وأقرب
رحمًا} [الكهف: 81] (من الرحم) بضم فسكون وهو الرحمة قال
رؤبة:
يا منزل الرحم على إدريسًا ... ومنزل اللعن على إبليسا
وفي نسخة من الرحم بفتح فكسر (وهي أشد مبالغة من الرحمة)
المفتوحة الراء التي هي رقة القلب لأنها تستلزمها غالبًا
من غير عكس (ويظن) بالنون المفتوحة وضم الظاء المعجمة وفي
نسخة: ويظن بالتحتية المضمومة وفتح المعجمة مبنيًّا
للمفعول (أنه) أي رحمًا مشتق (من الرحيم) المشتق من الرحمة
(وتدعى مكة) المشرفة (أم) بنصب الميم (رحم) بضم فسكون (أي
الرحمة تنزل بها) وفي حديث ابن عباس مرفوعًا "ينزل الله في
كل يوم على حجاج بيته الحرام عشرين ومائة رحمة ستين
للطائفين وأربعين للمصلين وعشرين للناظرين" رواه البيهقي
بإسناد حسن.
4727 - حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ
عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ
مُوسَى نبي الله لَيْسَ بِمُوسَى الْخَضِرِ فَقَالَ:
كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَقِيلَ لَهُ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ
إِلَيْهِ وَأَوْحَى إِلَيْهِ بَلَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي
بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ:
أَيْ رَبِّ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ
حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ
فَاتَّبِعْهُ قَالَ: فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ
يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَمَعَهُمَا الْحُوتُ حَتَّى
انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَنَزَلاَ عِنْدَهَا قَالَ
فَوَضَعَ مُوسَى رَأْسَهُ فَنَامَ" -قَالَ سُفْيَانُ وَفِي
حَدِيثِ غَيْرِ عَمْرٍو قَالَ: "وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ
عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا الْحَيَاةُ لاَ يُصِيبُ مِنْ
مَائِهَا شَيْءٌ إِلاَّ حَيِيَ فَأَصَابَ الْحُوتَ مِنْ
مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ قَالَ- فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ
مِنَ الْمِكْتَلِ فَدَخَلَ الْبَحْرَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ
مُوسَى قَالَ لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62]
الآيَةَ قَالَ: وَلَمْ يَجِدِ النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ
مَا أُمِرَ بِهِ قَالَ لَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ:
{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي
نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] الآيَةَ قَالَ: فَرَجَعَا
يَقُصَّانِ فِي آثَارِهِمَا فَوَجَدَا فِي الْبَحْرِ
كَالطَّاقِ مَمَرَّ الْحُوتِ فَكَانَ لِفَتَاهُ عَجَبًا
وَلِلْحُوتِ سَرَبًا قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى
الصَّخْرَةِ إِذْ هُمَا بِرَجُلٍ مُسَجًّى بِثَوْبٍ
فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى قَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ
السَّلاَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا؟ قَالَ
لَهُ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ
عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لاَ أَعْلَمُهُ
وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ
اللَّهُ لاَ تَعْلَمُهُ قَالَ: بَلْ أَتَّبِعُكَ قَالَ:
فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ
حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فَانْطَلَقَا
يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ
فَعُرِفَ الْخَضِرُ فَحَمَلُوهُمْ فِي سَفِينَتِهِمْ
بِغَيْرِ نَوْلٍ" -يَقُولُ بِغَيْرِ أَجْرٍ- "فَرَكِبَا
السَّفِينَةَ قَالَ: وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى حَرْفِ
السَّفِينَةِ فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ الْبَحْرَ فَقَالَ
الْخَضِرُ لِمُوسَى: مَا عِلْمُكَ وَعِلْمِي وَعِلْمُ
الْخَلاَئِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِقْدَارُ مَا
غَمَسَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْقَارَهُ قَالَ: فَلَمْ
يَفْجَأْ مُوسَى إِذْ عَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى قَدُومٍ
فَخَرَقَ السَّفِينَةَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى قَوْمٌ
حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ
فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ الآيَةَ
فَانْطَلَقَا إِذَا هُمَا بِغُلاَمٍ يَلْعَبُ مَعَ
الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَقَطَعَهُ
قَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً
بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْرًا} [الكهف: 74 و75] إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ} فَقَالَ بِيَدِهِ
هَكَذَا {فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] فَقَالَ لَهُ مُوسَى:
إِنَّا دَخَلْنَا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَلَمْ يُضَيِّفُونَا
وَلَمْ يُطْعِمُونَا {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ
صَبْرًا} [الكهف: 77، 78] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
«وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا
مِنْ أَمْرِهِمَا». قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَقْرَأُ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ
كَافِرًا.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (قتيبة بن
سعيد) الثقفي أبو رجاء البغلاني بفتح الموحدة وسكون
المعجمة قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر أيضًا حدّثنا
(سفيان بن عيينة) بن أبي عمران ميمون الهلالي الكوفي ثم
المكي الإمام الحافظ الحجة تغير حفظه بأخرة وربما دلس عن
الثقات وهو من أثبت الناس في عمرو بن دينار (عن عمرو بن
دينار) المكي الجمحي مولاهم (عن سعيد بن جبير) الأسدي
مولاهم الكوفي أنه (قال: قلت لابن عباس أن نوفًا) كذا في
اليونينية وفي الفرع نوف بغير ألف (البكالي) بكسر الموحدة
نسبة إلى بني بكال بطن من حمير ونوف بغير صرف وصرفه أشهر
كما مر ولأبي ذر البكالي بفتح الموحدة (يزعم أن موسى نبي
الله) المرسل إلى بني إسرائيل كذا في الفرع موسى نبي الله
والذي في اليونينية يزعم أن موسى نبي بني إسرائيل (ليس
بموسى الخضر) بل موسى آخر (فقال) ابن عباس -رضي الله
عنهما- (كذب عدوّ الله) يعني نوفًا وعبّر بذلك للزجر
والتحذير لا قدحًا فيه (حدّثنا أبي بن كعب عن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل) يذكرهم بنعم الله عليهم
وعليه يذكر ما أكرمه الله به من رسالته وتكريمه وتفضيله
(فقيل له: أي الناس أعلم) أي منهم (قال) ولأبي ذر فقال:
(أنا) أي أعلم (فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه) كان
يقول الله أعلم (وأوحى إليه) بفتح الهمزة والحاء (بلى عبد
من عبادي) كائن (بمجمع البحرين هو أعلم منك) أي بشيء مخصوص
والعالم بالعلم الخاص لا يلزم منه أن يكون أعلم من العالم
بالعلم العام (قال: أي رب كيف السبيل إليه) أي إلى لقائه
(قال: تأخد حوتًا في مكتل فحيثما فقدت الحوت) بفتح القاف
(فاتبعه) بهمزة وصل وتشديد الفوقية وكسر الموحدة ولأبي ذر
عن الكشميهني فاتبعه بسكون الفوقية وفتح الموحدة أي اتبع
أثر الحوت فإنك ستلقى العبد الأعلم (قال: فخرج موسى ومعه
(7/227)
فتاه يوشع بن نون) مجرور بالإضافة منصرف
كنوح على الفصحى (ومعهما الحوت) المأمور به (حتى انتهيا
إلى الصخرة) التي عند مجمع البحرين (فنزلا عندها قال فوضع
موسى رأسه فنام قال سفيان) بن عيينة بالإسناد السابق (وفي
حديث غير عمرو) لعل الغير المذكور كما قال في الفتح قتادة
لما عند ابن أبي حاتم من طريقه (قال وفي أبي الصخرة عين
يقال لها) ولأبي الوقت والأصيلي له (الحياة) بتاء التأنيث
آخره (لا يصيب من مائها شيء) من الحيوان (إلا حيي) وعند
ابن إسحاق من شرب منه خلد ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي
ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي لا تصيب بالفوقية أي
العين شيئًا أي من الحيوان إلا حيي (فأصاب الحوت من) رشاش
(ماء تلك العين قال فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر)
ولعل هذه العين إن ثبت النقل فيها هي التي شرب منها الخضر
فخلد كما قال به جماعة كما مر
(فلما استيقظ موسى قال لفتاه: {آتنا غداءنا} الآية) أي بعد
أن نسي الفتى أن يخبره بأن الحوت حيي وانطلاقهما سائرين
بقية يومهما وليلتهما حتى كان من الغد قال له إذ ذاك آتنا
غداءنا (قال ولم يجد النصب حتى جاوز ما أمر به) فألقى الله
عليه الجوع والنصب (قال له فتاه يوشع بن نون {أرأيت إذ
أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت) أي أن أخبرك بخبره
(الآية) إلى قوله: {ذلك ما كنا نبغ} [الكهف: 64] (قال
فرجعا يقصّان في آثارهما) حتى انتهيا إلى الصخرة (فوجدا في
البحر كالطاق ممر الحوت) مفعول وجدا (فكان لفتاه عجبًا) إذ
هو أمر خارق (وللحوت سربًا) مسلكًا وروى ابن أبي حاتم من
طريق العوفي عن ابن عباس قال: رجع موسى فوجد الحوت فجعل
موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء ويتبع الحوت وجعل الحوت
لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس حتى يصير صخرة (قال: فلما
انتهيا إلى الصخرة إذا) والذي في اليونينية إذ (هما برجل
مسجى) مغطى (بثوب) وفي رواية الربيع عن أنس عند ابن أبي
حاتم قال انجاب الماء عن مسلك الحوت فصارت كوّة فدخلها
موسى على أثر الحوت فإذا هو بالخضر (فسلم عليه موسى قال)
الخضر بعد أن رد السلام عليه وكشف الثوب عن وجهه (وأنى)
بهمزة نون مشددة مفتوحتين أي وكيف (بأرضك السلام) وأهلها
كفار أو لم يكن السلام تحيتهم (فقال) موسى بعد أن قال له
الخضر من أنت: (أنا موسى قال) الخضر (موسى بني إسرائيل؟
قال: نعم. قال) له موسى: ({هل أتبعك على أن تعلمني مما
علمت رشدًا}) أي علمًا ذا رشد أسترشد به (قال) ولأبي ذر
فقال (له الخضر: يا موسى إنك على علم من علم الله علمكه
الله لا أعلمه وأنا على علم من علم الله علمنيه الله لا
تعلمه) فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه (قال) موسى
(بل أتبعك) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي هل والأولى أوضح
({قال}) الخضر: ({فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء}) تنكره
ابتداء ({حتى أحدث لك منه ذكرًا}) حتى أبداك ببيانه
(فانطلقا يمشيان على الساحل فمرت بهما سفينة) ولأبي ذر:
بهم أي بموسى ويوشع والخضر (فعرف الخضر فحملوهم في سفينتهم
بغير نول) بفتح النون وسكون الواو (يقول بغير أجر) أي أجرة
(فركبا السفينة) ولم يذكر يوشع لأنه تابع غير مقصود
بالأصالة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فركبا في السفينة
(قال: ووقع عصفور) بضم العين (على حرف السفينة فغمس منقاره
البحر) بنصبهما ولأبي ذر في البحر (فقال الخضر لموسى)
ولأبي ذر: يا موسى (ما علمك وعلمي وعلم الخلائق في علم
الله إلا مقدار) بالرفع (ما غمس هذا العصفور منقاره) وفي
رواية ما نقص علمي وعلمك من علم الله والعلم يطلق ويراد به
المعلوم وعلم الله لا يدخله نقص ونقص العصفور لا تأثير له
فكأنه لم يأخذ شيئًا فهو كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
أي لا عيب فيهم.
(قال: فلم يفجأ موسى) بالهمزة (إذ عمد الخضر) بفتح الميم
(إلى قدوم) بفتح القاف
(7/228)
وتخفيف الدال أي الآلة المعروفة (فخرق
السفينة فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت) بفتح
الميم
أيضًا (إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت الآية).
وسقط لأبي ذر لقد جئت والآية (فانطلقا) بعد أن خرجا من
السفينة (إذ هما بغلام يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه)
ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني فأخذ الخضر رأسه بحذف الجار
والنصب مفعول أخذ (فقطعه قال) ولأبي الوقت فقال الله موسى:
{أقتلت نفسًا زكية} بالتشديد طاهرة ({بغير نفس}) قيل وكان
القتل في أبلة بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام المفتوحة
مدينة قرب بصرة وعبادان ({لقد جئت شيئًا نكرًا}) منكرًا
({قال}) الخضر: ({ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا})
وأتى بلك مع نكرًا بخلاف أمرًا قيل لأن النكر أبلغ لأن معه
القتل الحتم بخلاف خرق السفينة فإنه يمكن تداركه (إلى
قوله: {فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارًا يريد أن
ينقض}) أن يسقط (فقال) الخضر (بيده هكذا {فأقامه} فقال له
موسى: إنّا دخلنا هذه القربة فلم يضيفونا ولم يطعمونا {لو
شئت لاتخذت عليه أجرًا قال هذا فراق بيني وبينك}) قال في
الأنوار: الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله فلا تصاحبني أو
إلى الاعتراض الثالث أو الوقت أي هذا الاعتراض سبب فراقنا
أو هذا الوقت وقته ({سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه
صبرًا}) لكونه منكرًا من حيث الظاهر وقد كانت أحكام موسى
كغيره من الأنبياء مبنيّة على الظواهر ولذا أنكر خرق
السفينة وقتل الغلام إذ التصرف في أموال الناس وأرواحهم
بغير حق حرام في الشرع الذي شرعه لأنبيائه عليهم السلام إذ
لم يكلفنا إلى الكشف عن البواطن لما في ذلك من الحرج وأما
وقوع ذلك من الخضر فالظاهر أنه قد شرع له أن يعمل بما كشف
له من بواطن الأسرار واطلع عليه من حقائق الأستار فلما علم
الخضر علمًا يقينًا أنه إن لم يعب السفينة بالخرق غصبها
الملك وجب عليه ذلك دفعًا للضرر عن ملاكها إذ لو تركها ولم
يعبها فاتت بالكلية عليهم بأخذ الملك لها وكذا قتل الغلام
فإنه علم بالوحي أنه إن لم يقتله تبعه أبواه على الكفر
لمزيد محبتهما له فكانت المضرة بقتله أيسر من إبقائه لا
سيما والمطبوع على الكفر الذي لا يرجى إيمانه كان قتله في
شريعتهم واجبًا لأن أخذ الجزية لم يكن سائغًا لهم وقد
رزقهما الله خيرًا منه كما مرّ ولو ترك الجدار حتى يسقط
ضاع مال أولئك الأيتام فكانت المصلحة التامة في إقامته
ولعل ذلك كان واجبًا عليه.
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
وددنا) بكسر الدال الأولى وسكون الثانية (إن موسى صبر حتى
يقص) بضم أوله وفتح آخره مبنيًّا للمفعول (علينا من أمرهما
قال وكان ابن عباس يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة
صالحة) غير معيبة (غصبًا وأما الغلام فكان كافرًا) وقد سبق
أن أمام يستعمل موضع وراء فهي مفسّرة للآية كما مرّ وقوله
تعالى: {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين} [الكهف: 80] فيه
إشعار بأن الغلام كان كافرًا كما في هذه القراءة لكنها
كقراءة أمامهم وصالحة من الشواذ المخالفة لمصحف عثمان
والله الموفق.
5 - باب قَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف: 103]
(باب) بالتنوين (قوله: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا})
[الكهف: 103] زاد أبو ذر
الآية أي هل نخبركم بالأخسرين ثم فسرهم بقوله {الذين ضل
سعيهم} أي عملوا أعمالًا باطلة على غير شريعة مشروعة وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعًا أي يعتقدون أنهم على هدى فضل
سعيهم وأعمالًا نصب على التمييز وجمع لأنه من أسماء
الفاعلين أو لتنوّع أعمالهم فليسوا مشتركين في عمل واحد
وفي قوله تعالى: {وهم يحسبون أنهم يحسنون} تجنيس التصحيف
وهو أن يكون النقط فرقًا بين الكلمتين وقوله هل ننبئكم
استفهام تقريري، وفي قوله: ({الأخسرين أعمالًا} [الكهف:
103] الاستعارة استعارة الخسران الذي هو حقيقة في ضدّ
الربح لكون أعمالهم الصالحة نفدت أجورها واستعار الضلال
الذي هو حقيقة في التيه عن الطريق المستقيم لإسقاط أعمالهم
وإذهابها، وفي قوله: قل هل
(7/229)
ننبئكم الحذف أي قل هل ننبئكم بما يحل
بالأخسرين وسقط لفظ باب لغير أبي ذر.
4728 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
عَمْرٍو، عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي {قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} هُمُ
الْحَرُورِيَّةُ قَالَ: لاَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّا النَّصَارَى كَفَرُوا
بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لاَ طَعَامَ فِيهَا وَلاَ
شَرَابَ وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ
اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَكَانَ سَعْدٌ
يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن
بشار) بموحدة فمعجمة مشددة الملقب ببندار قال: (حدّثنا
محمد بن جعفر) الهذلى البصري المعروف بغندر قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن عمرو) بفتح العين ولأبي ذر زيادة ابن
مرة بضم الميم وتشديد الراء ابن عبد الله المرادي الأعمى
الكوفي (عن مصعب) بضم الميم وفتح العين بينهما مهملة ساكنة
وآخره موحدة، ولأبي ذر: ابن سعد بسكون العين ابن أبي وقاص
أنه (قال: سألت أبي) سعد بن أبي وقاص عن قوله تعالى: {قل
هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا} هم الحرورية)؟ بفتح الحاء
المهملة وضم الراء الأولى وكسر الثانية بينهما واو ساكنة
والمثناة التحتية مشددة بعدها تاء تأنيث نسبة إلى حروراء
قرية بقرب الكوفة كان ابتداء خروج الخوارج على عليّ منها
ولعل سبب سؤال مصعب أباه عن ذلك ما روى ابن مردويه من طريق
القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل في هذه الآية قال: أظن أن
بعضهم الحرورية. وعند الحاكم من وجه آخر عن أبي الطفيل
قال: قال علي: منهم أصحاب النهروان، وذلك قبل أن يخرجوا
وأصله عند عبد الرزاق بلفظ قام ابن الكوّاء إلى علي فقال:
ما الأخسرين أعمالًا؟ قال: ويلك منهم أهل حروريا.
(قال) أي سعد بن أبي وقاص: (لا) ليس هم الحرورية (هم
اليهود والنصارى) وللحاكم قال لا أولئك أصحاب الصوامع
ولابن أبي حاتم من طريق أبي خميصة بفتح الخاء المعجمة
والصاد المهملة واسمه عبيد الله بن قيس قال هم الرهبان
الذين حبسوا أنفسهم في السواري (أما اليهود فكذبوا محمدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأما النصارى كفروا)
ولأبي ذر فكفروا (بالجنة وقالوا لا طعام فيها ولا شراب
والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وكان سعد)
هو ابن أبي وقاص (يسميهم الفاسقين) والصواب الخاسرين، ووقع
على الصواب كذلك عند الحاكم لقوله: ({قل هل ننبئكم
بالأخسرين}) [الكهف: 103] ووجه خسرانهم أنهم تعبّدوا على
غير أصل فابتدعوا فخسروا الأعمار والأعمال وعن علي أنهم
كفرة أهل الكتاب كان أوائلهم على حق فأشركوا بربهم
وابتدعوا في دينهم وقيل هم الصابئون وقيل المنافقون
بأعمالهم المخالفون باعتقادهم، وهذه الأقوال كلها تقتضي
التخصيص بغير مخصص والذي يقتضيه التحقيق أنها عامة، فأما
قول على أنهم الحرورية فمعناه أن الآية تشملهم كما تشمل
أهل الكتابين وغيرهم لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص بل
أعم من ذلك لأنها مكية قبل خطاب أهل الكتاب ووجود الحرورية
وإنما هي عامة في كل من دان بدين غير الإسلام وكل من راءى
بعمله أو أقام على بدعة فكل من الأخسرين، وقد قال ابن عطية
ويضعف قول من قال إن المراد أهل الأهواء والحرورية قوله
تعالى بعد ذلك {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه}
[الكهف: 105] وليس في هذه الطوائف من يكفر بآيات الله
وإنما هذه صفة مشركي عبدة الأوثان اهـ.
فاتّضح بهذا ما قلناه إن الآية عامة.
6 - باب: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف:
105] الآيَةَ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({أولئك}) إشارة
للأخسرين أعمالًا السابق ذكرهم ({الذين كفروا بآيات ربهم})
بالقرآن أو به وبالإنجيل أو بمعجزات الرسول صلوات الله
وسلامه عليه ({ولقائه}) بالبعث أو بالنظر إلى وجه الله
الكريم أو لقاء أجزائه ففيه حذف وقد كذب اليهود بالقرآن
والإنجيل والنصارى بالقرآن وقريش بلقاء الله والبعث
({فحبطت أعمالهم}) [الكهف: 105] بطلت بكفرهم وتكذيبهم فلا
ثواب لهم عليها (الآية). أي فلا نقيم لهم يوم القيامة
وزنًا وهذا هو المراد لما سيورده من الحديث.
4729 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا
الْمُغِيرَةُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبُو
الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ
السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ
جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ: اقْرَءُوا {فَلاَ نُقِيمُ
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]. وَعَنْ
يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ مِثْلَهُ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله) هو محمد بن يحيى بن
عبد الله الذهلي نسبة إلى جده قال: (حدّثنا سعيد بن أبي
مريم) شيخ المؤلّف روي عنه هنا بالواسطة قال: (أخبرنا
المغيرة بن عبد الرحمن) الحزامي بالحاء المهملة المكسورة
والزاي وسقط لغير أبي ذر ابن عبد الرحمن قال: (حدّثني)
بالإفراد (أبو الزناد) عبد الله بن
(7/230)
ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن
أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إنه ليأتي الرجل العظيم) في الطول أو في الجاه (السمين)
ولابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
الطويل العظيم الأكول الشروب (يوم القيامة لا يزن عند الله
جناح بعوضة) وعند ابن أبي حاتم من طريق صالح مولى التوأمة
عن أبي هريرة مرفوعًا فيوزن بحبة فلا يزنها (وقال) أي
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أبو هريرة
({اقرؤوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}) أي لا نجعل لهم
مقدارًا أو لا نضع لهم ميزانًا توزن به أعمالهم لأن
الميزان إنما ينصب للذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا أو
لا نقيم لأعمالهم وزنًا لحقارتها، وفي هذه الآية من أنواع
البديع التجنيس المغاير وفيها أيضًا الاستعارة فاستعار
إقامة الوزن التي هي حقيقة في اعتداله لعدم الالتفات إليهم
وإعراض الله عنهم كما استعار الحبوط في قوله: {حبطت
أعمالهم} الذي هو حقيقة في البطلان لذهاب جزاء أعمالهم
الصالحة والحذف في فحبطت أعمالهم أي ثمرات أعمالهم إذ ليس
لهم عمل فنقيم لهم وزنًا واستدلّ به على أن الكفار لا
يحاسبون لأنه إنما يحاسب من له حسنات وسيئات والكافر ليس
له في الآخرة حسنات فتوزن ثم عطف المؤلّف على سعيد بن أبي
مريم فقال:
(وعن يحيى بن بكير) بضم الموحدة مصغرًا ونسبه إلى جدّه
واسم أبيه عبد الله وهو شيخ المؤلّف أيضًا روي عنه
بالواسطة والتقدير حدّثنا محمد بن عبد الله عن سعيد بن أبي
مريم وعن يحيى بن بكير (عن المغيرة بن عبد الرحمن) الحزامي
(عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (مثله) أي الحديث
السابق.
وهذا الحديث قد أخرجه مسلم في التوبة وذكر المنافقين.
[19] كهيعص
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَبْصِرْ بِهِمْ وَأَسْمِعْ اللَّهُ يَقُولُهُ:
وَهُمُ الْيَوْمَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يُبْصِرُونَ فِي
ضَلاَلٍ مُبِينٍ يَعْنِي قَوْلَهُ أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ أَسْمَعُ شَيْءٍ
وَأَبْصَرُهُ، لأَرْجُمَنَّكَ: لأَشْتِمَنَّكَ، وَرِئْيًا:
مَنْظَرًا. وَقَالَ ابْنُ وَائِلٍ: عَلِمَتْ مَرْيَمُ
أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، حَتَّى قَالَتْ: {إِنِّي
أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ} [مريم: 18]
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا
تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إِزْعَاجًا. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: إِدًّا عِوَجًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وِرْدًا: عِطَاشًا. أَثَاثًا: مَالًا. إِدًّا قَوْلًا
عَظِيمًا، رِكْزًا: صَوْتًا، وَقَالَ غَيْرُهُ غَيًّا:
خُسْرَانًا، بُكِيًّا: جَمَاعَةُ بَاكٍ. صُلِيًّا: صَلِيَ
يَصْلَى. نَدِيًّا وَالنَّادِي: مَجْلِسًا.
([19] كهيعص)
مكية. وقال مقاتل: إلا آية السجدة فمدنية وهي ثمان وتسعون
آية واختلف في معناها، فقيل الكاف من كريم والهاء من هادي
والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق قاله
ابن عباس فيما رواه الحاكم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد
بن جبير عنه، وروى الطبري عنه أن كهيعص من أسماء الله وعن
علي أنه كان يقول يا كهيعص اغفر لي، وعن قتادة اسم من
أسماء القرآن رواه عبد الرزاق، وسأل رجل محمد بن علي
المرتضى عن تفسيرها فقال لو أخبرتك بتفسيرها لمشيت على
الماء لا يواري قدميك، ولأبي ذر سورة كهيعص، وفي نسخة بفرع
اليونينية كأصلها باب سورة مريم.
(بسم الله الرحمن الرحيم) ثبتت هذه البسملة لأبي ذر بعد
الترجمة وسقطت لغيره.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما وصله ابن أبي حاتم في
قوله تعالى: ({أسمع بهم وأبصر}) [مريم: 38] ولأبي ذر أبصر
بهم وأسمع على التقديم والتأخير والأوّل هو الموافق للفظ
التنزيل (الله يقوله) جملة اسمية (وهم) أي الكفار
({اليوم}) نصب على الظرفية ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
القوم بالقاف (لا يسمعون ولا يبصرون {وفي ضلال مبين}) هو
معنى قوله: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} قال في
الأنوار أوقع الظالمين موقع الضمير أي لكنهم اليوم إشعارًا
بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم
(يعني قوله {أسمع بهم وأبصر} الكفار يومئذٍ) أي يوم
القيامة (أسمع شيء وأبصره) حين لا ينفعهم ذلك كما قال
تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا
أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحًا} [السجدة: 12] وقول
الزركشي في التنقيح يريد أن قوله: {أسمع بهم وأبصر} أمر
بمعنى الخبر كما قال تعالى: {صم بكم عمي فهم لا يرجعون)
تعقبه، في المصابيح فقال أظنه لم يفهم كلام ابن عباس ولذلك
ساقه على هذا الوجه وكونه أمر بمعنى الخبر لا يقتضي انتفاء
سماعهم وأبصارهم بل يقتضي ثبوته ثم هو ليس أمرًا بمعنى
الخبر بل هو لإنشاء التعجب أي ما أسمعهم وما أبصرهم والأمر
المفهوم منه بحسب الظاهر غير مراد بل انمحى الأمر فيه وصار
متمحضًا لإنشاء
(7/231)
التعجب، ومراد ابن عباس أن المعنى ما أسمع
الكفار وأبصرهم في الدار الآخرة وإن كانوا في دار الدنيا
لا يسمعون ولا يبصرون، ولذا قال الكفار يومئذٍ أسمع شيء
وأبصره انتهى.
وأصح الأعاريب فيه كما في الدر أن فاعله هو المجرور بالباء
والباء زائدة وزيادتها لازمة إصلاحًا للفظ لأن أفعل أمرًا
لا يكون فاعله إلا ضميرًا مستترًا ولا يجوز حذف هذه الباء
إلا مع أن وإن فالمجرور مرفوع المحل ولا ضمير في أفعل وقيل
بل هو أمر حقيقة والمأمور هو رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمعنى أسمع الناس وأبصر بهم
وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب وهو منقول عن أبي
العالية.
({لأرجمنك}) في قوله: {يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك}
[مريم: 46] أي (لأشمتنك) بكسر المثناة الفوقية قاله ابن
عباس فيما وصله ابن أبي حاتم أيضًا.
({ورئيًا}) في قوله تعالى: {هم أحسن أثاثًا ورئيًا} [مريم:
74] قال ابن عباس فيما وصله الطبري من طريق علي بن أبي
طلحة عنه أي (منظرًا) بفتح المعجمة.
(وقال أبو وائل) شقيق بن سلمة في قوله حكاية عن مريم قالت
إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا (علمت مريم أن التقي ذو
نهية) بضم النون وسكون الهاء وفتح التحتية أي صاحب عقل
وانتهاء عن فعل القبيح (حتى قالت) إذ رأت جبريل عليه
الصلاة والسلام ({إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًّا})
وهذا وصله عبد بن حميد من طريق عاصم وسقط لغير الحموي
وذكره المؤلّف في باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب
مريم} [مريم: 16] من أحاديث الأنبياء.
(وقال ابن عيينة) سفيان فيما ذكره في تفسيره في قوله:
({تؤزهم أزًّا}) [مريم: 83] أي (تزعجهم) أي الشياطين (إلى
المعاصي إزعاجًا) وقيل تغريهم عليها بالتسويلات وتحبيب
الشهوات (وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي ({إدًّا}) في
قوله: ({لقد جئتم شيئًا إدًّا} [مريم: 89] أي (عوجًا) بكسر
العين وفتح الواو وفي نسخة عوجًا بضم العين وسكون الواو
وفي أخرى لدًّا باللام المضمومة بدل الهمزة المكسورة وقال
ابن عباس وقتادة إدًّا عظيمًا وهذا ساقط لأبي ذر.
(قال ابن عباس: {وردًا}) في قوله تعالى: {ونسوق المجرمين
إلى جهنم وردًّا} [مريم: 86] أي (عطاشًا) فإن من يرد الماء
لا يرده إلا لعطش وهذا ساقط أيضًا لأبي ذر.
({أثاثًا}) أي مالًا ({إدًّا}) أي (قولًا عظيمًا) وقد مرّ
ذكره لكنه فسره بغير الأول وقد مر أنه عن ابن عباس وقتادة
({ركزًا}) في قوله: {أو تسمع لهم ركزًا} أي (صوتًا) أي
خفيًّا لا مطلق الصوت.
(وقال غيره) أي غير ابن عباس وسقط ذا لغير أبي ذر ({غيًا})
في قوله تعالى: {فسوف يلقون غيًا} [مريم: 59] أي (خسرانًا)
وقيل واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها وقيل شرًّا وكل خسران
وهذا ساقط لأبي ذر.
({بكيًّا}) في قوله تعالى: {خرّوا سجدًّا وبكيًّا} [مريم:
58] (جماعة باك) قاله أبو عبيدة وأصله بكوي على وزن فعول
بواو وياء كقعود جمع قاعد فاجتمعت الواو والياء وسبقت
إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار
بكيًّا هكذا ثم كسرت ضمة الكاف لمجانسة الياء بعدها وهذا
ليس بقياسه بل قياس جمعه على فعلة كقاض وقضاة وغزاة ورماة
وقيل ليس بجمع وإنما هو مصدر على فعول نحو: جلس جلوسًا
وقعد فعودًا، والمعنى إذا سمعوا كلام الله خروا ساجدين
لعظمته باكين من خشيته روى ابن ماجة من حديث سعيد مرفوعًا
نزل القرآن بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا
فتباكوا. وقال صالح المري بالراء المهملة المشددة بعد ضم
الميم قرأت القرآن على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في المنام فقال لي: يا صالح هذه القراءة فأين
البكاء ويروى أنه كان إذا قص قال هات جونة المسك والترياق
المجرب يعني القرآن ولا يزال يقرأ ويدعو ويبكي حتى ينصرف.
(صليًّا) في قوله: {أولى بها صليًّا} أي هو مصدر (صلي)
بكسر اللام (يصلى) قاله أبو عبيدة والمعنى احترق احتراقًا.
(نديًّا والنادي) يريد قوله وأحسن نديًّا وإن معناهما
(واحد) أي (مجلسًا) ومجتمعًا وثبت واحد لأبي ذر.
1 - باب {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39]
(وأنذرهم) ولأبي ذر باب قوله عز وجل: ({وأنذرهم يوم
الحسرة}) [مريم: 39] هو من أسماء يوم القيامة كما قاله ابن
عباس وغيره.
4730 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا
أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله
عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ
كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ
فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ
تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. هَذَا الْمَوْتُ
وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ
النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ
تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. هَذَا الْمَوْتُ
وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ
النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ
تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. هَذَا المَوْتُ
وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا
أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ
النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ" ثُمَّ قَرَأَ:
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وَهَؤُلاَءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ
الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ".
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) بالغين المعجمة
والمثلثة آخره النخعي الكوفي
(7/232)
قال: (حدّثنا أبي) حفص بن غياث بن طلق بن
معاوية قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال: (حدّثنا
أبو صالح) ذكوان السمان (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله
عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وفي نسخة قال النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(يؤتى بالموت) الذي هو عرض من الأعراض جسمًا (كهيئة كبش
أملح) بالحاء المهملة فيه بياض وسواد لكن سواده أقل
(فينادي مناد) لم يسم (يا أهل الجنة فيشرئبون) بفتح
التحتية وسكون الشين المعجمة وفتح الراء وبعد الهمزة
المكسورة موحدة مشدّدة فواو ساكنة فنون آخره أي يمدون
أعناقهم ويرفعون رؤوسهم (وينظرون) وعند ابن حبان في صحيحه
وابن ماجه عن أبي هريرة فيطلعون خائفين أن يخرجوا من
مكانهم الذي هم فيه (فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم
هذا الموت وكلهم قد رآه) أي وعرفه بما يلقيه الله في
قلوبهم أنه الموت (ثم ينادي) أي المنادي (يا أهل النار
فيشرئبون وينظرون) وعند ابن حبان وابن ماجة فيطلعون فرحين
مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه (فيقول: هل
تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح).
وفي باب صفة الجنة والنار من كتاب الرقاق جيء بالموت حتى
يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح، وعند ابن ماجه فيذبح على
الصراط، وعند الترمذي في باب خلود أهل الجنة من حديث أبي
هريرة فيضجع فيذبح ذبحًا على السور الذي بين أهل الجنة
وأهل النار وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد
الضعفاء في آخر حديث السور الطويل أن الذابح له جبريل عليه
السلام كما
نقله عنه الحافظ ابن حجر، وذكر صاحب خلع النعلين فيما نقله
في التذكرة أن الذابح له يحيى بن زكريا بين يدي النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال قوم: المذبوح
متولي الموت وكلهم يعرفه لأنه الذي تولى قبض أرواحهم في
الدنيا.
فإن قلت: ما الحكمة في مجيء الموت في صورة الكبش دون غيره؟
أجيب: بأن ذلك إشارة إلى حصول الفداء لهم به كما فدى ولد
الخليل بالكبش وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة
والنار.
(ثم يقول) ذلك المنادي: (يا أهل الجنة خلود) أبد الآبدين
(فلا موت ويا أهل النار خلود) أبد الآددين (فلا موت) وخلود
إما مصدر أي أنتم خلود ووصف بالمصدر للمبالغة كرجل عدل أو
جمع أي أنتم خالدون زاد في الرقاق فيزداد أهل الجنة فرحًا
إلى فرحهم ويزداد، أهل النار حزنًا إلى حزنهم وعند الترمذي
فلو أن أحدًا مات فرحًا لمات أهل الجنة ولو أن أحدًا مات
حزنًا لمات أهل النار (ثم قرأ) النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أبو سعيد ({وأنذرهم يوم الحسرة})
الخطاب للنبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي أنذر
جميع الناس (إذ قضي الأمر) أي فصل بين أهل الجنة والنار
ودخل كل إلى ما صار إليه مخلدًا فيه ({وهم في غفلة}) - أي
({وهؤلاء في غفلة}) أي ({أهل الدنيا}) إذ الآخرة ليست دار
غفلة ({وهم لا يؤمنون}) نفى عنهم الإيمان على سبيل الدوام
مع الاستمرار في الأزمنة الماضية والآتية على سبيل التأكيد
والمبالغة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في صفة النار والترمذي والنسائي في
التفسير.
2 - باب قَوْلِهِ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ
رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا}
[مريم: 64]
(باب قوله) جل وعلا وسقط لفظ قوله لأبي ذر وثبت له لفظ باب
({وما نتنزل إلا بأمر ربك}) هو حكاية قول جبريل حين
استبطأه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ({له
ما بين أيدينا}) أي الآخرة ({وما خلفنا}) [مريم: 64]
الدنيا وثبت لأبي ذر له ما بين أيدينا الخ.
4731 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ
ذَرٍّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِجِبْرِيلَ:
«مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا
تَزُورُنَا؟» فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ
بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا
خَلْفَنَا}.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
عمر بن ذر) بضم العين وذر بالمعجمة المفتوحة والراء
المشددة ابن عبد الله بن زرارة الهمداني الكوفي (قال
سمعت}) ذرًّا (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله
عنه-) وعن أبيه أنه قال: (قال النبي) وفي نسخة رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لجبريل) أي لما
احتبس عنه:
(ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت {وما نتنزل إلا
بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا}) وعند ابن إسحاق من
وجه آخر عن ابن عباس أن قريشًا لما سألوا عن أصحاب الكهف
فمكث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خمس عشرة
ليلة لا يحدث الله في ذلك
(7/233)
وحيًا فلما نزل جبريل قال له أبطأت فذكره
وعند ابن أبي حاتم أنها نزلت في احتباسه عنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعين يومًا حتى اشتاق للقاء
وعند الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعًا أن جبريل
أبطأ عليه فذكر ذلك له فقال وكيف وأنتم لا تستنون ولا
تقلمون أظافركم ولا تقصون شواربكم ولا تنقون رواجبكم وعند
أحمد نحوه.
وهذا الحديث قد سبق في بدء الخلق في ذكر الملائكة وأخرجه
أيضًا في التوحيد والترمذي والنسائي في التفسير.
3 - باب قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ
بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:
77]
(باب قوله) عز وجل وسقط باب لغير أبي ذر ({أفرأيت الذي كفر
بآياتنا}) عطف بالفاء بعد الألف الاستفهام إيذانًا بإفادة
التعقيب كأنه قال أخبر أيضًا بقصة هذا الكافر عقب قصة
أولئك المذكورين قبل هذه الآية ورأيت بمعنى أخبر والموصول
هو المفعول الأول والثاني هو الجملة الاستفهامية من قوله
أطلع الغيب ({وقال لأوتين مالًا وولدًا}) [مريم: 77]. جملة
قسمية في موضع نصب بالقول.
4732 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ
قَالَ: سَمِعْتُ خَبَّابًا قَالَ: جِئْتُ الْعَاصِيَ بْنَ
وَائِلٍ السَّهْمِيَّ أَتَقَاضَاهُ حَقًّا لِي عِنْدَهُ
فَقَالَ: لاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: لاَ.
حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ
ثُمَّ مَبْعُوثٌ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ لِي هُنَاكَ
مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الآيَةُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا
وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} رَوَاهُ
الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ، وَحَفْصٌ. وَأَبُو مُعَاوِيَةَ،
وَوَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن
أبي الضحى) مسلم بن صبيح مصغرًا (عن مسروق) هو ابن الأجدع
أنه (قال: سمعت خبابًا) هو ابن الأرتّ بالمثناة الفوقية
المشدّدة (قال: جئت العاصي) بالعين والصاد المهملتين آخره
تحتية (ابن وائل السهمي) هو والد عمرو الصحابي -رضي الله
عنه- (أتقاضاه) أي أطلب منه (حقًّا لي عنده) وهو أجرة عمل
سيف وكان خباب حدادًا (فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت: لا) أكفر (حتى
تموت ثم تبعث) ومفهومه غير مرادًا إذ الكفر لا يتصوّر بعد
البعث فكأنه قال لا أكفر أبدًا (قال) أي العاصي (وإني لميت
ثم مبعوث) قال خباب (قلت) له (نعم قال: إن لي هناك مالًا
وولدًا فأقضيكه فنزلت هذه الآية: {أفرأيت الذي كفر
بآياتننا وقال لأوتين}) أي في الجنة ({مالًا وولدًا}) بفتح
الواو واللام قراءة غير حمزة والكسائي اسم مفرد قائم مقام
الجمع.
(رواه) أي الحديث (الثوري) سفيان فيما وصله المؤلّف بعد
(وشعبة) بن الحجاج فيما وصله أيضًا (وحفص) هو ابن غياث
فيما وصله في الإجارة (وأبو معاوية) محمد بن خازم بالخاء
والزاي المعجمتين فيما وصله أحمد (ووكيع) فيما وصله بعد
كلهم (عن الأعمش) سليمان بن مهران.
وقد مرّ الحديث في البيوع.
4 - باب قَوْلِهِ: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 78]
(قوله) ولأبي ذر باب بالتنوين أي في قوله تعالى: ({أطلع
الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا}) [مريم: 78]. قال في
الكشاف أي أوقد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب
الذي توحد به الواحد القهار والمعنى أن ما ادّعى أن يؤتاه
وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين إما علم
الغيب وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إلى ذلك انتهى
وهمزة أطلع للاستفهام الإنكاري وحذفت همزة الوصل للاستغناء
عنها، وزاد في رواية أبي ذر الآية ولغيره قال أي في تفسير
عهدًا موثقًا وقيل العهد كلمة التوحيد. قال في فتوح الغيب
لأنه تعالى وعد قائلها إخلاصًا أن يدخل الجنة البتة فهو
كالعهد الموثق الذي لا بد أن يوفي به انتهى.
4733 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا
بِمَكَّةَ فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِي بْنِ وَائِلِ
السَّهْمِيِّ سَيْفًا فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: لاَ
أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ قُلْتُ: لاَ،
أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيَكَ قَالَ: إِذَا
أَمَاتَنِي اللَّهُ ثُمَّ بَعَثَنِي وَلِي مَالٌ وَوَلَدٌ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ
بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا *
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ
عَهْدًا} قَالَ: مَوْثِقًا. لَمْ يَقُلِ الأَشْجَعِيُّ
عَنْ سُفْيَانَ سَيْفًا وَلاَ مَوْثِقًا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري
قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمان (عن أبي
الضحى) مسلم (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن خباب) هو ابن
الأرتّ أنه (قال: كنت قيْنًا) بقاف مفتوحة فتحتية ساكنة
فنون أي حدّاد (بمكة فعملت للعاصي بن وائل السهمي سيفًا
فجئت أتقاضاه) أجرة عمل السيف (فقال: لا أعطيك) أجرته (حتى
تكفر بمحمد قلت: لا أكفر بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حتى يميتك الله ثم يحييك) أي لا أكفر أبدًا كما
مرّ تقريره قريبًا (قال): أي العاصي (إذا أماتني الله ثم
بعثني ولي مال وولد) زاد في السابقة فأقضيكه (فأنزل الله)
تعالى ({أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالًا وولدًا
أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا} قال موثقًا) وقد مرّ
هذا أول هذا الباب (لم يقل الأشجعي) بهمزة مفتوحة فشين
معجمة ساكنة فجيم مفتوحة فعين مهملة
(7/234)
مكسورة عبيد الله بن عبد الرحمن بتصغير عبد
الأول في روايته (عن سفيان سيفًا) في قوله فعملت سيفًا
(ولا موثقًا) تفسير عهدًا.
5 - باب: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ
مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم: 79]
هذا (باب) بالتنوين في قوله ({كلاَّ}) ردع وزجر ({سنكتب ما
يقول}) من طلبه ذلك وحكمه لنفسه ما تمناه وكفره ({ونمد
له}) في الدار الآخرة ({من العذاب مدًّا}) [مريم: 79] على
كفره وافترائه واستهزائه.
4734 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ
سَمِعْتُ أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ
خَبَّابٍ، قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَكَانَ لِي دَيْنٌ عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ:
فَأَتَاهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لاَ أُعْطِيكَ حَتَّى
تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ
ثُمَّ تُبْعَثَ قَالَ: فَذَرْنِي حَتَّى أَمُوتَ ثُمَّ
أُبْعَثَ فَسَوْفَ أُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ
بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:
78].
وبه قال: (حدّثنا بشر بن خالد) بموحدة مكسورة فمعجمة ساكنة
أبو محمد الفرائضي العسكري قال: (حدّثنا محمد بن جعفر)
غندر (عن شعبة) ولأبي ذر: حدّثنا شعبة بن الحجاج (عن
سليمان) الأعمش أنه قال: (سمعت أبا الضحى) مسلم بن صبيح
(يحدث عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن خباب) بالخاء المعجمة
والموحدتين الأولى مشدّدة بينهما ألف ابن الأرتّ أنه (قال:
كنت قيْنًا) جمعه قيون (في الجاهلية) بمكة (وكان لي دين)
أجرة عمل سيف (على العاص بن وائل) السهمي وسمي بالعاص لأنه
تقلد العصا بدلًا من السيف فيما قيل (قال فأتاه يتقاضاه
فقال: لا أعطيك) ذلك (حتى تكفر بمحمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) أي خباب (والله لا أكفر حتى
يميتك الله ثم تبعث) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول
ولأبي ذر: يبعثك (قال) العاص (فذرني) أي اتركني (حتى أموت
ثم أبعث فسوف أوتى) بضم الهمزة وفتح الفوقية (مالًا وولدًا
فأقضيك) حقك (فنزلت هذه الآية: ({أفرأيت الذي كفر بآياتنا
وقال لأوتين مالًا وولدًا}) بفتح الواو واللام وقرأه
الأخوان بضم فسكون جمع ولد كأسد وأُسد.
6 - باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ
وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
{الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] هَدْمًا
(قوله عز وجل: ({ونرثه}) ولأبي ذر: باب بالتنوين ونرثه
({ما يقول}) من مال وولد نسلبه منه عكس ما يقول
({ويأتينا}) يوم القيامة ({فردًا}) [مريم: 80]. لا يصحبه
مال ولا ولد.
(وقال ابن عباس): فيما وصله ابن أبي حاتم في قوله: وتخر
({الجبال هدًّا}) [مريم: 90]. أي (هدمًا) استعظامًا
لفريتهم وجراءتهم لأن دعوا للرحمن ولدًا تعالى الله.
4735 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ
الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ
خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا وَكَانَ لِي عَلَى
الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ
فَقَالَ لِي: لاَ أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ
قَالَ: قُلْتُ لَنْ أَكْفُرَ بِهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ
تُبْعَثَ قَالَ: وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ
الْمَوْتِ فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ
وَوَلَدٍ قَالَ فَنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ
بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا *
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ
عَهْدًا * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ
مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ
وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 78].
وبه قال: (حدّثنا يحيى) بن موسى البلخي الملقب بخت بخاء
معجمة مفتوحة ففوقية مشدّدة قال: (حدّثنا وكيع) هو ابن
الجراح الكوفي (عن الأعمش) سليمان (عن أبي الضحى) مسلم (عن
مسروق) هو ابن الأجدع (عن خباب) أنه (قال: كنت رجلًا
قيْنًا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال
لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. قال) خباب: (قلت) له (لن
أكفر به) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى تموت
ثم تبعث قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟) زاد في الحميدي
قلت: نعم (فسوف) أي قال العاص إن بعثت بعد الموت فسوف
(أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد) وفيه أنه غير مؤمن بالبعث
(قال فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا
وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ
الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا *
كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ
الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا
فَرْدًا}) وحيدًا بغير شيء، وقال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم: فردًا لا يتبعه قليل ولا كثير، وسقط لأبي ذر من
قوله: {أطلع الغيب} الخ ....
[20]- طه
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ ابْنُ
جُبَيْرٍ وَالضَّحَاكُ: بِالنَّبَطِيَّةِ طه يَا رَجُلُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَلْقَى: صَنَعَ، يُقَالُ كُلُّ مَا
لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أَوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ
فَأْفَأَةٌ فَهْيَ عُقْدَةٌ. أَزْرِي: ظَهْرِي.
فَيَسْحَتَكُمْ: يُهْلِكَكُمْ، الْمُثْلَى: تَأْنِيثُ
الأَمْثَلِ يَقُولُ: بِدِينِكُمْ يُقَالُ خُذِ الْمُثْلَى:
خُذِ الأَمْثَلَ. ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا يُقَالُ هَلْ
أَتَيْتَ الصَّفَّ الْيَوْمَ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي
يُصَلَّى فِيهِ. فَأَوْجَسَ: أَضْمَرَ خَوْفًا فَذَهَبَتِ
الْوَاوُ مِنْ خِيفَةً لِكَسْرَةِ الْخَاءِ، فِي جُذُوعِ
أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ. خَطْبُكَ: بَالُكَ،
مِسَاسَ: مَصْدَرُ مَاسَّهُ مِسَاسًا، لَنَنْسِفَنَّهُ:
لَنَذْرِيَنَّهُ. قَاعًا: يَعْلُوهُ الْمَاءُ.
وَالصَّفْصَفُ: الْمُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: أَوْزَارًا: أَثْقَالًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ
الْحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.
فَقَذَفْتُهَا: فَأَلْقَيْتُهَا: أَلْقَى: صَنَعَ.
فَنَسِيَ مُوسَى، هُمْ يَقُولُونَهُ أَخْطَأَ الرَّبَّ.
لاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا: الْعِجْلُ. هَمْسًا:
حِسُّ الأَقْدَامِ، حَشَرْتَنِي أَعْمَى عَنْ حُجَّتِي
وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بِقَبَسٍ ضَلُّوا الطَّرِيقَ وَكَانُوا
شَاتَيْنَ فَقَالَ: إِنْ لَمْ أَجِدْ عَلَيْهَا مِنْ
يَهْدِي الطَّرِيقَ آتِكُمْ بِنَارٍ تُوقِدُونَ. وَقَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةٌ: أَعْدَلُهُمْ.
هَضْمًا لاَ يُظْلَمُ فَيُهْضَمُ مِنْ
حَسَنَاتِهِ، عِوَجًا: وَادِيًا، وَلاَ أَمْتًا:
رَابِيَةً. سِيرَتَهَا: حَالَتَهَا الأُولَى. النُّهَى:
التُّقَى. ضَنْكًا: الشَّقَاءُ، هَوَى: شَقِيَ.
الْمُقَدَّسِ الْمُبَارَكِ طُوًى: اسْمُ الْوَادِي،
بِمَلْكِنَا: بِأَمْرِنَا، مَكَانًا سِوًى، مَنْصَفٌ
بَيْنَهُمْ يَبَسًا: يَابِسًا. عَلَى قَدَرٍ: مَوْعِدٍ،
لاَ تَنِيَا: تَضْعُفَا، يَفْرُطَ: عُقُوبَةً.
([20] طه)
مكية وهي مائة وأربع وثلاثون آية ولأبي ذر سورة طه.
(بسم الله الرحمن الرحيم) سقطت البسملة لغير أبي ذر.
(قال ابن جبير): سعيد مما وصله في الجعديات للبغوي ومصنف
ابن أبي شيبة ولأبي ذر بدل ابن جبير عكرمة فيما وصله ابن
أبي حاتم (والضحاك) بن مزاحم فيما وصله الطبري (بالنبطية
طه) معناه (يا رجل) ولأبي ذر: أي طه يا رجل بسكون الهاء،
والمراد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال
ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا لأن الله
تعالى لم يخاطب نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بلسان قريش، وعن الخليل من قرأ طه موقوفًا فهو يا رجل ومن
قرأ طه بحرفين من الهجاء فقيل معناه اطمئن وقيل طأ الأرض
والهاء كناية عنها، وقال ابن عطية: الضمير في طه للأرض
وخففت الهمزة فصارت ألفًا ساكنة وقرأ الحسن طه بسكون الهاء
من غير ألف بعد الطاء على أن الأصل طأ بالهمز أمر من وطئ
يطأ ثم أبدلت الهمزة هاء كإبدالهم لها في هرقت ونحوه أو
على إبدال الهمزة
(7/235)
ألفًا كأنه أخذه من وطئ يطأ بالبدل ثم حذف
الألف حملًا للأمر على المجزوم وتناسيًا لأصل الهمز ثم
ألحق هاء السكت وأجرى الوصل مجرى الوقف، وفي حديث أنس عند
عبد بن حميد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله طه
أي طأ الأرض.
(وقال مجاهد): في قوله تعالى: {قالوا يا موسى إما أن تلقي}
[طه: 65]. ({ألقى}) بفتح الهمزة والقاف أي (صنع) وسقط هذا
لغير أبي ذر.
(وقوله تعالى: {واحلل عقدة من لساني} [طه: 27]. يقال: كل
ما لم ينطق بحرف أو فيه تمتمة أو فأفأة فهي عقدة) وهذا
ساقط لأبي ذر وإنما سأل موسى ذلك لأنه وإنما يحسن التبليغ
من البليغ وقد كان في لسانه رتة وسببها كما روي أن فرعون
حمله يومًا فأخذ لحيته ونتفها فغضب وأمر بقتله فقالت آسية:
إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت فأحضرا بين يديه فأخذ
الجمرة فوضعها في فيه، قوله من لساني متعلق بمحذوف على أنه
صفة لعقدة أي من عقد لساني فلم يسأل حل عقدة لسانه مطلقًا
بل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها وجعل يفقهوا جواب الأمر،
ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون
إلا بحسب الحاجة. قال الحسن: واحلل عقدة من لساني قال احلل
عقدة واحدة ولو سأل أكثر من ذلك أعطي.
({أزري}) في قوله: ({واجعل لي وزيرًا من أهلي هارون أخي
أشدد به أزري} [طه: 29 - 31]. أي (ظهري) وجماعته أُزر
ويراد به القوّة يقال أزرت فلانًا على الأمر أي قويته.
({فيسحتكم}) أي [طه: 63]. (يهللكم) بعذاب ويستأصلكم به.
({المثلى}) في قوله تعالى: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} [طه:
63]- (تأنيث الأمثل) وهذا ساقط لأبي ذر (يقول) إن غلب هذان
يخرجاكم من أرضكم ويذهبا (بدينكم) أي الذي أنتم عليه وهو
السحر وقد كانوا معظمين بسبب ذلك ولهم أموال وأرزاق عليه
(يقال: خذ المثلى) أي (خذ الأمثل) وهو الأفضل.
({ثم ائتوا صفًّا} يقال هل أتيت الصف اليوم؟ يعني المصلى
الذي يصلى فيه) بفتح لام المصلى ويصلى قاله أبو عبيدة
والزجاج، والمعنى أنهم تواعدوا على الحضور إلى الموضع الذي
كانوا يجتمعون فيه لعبادتهم في عيدهم وقيل ائتوا مصطفين
لأنه أهيب في صدور الرائين فهو حال من فاعل ائتوا أي ذوي
صف فهو مصدر في الأصل قيل وكانوا سبعين ألفًا مع كل منهم
حبل وعصا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة وقوله: ثم ائتوا صفًّا
إلى آخره ساقط لأبي ذر.
({فأوجس}) أي (أضمر) ولأبي ذر فأوجس في نفسه (خوفًا فذهبت
الواو من {خيفة} لكسرة الخاء) قال ابن عطية خيفة يصح أن
يكون أصله خوفة قلبت الواو ياء للتناسب ويحتمل أن يكون
خوفة بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب
والخوف كان على قومه أن يدخلهم شك فلا يتبعوه.
({في جذوع} أي على جذوع النخل) وضع حرفًا موضع آخر ومن
تعدي صلب بفي قوله:
وقد صلبوا العبديّ في جذع نخلة ... فلا عطشت شيبان إلا
بأجدعا
وهو مذهب كوفي وقال البصريون ليست في بمعنى على ولكن شبه
تمكنهم تمكن من حواه الجذع واشتمل عليه بتمكن الشيء الموعى
في وعائه ولذا قيل في جذوع وهذا على طريق المجاز أي
استعمال في موضع على وهو أول من صلب وسقط قوله النخل لغير
أبي ذر.
({خطبك}) في قوله تعالى: {قال فما خطبك} أي ما (بالك) وما
الذي حملك على ما صنعت يا سامري.
({مساس}) في قوله: {أن تقول لا مساس} (مصدر ماسه مساسًّا)
أي مصدر لفاعل كالقتال من قاتل والمعنى أن السامري عوقب
على ما فعل من إضلاله بني إسرائيل باتخاذه العجل والدعاء
إلى عبادته في الدنيا بالنفي وبأن لا يمس أحدًا ولا يمسه
أحد فإن مسه أحد أصابتهما الحمى معًا لوقتهما وسقط قوله
مساس الخ لأبي ذر.
({لننسفنه}) أي (لنذرينه) رمادًا بعد التحريق بالنار كما
قال قبل لنحرّقنه.
({قاعًا}) في قوله: {فيذرها قاعًا} (يعلوه الماء) قال في
الدر وفي القاع أقوال قيل هو
منتقع الماء ولا يليق معناه هنا أو هو الأرض التي لا نبات
فيها ولا بناء أو المكان المستوي وجمع القاع أقوع وأقواع
وقيعان.
(والصفصف)
(7/236)
هو (المستوي من الأرض) وسقطت هذه لأبي ذر.
(وقال مجاهد) في قوله تعالى: {ولكنا حملنا} ({أوزارًا})
[طه: 87] أي (أثقالًا) كذا لأبوي ذر والوقت ولأبي ذر وحده
أيضًا أوزارًا وهي الأثقال ({من زينة القوم}) أي (الحلي
الذي) ولأبي ذر وهي الحلي التي (استعاروا من آل فرعون)
وهذا وصله الفريابي وعند الحاكم من حديث علي قال عمد
السامري إلى ما قدر عليه من الحلي فضربه عجلًا ثم ألقى
القبضة في جوفه فإذا هو عجل له خوار وعند النسائي أنه لما
أخذ القبضة من أثر الرسول أي من تربة موطئ فرس الحياة التي
كان راكبها جبريل لما جاء في غرق فرعون فأمر بهارون فقال
له ألا تلقي ما في يدك فقال لا ألقيها حتى تدعوا الله أن
تكون ما أريد فدعا له فألقاها وقال أريد أن تكون عجلًا له
جوف يخور (فقذفتها) أي (فألقيتها) في النار وفي نسخة
(فقذفناها) فألقيناها والضمير لحلي القبط التي كانوا
استعاروها منهم حين هموا بالخروج من مصر وقيل هي ما ألقاه
البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه.
({ألقي}) من قوله: {فكذلك ألقى السامري} [طه: 87] أي (صنع)
مثلهم من إلقاء ما كان معه من الحلي.
({فنسي}) أي (موسى هم) أي السامري وأتباعه (يقولونه) أي
(أخطأ) موسى (الرب) الذي هو العجل أن يطلبه ها هنا وذهب
يطلبه عند الطور أو الضمير في نسي يعود على السامري فيكون
من كلام الله أي فنسي السامري أي ترك ما كان عليه من إظهار
الإيمان وفي آل ملك وغيره الرب بالرفع وسقط من قوله فنسي
إلى هنا لأبي ذر.
({لا يرجع}) في قوله تعالى: {أفلا يرون أن لا يرجع}
({إليهم قولًا}) [طه: 89] أي (العجل) أي أنه لا يرجع إليهم
كلامًا ولا يرد عليهم جوابًا وسقطت لا من قوله لا يرجع
لأبي ذر.
(همسًا) في قوله: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا
همسًا} [طه: 108] هو (حس الأقدام) أي وقعها على الأرض ومنه
همست الإبل إذا سمع ذلك من وقع أخفافها على الأرض قال فهن
يمشين بنا هميسًا وفسر هنا بخفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر
وقيل هو تحريك الشفتين من غير نطق والاستثناء مفرغ.
({حشرتني أعمى}) قال مجاهد فيما وصله الفريابي أي (عن
حجتي) وهو نصب على الحال ({وقد كنت بصيرًا}) [طه: 125] أي
(في الدنيا) بحجتي يريد أنه كانت له حجة بزعمه في الدنيا
فلما كوشف بأمر الآخرة بطلت ولم يهتد إلى حجة حق.
(قال ابن عباس) في قوله تعالى ({بقبس} ضلوا}) أي موسى
وأهله (الطريق) في سيرهم لمصر (وكانوا شاتين) في ليلة
مظلمة مثلجة ونزلوا منزلًا بين شعاب وجبال وولد له ابن
وتفرقت ماشيته وجعل يقدح بزند معه ليوري فجعل لا يخرج منه
شرر فرأى من جانب الطور نارًا (فقال) لأهله امكثوا إني
أبصرت نارًا (إن لم أجد عليها من يهدي الطريق آتكم بنار
توقدون) وفي نسخة لأبي ذر تدفؤون بفتح الفوقية والفاء بدل
توقدون وقوله في الآية ({لعلكم تصطلون}) يدل على البرد
وبقبس على وجود الظلام ({أو أجد على النار هدى}) على أنه
قد تاه عن الطريق، وقول ابن عباس هذا ثابت هنا على هامش
الفرع كأصله مخرج له بعد قوله في الدنيا في رواية أبي ذر.
(وقال ابن عيينة) سفيان مما هو في تفسيره في قوله (أمثلهم
طريقة) أي (أعدلهم) أي رأيًا أو عملًا وسقط لغير أبي ذر
طريقة.
(وقال ابن عباس) فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن
أبي طلحة في قوله تعالى: {فلا يخاف ظلمًا ولا} ({هضمًا})
أي (لا يظلم فيهضم من حسناته) ولفظ ابن أبي حاتم لا يخاف
ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزداد في سيئاته ولا يهضم
فينقص من حسناته ({عوجًا}) أي (واديًا {ولا أمتًا}) أي
(رابية) قاله ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم وسقط لغير
أبي ذر لفظ ولا من قوله ولا أمتًا.
({سيرتها}) في قوله تعالى: {سنعيدها سيرتها الأولى} أي
(حالتها) وهيئتها (الأولى) وهي فعلة من السير تجوّز بها
للطريقة وانتصابها على نزل الخافض.
({النهي}) في قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لأولي النهي}
[طه: 128] أي (التقى) وقال في الأنوار لذوي العقول الناهية
عن اتباع الباطل وارتكاب القبائح جمع نهية.
({ضنكًا})
(7/237)
في قوله تعالى: {فإن له معيشة ضنكًا} [طه:
124] (الشقاء) قاله ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم من
طريق علي بن أبي طلحة عنه وصحح ابن حبان من حديث أبي هريرة
مرفوعًا ({معيشة ضنكًا}) قال عذاب القبر وقال في الأنوار
ضنكًا ضيقًا مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث.
({هوى}) في قوله: ({ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} [طه: 81]
قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم أي (شقى) وقال القاضي
فقد تردّى وهلك وقيل وقع في الهاوية والأول شامل لها.
({بالوادي المقدّس}) أي (المبارك) ولغير أبي ذر المقدس
المبارك مع إسقاط بالوادي ({طوى}) [طه: 12] بالتنوين وبه
قرأ ابن عامر والكوفيون (اسم الوادي) ولأبي ذر واد وهو بدل
من الوادي أو عطف بيان له أو مرفوع على إضمار مبتدأ أو
منصوب بإضمار أعني.
({بملكنا}) بكسر الميم في قوله تعالى: {قالوا ما أخلفنا
موعدك بملكنا} [طه: 87] وهي
قراءة أبي عمرو وابن كثير وابن عامر أي (بأمرنا) وعاصم
ونافع بفتحها وحمزة والكسائي بضمها وثلاثتها في الأصل لغات
في مصدر ملكت الشيء.
(مكانًا سوى) في قوله: {لا نخلفه نحن ولا أنت مكانًا سوى}
[طه: 58] معناه (منصف) تستوي مسافته (بينهم) قال في
الأنوار وانتصاب مكانًا بفعل دل عليه المصدر لا به فإنه
موصوف وسقط لأبي ذر قوله بملكنا الخ.
(يبسا) في قوله: {فاضرب لهم طريقًا في البحر يبسًا} [طه:
77] أي (يابسًا) صفة لطريقًا وصف به لما يؤول إليه لأنه لم
يكن يبسًا بعد إنما مرت عليه الصبا فجففته كما ذكر وقيل هو
في الأصل مصدر وصف به مبالغة أو على حذف مضاف أو جمع يابس
كخادم وخدم وصف به الواحد مبالغة.
({على قدر}) في قوله: ({ثم جئت على قدر يا موسى} [طه: 40]
أي (موعد) قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم ولا مستأخر
قال أبو البقاء وهو متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل جئت
أي جئت موافقًا لما قدر لك قال في الدر وهو تفسير معنى
والتفسير الصناعي ثم جئت مستقرًّا أو كائنًا على مقدار
معين كقوله:
نال الخلافة أو جاءت على قدر ... كما أتى ربه موسى على قدر
({لا تنيا}) في قوله تعالى: {ولا تنيا في ذكري} [طه: 42]
أي (لا تضعفا) قاله قتادة فيما وصله عبد بن حميد وقال غيره
لا تفترا يقال: ونى يني ونيًا كوعد يعد وعدًا إذا فتر.
({يفرط}) في قوله تعالى: {إنا نخاف أن يفرط علينا} [طه:
45] قال أبو عبيدة (عقوبة) أي يتقدم بالعقوبة ولا يصبر إلى
تمام الدعوة وإظهار المعجزة وسقط يفرط عقوبة لغير أبي ذر.
1 - باب قَوْلِهِ: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41]
هذا (باب) بالتنوين (قوله) تعالى ثبت لفظ باب لأبي ذر وسقط
له قوله: ({واصطنعتك لنفسي}) [طه: 41] افتعال من الصنع
فأبدلت التاء طاء لأجل حرف الاستعلاء أي اصطفيتك لمحبتي
وهذا مجاز عن قرب منزلته ودنوه من ربه لأن أحدًا لا يصطنع
إلا من يختاره.
4736 - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْتَقَى
آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى لآدَمَ: أَنْتَ الَّذِي
أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
قَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ
بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ وَأَنْزَلَ
عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَوَجَدْتَهَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟
قَالَ: نَعَمْ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى». الْيَمُّ:
الْبَحْرُ.
وبه قال: (حدّثنا الصلت بن محمد) بفتح الصاد المهملة وسكون
اللام آخره فوقية الخاركي بالخاء المعجمة والراء والكاف
قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني: بالإفراد (مهدي بن ميمون)
الأزدي المعولي بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو
البصري قال: (حدّثنا محمد بن سيرين) الأنصاري البصري (عن
أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن) أنه (قال):
(التقى آدم وموسى) بأشخاصهما أو بأرواحهما أو يوم القيامة
أو في حياة موسى الدنيوية أراه الله آدم فالتقيا أو بعد
وفاته (فقال) ولأبي ذر قال (موسى لآدم: أنت الذي) وفي
أحاديث الأنبياء من طريق حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة
أنت آدم الذي (أشقيت الناس) من الشقاوة (وأخرجتهم من
الجنة) أي بتناولك من الشجرة (قال له آدم: أنت الذي) ولأبي
ذر قال آدم أنت موسى الذي (اصطفاك الله برسالته) أي جعلك
خالصًا صافيًا عن شائبة ما لا يليق بك (واصطفاك لنفسه)
وهذا موضع الترجمة (وأنزل عليك التوراة) فيها تبيان كل شيء
من الأخبار بالغيوب والقصص وغير ذلك من قوله وكتبنا له في
الألواح من كل شيء (قال نعم. قال: فوجدتها) أي الخطيئة
(كتب عليّ)
(7/238)
وللكشميهني كتبت بزيادة تاء التأنيث
وللحموي والمستملي فوجدته أي الذنب كتب عليّ في التوراة
(قبل أن يخلقني)؟ أو الضمير في فوجدتها بالتأنيث يرجع إلى
التوراة باعتبار اللفظ وبالتذكير باعتبار المعنى أي الكتاب
وعند ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن هرمز عن أبي هريرة قال:
آدم فهل وجدت فيها يعني في التوراة {وعصى آدم ربه فغوى}
(قال نعم فحج آدم موسى) برفع آدم على الفاعلية أي غلبه
بالحجة ويأتي مزيد لذلك قريبًا.
وهذا الحديث من إفراده من هذا الوجه.
({أليمٌ}) في قوله تعالى: {فاقذفيه في الميم} [طه: 39] هو
(البحر) أي إطرحيه فيه.
2 - باب {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ
بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ
يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى *
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ
الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ
وَمَا هَدَى} [طه: 77 - 79]
({وأوحينا}) ولأبي ذر باب بالتنوين ولقد أوحينا ({موسى أن
أسر بعبادي}) أي أسر بهم في الليل من أرض مصر ({فاضرب لهم
طريقًا في البحر}) طريقًا نصب مفعول به وذلك على سبيل
المجاز وهو أن الطريق متسبب عن ضرب البحر إذ المعنى اضرب
البحر لينفلق لهم فيصير طريقًا فبذا صح نسبة الضرب إلى
الطريق أو المعنى اجعل لهم طريقًا وقيل هو نصب على الظرف
قال أبو البقاء أي موضع طريق فهو مفعول فيه ({يبسًا}) ليس
فيه ماء ولا طين ({لا تخاف دركًا}) أي يدركك فرعون من
ورائك ({ولا تخشى}) أن يغرقك البحر أمامك ({فأتبعهم فرعون
بجنوده}) أي فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده فحذف المفعول
الثاني والباء للتعدية أو زائدة في المفعول الثاني أي
فأتبعهم فرعون وجنوده ({فغشيهم من اليم ما غشيهم}) هو من
باب الاختصار
وجوامع الكلم التي يقل لفظها ويكثر معناها أي فغشيهم ما لا
يعلم كنهه إلا الله ولا ضمير في غشيهم لجنوده أوله ولهم
والفاعل هو الله تعالى أو ما غشيهم أو فرعون لأنه الذي
ورطهم للهلاك ({وأضل فرعون قومه}) في الدين ({وما هدى})
[طه: 77 - 79] وهو تكذيب له في قوله وما أهديكم إلا سبيل
الرشاد وأضلهم في البحر وما نجا، وسقط قوله لا تخاف الخ
ولأبي ذر وقال بعد قوله يبسًا إلى قوله وما هدى.
4737 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو
بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
-رضي الله عنهما- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ
وَالْيَهُودُ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا:
هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى
فِرْعَوْنَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ
فَصُومُوهُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (يعقوب بن
إبراهيم) الدورقي قال: (حدّثنا روح) بفتح الراء وسكون
الراء وسكون الواو آخره مهملة ابن عبادة قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا أبو بشر) بكسر الموحدة وسكون
المعجمة جعفر بن أبي وحشية (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
-رضي الله عنهما-) أنه (قال: لما قدم رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة واليهود تصوم
عاشوراء) قال الطيبي: هو من باب الصفة التي لم يرد لها فعل
والتقدير يوم مدته عاشوراء أو صورته عاشوراء، قيل: وليس في
كلامهم فاعولاء غيره وقد يلحق به تاسوعاء، وذهب بعضهم إلى
أنه أخذ من العشر الذي هو من إظماء الإبل ولهذا زعموا أنه
اليوم التاسع وسبق تقرير ذلك في الصوم فليراجع ولأبي ذر
تصوم يوم عاشوراء (فسألهم) ما هذا الصوم وكان هذا في السنة
الثانية من قدومه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(فقالوا): أي اليهود (هذا اليوم الذي ظهر فيه موسى) عليه
السلام (على فرعون) أي غلب عليه وفي الصوم من طريق أيوب عن
عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه قالوا: هذا يوم صالح هذا
يوم نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوّهم (فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): وسقط لأبي ذر قوله
النبي الخ لأبي ذر:
(نحن أولى بموسى منهم) بضمير الغيبة (فصوموه) وفي الصوم
فصامه وأمر بصيامه.
3 - باب قَوْلِهِ: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ
الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]
(باب قوله) تعالى: ({فلا يخرجنكما) فلا يكونن سببًا
لإخراجكما ({من الجنة فتشقى}) [طه: 117] أسند إلى آدم
الشقاء وحده دون حواء بعد اشتراكهما في الخروج لأن في ضمن
شقاء الرجل وهو قيم أهله شقاءهم فاختصر الكلام بإسناده
إليه دونها أو لأن المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش
الذي هو وظيفة الرجال وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
4738 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «حَاجَّ مُوسَى آدَمَ فَقَالَ لَهُ:
أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ
بِذَنْبِكَ فَأَشْقَيْتَهُمْ قَالَ: قَالَ آدَمُ يَا
مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ
وَبِكَلاَمِهِ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ
عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي أَوْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي البغلاني وسقط
لغير أبي ذر ابن سعيد قال: (حدّثنا أيوب بن النجار) بالنون
والجيم المشددة وبعد الألف راء الحنفي اليمامي كان يقال
إنه من الإبدال (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة الطائي
مولاهم (عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-)
(7/239)
أنه (قال):
(حاج موسى آدم) بالنصب على المفعولية (فقال) موسى (له أنت
الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك) وهو الأكل من الشجرة
التي نهي عنها (فأشقيتهم) بكدّ الدنيا وتعبها والجملة
مبنية لمعنى حاج موسى آدم (قال: قال آدم) مجيبًا له (يا
موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته) بالجمع باعتبار
الأنواع وبالإفراد فقط في اليونينية (بكلامه) على الناس
الموجودين في زمانك وفي الرواية السابقة تريب وأنزل عليك
التوراة (أتلومني) بهمزة الإنكار ولمسلم أفتلومني بفاء بعد
الهمزة وفيه حذف ما تقتضيه الهمزة وفاء العطف من الفعل أي
أتجد في التوراة هذا النص الجلي وأنه ثابت قبل كوني وقد
حكم بأن ذلك كائن لا محالة فكيف تغفل عن العلم السابق
وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت
ممن اصطفاك الله من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر
الله من وراء الأستار فتلومني (على أمر كتبه الله علي قبل
أن يخلقني أو قدره عليّ) بأن كتبه في اللوح المحفوظ أو صحف
التوراة وألواحها (قبل أن يخلقني) زاد مسلم بأربعين سنة
والشك من الراوي (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: فحج آدم موسى) برفع آدم على الفاعلية أي غلب
عليه بالحجة بأن ما صدر منه لم يكن مستقلًا به متمكنًا من
تركه بل كان أمرًا مقضيًا وقيل إنما احتج في خروجه من
الجنة بأن الله خلقه ليجعله خليفة في الأرض ولم ينف عن
نفسه الأكل من الشجرة التي نهي عنها، وقيل: إنما احتج بأن
التائب لا يلام بعد توبته على ما كان منه.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[21]- سورة الأَنْبِيَاءِ
([21]- (سورة الأَنْبِيَاءِ)
مكية وهي مائة واثنتا عشر آية.
(بسم الله الرحمن الرحيم).
سقطت البسملة لغير أبي ذر.
4739 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفُ
وَمَرْيَمُ، وَطَهَ، وَالأَنْبِيَاءُ هُنَّ مِنَ
الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي. وَقَالَ
قَتَادَةُ جُذَاذًا: قَطَّعَهُنَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي
فَلَكٍ: مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ، يَسْبَحُونَ:
يَدُورُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَفَشَتْ: رَعَتْ
يُصْحَبُونَ: يُمْنَعُونَ. أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
قَالَ: دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
حَصَبُ: حَطَبُ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ
أَحَسُّوا: تَوَقَّعُوهُ مِنْ أَحْسَسْتُ. خَامِدِينَ:
هَامِدِينَ، حَصِيدٌ مُسْتَأْصَلٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ
وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ، لاَ يَسْتَحْسِرُونَ: لاَ
يُعْيُونَ وَمِنْهُ حَسِيرٌ وَحَسَرْتُ بَعِيرِي، عَمِيقٌ:
بَعِيدٌ. نُكِسُوا: رُدُّوا، صَنْعَةَ لَبُوسٍ:
الدُّرُوعُ. تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ: اخْتَلَفُوا،
الْحَسِيسُ: وَالْحِسُّ وَالْجَرْسُ وَالْهَمْسُ وَاحِدٌ
وَهْوَ مِنَ الصَّوْتِ الْخَفِيِّ. آذَنَّاكَ:
أَعْلَمْنَاكَ، آذَنْتُكُمْ إِذَا أَعْلَمْتَهُ فَأَنْتَ
وَهْوَ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ تَغْدِرْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ: تُفْهَمُونَ. ارْتَضَى: رَضِيَ.
التَّمَاثِيلُ: الأَصْنَامُ، السِّجِلُّ: الصَّحِيفَةُ.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني (محمد بن بشار)
بالموحدة المفتوحة والمعجمة المشددة بندار العبدي البصري
قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر الهذلي البصري قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله
السبيعي أنه (قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد) النخعي الكوفي
(عن عبد الله) يعني ابن مسعود -رضي الله عنه- (قال بني
إسرائيل) فيه حذف المضاف وابقاء المضاف إليه على حاله أي
سورة إسرائيل (والكهف) بالرفع أي والثاني الكهف فهو خبر
مبتدأ محذوف (ومريم وطه والأنبياء) رفع كالأول (هن)
الأربعة (من العتاق الأول) بكسر العين المهملة وتخفيف
الفوقية جمع عتيق وهو ما بلغ الغاية في الجودة والأول بضم
الهمزة وفتح الواو المخففة والأولية باعتبار النزول لأنهن
نزلن بمكة (وهن من تلادي) بكسر الفوقية وتخفيف اللام وكسر
الدال المهملة أي مما حفظته قديمًا من القرآن ضد الطارف
وإنما كانت الأنبياء بهذا الوصف لتضمنها أخبار جلة
الأنبياء وغير ذلك.
وقد سبق هذا الحديث أول سورة بني إسرائيل.
(وقال قتادة): فيما وصله الطبري من طريق سعيد عنه في تفسير
قوله تعالى: {فجعلهم} ({جذاذًا}) بضم الجيم (قطعهن) وعبّر
بقوله جعلهم وهو ضمير العقلاء معاملة للأصنام معاملة
العقلاء حيث أعتقدوا فيها ذلك وقرأ الكسائي بكسر الجيم
لغتان بمعنى.
(وقال الحسن) البصري في قوله تعالى: ({في فلك}) أي في (مثل
فلكة المغزل) بكسر الميم وفتح الزاي وهذا وصله ابن عيينة
وقال الفلك مدار النجوم والفلك في كلام العرب كل مستدير
وجمعه أفلاك ومنه فلكة المغزل، وقال آخر: الفلك ماء مجموع
تجري فيه الكواكب واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء
وأجيب: بأنه يقال في الفرس الذي يمد يديه في الجري سابح
فلا دليل فيما احتج به.
({يسبحون}) قال ابن عباس: (يدورون) كما يدور المغزل في
الفلكة، ولذا قال مجاهد فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا
الفلكة إلا بالمغزل كذلك النجوم والقمران لا يدرن إلا به
ولا يدور إلا بهن.
(قال ابن عباس):
(7/240)
مما وصله ابن أبي حاتم في قوله تعالى: إذ
({نقشت}) أي (رعت) ({فيه غنم القوم}) وزاد أبو ذر ليلًا
({يصحبون}) في قوله: {ولا هم منا يصحبون} أي (يمنعون) قاله
ابن عباس فيما وصله ابن المنذر، وقال مجاهد: ينصرون.
(أمتكم أمة واحدة قال): أي ابن عباس أي (دينكم دين واحد)
وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد فجعلت الشريعة
أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد.
(وقال عكرمة) في قوله ({حصب}) أي (حطب) بالطاء بدل الصاد
(بالحبشية) وقيل باليمانية وهي قراءة أبي وعائشة والظاهر
أنها تفسير لا تلاوة والحصب بالصاد ما يرمى به في النار
ولا يقال له حطب إلا وهو في النار فأما قبل ذلك فحطب وشجر
وهذه ساقطة لأبي ذر.
(وقال غيره): غير عكرمة ({أحسوا}) في قوله تعالى: {فلما
أحسوا بأسنا} [الأنبياء: 12] أي (توقعوه) ولأبي ذر توقعوا
بحذف الضمير مشتق (من أحسست) من الإحساس وقال في الأنوار
فلما أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس ({خامدين})
أي (هامدين) قاله أبو عبيدة.
({حصيدًا}) ولأبي ذر والحصيد أي في قوله تعالى: {حتى
جعلناهم حصيدًا خامدين} [الأنبياء: 15] معناه (مستأصل)
كالنبت المحصول شبههم في استئصالهم به كما تقول جعلناهم
رمادًا أي مثل الرماد ولفظه (يقع على الواحد والاثنين
والجميع) وهو مفعول ثان لأن الجعل هنا تصيير.
فإن قلت: كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل؟ أجيب: بأن حصيدًا
وخامدين يجوز أن يكونا من باب هذا حلو حامض كأنه قيل
جعلناهم جامعين بين الوصفين جميعًا والمعنى أنهم هلكوا
بذلك العذاب حتى لم يبق حس ولا حركة وجفوا كما يجف الحصيد
وخمدوا كما تخمد النار.
({لا يستحسرون}) قال أبو عبيدة (لا يعيون) في الفرع وأصله
بضم أوله مصححًا عليه وثالثه وكلاهما مصلح على كشط من أعيا
وفي نسخة عن أبي ذر يعيون بفتحهما ورده ابن التين
والسفاقسي وصوّب الضم وأجاب العيني بأن الصواب الفتح لأن
معناه لا يعجزون وقيل لا ينقطعون (ومنه حسير وحسرت بعيري)
أي أعييته.
وقوله: ({عميق}) في سورة الحج أي (بعيد) ويحتمل أن يكون
ذكره هنا سهوًا من ناسخ أو غيره.
({نكسوا}) بتشديد الكاف مبنيًّا للمفعول وهي قراءة أبي
حيوة وغيره لغة في المخففة في قوله: {ثم نكسوا على رؤوسهم}
[الأنبياء: 65] أي (ردّوا) بضم الراء إلى الكفر بعد أن
أقروا على أنفسهم بالظلم أو قلبوا على رؤوسهم حقيقة بفرط
إطراقهم خجلًا وانكسارًا وانخزالًا مما بهتهم إبراهيم عليه
السلام فما أحاروا جوابًا إلا ما حجة لإبراهيم حين جادلهم
فقالوا لقد علمت ما هؤلاء ينطقون فأقروا بهذه الحجة التي
لحقتهم.
({صنعة لبوس}) هي (الدروع) لأنها تلبس وهو بمعنى الملبوس
كالحلوب والركوب.
(تقطعوا أمرهم) أي (اختلفوا) أي في الدين فصاروا فرقًا
أحزابًا والأصل وتقطعتم إلا أنه صرف إلى الغيبة على طريق
الالتفات كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم
فعلهم ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين
الله والمعنى اختلفوا في الذين فصاروا فرقًا وأحزابًا قاله
في الكشاف.
(الحسيس والحس) في قوله: {لا يسمعون حسيسها} [الأنبياء:
102] (والجرس) بفتح الجيم وسكون الراء (والهمس) بفتح الهاء
وسكون الميم (واحد) في المعنى (وهو من الصوت الخفي) بالرفع
خبر المبتدأ الذي هو قوله وهو معنى الآية: لا يسمعون صوتها
وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة.
({آذناك}) {ما منا من شهيد} [فصلت: 47] بفصلت معناه
(أعلمناك) وذكره مناسبة لقوله: فإن تولوا فقل: ({آذنتكم})
قال أبو عبيدة: (إذا) أنذرت عدوّك و (أعلمته) بالحرب (فأنت
وهو على سواء لم تغدر) ومعنى الآية أعلمتكم بالحرب وأنه لا
صلح بيننا على سواء لتتأهبوا لما يراد بكم فلا غدر ولا
خداع (وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي في قوله: ({لعلكم
تسألون}) أي (تفهمون) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الهاء
مخففة وفي نسخة تفهمون بفتح فسكون ففتح مخففًا، ولابن
المنذر من وجه آخر تفقهون، وقال بعضهم: أي ارجعوا إلى
نعمتكم ومساكنكم لعلكم تسئلون عما جرى
(7/241)
عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا
السائل عن علم ومشاهدة.
({ارتضى}) في قوله: ({ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}
[الأنبياء: 28] أي (رضي) أن يشفع له مهابة منه وسقطت هذه
لأبي ذر.
({التماثيل}) هي (الأصنام) والتمثال اسم للشيء الموضوع
مشبهًا بخلق من خلق الله.
({السجل}) في قوله: {كطي السجل} [الأنبياء: 104] هو
(الصحيفة) مطلقًا أو مخصوص بصحيفة العهد وطيّ مصدر مضاف
للمفعول والفاعل محذوف تقديره كما يطوي الرجل الصحيفة
ليكتب فيها.
1 - باب: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ
وَعْدًا عَلَيْنَا} [الأنبياء: 104]
هذا (باب) بالتنوين في قوله: ({كما بدأنا أول خلق نعيده})
الكاف تتعلق بنعيد وما مصدرية وبدأنا صلتها وأول خلق مفعول
بدأنا قاله أبو البقاء أي نعيد أول خلق إعادة مثل بداءتنا
له أي كلما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم
إلى الوجود وقد اختلف في كيفية الإعادة فقيل إن الله يفرّق
أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم يعيد تركيبها أو يعدمها
بالكلية ثم يوجدها بعينها والآية تدل على ذلك لأنه شبه
الإعادة باللابتداء وهو عن الوجود بعد العدم ({وعدًا
علينا}) [الأنبياء: 104] الإعادة وقيل المراد حقًّا علينا
بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه وإن وقوع ما علم
الله وقوعه واجب وسقط باب لغير أبي ذر وكذا وعدًا علينا.
4740 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ شَيْخٍ
مِنَ النَّخَعِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «إِنَّكُمْ
مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا
{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا
عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]
ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِبْرَاهِيمُ، أَلاَ إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ
أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ:
يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ: لاَ تَدْرِي مَا
أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ
الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ}
إِلَى قَوْلِهِ: {شَهِيدٌ} [المائدة: 117] فَيُقَالُ إِنَّ
هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن المغيرة بن النعمان) بضم النون وسكون
العين النخعي الكوفي (شيخ) بالجر بدلًا من سابقه (من
النخع) بفتح الخاء (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله
عنهما-) أنه (قال: خطب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال):
(إنكم محشورون) مجموعون (إلى الله حفاة) بالحاء المهملة
كذا في الفرع وأصله وسقطت في بعض النسخ (عراة) من الثياب
(غرلًا) بغين معجمة مضمومة فراء ساكنة جمع أغرل وهو الأقلف
الذي لم يختن، قال أبو الوفاء بن عقيل: لما أزالوا تلك
القطعة في الدنيا أعادها الله ليذيقها من حلاوة فضله ({كما
بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين} ثم إن
أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم) وسقط لفظ إن لغير
الكشميهني فالتالي رفع قيل وخصوصية إبراهيم بهذه الأولية
لكونه ألقي في النار عريانًا وزاد الحليمي في منهاجه من
حديث جابر ثم محمد ثم النبيون (ألا) بالتخفيف (إنه) أي لكن
إن الشأن (يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال) أي
جهة النار (فأقول بل رب أصحابي فيقال لا تدري ما أحدثوا
بعدك فأقول كما قال العبد الصالح) عيسى عليه الصلاة
والسلام: ({وكنت عليهم شهيدًا ما دمت}) ولأبي ذر فيهم
({إلى قوله: شهيد} فيقال ان هؤلاء لم يزالوا مرتدين على
أعقابهم) ولأبي ذر عن المستملي إلى أعقابهم (منذ فارقتهم)
والمراد بمرتدين التخلف عن الحقوق الواجبة.
وقد مرّ هذا الحديث في آخر سورة المائدة.
[22]- سورة الْحَجِّ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَقَالَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ الْمُخْبِتِينَ: الْمُطْمَئِنِّينَ، وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ فِي {إِذَا تَمَنَّى أَلقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ} إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي حَدِيثِهِ فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ. وَيُقَالُ:
أُمْنِيَّتُهُ: قِرَاءَتُهُ، إِلاَّ أَمَانِيَّ
يَقْرَءُونَ وَلاَ يَكْتُبُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
مَشِيدٌ بِالْقَصَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَقَالَ
غَيْرُهُ: يَسْطُونَ: يَفْرُطُونَ مِنَ السَّطْوَةِ،
وَيُقَالُ يَسْطُونَ يَبْطُشُونَ. {وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أُلْهِمُوا. {وَهُدُوا إِلَى
صِرَاطِ الحَمِيدِ} الإِسْلاَمِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
بِسَبَبٍ بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ: تَذْهَلُ
تُشْغَلُ.
([22] سورة الحج)
مكية إلا {هذان خصمان} إلى تمام ثلاث آيات أو أربع إلى
قوله: {عذاب الحريق} وهي ثمان وسبعون آية.
(بسم الله الرحمن الرحيم) ثبتت البسملة لأبي ذر.
(وقال ابن عيينة) سفيان فيما أسنده في تفسيره عن ابن أبي
نجيح عن مجاهد ({المخبتين}) في قوله تعالى: {وبشّر
المخبتين} [الحج: 34]. أي (المطمئنين) إلى الله. وقال ابن
عباس المتواضعين الخاشعين، وقال الكلبي: هم الرقيقة
قلوبهم، وقال عمرو بن أوس هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا
لم ينتصروا.
(وقال ابن عباس): فيما وصله الطبري (في) قوله تعالى: ({إذا
تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}) [الحج: 52]. أي (إذا حدث)
أي إذا تلا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
شيئًا من الآيات المنزلة عليه من الله (ألقى الشيطان في
حديثه) في تلاوته عند سكتة من السكتات بمثل نغمة ذلك النبي
ما يوافق رأي أهل الشرك من الباطل فيسمعونه فيتوهمون أنه
مما تلاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو
منزه عنه لا يخلط حقًّا بباطل حاشاه الله من ذلك (فيبطل
الله ما يلقي) ولأبي ذر عن الكشميهني ما ألقى (الشيطان
ويحكم آياته) أي يثبتها (ويقال) إن (أمنيته) هي (قراءته)
وفي
(7/242)
اليونينية أمنيته قراءته بالرفع فيهما وفي
بعض الأصول وكثير من النسخ أمنيته قراءته بجرهما على ما لا
يخفى.
({إلا أماني}) بالبقرة أي (يقرؤون ولا يكتبون) وهذا أورده
المؤلّف -رحمه الله- استشهادًا على أن تمنى في قوله تعالى
في هذه السورة {إلا إذا تمنى} بمعنى قرأ وهو خلاف ما فسره
به صاحب الأنوار حيث قال: إذا تمنى إذا زوّر في نفسه ما
يهواه ألقى الشيطان في أمنيته في نشهيه ما يوجب اشتغاله
بالدنيا كما قال عليه السلام: إنه ليغان على قلبي فاستغفر
الله في اليوم سبعين مرة فينسخ الله ما يلقى الشيطان
فيبطله الله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى
ما يزيحه ثم يحكم الله آياته ثم يثبت آياته الداعية إلى
الاستغراق في أمر الآخرة قيل إنه حدّث نفسه يعني النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بزوال المسكنة فنزلت
انتهى.
والحامل له على هذا التفسير كغيره ما في ظاهر هذه القصة من
البشاعة وقد رواها ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من
طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمكة النجم فلما
بلغ: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم:
19، 20] ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وأن
شفاعتهن لترتجى. فقال المشركون ما ذكر آلهتنا بخير قبل
اليوم فسجد وسجدوا فنزلت هذه الآية. ورواها البزار وابن
مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال في إسناده عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ثم ساق الحديث، وقال
البزار: لا يروى متصلًا إلا بهذا الإسناد تفرد بوصله أمية
بن خالد وهو ثقة مشهور قال: وإنما يروى هذا من طريق الكلبي
عن أبي صالح عن ابن عباس انتهى.
والكلبي متروك لا يعتمد عليه، ورواها أيضًا ابن إسحاق في
سيرته وموسى بن عقبة في مغازيه وأبو معشر في آخرين وكلها
مراسيل وقد طعن فيها غير واحد من الأئمة حتى قال ابن
إسحاق: وقد سئل عنها هي من وضع الزنادقة وقال البيهقي غير
ثابتة نقلًا ورواتها مطعونون، وأطنب القاضي عياض في الشفاء
في توهين أصلها فشفى وكفى إذ سدّ هذا الباب هو الصواب،
وأربح للثواب، وإن كانت كثرة الطرق تدل على أن لها أصلًا
لا سيما وقد رواها الطبري من طريقين مرسلين رجالهما على
شرط الصحيح. أولهما: طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه،
وثانيهما: طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن
داود بن أبي هند عن أبي العالية وكذا طريق سعيد بن جبير
السابقة وحينئذ فردّها لا يتمشى على القواعد الحديثية بل
ينبغي أن يحتج بهذه الثلاثة من يحتج بالمرسل ومن لا يحتج
به لاعتضاد بعضها ببعض كما قرره شيخ الصنعة وإمامها الحافظ
أبو الفضل بن حجر.
وإذا سلمنا أن لها أصلًا وجب تأويلها وأحسن ما قيل في ذلك
أن الشيطان نطق بتلك الكلمات أثناء قراءة النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند سكتة من السكتات محاكيًا
نغمته فسمعها القريب منه فظها من قوله وأشاعها.
وفي كتابي المواهب اللدنية بالمنح المحمدية زيادات على ما
ذكرته هنا، وقد قال مجاهد أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال
الوحي عليه بسرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرّفه أن
إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوارث والنوازل، وقيل إنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتفكّر عند نزول
الوحي في تأويله إذا كان مجملًا فيلقي الشيطان في جملته ما
لم يرده فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراد
بأدلته وآياته، وقيل إذا تمنى أي إذا أراد فعلًا مقربًا
إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فرجع إلى الله في
ذلك وهو كقوله: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله}
[الأعراف: 200] لكن قال بعضهم لا يجوز حمل الأمنية على
تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر بباله
عليه السلام فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى: {ليجعل ما
يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض} [الحج: 53].
وأجيب: بأنه لا يبعد أنه إذا قوي التمني يشتغل الخاطر
فيحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة لهم.
(وقال مجاهد): مما وصله الطبري
(7/243)
من طريق ابن أبي نجيح عنه ({مشيد}) في
قوله: {وبئر معطلة وقصر مشيد} [الحج: 45]. أي (بالقصة)
بفتح القاف والصاد المهملة المشددة ولأبي ذر جص بكسر الجيم
وتشديد الصاد المهملة والرفع أي هي جص وهذه ثابتة لأبي ذر
والمشيد بكسر المعجمة الجص وهو الكلس وقيل المشيد المرفوع
البنيان، والمعنى كم من قرية أهلكنا وكم بئر عطلنا عن
سقاتها وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه وجعلنا ذلك عبرة لمن
اعتبر، وقيل إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ولكل
أهل فكفروا فأهلكهم الله وبقيا خاليين.
وذكر الإخباريون أن القصر من بناء شداد بن عاد فصار معطلًا
لا يستطيع أحد أن يقرب منه على أميال مما يسمع فيه من
أصوات الجن المنكرة.
(وقال غيره) أي غير مجاهد في قوله تعالى: {يكادون}
({يسطون}) أي (يفرطون) بفتح التحتية وسكون الفاء وضم الراء
المهملة من باب نصر ينصر مشتق (من السطوة) وهي القهر
والغلبة وقيل إظهار ما يهول للإخافة (ويقال) هو قول الفراء
والزجاج (يسطون) أي (يبطشون) بكسر الطاء وضمها والأول لأبي
ذر والمعنى أنهم يهمون بالبطش والوثوب تعظيمًا لإنكار ما
خوطبوا به أي يكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم آياتنا
بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه من
شدّة الغيظ ويسطون ضمن معنى يبطشون فتعدى تعديته وإلاّ فهو
متعد بعلى يقال سطا عليه.
({وهدوا إلى الطيب من القول}) [الحج: 24] قال ابن عباس
فيما أخرجه الطبري من طريق عليّ بن أبي طلحة أي (ألهموا)
ولأبي ذر وهدوا إلى الطيب من القول أي ألهموا القرآن وفي
رواية له أيضًا إلى القرآن ورواه ابن المنذر من طريق سفيان
عن إسماعيل بن أبي خالد. وقال ابن عباس: الطيب من القول
شهادة أن لا إله إلا الله ويؤيده قوله: {مثل كلمة طيبة}
[إبراهيم: 24] وقوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]
وعنه في رواية عطاء هو قول أهل الجنة: {الحمد لله الذي
صدقنا وعده} [الزمر: 74].
({وهدوا إلى صراط الحميد}) [الحج: 24] هو (الإسلام) ولأبوي
ذر والوقت الإسلام بالجرّ أي إلى الإسلام والحميد هو الله
المحمود في أفعاله وهذا ثابت لأبي ذر عن الحموي ساقط
لغيره.
(وقال ابن عباس) فيما وصله ابن المنذر بمعناه ({بسبب}) في
قوله: {فليمدد بسبب} [الحج: 15] أي (بحبل إلى سقف البيت)
ولفظ ابن المنذر فليمدد بسبب إلى سماء بيته فليختنق به
والمعنى من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه
وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام من عدوّه فليشدد حبلًا
في سقف بيته فليختنق به حتى يموت إن كان ذلك غائظه فإن
الله ناصره لا محالة. قال الله تعالى: {إنّا لننصر رسلنا}
[غافر: 51] الآية. وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {فليمدد بسبب إلى السماء}
[الحج: 15] أي ليتوصل إلى بلوغ السماء فإن النصر إنما يأتي
محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من السماء ثم
ليقطع ذلك عنه إن قدر عليه، وقوله ابن عباس أظهر في المعنى
وأبلغ في التهكم، فعلى هذا القول الثاني فيه استعارة
تمثيلية والأمر للتعجيز وعلى الأوّل كناية عن شدّة الغيظ
والأمر للإهانة.
({تذهل}) في قوله: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت}
[الحج: 2] أي (تشغل) بضم أوّله وفتح ثالثه لهول ما ترى عن
أحب الناس إليها ويوم نصب بتذهل والضمير للزلزلة وتكون
فيما قاله الحسن يوم القيامة أو عند طلوع الشمس من مغربها
كما قاله علقمة والشعبي أو الضمير للساعة وعبر بمرضعة دون
مرضع لأن المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها
الصبي والمرضع التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع
في حال وصفها به فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا
فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما
يلحقها من الدهشة.
1 - باب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج: 2]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وترى الناس سكارى})
[الحج: 2] بضم السين وسقط باب وتاليه لغير أبي ذر.
4741 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَقُولُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ يَقُولُ:
لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيُنَادَي بِصَوْتٍ
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ
بَعْثًا إِلَى النَّارِ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ
النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ أُرَاهُ قَالَ:
تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَحِينَئِذٍ تَضَعُ
الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ {وَتَرَى
النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ
عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}» فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ
حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مِنْ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ
وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ ثُمَّ أَنْتُمْ فِي النَّاسِ
كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ
الأَبْيَضِ -أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ
الثَّوْرِ الأَسْوَدِ- وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا
رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ:
«ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ:
«شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا. قَالَ أَبُو
أُسَامَةَ عَنِ الأَعْمَشِ {تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا
هُمْ بِسُكَارَى} وَقَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ
تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. وَقَالَ جَرِيرٌ
وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ: سَكْرَى وَمَا
هُمْ بِسَكْرَى.
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال: (حدّثنا أبي) حفص بن
غياث بن طلق الكوفي قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران
قال: (حدّثنا أبو صالح) ذكوان السمان (عن أبي سعيد الخدري)
-رضي الله عنه- أنه (قال: قال النبي
(7/244)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك) يا
(ربنا وسعديك فينادي) بفتح الدال (بصوت إن الله يأمرك أن
تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار) بفتح الموحدة وسكون العين
المهملة أي مبعوثًا أي نصيبًا والبعث الجيش والجمع أي أخرج
من ذريتك الناس الذين هم أهل النار وابعثهم إليها (قال: يا
رب وما بعث النار) أي وما مقدار مبعوث النار (قال من كل
ألف أراه) بضم الهمزة أي أظنه (قال تسعمائة وتسعة وتسعين).
وفي حديث أبي هريرة عند المؤلّف في باب كيف الحشر من كتاب
الرقاق فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين وهو يدل على أن
نصيب أهل الجنة من الألف عشرة، وحديث الباب على أنه واحد
والحكم للزائد أو يحمل حديث الباب على جميع ذرية آدم فيكون
من كل ألف واحد وحديث أبي هريرة على من عدا يأجوج ومأجوج
فيكون من كل ألف عشرة.
(فحينئذٍِ تضع الحامل حملها) أي جنينها (ويشيب الوليد) من
شدة هول ذلك وهذا على سبيل الفرض أو التمثيل وأصله أن
الهموم تضعف القوى وتسرع بالشيب أو يحمل على الحقيقة لأن
كل أحد يبعث على ما مات عليه فتبعث الحامل حاملًا والمرضع
مرضعة والطفل طفلًا فإذا وقعت زلزلة الساعة، وقيل ذلك لآدم
عليه الصلاة والسلام وسمعوا ما قيل له وقع بهم من الوجل ما
تسقط معه الحامل ويشيب له الطفل وتذهل المرضعة قاله الحافظ
أبو الفضل بن حجر وسبقه إليه القفال (وترى الناس سكارى) أي
كأنهم سكارى من شدّة الأمر الذي أصابهم قد دهشت عقولهم
وغابت أذهانهم فمن رآهم حسب أنهم سكارى (وما هم بسكارى)
على الحقيقة (ولكن عذاب الله شديد) تعليل لإثبات السكر
المجازي لما نفي عنهم السكر الحقيقي (فشق ذلك على الناس)
الحاضرين (حتى تغيرت وجوههم) من الخوف (فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من يأجوج ومأجوج) وممن كان
على الشرك مثلهم (تسعمائة وتسعة وتسعين) بنصب تسع على
التمييز ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف (و) المخرج (منكم)
أيها المسلمون وممن كان مثلكم (واحد ثم أنتم في الناس) في
المحشر (كالشعرة السوداء) بفتح العين وبسكونها فقط في
اليونينية (في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب
الثور الأسود) أو للتنويع أو شك الراوي. قال السفاقسي أطلق
الشعرة وليس المراد حقيقة الواحدة لأنه لا يكون ثور ليس في
جلده غير شعرة واحدة من غير لونه (إني) بالواو وسقطت لأبي
ذر (لأرجو أن تكونوا) يريد أمته المؤمنين به (ربع أهل
الجنة فكبّرنا) أي قلنا الله أكبر سرورًا بهذه البشارة (ثم
قال) عليها السلام (ثلث أهل الجنة فكبرنا) سرورًا (ثم قال)
عليه السلام: (شطر أهل الجنة) نصفها وثلث وشطر نصب خبر
تكون (فكبرنا) سرورًا واستعظامًا في الثلاثة لهذه النعمة
العظمى والمنحة الكبرى، فهذا الاستعظام بعد الاستعظام
الأوّل إشارة إلى فوزهم بالبغية.
وعند عبد الله ابن الإمام أحمد في زياداته والطبراني من
حديث أبي هريرة زيادة أنتم ثلثا أهل الجنة. وفي الترمذي
وصححه من حديث بريدة رفعه أهل الجنة عشرون ومائة صف أمتي
منها ثمانون والظاهر أنه صلوات الله وسلامه عليه لما رجا
من رحمة الله أن تكون أمته نصف أهل الجنة أعطاه ما رجاه
وزاده.
(وقال أبو أسامة) حماد بن أسامة مما وصله في أحاديث
الأنبياء وسقطت واو وقال لغير أبي ذر (عن الأعمش) سليمان
عن أبي صالح عن أبي سعيد (ترى الناس سكارى) وسقط هذا لأبي
ذر (وما هم بسكارى) على وزن كسالى (قال): ولأبي ذر قال:
(من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) فوافق حفص بن غياث في
روايته عن الأعمش.
(وقال جرير) هو ابن عبد الحميد فيما وصله المؤلّف في
الرقاق (وعيسى بن يونس) مما وصله إسحاق بن راهويه في مسنده
عنه (وأبو معاوية) محمد بن خازم بالخاء والزاي المعجمتين
مما وصله مسلم (سكرى وما هم بسكرى) بفتح السين
(7/245)
وسكون الكاف فيهما من غير ألف وبذلك قرأ
حمزة والكسائي على وزن صفة المؤنث بذلك واختلف هل هي صيغة
جمع على فعلى كمرضى وقتلى أو صفة مفردة استغني بها في وصف
الجماعة خلاف مشهور.
والحديث ذكره في أحاديث الأنبياء في باب قصة يأجوج ومأجوج.
2 - باب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى
حَرْفٍ} شَكٍّ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ
وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} -إِلَى قَوْلِهِ- {ذَلِكَ
هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} [الحج: 11، 12]
{أَتْرَفْنَاهُمْ}: وَسَّعْنَاهُمْ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ومن الناس من يعبد
الله على حرف}) أي (شك) قاله مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم
وهو قول أكثر المفسرين وأصله من حرف الشيء وهو طرفه وقيل
على انحراف أو على طرف الدين لا في وسطه كالذي يكون في طرف
الجيش فإن أحس بظفر قرّ وإلاّ فر وهو المراد بقوله: ({فإِن
أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه}) أي
ارتدّ فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر حال كونه
({خسر الدنيا والآخرة}) بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد
(إلى قوله: {ذلك هو الضلال البعيد}) [الحج: 11، 12] عن
الحق والرشد وسقط لغير أبي ذر قوله شك وسقط لأبي ذر قوله
فإن أصابه الخ.
(أترفناهم) في قوله في سورة المؤمنين {وأترفناهم في الحياة
الدنيا} [المؤمنون: 33] أي (وسعناهم) قاله أبو عبيدة ولفظه
في مجازه وسعنا عليهم.
4742 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}
قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ
وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ:
هَذَا دِينٌ صَالِحٌ وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ
وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدثنا (إبراهيم بن
المنذر) الكرماني قال: (حدّثنا
يحيى بن أبي بكير) قيس الكوفي قاضي كرمان قال: (حدّثنا
إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي (عن أبي حصين) بفتح
الحاء وكسر الصاد المهملتين عثمان بن عاصم الأسدي (عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال) في قوله
تعالى: ({ومن الناس من يعبد الله على حرف} قال: كان الرجل
يقدم المدينة) يثرب (فإن ولدت امرأته غلامًا ونتجت خيله)
بضم النون. قال الجوهري على ما لم يسم فاعله تنتج نتاجًا
وقد نتجها أهلها نتجًا وأنتجت الفرس إذا حان نتاجها، وقال
في الأساس: نتجت الناقة فهي منتوجة وأنتجت فهي منتجة إذا
وضعت وقد نتجت إذا حملت. اهـ.
وهي مثل نفست المرأة فهي منفوسة إذا ولدت وزاد العوفي عن
ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم وصح جسمه.
(قال: هذا دين صالح) وفي رواية الحسن البصري فيما أخرجه
ابن المنذر قال: لنعم الدين هذا وفي رواية جعفر بن أبي
المغيرة عن سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم قالوا إن ديننا
هذا صالح فتمسكوا به (وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله)
بضم التاء الأولى وفتح الثانية بينهما نون ساكنة مبنيًّا
لما لم يسم فاعله (قال: هذا دين سوء) بفتح السين المهملة
والجر على الإضافة. وفي رواية العوفي وإن أصابه وجع
المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة أتاه
الشيطان فقال له: والله ما أصبت على دينك هذا إلا شرًّا
وذلك الفتنة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو المنافق
إن صلحت له دنياه أقام على العبادة وإن فسدت عليه دنياه
انقلب فلا يقيم على العبادة.
واستشكل على هذا قوله: انقلب لأن المنافق في الحقيقة لم
يسلم حتى ينقلب، وأجيب: بأنه أظهر بلسانه خلاف ما كان
أظهره فصار يذم الدين عند الشدّة وكان من قبل يمدحه وذلك
انقلاب على الحقيقة.
وهذا الحديث من أفراده.
3 - باب قَوْلِهِ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ} [الحج: 19]
هذا (باب) بالتنوين وسقط لغير أبي ذر (قوله) تعالى: ({هذان
خصمان اختصموا في ربهم}) [الحج: 19] أي في دين ربهم والخصم
في الأصل مصدر فيوحد ويذكر غالبًا كقوله: {نبأ الخصم إذ
تسوّروا المحراب} [ص: 21] ويجوز أن يثنى ويجمع ويؤنث كهذه
الآية ولما كان كل خصم فريقًا يجمع طائفة قال اختصموا
بصيغة الجمع كقوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}
[الحجرات: 9] فالجمع مراعاة للمعنى. وقال في الكشاف: الخصم
صفة وصف بها الفوج أو الفريق فكأنه قيل هذان فوجان أو
فريقان يختصمان، وقوله (هذان) للفظ واختصموا للمعنى قال في
الدار: إن عنى بقوله أن الخصم صفة بطريق الاستعمال المجازي
فمسلم لأن المصدر يكثر الوصف به وإن أراد أنه صفة حقيقة
فخطؤه ظاهر لتصريحهم بأن رجل خصم مثل رجل عدل.
4743 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا
هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي
مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي
الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ فِيهَا إِنَّ هَذِهِ
الآيَةَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}
[الحج: 19] نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ
وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ
بَدْرٍ. رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ وَقَالَ
عُثْمَانُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي
هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَوْلَهُ.
وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) الأنماطي السلمي مولاهم
البصري قال: (حدّثنا هشيم) بضم الهاء وفتح
(7/246)
الشين المعجمة مصغرًا ابن بشير مصغرًا
أيضًا قال: (أخبرنا أبو هاشم) يحيى بن دينار الرماني بضم
الراء وتشديد الميم الواسطي (عن أبي مجلز) بكسم الميم
وسكون الجيم وفتح اللام بعدها زاي لاحق بن حميد السدوسي
(عن قيس بن عباد) بضم العين المهملة وتخفيف الموحدة البصري
(عن أبي ذر) جندب بن جنادة (-رضي الله عنه- أنه كان يقسم
فيها) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي قسمًا بفتح السين بدل
قوله فيها وهو الصواب ورواية الكشميهني فيها تصحيف كما لا
يخفى إذ المراد القسم الذي هو الحلف (إن هذه الآية {هذان
خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة) بن عبد المطلب (و)
في (صاحبيه) علي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد
المطلب وهؤلاء الثلاثة الفريق المؤمنون (و) في (عتبة) بن
ربيعة بن عبد شمس (و) في (صاحبيه) أخيه شيبة والوليد بن
عتبة المذكور وهم الفريق الآخر (يوم برزوا في يوم) وقعة
(بدر) والستة كلهم من قريش ثلاثة منهم مسلمون وهم من بني
عبد مناف اثنان من بني هاشم والثالث وهو عبيدة من بني عبد
المطلب، وباقيهم مشركون وهم من بني عبد شمس بن عبد مناف
وتفصيل مبارزتهم على المشهور أن حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة
وعليًّا للوليد. وقيل: إن عبيدة للوليد وعليًّا لشبيه
والسند بذلك أصح مما قبله إلا أن ذلك أنسب، وقتل كل واحد
من المسلمين من برز له من الكفار إلا عبيدة فإنه اختلف مع
من بارزه بضربتين فوقعت الضربة في ركبة عبيدة ومال حمزة
وعلي إليه فأعاناه على قتله واستشهد عبيدة من تلك الضربة
بالصفراء عند رجوعهم.
(رواه) أي حديث الباب هذا بإسناده ومتنه (سفيان) الثوري
فيما وصله المؤلّف في المغازي (عن أبي هاشم) شيخ هشيم
المذكور هنا عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر بلفظ
نزلت ({هذان خصمان اختصموا في ربهم}) في ستة من قريش علي
وحمزة وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وأخيه عتبة والوليد
بن عتبة (وقال عثمان) هو ابن أبي شيبة (عن جرير) هو ابن
عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي هاشم) هو
ابن دينار الرماني (عن أبي مجلز) هو لاحق السدوسي (قوله)
أي هو من قوله موقوفًا عليه، وقد وصله أبو هاشم في رواية
الثوري وهشيم إلى أبي ذر كما مر قريبًا والحكم للواصل إذا
كان حافظًا على ما لا يخفى والثوري أحفظ من منصور فتقدم
روايته.
4744 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا
مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي
قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- قَالَ:
أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ
لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قَيْسٌ:
وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ
عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ
عُتْبَةَ.
وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم قال: (حدّثنا
معتمر بن سليمان قال: (سمعت أبي) سليمان بن طرخان بالخاء
المعجمة التيمي (قال: حدّثنا أبو مجلز) لاحق السدوسي (عن
قيس بن عباد) بضم العين وتخفيف الموحدة (عن علي بن أبي
طالب -رضي الله عنه-) وسقط لأبي ذر ابن أبي طالب أنه (قال:
أنا أوّل من يجثو) بالجيم أي يجلس على ركبتيه (بين يدي
الرحمن للخصومة يوم القيامة قال قيس): هو ابن عباد من قوله
موقوفًا عليه (وفيهم) أي في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه
(نزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال هم الذين بارزوا
يوم بدر علي وحمزة) بن عبد المطلب (وعبيدة) بن الحارث بن
عبد المطلب والثلاثة مسلمون (وشيبة بن ربيعة) بن عبد شمس
(و) أخوه (عتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة) المذكور.
ومقتضى رواية سليمان بن طرخان هذه الاقتصار على قوله: أنا
أوّل من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة فقط كما أن مقتضى
رواية أبي هاشم السابقة قريبًا الاقتصار على سبب النزول
فليس في رواية قيس بن عباد عن أبي ذر وعلى اختلاف عليه،
لكن أخرج النسائي من طريق يوسف بن يعقوب عن سليمان التيمي
بهذا الإسناد إلى علي قال: فينا نزلت هذه الآية وفي
مبارزتنا يوم بدر {هذان خصمان} وزاد أبو نعيم في مستخرجه
ما في رواية معتمر بن سليمان وهو قوله أنا أوّل من يجثو
وكذا أخرجه الحاكم من طريق أبي جعفر الرازي ورواه عبد بن
حميد عن يزيد بن هارون وعن حماد بن مسعدة كلاهما عن سليمان
التيمي كرواية معتمر فإن كان محفوظًا فيكون الحديث عند قيس
عن أبي ذر وعن علي معًا بدليل اختلاف
(7/247)
سياقهما قاله في الفتح.
وقد روي أن الآية نزلت في أهل الكتاب والمسلمين قال أهل
الكتاب: نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابًا ونبينا قبل
نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا
بنبيكم وما أنزل الله من كتاب فأفلج الله الإسلام على من
ناوأه وأنزل {هذا خصمان} قاله قتادة بنحوه.
وقال عكرمة: هما الجنة والنار قالت النار: خلقني الله
لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته فقص الله على
محمد خبرهما وخصوص السبب لا يمنع العموم في نظير ذلك السبب
وقول عطاء ومجاهد أن المراد الكافرون والمؤمنون يشمل
الأقوال كلها وينتظم فيه قصة بدر وغيرها.
سورة الْمُؤْمِنِينَ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ: سَبْعَ طَرَائِقَ: سَبْعَ سَمَوَاتٍ، لَهَا
سَابِقُونَ: سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ. قُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ: خَائِفِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ: بَعِيدٌ بَعِيدٌ. فَاسْأَلِ
الْعَادِّينَ: الْمَلاَئِكَةَ، لَنَاكِبُونَ:
لَعَادِلُونَ، كَالِحُونَ، عَابِسُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ:
مِنْ سُلاَلَةٍ: الْوَلَدُ، وَالنُّطْفَةُ: السُّلاَلَةُ،
وَالْجِنَّةُ: وَالْجُنُونُ وَاحِدٌ، وَالْغُثَاءُ
الزَّبَدُ وَمَا ارْتَفَعَ عَنِ الْمَاءِ وَمَا لاَ
يُنْتَفَعُ بِهِ. يَجْأَرُونَ: يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ
كَمَا تَجْأَرُ البَقَرَةُ، عَلَى أَعْقَابِكُمْ: رَجَعَ
عَلَى عَقِبَيْهِ. سَامِرًا مِنَ السَّمَرِ وَالجَمِيعُ
السُّمَّارُ وَالسَّامِرُ هَا هُنَا فِي مَوْضِعِ
الجَمْعِ. تُسْحَرُونَ: تَعْمَوْنَ مِنَ السِّحْرِ.
(سورة المؤمنين)
بالياء، وفي نسخة سورة المؤمنون بالواو مكية مائة وتسع
عشرة آية في البصري وثمان عشرة في الكوفي.
(بسم الله الرحمن الرحيم) سقطت البسملة لغير أبي ذر.
(قال ابن عيينة) سفيان مما وصله في تفسيره من رواية سعيد
بن عبد الرحمن المخزومي عنه في قوله تعالى: {ولقد خلقنا
فوقكم} ({سبع طرائق}) [المؤمنون: 17] أي (سبع سماوات) سميت
طرائق لتطارقها وهو أن بعضها فوق بعض يقال طارق النعل إذا
أطبق نعلًا على نعل وطارق بين الثوبين إذا لبس ثوبًا على
ثوب قاله الخليل والزجاج والفراء أو لأنها طرق الملائكة في
العروج والهبوط قاله علي بن عيسى، وقيل لأنها طرق الكواكب
في مسيرها والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه جعلها موضعًا
لأرزاقنا بإنزال الماء منها وجعلها مقرًا للملائكة ولأنها
موضع الثواب ومكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي.
({لها سابقون}) في قوله تعالى: {أولئك يسارعون في الخيرات
وهم لها سابقون} [المؤمنون: 61] أي (سبقت لهم السعادة)
قاله ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي
طلحة وضمير لها يرجع إلى الخيرات لتقدمها في اللفظ واللام
قيل بمعنى إلى يقال سبقت له وإليه بمعنى ومفعول سابقون
محذوف تقديره سابقون الناس إليها وقيل اللام للتعليل أي
سابقون الناس لأجلها وسقط هذا لأبي ذر.
({قلوبهم وجلة}) [المؤمنون: 60] قال ابن عباس فيما وصله
ابن أبي حاتم أي (خائفين) أن لا يقبل منهم ما آتوا من
الصدقات وهذا ثابت لأبي ذر عن المستملي (قال) ولأبي ذر
وقال: (ابن عباس) فيما وصله الطبري من طريق علي بن أبي
طلحة (هيهات هيهات) بالفتح من غير تنوين لغة الحجازين بني
لوقوعه أي (بعيد بعيد).
قال في المصابيح: المعروف عند النحاة أنها اسم فعل أي سمي
بها الفعل الذي هو بعد وهذا تحقيق لكونه اسمًا مع أن
مدلوله وقوع البعد في الزمن الماضي والمعنى أن دلالته على
معنى بعد ليست من حيث إنه موضوع لذلك المعنى ليكون فعلًا
بل من حيث إنه موضوع لفعل دال على بعد يقترن بالزمان
الماضي وهو بعد كوضع سائر الأسماء لمدلولاتها. اهـ.
وفسره الزجاج في ظاهر عبارته بالمصدر فقال: البعد لما
توعدون أو بعد لما توعدون فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف
الفعل عليه ويمكن أن يكون فسر المعنى فقط وجمهور القرّاء
على فتح التاء من غير تنوين فيهما وهي لغة الحجازيين وإنما
بنوه لشبهه بالحرف وفيه لغات تزيد على الأربعين وكرر
للتوكيد وليست المسألة من التنازع قال جرير:
فهيهات هيهات العقيق وأهله ... وهيهات خل بالعقيق نواصله
({فاسأل العادّين}) أي (الملائكة) يعني الذين يحفظون أعمال
بني آدم ويحصونها عليهم وهذا قول عكرمة وقيل الملائكة الذي
يعدّون أيام الدنيا وقيل المعنى سل من يعرف عدد ذلك فإنا
نسيناه.
(لناكبون) ولأبي ذر قال ابن عباس لناكبون (لعادلون) عن
الصراط السويّ.
(كالحون) أي (عابسون) وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا
تشويه النار فتقلص شفته العليا وتسترخي السفلى رواه الحاكم
(وقال غيره) أي غير ابن عباس وثبت وقال غيره لأبي ذر وسقط
لغيره.
(من
(7/248)
سلالة: الولد والنطفة السلالة) لأنه استل
من أبيه وهو مثل البرادة والنحاتة لما يتساقط الشيء بالبرد
والنحت وقال الكرماني ليس الولد تفسيرًا للسلالة بل مبتدأ
خبره السلالة وهي فعالة وهو بناء يدل على القلة كالقلامة.
(والجنة) في قوله {أم يقولون به جنة} (والجنون واحد) في
المعنى وقيل كانوا يعملون بالضرورة أنه أرجحهم عقلًا
وأثقبهم نظرًا فالمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أوتي به
من الدلائل القاطعة والشراع الكاملة الجامعة.
(والغثاء) في قوله: {فجعلناهم غثاء} هو (الزبد وما ارتفع
عن الماء وما لا ينتفع به) وهو من غثا الوادي يغثو غثوًا
بالواو وأما غثت نفسه تغثي غثيانًا أي خبثت فهو قريب من
معناه ولكنه من مادّة الياء.
(يجأرون) أي (يرفعون أصواتهم) بالاستغاثة والضجيج (كما
تجأر البقرة) لشدة ما نالهم.
({على أعقابكم}) [المؤمنون: 66] يقال (رجع على عقبيه) أي
أدبر يعني أنهم مدبرون عن سماع الآيات.
(سامرًا) نصب على الحال من فاعل تنكصون أو من الضمير في
مستكبرين مأخوذ (من السمر) وهو سهر الليل مأخوذ وهو ما يقع
على الشجر من ضوء القمر فيجلسون إليه يتحدثون مستأنسين به
قال:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة
سامر
وقال الراغب السامر الليل المظلم (والجميع السمار) بوزن
الجمار (والسامر ها هنا في موضع الجمع) وهو الأفصح تقول
قوم سامر ونظيره نخرجكم طفلًا.
(تسحرون) أي فكيف (تعمون من السحر) حتى يخيل لكم الحق
باطلًا مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة وثبت من قوله تجأرون
إلى هنا في رواية النسفيّ وسقط لغيره كما نبه عليه في
الفتح.
[24] سورة النُّورِ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) {مِنْ خِلاَلِهِ}
مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِ السَّحَابِ {سَنَا بَرْقِهِ} وَهُوَ
الضِّيَاءُ. مُذْعِنِينَ يُقَالُ لِلْمُسْتَخْذِي
مُذْعِنٌ. أَشْتَاتًا وَشَتَّى وَشَتَاتٌ وَشَتٌّ وَاحِدٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا}:
بَيَّنَّاهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَ الْقُرْآنُ
لِجَمَاعَةِ السُّوَرِ، وَسُمِّيَتِ السُّورَةُ لأَنَّهَا
مَقْطُوعَةٌ مِنَ الأُخْرَى، فَلَمَّا قُرِنَ بَعْضُهَا
إِلَى بَعْضٍ سُمِّىَ قُرْآنًا، وَقَالَ سَعْدُ بْنُ
عِيَاضٍ الثُّمَالِيُّ {الْمِشْكَاةُ} الْكُوَّةُ
بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}: تَأْلِيفَ بَعْضِهِ
إِلَى بَعْضٍ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}:
فَإِذَا جَمَعْنَاهُ وَأَلَّفْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أَيْ مَا جُمِعَ فِيهِ فَاعْمَلْ بِمَا أَمَرَكَ وَانْتَهِ
عَمَّا نَهَاكَ اللَّهُ، وَيُقَالُ لَيْسَ لِشِعْرِهِ
قُرْآنٌ أَيْ تَأْلِيفٌ، وَسُمِّيَ الْفُرْقَانَ لأَنَّهُ
يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيُقَالُ
لِلْمَرْأَةِ مَا قَرَأَتْ بِسَلًا قَطُّ أَيْ لَمْ
تَجْمَعْ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا. وَقَالَ: {فَرَّضْنَاهَا}
أَنْزَلْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً، وَمَنْ
قَرَأَ: {فَرَضْنَاهَا} يَقُولُ: فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ
وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا لَمْ يَدْرُوا لِمَا
بِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أُولِي
الإِرْبَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِرْبٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
لاَ يُهِمُّهُ إِلاَّ بَطْنُهُ وَلاَ يُخَافُ عَلَى
النِّسَاءِ وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ الأَحْمَقُ الذِي لاَ
حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ.
([24] سورة النور)
مدنية وهي ثنتان أو أربع وستون آية.
(بسم الله الرحمن الرحيم) ثبتت البسملة لأبي ذر وفي بعض
النسخ ثبوتها مقدمة على السورة.
(من خلاله) في قوله تعالى: {فترى الودق يخرج من خلاله}
[النور: 43] أي فترى المطر يخرج (من بين أضعاف السحاب)
وخلال مفرد كحجاب أو جمع كجبال جمع جبل.
(سنا برقه وهو الضياء) يقال: سنا يسنو سنا أي أضاء يضيء
قال امرؤ القيس:
يضيء سناه أو مصابيح راهب
والسناء بالمد الرفعة والمعنى هنا يكاد ضوء برق السحاب
يذهب بالأبصار من شدة ضوئه والبرق الذي صفته كذلك لا بد
وأن يكون نارًا عظيمة خالصة والنار ضد الماء والبرد فظهوره
يقتضي ظهور الضد من الضد وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم
وسقط لغير أبي ذر قوله وهو من قوله وهو الضياء.
(مذعنين) في قوله تعالى: {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه
مذعنين} [النور: 49] (يقال للمستخذي) بالخاء والذال
المعجمتين اسم فاعل من استخذى أي خضع (مذعن) بالذال
المعجمة أي منقاد يريد إن كان لهم الحكم لا عليهم يأتوا
إليه منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم.
(أشتاتًا وشتى) بتشديد التاء (وشتات) بتخفيفها (وشت)
بتشديدها (واحد) في المعنى ومراده ما في قوله تعالى: {ليس
عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا} [النور: 61]
وجميعًا حال من فاعل تأكلوا وأشتاتًا عطف عليه والأكثرون
على أن الآية نزلت في بني ليث بن عمرو حيّ من كنانة كانوا
يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فيمكث يومه حتى يجد ضيفًا يأكل
معه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئًا وربما قعد الرجل
والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح فنزلت هذه الآية
فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعًا مجتمعين أو أشتاتًا
متفرقين.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله الطبري من
طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: ({سورة
أنزلناها}) [النور: 1] أي (بيناها) قال الزركشي تبعًا
للقاضي عياض كذا في النسخ والصواب أنزلناها وفرضناها
بيناها فبيناها تفسير فرضناها لا تفسير أنزلناها ويدل عليه
قوله بعد هذا ويقال في فرضناها أنزلنا فيها فرائض مختلفة
فإنه يدل على أنه تقدم له تفسير
(7/249)
آخر. اهـ.
وتعقب الزركشي صاحب المصابيح فقال: يا عجبًا لهذا الرجل
وتقويله لابن عباس ما لم يقله فالبخاري نقل عن ابن عباس
تفسير أنزلناها ببيناها وهو نقل صحيح ذكره الحافظ مغلطاي
من طريق ابن المنذر بسنده إلى ابن عباس فما هذا الاعتراض
البارد. اهـ.
وقد روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله وفرضناها يقول بيناها. قال في الفتح: وهو يؤيد قول
عياض.
(وقال غيره) أي غير ابن عباس (سمي القرآن لجماعة السور)
بفتح الجيم والعين وتاء التأنيث والسور مجرور بالإضافة
ويجوز كسر الجيم والعين وهاء الضمير والسور نصب مفعول
لجماعه (وسميت السورة لأنها) منزلة بعد منزلة (مقطوعة من
الأخرى) والجمع سور بفتح الواو وقال الراعي:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
وفيها لغتان الهمز وتركه فبتركه هي المنزلة من منازل
الارتفاع ومن ثم سمي سور البلد لارتفاعه على ما يحويه ومنه
قول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
يعني منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها منازل الملوك
فسميت السورة لارتفاعها وعلو قدرها وبالهمز القطعة التي
فصلت من القرآن عما سواها وأبقيت منه لأن سؤر كل شيء بقيته
بعد ما يؤخذ منه.
(فلما قرن بعضها إلى بعض سمي) المجموع (قرآنًا). قال أبو
عبيدة سمي القرآن لأنه يجمع السور فيضمها (وقال سعد بن
عياض) بسكون العين (الثمالي) بضم المثلثة وتخفيف الميم
نسبة إلى ثمالة قبيلة من الأزد الكوفي التابعي مما وصله
ابن شاهين من طريقه (المشكاة) هي (الكوّة) بضم الكاف
وفتحها وتشديد الواو وهي الطاقة غير النافذة (بلسان
الحبشة) ثم عرّب وقال مجاهد هي القنديل وقيل هي الأنبوبة
في وسط القنديل.
وقوله تعالى: ({إن علينا جمعه وقرآنه}) أي (تأليف بعضه إلى
بعض {فإذا قرآناه فاتبع قرآنه}) (القيامة: 17، 18] أي
(فإذا بعناه وألفناه فاتبع قرآنه) أي (ما جمع فيه فاعمل
بما أمرك) الله فيه (وانته عما نهاك الله) فيه وسقطت
الجلالة لأبي ذر وفي الأول للكل (ويقال ليس لشعره قرآن أي
تأليف وسمي الفرقان) بالنصب (لأنه يفرق) بضم التحتية وفتح
الفاء وتشديد الراء مكسورة (بين الحق والباطل ويقال للمرأة
ما قرأت بسلى قط) بفتح السين المهملة منونًا من غير همز
وهي الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد (أي لم تجمع في
بطنها ولدًا) والحاصل أن القرآن عنده مشتق من قرأ بمعنى
جمع لا من قرأ بمعنى تلا.
(وقال فرضناها) بتشديد الراء ولأبي ذر ويقال في فرضناها أي
(أنزلنا فيها فرائض مختلفة) فالتشديد لتكثير المفروض وقيل
للمبالغة في الإيجاب. ومن قرأ (فرضناها) بالتخفيف وفي
قراءة غير أبي عمرو وابن كثير (يقول): المعنى (فرضنا
عليكم) أي فرضناها فأسقط الضمير (وعلى من بعدكم) إلى يوم
القيامة والسورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود
وتحصيل الحاصل محال فوجب أن يكون المراد فرضنا ما بين فيها
من الأحكام.
(قال): ولأبي ذر وقال (مجاهد) فيما وصله الطبري في قوله:
{أو الطفل الذين لم يظهروا} [النور: 31] أي (لم يدروا)
بسكون الدال العورة من غيرها (لما بهم) أي لأجل ما بهم (من
الصغر) وقال الفراء والزجاج لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان
النساء وقيل لم يبلغوا حد الشهوة والطفل يطلق على الجمع
والمثنى فلذا وصف بالجمع أو لما قصد به الجنس روعي فيه
الجمع.
(وقال الشعبي) بفتح المعجمة فيما وصله الطبري (أولي
الإربة) هو (من ليس له إرب) بكسر الهمزة أي حاجة النساء
وهم الشيوخ الهم والممسوحون وقال ابن جبير المعتوه وقال
ابن عباس المغفل الذي لا شهوة له وقال مجاهد المخنث الذي
لا يقوم ذكره.
(وقال مجاهد) فيما وصله الطبري هو الذي (لا يهمه إلا بطنه
ولا يخاف على النساء) لبلهه (وقال طاوس): فيما وصله عبد
الرزاق عنه عن أبيه (هو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء)
وقيل هو الذي لا تشتهيه المرأة وثبت من قوله وقال
(7/250)
الشعبي إلى هنا للنسفي وسقط من فرع
اليونينية كأصله كبعض الأصول.
1 - باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ
أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}
(باب قوله عز وجل {والذين يرمون أزواجهم}) يقذفون أزواجهم
بالزنا ({ولم يكن لهم شهداء}) يشهدون على صحة ما قالوا
({إلا أنفسهم فشهادة}) فالواجب شهادة ({أحدهم أربع شهادات
بالله}) بنصب أربع على المصدر وحفص وحمزة الكسائي برفعها
خبر المبتدأ وهو قوله فشهادة ({إنه لمن الصادقين}) [النور:
6] فيما رماها به من الزنا. قال ابن كثير: وهذه الآية فيها
فرج للأزواج وزيادة مخرج إذا قذف أحدهم زوجته وعسر عليه
إقامة البيّنة وثبت التبويب لأبي ذر وقال بعد قوله شهداء
الآية وأسقط باقيها.
4745 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ الفِرْيَابِي، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ
عُوَيْمِرًا أَتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَكَانَ سَيِّدَ
بَنِي عَجْلاَنَ فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ
وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ
فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ سَلْ لِي رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ،
فَأَتَى عَاصِمٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَرِهَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الْمَسَائِلَ، فَسَأَلَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا قَالَ عُوَيْمِرٌ:
وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ فَجَاءَ
عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ وَجَدَ
مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ
أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ
الْقُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ» فَأَمَرَهُمَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِالْمُلاَعَنَةِ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
فَلاَعَنَهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ
حَبَسْتُهَا فَقَدْ ظَلَمْتُهَا فَطَلَّقَهَا، فَكَانَتْ
سُنَّةً لِمَنْ كَانَ بَعْدَهُمَا فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ،
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ
أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ
السَّاقَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلاَّ قَدْ
صَدَقَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ
كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلاَّ
قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا» فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ
الَّذِي نَعَتَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ فَكَانَ
بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن منصور بن بهرام أبو يعقوب
الكوسج المروزي قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي وهو
من مشايخ المؤلّف روى عنه هنا بالواسطة قال: (حدّثنا
الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو (قال حدّثني) بالإفراد
(الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سهل بن سعد) الساعدي
الأنصاري -رضي الله عنه- (أن عويمرًا) بضم العين المهملة
وفتح الواو تصغير عامر بن الحارث بن زيد بن الجد بفتح
الجيم وتشديد الدال ابن عجلان وفي رواية القعنبي عن مالك
عويمر بن أشقر وكذا أخرجه أبو داود وأبو عوانة وفي
الاستيعاب عويمر بن أبيض قال
الحافظ ابن حجر: فلعل أباه كان يلقب أشقر وأبيض وفي
الصحابة عويمر بن أشقر آخر وهو مازني أخرج له ابن ماجة
(أتى عاصم بن عدي) العجلاني (وكان سيد بني عجلان) بفتح
العين وسكون الجيم وهو ابن عم والد عويمر ولأبي ذر بني
العجلان (فقال) له: (كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته
رجلًا أيقتله) بهمزة الاستفهام الاستخباري أي أيقتل الرجل
(فتقتلونه) قصاصًا لقوله تعالى: {النفس بالنفس}.
وفي قصة العجلاني من حديث ابن عمر المروي في مسلم فقال:
أرأيت إن وجد مع امرأته رجلًا فإن تكلم به تكلم بأمر عظيم
وإن سكت سكت على مثل ذلك. وفي حديث ابن مسعود عنده أيضًا
إن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ. وفي
رواية عن ابن عباس لما نزلت {والذين يرمون المحصنات}
[النور: 4] الآية. قال عاصم بن عدي: إن دخل رجل منا بيته
فرأى رجلًا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون
بذلك فقد قضى الرجل حاجته وذهب وإن قتله قتُل به، وإن قال
وجدت فلانًا معها ضرب وإن سكت سكت على غيظ.
(أم كيف يصنع؟) أم تحتمل أن تكون متصلة يعني إذا رأى الرجل
هذا المنكر الشنيع والأمر الفظيع وثارت عليه الحمية أيقتله
فتقتلونه أم يصبر على ذلك، ويحتمل أن تكون منقطعة فسأل
أولًا عن القتل مع القصاص ثم أضرب عنه إلى سؤاله لأن أم
المنقطعة متضمنة لبل والهمزة قبل تضرب الكلام السابق
والهمزة تستأنف كلامًا آخر، والمعنى كيف يصنع أيصبر على
العار أو يحدث الله له أمرًا آخر فلذا قال: (سل لي) يا
عاصم (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن
ذلك فأتى عاصم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال: يا رسول الله) حذف المقول لدلالة السابق عليه أي كيف
تقول في رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف
يصنع (فكره رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
المسائل) المذكورة لما فيها من البشاعة والإشاعة على
المسلمين والمسلمات وتسليط العدوّ في الدين بالخوض في
أعراضهم، وزاد في اللعان والطلاق من طريق مالك عن ابن شهاب
وعابها حتى كبر عاصم ما سمع من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلما رجع عاصم إلى أهله (فسأله
عويمر) فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال) عاصم: لم تأتني بخبر
(إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كره
المسائل وعابها) ثبت لفظ وعابها هنا وسقط من الأولى (قال
عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك فجاء عويمر) إلى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال: يا رسول الله؟
رجل وجد مع امرأته رجلًا) يزني بها (أيقتله
(7/251)
فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك) هي زوجته خولة بنت
قيس فيما ذكره مقاتل، وذكر ابن الكلبي أنها بنت عاصم
المذكور واسمها خولة والمشهور أنها بنت قيس.
وأخرج ابن مردويه من طريق الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
أن عاصم بن عدي لما نزلت {والذين يرمون المحصنات} قال: يا
رسول الله أين لأحدنا أربعة شهداء فابتلي به في بنت أخيه.
وفي سنده مع إرساله ضعيف. وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير
عن مقاتل بن حيان قال:
لما سأل عاصم عن ذلك ابتلي به في أهل بيته فأتاه ابن عمه
تحته ابنة عمه رماها بابن عمه المرأة والزوج والخليل
ثلاثتهم بنو عم عاصم. وعند ابن مردويه من مرسل ابن أبي
ليلى أن الرجل الذي رمى عويمر امرأته به هو شريك ابن سحماء
وهو يشهد لصحة هذه الرواية لأنه ابن عم عويمر لأنه شريك بن
عبدة مغيث بن الجد بن العجلان.
وفي مرسل مقاتل بن حيان عند ابن أبي حاتم فقال الزوج
لعاصم: يا ابن عم أقسم بالله لقد رأيت شريك ابن سحماء يلي
بطنها لأنها لحبلى وما قربتها منذ أربعة أشهر.
وفي حديث عبد الله بن أبي جعفر عند الدارقطني لاعن بين
عويمر العجلاني وامرأته فأنكر حملها الذي في بطنها وقال:
هو لابن سحماء، وإذا جاء الخبر من طرق متعددة فإن بعضها
يعضد بعضًا، وظاهر السياق يقتضي أنه كان تقدّم من عويمر
إشارة إلى خصوص ما وقع له مع امرأته، والظاهر أن في هذا
السياق اختصارًا ويوضحه ما في حديث ابن عمر في قصة
العجلاني بعد قوله: إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت
على مثل ذلك فسكت عنه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك
عنه قد ابتليت به فدلّ على أنه لم يذكر امرأته إلا بعد أن
انصرف ثم عاد.
(فأمرها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بالملاعنة) بضم الميم قال في المغرب لعنه لعنًا ولاعنه
ملاعنة ولعانًا وتلاعنوا لعن بعضهم بعضًا وهو لغة الطرد
والإبعاد وشرعًا كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من
لطخ فراشه وألحق العار به أو إلى نفي ولد قال النووي إنما
سمي لعانًا لأن كلاًّ من الزوجين يبعد عن صاحبه (بما سمى
الله في كتابه) في هذه الآية بأن يقول الزوج أربع مرات
أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به هذه من الزنا،
والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها
به من الزنا ويشير إليها في الحضور ويميزها في الغيبة
ويأتي بدل ضمائر الغائب بضمائر المتكلم فيقول لعنة الله
عليّ إن كنت الخ وإن كان ولد ينفيه ذكره في الكلمات الخمس
لينتفي عنه فيقول إن الولد الذي ولدته أو هذا الولد من زنا
ليس مني.
(فلاعنها) أي لاعن عويمر زوجته خولة بعد أن قذفها وأتت عند
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسألها فأنكرت
وأصرّا في السنة الأخيرة من زمانه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وجزم الطبري وأبو حاتم وابن حبان
بأنها في شعبان سنة تسع، وعند الدارقطني من حديث عبد الله
بن جعفر أنها كانت منصرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من تبوك ورجح بعضهم أنها كانت في شعبان سنة عشر
لا سنة تسع. وفي حديث ابن مسعود عند مسلم أنها كانت ليلة
جمعة.
(ثم قال) عويمر (يا رسول الله إن حبستها فقد ظلمتها
فطلقها) زاد في باب من أجاز طلاق الثلاث من طريق مالك عن
ابن شهاب ثلاثًا وتمسك به من قال لا تقع الفرقة بين
المتلاعنين إلا بإيقاع الزوج وهو قول عثمان الليثي واحتج
بأن الفرقة لم تذكر في القرآن وأن ظاهر الأحاديث أن الزوج
هو الذي طلق ابتداء.
وقال الشافعي وسحنون من المالكية: تقع بعد فراغ الزوج من
اللعان لأن التعان المرأة إنما شرع لدفع الحدّ عنها بخلاف
الرجل فإنه يزيد على ذلك في حقه نفي النسب ولحاق الولد
وزوال الفراش.
وقال مالك بعد فراغ المرأة وتظهر فائدة الخلاف في التوارث
لو مات أحدهما عقب فراغ الرجل وفيما إذا علق طلاق امرأة
بفراق أخرى ثم لاعن الأخرى.
(7/252)
وقال أبو حنيفة لا تقع حتى يوقعها الحاكم
لظاهر ما وقع في أحاديث اللعان وتكون فرقة طلاق. وعن أحمد
روايتان وقول النووي في شرح مسلم كذبت عليها يا رسول الله
إن أمسكتها هو كلام مستقل وقوله فطلقها أي ثم عقب ذلك لأنه
ظن أن اللعان لا يحرمها عليه فأراد تحريمها بالطلاق فقال
هي طالق ثلاثًا فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- "لا سبيل لك عليها" أي لا ملك لك عليها فلا يقع
طلاقًا تعقبه في الفتح بأنه يوهم أن قوله لا سبيل لك عليها
وقع منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عقب قول
الملاعن هي طالق ثلاثًا، وأنه موجود كذلك في حديث سهل بن
سعد الذي شرحه وليس كذلك فإن قوله لا سبيل لك عليها لم يقع
في حديث سهل وإنما وقع في حديث ابن عمر عقب قوله: الله
يعلم أن أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها وقال الخطابي لفظ
فطلقها يدل على وقوع الفرقة باللعان ولولا ذلك لصارت في
حكم المطلقات وأجمعوا على أنها ليست في حكمهن فلا يكون له
مراجعتها إن كان الطلاق رجعيًا ولا يحل له أن يخطبها إن
كان بائنًا وإنما اللعان فرقة فسخ.
(فكانت) أي الفرقة بينهما (سنّة لمن كان بعدهما في
المتلاعنين) فلا يجتمعان بعد الملاعنة.
وقال ابن عبد البر أبدى له بعض أصحابنا فائدة وهو أن لا
يجتمع ملعون مع غير ملعون لأن أحدهما ملعون في الجملة
بخلاف ما إذا تزوّجت المرأة غير اللاعن فإنه لا يتحقق،
وعورض بأنه لو كان كذلك لامتنّع عليهما معًا التزويج لأنه
يتحقق أن أحدهما ملعون ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة
افتراقًا في الجملة وفي رواية الباب الآتي من طريق فليح عن
الزهري فكانت سنة أن يفرق بين المتلاعنين وكانت حاملًا
فأنكر حملها.
(ثم قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
انظروا فإن جاءت به) أي بالولد لدلالة السياق عليه (أسحم)
بفتح الهمزة وسكون السين وفتح الحاء المهملتين آخره ميم أي
أسود (أدعج العينين) بالعين المهملة والجيم أي شديد سواد
الحدقة (عظيم الأليتين) بفتح الهمزة أي العجز (خدلج
الساقين) بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة واللام
المشددة آخره جيم أي عظيمهما (فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق
عليها وإن جاءت به أحيمر) بضم الهمزة وفتح الحاء المهملة
وكسر الميم مصغر أحمر وقول صاحب التنقيح أن الصواب صرف
أحيمر وهو الأبيض تعقبه في المصابيح فقال: عدم الصرف كما
في المتن هو الصواب وما ادعى هو أنه عين الصواب هو عين
الخطأ (كأنه وحرة) بفتح الواو والحاء المهملة والراء دويبة
تترامى على الطعام واللحم فتفسده وهي من أنواع الوزغ وشبهه
بها لحمرتها وقصرها (فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عديها
فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
ولغير أبي ذر نعت به رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من تصديق عويمر) وفي باب التلاعن في المسجد من
طريق ابن جريج عن الزهري فجاءت به على المكروه من ذلك
(فكان) أي الولد (بعد ينسب إلى أمه) فاعتبر الشبه من غير
حكم به لأجل ما هو أقوى من الشبه وهو الفراش كما فعل في
وليدة زمعة وإنما يحكم بالشبه وهو حكم القافة إذا استوت
العلائق كسيدين وطئا في طهر.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الطلاق والتفسير والاعتصام
والأحكام والمحاربين والتفسير أيضًا ومسلم في اللعان وأبو
داود في الطلاق وكذا النسائي وابن ماجه.
2 - باب: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ
إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({والخامسة}) أي
والشهادة الخامسة ({أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين}) [النور: 7] فيما رمى به زوجته من الزنا وهذا
لعان الرجل وحكمه سقوط حد القذف وحصول الفرقة بينهما بنفسه
فرقة فسخ في مذهبنا لقوله عليه السلام المروي في البيهقي
وغيره: المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا، وعند أبي حنيفة -رحمه
الله- بتفريق الحاكم فرقة طلاق ونفي الولد إن تعرض له فيه
وسقط لفظ باب لغير أبي ذر.
4746 - حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو
الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ
رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ
يَفْعَلُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا مَا ذُكِرَ فِي
الْقُرْآنِ مِنَ التَّلاَعُنِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «قَدْ
قُضِيَ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِكَ» قَالَ: فَتَلاَعَنَا
وَأَنَا شَاهِدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَفَارَقَهَا فَكَانَتْ سُنَّةً أَنْ
يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ، وَكَانَتْ حَامِلًا
فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَيْهَا
ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِي الْمِيرَاثِ أَنْ يَرِثَهَا
وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (سليمان بن
داود) العتكي (أبو الربيع) الزهراني المقرئ البصري قال:
(حدّثنا فليح) بضم
(7/253)
الفاء وفتح اللام آخره حاء مهملة مصغرًا
ابن سليمان الخزاعي وفليح لقبه واسمه عبد الملك (عن
الزهري) محمد بن مسلم (عن سهل بن سعد) الساعدي -رضي الله
عنه- (أن رجلًا) هو عويمر العجلاني (أتى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله أرأيت
رجلًا) أي أخبرني عن حكم رجل (رأى مع امرأته رجلًا) استعمل
الكناية ومقصوده معية خاصة وأنه كان وحده عند الرؤية
(أيقتله) لأجل ما وقع مما لا يقدر على الصبر عليه غالبًا
من الغيرة التي طبع عليها البشر (فتقتلونه) قصاصًا (أم كيف
يفعل؟) أي أم يصبر على ما به من المضض فأم متصلة ويحتمل أن
تكون منقطعة بمعنى الإضراب أي بل هنا حكم آخر (فأنزل الله)
تعالى (فيهما) في عويمر وخولة زوجته (ما ذكر في القرآن من
التلاعن فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(قد قضي) بضم القاف وكسر الضاد المعجمة وفي نسخة قد قضى
الله (فيك وفي امرأتك) بآية اللعان (قال) سهل (فتلاعنا)
بعد أن قذفها وأنكرت لما سألها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وأنا شاهد) حاضر (عند رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ففارقها) فرقة مؤبدة
(فكانت) أي الملاعنة (سنة أن يفرق) أي في التفريق (بين
المتلاعنين) فأن مصدرية (وكانت حاملًا فأنكر) عويمر
(حملها) زاد في رواية العباس بن سهل بن سعد عن أبيه عند
أبي داود فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لعاصم بن عدي: أمسك المرأة عندك حتى تلد (وكان ابنها) الذي
وضعته بعد الملاعنة (يدعى إليها) لأنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألحقه بها لأنه متحقق منها فلو أكذب
الزوج نفسه ثبت النسب ولزمه الحد ولم ترتفع الحرمة المؤبدة
(ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها) ولدها الذي نفاه زوجها
بالملاعنة (وترث) هي (منه ما فرض الله لها) والظاهر أن هذا
من قول سهل حيث قال فتلاعنا الخ.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله فأنزل الله فيهما.
3 - باب قَوْلِهِ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ
تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ} [النور: 8]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ويدرأ عنها}) أي عن
المقذوفة ({العذاب}) أي الحد ({أن تشهد أربع شهادات بالله
إنه لمن الكاذبين}) [النور: 8] فيما رماني به وسقط لفظ باب
لغير أبي ذر.
4747 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ،
حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هِلاَلَ
بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَرِيكِ بْنِ
سَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا
عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ
الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «الْبَيِّنَةَ وَإِلاَّ
حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَقَالَ هِلاَلٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا
يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {إِنْ كَانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ}، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا. فَجَاءَ
هِلاَلٌ فَشَهِدَ. وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ
أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ»؟ ثُمَّ
قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ
وَقَّفُوهَا وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا
أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لاَ أَفْضَحُ قَوْمِي
سَائِرَ الْيَوْمِ. فَمَضَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَبْصِرُوهَا فَإِنْ
جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ
الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهْوَ لِشَرِيكِ
ابْنِ سَحْمَاءَ» فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْلاَ
مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا
شَأْنٌ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (محمد بن
بشار) بفتح الموحدة والشين المعجمة المشددة بندار العبدي
البصري قال: (حدّثنا ابن أبي عدي) محمد واسم أبي عدي
إبراهيم البصري (عن هشام بن حسان) منصرف وغير منصرف الأزدي
القردوسي بضم القاف وسكون الراء وضم الدال البصري أنه قال:
(حدّثنا عكرمة) بن عبد الله البربري مولى ابن عباس (عن ابن
عباس) -رضي الله عنهما- (أن هلال بن أمية) بضم الهمزة وفتح
الميم وتشديد التحتية الواقفي بكسر القاف والفاء الأنصاري
أحد الثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك وتيب عليهم (قذف
امرأته) خولة بنت عاصم كما رواه ابن منده وكانت حاملًا
(عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشريك ابن
سحماء) بفتح السين وسكون الحاء المهملتين ممدودًا اسم أمه.
وفي تفسير مقاتل أنها كانت حبشية وقيل يمانية واسم أبيه
عبدة بن معتب أو مغيث ولا يمتنع أن يتهم شريك ابن سحماء
بهذه المرأة وامرأة عويمر معًا، وأما قول ابن الصباغ في
الشامل أن المزني ذكر في المختصر أن العجلاني قذف زوجته
بشريك ابن سحماء وهو سهو في النقل، وإنما القاذف لشريك
هلال بن أمية فلعله لم يعرف مستند المزني في ذلك، وقد سبق
في الباب الذي قبله مستند ذلك فليلتفت إليه والجمع ممكن
فيتعين المصير إليه وهو أولى من التغليظ على ما لا يخفى.
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
البيّنة) بالنصب بتقدير أحضر البينة (أو حدّ) بالرفع أي
أتحضر البينة أو يقع حد (في ظهرك) أي على ظهرك كقوله
لأصلبنكم في جذوع النخل (فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا
على امرأته رجلًا ينطلق) حال كونه (يلتمس البينة) أي
يطلبها (فجعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يقول: البينة وإلا حدّ في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق
إني لصادق فلينزلن الله) بفتح اللام وضم التحتية وسكون
النون (ما يبرئ
(7/254)
ظهري من الحدّ) في موضع نصب بقوله فلينزلن
الله (فنزل جبريل) عليه السلام (وأنزل عليه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ({والذين يرمون أزواجهم})
فقرأ حتى بلغ ({إن كان من الصادقين}) أي فيما رماها الزوج
به (فانصرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فأرسل إليها) أي إلى خولة بنت عاصم زوج هلال فحضرت بين
يديه (فجاء هلال فشهد) أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين
فيما رماها به. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين في الرمي (والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب).
قال القاضي عياض، وتبعه النووي في قوله أحدكما رد على من
قال من النحاة إن لفظ أحد لا يستعمل إلا في النفي وعلى من
قال منهم لا يستعمل إلا في الوصف وأنه لا يوضع في موضع
واحد ولا يقع موقعه وقد أجازه المبرد وجاء في هذا الحديث
في غير وصف ولا نفي بمعنى واحد اهـ.
وتعقب الفاكهاني ذلك فقال: هذا من أعجب ما وقع للقاضي عياض
مع براعته وحذقه فإن الذي قاله النحاة إنما هو في أحد التي
للعموم نحو ما في الدار من أحد وما جاءني من أحد وأما أحد
بمعنى واحد فلا خلاف في استعمالها في الإثبات نحو قل هو
الله أحد ونحوه فشهادة أحدهم ونحو أحدكما كاذب.
(فهل منكما تائب)؟ عرض لهما بالتوبة بلفظ الاستفهام لإبهام
الكاذب منهما فلذلك لم يقل لهما توبا ولا لأحدهما بعينه تب
ولا قال ليتب الكاذب منكما وزاد جرير بن حازم عن أيوب عن
عكرمة عن ابن عباس عند الطبري والحاكم والبيهقي فقال هلال:
الله إني لصادق (ثم قامت) أي زوجته (فشهدت) أي أربع شهادات
بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به (فلما كانت عند)
المرّة (الخامسة وقفوها) بتشديد القاف ولأبي ذر وقفوها
بتخفيفها (وقالوا: إنها موجبة) للعذاب الأليم إن كنت
كاذبة.
(قال ابن عباس) بالسند السابق: (فتلكأت) بهمزة مفتوحة بعد
الكاف المشددة بوزن تفعلت أي تباطأت عن ذلك (ونكصت) أي
أحجمت (حتى ظننا أنها ترجع) عن مقالتها في تكذيب الزوج
ودعوى البراءة عما رماها به (ثم قالت: لا أفضح) بفتح
الهمزة والمعجمة (قومي سائر اليوم) أي جميع الأيام أيام
الدهر أو فيما بقي من الأيام بالأعراض عن اللعان والرجوع
إلى تصديق الزوج وأريد باليوم الجنس ولذلك أجراه مجرى
العام (فمضت) أي في تمام اللعان (فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أبصروها) بفتح الهمزة وسكون
الموحدة وكسر المهملة (فإن جاءت به) أي الولد (أكحل
العينين) أي شديد سواد جفونهما خلقة من غير اكتحال (سابغ
الأليتين) أي غليظهما (خدلج الساقين) بفتح الخاء المعجمة
والدال المهملة وبعد اللام المشددة جيم عظيمهما (فهو لشريك
ابن سحماء فجاءت به كذلك، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لولا ما مضى من كتاب الله) في آية
اللعان (لكان لي ولها شأن) في إقامة الحدّ عليها وفي ذكر
الشأن وتنكيره تهويل عظيم لما كان يفعل بها أي لفعلت بها
لتضاعف ذنبها ما يكون عبرة للناظرين وتذكرة للسامعين.
قال الكرماني، فإن قلت: الحديث الأول يدل على أن عويمرًا
هو الملاعن والآية نزلت فيه والولد شابهه والثاني أن
هلالًا هو الملاعن والآية نزلت فيه والولد شابهه. وأجاب
بأن النووي قال: اختلفوا في نزول آية اللعان هل هو بسبب
عويمر أم بسبب هلال؟ والأكثرون أنها نزلت في هلال، وأما
قوله عليه الصلاة والسلام لعويمر: إن الله قد أنزل فيك وفي
صاحبتك، فقالوا معناه الإشارة إلى ما نزل في قصة هلال لأن
ذلك حكم عام لجميع الناس ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعًا
فلعلهما سألا في وقتين متقاربين فنزلت الآية فيهما وسبق
هلال باللعان. اهـ.
قال في الفتح: ويؤيد التعدد أن القائل في قصة هلال سعد بن
عبادة كما أخرجه أبو داود والطبري والقائل في قصة عويمر
عاصم بن عدي كما في حديث سهل السابق ولا مانع أن تتعدّد
القصص ويتحد النزول وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية
مرتين وأنكر جماعة
(7/255)
ذكر هلال فيمن لاعن والصحيح ثبوت ذلك وكيف
يجزم بخطأ حديث ثابت في الصحيحين بمجرد دعوى لا دليل
عليها. وقول النووي في تهذيبه اختلفوا في الذي وجد مع
امرأته رجلًا وتلاعنا على ثلاثة أقوال: هلال بن أمية، أو
عاصم بن عدي، أو عويمر العجلاني؟ قال الواحدي: أظهر هذه
الأقوال أنه عويمر لكثرة الأحاديث، واتفقوا على أن الموجود
زانيًا شريك ابن سحماء تعقبوه بأن قصتي ملاعنة
عويمر وهلال ثبتتا فكيف يختلف فيهما، وإنما المختلف فيه
سبب نزول الآية في أيهما، وقد سبق تقريره وبأن عاصمًا لم
يلاعن قط وإنما سأل لعويمر العجلاني عن ذلك وبأن قوله:
واتفقوا على أن الموجود زانيًا شريك ممنوع إذ لم يوجد
زانيًا وإنما هم اعتقدوا ذلك ولم يثبت ذلك في حقه في ظاهر
الحكم فصواب العبارة أن يقال واتفقوا على أن المرمي به
شريك ابن سحماء.
وهذا الحديث قد مرّ في باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس
البيّنة من كتاب الشهادات.
4 - باب قَوْلِهِ: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ
عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9]
(باب قوله) عز وجل ({والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من
الصادقين}) [النور: 9] فيما رماها به وخصها بالغضب لأن
الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إلا
وهو صادق معذور وهي تعلم صدقه فيما رماها به فلذا كانت
الخامسة في حقها أن غضب الله عليها والمغضوب عليه هو الذي
يعلم الحق ثم يحيد عنه وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
4748 - حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى،
حَدَّثَنَا عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ
فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَمَرَ بِهِمَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَتَلاَعَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ، ثُمَّ قَضَى
بِالْوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ
الْمُتَلاَعِنَيْنِ. [الحديث 4748 - أطرافه في: 5306،
5313، 5314، 5315، 6748].
وبه قال: (حدّثنا مقدم بن محمد بن يحيى) بضم الميم وفتح
القاف وتشديد الدال المفتوحة الهلالي الواسطي قال:
(حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (عمي القاسم بن يحيى عن
عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن عمرو بن حفص بن عاصم بن
عمر بن الخطاب قال البخاري (وقد سمع) القاسم (منه) أي من
عبيد الله (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله
عنهما- أن رجلًا) هو عويمر العجلاني (رمى امرأته) بالزنا
(فانتفى من ولدها في زمن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأمر بهما رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتلاعنا كما قال الله) تعالى في كتابه
({والذين} -إلى قوله- {والخامسة أن غضب الله عليها إن كان
من الصادقين} ثم قضى)، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (بالولد للمرأة) واستدلّ به على مشروعية
اللعان لنفي الولد بمجرّد اللعان ولو لم يتعرض الرجل لذكره
في اللعان وفيه نظر لأنه لو استلحقه لحقه وإنما يؤثر
اللعان بالرجل دفع حد القذف عنه وثبوت زنا المرأة ثم يرتفع
عنها الحد بالتعانها. وقال الشافعي إن نفى الولد في
الملاعنة انتفى وإن لم يتعرض له فله أن يعيد اللعان
لانتفائه ولا إعادة على المرأة وإن أمكنه الرفع إلى الحاكم
فأخره بغير عذر حتى ولدت لم يكن له أن ينفيه.
(وفرّق) عليه الصلاة والسلام (بين المتلاعنين) تمسك به
الحنفية أن بمجرد اللعان لا يحصل التفريق ولا بدّ من حكم
حاكم وحمله الجمهور على أن المراد الإفتاء والخبر عن حكم
الشرع بدليل قوله في الرواية الأخرى لا سبيل لك عليها وفرق
بتشديد الراء يقال في الأجسام وبالتخفيف في المعاني.
وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى في اللعان
وغيره بعون الله وقوّته.
5 - باب قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسِبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا
اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]
هذا (باب) بالتنوين (قوله) تعالى ({إن الذين جاؤوا
بالإفك}) في أمر عائشة ({عصبة}) جماعة من العشرة إلى
الأربعين ({منكم}) أيها المؤمنون يريد عبد الله بن أبي
وكان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرًا وزيد بن رفاعة
وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم
({لا تحسبوه شرًّا لكم}) الضمير للإفك والخطاب للرسول وأبي
بكر وعائشة وصفوان لتأذيهم بذلك ({بل هو خير لكم}) لما فيه
من جزيل ثوابكم وإظهار شرفكم وبيان فضلكم من حيث نزلت فيكم
ثماني عشرة آية في براءتكم وتهويل الوعيد للقاذفين ونسبتهم
إلى الإفك ({لكل امرئ منهم}) من أهل الإفك ({ما اكتسب من
الإثم}) أي لكل منهم جزاء ما اكتسبه من العقاب في الآخرة
والمذمة في الدنيا بقدر ما خاض فيه مختصًا به ({والذي تولى
كبره}) معظمه بإشاعته ({منهم}) أي من الخائضين ({له
(7/256)
عذاب عظيم}) [النور: 11] في الآخرة أو في
الدنيا بأن جلدوا، وصار ابن أبي مطرودًا مشهورًا بالنفاق،
وحسان أعمى أشل اليدين، ومسطح مكفوف البصر وسقط لأبي ذر لا
تحسبوه الخ.
(أفاك) قال أبو عبيدة أي (كذاب) وقيل هو أبلغ ما يكون من
الكذب والافتراء وسمي إفكًا لكونه مصروفًا عن الحق من
قولهم أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه.
4749 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ}
قَالَتْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن
مسلم بن شهاب (عن عروة) بن الزبير بن العوّام (عن عائشة
-رضي الله عنها-) في قوله تعالى: ({والذي تولى كبره} قالت)
هو (عبد الله بن أبيّ) بالتنوين (ابن سلول) برفع ابن لأنه
صفة لعبد الله لا لأبي وسلول غير منصرف للتأنيث والعلمية
لأنها أمه والمراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئًا به
وقيل لشدّة رغبته في إشاعة تلك الفاحشة.
6 - باب: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}
-إِلَى قَوْلِهِ- {الْكَاذِبُونَ} [النور: 12، 13]
هذا (باب) بالتنوين في قوله عز وجل: ({لولا}) تحضيضية أي
هلا ({إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا}
-إلى قوله- {الكاذبون}) [النور: 12، 13] بأنفسهم أي الذين
منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله: {ولا تلمزوا أنفسكم}
[الحجرات: 11].
فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله وقالوا هذا
إفك ولم يقل وقلتم وعن المضمر إلى المظهر والخطاب إلى
الغيبة والمفرد إلى الجمع في قوله (ظن المؤمنون والمؤمنات)
ولم يقل ظننتم بها أي بعائشة على الأصل لأن المخاطب من
بحضرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وخلاصة
الجواب كما قال في مفاتيح الغيب أن في العدول من الخطاب
إلى الغيبة توبيخ المخاطبين بطريق الالتفات ومعاتبة شديدة
وإبعادًا من مقام الزلفى أي كيف سمعوا ما لا ينبغي الإصغاء
إليه، فضلًا عن أن يتفوّهوا به، وفي العدول من المضمر إلى
المظهر الدلالة على أن صفة الإيمان جامعة لهم فينبغي لمن
اشترك فيها أن لا يسمع فيمن شاركه فيها قول عائب ولا طعن
طاعن لأن عيب أخيه عيبه والطعن في أخيه طعن فيه.
وسياق هذه الآية هنا ثابت لأبي ذر فقط وفي رواية غيره
ولولا وهلا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أي ما ينبغي وما
يصح لنا أن نتكلم بهذا القول المخصوص أو بنوعه فإن قذف
آحاد الناس محرم شرعًا لا سيما الصدّيقة ابنة الصدّيق حرمة
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبحانك
معناه التعجب {هذا بهتان عظيم} [النور: 16] أي كذب عظيم
يبهت ويتحير من عظمته لولا هلا جاؤوا عليه أي على ما زعموا
بأربعة شهداء يشهدون على معاينتهم ما رموها به فإذا لم
يأتوا بالشهداء يشهدون على ما قالوا فأولئك عند الله أي في
حكمه هم الكاذبون فيما قالوه، وهذا ساقط لأبي ذر.
4750 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ
عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ لَهَا
أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا
قَالُوا، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ،
وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ
بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، الَّذِي حَدَّثَنِي
عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-
زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ
أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ
بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مَعَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ
بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي،
فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ
فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ. فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا
فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا
مِنَ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً
بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ
آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ
الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى
رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ
انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي
ابْتِغَاؤُهُ. وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا
يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ
عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ وَهُمْ
يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ
خِفَافًا لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا تَأْكُلُ
الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ
الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وَكُنْتُ
جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ
وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ
الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ
وَلاَ مُجِيبٌ. فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ،
وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ
إِلَيَّ. فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي
غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ
الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ
وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ
مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي
فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ
الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ
عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ
مَا كَلَّمَنِى كَلِمَةً وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً
غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ
فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ
يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ
بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ،
فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ فَقَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا
وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، لاَ
أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهْوَ يَرِيبُنِي فِي
وَجَعِي أَنِّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّطَفَ الَّذِي كُنْتُ
أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ» ثُمَّ
يَنْصَرِفُ، فَذَاكَ الَّذِي يَرِيبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ
بِالشَّرّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقَهْتُ
فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ،
وَهْوَ مُتَبَرَّزُنَا وَكُنَّا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ
لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ
الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ
الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ،
فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ
بُيُوتِنَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهْيَ
ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا
بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ
فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي قَدْ
فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي
مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا:
بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟
قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟
قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ
أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي.
قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ
عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- تَعْنِى سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ
تِيكُمْ»؟ فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِي أَبَوَيَّ،
قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ
الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ فَأَذِنَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَجِئْتُ
أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ مَا
يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي
عَلَيْكَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ
وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ
إِلاَّ كَثَّرْنَ عَلَيْهَا. قَالَتْ فَقُلْتُ: سُبْحَانَ
اللَّهِ، وَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ:
فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ
يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى
أَصْبَحْتُ أَبْكِي، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ -رضي الله عنهما-
حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي
فِرَاقِ أَهْلِهِ. قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ
زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ
أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ
الْوُدِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلَكَ، وَمَا
نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُضَيِّقِ
اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ
تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. قَالَتْ: فَدَعَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ
عَلَيْهَا مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ»؟ قَالَتْ بَرِيرَةُ: لاَ
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا
أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا
جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ
أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. فَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ عَلَى
الْمِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ
يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي
أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي
إِلاَّ خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ
عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا. وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى
أَهْلِي إِلاَّ مَعِي». فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا
أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ
عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ
الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. قَالَتْ:
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهْوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ
وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنِ
احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ
لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى
قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهْوَ ابْنُ
عَمِّ سَعْدٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ
اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ
عَنِ الْمُنَافِقِينَ. فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ
وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ
عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى
سَكَتُوا وَسَكَتَ. قَالَتْ: فَمَكُثْتُ يَوْمِي ذَلِكَ
لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ.
قَالَتْ: فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ
لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلاَ
يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ
كَبِدِي: قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي
وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ
الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي،
قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي
مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا
لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ
فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ
كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ
أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي
إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ
ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ».
قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى
مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فِيمَا قَالَ: قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ
لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا
أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ
حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ
الْقُرْآنِ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ
سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي
أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ
إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لاَ
تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ
لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ
بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ
مَثَلًا إِلاَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ: {فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
[يوسف: 18] قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ، فَاضْطَجَعْتُ
عَلَى فِرَاشِي. قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ
أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يبرئني بِبَرَاءَتِي،
وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ
مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي
نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ
فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ
يَرَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ
بِهَا. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ،
فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ،
حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ
مِنَ الْعَرَقِ وَهْوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ
الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَتْ: فَلَمَّا
سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سُرِّيَ عَنْهُ وَهْوَ يَضْحَكُ، فَكَانَتْ
أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: «يَا عَائِشَةُ أَمَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ». فَقَالَتْ
أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ قَالَتْ: فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ
أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ
تَحْسِبُوهُ} [النور: 11] الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا.
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه- وَكَانَ يُنْفِقُ
عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ
وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ
شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا
قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو
الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِى
الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[النور: 22] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ، إِنِّي
أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى
مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ،
وَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُ زَيْنَبَ ابْنَةَ
جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: «يَا زَيْنَبُ مَاذَا
عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ»؟ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ:
أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا
قَالَتْ وَهْيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ
أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ
أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ
هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الإِفْكِ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير بضم الموحدة وفتح الكاف مصغرًا المخزومي مولاهم
المصري قال: (حدّثنا الليث) هو ابن سعد الإمام (عن يونس)
بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه
(قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوام (وسعيد
بن المسيب) بفتح التحتية المشدّدة (وعلقمة بن وقاص) الليثي
(وعبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن
حديث عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال لها أهل الإفك) بكسر الهمزة
وسكون الفاء الكذب التشديد والافتراء المزيد (ما قالوا
فبرأها الله مما قالوا) بما أنزله في كتابه.
قال الزهري: (وكل) من الأربعة (حدّثني) بالإفراد (طائفة من
الحديث) أي بعضه فجميعه عن مجموعهم لا أن مجموعه عن كل
واحد منهم (وبعض حديثهم يصدق بعضًا) قال في الفتح:
كأنه مقلوب والمقام يقتضي أن يقول وحديث بعضهم يصدق بعضًا،
ويحتمل أن يكون على ظاهره أي أن بعض حديث كل منهم يدل على
صدق الراوي في بقية حديثه لحسن سياقه وجودة حفظه (وإن كان
بعضهم أوعى) أي أحفظ (له) أي للحديث المذكور خاصة (من بعض
الذي حدّثني عروة) بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها-
أي عن حديث عائشة في قصة أهل الإفك (أن عائشة -رضي الله
عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قالت:
(7/257)
كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-إذا أراد أن يخرج) زاد معمر عند ابن ماجه سفرًا
أي سفر (أقرع بين أزواجه) تطييبًا لقلوبهنّ (فأيتهنّ) بتاء
التأنيث (خرج سهمها خرج بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معه) في السفر (قالت عائشة فأقرع
بيننا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في غزوة
غزاها) هي غزوة بني المصطلق (فخرج سهمي) وعند ابن إسحاق
فخرج سهمي عليهنّ وهو يشعر بأنه لم يخرج معه حينئذٍ غيرها
(فخرجت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بعد ما نزل الحجاب) أي الأمر به (فأنا أحمل في هودجي وأنزل
فيه) بضم همزة أحمل وأنزل مع التخفيف مبنيًا للمفعول فيهما
(فسرنا) إلى بني المصطلق (حتى إذا فرغ رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غزوته تلك) وغنم أموالهم
وأنفسهم (وقفل) أي رجع (ودنونا) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي دنونا بغير واو أي قربنا (من المدينة) حال كوننا
(قافلين) أي راجعين (آذن) بالمدّ والتخفيف أعلم (ليلة
بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت) لقضاء حاجتي منفردة
(حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني) الذي توجهت له (أقبلت
إلى رحلي فإذا عقد لي) بكسر العين (من جزع ظفار) بفتح
الجيم وسكون الزاي المعجمة مضافًا لظفار وهو بالظاء
المعجمة والفاء وبعد الألف راء مكسورة مبنيًّا كحضار مدينة
باليمن وفي رواية أبي ذر أظفار بالهمزة المفتوحة وتنوين
الراء (قد انقطع) زاد في رواية فرجعت إلى المكان الذي ذهبت
إليه (فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه) أي طلبه (وأقبل) ولأبي
ذر فأقبل بالفاء بدل الواو (الرهط الذين كانوا يرحلون لي)
بفتح التحتية وسكون الراء وفتح الحاء المهملة مع التخفيف
أي يشدون الرحل على بعيري سمى الواقدي منهم أبا مويهبة
مولى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(فاحتملوا هودجي فرحلوه) بالتخفيف (على بعيري الذي كنت
ركبت) أي عليه (وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك
خفافًا لم يثقلهن اللحم) بضم التحتية وكسر القاف (إنما
تأكل) المرأة منهن (العلقة) بضم العين وسكون اللام وبالقاف
القليل (من الطعام) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي يأكلهن
أي النساء وفي نسخة نأكل بنون أوّله ولام آخره فقط وعزاها
في الفتح للكشميهني (فلم يستنكر القوم) بالرفع (خفة
الهودج) وفي رواية فليح في الشهادات: ثقل الهودج والأوّل
أوضح لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها وهي ليست فيه
فكأنها تقول كانت لخفة جسمها بحيث إن الذين يحملون هودجها
لا فرق عندهم بين وجودها فيه وعدمها. (حين رفعوه) وفي
الفرع حتى ولعلها سبق قلم فإن الذي في اليونينية حين وهو
ظاهر.
(وكنت جارية حديثة السن) لأنها إذ ذاك لم تبلغ خمس عشرة
سنة أي أنها مع نحافتها صغيرة السن ففيه إشارة إلى
المبالغة في خفتها أو إلى بيان عذرها فيما وقع منها من
الحرص على العقد الذي انقطع واشتغلت بالتماسه من غير أن
تعلم أهلها بذلك وذلك لصغر سنها وعدم تجاربها
(فبعثوا الجمل) أي أثاروه (وساروا) أي وهم يظنون أنها عليه
(فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش) استفعل من مر (فجئت
منازلهم) بالجمع التي كانوا نازلين بها (وليس بها داع ولا
مجيب) وفي رواية فليح فجئت منزلهم وليس فيه أحد (فأممت)
بتشديد الميم الأولى في الفرع وفي اليونينية كشط موضع
الشدة. قال الحافظ ابن حجر: وهي رواية أبي ذر هنا وفي نسخة
فأممت بتخفيفها أي قصدت (منزلي الذي كنت به) قبل (وظننت
أنهم سيفقدوني) بكسر القاف ونون واحدة والظن هنا بمعنى
العلم لأن فقدهم إياها محقق قطعًا وهو معلوم عندها وفي
نسخة سيفقدوني بفتح القاف ولأبي ذر سيفقدونني بنونين لعدم
الناصب والجازم والأولى لغة (فيرجعون إليّ فبينا) بغير ميم
(أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت) بسبب شدة الغم إذ
من شأن الغم وهو وقوع ما يكره غلبة النوم بخلاف الهم وهو
توقع ما يكره فإنه يقتضي السهر.
(وكان صفوان بن المعطل) بتشديد الطاء المفتوحة
(7/258)
(السلمي) بضم السين وفتح اللام (ثم
الدكواني) بفتح الذال المعجمة الصحابي الفاضل (من وراء
الجيش) وفي رواية معمر قد عرس من وراء الجيش (فأدلج) بسكون
الدال المهملة أي سار من أوّل الليل وبتشديدها من آخره
وحينئذٍ فالذي هنا ينبغي أن يكون بالتشديد لأنه كان في آخر
الليل لكن التخفيف هو الذي رويناه (فأصبح عند منزلي فرأى
سواد إنسان نائم) لا يدري أهو رجل أو امرأة (فأتاني فعرفني
حين رآني) لعلها انكشف وجهها لما نامت (وكان يراني) ولأبي
ذر وكان رآني (قبل) نزول (الحجاب فاستيقظت باسترجاعه)
بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون (حين عرفني فخمرت) بالخاء
المعجمة والميم المشدّدة أي غطيت (وجهي بجلبابي) تعني
الثوب الذي كان عليها وهو بكسر الجيم (والله) ولأبي ذر
ووالله (ما كلمني كلمة) ولأبي ذر ما يكلمني بصيغة المضارع
إشارة إلى أنه استمر منه ترك المخاطبة وهو أحسن من الأولى
إذ الماضي يخص النفي بحال الاستيقاظ (ولا سمعت منه كلمة
غير استرجاعه حتى أناخ راحلته) فيه نفي لكلامه لها بغير
الاسترجاع إلى أن أناخ ولا يمنع ما بعد الإناخة ولأبي ذر
عن الحموي والمستملي حين فالنفي مقيد بحال إناخة الراحلة
فلا يمنع ما قبل الإناخة ولا ما بعدها وفي رواية ابن إسحاق
أنه قال لها ما خلفك وأنه قال لها اركبي واستأخر. وفي حديث
ابن عمر عند الطبراني وابن مردويه: فلما رآني ظن أني رجل
فقال يا نومان قم فقد سار الناس، وفي مرسل سعيد بن جبير
عند ابن أبي حاتم فاسترجع ونزل عن بعيره وقال ما شأنك يا
أم المؤمنين فحدثته بأمر القلادة.
(فوطئ على يديها) بالتثنية أي يدي الناقة ليكون أسهل
لركوبها ولأبي ذر على يدها (فركبتها فانطلق) حال كونه
(يقود بي الراحلة) وفي مرسل مقاتل بن حيان بالمهملة
والتحتية عند الحاكم في الإكليل أنه ركب معها مردفًا لها
وما في الصحيح هو الصحيح (حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا)
حال كونهم (موغرين) بضم الميم وكسر الغين المعجمة والراء
المهملة أي نازلين في وقت الوغرة بفتح الواو وسكون الغين
المعجمة شدة الحر وقت كون الشمس في كبد السماء (في نحر
الظهيرة) بالحاء المهملة والظهيرة بفتح المعجمة وكسر الهاء
حيث تبلغ الشمس منتهاها من الارتفاع كأنها
وصلت إلى النحر وهو أعلى المصدر وهو تأكيد لقوله موغرين
(فهلك) أي بسبب الإفك (من هلك) أي في شأني وفي رواية أبي
أويس عند الطبراني فهنالك قال فيّ وفيه أهل الإفك ما قالوا
(وكان الذين تولى الإفك) رأس المنافقين (عبد الله بن أبي)
بالتنوين (ابن سلول) بنصب ابن صفة لعبد الله وسلول بفتح
السين غير منصرف للعلمية والتأنيث (فقدمنا المدينة
فاشتكيت) أي مرضت (حين قدمت شهرًا والناس يفيضون) بضم
أوّله (في قول أصحاب الإفك) أي يشيعونه (لا أشعر بشيء من
ذلك) وفي رواية ابن إسحاق: وقد انتهى الحديث إلى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلى أبويّ ولا
يذكرون لي شيئًا من ذلك (وهو يريبني) بفتح أوّله من
الثلاثي وبضمه من الرباعي يقال رابه وأرابه أي يشككني
ويوهمني (في وجعي أني لا أعرف من رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللطف) بفتح اللام والطاء
المهملة والفاء ولأبي ذر اللطف بضم اللام وسكون الطاء أي
الرفق (الذي كنت أرى منه حين أشتكي) أمرض (إنما يدخل علي)
بتشديد الياء (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فيسلم ثم يقول):
(كيف تيكم) بكسر الفوقية وهو للمؤنث مثل ذاكم للمذكر ولابن
إسحاق فكان إذا دخل قال لأمي وهي تمرضني كيف تيكم وفهمت أم
المؤمنين من ذلك بعض الجفاء منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ولكنها لم تكن تدري السبب (ثم ينصرف فذاك الذي
يريبني) بفتح أوّله وكسر ثانيه (ولا أشعر بالشر) الذي
تقوله أهل الإفك وسقط لفظ الشر لغير أبي ذر (حتى خرجت بعد
ما نقهت) بفتح النون والقاف ويجوز كسرها أي أفقت من مرضي
ولم تكمل لي الصحة (فخرجت معي أم مسطح) بكسر الميم وسكون
السين وفتح الطاء
(7/259)
بعدها حاء مهملات واسمها سلمى (قبل
المناصع) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة المناصع بفتح
الميم والنون وبعد الألف صاد وعين مهملتان موضع خارج
المدينة (وهو متبرزنا) بفتح الراء المشددة أي موضع قضاء
حاجتنا (وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ
الكنف) بضم الكاف والنون مواضع قضاء الحاجة (قريبًا من
بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأوّل) بضم الهمزة وتخفيف الواو
نعت للعرب (في التبرز قبل الغائط) وفي رواية فليح في
البرية أي خارج المدينة بعيدًا عن المنازل (فكنا نتأذى
بالكنف) برائحتها (أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم
مسطح) بكسر الميم (وهي ابنة أبي رهم) أنيس (بن عبد مناف)
بضم الراء وسكون الهاء وفي رواية صالح عند المؤلّف في
المغازي وهي ابنة أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف قال
الحافظ ابن حجر وهو الصواب (وأمها بنت صخر بن عامر خالة
أبي بكر الصديق) واسمها رائطة فيما ذكره أبو نعيم (وابنها
مسطح بن أثاثة) بضم الهمزة ومثلثتين بينهما ألف من غير
تشديد ابن عباد بن المطلب (فأقبلت أنا وأم مسطح قبل) أي
جهة (بيتي قد) ولأبي ذر وقد (فرغنا من شأننا فعثرت) بالفاء
والعين والراء المفتوحات (أم مسطح في مرطها) بكسر الميم
كسائها وهو من صوف أو خز أو كتان أو إزار (فقالت: تعس
مسطح) بفتح العين قيده الجوهري وكلام ابن الأثير يقتضي أن
الأعرف كسرها أي أكبه الله لوجهه أو هلك قالت عائشة (فقلت
لها: بئسما قلت أتسبين رجلًا شهد بدرًا قالت: أي هنتاه)
بفتح الهاء الأولى وسكون الأخيرة أي يا هذه (أو لم تسمعي
ما قال؟ قالت) أي عائشة: (قلت: وما قال؟ قالت) أي عائشة:
(فأخبرتني) أم مسطح (بقول أهل الإفك
فازددت مرضًا على مرضي قالت: فلما رجعت إلى بيتي) وسقط
لغير أبي ذر لفظ قالت من قوله قالت فأخبرتني ومن قوله قالت
فلما رجعت إلى بيتي أي واستقريت فيه (ودخل عليّ رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعني) أي عائشة (سلم)
وسقط تعني سلم لأبي ذر (ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت) له عليه
الصلاة والسلام: (أتأذن لي أن آتي أبوي قالت وأنا حينئذٍ
أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما) من جهتهما (قالت: فأذن لي
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجئت أبوي
فقلت لأمي) أم رومان (يا أمتاه) بسكون الهاء (ما يتحدث
الناس) أي به ويتحدث بفتح أوّله (قالت: يا بنية هوّني عليك
فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة) بالنصب على الحال ولأبي
ذر وضيئة بالرفع صفة امرأة واللام في لقل للتأكيد أي حسنة
جميلة (عند رجل يحبها ولها ضرائر) وسقطت الواو لأبي ذر
(إلا كثّرن) بتشديد المثلثة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
إلا أكثرن نساء الزمان (عليها) القول في نقصها فالاستثناء
منقطع أو إشارة إلى ما وقع من حمنة بنت جحش أخت أم
المؤمنين زينب، فإن الحامل لها على ذلك كون عائشة ضرة
أختها فالاستثناء متصل ولم تقصد أم رومان بقولها ولها
ضرائر إلا أكثرن عليها قصة عائشة بنفسها وإنما ذكرت شأن
الضرائر عائشة وإن لم يصدر منهن شيء فلم يعدم ذلك ممن هو
من أتباعهن كحمنة.
(قالت) عائشة: (فقلت سبحان الله) تعجبت من وقوع مثل ذلك في
حقها مع تحققها براءتها (ولقد) ولأبي ذر أو لقد (تحدث
الناس بهذا قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ)
بالقاف والهمزة أي لا ينقطع (لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى
أصبحت أبكي) لأن الهموم موجبة للسهر وسيلان الدموع (فدعا
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علي بن أبي
طالب وأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- حين استلبث الوحي)
بالرفع أي طال لبثه أو بالنصب أي استبطأ النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-الوحي (يستأمرهما) أي
يستشيرهما (في فراق أهله) تعني نفسها (قالت: فأما أسامة بن
زيد فأشار على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بالذي يعلم من براءة أهله) مما يذكر (وبالذي
يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله) أمسك (أهلك)
بالنصب ولأبي ذر أهلك بالرفع أي هم أهلك (وما)
(7/260)
ولأبي ذر ولا (نعلم إلا خيرًا.
وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله
عليك والنساء سواها كثير) بلفظ التذكير على إرادة الجنس
وفعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث أفرادًا وجميعًا، وقال ذلك
لما رأى منه عليه الصلاة والسلام من شدة القلق فرأى أن
بفراقها يسكن ما عنده بسببها فإذا تحقق براءتها فيراجعها
(وإن تسأل الجارية) بريرة (تصدقك) الخبر بالجزم على
الجزاء.
(قالت) عائشة (فدعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بريرة) واستشكل قوله الجارية بريرة بأن قصة
الإفك قبل شراء بريرة وعتقها لأنه كان بعد فتح مكة وهو
قبله لأن حديث الإفك كان في سنة ست أو أربع وعتق بريرة كان
بعد فتح مكة في السنة التاسعة أو العاشرة لأن بريرة لما
خيرت واختارت نفسها كان زوجها مغيث يتبعها في سكك المدينة
يبكي عليها فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- للعباس: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة"
والعباس إنما سكن المدينة بعد رجوعهم من الطائف في أواخر
سنة ثمان وفي ذلك ردّ على ابن القيم حيث قال تسميتها بريرة
وهم من بعض الرواة فإن
عائشة إنما اشترت بريرة بعد الفتح، ولما كاتبتها عقيب
شرائها وعتقت خيرت فاختارت نفسها فظن الراوي أن قول علي
وإن تسأل الجارية تصدقك أنها بريرة فغلط قال: وهذا نوع خاص
غامض لا يتنبه له إلا الحذاق. اهـ.
وتبعه الزركشي فقال إن تسمية الجارية بريرة مدرجة من بعض
الرواة وإنها جارية أخرى، وأجاب الشيخ تقي الدين السبكي
بأجوبة أحسنها احتمال أنها كانت تخدم عائشة قبل شرائها
وهذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفاظ.
(فقال) عليه الصلاة والسلام: (أي بريرة هل رأيت) عليها (من
شيء يريبك؟) بفتح أوله من جنس ما قال أهل الإفك (قالت
بريرة) مجيبة له على العموم نافية عنها كل نقص (لا والذي
بعثك بالحق إن رأيت) بكسر الهمزة أي ما رأيت (عليها أمرًا
أغمصه) بفتح الهمزة وسكون المعجمة وكسر الميم وصاد مهملة
صفة لأمر أي أعيبه (عليها) في جميع أحوالها (أكثر من أنها
جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها) لصغر سنها ورطوبة
بدنها (فتأتي الداجن) بدال مهملة وبعد الألف جيم مكسورة
فنون الشاة التي تقتنى في البيت وتعلف وقد يطلق على غيرها
مما يألف البيوت من الطير وغيره (فتأكله) قال ابن المنير
في الحاشية: هذا من الاستثناء البديع الذي يراد به
المبالغة في نفي العيب كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
فغفلتها عن عجينها أبعد لها من مثل الذي رميت به وأقرب إلى
أن تكون به من المحصنات الغافلات المؤمنات، وتعقبه البدر
الدماميني فقال ليس في الحديث صورة استثناء بسوى ولا غيرها
من أدواته وإنما فيه إن رأيت عليها أمرًا أغمصه عليها أكثر
من أنها جارية الخ لكن معنى هذا قريب من معنى الاستثناء.
اهـ.
نعم قولها في رواية هشام بن عروة فيما يأتي إن شاء الله
تعالى قريبًا فى هذه السورة ما علمت منها إلا ما يعلم
الصائغ على تبر الذهب الأحمر استثناء صريح في نفي العيب
عنها وفي رواية عبد الرحمن بن حاطب عن علقمة عند الطبراني
فقالت الجارية الحبشية والله لعائشة أطيب من الذهب ولئن
كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله قال فعجب الناس من
فقهها.
(فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فاستعذر) بالذال المعجمة (يومئذٍ من عبد الله بن أبي ابن
سلول قالت) عائشة (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو على المنبر: يا معشر المسلمين)
بسكون العين (من يعذرني) بفتح أوله وكسر المعجمة أي من
يقيم عذري إن كافأته على قبح فعله أو من ينصرني (من رجل)
يريد ابن أبيّ (قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت
على) ولأبي ذر في (أهلي إلا خيرًا ولقد ذكروا رجلًا) صفوان
بن المعطل (ما علمت عليه إلا خيرًا وما كان يدخل على أهلي
إلا معي فقام
(7/261)
سعد بن معاذ الأنصاري).
واستشكل ذكر سعد بن معاذ هنا بأن حديث الإفك كان سنة ست في
غزوة المريسيع وسعد مات من الرمية التي رميها بالخندق سنة
أربع. وأجيب: بأنه اختلف في المريسيع، ففي البخاري عن موسى
بن عقبة أنها سنة أربع وكذلك الخندق، وقد جزم ابن إسحاق
بأن المريسيع كانت في شعبان والخندق في شوّال وإن كانا في
سنة فلا يمتنع أن يشهدها ابن معاذ، لكن الصحيح في النقل عن
موسى بن عقبة أن المريسيع سنة خمس، فالذي في البخاري حملوه
على أنه سبق قلم والراجح أيضًا أن الخندق أيضًا سنة خمس
فيصح الجواب.
(فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه) بفتح الهمزة وكسر
المعجمة (إن كان من الأوس) قبيلتنا (ضربت عنقه) لأن حكمه
فيهم نافذ إذ كان سيدهم ولأن من آذاه عليه الصلاة والسلام
وجب قتله (وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا
أمرك قالت) عائشة: (فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج) بعد
فراغ ابن معاذ من مقالته (وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا) كامل
الصلاح لم يسبق منه ما يتعلق بالوقوف مع أنفة الحمية (ولكن
احتملته) من مقالة ابن معاذ (الحمية) أي أغضبته وفي رواية
معمر عند مسلم اجتهلته بجيم ففوقية فهاء وصوّبها التوربشتي
أي حملته على الجهل (فقال لسعد) هو ابن معاذ: (كذبت لعمر
الله) بفتح العين أي وبقاء الله (لا تقتله ولا تقدر على
قتله) لأنا نمنعك منه ولم يرد ابن عبادة الرضا بقول ابن
أبي لكن كان بين الحيين مشاحنة زالت بالإسلام وبقي بعضها
بحكم الأنفة فتكلم ابن عبادة بحكم الأنفة ونفى أن يحكم فيه
ابن معاذ (فقام أسيد بن حضير) بضم الهمزة وفتح السين
المهملة وحضير بضم المهملة وفتح المعجمة مصغرين ولأبي ذر
ابن الحضير (وهو ابن عم سعد) ولأبي ذر زيادة ابن معاذ أي
من رهطه (فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه)
بالنون ولو كان من الخزرج إذا أمرنا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فإنك منافق تجادل عن
المنافقين) تفسير لقوله فإنك منافق فليس المراد نفاق الكفر
(فتثاور) بفوقية فمثلثة (الحيان الأوس والخزرج) أي نهض
بعضهم إلى بعض من الغضب (حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم على المنبر فلم
يزل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخفضهم
حتى سكتوا) بالفوقية والواو ولأبي ذر سكت بحذف الواو أي
سكت القوم (وسكت) عليه الصلاة والسلام.
(قالت) عائشة (فمكثت) بالميم وضم الكاف من المكث ولأبي ذر
عن الكشميهني فبكيت من البكاء (يومي ذلك لا يرقأ) بالهمزة
أي لا ينقطع (لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت فأصبح أبواي) أبو
بكر وأم رومان (عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا) الليلة التي
أخبرتها فيها أم مسطح بالخبر واليوم الذي خطب فيه عليه
الصلاة والسلام الناس والليلة التي تليه (لا أكتحل بنوم
ولا يرقأ لي دمع يظنان) أبي وأمي (أن البكاء فالق كبدي
قالت) عائشة: (فبينما) بالميم ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي فبينا (هما جالسان) ولأبي ذر جالسين (عندي وأنا
أبكي) جملة حالية (فاستأذنت علي امرأة من الأنصار) لم تسم
(فأذنت لها فجلست تبكي معي) تحزّنًا عليّ.
(قالت) عائشة (فبينا) بغير ميم (نحن على ذلك) وللكشميهني
نحن كذلك (دخل علينا
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسلم ثم
جلس قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها وقد لبث
شهرًا لا يوحى إليه في شأني) أي بشيء (قالت: فتشهد رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين جلس ثم
قال):
(أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا) كناية عما
رماها به أهل الإفك (فإن كنت بريئة) من ذلك (فسيبرئك الله)
بوحي ينزله (وإن كنت ألممت بذنب) أي وقع منك مخالفًا
لعادتك (فاستغفري الله وتوبي إليه) منه (فإن العبد إذا
اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله) منه (تاب الله عليه) وسقط
لفظ الجلالة لأبي ذر (قالت: فلما قضى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقالته قلص) بالقاف واللام
والصاد المهملة المفتوحات انقطع (دمعي حتى ما أحس) أجد
(منه قطرة) لأن الحزن والغضب
(7/262)
إذا أخذ أحدهما فقد الدمع لفرط حرارة
المصيبة (فقلت لأبي أجب) عني (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما قال قال: والله ما أدري ما أقول
لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي
أويس فقال لا أفعل هو رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- والوحي يأتيه (فقلت لأمي: أجيبي رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قالت: ما أدري ما
أقول لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قالت) عائشة: (فقلت) ولأبي ذر قلت (وأنا جارية حديثة السن
لا يقرأ كثيرًا من القرآن) هذا توطئة لعذرها في عدم
استحضارها اسم يعقوب عليه السلام (إني والله لقد علمت لقد
سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به) قيل
مرادها من صدق به من أصحاب الإفك وضمت إليهم من لم يكذبهم
تغليبًا (فلئن) بفتح اللام وكسر الهمزة (قلت لكم إني بريئة
والله يعلم أي بريئة لا تصدقوني) ولأبي ذر لا تصدقونني
(بذلك) أي لا تقطعون بصدقي (ولئن اعترفت لكم بأمر والله
يعلم أني منه بريئة لتصدقني) بضم القاف وتشديد النون
والأصل تصدقونني فأدغمت النون في الأخرى (والله ما أجد
لكم) وفي رواية فليح في الشهادات لي ولكم (مثلًا إلا قول
أبي يوسف) وفي رواية أبي أويس نسيت اسم يعقوب لما بي من
البكاء واحتراق الجوف إذ (قال {فصبر جميل والله المستعان
على ما تصفون} قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي قالت
وأنا حينئذٍ أعلم أني بريئة وأن الله يبرئني ببراءتي)
يبرئني فعل مضارع في الفرع وغيره، والذي في اليونينية مصحح
عليه مبرئي بميم مضمومة فموحدة مفتوحة فراء مشددة فهمزة
مكسورتين فتحتية، وكذا هو في الفتح وعند السفاقسي مبرئني
بنون بعد الهمزة المضمومة واستشكله بأن نون الوقاية إنما
تدخل في الأفعال لتسلم من الكسر والأسماء تكسر فلا يحتاج
إليها قال الحافظ ابن حجر: والذي وقفنا عليه مبرئي بغير
نون وعلى تقدير وجود ما ذكر السفاقسي فقد سمع ذلك في بعض
اللغات في اسم الفعل اهـ. نحو دراكني وتراكني وعليكني
بمعنى أدركني واتركني والزمني وفي الحرف نحو انني.
(ولكن) بتخفيف النون (والله ما كنت أظن أن الله منزل في
شأني وحيًا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله
في بأمر يتلى ولكن) بتخفيف النون ولأبي ذر عن الكشميهني
ولكنني وله عن الحموي والمستملي ولكني بالإدغام (كنت أرجو
أن يرى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت: فوالله ما رام رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي ما فارق مجلسه
(ولا خرج أحد من أهل البيت) الذين كانوا حاضرين حينئذٍ
(حتى أنزل عليه) الوحي (فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء)
من العرق من شدة الوحي (حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من
العرق) بكسر الميم وسكون المثلثة مرفوعًا والجمان بضم
الجيم وتخفيف الميم الدر قال:
كجمانة البحري جاء بها ... غوّاصها من لجة البحر
وقال الداودي: هو شيء كاللؤلؤ يصنع من الفضة والأول هو
المعروف: (وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه)
بضم الياء وسكون النون وفتح الزاي وثقل بكسر المثلثة وفتح
القاف.
(قالت: فلما سري) بضم المهملة وكسر الراء مشدّدة كشف (عن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سري عنه
وهو يضحك) سرورًا والجملة حالية (فكانت) ولأبي ذر عن
الكشميهني فكان (أول) لم يضبط اللام من أوّل في الفرع ولا
في أصله (كلمة تكلم بها يا عائشة أما الله عز وجل) بتشديد
ميم أما (فقد برأك) بالقرآن مما قاله أهل الإفك فيك
(فقالت) ولأبي ذر قالت (أمي) أم رومان (قومي إليه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأجل ما بشرك به (قالت) عائشة
(فقلت والله) ولأبي ذر لا والله (لا أقوم إليه) وإلى الله
صلاته وسلامه عليه (ولا أحمد إلا الله عز وجل) الذي أنزل
براءتي (وأنزل الله) بالواو ولأبي ذر فأنزل الله (عز وجل
{وإن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه} العشر
الآيات كلها)
(7/263)
قال ابن حجر آخر العشر والله يعلم وأنتم لا
تعلمون. اهـ.
وأقول بل هي تسعة ولعله عد قوله: {لهم عذاب أليم} رأس آية
وليس كذلك بل تشبه فاصلة وليس بفاصلة كما نص عليه غير واحد
من العادّين وحينئذٍ فآخر العشر {رؤوف رحيم} وفي رواية
عطاء الخراساني عن الزهري فأنزل الله {إن الذين جاؤوا
بالإفك} -إلى قوله- {أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}
وقول ابن حجر أن عدد الآي إلى هذا الموضع ثلاث عشرة آية
فلعل في قولها العشر الآيات مجازًا بطريق إلغاء الكسر بناه
على عد أليم كما مر فالصواب أنها اثنتا عشر. اهـ.
فتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها
واستصغارها نفسها حيث قالت ولشأني في نفسي كان أحقر من أن
يتكلم الله فيّ بوحي الخ فهذه صدّيقة الأمة تعلم أنها
بريئة مظلومة وأن قاذفيها ظالمون لها مفترون عليها وهذا
كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لنفسها فما ظنك بمن صام
يومًا أو يومين أو شهرًا أو شهرين أو قام ليلة أو ليلتين
فظهر عليه شيء من الأحوال فلوحظ باستحقاق الكرامات
والمكاشفات وإجابة الدعوات وأنه ممن يترك بلقائه ويغتنم
صالح دعائه ويتمسح بأثوابه ويقبل ثرى أعتابه فعجب من جهله
بنفسه وغفل عن جرمه واغتر بإمهال الله عليه، فينبغي للعبد
أن يستعيذ الله أن يكون عند نفسه عظيمًا وهو عند الله حقير
وسقط لا تحسبوه لأبي ذر.
(فلما أنزل الله) تعالى (هذا في براءتي) وأقيم الحد على من
أقيم عليه (قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وكان ينفق
على مسطح بن أثاثة لقرابته منه) كان ابن خالته (وفقره) أي
لأجلهما
والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة
ما قال: فأنزل الله ({ولا يأتل}) لا يحلف ({أولو الفضل
منكم}) في الدين أبو بكر ({والسعة}) في المال ({أن يؤتوا
أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله})، صفات
لموصوف واحد وهو مسطح لأنه كان مسكينًا مهاجرًا بدريًا
({وليعفوا وليصفحوا}) عنهم خوضهم في أمر عائشة ({ألا
تحبون}) خطاب لأبي بكر ({أن يغفر الله لكم}) على عفوكم
وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم ({والله غفور رحيم)
فتخلقوا بأخلاقه تعالى (قال أبو بكر) لما قرأ عليه النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الآية (بلى والله
إني أحب أن يغفر الله لي فرجع) بالتخفيف (إلى مسطح النفقة
التي كان ينفق عليه) قبل (وقال والله لا أنزعها منه أبدًا.
قالت عائشة وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يسأل) بصيغة المضارع ولأبي ذر سأل بصيغة الماضي
(زينب ابنة جحش) أم المؤمنين -رضي الله عنها- (عن أمري
فقال يا زينب ماذا علمت) على عائشة (أو رأيت) منها (فقالت)
ولأبي ذر وقالت (يا رسول الله أحمي) بفتح الهمزة (سمعي) من
أن أقول سمعت ولم أسمع (وبصري) من أن أقول أبصرت ولم أبصر
(ما علمت) عليها (إلا خيرًا قالت) عائشة (وهي) أي زينب
(التي كانت تساميني من أزواج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الفوقية وبالمهملة من السموّ وهو
العلوّ والارتفاع أي تطلب من العلوّ والارتفاع والحظوة عند
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أطلب أو
تعتقد أن لها مثل الذي لي عنده (فعصمها الله) أي حفظها
(بالورع) أن تقول يقول أهل الإفك (وطفقت) بكسر الفاء جعلت
أو شرعت (أختها حمنة) بفتح الحاء المهملة وبعد الميم
الساكنة نون مفتوحة فهاء تأنيث (تحارب لها) أي لأختها زينب
وتحكي مقالة أهل الإفك لتخفض منزلة عائشة وتعلي منزلة
أختها زينب (فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك) فحدّت فيمن
حُدَّ أو أثمت مع من أثم.
وهذا الحديث سبق في كتاب الشهادات ..
7 - باب قَوْلِهِ: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ}
عَذَابٌ عَظِيمٌ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ وَقَالَ
مُجَاهِدٌ {تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] يَرْوِيهِ
بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ {تُفِيضُونَ}: تَقُولُونَ
هذا (باب قوله) تعالى: ({ولولا فضل الله عليكم}) لولا هذه
لامتناع الشيء لوجود غيره أي لولا فضل الله عليكم أيها
الخائضون في شأن عائشة ({ورحمته في الدنيا}) بأنواع النعم
التي من جملتها قبول توبتكم وإنابتكم إليه ({والآخرة})
بالعفو والمغفرة ({لمسلم}) عاجلًا ({فيما أفضتم}) أي خضتم
({فيه}) من قضية الإفك ({عذاب عظيم}) [النور: 14].
قال ابن عباس: المراد بالعذاب العظيم
(7/264)
الذي لا انقطاع له يعني في الآخرة لأنه ذكر
عذاب الدنيا من قبل فقال والذي تولى كبره منهم له عذاب
عظيم، وقد أصابه فإنه جلد وحدّ، وسقط قوله: ({عذاب عظيم})
لأبي ذر وقال بعد قوله: ({أفضتم فيه}) الآية.
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي من طريقه في قوله تعالى:
إذ ({تلقونه}) [النور: 15] معناه (يرويه بعضكم عن بعض)
وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له ما وراءك فيحدّثه
بحديث الإفك حتى شاع واشتهر ولم يبق بيت ولا ناد إلا طار
فيه فسعوا في إشاعته وذلك من العظائم وأصل تلقونه تتلقونه
فحذفت إحدى التاءين كتنزل ونحوه.
({تفيضون}) في قوله تعالى في سورة يونس {إذ تفيضون فيه}
[يونس: 61] معناه (تقولون) وهذا ذكره استطرادًا على عادته
مناسبة لقوله فيما أفضتم فيه إذ كل منهما من الإفاضة.
4751 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا
سُلَيْمَانُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ أُمِّ رُومَانَ أُمِّ عَائِشَةَ أَنَّهَا
قَالَتْ: لَمَّا رُمِيَتْ عَائِشَةُ خَرَّتْ مَغْشِيًّا
عَلَيْهَا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري
قال: (أخبرنا) ولأبي ذر حدّثنا (سليمان) هو أخوه (عن حصين)
مصغرًا ابن عبد الرحمن أبي الهذيل السلمي الكوفي (عن أبي
وائل) شقيق بن سلمة (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن أم
رومان) بضم الراء بنت عامر بن عويمر (أم عائشة) -رضي الله
عنهما- (أنها قالت لما رميت عائشة) بما رميت به من الإفك
(خرّت مغشيًا عليها) وفي بعض النسخ بإسقاط لفظ عليها كما
في المصابيح، وقال السفاقسي: صوابه مغشية يعني بتاء
التأنيث بدل الألف، ورده الزركشي بأنه على تقدير الحذف أي
عليها فلا معنى للتأنيث قال في المصابيح: لكن يلزم على
تقديره حذف النائب عن الفاعل وهو ممتنع عند البصريين،
وإنما ينسب القول به للكسائي من الكوفيين، وأما على ما
استصوبه السفاقسى فإنما يلزم حذف الجار وجعل المجرور
مفعولًا على سبيل الاتساع وهو موجود في كلامهم ومطابقته
لما ترجم به من جهة قصة الإفك في الجملة واعترض الخطيب،
وتبعه جماعة على هذا الحديث بأن مسروقًا لم يسمع من أم
رومان لأنها توفيت في زمنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وسنّ مسروق إذ ذاك ست سنين، فالظاهر أنه مرسل.
وأجاب في المقدمة: بأن الواقع في البخاري هو الصواب لأن
راوي وفاة أم رومان في سنة ست عليّ بن زيد بن جدعان وهو
ضعيف كما نبه عليه البخاري في تاريخيه الأوسط والصغير
وحديث مسروق أصح إسنادًا وقد جزم إبراهيم الحربي الحافظ
بأن مسروقًا إنما سمع من أم رومان في خلافة عمر. وقال أبو
نعيم الأصبهاني: عاشت أم رومان بعد النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دهرًا.
8 - باب: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ وَتَحْسِبُونَهُ هَيِّنًا وَهْوَ عِنْدَ اللَّهِ
عَظِيمٌ} [النور: 15]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({إذ}) ظرف لمسكم أو
أفضتم ({تلقونه}) أي الإفك ({بألسنتكم}) قال الكلبي وذلك
أن الرجل منهم يلقى الآخر فيقول بلغني كذا وكذا يتلقوله
تلقيًا ({وتقولون بأفواهكم}) في شأن أم المؤمنين ({ما ليس
لكم به علم}) فإن قلت: ما معنى قوله
بأفواهكم والقول لا يكون إلا بالفم؟ أجيب: بأن الشيء
المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه اللسان والإفك ليس
إلا قولًا يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في قلوبكم علم
به ({وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم}) [النور: 15] في
الوزر وسقط لأبي ذر وتحسبونه الخ وقال بعد علم الآية وسقط
باب لغير أبي ذر.
4752 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا
هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ ابْنُ
أَبِي مُلَيْكَةَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقْرَأُ: {إِذْ
تَلِقُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ}.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) الفراء الرازي الصغير
قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (هشام) ولأبي ذر هشام بن
يوسف (أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبرهم قال
ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبد الرحمن: (سمعت عائشة) -رضي
الله عنها- (تقرأ) ولأبي ذر تقول: ({إذ تلقونه بألسنتكم})
بكسر اللام وتخفيف القاف مضمومة من ولق الرجل إذا كذب.
9 - باب قَوِلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ
قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ولولا إذ سمعتموه
قلتم ما يكون لنا}) ما ينبغي وما يصح لا ({أن نتكلم بهذا
سبحانك هذا بهتان عظيم}) [النور: 16] سقط قوله سبحانك الخ
لأبي ذر وقال بعد قوله بهذا الآية وسقط لفظ باب لغير أبي
ذر.
4753 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ
قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:
اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهَا عَلَى
عَائِشَةَ وَهْيَ مَغْلُوبَةٌ، قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ
يُثْنِيَ عَلَيَّ، فَقِيلَ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِنْ وُجُوهِ
الْمُسْلِمِينَ، قَالَتِ: ائْذَنُوا لَهُ. فَقَالَ: كَيْفَ
تَجِدِينَكِ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ إِنِ اتَّقَيْتُ الله.
قَالَ: فَأَنْتِ بِخَيْرٍ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -،
زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ، وَنَزَلَ
عُذْرُكِ مِنَ السَّمَاءِ. وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
خِلاَفَهُ فَقَالَتْ: دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَى
عَلَيَّ، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي الزمن قال:
(حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن عمر بن سعيد بن أبي
حسين) بضم عين عمر وكسر عين سعيد وضم حاء حسين مصغرًا
القرشي النوفلي المكي (قال: حدّثني) بالإفراد (ابن أبي
(7/265)
مليكة) عبد الله (قال: استأذن ابن عباس قبل
موتها) ولأبي ذر قبيل موتها بضم القاف مصغرًا (على عائشة
وهي مغلوبة) من كرب الموت (قالت: أخشى أن يثني عليّ) لأن
الثناء يورث العجب (فقيل) هو (ابن عم رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن وجوه المسلمين) والقائل
لها ذلك هو ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن والذين
استأذن لابن عباس عليها ذكوان مولاها كما عند أحمد في
روايته (قالت ائذنوا له فقال) ابن عباس لها بعد أن أذن له
في الدخول
ودخل (كيف تجدينك) أي كيف تجدين نفسك فالفاعل والمفعول
ضميران لواحد وهو من خصائص أفعال القلوب (قالت) عائشة:
أجدني (بخير إن اتقيت الله) أي إن كنت من أهل التقوى وسقطت
الجلالة من اليونينية وآل ملك وغيرهما وثبتت في الفرع
ولأبي ذر عن الكشميهني إن أبقيت بضم الهمزة وسكون الموحدة
وكسر القاف وسكون التحتية وفتح الفوقية من البقاء (قال)
ابن عباس (فأنت بخير إن شاء الله زوجة رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم ينكح بكرًا غيرك ونزل
عذرك) عن قصة الإفك (من السماء) وفي رواية ذكوان المذكورة:
وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات جاء به الروح الأمين
فليس في الأرض مسجدًا إلا وهو يتلى فيه آناء الليل وأطراف
النهار.
(ودخل) عليها (ابن الزبير) عبد الله (خلافه) بعد أن خرج
ابن عباس فتخالفا في الدخول والخروج ذهابًا وإيابًا وافق
رجوع ابن عباس مجيء ابن الزبير (فقالت) له عائشة: (دخل ابن
عباس فأثنى عليّ ووددت أي كنت نسيًا منسيًّا) أي لم أكن
شيئًا.
وهذا على طريق أهل الورع في شدة خوفهم على أنفسهم.
4754 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا
ابْنُ عَوْنٍ عَنِ الْقَاسِمِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي
الله عنه- اسْتَأْذَنَ عَلَى عَائِشَةَ. نَحْوَهُ وَلَمْ
يَذْكُرْ نِسْيًا مَنْسِيًّا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) الزمن قال: (حدّثنا عبد
الوهاب بن عبد المجيد) بفتح الميم وكسر الجيم الثقفي قال:
(حدّثنا ابن عون) بالنون عبد الله (عن القاسم) بن محمد بن
أبي بكر الصديق (إن ابن عباس -رضي الله عنه- استأذن على
عائشة نحوه) أي ذكر نحو الحديث المذكور (ولم يذكر) فيه
(نسيًا منسيًّا).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله ونزل عذرك من السماء.
10 - باب قَوْلِهِ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ أَبَدًا} الآيَةَ
(قولها {يعظكم الله}) ولأبي ذر باب بالتنوين في قوله:
{يعظكم الله}. قال ابن عباس: يحرم الله عليكم، وقال مجاهد:
ينهاكم الله ({أن تعودوا لمثله}) كراهة أن تعودوا مفعول من
أجله أو في أن تعودوا على حذف في ({أبدًا}) ما دمم أحياء
مكلفين (الآية}) [النور: 17] وسقط قوله الآية لغير أبي ذر.
4755 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: جَاءَ
حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، قُلْتُ:
أَتَأْذَنِينَ لِهَذَا؟ قَالَتْ: أَوَلَيْسَ قَدْ
أَصَابَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ؟ قَالَ سُفْيَانُ: تَعْنِي
ذَهَابَ بَصَرِهِ، فَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ
غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
قَالَتْ: لَكِنْ أَنْتَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي الضحى)
مسلم بن صبيح (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن عائشة -رضي
الله عنها-) أنها (قالت): ولأبي ذر عن الكشميهني قال: (جاء
حسان بن ثابت) الأنصاري الخزرجي شاعر رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يستأذن عليها) فيه التفات من
الخطاب إلى الغيبة قال مسروق: (قلت) لعائشة: (أتأذنين
لهذا) وهو ممن تولى كبر الإفك؟ (قالت: أوليس قد أصابه عذاب
عظيم. قال سفيان) الثوري: (تعني ذهاب بصره. فقال) حسان:
(حصان رزان) بفتح الحاء المهملة والزاي من الثاني وقبلها
راء مهملة مخففة أي عفيفة كاملة العقل (ما تزن) بضم
الفوقية وفتح الزاي وتشديد النون أي ما تتهم (بريبة) براء
مهملة فتحتية ساكنة فموحدة.
(وتصبح غرثى) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح المثلثة
جائعة (من لحوم الغوافل) العفيفات أي لا تغتابهن إذ لو
كانت تغتاب لكانت آكلة وهو استعارة فيها تلميح بقوله تعالى
في المغتاب {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا} [الحجرات:
12].
وهذا البيت من جملة قصيدة لحسان.
(قالت) عائشة: (لكن) أي لست (أنت) كذلك إشارة إلى أنه
اغتابها حين وقعت قصة الإفك.
11 - باب {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 18]
هذا (باب) بالتنوين في قوله: ({ويبين الله لكم الآيات}) في
الأمر والنهي ({والله عليم}) بأمر عائشة وصفوان ({حكيم})
[النور: 18] في شرعه وقدرته.
4756 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنِ
الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:
دَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عَائِشَةَ فَشَبَّبَ
وَقَالَ
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ
غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
قَالَتْ: لَسْتَ كَذَاكَ. قُلْتُ: تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا
يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالَّذِي
تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} فَقَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ
أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى. وَقَالَتْ: وَقَدْ كَانَ يَرُدُّ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (محمد بن
بشار) بندار العبدي البصري قال: (حدّثنا
(7/266)
ابن أبي عدي) بفتح العين وكسر الدال
المهملتين محمد قال: (أنبأنا شعبة) بن الحجاج (عن الأعمش)
سليمان بن مهران (عن أبي الضحى) مسلم بن صبيح (عن مسروق)
هو ابن الأجدع أنه (قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب)
بشين معجمة فموحدتين الأولى مشددة أي أنشد تغزلًا (وقال:
حصان) عفيفة تمتنع من الرجل (رزان) صاحبة وقار (ما تزن
بريبة) ما تتهم بها.
(وتصبح غرثى) جائعة (من لحوم الغوافل) لا تغتابهن ولأبي ذر
من دماء بدل من لحوم (قالت) عائشة تخاطب حسانًا: (لست
كذاك). بل تغتاب الغوافل قال مسروق (قلت) لها: (تدعين مثل
هذا يدخل عليك وقد أنزل الله) تعالى ({والذي تولى كبره
منهم}) وهذا مشكل إذ ظاهره أن المراد بقوله والذي تولى
كبره حسان والمعتمد أنه عبد الله بن أبي لكن في مستخرج أبي
نعيم وهو ممن تولى كبره قال في الفتح فهذه أخف أشكالًا
(فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟ وقالت: وقد كان يردّ عن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي يدفع
هجو الكفار فيهجوهم ويذب عنه وفي المغازي قال عروة: كانت
عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن الله يؤيد حسان
بروح القدس في شعره".
11 - باب [قَوْلِهِ تَعَالَى]: {إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ
آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. [النور:
19، 20] تَشِيعَ: تَظْهَرُ. {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو
الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِى
الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[النور: 22]
هذا (باب) بالتنوين في قوله: ({إن الذين يحبون}) يريدون
({أن تشيع}) أن تنتشر ({الفاحشة}) الزنا ({في الذين آمنوا
لهم عذاب أليم في الدنيا}) الحد ({والآخرة}) النار وظاهر
الآية يتناول كل من كان بهذه الصفة وإنما نزلت في قذف
عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ({والله
يعلم}) ما في الضمائر ({وأنتم لا تعلمون}) وهذا نهاية في
الزجر لأن من أحب إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك
المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلم ذلك منه ويعلم قدر
الجزاء عليه ({ولولا فضل الله عليكم ورحمته}) لعاجلكم
بالعقوبة فجواب لولا محذوف ({وأن الله رؤوف}) بعباده
({رحيم}) [النور: 19، 20] بهم فتاب على من تاب وطهر من طهر
مهم بالحد وسقط لأبي ذر قوله: ({في الذين آمنوا}) الخ وقال
بعد قوله الفاحشة الآية إلى قوله: ({رؤوف رحيم}).
(تشيع) أي (تظهر) قاله مجاهد وسقط هذا لغير أبي ذر.
({ولا يأتل}) ولأبي ذر وقوله ولا يأتل أي يفتعل من الآلية
وهي الحلف أي ولا يحلف ({أولو الفضل منكم والسعة أن
يؤتوا}) أي على أن لا يؤتوا ({أولي القربى والمساكين
والمهاجرين في سبيل الله}) يعني مسطحًا ولا تحذف في اليمين
كثيرًا قال الله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم}
{أن تبروا} يعني أن لا تبروا وقال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدًا. أي لا أبرح.
({وليعفوا وليصفحوا}) عمن خاض في أمر عائشة ({ألا تحبون أن
يغفر الله لكم}) يخاطب أبا بكر ({والله غفور رحيم})
[النور: 22] أي فإن الجزاء من جنس العمل فإذا غفرت يغفر لك
وإذا صفحت يصفح عنك وسقط لأبي ذر من قوله والمهاجرين إلى
آخر قوله: {أن يغفر الله لكم} وقال بعد قوله:
({والمساكين}) إلى قوله: {والله غفور رحيم}.
4757 - وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: لَمَّا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِي الَّذِي ذُكِرَ وَمَا
عَلِمْتُ بِهِ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيَّ خَطِيبًا فَتَشَهَّدَ فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ
قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ
أَبَنُوا أَهْلِي، وَايْمُ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى
أَهْلِي مِنْ سُوءٍ، وَأَبَنُوهُمْ بِمَنْ وَاللَّهِ مَا
عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَطُّ وَلاَ يَدْخُلُ
بَيْتِي قَطُّ إِلاَّ وَأَنَا حَاضِرٌ، وَلاَ غِبْتُ فِي
سَفَرٍ إِلاَّ غَابَ مَعِي». فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
فَقَالَ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ نَضْرِبَ
أَعْنَاقَهُمْ، وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْخَزْرَجِ،
وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ رَهْطِ ذَلِكَ
الرَّجُلِ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، أَمَا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ
كَانُوا مِنَ الأَوْسِ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ تُضْرَبَ
أَعْنَاقُهُمْ، حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ شَرٌّ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا عَلِمْتُ.
فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَرَجْتُ
لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ، فَعَثَرَتْ
وَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ أَيْ أُمِّ
تَسُبِّينَ ابْنَكِ؟ وَسَكَتَتْ. ثُمَّ عَثَرَتِ
الثَّانِيَةَ فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا:
تَسُبِّينَ ابْنَكِ؟ ثُمَّ عَثَرَتِ الثَّالِثَةَ،
فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ فَانْتَهَرْتُهَا، فَقَالَتْ:
وَاللَّهِ مَا أَسُبُّهُ إِلاَّ فِيكِ. فَقُلْتُ: فِي
أَيِّ شَأْنِي؟ قَالَتْ فَبَقَرَتْ لِي الْحَدِيثَ.
فَقُلْتُ: وَقَدْ كَانَ هَذَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَاللَّهِ،
فَرَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي كَأَنَّ الَّذِي خَرَجْتُ لَهُ
لاَ أَجِدُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلاَ كَثِيرًا. وَوُعِكْتُ
فَقُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: أَرْسِلْنِي إِلَى بَيْتِ أَبِي، فَأَرْسَلَ
مَعِي الْغُلاَمَ. فَدَخَلْتُ الدَّارَ فَوَجَدْتُ أُمَّ
رُومَانَ فِي السُّفْلِ وَأَبَا بَكْرٍ فَوْقَ الْبَيْتِ
يَقْرَأُ. فَقَالَتْ أُمِّي: مَا جَاءَ بِكِ يَا
بُنَيَّةُ؟ فَأَخْبَرْتُهَا وَذَكَرْتُ لَهَا الْحَدِيثَ،
وَإِذَا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مِثْلَ مَا بَلَغَ
مِنِّي. فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ خَفِّضِي عَلَيْكِ
الشَّأْنَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ
امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا
ضَرَائِرُ إِلاَّ حَسَدْنَهَا وَقِيلَ فِيهَا. وَإِذَا
هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مَا بَلَغَ مِنِّي. قُلْتُ:
وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ:
وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟
قَالَتْ: نَعَمْ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَاسْتَعْبَرْتُ وَبَكَيْتُ،
فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتِي وَهْوَ فَوْقَ الْبَيْتِ
يَقْرَأُ. فَنَزَلَ فَقَالَ لأُمِّي: مَا شَأْنُهَا؟
قَالَتْ: بَلَغَهَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهَا،
فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ أَيْ
بُنَيَّةُ إِلاَّ رَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ فَرَجَعْتُ.
وَلَقَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بَيْتِي فَسَأَلَ عَنِّي خَادِمَتِي فَقَالَتْ:
لاَ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْبًا إِلاَّ
أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ
فَتَأْكُلَ خَمِيرَهَا، أَوْ عَجِينَهَا. وَانْتَهَرَهَا
بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَسْقَطُوا
لَهَا بِهِ. فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا
عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى
تِبْرِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ.
وَبَلَغَ الأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي قِيلَ
لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ
كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُتِلَ
شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَتْ: وَأَصْبَحَ
أَبَوَايَ عِنْدِي، فَلَمْ يَزَالاَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ وَقَدِ
اكْتَنَفَنِي أَبَوَايَ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِى
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
«أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، إِنْ كُنْتِ قَارَفْتِ
سُوءًا أَوْ ظَلَمْتِ فَتُوبِي إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ
اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ». قَالَتْ:
وَقَدْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَهْيَ
جَالِسَةٌ بِالْبَابِ، فَقُلْتُ: أَلاَ تَسْتَحِي مِنْ
هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا. فَوَعَظَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَالْتَفَتُّ إِلَى أَبِي فَقُلْتُ: أَجِبْهُ، قَالَ:
فَمَاذَا أَقُولُ، فَالْتَفَتُّ إِلَى أُمِّي فَقُلْتُ:
أَجِيبِيهِ، فَقَالَتْ: أَقُولُ مَاذَا؟ فَلَمَّا لَمْ
يُجِيبَاهُ، تَشَهَّدْتُ فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَأَثْنَيْتُ
عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قُلْتُ: أَمَّا بَعْدُ
فَوَاللَّهِ لَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ،
وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَشْهَدُ إِنِّي لَصَادِقَةٌ مَا
ذَاكَ بِنَافِعِي عِنْدَكُمْ، لَقَدْ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ
وَأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُكُمْ وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي فَعَلْتُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ، لَتَقُولُنَّ
قَدْ بَاءَتْ بِهِ عَلَى نَفْسِهَا. وَإِنِّي وَاللَّهِ
مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا، وَالْتَمَسْتُ اسْمَ
يَعْقُوبَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ
حِينَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
عَلَى مَا تَصِفُونَ} وَأُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ سَاعَتِهِ،
فَسَكَتْنَا، فَرُفِعَ عَنْهُ، وَإِنِّي لأَتَبَيَّنُ
السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ وَهْوَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ
وَيَقُولُ: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، فَقَدْ أَنْزَلَ
اللَّهُ بَرَاءَتَكِ»، قَالَتْ: وَكُنْتُ أَشَدَّ مَا
كُنْتُ غَضَبًا، فَقَالَ لِي أَبَوَايَ: قُومِي إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلاَ
أَحْمَدُهُ وَلاَ أَحْمَدُكُمَا، وَلَكِنْ أَحْمَدُ
اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي لَقَدْ سَمِعْتُمُوهُ
فَمَا أَنْكَرْتُمُوهُ وَلاَ غَيَّرْتُمُوهُ. وَكَانَتْ
عَائِشَةُ تَقُولُ: أَمَّا زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ
فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِدِينِهَا فَلَمْ تَقُلْ إِلاَّ
خَيْرًا، وَأَمَّا أُخْتُهَا حَمْنَةُ فَهَلَكَتْ فِيمَنْ
هَلَكَ. وَكَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ
وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُبَيٍّ وَهْوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ
وَيَجْمَعُهُ، وَهْوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ
هُوَ وَحَمْنَةُ. قَالَتْ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لاَ
يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ
مِنْكُمْ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ
{وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ} يَعْنِي مِسْطَحًا إِلَى قَوْلِهِ:
{أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ
تَغْفِرَ لَنَا، وَعَادَ لَهُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ.
(وقال أبو أسامة) حماد بن أسامة مما وصله أحمد عنه بتمامه
(عن هشام بن عروة) أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة
بن الزبير بن العوّام (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها
(قالت: لمما ذكر من شأني) بضم الذال المعجمة مبنيًّا
للمفعول أي من أمري وحالي (الذي ذكر) بضم الذال المعجمة
أيضًا من الإفك (و) الحال أني (ما علمت به) وجواب لما قوله
(قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيّ)
بكسر الفاء وتشديد التحتية حال كونه (خطيبًا فتشهد فحمد
الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال):
(أما بعد أشيروا عليّ في أناس) يريد أهل الإفك (أبنوا)
بهمزة وموحدة مخففة مفتوحتين فنون
فواو وقد تمدّ الهمزة وللأصيلي مما حكاه عياض أبنوا بتشديد
الموحدة أي اتهموا (أهلي) وذكروهم بالسوء قال ثابت التأبين
ذكر الشيء وتتبعه قال الشاعر:
فرفع أصحابي المطي وأبنوا
أي ذكروها والتخفيف بمعناه لكن قال
(7/267)
النووي التخفيف أشهر وقال القاضي عياض:
وروي أنبوا بتقديم النون وتشديدها كذا قيده عبدوس بن محمد،
وكذا ذكره بعضهم عن الأصيلي. قال القاضي: وهو في كتابي
منقوط من فوق وتحت وعليه بخطي علامة الأصيلي ومعناه إن صح
لاموا ووبخوا وعندي أنه تصحيف لا وجه له ها هنا.
(وإيم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم) بالتخفيف
اتهموهم (بمن والله ما علمت عليه من سوء قط) يريد صفوان
(ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي إلا أنا بإسقاط الواو (ولا غبت) ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي ولا كنت (في سفر إلا غاب معي فقام سعد بن
معاذ) الأنصاري الأوسي المتوفى بسبب السهم الذي أصابه فقطع
منه الأكحل في غزوة الخندق سنة خمس كما عند ابن إسحاق.
وكانت هذه القصة في سنة خمس أيضًا كما هو الصحيح في النقل
عن موسى بن عقبة (فقال: ائذن لي يا رسول الله أن نضرب
أعناقهم) بنون الجمع والضمير لأهل الإفك وسقط لأبي ذر لفظ
لي (وقام رجل من بني الخزرج) هو سعد بن عبادة (وكانت أم
حسان بن ثابت) الفريعة بضم الفاء وفتح الراء وبالعين
المهملة بنت خالد بن حنيس بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن
ثعلبة بن الخزرج (من رهط ذلك الرجل فقال) لابن معاذ:
(كذبت) أي لا تقدر على قتله (أما) بالتخفيف (والله أن لو
كانوا) أي قائلوا الإفك (من الأوس ما أحببت أن تضرب
أعناقهم) تضرب بضم أوّله مبنيًّا للمفعول وأعناقهم رفع
نائب عن الفاعل وزاد في الرواية السابقة فتثاور الحيان
(حتى كاد أن يكون) ولأبي ذر كاد يكون (بين الأوس والخزرج
شرّ في المسجد) وفي الرواية السابقة حتى هموا أن يقتتلوا.
قالت عائشة: (وما علمت) بذلك (فلما كان مساء ذلك اليوم
خرجت لبعض حاجتي) للتبرز جهة المناصع (ومعي أم مسطح) وهي
ابنة أبي رهم (فعثرت) أي في مرطها (وقالت: تعس) بكسر العين
وتفتح (مسطح) تعني ابنها. قالت عائشة: (فقلت) أي لها: (أي
أُمّ تسبين ابنك؟) بحذف مرّة الاستفهام وفي الرواية
السابقة أتسبين رجلًا شهد بدرًا (وسكتت) أي أم مسطح (ثم
عثرت الثانية فقال: تعس مسطح، فقك لها: تسبين ابنك؟ ثم
عثرت الثالثة) ولأبي ذر فقلت لها أي أم تسبين ابنك فسكتت
ثم عثرت الثالثة (فقالت: تعس مسطح فانتهرتها فقالت: والله
ما أسبّه إلا فيك) أي إلا لأجلك (فقلت: في أي شأني قالت:
فبقرت) بالفاء والموحدة والقاف والراء المفتوحات آخره
فوقية (لي الحديث) قال ابن الأثير أي فتحته وكشفته (فقلت:
وقد كان هذا؟) وسقطت الواو لأبي ذر (قالت: نعم والله) قالت
عائشة (فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلًا
ولا كثيرًا) أي دهشت بحيث ما عرفت لأي أمر خرجت من البيت
من شدّة ما
عراني من الهم وكانت قد قضت حاجتها كما سبق (ووعكت) بضم
الواو الثانية وسكون الكاف أي صرت محمومة (فقلت) بالفاء
ولأبي ذر وقلت (لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أي لما دخل عليّ (أرسلني إلى بيت أبي فأرسل
معي الغلام) لم يسم (فدخلت الدار) بسكون اللام (فوجدت أم
رومان) تعني أمها قال الكرماني واسمها زينب (في السفل) من
البيت (وأبا بكر فوق البيت يقرأ فقالت أمي: ما جاء بك يا
بنية فأخبرتها) خبري (وذكرت لها الحديث) الذي قاله أهل
الإفك في شأني (وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما) ولأبي ذر مثل
الذي (بلغ مني فقالت: يا بنية) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي أي بنية (خفضي) بخاء معجمة مفتوحة وفاء مشدّدة
فضاد معجمة مكسورتين وللحموي والكشميهني خففي بفاء ثانية
بدل الضاد وفي نسخة خفي بكسر الخاء والفاء وإسقاط الثانية
ومعناها متقارب (عليك الشأن فإنه والله لقلما كانت امرأة
قط حسناء) صفة امرأة ولمسلم من رواية ابن ماهان حظية (عند
رجل يحبها لها ضرائر إلا حسدنها) بسكون الدال المهملة وفتح
النون (وقيل فيها) ما يشينها (وإذا هو) تعني الإفك (لم
يبلغ منها ما بلغ مني. قلت: وقد علم به
(7/268)
أبي؟ قالت: نعم. قلت ورسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قالت: نعم ورسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستعبرت) بسكون
الراء ولأبي ذر فاستعبرت بالفاء بدل الواو (وبكيت، فسمع
أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فنزل فقال لأمي: ما
شأنها؟ قالت: بلغها الذي ذكر من شأنها) بضم ذال ذكر وكسر
كافها (ففاضت عيناه. قال) ولأبي ذر فقال: (أقسمت عليك أي
بنية) ولأبي ذر عن الكشميهني يا بنية (إلا رجعت إلى بيتك
فرجعت) بسكون العين (ولقد جاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيتي فسأل عني خادمتي) سبق في الرواية
التي قبل أنها بريرة مع ما فيه من البحث ولأبي ذر خادمي
بلفظ التذكير وهو يطلق على الذكر والأنثى فقال هل رأيت من
شيء يريبك على عائشة (فقالت: لا والله ما علمت عليها عيبًا
إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو
عجينها) بالشك من الراوي (وانتهرها بعض أصحابه فقال: أصدقي
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفي رواية
أبي أويس عند الطبراني أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال لعلي شأنك بالجارية فسألها عني وتوعدها فلم
تخبره إلا بخير، ثم ضربها وسألها فقالت: والله ما علمت على
عامّة سوءًا (حتى أسقطوا لها به) من قولهم أسقط الرجل إذا
أتى بكلام ساقط والضمير في قوله به للحديث أو للرجل الذي
اتهموها به وقال ابن الجوزي: صرحوا لها بالأمر، وقيل:
جاؤوا في خطابها بسقط من القول بسبب ذلك الأمر وضمير لها
عائد على الجارية وبه عائد على ما تقدم من انتهارها
وتهديدها وإلى هذا التأويل كان يذهب أبو مروان بن سراج،
وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون من قولهم سقط إلى الخبر إذا
علمه فالمعنى ذكروا لها الحديث وشرحوه (فقالت) أي الخادمة
(سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على
تبر الذهب الأحمر) بالغت في نفي العيب كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
البيت.
(وبلغ الأمر) أي أمر الإفك (إلى ذلك الرجل) صفوان ولأبي ذر
وبلغ الأمر ذلك الرجل (الذي قيل له) أي عنه من الإفك ما
قيل فاللام هنا بمعنى عن كهي في قوله تعالى: {وقال الذين
كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه} [الأحقاف:
11] أي عن الذين آمنوا كما قاله ابن الحاجب أو بمعنى في أي
قيل فيه ما قيل فهي كقوله: {يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر:
24] أي في حياتي (فقال: سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى
قط) بفتح الكاف والنون أي ثوبها يريد ما جامعتها في حرام
أو كان حصورًا (قالت عائشة: فقتل) صفوان (شهيدًا في سبيل
الله) في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في خلافة عمر كما قاله
ابن إسحاق (قالت: وأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل عليّ
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد صلى
العصر) في المسجد (ثم دخل) علي (وقد اكتنفني أبواي عن
يميني وعن شمالي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال):
(أما بعد يا عائشة إن كنت قارفت سوءًا) بالقاف والفاء أي
كسبته (أو ظلمت) نفسك (فتوبي الى الله) وفي رواية أي أويس
إنما أنت من بنات آدم إن كنت أخطأت فتوبي (فإن الله يقبل
التوبة عن عباده قالت: وقد جاءت امرأة من الأنصار) لم تسم
(فهي جالسة بالباب فقلت) له عليه الصلاة والسلام: (ألا
تستحي) بكسر الحاء ولأبي ذر ألا تستحيي بسكونها وزيادة
تحتية (من هذه المرأة) الأنصارية (أن تذكر شيئًا) على حسب
فهمها لا يليق بجلالة حرمك (فوعظ رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). قالت عائشة: (فالتفت إلى
أبي فقلت أجبه) عليه السلام عني، ولأبي ذر، فقلت له أجبه
(قال: فماذا أقول؟ فالتفت إلى أمي فقلت: أجيبيه) عني عليه
السلام (فقالت: أقول ماذا؟) قال ابن مالك فيه شاهد على أن
ما الاستفهامية إذا ركبت مع إذا لا يجب تصديرها فيعمل فيها
ما قبلها رفعًا ونصبًا (فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله
تعالى وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت: أما بعد فوالله لئن
قلت لكم أني لم أفعل) أي ما قيل (والله عز وجل يشهد أني
لصادقة) فيما أقول من براءتي (ما ذاك بنافعي عندكم لقد)
ولأبي ذر ولقد (تكلمتم به
(7/269)
وأشربته) بضم الهمزة مبنيًا للمفعول
والضمير المنصوب يرجع إلى الإفك (قلوبكم) رفع بأشربت (وإن
قلت إني فعلت) ولأبي ذر قد فعلت (والله يعلم أني لم أفعل)
ذلك (لتقولن قد باءت) أقرت (به على نفسها وإني والله ما
أجد لي ولكم مثلًا والتمست) بسكون السين أي طلبت (اسم
يعقوب) عليه السلام (فلم أقدر عليه إلا أبا يوسف حين قال:
({فصبر جميل}) أجمل وهو الذي لا شكوى فيه إلى الخلق
({والله المستعان على ما تصفون}) أي على احتمال ما تصفونه
(وأُنزِلَ على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من ساعته فسكتنا فرفع عنه) الوحي (وإني لأتبين
السرور في وجهه وهو يمسح جبينه) من العرق (ويقول):
(أبشري) بقطع الهمزة (يا عائشة فقد أنزل الله براءتك) وفي
رواية فليح يا عائشة احمدي الله فقد برأك (قالت: وكنت أشد)
بالنصب خبران (ما كنت غضبًا) أي وكنت حين أخبر -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ببراءتي أقوى ما كنت غضبًا من
غضبي قبل ذلك قاله العيني (فقال لي أبواي: قومي إليه.
فقلت: والله) ولأبي ذر لا والله (لا أقوم إليه ولا أحمده
ولا أحمدكما، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي لقد
سمعتموه) أي الإفك (فما أنكرتموه ولا غيرتموه).
وفي رواية الأسود عن عائشة: وأخذ رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيدي فانتزعت يدي منه فنهرني
أبو
بكر وإنما فعلت ذلك لما خامرها من الغضب من كونهم لم
يبادروا بتكذيب من قال فيها ذلك مع تحققهم حسن سيرتها
وطهارتها. وقال ابن الجوزي: إنما قالت ذلك إدلالًا كما يدل
الحبيب على حبيبه، ويحتمل أن تكون مع ذلك تمسكت بظاهر قوله
عليه السلام لها "احمدي الله" ففهمت منه أمرها بإفراد الله
بالحمد، فقالت ذلك وأن ما أضافته إليه من الألفاظ المذكورة
كان من باعث الغضب قاله في الفتح.
(وكانت عائشة تقول: أما زينب ابنة جحش) أم المؤمنين
(فعصمها الله) أي حفظها (بدينها فلم تقل) أي فيّ (إلا
خيرًا، وأما أختها حمنة فهلكت فيمن هلك) أي حدّت فيمن حد
لخوضها في حديث الإفك لتخفض منزلة عائشة وترفع منزلة أختها
زينب (وكان الذي يتكلم فيه) أي في الإفك ولأبي ذر به (مسطح
وحسان بن ثابت والمنافق عبد الله بن أبي، وهو الذي كان
يستوشيه) أي يطلب إذاعته ليزيده ويريبه (ويجمعه وهو الذي
تولى كبره منهم هو وحمنة. قالت) عائشة: (فحلف أبو بكر أن
لا ينفع مسطحًا) ابن خالته (بنافعة أبدًا) بعد الذي قال عن
عائشة (فأنزل الله عز وجل: ({ولا يأتل أولو الفضل منكم})
إلى آخر الآية يعني: أبا بكر ({والسعة أن يؤتوا أولي
القربى والمساكين}) يعني مسطحًا إلى قوله: ({ألا تحبون أن
يغفر الله لكم والله غفور رحيم} حتى قال أبو بكر: بلى
والله يا ربنا إنّا لنحب أن تغفر لنا وعاد له) لمسطح (بما
كان يصنع) له قبل من النفقة، زاد في الباب السابق وقال:
والله لا أنزعها منه أبدًا وسقط لفظ حتى لأبي ذر.
(لطيفة).
ذكر أنه كان للشيخ إسماعيل بن المقري اليمني مؤلف عنوان
الشرف وغيره ولد يجري عليه نفقة في كل يوم فقطعها لشيء
بلغه عنه فكتب لأبيه رقعة فيها:
لا تقطعن عادة برّ ولا ... تجعل عقاب المرء في رزقه
واعف عن الذنب فإن الذي ... نرجوه عفو الله عن خلقه
وإن بدا من صاحب زلة ... فاستره بالإغضاء واستبقه
فإن قدر الذنب من مسطح ... يحط قدر النجم من أفقه
وقد بدا منه الذي قد بدا ... وعوتب الصديق في حقه
فكتب إليه أبوه:
قد يمنع المضطر من ميتة ... إذا عصى بالسير في طرقه
لأنه يقوى على توبة ... توجب إيصالًا إلى رزقه
لو لم يتب مسطح من ذنبه ... ما عوتب الصديق في حقه
(7/270)
13 - باب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]
(باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وليضربن بخمرهن على
جيوبهن}) [النور: 31] يعني يلقين فلذلك عداه بعلى والخمر
جمع خمار وفي القلة يجمع على أخمرة والجيب ما في طوق
القميص يبدو منه بعض الجسد.
4758 - وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدَّثَنَا أَبِي
عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ
نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ
اللَّهُ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ} شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ.
[الحديث 4758 - طرفه في: 4759].
(قال أحمد بن شبيب) بفتح المعجمة وكسر الموحدة الأولى
بينهما تحتية ساكنة شيخ المؤلّف مما وصله ابن المنذر قال:
(حدّثنا أبي) شبيب بن سعيد (عن يونس) بن يزيد الأيلي أنه
قال: (قال ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عروة) بن
الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: يرحم الله
نساء المهاجرات الأول) بضم الهمزة وفتح الواو أي السابقات
(لما أنزل الله) تعالى: ({وليضربن بخمرهن على جيوبهن})
وجواب لما قوله: (شققن مروطهن) جمع مرط بكسر الميم أي
أزرهن (فاختمرن به) أي بما شققن ولأبي الوقت بها أي الأزر
المشقوقة وكن في الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن فتنكشف
نحورهن وقلائدهن من جيوبهن، فأمرن أن يضربنهن على الجيوب
ليسترن أعناقهن ونحورهن وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها
وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر وهو التقنع.
4759 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ
عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله
عنها- كَانَتْ تَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}
أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فَشَقَّقْنَهَا مِنْ قِبَلِ
الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
إبراهيم بن نافع) المخزومي المكي (عن الحسن بن مسلم) واسم
جده يناق بفتح التحتية وتشديد النون وبعد الألف قاف المكي
وثبت ابن مسلم لأبي ذر (عن صفية بنت شيبة) بن عثمان
القرشية المكية (أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تقول لما
نزلت هذه الآية: ({وليضربن بخمرهن على جيوبهن}) أخذن
(أزرهن) وللنسائي من رواية ابن المبارك عن إبراهيم بلفظ
أخذ النساء وللحاكم أخذ نساء الأنصار أزرهن (فشققنها من
قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهة (الحواشي فاختمرن
بها). واستشكل ذكر نساء المهاجرات في الأولى ونساء الأنصار
في رواية الحاكم وغيره. وأجيب: باحتمال أن نساء الأنصار
بادرن إلى ذلك عند نزول الآية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[25] سورة الْفُرْقَانِ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ {هَبَاءً مَنْثُورًا} مَا تَسْفِي
بِهِ الرِّيحُ. {مَدَّ الظِّلَّ}: مَا بَيْنَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. {سَاكِنًا} دَائِمًا.
{عَلَيْهِ دَلِيلًا}: طُلُوعُ الشَّمْسِ {خِلْفَةً}: مَنْ
فَاتَهُ مِنَ اللَّيْلِ عَمَلٌ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ،
أَوْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} فِي
طَاعَةِ اللَّهِ، وَمَا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ
الْمُؤْمِنِ أَنْ يَرَى حَبِيبَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ثُبُورًا}: وَيْلًا. وَقَالَ
غَيْرُهُ: {السَّعِيرُ}، مُذَكَّرٌ، وَالتَّسَعُّرُ
وَالاِضْطِرَامُ: التَّوَقُّدُ الشَّدِيدُ. {تُمْلَى
عَلَيْهِ} تُقْرَأُ عَلَيْهِ، مِنْ أَمْلَيْتُ
وَأَمْلَلْتُ. {الرَّسُّ}: الْمَعْدِنُ، جَمْعُهُ رِسَاسٌ.
{مَا يَعْبَأُ} يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِهِ شَيْئًا: لاَ
يُعْتَدُّ بِهِ. {غَرَامًا}: هَلاَكًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
{وَعَتَوْا} طَغَوْا. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ:
{عَاتِيَةٍ}: عَتَتْ عَنِ الْخُزَّانِ.
([25] سورة الفرقان)
مكية وآيها سبع وسبعون آية والفرقان الفارق بين الحلال
والحرام الذي جمعت منافعه وعمت فوائده.
(بسم الله الرحمن الرحيم) ثبتت البسملة لأبي ذر.
(قال) ولأبي ذر وقال (ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما
وصله ابن جرير في قوله: ({هباء منثورًا}) هو (ما تسفي به
الريح). وتذريه من التراب والهباء والهبوة التراب الدتيق
قاله ابن عرفة. وقال الخليل والزجاج: هو مثل الغبار الداخل
في الكوة يتراءى مع ضوء الشمس فلا يمس بالأيدي ولا يرى في
الظل ومنثورًا صفته شبه به عملهم المحيط في حقارته وعدم
نفعه ثم بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكن نظمه فجيء
بهذه الصفة لتفيد ذلك. وقال الزمخشري: أو مفعول ثالث
لجعلناه لم جعلناه جامعًا لحقارة الهباء والتناثر كقوله:
{كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65] أي جامعين للمسخ والخسء
وسقط للأصيلي لفظ به من قوله تسفي به الريح.
({مد الظل}) في قوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}
[الفرقان: 45] قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم عنه هو
(ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) قال في الأنوار وهو
أطيب الأحوال فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع وتسد النظر
وشعاع الشمس يسخن الجوّ ويبهر البصر ولذلك وصف به الجنة
فقال {وظل ممدود}. اهـ.
والظل عبارة عن عدم الضوء مما من شأنه أن يضيء وجعله
ممدودًا لأنه ظل لا شمس معه واعترضه ابن عطية بأنه خصوصية
لهذا الوقت بذلك بل من قبل غروب الشمس مدة يسيرة يبقى فيها
ظل ممدود مع أنه في نهار وفي سائر أوقات النهار ظلال
متقطعة. وأجيب: بأنه ذكر تفسير الخصوص الآية لأن في بقيتها
ثم جعلنا الشمس عليه دليلًا فتعين الوقت الذي بعد طلوع
الفجر
واعترض ابن عطية أيضًا بأن الظل إنما يقال لما يقع
بالنهار، والظل الموجود في هذا الوقت من بقايا الليل.
وأجيب: بالحمل على المجاز والرؤية هنا بصرية أو قلبية
واختاره الزجاج
(7/271)
والمعنى ألم تعلم والخطاب وإن كان ظاهره
للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو عام في
المعنى لأن الغرض بيان نعم الله بالظل وجميع المكلفين
مشتركون في تنبيههم لذلك.
({ساكنًا}) يريد قوله: {ولو شاء لجعله ساكنًا} [الفرقان:
45] قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم: أي (دائمًا) أي
ثابتًا لا يزول ولا تذهبه الشمس قال أبو عبيدة الظل ما
نسخته الشمس وهو بالغداة والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد
الزوال وسمي فيئًا لأنه فاء من الجانب الغربي إلى الشرقي.
({عليه دليلًا}) قال ابن عباس: فيما وصله ابن أبي حاتم
أيضًا أي (طلوع الشمس) دليل حصول الظل فلو لم تكن الشمس
لما عرف الظل ولولا النور ما عرف الظلمة والأشياء تعرف
بأضدادها.
({خلفة}) في قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار
خلفة} [الفرقان: 62] قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم:
(من فاته من الليل عمل أدركه بالنهار أو فاته بالنهار
أدركه بالليل). وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: فاتتني
الصلاة الليلة. فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن
الله تعالى جعل الليل والنهار خلفة أو يخلف أحدهما الآخر
يتعاقبان إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك وخلفة
مفعول ثان لجعل أو حال.
(وقال الحسن) البصري فيما وصله سعيد بن منصور في قوله
تعالى: ({هب لنا من أزواجنا}) [الفرقان: 74] وزاد أبو ذر
وذرياتنا قرة أعين أي (في طاعة الله) ولأبي ذر والأصيلي:
من طاعة الله (وما شيء أقر لعين المؤمن أن يرى) وللأصيلي
لعين مؤمن وله ولأبي ذر من أن يرى (حبيبه في طاعة الله)
قال في الأنوار فإن المؤمن إذا أشركه أهله في طاعة الله سر
بهم قلبه وقربهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدين
وتوقع لحوقهم به في الجنة ومن ابتدائية أو بيانية كقولك
رأيت منك أسدًا اهـ والمراد قرة أعين لهم في الدين لا في
الدنيا من المال والجمال قال الزجاج يقال أقر الله عينك أي
صادف فؤادك ما تحبه وقال المفضل برد دمعتها وهي التي تكون
مع السرور ودمعة الحزن حارة.
(وقال ابن عباس) فيما وصله ابن المنذر مفسرًا (ثبورًا) في
قوله: {دعوا هنالك ثبورًا} [الفرقان: 13] أي يقولون (ويلا)
بواو مفتوحة فتحتية ساكنة وقال الضحاك هلاكًا فيقولون
واثبوراه تعال فهذا حينك فيقال لهم لا تدعوا اليوم ثبورًا
واحدًا وادعوا ثبورًا كثيرًا أي هلاككم أكثر من أن تدعوا
مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة فإن عذابكم أنواع كثيرة كل
نوع منها ثبور لشدته أو لأنه يتجدد لقوله تعالى: {كلما
نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب}
[النساء: 56] أو لأنه لا ينقطع فهو في كل وقت ثبور.
(وقال غيره) غير ابن عباس مفسرًا لقوله تعالى: {وأعتدنا
لمن كذب بالساعة سعيرًا} [الفرقان: 11] (السعير مذكر)
لفظًا أو من حيث إن فعيلًا يطلق على المذكر والمؤنث
(والتسعر والاضطرار) معناهما (التوقد الشديد) وعن الحسن
السعير اسم من أسماء جهنم.
(تملى عليه) في قوله: {وقالوا أساطير الأوّلين اكتتبها فهي
تملى عليه} [الفرقان: 5] أي (تقرأ عليه من أمليت) بتحتية
ساكنة بعد اللام (وأمللت) بلام بدل التحتية والمعنى أن هذا
القرآن ليس من الله إنما سطره الأوّلون فهي تقرأ عليه
ليحفظها.
({الرس}) في قوله تعالى: {وعادًا وثمود وأصحاب الرس}
[الفرقان: 38] أي (المعدن جمعه) بسكون الميم ولأبي ذر
جميعه بكسرها ثم تحتية (رساس) بكسر الراء قاله أبو عبيدة
وقيل أصحاب الرس ثمود لأن الرس البئر التي لم تطو وثمود
أصحاب آبار وقيل الرس نهر بالمشرق وكانت قرى أصحاب الرس
على شاطئ النهر فبعث الله إليهم نبيًّا من أولاد يهوذا بن
يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانًا فشكى إلى الله منهم فحفروا
بئرًا وأرسلوه فيها وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم
وهو يقول سيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف ركني وقلة
حيلتي فأرسل الله عليهم ريحًا عاصفة شديدة الحرّ وصارت
الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد وأظلتهم سحابة سوداء فذابت
أبدانهم كما يذوب الرصاص وقيل غير ذلك.
({ما يعبأ}) ولأبي ذر: ما يعبؤوا. قال أبو عبيدة: (يقال ما
عبأت به شيئًا لا يعتد به) وللأصيلي أي لم تعتد به فوجوده
وعدمه
(7/272)
سواء وقال الزجاج معناه لا وزن لكم عندي.
({غرامًا}) في قوله تعالى: {إن عذابها كان غرامًا}
[الفرقان: 65] قال أبو عبيدة (هلاكًا) وإلزامًا لهم وعن
الحسن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم.
(وقال مجاهد) فيما أخرجه ورقاء في تفسيره ({وعتوا}) أي
(طغوا) وعتوّهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به.
(وقال ابن عيينة) سفيان في قوله تعالى بسورة الحاقة مما
ذكره المؤلّف استطرادًا على عادته في مثله ({عاتية}) من
قوله: {فأهلكوا بريح صرصر عاتية} [الحاقة: 6] (عتت عن
الخزان) الذين هم على الريح فخرجت بلا كيل ولا وزن وفي
نسخة وقال ابن عباس بدل ابن عيينة ووقع في هذه التفاسير
تقديم وتأخير في بعض النسخ.
1 - باب قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى
وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا
وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34]
(باب قوله) عز وجل: ({الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم})
أي مقلوبين أو مسحوبين إليها والموصول خبر مبتدأ محذوف أي
هم الذين أو نصب على الذم أو رفع بالابتداء
وخبره الجملة من قوله: ({أولئك شر مكانًا}) منزلًا ومصيرًا
من أهل الجنة ({وأضل سبيلًا}) [الفرقان: 34] وأخطأ طريقًا
ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة وسقط
لأبي ذر أولئك الخ وقال بعد إلى جهنم الآية.
4760 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ
حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا
نَبِىَّ اللَّهِ، يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ
عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ
يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالَ
قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا. [الحديث 4760 - طرفه
في: 6534].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
يونس بن محمد البغدادي) أبو محمد المؤدب قال: (حدّثنا
شيبان) بن عبد الرحمن النحوي (عن قتادة) بن دعامة أنه قال:
(حدّثنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رجلًا) لم يسم
(قال: يا نبي الله يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة)؟
استفهام حذفت منه الأداة، وللحاكم من وجه آخر عن أنس كيف
يحشر أهل النار على وجوههم (قال):
(أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا) بالنصب
ولأبي ذر بالرفع (على أن يمشيه) بضم التحتية وسكون الميم
(على وجهه يوم القيامة) وظاهره أن المراد مشيه على وجهه
حقيقة فلذلك استغربوه حتى سألوا عنه (قال قتادة) بن دعامة
بالإسناد المذكور (بلى وعزة ربنا) أنه لقادر على ذلك قاله
تصديقًا لقوله أليس وحكمة حشره على وجهه معاقبته على تركه
السجود فى الدنيا إظهارًا لهوانة وخساسته بحيث صار وجهه
مكان يديه ورجليه في التوقي عن المؤذيات.
وفي حديث أبي هريرة المروي عند أحمد قالوا: يا رسول الله
وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إن الذي أمشاهم على أرجلهم
قادر أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب
وشوك".
وستكون لنا عودة إن شاء الله تعالى إلى بقية مباحث هذا
الحديث في كتاب الرقاق بعون الله.
2 - باب قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ
يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}.
الْعُقُوبَةَ [الفرقان: 68]
(باب قوله) جل وعلا: ({والذين لا يدعون مع الله إلهًا
آخر}) أي لا يعبدون غيره ({ولا يقتلون النفس التي حرم الله
إلا بالحق ولا يزنون}) يجوز أن تتعلق الباء في قوله:
{بالحق} بنفس {يقتلون} أي لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا
بسبب الحق وأن تتعلق بمحذوف على أنها صفة للمصدر أي قتلًا
ملتبسًا بالحق أو على أنها حال أي إلا ملتبسين بالحق.
فإن قلت: من حل قتله لا يدخل في النفس المحرمة فكيف يصح
هذا الاستثناء؟ أجيب: بأن المقتضي لحرمة القتل قائم أبدًا
وجواز القتل إنما ثبت بمعارض فقوله: {حرم الله} إشارة إلى
المقتضي، وقوله: {إلا بالحق} إشارة إلى المعارض والسبب
المبيح للقتل هو الردّة والزنا بعد الإحصان وقتل النفس
المحرمة.
({ومن يفعل ذلك}) إشارة إلى جميع ما تقدم لأنه بمعنى ما
ذكر فلذلك وحد ({يلق أثامًا}) [الفرقان: 68] (العقوبة)
قال:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقًا والعقوق له آثام
أي: عقوبة، وقيل: هو الإثم نفسه أي يلق جزاء إثم فأطلق
الإثم على جزائه أو الآثام اسم من أسماء جهنم أو واد أو
بئر فيها ويلق جزم بحذف الألف جزاء الشرط، وسقط لأبي ذر
قوله: ({التي حرم الله}) إلى آخر {ومن يفعل ذلك} وقال بعد
قوله: {النفس} الآية. وسقط للأصيلي {ولا يزنون} إلى آخر
قوله العقوبة.
4761 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ
أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: وَحَدَّثَنِي وَاصِلٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ أَوْ
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟
قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهْوَ خَلَقَكَ».
قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ
وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ
أَيٌّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ».
قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن سفيان) الثوري أنه (قال: حدّثني)
بالإفراد (منصور) هو ابن المعتمر (وسليمان) هو الأعمش (عن
أبي وائل)
(7/273)
شقيق بن سلمة (عن أبي ميسرة) ضد الميمنة
عمرو بن شرحبيل الهمداني (عن عبد الله) يعني ابن مسعود
(قال) سفيان الثوري (وحدّثني) بالإفراد (واصل) هو ابن حيان
بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية وبعد الألف نون الأسدي
الكوفي من طبقة الأعمش (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد
الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) فأسقط سفيان في هذه ما
أثبته بين أبي وائل وابن مسعود في رواية منصور والأعمش وهو
أبو ميسرة وهو الصواب (قال): أي ابن مسعود (سألت أو سئل
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) شك الراوي
(أي الذنب عند الله أكبر؟) ولمسلم: أعظم؟ (قال):
(أن تجعل لله ندًّا) بكسر النون أي مثلًا (وهو خلقك) فوجود
الخلق يدل على الخالق واستقامة الخلق تدل على توحيده إذ لو
كان إلهين لم يكن على الاستقامة (قلت: ثم أي؟) بالتشديد
والتنوين وفيه كلام سبق في أوّل البقرة وغيرها (قال: ثم أن
تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) بخلًا مع الوجدان أو إيثارًا
لنفسه عليه عند الفقد ولا اعتبار بمفهومه فلا يقال التقييد
بخشية الإطعام مبيح
لأنه خرج مخرج الغالب لأنهم كانوا يقتلونهم لأجل ذلك (قلت:
ثم أيّ؟ قال: أن تزاني) ولغير أبي ذر ثم أن تزاني (بحليلة
جارك) بفتح الحاء المهملة وكسر اللام الأولى أي زوجته
لأنها تحل له فهي فعيلة بمعنى فاعلة أو من الحلول لأنها
تحل معه ويحل معها وإنما كان ذلك لأنه زنا وإبطال لما أوصى
الله به من حفظ حقوق الجيران، وقال في التنقيح: تزاني
تفاعل وهو يقتضي أن يكون من الجانبين. قال في المصابيح:
لعله نبه به على شدة قبح الزنا إذا كان منه لا منها بأن
يغشاها نائمة أو مكرهة فإنه إذا كان زناه بها مع المشاركة
منها له والطواعية كبيرًا كان زناه بدون ذلك أكبر وأقبح من
باب أولى (قال): أي ابن مسعود (ونزلت هذه الآية تصديقًا
لقول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
{والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي
حرّم الله إلا بالحق}) وزاد أبو ذر {ولا يزنون}.
وهذا الحديث سبق في البقرة ويأتي إن شاء الله تعالى في
التوحيد والأدب والمحاربين.
4762 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ
سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ: هَلْ لِمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَرَأْتُ
عَلَيْهِ {وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] فَقَالَ سَعِيدٌ
قَرَأْتُهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتَهَا
عَلَيَّ فَقَالَ: هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ
مَدَنِيَّةٌ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) الفراء الرازي الصغير
قال: (أخبرنا هشام بن يوسف) الصنعاني أبو عبد الرحمن
القاضي (أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبرهم
قال: أخبرني) بالإفراد (القاسم بن أبي بزة) بفتح الموحدة
وتشديد الزاي واسم أبي بزة نافع بن يسار تابعي صغير مكي
وهو والد البزي المقري راوي ابن كثير وليس للقاسم في
الجامع إلا هذا الحديث (أنه سأل سعيد بن جبير هل لمن قتل
مؤمنًا متعمدًا من توبة؟) زاد في رواية منصور عن سعيد في
آخر هذا الباب قال: لا توبة له (فقرأت عليه {ولا يقتلون})
ولأبي ذر: والذين يقتلون ({النفس التي حرم الله إلا
بالحق}) واعترض بعضهم على رواية أبي ذر من جهة وقوع
التلاوة على غير ما هي عليه. وأجاب في المصابيح: بأن
المعنى فقرأت عليه آية: الذين لا يقتلون النفس فحذف المضاف
وأقام المضاف إليه مقامه وحينئذ لم يلزم كونه غير التلاوة
لأنه لم يحكها نصًّا بل أشار إليها. (فقال سعيد): يعني ابن
جبير للقاسم بن أبي بزة (قرأتها) يعني الآية (على ابن عباس
كما قرأتها عليّ فقال: هذه) الآية (مكية نسختها) ولأبي ذر
يعني نسختها (آية مدنية) والذي في اليونينية مدينية
بتحتيتين بينهما نون مكسورة يعني قوله تعالى: {ومن يقتل
مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} [النساء: 93] (التي في سورة
النساء) إذ ليس فيها استثناء التائب وقالوا: نزلت الغلظة
بعد اللينة بمدّة يسيرة، وعند ابن مردويه من طريق خارجة بن
زيد بن ثابت عن أبيه قال: نزلت سورة النساء بعد صورة
الفرقان بستة أشهر، وقول ابن عباس هذا محمول على الزجر
والتغليظ، وإلاّ فكل ذنب ممحوّ بالتوبة.
4763 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: اخْتَلَفَ
أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ، فَرَحَلْتُ
فِيهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي آخِرِ
مَا نَزَلَ، وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن
بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة أبو بكر العبدي بندار
قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن المغيرة بن النعمان) النخعي الكوفي
(7/274)
(عن سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم الكوفي
أنه (قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن) أي متعمدًا هل
تقبل التوبة منه؟ (فرحلت فيه) بالراء والحاء المهملتين
(إلى ابن عباس) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فدخلت
بالدال والخاء المعجمة أي بعد أن رحلت إلى ابن عباس فسألته
عن ذلك (فقال: نزلت في آخر ما نزل) أي هذه الآية: ({ومن
يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} [النساء: 93] (ولم
ينسخها شيء).
وهذا الحديث قد سبق في سورة النساء.
4764 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
مَنْصُورٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ سَأَلْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قَالَ: لاَ تَوْبَةَ لَهُ. وَعَنْ
قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ.
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (حدّثنا منصور) هو ابن المعتمر ولأبي ذر عن
منصور (عن سعيد بن جبير سألت) ولأبي ذر: قال سألت (ابن
عباس -رضي الله عنهما- عن قوله تعالى: {فجزاؤه جهنم}) في
الرواية الآتية عن قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا
فجزاؤه جهنم خالدًا فيها} (قال: لا توبة له) حملوه على
التغليظ كما مرّ.
وحديث الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا ثم أتى على
تمام المائة إلى راهب فقال: لا توبة لك فقتله فأكمل به
مائة ثم جاء آخر فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة
المشهور قد يحتج به لقبولها لأنه إذا ثبت ذلك لمن قبل هذه
الأمة فمثله لهم أولى لما خفف الله عنهم من الأثقال التي
كانت على من قبلهم (وعن قوله جل ذكره: {لا يدعون مع الله
إلهًا آخر}) قال: (كانت هذه) الآية (في الجاهلية) مشركي
أهل مكة.
3 - باب قَوْلِهِ: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69]
قوله: ({يضاعف}) ولأبي ذر باب بالتنوين قوله يضاعف ({له
العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا}) [الفرقان: 69] نصب
على الحال وهو اسم مفعول من أهانه يهينه أي أذله وأذاقه
الهوان ويضاعف ويخلد بالجزم فيهما بدلًا من يلق بدل اشتمال
كقوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبًا جزلًا ونارًا
تأججا
فأبدل من الشرط كما أبدل هنا من الجزاء وقرأ بالرفع ابن
عامر وشعبة على الاستئناف كأنه جواب ما الآثام ويخلد عطفًا
عليه.
4765 - حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا
شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبْزَى سُئِلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]
وَقَوْلِهِ: {لاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} -حَتَّى بَلَغَ- {إِلاَّ مَنْ
تَابَ} [الفرقان: 68] فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ قَالَ: أَهْلُ مَكَّةَ فَقَدْ عَدَلْنَا
بِاللَّهِ، وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا
صَالِحًا} -إِلَى قَوْلِهِ- {غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:
70].
وبه قال: (حدّثنا سعد بن حفص) بسكون العين الطلحي من ولد
طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي قال: (حدّثنا شيبان) بن
عبد الرحمن النحوي (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن سعيد بن
جبير) أنه (قال: قال ابن أبزى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة
وفتح الزاي مقصورًا اسمه عبد الرحمن من صغار الصحابة (سئل)
بضم السين مبنيًّا للمفعول (ابن عباس) رفع نائب عن الفاعل
وللأصيلي سأل ابن عباس فعلًا ماضيًا كذا في الفرع كأصله
وقال الحافظ ابن حجر: سل بصيغة الأمر وللأصيلي وعزا الأولى
لأبي ذر والنسفيّ وقال: إن مقتضاها أنه من رواية سعيد بن
جبير عن ابن أبزى عن ابن عباس وأن المعتمد رواية الأصيلي
بصيغة الأمر وأنه يدل عليه قوله بعد سياق الآيتين فسألته
فإنه واضح في جواب قوله سل (عن قوله تعالى) في سورة النساء
({ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم}) زاد الأصيلي
خالدًا فيها (وقوله: {ولا يقتلون}) ولأبي ذر والأصيلي
{والذين لا يقتلون} ({النفس التي حرم الله إلا بالحق} -حتى
بلغ- {إلا من تاب وآمن}) فسألته فقال: لما نزلت (قال):
ولأبي الوقت فقال (أهل مكة فقد عدلنا بالله) بإسكان اللام
أي أشركنا به وجعلنا له مثلًا (وقتلنا) ولأبي ذر وقد قتلنا
(النفس التي حرم الله إلا بالحق) سقط لأبي ذر إلا بالحق
(وآتينا الفواحش فأنزل الله {إلا من تاب وآمن وعمل عملًا
صالحًا} -إلى قوله- {غفورًا رحيمًا}) فيه قبول توبة
القاتل.
4 - باب: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا
صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:
70]
هذا (باب) بالتنوين في قوله: ({إلا من تاب وآمن وعمل عملًا
صالحًا}) الاستثناء متصل أو منقطع، ورجحه أبو حيان بأن
المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب فيصير
التقدير إلا من تاب فلا يضاعف له العذاب ولا يلزم من
انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف،
فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعًا أي لكن من تاب وآمن
وإذا كان كذلك فلا يلقى عذابًا البتة، وتعقبه تلميذه
السمين فقال: الظاهر قول الجمهور أنه متصل، وأما ما قاله
فلا يلزم إذ المقصود الإخبار بأن من فعل كذا فإنه يحل به
ما ذكر إلا أن يتوب، وأما إصابة أصل العذاب وعدمها فلا
تعرض له
(7/275)
في الآية ({فأولئك يبدل الله سيئاتهم
حسنات})، سيئاتهم مفعول ثان للتبديل وهو المقيد بحرف الجر
وحذف لفهم المعنى وحسنات هو الأول وهو المأخوذ والمجرور
بالباء هو المتروك وقد صرح بهذا في قوله تعالي: {وبدلناهم
بجنتيهم جنتين} [سبأ: 16]. وإبدال السيئات حسنات أنه
يمحوها بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات. وقال محيي السنّة:
ذهب جماعة إلى أن هذا في الدنيا قال ابن عباس وغيره يبدلهم
الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام
فيبدلهم بالشرك إيمانًا وبقتل المؤمنين قتل المشركين
وبالزنا عفة وإحصانًا. وقال ابن المسيب وغيره: يبدل الله
سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات يوم القيامة.
وقال ابن كثير: تنقلب السيئات الماضية بنفس التوبة النصوح
حسنات لأنه كلما يذكرها ندم واسترجع واستغفر فينقلب الذنب
طاعة فيوم القيامة وإن وجدها مكتوبة عليه لكنها لا تضره بل
تنقلب حسنة في صحيفته كما يدل له حديث أبي ذر المروي في
مسلم قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار وآخر أهل الجنة
دخولًا إلى الجنة فيقول: اعرضوا عليه كبار ذنوبه وسلوه عن
صغارها قال فيقال له عملت يوم كذا كذا وكذا وعملت يوم كذا
كذا وكذا فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئًا فيقال
فإن لك بكل سيئة حسنة فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ها
هنا، قال: فضحك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حتى بدت نواجذه. وقال الزجاج: السيئة بعينها لا
تصير حسنة فالتأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة
مع التوبة.
({وكان الله غفورًا}) حيث حط عنهم بالتوبة والإيمان مضاعفة
العذاب والخلود في النار والإهانة ({رحيمًا}) [الفرقان:
70] حيث بدل سيئاتهم بالثواب الدائم والكرامة في الجنة
وسقط قوله فأولئك الخ لأبي ذر.
4766 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
قَالَ: أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى أَنْ
أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} فَسَأَلْتُهُ
فَقَالَ: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ. وَعَنْ {وَالَّذِينَ
لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} قَالَ:
نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) بن عثمان بن جبلة الأزدي المروزي
قال: (أخبرنا أبي) عثمان (عن شعبة) بن الحجاج (عن منصور)
هو ابن المعتمر (عن سعيد بن جبير) أنه (قال: أمرني عبد
الرحمن بن أبزى) بفتح الهمزة والزاي بينهما موحدة مقصورًا
(أن أسأل ابن عباس) -رضي الله عنهما- (عن هاتين الآيتين)
قوله تعالى: ({ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا}) الآية بالنساء
(فسألته) عن
حكمها (فقال: لم ينسخها شيء، وعن) قوله تعالى: ({والذين لا
يدعون مع الله إلهًا آخر}) إلى ({رحيمًا}) بالفرقان (قال:
نزلت في أهل الشرك).
وفي باب ما لقي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وأصحابه من المشركين بمكة من المبعث من طريق عثمان بن أبي
شيبة عن جرير عن منصور فسألت ابن عباس فقال: لما نزلت التي
في الفرقان قال مشركو أهل مكة: فقد قتلنا النفس التي حرم
الله ودعونا مع الله إلهًا آخر وقد أتينا الفواحش، فأنزل
الله: {إلا من تاب وآمن} فهذه لأولئك وأما التي في النساء
الرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم فذكرته
لمجاهد فقال: إلا من ندم.
قال في الفتح: وحاصل ما في هذه الروايات أن ابن عباس -رضي
الله عنهما- كان تارة يجعل الآيتين في محل واحد فلذلك يجزم
بنسخ إحداهما وتارة يجعل محلهما مختلفًا ويمكن الجمع بين
كلاميه بأن عموم التي في الفرقان خص منه مباشرة المؤمن
القتل متعمدًا وكثير من السلف يطلقون النسخ على التخصيص،
وهذا أولى من حمل كلامه على التناقض وأولى من أنه قال
بالنسخ ثم رجع عنه والمشهور عنه القول بأن المؤمن إذا قتل
مؤمنًا متعمدًا لا توبة له وحمله الجمهور منه على التغليظ
وصححوا توبة القاتل كغيره.
وسبق في النساء من مباحث ذلك.
5 - باب {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}: [الفرقان: 77]
هَلَكَةً
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({فسوف يكون}) جزاء
التكذيب ({لزامًا}) [الفرقان: 77]. قال أبو عبيدة (هلكة)
وللأصيلي أي هلكة والمعنى فسوف يكون تكذيبكم مقتضيًا
لهلاككم وعذابكم ودماركم في الدنيا والآخرة، وقال ابن
عباس: موتًا ولزامًا خبر يكون واسمها مضمر كما مرّ.
4767 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا
مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ:
خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَالْقَمَرُ،
وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ. وَاللِّزَامُ {فَسَوْفَ
يَكُونُ لِزَامًا}.
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) أبو حفص النخعي
الكوفي قال: (حدّثنا أبي) حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان
قال:
(7/276)
(حدّثنا مسلم) هو ابن صبيح أبو الضحى
الكوفي (عن مسروق) هو ابن الأجدع أنه (قال: قال عبد الله)
هو ابن مسعود -رضي الله عنه- (خمس) من العلامات الدالة على
الساعة (قد مضين) أي وقعن (الدخان) المشار إليه في قوله
تعالى: {يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10]
(والقمر) في قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشقَّ القمر}
[القمر: 1] (والروم) في قوله تعالى: {الم * غلبت الروم}
[الروم: 1، 2] (والبطشة) في قوله جل
وعلا: {يوم نبطش البطشة الكبرى} [الدخان: 16] وهو القتل
يوم بدر (واللزام) في قوله تعالى: ({فسوف يكون لزامًا}).
قال ابن كثير: ويدخل في ذلك يوم بدر كما فسره ابن مسعود
وأبي بن كعب ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد والضحاك وقتادة
والسدّي وغيرهم، وقال الحسن: فسوف يكون لزامًا يعني يوم
القيامة قال ابن كثير: ولا منافاة بينهما اهـ.
وعلى تفسير البطشة واللزام بيوم بدر يكون المعدود في
الحقيقة أربعًا ويحتاج إلى بيان الخامس وإن حصل بقول الحسن
بيان الخامس في الجملة لكن تفسيره بيوم القيامة فيه شيء
لأن مراده تفسير خمس مضين وما يكون يوم القيامة مستقبل لا
ماض ففي قول ابن كثير ولا منافاة بينهما نظر وقد يجاب بأنه
لتحقق وقوعه عدّ ماضيًا قاله في المصابيح.
وهذا الحديث قد سبق في الاستسقاء.
[26] {سورة الشُّعَرَاءِ}
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
{تَعْبَثُونَ} تَبْنُونَ {هَضِيمٌ} يَتَفَتَّتُ إِذَا
مُسَّ. {مُسَحَّرِينَ}: الْمَسْحُورِينَ. {لَيْكَةُ
وَالأَيْكَةُ} جَمْعُ أَيْكَةٍ وَهْيَ جَمْعُ شَجَرٍ
{يَوْمِ الظُّلَّةِ} إِظْلاَلُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ
{مَوْزُونٍ} مَعْلُومٍ. {كَالطَّوْدِ} الْجَبَلِ.
{الشِّرْذِمَةُ} طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ {فِي السَّاجِدِينَ}
الْمُصَلِّينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ} كَأَنَّكُمْ {الرِّيعُ}: الأَيْفَاعُ مِنَ
الأَرْضِ وَجَمْعُهُ رِيعَةٌ، وَأَرْيَاعٌ وَاحِدُ
الرِّيَعَةِ. {مَصَانِعَ} كُلُّ بِنَاءٍ فَهْوَ
مَصْنَعَةٌ. {فَرِهِينَ} مَرِحِينَ، فَارِهِينَ
بِمَعْنَاهُ، وَيُقَالُ فَارِهِينَ: حَاذِقِينَ.
{تَعْثَوْا} أَشَدُّ الْفَسَادِ؛ عَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا
{الْجِبِلَّةُ} الْخَلْقُ، جُبِلَ: خُلِقَ، وَمِنْهُ
جُبُلًا وَجِبِلًا وَجُبْلًا يَعْنِي الْخَلْقَ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ.
([26] سورة الشعراء)
مكية إلا قوله: {والشعراء يتبعهم} إلى آخرها وهي مائتان
وعشرون وست آيات.
(بسم الله الرحمن الرحيم) سقط لفظ سورة والبسملة لغير أبي
ذر.
(وقال مجاهد): فيما وصله الفريابي في قوله تعالى:
({تعبثون}) من قوله: ({أتبنون بكل ريع آية تعبثون})
[الشعراء: 128]. أي (تبنون) وقال الضحاك ومقاتل: هو
الطريق. قال ابن عباس كانوا يبنون بكل ريع عليًّا يعبثون
فيه بمن يمر في الطريق إلى هود عليه السلام وقيل كانوا
يبنون الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم فنهوا عنه ونسبوا
إلى العبث.
({هضيم}) في قوله: {في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم}
[الشعراء: 148] (يتفتت إذا مسّ) بضم الميم وتشديد السين
المهملة مبنيًا للمفعول وهذا قاله مجاهد أيضًا، وقال ابن
عباس هو اللطيف وقال عكرمة اللين وقيل هضيم أي يهضم الطعام
وكل هذا للطافته.
({مسحرين}) في قوله: {إنما أنت من المسحرين} [الشعراء:
153] أي (المسحورين) ولأبي ذر والأصيلي مسحورين الذين
سحروا مرة بعد أخرى من المخلوقين.
(ليكة) بلام مفتوحة من غير ألف وصل قبلها ولا همزة بعدها
غير منصرف اسم غير معرف بأل مضاف إليه أصحاب وبه قرأ نافع
وابن كثير وابن عامر ولأبي ذر: والليكة بألف وصل وتشديد
اللام (والأيكة) بألف وصل وسكون اللام وبعدها همزة مكسورة
(جمع أيكة) ولأبي ذر جمع الأيكة (وهي جمع شجر) وكان شجرهم
الدوم وهو المقل. قال العيني: الصواب أن الليكة والأيكة
جمع أيك وكيف يقال الأيكة جمع أيكة.
({يوم الظلة}) في قوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة} [الشعراء:
189]. هو (إظلال العذاب إياهم) على نحو ما اقترحوا بأن سلط
الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت أنهارهم فأظلتهم سحابة
فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارًا فاحترقوا. ({موزون}) في
سورة الحجر أي (معلوم) ولعل ذكره هنا من ناسخ فالله أعلم.
({كالطود}) أي (الجبل) ولأبي ذر والأصيلي كالجبل بزيادة
الكاف.
(وقال غيره): غير مجاهد ({لشرذمة}) في قوله تعالى: {إن
هؤلاء لشرذمة} [الشعراء: 54]. (الشرذمة طائفة قليلة)
والجملة معمول لقول مضمر أي قال: إن هؤلاء وهذا القول يجوز
أن يكون حالًا أي أرسلهم قائلًا ذلك ويجوز أن يكون مفسرًا
لأرسل وجمع الشرذمة شراذم فذكرهم بالاسم الدال على القلة
ثم جعلهم قليلًا بالوصف ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم
قليلًا واختار السلامة الذي هو جمع القلة وإنما استقلهم
وكانوا ستمائة وسبعين ألفًا بالإضافة إلى جنوده لأنه روي
أنه خرج وكانت مقدّمته سبعمائة ألف.
({في الساجدين}) في قوله: {وتقلبك في الساجدين} [الشعراء:
219]. أي (المصلين)
(7/277)
وقال مقاتل مع المصلين في الجماعة أي نراك
حين تقوم وحدك للصلاة ونراك إذا صليت مع الجماعة. وقال
مجاهد: نرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان يبصر من خلفه
كما يبصر من أمامه، وعن ابن عباس تقلبك في أصلاب الأنبياء
من نبي إلى نبيّ حتى أخرجتك في هذه الأمة.
(قال ابن عباس: ({لعلكم تخلدون}) في قوله: {وتتخذون مصانع
لعلكم تخلدون} [الشعراء: 129] أي (كأنكم) تخلدون في الدنيا
وليس ذلك بحاصل لكم بل زائل عنكم كما زال عمن قبلكم. قال
الواحدي: كل ما وقع في القرآن لعل فإنها للتعليل إلا هذه
فإنها للتشبيه ويؤيده ما في حرف أبي كأنكم تخلدون، وعورض
ما ذكره من الحصر بقوله: {لعلك باخع نفسك} [الشعراء: 3]
لكن لم يعلم من نص على أن لعل تكون للتعليل. (الريع) في
قوله: {أتبنون بكل ريع} [الشعراء: 128] هو (الأيفاع) بفتح
الهمزة وسكون التحتية وبعد الفاء ألف فعين مهملة أي
المرتفع (من الأرض) قال ذو الرمة:
طراف الخوافي مشرف فوق ريعة ... بذي ليلة في ريشه يترقرق
(وجمعه) أي الريع (ريعة) بكسر الراء وفتح التحتية والعين
المهملة كقردة (وأرياع) هو (واحد الريعة) بكسر الراء وفتح
التحتية كالأول، ولأبي ذر والأصيلي واحده وفي نسخة واحدها
ريعة بسكون التحتية وضبطه الحافظ ابن حجر بالسكون والأول
بالفتح، وتبعه العيني وقال البرماوي كالكرماني وأما
الأرياع فمفرده ريعة بالكسر والسكون.
({مصانع}) قال أبو عبيدة (كل بناء فهو مصنعة) وقال سفيان
ما يتخذ فيه الماء، وقال مجاهد: قصور مشيدة وقيل هي
الحصون.
({فرهين}) بالهاء قال أبو عبيدة أي (مرحين) ولأبي ذر فرحين
بالحاء بدل الهاء في الأول وبالهاء أوجه. (فارهين بمعناه)
أي بمعنى فرهين من قولهم: فسّره زيد فهو فاره (ويقال
فارهين) أي (حاذقين) وفارهين حال من الناحتين.
({تعثوا}) في قوله: ({ولا تعثوا في الأرض مفسدين}
[الشعراء: 183] (هو أشد الفساد) وسقط لفظ هو لغير الأصيلي
(وعاث يعيث عيثًا) يريد أن اللفظين بمعنى واحد لا أن تعثوا
مشتق من عاث لأن يعثو معتل اللام ناقص وعاث معتل العين
أجوف وثبت الواو في وعاث لأبي ذر.
({الجبلة}) في قوله: {والجبلة الأولين} [الشعراء: 184] هي
(الخلق) بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام (جبل) بضم الجيم
وكسر الموحدة أي (خلق) وزنه ومعناه (ومنه) ومن هذا الباب
قوله في سورة يس (جبلًا) بضم الجيم والموحدة (وجبلًا)
بكسرهما (وجبلًا) بضم الجيم وسكون الموحدة مع التخفيف في
الثلاث لغات (يعني) بها (الخلق قاله ابن عباس) وسقط قوله
قاله ابن عباس لغير أبي ذر وبالضمتين قرأ ابن كثير
والإخوان وبالضم والسكون أبو عمرو وابن عامر وقرأ نافع
وعاصم بكسرهما مع تشديد اللام ولأبي ذر هنا ليكة بلام
مفتوحة الأيكة وهي الغيضة وقد سبق تفسيرها بالشجر.
1 - باب: {وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:
87]
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي
ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ رَأَى أَبَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
عَلَيْهِ الغَبَرَةَ وَالقَتَرَةُ". الغَبَرَةُ هِيَ
القَتَرَةُ
هذا (باب) بالتنوين في قوله جل وعلا: ({ولا تخزين يوم
يبعثون}) [الشعراء: 87] أي العباد أو الضالون.
فإن قلت: لما قال أولًا واجعلني من ورثة جنة النعيم كان
كافيًا عن قوله: ولا تخزني وأيضًا
فقد قال تعالى: {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين}
[النحل: 27] فما كان يصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم؟
أجيب: بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذا درجات خزي
المقربين وخزي كل واحد بما يليق به.
(وقال إبراهيم بن طهمان) بفتح الطاء المهملة سكون الهاء
الهروي فيما وصله النسائي (عن ابن أبي ذئب) محمد بن عبد
الرحمن (عن سعيد بن أبي سعيد) بكسر العين فيهما (المقبري)
بفتح الميم وضم الموحدة (عن أبيه) أبي سعيد كيسان (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إن إبراهيم) الخليل (عليه الصلاة والسلام رأى) بصيغة
الماضي ولأبي ذر يرى (أباه) آزر وقيل اسمه تارح فقيل هما
علمان له كإسرائيل ويعقوب وقيل العلم تارخ وآزر معناه
الشيخ أو المعوج (يوم القيامة) حال كونه (عليه الغبرة
والقترة) بفتح المعجمة والموحدة والقاف والفوقية (الغبرة:
(7/278)
هي القترة) وهي سواد كالدخان وسقط لأبي ذر
قوله الغبرة هي القترة وهذا من تفسير المؤلّف أخذه من كلام
أبي عبيدة حيث قال في سورة يونس: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا
ذلة} [يونس: 26] القتر الغبار. قال السفاقسي: وعلى هذا
فقوله في عبس: {غبرة ترهقها قترة} [عبس: 41] تأكيد لفظي
كأنه قال غبرة فوقها غبرة وقيل القترة شدة الغبرة بحيث
يسودّ الوجه وقيل القترة سواد الدخان.
4769 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَخِي عَنِ
ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ
أَبَاهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ
لاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَيَقُولُ اللَّهُ:
إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ».
قَوْلُهُ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}
[الشعراء: 214]: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ: أَلِنْ جَانِبَكَ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس واسمه عبد الله
الأصبحي المدني قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد
(أخي) عبد الحميد (عن ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن (عن
سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(يلقى إبراهيم) عليه الصلاة والسلام (أباه) زاد في حديث
الأنبياء يوم القيامة على وجه آزر قترة وغبرة فيقول له
إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ألم أقل لك لا تعصيني؟ فيقول
أبوه: فاليوم لا أعصيك (فيقول) إبراهيم (يا رب إنك وعدتني
أن لا تخزني) ولأبي ذر أن لا تخزيني (يوم يبعثون) زاد في
أحاديث الأنبياء فأي خزي أخزى من أبي الأبعد (فيقول الله
إني حرمت الجنة على الكافرين) وزاد في أحاديث الأنبياء
أيضًا فيقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا بذيخ
ملتطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار، وفي رواية أيوب عن
ابن سيرين عن أبي هريرة عند الحاكم فيمسخ الله أباه ضبعًا
فيأخذ بأنفه فيقول: يا عبدي أبوك هو، وفي حديث أبي سعيد
عند البزار والحاكم
فيحوّل في صورة قبيحة وريح منتنة في صورة ضبعان. زاد ابن
المنذر من هذا الوجه فإذا رآه كذلك تبرأ منه قال: لست أبي،
وكان تبرؤه منه في الدنيا حين مات مشركًا فقطع الاستغفار
له كما أخرجه الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس وقيل تبرأ
منه يوم القيامة لما أيس منه حين مسخ كما صرح به ابن
المنذر في روايته، وقد يجمع بينهما بأنه تبرأ منه في
الدنيا لما مات مشركًا فترك الاستغفار له فلما رآه في
الآخرة رقّ له فسأل الله فيه فلما مسخ أيس منه حينئذ وتبرأ
منه تبرؤًا أبديًّا، قيل: والحكمة في مسخه لينفر إبراهيم
منه ولئلا يبقى في النار على صورته فيكون فيه غضاضة على
الخليل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(قوله: {وأنذر}) ولأبي ذر باب بالتنوين في قوله جل وعلا:
{وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] أي الأقرب منهم
فالأقرب فإن الاهتمام بشأنهم أهم ولأن الحجة إذا قامت
عليهم تعدّت إلى غيرهم وإلاّ فكانوا علة للأبعدين في
الامتناع {واخفض جناحك} [الشعراء: 215] أي (ألن جانبك) لمن
اتبعك من المؤمنين مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن
ينحط ومن للتبيين والمؤمنين المراد بهم الذين لم يؤمنوا
بعد بل شارفوا لأن يؤمنوا كالمؤلّفة مجازًا باعتبار ما
يؤول إليه فكان من اتبعك شائعًا فيمن آمن حقيقة ومن آمن
مجازًا فبين بقوله من المؤمنين، وأن المراد بهم المشارفون
أي تواضع لهؤلاء استمالة وتأليفًا أو للتبعيض ويراد
بالمؤمنين الذين قالوا آمنا. ومنهم من صدق واتبع، ومنهم من
صدق فقط فقيل من المؤمنين وأريد بعض الذين صدقوا واتبعوا
أي تواضع لهم محبة ومودة قاله في فتوح الغيب.
4770 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي
عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الصَّفَا
فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ»
لِبُطُونِ قُرَيْشٍ. حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ
الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ
رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ
وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ
أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ
عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا
جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا. قَالَ: فَإِنِّي
نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ
أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا
جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ
وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
[المسد: 1 - 2].
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) النخعي قال: (حدّثنا
أبي) حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان قال: (حدّثني)
بالإفراد (عمرو بن مرة) بفتح العين في الأول وضم الميم
وتشديد الراء في الثاني الجملي بالجيم والميم المفتوحتين
(عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال:
لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين}) زاد في سورة تبت:
ورهطك منهم المخلصين وهو من عطف الخاص على العام وكان
قرآنًا فنسخت تلاوته (صعد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر) بكسر الفاء
وسكون الهاء (يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا
فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو
فجاء أبو لهب وقريش فقال) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(أرأيتكم) أي أخبروني (لو أخبرتكم أن خيلًا) أي عسكرًا
(بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي) بتشديد الدال
المكسورة والتحتية
(7/279)
المفتوحة وأصله مصدقين لي فلما أضيف إلى
ياء المتكلم سقطت النون وأدغمت ياء الجمع في ياء المتكلم
ومراده بذلك تقريرهم بأنهم يعلمون صدقه إذا أخبر عن شيء
غائب (قالوا: نعم) نصدقك (ما جربنا عليك إلا صدقًا قال)
عليه الصلاة والسلام: (فإني نذير) أي منذر (لكم بين يدي
عذاب شديد) أي قدامه (فقال أبو لهب): لعنه الله (تبًّا لك
سائر اليوم) أي بقية وتبًّا نصب على المصدر بإضمار فعل أي
ألزمك الله تبًّا (ألهذا جمعتنا؟) بهمزة الاستفهام
الإنكاري (فنزلت: {تبت}) أي هلكت أو خسرت ({يدا أبي لهب})
نفسه ({وتب}) أخبار بعد الدعاء ({ما أغنى عنه ماله وما
كسب}) وكسبه بنوه.
وهذا الحديث من مراسيل الصحابة لأن ابن عباس إنما أسلم
بالمدينة وهذه القصة كانت بمكة وكان ابن عباس إما لم يولد
وإما طفلًا، وذكره المؤلّف في باب من انتسب إلى آبائه في
الإسلام والجاهلية من كتاب الأنبياء.
4771 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَنْزَلَ
اللَّهُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:
214] قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، -أَوْ كَلِمَةً
نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لاَ
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ
اللَّهِ شَيْئًا. وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَلِينِي مَا شِئْتِ
مِنْ مَالِي، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا».
تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن
عبد الرحمن) بن عوف (أن أبا هريرة) -رضي الله عنه- (قال:
قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) على
الصفا (حين أنزل الله: ({وأنذر عشيرتك الأقربين} قال):
(يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم) بتخليصها من
العذاب بالطاعة لأنها ثمن النجاة (لا أغني عنكم من الله
شيئًا) لا أدفع. قال الله تعالى: {هل أنتم مغنون عنا من
عذاب الله من شيء أو لا أنفعكم} [إبراهيم: 21] (يا بني عبد
مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا يا عباس بن عبد المطلب لا
أغني عنك من الله شيئًا ويا صفية) وللأصيلي يا صفية (عمة
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا أغني
عنك من الله شيئًا) ترقى في القرب من العم إلى الأمة في
الأشخاص كما ترقى من قريش
إلى بني عبد مناف في القبيلة (ويا فاطمة بنت محمد -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقطت التصلية لأبي ذر (سليني
ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا) ويجوز في ابن
عبد المطلب وعمة وبنت النصب والرفع باعتبار اللفظ والمحل.
(تابعه) أي تابع أبا اليمان (أصبغ) بن الفرج شيخ المؤلّف
(عن ابن وهب) عبد الله (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن
شهاب) الزهري.
وسبق في الوصايا القول في وجه هذه المتابعة.
[27] سورة النَّمْل
{الْخَبْءُ} مَا خَبَأْتَ. {لاَ قِبَلَ}: لاَ طَاقَةَ
{الصَّرْحُ}: كُلُّ مِلاَطٍ اتُّخِذَ مِنَ الْقَوَارِيرِ،
وَالصَّرْحُ الْقَصْرُ وَجَمَاعَتُهُ صُرُوحٌ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَلَهَا عَرْشٌ}: سَرِيرٌ {كَرِيمٌ}:
حُسْنُ الصَّنْعَةِ وَغَلاَءُ الثَّمَنِ {مُسْلِمِينَ}
طَائِعِينَ {رَدِفَ} اقْتَرَبَ {جَامِدَةً} قَائِمَةً
{أَوْزِعْنِي} اجْعَلْنِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {نَكِّرُوا}
غَيِّرُوا. {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} يَقُولُهُ سُلَيْمَانُ
{الصَّرْحُ} بِرْكَةُ مَاءٍ ضَرَبَ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ
قَوَارِيرَ أَلْبَسَهَا إِيَّاهُ.
([27] سورة النَّمْل)
مكية وهي ثلاث أو أربع وتسعون آية، ولأبي ذر: سورة النمل
بسم الله الرحمن الرحيم وسقطت البسملة لغير أبي ذر وللنسفي
تقديمها.
({الخبء}) لغير أبي ذر: والخبء بزيادة واو ومراده قوله
تعالى: {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء} [النمل: 25] هو
(ما خبأت) يقال خبأت الشيء أخبؤه خبأ أي سترته ثم أطلق على
الشيء المخبوء ونحوه هذا خلق الله، وقيل: الخبء في
السماوات المطر وفي الأرض النبات، وقيل الغيب وهو يدل على
كمال القدرة وسمي الخبوء بالمصدر ليتناول جميع الأموال
والأرزاق.
({لا قبل}) في قوله: {فلنأتينهم بجنود لا قبل} أي (لا
طاقة) ({لهم}) بمقاومتها [النمل: 37].
({الصرح}) في قوله: {قيل لها ادخلي الصرح} [النمل: 44] وهو
(كل ملاط) بميم مكسورة الطين الذي يجعل بين سافي البناء
وللأصيلي كما في الفتح بلاط بالموحدة المفتوحة ومثله لأبي
ذر السكن وكذا ضبطه الدمياطي في نسخته (اتخذ) بضم الفوقية
وكسر المعجمة مبنيًّا للمفعول (من القوارير) وهو الزجاج
الشفاف (والصرح القصر) وقال الراغب: بيت عال مزوّق سمي
بذلك اعتبارًا بكونه صرحًا عن البيوت أي خالصًا (وجماعته)
أي الصرح (صرح. وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله
الطبري في قوله تعالى: {ولها عرش} [النمل: 23] أي (سرير).
({كريم} حسن الصنعة) بضم الحاء وسكون السين (وغلاء الثمن)
وكان مضروبًا من الذهب مكللًا بالدر والياقوت الأحمر
والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد وعليه سبعة
أبواب على كل بيت باب مغلق. وقال ابن عباس: كان عرشها
ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراعًا وطوله في السماء ثلاثون
(7/280)
ذراعًا وعند ابن أبي حاتم ثمانون ذراعًا في
أربعين.
({مسلمين}) ولأبي ذر والأصيلي: يأتوني مسلمين أي (طائعين)
قاله ابن عباس فيما وصله الطبري.
({ردف}) في قوله: {عسى أن يكون ردف} [النمل: 72] قال ابن
عباس (اقترب) فضمن ردف معنى فعل يتعدى باللام وهو اقترب أو
أزف لكم وبعض الذي فاعل به أو ردف مفعوله محذوف واللام
للعلة أي ردف الخلق لأجلكم أو اللام مزيدة في المفعول
تأكيدًا كزيادتها في قوله: {لربهم يرهبون} أو فاعل ردف
ضمير الوعد أي ردف الوعد أي قرب ودنا مقتضاه ولكم خبر مقدم
وبعض مبتدأ مؤخر.
({جامدة}) في قوله: {وترى الجبال تحسبها جامدة} [النمل:
88] أي (قائمة) قاله ابن عباس.
({أوزعني}) في قوله: {ربّ أوزعني} [النمل: 19] أي (اجعلني)
أزع شكر نعمتك عندي.
(وقال مجاهد): فيما وصله الطبري في قوله: ({نكروا}) أي
(غيروا) لها عرشها إلى حالة تنكره إذا رأته. روي أنه جعل
أسفله أعلاه وأعلاه أسفله ومكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان
الأخضر أحمر.
({وأوتينا العلم}) قال مجاهد (يقوله سليمان) وقال في
الأنوار واللباب وغيرهما من قول سليمان وقومه فالضمير في
قبلها عائد على بلقيس فكأن سليمان وقومه قالوا إنها قد
أصابت في جوابها وهي عاقلة وقد رزقت الإسلام ثم عطفوا على
ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته على ما يشاء
من قبل هذه المرأة مثل علمها وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى
في أن خصهم بمزيد التقدم في الإسلام قاله مجاهد أو هو من
تتمة كلامها فالضمير في قبلها راجع للمعجزة أو الحالة
الدال عليهما السياق والمعنى وأوتينا العلم بنبوة سليمان
من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة وذلك لما
رأت من أمر الهدهد وغيره.
({الصرح}) هو (بركة ماء ضرب عليها سليمان) عليه السلام
(قوارير) وهو الزجاج الشفاف (ألبسها إياه) وللأصيلي إياها
وكان قد ألقى في هذا الماء كل شيء من دواب البحر من السمك
والضفادع وغيرها ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت
عليه الطير والجن والإنس، وقيل: إنه اتخذ صحفًا من قوارير
وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفاح فكان الرائي يظنه
ماء.
[28] سورة الْقَصَصِ
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إِلاَّ مُلْكَهُ.
وَيُقَالُ: إِلاَّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الأَنْبَاءُ الْحُجَجُ.
([28] الْقَصَصِ)
مكية وقيل: إلا قوله: {الذين آتيناهم الكتاب} إلى
{الجاهلين} وهي ثمان وثمانون آية، ولأبي ذر: سورة القصص
بسم الله الرحمن الرحيم، وفي نسخة تقديم البسملة على سورة.
({كل شيء هالك إلا وجهه}) [القصص: 88]. أي (إلا ملكه) وقيل
إلا جلاله أو إلا ذاته فالاستثناء متصل إذ يطلق على الباري
تعالى شيء (ويقال) على مذهب من يمنع (إلا ما أريد به وجه
الله) فيكون الاستثناء متصلًا أو المعنى لكن هو تعالى لم
يهلك فيكون منقطعًا.
(وقال مجاهد): فيما وصله الطبري في قوله تعالى:
({الأنباء}) ولأبوي ذر والوقت: {فعميت عليهم الأنباء}
[القصص: 66] أي (الحجج) فلا يكون لهم عذر ولا حجة وقيل
خفيت واشتبهت عليهم الأخبار والأعذار.
1 - باب قَوْلِهِ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
(قوله: {إنك}) أي يا محمد ولأبي ذر عن الهروي باب قوله:
إنك ({لا تهدي من أحببت}) [القصص: 56] هدايته أو أحببته
لقرابته وقد أجمع المفسرون كما قاله الزجاج أنها نزلت في
أبي طالب ({ولكن الله يهدي من يشاء}) ولا تنافي بين هذه
وبين قوله في الآية الأخرى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}
لأن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والذي نفى عنه هداية
التوفيق وشرح الصدر وهو نور يقذف في القلب فيحيا به.
4772 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا
طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدَ عِنْدَهِ أَبَا
جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: «أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ
اللَّهِ». فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي أُمَيَّةَ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ
وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو
طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ
مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ
فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: {أُولِي الْقُوَّةِ}: لاَ يَرْفَعُهَا
الْعُصْبَةُ مِنَ الرِّجَالِ {لَتَنُوءُ}: لَتُثْقِلُ.
{فَارِغًا}: إِلاَّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى.
{الْفَرِحِينَ}: الْمَرِحِينَ. {قُصِّيهِ}: اتَّبِعِي
أَثَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَنْ يَقُصَّ الْكَلاَمَ.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} عَنْ جُنُبٍ: عَنْ بُعْدٍ، عَنْ
جَنَابَةٍ وَاحِدٌ، وَعَنِ اجْتِنَابٍ أَيْضًا. يَبْطِشُ
وَيَبْطُشُ، {يَأْتَمِرُونَ}: يَتَشَاوَرُونَ.
الْعُدْوَانُ وَالْعَدَاءُ وَالتَّعَدِّي وَاحِدٌ.
{آنَسَ}: أَبْصَرَ. {الْجِذْوَةُ}: قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ
مِنَ الْخَشَبِ لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ، وَالشِّهَابُ فِيهِ
لَهَبٌ. وَالْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ: الْجَانُّ وَالأَفَاعِي
وَالأَسَاوِدُ. {رِدْءًا}: مُعِينًا. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يُصَدِّقُنِي. وَقَالَ غَيْرُهُ {سَنَشُدُّ}:
سَنُعِينُكَ، كُلَّمَا عَزَّزْتَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتَ
لَهُ عَضُدًا. {مَقْبُوحِينَ}: مُهْلَكِينَ. {وَصَّلْنَا}:
بَيَّنَّاهُ وَأَتْمَمْنَاهُ. {يُجْبَى}: يُجْلَبُ.
{بَطِرَتْ}: أَشِرَتْ. {فِي أُمِّهَا رَسُولًا}: أُمُّ
الْقُرَى مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا. {تُكِنُّ}: تُخْفِي
أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ أَخْفَيْتُهُ، وَكَنَنْتُهُ
أَخْفَيْتُهُ وَأَظْهَرْتُهُ. {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ}:
مِثْلُ. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}: يُوَسِّعُ عَلَيْهِ،
وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب عن أبيه)
المسيب بن حزن له ولأبي صحبة عاش إلى خلافة عثمان أنه
(قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة) أي علامتها بعد المعاينة
وعدم الانتفاع بالإيمان لو آمن (جاء رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوجد عنده أبا جهل) هو ابن
هشام (وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة) أخا أم سلمة أسلم
عام الفتح كالمسيب
(7/281)
فلم يشهد وفاة أبي طالب، فالحديث مرسل
صحابي كذا قرره الكرماني، وردّه الحافظ ابن حجر بأنه لا
يلزم من تأخر إسلامه عدم حضوره وفاة أبي طالب كما شهدها
عبد الله بن أبي أمية وهو كافر ثم أسلم، وتعقبه العيني بأن
حضور عبد الله بن أبي أمية ثبت في الصحيح ولم يثبت حضور
المسيب لا في الصحيح ولا في غيره وبالاحتمال لا يرد على
كلام بغير احتمال.
وأجاب في انتقاض الاعتراض فقال: هذا كلام عجيب إنما يتوجه
الرد على من قال جازمًا إن المسيب لم يحضرها ولم يذكر
مستندًا إلا أنه كان كافرًا لا يمتنع أن يشهد وفاة كافر
فتوجه الرد على الجزم، ويؤيده أن عنعنة الصحابي محمولة على
السماع إلا إذا أدرك قصة ما أدركها كحديث عائشة عن قصة
المبعث النبوي فتلك الرواية تسمى مرسل صحابي، وأما لو أخبر
عن قصة أدركها ولم يصرح فيها بالسماع ولا المشاهدة فإنها
محمولة على السماع وهذا شأن حديث المسيب فهذا الذي يمشي
على الاصطلاح الحديثي وأما الدفع بالصدر فلا يعجز عنه أحد
لكنه لا يجدي شيئًا انتهى.
(فقال): -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي طالب
(أي عم قل لا إله إلا الله كلمة) بالنصب على البدل ويجوز
الرفع خبر مبتدأ محذوف (أحاجّ لك بها عند الله) بضم الهمزة
وفتح الحاء المهملة وبعد الألف جيم مشدّدة مضمومة في الفرع
خبر مبتدأ محذوف، وفي بعض النسخ فتح الجيم على الجزم جواب
الأمر، والتقدير أن تقل أحاج وهو من المحاججة مفاعلة من
الحجة. وعند الطبري من طريق سفيان بن
حسين عن الزهري قال: أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقًّا
وأحسنهم عندي يدًا فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة فيك يوم
القيامة.
(فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية): لأبي طالب (أترغب
عن ملة عبد المطلب؟) يقال رغب عن الشيء إذا لم يرده ورغب
فيه إذا أراده (فلم يزل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعرضها) أي كلمة الإخلاص (عليه) على
أبي طالب (ويعيدانه) بضم أوله والضمير المنصوب لأبي طالب
(بتلك المقالة) وهي قولهما: أتركب وكأنه كان قد قارب أن
يقولها فيردانه. وقال البرماوي كالزركشي: صوابه ويعيدان له
تلك المقالة، وتعقبه في المصابيح فقال: ضاق عطنه يعني
الزركشي عن توجيه اللفظ على الصحة فجزم بخطئه، ويمكن أن
يكون ضمير النصب من قوله: ويعيدانه ليس عائدًا على أبي
طالب وإنما هو عائد على الكلام بتلك المقالة، ويكون بتلك
المقالة ظرفًا مستقرًّا منصوب المحل على الحال من ضمير
النصب العائد على الكلام والباء للمصاحبة أي يعيدان الكلام
في حالة كونه متلبسًا بتلك المقالة وإن بنينا على جواز
إعمال ضمير المصدر كما ذهب إليه بعضهم في مثل مروري بزبد
حسن وهو بعمرو قبيح فالأمر واضح، وذلك بأن يجعل ضمير
الغيبة عائدًا على التكلم المفهوم من السياق والباء متعلقة
بنفس الضمير العائد عليه أي ويعيدان التكلم بتلك المقالة.
(حتى قال أبو طالب آخر) نصب على الظرفية (ما كلمهم على
ملّة عبد المطلب) وفي الجنائز: هو على ملة عبد المطلب
وأراد نفسه أو قال: أنا على ملة عبد المطلب فغيرها الراوي
أنفة أن يحكى كلامه استقباحًا للتلفظ به. (وأبى) امتنع (أن
يقول لا إله إلا الله) قال في الفتح: هو تأكيد من الراوي
في نفي وقوع ذلك من أبي طالب.
(قال) المسيب: (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: والله لأستغفرن لك) كما استغفر الخليل لأبيه
(ما لم أُنه عنك) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (فأنزل الله)
تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا} أي ما ينبغي لهم {أن
يستغفروا للمشركين} زاد في نسخة (ولو كانوا أولي قربى}
[التوبة: 113] الآية خبر بمعنى النهي.
واستشكل هذا بأن وفاة أبي طالب وقعت قبل الهجرة بمكة بغير
خلاف، وقد ثبت أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر
لها فنزلت هذه الآية. رواه الحاكم وابن أبي حاتم عن ابن
مسعود والطبراني عن ابن عباس، وفي ذلك دلالة على تأخر نزول
الآية عن وفاة أبي طالب، والأصل
(7/282)
عدم تكرار النزول. وأجيب: باحتمال تأخر
نزول الآية وإن كان سببها تقدّم ويكون لنزولها سببان متقدم
وهو أمر أبي طالب ومتأخر وهو أمر آمنة، ويؤيد تأخر النزول
ما في سورة براءة من استغفاره عليه الصلاة والسلام
للمنافقين حتى نزل النهي عنه قاله في الفتح قال: ويرشد إلى
ذلك قوله: (وأنزل الله) تعالى: {في أبي طالب فقال لرسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إنك لا تهدي
من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}) [القصص: 56] ففيه إشعار
بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وغيره والثانية نزلت
فيه وحده.
وقد مرّ الحديث في كتاب الجنائز.
(قال ابن عباس): في ({أولي القوة}) من قوله: {وآتيناه من
الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} [القصص:
76]. (لا يرفعها العصبة من الرجال) وروي عنه أنه كان يحمل
مفاتح قارون أربعون رجلًا أقوى ما يكون من الرجال، وروي عن
ابن عباس أيضًا حمل المفاتح على نفس المال فقال: كانت
خزائنه يحملها أربعون رجلًا أقوياء. ({لتنوء}) أي (لتثقل)
يقال: ناء به الحمل حتى أثقله وأماله أي لتثقل المفاتح
العصبة والباء في بالعصبة للتعدية كالهمزة.
({فارغًا}) في قوله: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا} [القصص:
10] أي خاليًا من كل شيء (إلا من ذكر موسى) وقال البيضاوي
كالزمخشري صفرًا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين
سمعت بوقوعه في يد فرعون.
({الفرحين}) في قوله: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين}
[القصص: 76]. قال ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عنه أي
(المرحين) وقال مجاهد يعني الأشرين البطرين الذين لا
يشكرون الله على ما أعطاهم، فالفرح بالدنيا مذموم مطلقًا
لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم
بأن ما فيها من اللذة مفارق ولا محالة يوجب الترح وما أحسن
قول المتنبي:
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
({قصة}) في قوله حكاية عن أم موسى {وقالت لأخته قصيه} أي
(اتبعي أثره) حتى تعلمي خبره وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها
مريم (وقد يكون أن يقص الكلام) كما في قوله تعالى: {نحن
نقص عليك} وقص الرؤيا إذا أخبر بها.
({عن جنب}) في قوله: {فبصرت به عن جنب} [القصص: 11] أي
أبصرت أخت موسى موسى مستخفية كائنة (عن بُعْد) صفة لمحذوف
أي عن مكان بعيد، وقال أبو عمرو بن العلاء أي عن شوق وهي
لغة جذام يقولون جنبت إليك أي اشتقت وقوله: (عن جنابة
واحد) أي في معنى البعد (وعن اجتناب أيضًا) وقرئ قوله: عن
جنب بفتح الجيم وسكون النون وبفتحهما وبضم الجيم وسكون
النون، وعن جانب وكلها شاذة والمعنى واحد.
({نبطش}) بالنون وكسر الطاء (ونبطش) بضم الطاء لغتان
ومراده الإشارة إلى قوله: {فلما أراد أن يبطش} [القصص: 19]
لكن الآية بالياء وكذا وقع في بعض نسخ البخاري بل هو الذي
في اليونينية وبالنون فيهما في فرعها والضم قراءة أبي جعفر
والكسر قراءة الباقين.
({يأتمرون}) في قوله: {يا موسى إن الملأ يأتمرون بك
ليقتلوك} [القصص: 20] أي (يتشاورون) بسببك. قال في
الأنوار: وإنما سمي التشاور ائتمارًا لأن كلاًّ من
المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر وسقط لأبي ذر والأصيلي. قال
ابن عباس: أولي القوة إلى هنا.
(العدوان) في قوله تعالى: {فلا عدوان عليّ} [القصص: 28]
معناه (والعداء) بالفتح والخفيف وفي الناصرية بضم العين
وكسرها ولم يضبطها في الفرع كأصله وآل ملك (والتعدي)
بالتشديد (واحد) في معنى التجاوز عن الحق.
({آنس}) بالمد في قوله: {وسار بأهله آنس من جانب الطور
نارًا} [القصص: 29] أي (أبصر) من الجهة التي تلي الطور
نارًا وكان في البرية في ليلة مظلمة.
(الجذوة) في قوله تعالى: {لعلّي آتيكم منها بخبر أو جذوة}
[القصص: 29] هي (قطعة غليظة من الخشب) أي في رأسها نار
(ليس فيها لهب) قال ابن مقبل:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوّار ولا
ذعر
(7/283)
الخوار الذي يتقصف والذعر الذي فيه لهب،
وقد ورد ما يقتضي وجود اللهب فيه قال الشاعر:
وألقى على قيس من النار جذوة ... شديدًا عليها حميها
والتهابها
وقيل: الجذوة العود الغليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن
وليس المراد هنا إلا ما في رأسه نار كما في الآية أو جذوة
من النار.
(والشهاب) المذكور في النمل في قوله: {بشهاب قبس} [النمل:
7] هو ما (فيه لهب) وذكر تتميمًا للفائدة.
(والحيات) جمع حيّة يشير إلى قوله: ({فألقاها}) يعني فألقى
موسى عصاه {فإذا هي حية تسعى} [طه: 20] وأنها (أجناس
الجان) كما في قوله هنا: كأنها جان (والأفاعي والأساود)
وكذا الثعبان في قوله: {فإذا هي ثعبان مبين} [الأعراف:
107] ولم يذكره المؤلّف، وقد قيل إن موسى عليه السلام لما
ألقى العصا انقلبت حيّة صفراء بغلظ العصا ثم تورمت وعظمت
فلذلك سماها جانًا تارة نظرًا إلى المبدأ، وثعبانًا مرة
باعتبار المنتهى، وحية أخرى بالاسم الشامل للحالين، وقيل
كانت في ضخامة الثعبان وجلادة الجان ولذلك قال: كأنها جان.
({ردءًا}) في قوله: {فأرسله معي ردءًا} [القصص: 34] أي
(معينًا) وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء بمعنى
المدفوء به فهو فعل بمعنى مفعول ونصبه على الحال.
(قال ابن عباس: يصدقني) بالرفع وبه قرأ حمزة وعاصم على
الاستئناف أو الصفة لردءًا أو الحال من هاء أرسله أو من
الضمير في ردءًا أي مصدقًا وبالجزم، وبه قرأ الباقون
جوابًا للأمر يعني إن أرسلته يصدقني، وقيل ردءًا كيما
يصدقني أو لكي يصدقني فرعون وليس الغرض بتصديق هارون أن
يقول له: صدقت أو يقول للناس: صدق موسى بل إنه يلخص بلسانه
الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات.
(وقال غيره): أي غير ابن عباس ({سنشد}) عضدك أي (سنعينك
كلما عززت شيئًا) بعين مهملة وزايين معجمتين (فقد جعلت له
عضدًا) يقويه وهو من باب الاستعارة شبه حالة موسى بالتقوّي
بأخيه بحالة اليد المتقوية بالعضد فجعل كأنه يد مستندة
بعضد شديدة، وسقط لأبي ذر والأصيلي من قوله: ({أنس}) إلى
هنا.
(مقبوحين) أي (مهلكين) ومراده قوله: {ويوم القيامة هم من
المقبوحين} [القصص: 42]. وهذا تفسير أبي عبيدة وقال غيره:
من المطرودين ويسمى ضد الحسن قبيحًا لأن العين تنبو عنه
فكأنها تطرده.
({وصلنا}) {لهم القول}) أي (بيناه وأتممناه) قاله ابن عباس
وقيل أتبعنا بعضه بعضًا فاتصل، وقال ابن زيد وصلنا لهم خبر
الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا،
وقال الزجاج: أي فصلناه بأن وصلنا ذكر الأنبياء وأقاصيص من
مضى بعضها ببعض.
({يجبى}) في قوله: {أو لم نمكّن لهم حرفًا آمنًا يجبى}
[القصص: 57] أي (يجلب) إليه ثمرات كل شيء.
({بطرت}) في قوله تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت}
[القصص: 58] (أشرت) وزنًا ومعنى أي وكم من أهل قرية كانت
حالهم كحالكم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا فدمر الله
عليهم وخرب ديارم قال في الأنوار.
({في أمّها رسولًا}) في قوله تعالى: {وما كان ربك مهلك
القرى حتى يبعث في أمها رسولًا} [القصص: 59] (أم القرى
مكة) لأن الأرض دحيت من تحتها (وما حولها) ومراده أن
الضمير في أمها للقرى ومكة وما حولها تفسير للأم لكن في
إدخال ما حولها في ذلك نظر على ما لا يخفى.
({تكنّ}) في قوله: {وربك يعلم ما تكنّ صدورهم} [القصص: 69]
أي (ما تخفي) صدورهم يقال (أكننت الشيء) بالهمزة وضم التاء
وفي بعضها بفتحها أي (أخفيته وكننته) بتركها من الثلاثي
وضم التاء وفتحها أي (أخفيته وأظهرته) بالهمز فيهما، وفي
نسخة معتمدة خفيته بدون همز أظهرته بدون واو قال ابن فارس:
أخفيته سترته وخفيته أظهرته. وقال أبو عبيدة: أكننته إذا
أخفيته وأظهرته وهو من الأضداد.
({ويكأن الله}) هي (مثل: {ألم تر أن الله}) وحينئذ تكون
ويكأن كلها كلمة مستقلة بسيطة وعند الفراء أنها بمعنى أما
ترى إلى صنع الله؟ وقيل غير ذلك ({يبسط الرزق لمن يشاء
ويقدر}) [الرعد: 26] أي (يوسع عليه ويضيق عليه) أي بمقتضى
مشيئته لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب النقص، وسقط
لأبي ذر والأصيلي: ويكأن الله الخ.
2 - باب {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}
[القصص: 85]
هذا (باب) بالتنوين في
(7/284)
قوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن}
[القصص: 85] أحكامه وفرائضه أو تلاوته وتبليغه وزاد
الأصيلي الآية، وزاد في نسخة: ({لرادّك}) أي بعد الموت إلى
معاد وتنكيره للتعظيم كأنه قال: معاد وأي معاد أي ليس
لغيرك من البشر مثله وهو المقام المحمود الذي وعدك أن
يبعثك فيه أو مكة كما في الحديث الآتي في الباب إن شاء
الله تعالى يوم فتحها، وكان ذلك المعاد له شأن عظيم
لاستيلائه عليه الصلاة والسلام عليها وقهره لأهلها وإظهاره
عز الإسلام، وسقط الباب وتاليه لغير أبي ذر.
4773 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا
يَعْلَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْعُصْفُرِيُّ. عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَرَادُّكَ إِلَى
مَعَادٍ}: إِلَى مَكَّةَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي المجاور بمكة
قال: (أخبرنا يعلى) بفتح التحتية واللام بينهما عين مهملة
ساكنة ابن عبيد الطنافسي قال: (حدّثنا سفيان) بن دينار
(العصفري) بضم العين وسكون الصاد المهملتين وضم الفاء وكسر
الراء الكوفي التمار (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن
عباس) -رضي الله عنهما- أنه قال: في قوله تعالى: ({لرادّك
إلى معاد}) [القصص: 85] (إلى مكة). ولغير الأصيلي قال إلى
مكة، وعن الحسن إلى يوم القيامة، وقيل إلى الجنة، وعند ابن
أبي حاتم عن الضحاك لما خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعني في الهجرة فبلغ الجحفة اشتاق إلى
مكة فأنزل الله عليه: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى
معاد} إلى مكة. قال الحافظ ابن كثير: وهذا من كلام الضحاك
يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان مجموع السورة مكيًّا
والله أعلم.
[29] سورة الْعَنْكَبُوتِ
قَالَ مُجَاهِدٌ {مُسْتَبْصِرِينَ}: ضَلَلَةً. وَقَالَ
غَيْرُهُ الحَيَوَانُ وَالحَيُّ وَاحِدٌ. {فَلَيَعْلَمَنَّ
اللَّهُ}: عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ، إِنَّمَا هِيَ
بِمَنْزِلَةِ فَلِيَمِيزَ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: {لِيَمِيزَ
اللَّهُ الْخَبِيثَ}. {أَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}:
أَوْزَارًا مَعَ أَوْزَارِهِمْ.
([29] سورة الْعَنْكَبُوتِ)
مكية وهي تسع وستون آية ولأبي ذر: سورة العنكبوت بسم الله
الرحمن الرحيم.
(قال) ولأبي ذر وقال (مجاهد): فيما وصله ابن أبي حاتم
فيقوله: ({مستبصرين}) من قوله: {فصدهم عن السبيل وكانوا
مستبصرين} [العنكبوت: 38] أي (ضللة) يحسبون أنهم على هدى
وهم على الباطل والمعنى أنهم كانوا عند أهلهم مستبصرين،
وفي نسخة ضلالة بألف بين
اللامين، وعند ابن أبي حاتم عن قتادة: كانوا مستبصرين في
ضلالتهم معجبين بها، وقال في الأنوار: أي متمكنين من النظر
والاستبصار ولكنهم لم يفعلوا.
(وقال غيره): غير مجاهد في قوله: {وإن الدار الآخرة لهي
الحيوان} [العنكبوت: 64].
(الحيوان والحي واحد) في المعنى وهو قول أبي عبيدة،
والمعنى: لهي دار الحياة الحقيقة الدائمة الباقية لامتناع
طريان الموت عليها أو هي في ذاتها حياة للمبالغة؛ والحي
بفتح الحاء في الفرع وغيره مما وقفت عليه، وقال في
المصابيح: بكسرها مصدر حيّ مثل عيّ في منطقة عيًّا، قال:
وعند ابن السكن والأصيلي الحيوان والحياة واحد والمعنى لا
يختلف، وقد سقط لغير أبي ذر والأصيلي الحيوان والحي واحد
وثبت لهما في الفرع مثله.
({فليعلمن الله}) [العنكبوت: 3] أي (علم الله ذلك) في
الأزل القديم فصيغة المضي في فليعلمن الله (إنما هي بمنزلة
فليميز الله) بفتح الياء التحتية وكسر الميم (كقوله) عز
وجل: {ليميز الله الخبيث} [الأنفال: 37] زاد أبو ذر: ({من
الطيب}) لما بين العلم والتمييز من الملازمة قاله
الكرماني.
({أثقالًا مع أثقالهم}) [العنكبوت: 13] أي (أوزارًا مع
أوزارهم) بسبب إضلالهم لهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "من
سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص
من وزره شيء" أي وليحملن أوزار أعمالهم التي عملوها
بأنفسهم وأوزارًا مثل أوزار من أضلوا مع أوزارهم وسقط لغير
الأصيلي أوزارًا مع.
[30] سورة الرُّومِ
{فَلاَ يَرْبُو} مَنْ أَعْطَى يَبْتَغِي أَفْضَلَ فَلاَ
أَجْرَ لَهُ فِيهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ {يُحْبَرُونَ}:
يُنَعَّمُونَ. {يَمْهَدُونَ}: يُسَوُّونَ الْمَضَاجِعَ.
{الْوَدْقُ} الْمَطَرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {هَلْ لَكُمْ
مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فِي الآلِهَةِ، وَفِيهِ
تَخَافُونَهُمْ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا يَصَّدَّعُونَ: يَتَفَرَّقُونَ. فَاصْدَعْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: ضُعْفٌ وَضَعْفٌ لُغَتَانِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ (السُّوأَى): الإِسَاءَةُ جَزَاءُ
الْمُسِيئِينَ.
([30] سورة الرُّومِ)
وفي نسخة: سورة ألم غلبت الروم وهي مكية إلا قوله (فسبحان
الله) وهي ستون آية أو تسع وخمسون ولأبي ذر: سورة الروم
بسم الله الرحمن الرحيم.
({فلا يربو}) [الروم: 39] أي (من أعطى يبتغي) من الذي
أعطاه (أفضل) أي أكثر من عطيته (فلا أجر له فيها) ولا وزر،
وللأصيلي: فلا يربو عند الله من أعطى عطية يبتغي أفضل منه
أي مما أعطى فلا أجر له فيها وهذا وصله الطبري من طريق ابن
أبي نجيح عن
(7/285)
مجاهد، وقال ابن عباس: الربا اثنان فربا لا
يفلح وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد أضعافها ثم تلا
هذه الآية،
وقد كان هذا حرامًا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خاصة كما قال تعالى: {ولا تمنن تستكثر} أي لا
تعط وتطلب أكثر مما أعطيت.
(قال مجاهد) فيما وصله الفريابي (يحبرون) في قوله تعالى:
{فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون}
[الروم: 15] أي (ينعمون) والروضة الجنة ونكرها للتعظيم
وقال هنا يحبرون بصيغة الفعل ولم يقل محبورون ليدل على
التجدد.
(يمهدون) في قوله تعالى: {ومن عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون}
[الروم: 44] أي (يسوّون المضاجع) ويوطوّونها في القبور أو
في الجنة.
(الودق) في قوله: {فترى الودق} [الروم: 48] هو (المطر)
قاله مجاهد أيضًا فيما وصله الفريابي.
(قال ابن عباس) في قوله تعالى: {هل لكم مما ملكت أيمانكم}
[الروم: 28] المسبوق بقوله جل وعلا {ضرب لكم مثلًا من
أنفسكم} نزل (في الآلهة) التي كانوا يعبدونها من دون الله
(وفيه) تعالى والمعنى أخذ مثلًا وانتزعه من أقرب شيء إليكم
وهو أنفسكم ثم بين المثل فقال: {هل لكم مما ملكت أيمانكم}
أي من مماليككم من شركاء فيما رزقناكم من المال وغيره
وجواب الاستفهام الذي بمعنى النفي قوله: فأنتم فيه سواء
({تخافونهم}) أي تخافون أيها السادة مماليككم (أن يرثوكم
كما يرث بعضكم بعضًا) والمراد نفي الثلاثة الشركة
والاستواء وخوفهم إياهم فإذا لم يجز أن يكون مماليككم
شركاء مع جواز صيرورتهم مثلكم من جميع الوجوه فكيف أن
أشركوا مع الله غيره.
({يصدعون}) [الروم: 43] أصله يتصدّعون أدغمت التاء بعد
قلبها صادًا في الصاد ومعناه (يتفرقون) أي فريق في الجنة
وفريق في السعير.
(فاصدع) في قوله: {فاصدع بما تؤمر} [الحج: 94] أي افرق
وامضه قاله أبو عبيدة.
(وقال غيره) غير ابن عباس ({ضعف}) بضم المعجمة (وضعف)
بفتحها (لغتان) بمعنى واحد قرئ بهما في قوله تعالى: {الله
الذي خلقكم من ضعف} [الروم: 54] والفتح قراءة عاصم وحمزة
وهو لغة تميم والضم لغة قريش، وقيل بالضم في الجسد وبالفتح
في العقل أي خلقكم من ماء ذي ضعف وهو النطفة ثم جعل من بعد
ضعف الطفولية قوّة الشبيبة ثم جعل من بعد قوّة ضعفًا هرمًا
وشيبة والشيبة تمام الضعف والتنكير مع التكرير لأن اللاحق
ليس عين السابق.
(وقال مجاهد {السوأى}) في قوله: {ثم كان عاقبة الذين
أساؤوا السوأى} [الروم: 10] (الإساءة جزاء المسيئين) وصله
الفريابي.
4774 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، وَالأَعْمَشُ عَنْ أَبِي
الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ
يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ، فَقَالَ: يَجِيءُ دُخَانٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ
وَأَبْصَارِهِمْ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ
الزُّكَامِ، فَفَزِعْنَا. فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ
وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَغَضِبَ فَجَلَسَ فَقَالَ: مَنْ
عَلِمَ فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ:
اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ
لِمَا لاَ يَعْلَمُ: لاَ أَعْلَمُ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ:
لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {قُلْ
مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ} وَإِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَؤُوا عَنِ
الإِسْلاَمِ، فَدَعَا عَلَيْهِمِ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «اللَّهُمَّ
أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ»،
فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وَأَكَلُوا
الْمَيْتَةَ، وَالْعِظَامَ، وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ، فَجَاءَهُ
أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جِئْتَ
تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ
هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ. فَقَرَأَ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} -إِلَى قَوْلِهِ-
{عَائِدُونَ} [الدخان: 10] أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ عَذَابُ
الآخِرَةِ، إِذَا جَاءَ ثُمَّ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ.
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ
الْكُبْرَى} [الدخان: 16] يَوْمَ بَدْرٍ {وَلِزَامًا}
يَوْمَ بَدْرٍ {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} -إِلَى-
{سَيَغْلِبُونَ} وَالرُّومُ قَدْ مَضَى.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) العبدي قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري ولأبي ذر عن سفيان قال: (حدّثنا منصور) هو
ابن المعتمر (والأعمش) هو سليمان كلاهما (عن أبي الضحى)
مسلم بن صبيح (عن مسروق) هو ابن الأجدع أنه (قال: بينما)
بميم (رجل) قال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسمه (يحدث فيك
كندة) بكسر الكاف وسكون النون (فقال: يجيء دخان) بتخفيف
المعجمة (يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم
يأخذ المؤمن كهيئة الزكام) بنصب المؤمن على المفعولية
(ففزعنا) بكسر الزاي وسكون العين المهملة من الفزع (فأتيت
ابن مسعود) عبد الله فأخبرته بالذي قاله الرجل (وكان
متكئًا فغضب) لذلك (فجلس فقال: من علم فليقل) ما يعلمه إذا
سئل (ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول
لما لا يعلم لا أعلم) لأن تمييز المعلوم من المجهول نوع من
العلم وليس المراد أن عدم العلم يكون علمًا ولأبي ذر الله
أعلم بدل قوله لا أعلم وللأصيلي بدلها لا علم لي به (فإن
الله) تعالى (قال لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من
المتكلفين}) [ص: 86] والقول فيما لا يعلم قسم من التكلف
وفيه تعريض بالرجل القائل يجيء دخان الخ وإنكار عليه ثم
بين قصة الدخان فقال (وإن قريشًا أبطؤوا عن الإسلام) أي
تأخروا عنه (فدعا عليهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال):
(اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف) الصديق عليه الصلاة
والسلام التي أخبر الله عنها في التنزيل بقوله ثم يأتي من
بعد ذلك سبع شداد، وسقط: اللهم لأبي ذر (فأخذتهم سنة) بفتح
السين قحط وهم
(7/286)
بمكة (حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة
والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان) من
ضعف بصره بسبب الجوع (فجاءه) عليه الصلاة والسلام (أبو
سفيان)
صخر بن حرب بمكة أو المدينة (فقال: يا محمد جئت تأمرنا)
ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر تأمر بحذف ضمير
النصب (بصلة الرحم وإن قومك) ذوي رحمك (قد هلكوا) من الجدب
والجوع بدعائك عليهم (فادع الله) لهم بأن يكشف عنهم فإن
كشف آمنوا (فقرأ) عليه الصلاة والسلام ({فارتقب}) أي انتظر
({يوم تأتي السماء بدخان مبين}) أي بين واضح يراه كل أحد
-إلى قوله- ({عائدون}) [الدخان: 15] أي إلى الكفر أو إلى
العذاب قال ابن مسعود (أفيكشف) بهمزة الاستفهام وضم الياء
مبنيًا للمفعول (عنهم عذاب الآخرة إذا جاء) وللأصيلي فتكشف
بمثناة فوقية مفتوحة وفتح الكاف وتشديد المعجمة عنهم
العذاب أي رفع القحط بدعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، كشفًا قليلًا أو زمانًا قليلًا (ثم عادوا إلى
كفرهم) غب الكشف (فذلك قوله تعالى: {بوم نبطش البطشة
الكبرى}) [الدخان: 16] (يوم بدر) ظرف يريد القتل فيه وهذا
الذي قاله ابن مسعود وافقه عليه جماعة كمجاهد وأبي العالية
وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي واختاره ابن جرير
لكن أخرج ابن أبي حاتم عن الحارث عن علي بن أبي طالب قال:
لم تمض آية الدخان بعد يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وينفخ
الكافر حتى ينقدّ.
وأخرج أيضًا عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن
عباس ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت قلت لم؟ قال
قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق
فما نمت حتى أصبحت. قال الحافظ ابن كثير: وإسناده صحيح إلى
ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ووافقه عليه جماعة من
الصحابة والتابعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان
مما فيه دلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة وهو
ظاهر قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين}) أي
بين واضح وعلى ما فسر به ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في
أعينهم من شدة الجوع والجهد وكذا قوله: {يغشى الناس}
[الدخان: 11] أي يعمهم ولو كان خيالًا يخص مشركي مكة لما
قيل يغشى الناس وأما قوله: {إنّا كاشفو العذاب} [الدخان:
15] أي: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدنيا لعدتم
إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى: {وَلَوْ
رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ
لَلَجُّوا} [المؤمنون: 75] ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
وقال آخرون لم يمض الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة.
وفي حديث حذيفة بن أسيد الغفاري عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات
طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج
وخروج عيسى والدجال وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب
وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تحشر الناس تبيت
معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا" انفرد بإخراجه مسلم.
({ولزامًا}) هو الأسر (يوم بدر) أيضًا.
({الم * غلبت الروم}) أي غلبت فارس الروم ({إلى سيغلبون})
أي الروم سيغلبون فارس، وهذا علم من أعلام نبوّة نبينا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما فيه من الإخبار
بالغيب (والروم قد مضى) أي غلبهم لفارس
فإنه قد وقع يوم الحديبية وفي آخر سورة الدخان قال عبد
الله يعني ابن مسعود خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة
والقمر والدخان وسقط لأبي ذر قوله: {الم * غلبت الروم}
الخ.
وهذا الحديث قد سبق في باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين
عند القحط من كتاب الاستسقاء، ويأتي بقية مباحثه في سورة
الدخان إن شاء الله تعالى بعون الله وقوته.
1 - باب {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: لِدِينِ
اللَّهِ {خَلْقُ الأَوَّلِينَ}: دِينُ الأَوَّلِينَ.
وَالْفِطْرَةُ: الإِسْلاَمُ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({لا تبديل لخلق الله})
[الروم: 30] أي (لدين الله) قاله إبراهيم النخعي فيما
أخرجه عنه الطبري فهو خبر بمعنى النهي أي لا تبدلوا دين
الله.
({خلق الأوّلين}) أي (دين الأوّلين) ساقه شاهد التفسير
الأوّل (والفطرة) في قوله: {فطرة الله التي فطر الناس
(7/287)
عليها} [الروم: 30] هي (الإسلام) قاله
عكرمة فيما وصله الطبري وسقط لفظ باب لغير أبي ذر.
4775 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ،
أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ
فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ
يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً
جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ
يَقُولُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ}».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان المروزي
قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا يونس) بن
يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال:
أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (أن أبا
هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما من مولود إلا يولد على الفطرة) قيل يعني العهد الذي
أخذه عليهم بقوله: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172]
وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي
وقعت الخلقة عليها وإن عبد غيره ولكن لا عبرة بالإيمان
الفطري إنما المعتبر الإيمان الشرعي المأمور به. وقال ابن
المبارك معنى الحديث أن كل مولود يولد على فطرته أي خلقته
التي جبل عليها في علم الله من السعادة والشقاوة فكل منهم
صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها وعامل في الدنيا بالعمل
المشاكل لها، فمن أمارات الشقاء أن يولد بين يهوديين أو
نصرانيين أو مجوسيين فيحملانه لشقائه على اعتقاد دينهما،
وقيل المعنى أن كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الجبلة
السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين فلو ترك عليها لاستمرّ
على لزومها لكن تطرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كما قال:
(فأبواه
يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج) بضم أوّله وفتح
ثالثه على صيغة المبني للمفعول أي تلد (البهيمة بهيمة
جمعاء) بفتح الجيم وسكون الميم ممدودًا تامة الأعضاء (هل
تحسون فيها من جدعاء) بفتح الجيم وسكون المهملة ممدودًا
مقطوعة الأذن أو الأنف أي لا جدع فيها من أصل الخلقة إنما
يجدعها أهلها بعد ذلك فكذلك المولود يولد على الفطرة ثم
يتغير بعد.
ونقل في المصابيح عن القاضي أبي بكر بن العربي أن معنى
قوله: فأبواه الخ أنه ملحق بهما في الأحكام من تحريم
الصلاة عليه ومن ضرب الجزية عليه إلى غير ذلك ولولا أنه
ولد على فراشهما لمنع من ذلك كله قال ولم يرد أنهما
يجعلانه يهوديًا أو نصرانيًّا إذ لا قدرة لهما على أن
يفعلا فيه الاعتقاد أصلًا. اهـ.
فليتأمل.
(ثم يقول) أي أبو هريرة مستشهدًا لما ذكر ({فطرة الله}) أي
خلقته نصب على الإغراء ({التي فطر الناس عليها}) أي خلقهم
عليها وهي قبولهم للحق ({لا تبديل لخلق الله}) أي ما ينبغي
أن يبدل أو خبر بمعنى النهي ({ذلك الدين القيم}) الذي لا
عوج فيه.
وهذا الحديث سبق في باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه
من كتاب الجنائز.
[31] سورة لُقْمَانَ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) {لاَ تُشْرِكْ
بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
([31] لقمان)
مكية قيل إلا آية {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} لأن
وجوبهما بالمدينة وضعف لأنه لا ينافي شرعيتهما بمكة وآيها
أربع وثلاثون ولأبي ذر سورة لقمان.
(بسم الله الرحمن الرحيم) سقطت البسملة لغير أبي ذر ولقمان
اسم أعجمي، والجمهور على أنه كان حكيمًا ولم يكن نبيًّا،
ومما ذكر من حكمته أنه أمر بأن يذبح شاة ويأتي بأطيب
مضغتين منها فأتى باللسان والقلب ثم بعد أيام أمر بأن يأتي
بأخبث مضغتين منها فأتي بهما أيضًا فسئل عن ذلك فقال: هما
أطيب شيء إذا طابا وأخبثه إذا خبثا.
({لا تشرك بالله}) أي مع الله ({إن الشرك لظلم عظيم})
[لقمان: 13] بدأ في وعظ ابنه بالأهم وهو منعه من الإشراك
وإنما كان ظلمًا لأنه وضع النفس المكرمة الشريفة في عبادة
الخسيس فوضع العبادة في غير موضعها.
4776 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]
شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقالُوا: أَيُّنَا لَمْ
يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّهُ لَيْسَ
بِذَاكَ، أَلاَ تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لاِبْنِهِ
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البغلاني الثقفي قال:
(حدّثنا جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عن الأعمش)
سليمان بن مهران (عن إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن قيس
النخعي (عن عبد الله) بن مسعود (رضي الله عنه) أنه (قال:
لما نزلت هده الآية) التي بالأنعام ({الذين آمنوا ولم
يلبسوا إيمانهم بظلم}) [الأنعام: 82] أي بشرك فلم ينافقوا
(شق ذلك على أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقالوا أينا لم يلبس) بفتح أوّله وكسر الموحدة
أي لم يخلط (إيمانه بظلم فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إنه ليس بذاك) ولأبي ذر ليس بذلك (ألا تسمع) برفع العين
من غيروا و (إلى قول
(7/288)
لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم) فعموم
الظلم المستفاد من التعبير بالنكرة في سياق النفي غير
مقصود بل هو من العام الذي أريد به الخاص وهو هنا الشرك
كما مر في باب ظلم دون ظلم من كتاب الإيمان وفي سورة
الأنعام مع مزيد لذلك وغيره وسقط قوله لابنه في رواية أبي
ذر.
2 - باب قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ} [لقمان: 34]
(باب قوله) عز وجل ({إن الله عنده علم الساعة}) [لقمان:
34] علم وقت قيامها.
4777 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي
حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ،
إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ
بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ،
وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ» قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: «الإِسْلاَمُ أَنْ
تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ
الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ،
وَتَصُومَ رَمَضَانَ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
الإِحْسَانُ؟ قَالَ: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ،
كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ
يَرَاكَ» قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟
قَالَ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ
السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا:
إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ
أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ
رُؤُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ
لا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا
فِي الأَرْحَامِ} ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ فَقَالَ:
رُدُّوا عَلَيَّ. فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوا فَلَمْ يَرَوْا
شَيْئًا، فَقَالَ: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ
النَّاسَ دِينَهُمْ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إسحاق) بن
إبرهيم المعروف بابن راهويه (عن جرير) هو ابن عبد الحميد
(عن أبي حيان) بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية يحيى بن
سعيد الكوفي (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير البجلي (عن
أبي هريرة -رضي الله عنه- أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يومًا
بارزًا) ظاهرًا (للناس إذ أتاه رجل) ملك في صورة رجل وهو
جبريل عليه السلام ولأبي ذر عن الكشميهني إذ جاءه رجل
(يمشي فقال: يا رسول الله ما الإيمان) أي ما متعلقاته
(قال) عليه الصلاة والسلام:
(الإيمان أن تؤمن بالله) أي تصدق بوجوده وبصفاته الواجبة
(وملائكته) ولأبي ذر والأصيلي زيادة وكتبه بأن تصدق بأنها
كلامه تعالى وأن ما اشتملت عليه حق لا ريب فيه (ورسله)
بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله (ولقائه) برؤيته
تعالى في الآخرة (وتؤمن) أي أن تصدق أيضًا (بالبعث الآخر)
بكسر الخاء أي من القبور وما بعده وأعاد تؤمن لأنه إيمان
بما سيوجد وما سبق إيمان بالموجود نوعان (قال) أي جبريل:
(يا رسول الله ما الإسلام؟ قال) عليه الصلاة والسلام:
(الإسلام أن تعبد الله) أي تطيعه (ولا تشرك به شيئًا وتقيم
الصلاة) المكتوبة (وتؤتي الزكاة المفروضة).
قال في المصابيح: لم يقيد الصلاة بالمكتوبة وإنما قيد
الزكاة مع أنها إنما تطلق على المفروضة بخلاف الصلاة فتأمل
السر في ذلك انتهى.
وقد سبق في كتاب الإيمان أن تقييد الزكاة بالمفروضة احتراز
عن صدقة التطوع فإنها زكاة لغوية أو من المعجلة.
وفي رواية مسلم: تقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة
المفروضة (وتصوم رمضان) زاد في رواية كهمس وتحج البيت إن
استطعت إليه سبيلًا فلعل راوي حديث الباب نسيه (قال) أي
جبريل: (يا رسول الله ما الإحسان؟) المتكرر في القرآن
المترتب عليه الأجر وقال الخطابي المراد بالإحسان هنا
الإخلاص وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معًا لأن من تلفظ
من غير نيّة إخلاص لم يكن محسنًا (قال) عليه الصلاة
والسلام: (الإحسان أن تعبد الله) أي عبادتك الله حال كونك
في عبادتك له (كأنك تراه) في إخلاص العبادة لوجهه الكريم
ومجانبة الشرك الخفي (فإن لم تكن تراه) فلا تغفل واستمر
على إحسان العبادة (فإنه يراك) وهذا تنزل من مقام المكاشفة
إلى مقام المراقبة (قال) جبريل: (يا رسول الله متى
الساعة؟) أي قيامها وسميت الساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة
حسابها (قال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(ما المسؤول منها بأعلم من السائل) ما نافية يعني لست أنا
أعلم منك يا جبريل بعلم وقت قيام الساعة (ولكن سأحدثك عن
أشراطها) علاماتها السابقة عليها وذلك (إذا ولدت المرأة)
وفي رواية أبي ذر الأمة (ربتها) بتاء التأنيث على معنى
النسمة ليشمل الذكر والأنثى كناية عن كثرة السبي فيستولد
الناس أماءهم فيكون الولد كالسيد لأمه لأن ملك الأمة راجع
في التقدير إلى الولد (فذاك من أشراطها) لأن كثرة السبي
والتسري دليل على استعلاء الدين واستيلاء المسلمين وهو من
الأمارات لأن قوّته وبلوغ أمره غايته وذلك منذر بالتراجع
والانحطاط المنذر بأن القيامة ستقوم (وإذا كان الحفاة
العراة رؤوس الناس) إشارة إلى استيلائهم على الأمر وتملكهم
البلاد بالقهر والمعنى أن الأذلة من الناس ينقلبون أعزة
ملوك
الأرض (فذاك من أشراطها) واكتفى باثنتين من الأشراط مع
التعبير بالجمع لحصول المقصود بهما في ذلك وعلم وقتها داخل
(في) جملة (خمس) من الغيب وحذف متعلق الجار سائغ
(7/289)
شائع ويجوز أن يتعلق بأعلم أي ما المسؤول
عنها بأعلم في خمس أي في علم الخمس أي لا ينبغي لأحد أن
يسأل أحدًا في علم الخمس لأنهن (لا يعلمهن إلا الله) وفيه
إشارة إلى إبطال الكهانة والنجامة وما شاكلهما وإرشاد
للأمة وتحذير لهم عن إتيان من يدعي علم الغيب ولأبي ذر عن
الحموي والكشميهني وخمس لا يعلمهن إلا الله بواو العطف بدل
الجار ({إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث}) في وقته
المقدر له والمحل المعين له في علمه ({ويعلم ما في
الأرحام}) أذكر أم أنثى.
قال في شرح المشكاة فإن قيل: أليس إخباره -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أمارات الساعة من قبيل قوله: {وما
تدري نفس ماذا تكسب غدًا} [لقمان: 34]. وأجاب: بأنه إذا
أظهر بعض المرتضين من عباده بعض ما كشف له من الغيوب
لمصلحة ما لا يكون إخبارًا بالغيب بل يكون تبليغًا له قال
الله تعالى: {فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من
رسول} [الجن: 26] وفائدة بيان الأمارات أن يتأهب المكلف
إلى المعاد بزاد التقوى (ثم انصرف الرجل) جبريل.
(فقال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
للحاضرين من أصحابه: (ردوا عليّ) بتشديد الياء أي الرجل
(فأخذوا ليردوا) بحذف ضمير المفعول للعلم به (فلم يروا
شيئًا) لا عينًا ولا أثرًا (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم) أي قواعد دينهم وإسناد
التعليم إليه وإن كان سائلًا لأنه كان سببًا في التعليم.
وهذا الحديث قد سبق في كتاب الإيمان.
4778 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ
خَمْسٌ، ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ}» [لقمان: 34].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي الوقت: حدّثني الإفراد (يحيى بن
سليمان) الجعفي الكوفي نزيل مصر (قال: حدّثني) بالإفراد
(ابن وهب) عبد الله المصري (قال: حدّثني) بالإفراد أيضًا
(عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر) بن الخطاب المدني
نزيل عسقلان (أن أباه) محمد بن زيد (حدثه أن) جده (عبد
الله بن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- قال: قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(مفاتح) بوزن مصابيح ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر مفتاح
(الغيب) بوزن مصباح أي خزائن الغيب (خمس ثم قرأ) عليه
الصلاة والسلام ({إن الله عنده علم الساعة}) الآية إلى
آخرها كذا ساقه هنا مختصرًا وتامًّا في الاستسقاء والرعد
والأنعام.
[32] سورة السَّجْدَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَهِينٍ}: ضَعِيفٍ، نُطْفَةُ
الرَّجُلِ. {ضَلَلْنَا}: هَلَكْنَا. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ {الْجُرُزُ}: الَّتِي لاَ تُمْطَرُ إِلاَّ
مَطَرًا لاَ يُغْنِى عَنْهَا شَيْئًا. {يَهْدِ}:
يُبَيِّنُ.
([32] سورة السَّجْدَةِ)
ولأبي ذر: سورة السجدة بسم الله الرحمن الرحيم وسقطت
البسملة لغير أبي ذر.
(وقال مجاهد) فيما وصله ابن أبي حاتم ({مهين}) في قوله
تعالى: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} [السجدة: 8]
معناه (ضعيف) وهو (نطفة الرجل).
وقال مجاهد أيضًا فيما وصله الفريابي ({ضللنا}) في قوله:
{وقالوا أئذا ضللنا في الأرض} [السجدة: 10] أي (هلكنا) في
الأرض وصرنا ترابًا.
(وقال ابن عباس) فيما وصله الطبري في قوله تعالى: {أو لم
يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجزر} [السجدة: 27]
(الجزر) هي (التي لا تمطر) ولأبي ذر والأصيلي لم تمطر (إلا
مطرًا لا يغني عنها شيئًا) وقيل اليابسة الغليظة التي لا
نبات فيها والجزر هو القطع فكأنها المقطوع عنها الماء
والنبات.
({نهد}) أي (نبين) بالنون فيهما ولأبوي ذر والوقت يهد يبين
بالمثناة التحتية فيهما ومراده تفسير {أو لم يهد لهم كم
أهلكنا من قبلهم من القرون} [السجدة: 26].
1 - باب قَوْلِهِ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ
لَهُمْ} [السجدة: 17]
(باب قوله) تعالى: ({فلم تعلم نفسٌ ما أخفيَ لهم})
[السجدة: 17] زاد أبو ذر من قرّة أعين أي مما تقرّ به
عيونهم وما في أخفي موصولة ونفس نكرة في سياق النفي فتعم
جميع الأنفس أي لا يعلم الذي أخفاه الله لهم لا ملك مقرّب
ولا نبي مرسل قال بعضهم: أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
4779 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَعْدَدْتُ
لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ
أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ». قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلاَ
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ}. وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ اللَّهُ مِثْلَهُ قِيلَ لِسُفْيَانَ رِوَايَةً؟
قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ؟ قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ
الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ
قُرَّاتِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن
الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(قال الله تبارك وتعالى) ولأبي ذر عز وجل بدل تبارك وتعالى
(أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت).
قال في شرح المشكاة: ما هنا إما موصولة أو موصوفة وعين
وقعت في سياق النفي فأفاد
(7/290)
الاستغراق والمعنى ما رأت العيون لهن ولا
عين واحدة منهن والأسلوب من باب قوله تعالى: {ما للظالمين
من حميم ولا شفيع يطاع} [غافر: 18] يحتمل نفي الرؤية
والعين معًا أو نفي الرؤية فحسب أي لا رؤية ولا عين أو لا
رؤية وعلى الأوّل الغرض منه نفي العين وإنما ضمت إليه
الرؤية ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر محقق لا نزاع فيه
وبلغ في تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة وعكسه
ومثله قوله:
(ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) من باب قوله تعالى:
{يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم} [غافر: 52] أي لا قلب ولا
خطور أو لا خطور فعلى الأوّل ليس لهم قلب يخطر فجعل انتفاء
الصفة دليلًا على انتفاء الذات أي إذا لم نحصل ثمرة القلب
وهو الأخطار قد قلب كقوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان
له قلب أو ألقى السمع} [ق: 37] وخص البشر هنا دون
القرينتين السابقتين لأنهم الذين ينتفعون بما أعدّ لهم
ويهتمون لشأنه ببالهم بخلاف الملائكة.
(قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم
من قرّة أعين}) [السجدة: 17] والحديث كالتفصيل لهذه الآية
لأنها نفت العلم وهو نفي طرق حصوله وقد ذكره المصنف في صفة
الجنة من كتاب بدء الخلق.
(وحدّثنا سفيان) هو موصول كسابقه وللأصيلي وابن عساكر قال:
علي يعني ابن المديني وحدّثنا سفيان ولأبي ذر حدّثنا علي
قال: حدّثنا سفيان يعني ابن عيينة قال: (حدّثنا أبو
الزناد) عبد الله (عن الأعرج) عبد الرحمن (عن أبي هريرة)
-رضي الله عنه- أنه (قال: قال الله مثله) أي مثل ما في
الحديث السابق.
(قيل لسفيان) بن عيينة (رواية) أي تروي رواية عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم من اجتهادك (قال
فأي شيء)؟ لولا الرواية كنت أقول؟
(قال) ولأبي ذر وابن عساكر وقال: (أبو معاوية) محمد بن
خازن الضرير فيما وصله أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل
القرآن له (عن الأعمش) سليمان (عن أبي صالح) ذكوان السمان
أنه قال: (قرأ أبو هريرة قرأت) جمعًا بالألف والتاء
لاختلاف أنواعها وهي قراءة الأعمش والقرة
مصدر وحقه أن لا يجمع لأن المصدر اسم جنس والأجناس أبعد
شيء عن الجمعية لكن جعلت القرة هنا نوعًا فجاز جمعها كقوله
هناك أحزان وحسن لفظ الجمع إضافة القرات إلى لفظ الأعين
ولأبي ذر والأصيلي وابن عساكر زيادة أعين.
4780 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الأَعْمَشِ. حَدَّثَنَا أَبُو
صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ
مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ
خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا
أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ». ثُمَّ قَرَأَ: " {فَلاَ تَعْلَمُ
نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ".
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (إسحاق بن
نصر) هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر البخاري قال: (حدّثنا أبو
أسامة) حماد بن أسامة (عن الأعمش) سليمان أنه قال: (حدّثنا
أبو صالح) ذكوان السمان (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال:
(يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين) في الجنة (ما لا
عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وفي حديث
المغيرة بن شعبة عند مسلم مرفوعًا: قال موسى عليه السلام:
يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة الحديث إلى أن قال فأعلاهم
منزلة. قال: الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم
تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر (ذخرًا) بضم
الذال وسكون الخاء المعجمتين كذا في الفرع. وقال: في
الصحاح في فصل الذال المعجمة ذخرت الشيء أذخره ذخرًا وكذلك
أذخرته وهو افتعلت، وقول الحافظ ابن حجر بضم المهملة وسكون
المعجمة سهو أو سبق قلم، وقال الكرماني: وذخرًا منصوب
متعلق بأعددت وقال في الفتح أي جعلت ذلك لهم مدخورًا (بله
ما أطلعتم عليه) بضم الهمزة وكسر اللام ولأبي الوقت ما
أطلعتهم بفتح الهمزة واللام وزيادة هاء بعد التاء وقوله
بله بفتح الموحدة وسكون اللام وفتح الهاء وللأربعة من بله
بزيادة من الجارة وجر بله بها كذا في الفرع المعتمد
المقابل على أصل اليونيني المحرر بحضرة إمام العربية أبي
عبد الله بن مالك وكذا رأيته في أصل اليونيني المذكور
وحينئذٍ فينظر في قول الصغاني اتفق جميع نسخ الصحيح على من
بله والصواب إسقاط كلمة من وقول ابن التين أن بله ضبط مع
من بالفتح والكسر هو حكاية ما وجده
(7/291)
فلا يمنع ما ذكرته من الفتح مع عدم الجار
والكسر مع ثبوته فأما الفتح فقال الجوهري، وبله كلمة مبنية
على الفتح مثل كيف ومعناها دع وأنشد قول كعب بن مالك يصف
السيوف:
تذر الجماجم ضاحيا هاماتها ... بله الأكف كأنها لم تخلق
قال في المغني: وقد روي بالأوجه الثلاثة: قال شارحه: ومعنى
بله الأكف على رواية النصب دع الأكف فأمرها سهل وعلى رواية
الجر كترك الأكف منفصلة، وعلى الرفع فكيف الأكف التي يوصل
إليها بسهولة.
وأما وجه الفتح مع ثبوت من فقال الرضى: إذا كانت بله بمعنى
كيف جاز أن تدخله من حكى أبو زيد أن فلانًا لا يطيق حمل
الفهر فمن بله أن يأتي بالصخرة أي كيف ومن أين قال في
المصابيح وعليه تتخرج هذه الرواية فتكون بمعنى كيف التي
يقصد بها الاستبعاد وما مصدرية وهي مع صلتها في محل رفع
على الابتداء والخبر من بله والضمير المجرور بعلى عائد على
الذخر أي كيف ومن أين اطلاعكم على ما ادّخرته لعبادي
الصالحين فإنه أمر عظيم قلما تتسع عقول البشر لإدراكه
والإحاطة به. قال: وهذا أحسن ما يقال في هذا المحل: اهـ.
وأما الجر فوجه بأن بله بمعنى غير والكسرة التي على الهاء
حينئذٍ إعرابية قال في الفتح وهو أي كون بله بمعنى غير
أوضح التوجيهات لخصوص سياق حديث الباب حيث وقع فيه ولا خطر
على قلب بشر ذخرًا من بله ما اطلعتم عليه وذلك بين لمن
تأمله اهـ.
وقال أبو السعادات في نهايته بله اسم من أسماء الأفعال
بمعنى دع واترك تقول بله زيدًا وقد توضع موضع المصدر وتضاف
فتقول بله زيد أي نترك زيد وقوله: ما اطلعتم عليه يحتمل أن
يكون منصوب المحل ومجرور على التقديرين، والمعنى دع ما
اطلعتم عليه من نعيم الجنة وعرفتموه من لذاتها اهـ. زاد
الخطابي فإنه سهل يسير في جنب ما ادّخرته لهم.
(ثم قرأ) عليه الصلاة والسلام: ({فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي
لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}) جزاء مفعول له أي
أخفي للجزاء فإن إخفاءه لعلوّ شأنه أو مصدر مؤكد لمعنى
الجملة قبله أي جرّوا جزاء، وقول الزمخشري فحسم أطماع
المتمنين يعني بقوله {جزاء بما كانوا يعملون} نزعة
اعتزالية، ومراده بالمتمنين أهل السنة القائلين بأن المؤمن
العاصي موعود بالجنة لا بد له منها وفاء بعهده تعالى لأنه
وعده بها ووعده حق وجعل العمل كالسبب للوعد فعبر به في
قوله: ({جزاء بما كانوا يعملون}) عنه لصدق الوعد في النفوس
وتصويره بصورة المستحق بالعمل كالأجرة من مجاز التشبيه
وعند أبي ذر تقديم حدّثني إسحاق بن نصر إلى آخر يعملون على
قوله قال أبو معاوية عن الأعمش.
وهذا الحديث من أفراده.
[33] سورة الأَحْزَابِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَيَاصِيهِمْ} قُصُورِهِمْ.
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}
[الأحزاب: 6].
1 - باب
([33] الأَحْزَابِ)
مدنية وهي ثلاث وسبعون آية ولأبي ذر وابن عساكر: سورة
الأحزاب بسم الله الرحمن الرحيم وسقطت البسملة لغيرهما
كلفظ السورة نعم ثبتت للنسفي لهما.
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه
في قوله: ({صياصيهم}) هي (قصورهم) وحصونهم جمع صيصة يقال
لكل ما يمتنع به ويتحصن صيصة ومنه قيل لقرن الثور ولشوكة
الديك صيصة والصياصي أيضًا شوكة الحاكة وتتخذ من حديد. قال
دريد بن الصمة:
كوقع الصياصي في النسيج الممدد
({النبي أولى بالمؤمنين}) في الأمور كلها ({من أنفسهم})
[الأحزاب: 6] من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه ووجوب طاعته
عليهم وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- وعطاء يعني إذا
دعاهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودعتهم أنفسهم
إلى شيء كانت طاعة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أولى بهم من طاعة أنفسهم اهـ.
وإنما كان ذلك لأنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه
صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس وقوله النبي الخ ثابت في رواية
أبي ذر فقط.
4781 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، حَدَّثَنَا أَبِي
عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-،
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى
النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اقْرَءُوا إِنْ
شِئْتُمْ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا
فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ
دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَلْيَأْتِنِي وَأَنَا مَوْلاَهُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: بالجمع (إبراهيم بن
المنذر) القرشي
(7/292)
الحزامي قال: (حدّثنا محمد بن فليح) بضم
الفاء وفتح اللام آخره حاء مهملة مصغرًا قال: (حدّثنا أبي)
فليح بن سليمان الخزاعي الأسلمي (عن هلال بن علي) العامري
المدني وقد ينسب إلى جده أسامة (عن عبد الرحمن بن أبي
عمرة) بفتح العين وسكون الميم الأنصاري النجاري بالجيم
قيل: ولد في عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وقال ابن أبي حاتم وليست له صحبة (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به) أي أحقهم به (في) كل
شيء من أمور (الدنيا والآخرة) وسقط لأبي ذر لفظ الناس
(اقرؤوا إن شئتم) قوله عز وجل: ({النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم}) استنبط من الآية أنه لو قصده عليه الصلاة والسلام
ظالم وجب على الحاضر من المؤمنين أن يبذل نفسه دونه ولم
يذكر عليه الصلاة والسلام ما له من الحق عند نزول هذه
الآية بل ذكر ما عليه فقال (فأيما مؤمن ترك مالًا) أي أو
حقًّا من الحقوق بعد وفاته (فليرثه عصبته من كانوا)، وهم
عصبة بنفسه وهو من له ولاء وكل ذكر نسيب يدلى للميت بلا
واسطة أو بتوسط محض المذكور وعصبة بغيره وهو كل ذات نصف
معها ذكر يعصبها وعصبة مع غيره وهو أخت فأكثر لغير أم معها
بنت أو بنت ابن فأكثر (فإن ترك دينًا) عليه لأحد (أو
ضياعًا) بفتح الضاد المعجمة عيالًا ضائعون لا شيء لهم ولا
قيم (فليأتني) كل من رب الدين أوفه والضائع من العيال
أكفله
(وأنا) بالواو ولأبوي الوقت وذر فأنا (مولاه) أي وليس
الميت أتولى عنه أموره.
وهذا الحديث قد سبق في باب الصلاة على من ترك دينًا من
الاستقراض.
2 - باب {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ
اللهِ} [الأحزاب: 5]
هذا (باب) بالتنوين في قوله جل وعلا ({ادعوهم}) انسبوهم
({لآبائهم}) أي الذين ولدوهم ({هو أقسط عند الله})
[الأحزاب: 5] أي أعدل تعليل لسابقه وسقط هو أقسط عند الله
لغير أبوي الوقت وذر وباب لغير أبي ذر.
4782 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلاَّ زَيْدَ ابْنَ
مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ {ادْعُوهُمْ
لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}.
وبه قال: (حدّثنا معلى بن أسد) بضم الميم وفتح العين
المهملة واللام المشددة العمي أبو الهيثم البصري قال:
(حدّثنا عبد العزيز بن المختار) الدباغ البصري مولى حفصة
بنت سيرين قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) الإمام في المغازي
مولى آل الزبير بن العوّام (قال حدّثني) بالإفراد (سالم
عن) أبيه (عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن زيد بن
حارثة مولى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ما كنا ندعوه إلا زيدًا بن محمد) لأنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان تبناه قبل النبوّة (حتى نزل
القرآن {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}) فأمر بردّ
نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة ونسخ ما كان في ابتداء
الإسلام من جواز ادّعاء الأبناء الأجانب.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الفضائل والترمذي في التفسير
والمناقب والنسائي في التفسير.
3 - باب: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]
نَحْبَهُ: عَهْدَ. أَقْطَارِهَا: جَوَانِبُهَا.
الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا: لأَعْطَوْهَا
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({فمنهم}) من الرجال
الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أي من الثبات مع الرسول
والمقاتلة لإعلاء الدين ({من قضى نحبه}) يعني حمزة وأصحابه
({ومنهم من ينتظر}) الشهادة كعثمان وطلحة ينتظرون أحد
أمرين إما الشهادة أو النصر ({وما بدلوا}) العهد ولا غيروه
({تبديلًا}) [الأحزاب: 23] شيئًا من التبديل بخلاف
المنافقين فإنهم قالوا لا نولي الأدبار وبدلوا قولهم وولوا
أدبارهم ({نحبه}) أي (عهده) والمعنى ومنهم من فرغ من نذره
ووفى بعهده فصبر على الجهاد وقاتل حتى قتل والنحب النذر
فاستعير للموت لأنه كنذر
لازم في رقبة كل حيوان.
({أقطارها}) في قوله تعالى: {ولو دخلت عليهم من أقطارها}
[الأحزاب: 14] هي (جوانبها) ثم سئلوا ({الفتنة لآتوها}) أي
(لأعطوها) والمعنى ولو دخل عليهم المدينة أو البيوت من
جوانبها ثم سئلوا الردّة ومقاتلة المسلمين لأعطوها ولم
يمتنعوا وسقط لفظ باب لغير أبي ذر.
4783 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
-رضي الله عنه- قَالَ: نُرَى هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي
أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (محمد بن
بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة بندار العبدي البصري قال:
(حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (محمد بن عبد الله
الأنصاري قال: حدّثني) بالإفراد (أبي) عبد الله (عن) عمه
(ثمامة) بضم المثلثة وتخفيف الميمين ابن عبد الله بن أنس
(عن) جده (أنس بن مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: نرى) بضم
النون أي نظن أن (هذه
(7/293)
الآية نزلت في أنس بن النضر) بالنون
المفتوحة والضاد المعجمة الساكنة ابن ضمضم الأنصاري ({من
المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}) وكان قتل يوم
أُحد.
4784 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ:
لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، فَقَدْتُ
آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَؤُهَا
لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ
الأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ
رَجُلَيْنِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (خارجة بن زيد بن ثابت)
الأنصاري (أن) أباه (زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصحف)
التي كانت عند حفصة (في المصاحف) بأمر عثمان -رضي الله
عنه- (فقدت) بفتح الفاء والقاف (آية من سورة الأحزاب كنت
أسمع) ولأبوي ذر والوقت عن المستملي: كنت كثيرًا أسمع
(رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرؤها لم
أجدها مع أحد إلا مع خزيمة) أي ابن ثابت (الأنصاري الذي
جعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهادته
شهادة رجلين) خصوصية له وهي قوله تعالى: ({من المؤمنين
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}) لا يقال إن ثبوتها كان
بطريق الآحاد والقرآن إنما يثبت بالتواتر لأنها كانت
متواترة عندهم، ولذا قال: كنت أسمع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرؤها، وقد قال عمر: أشهد لقد سمعتها
من رسول الله، وعن أبيّ بن كعب وهلال بن أمية وغيره مثله.
وهذا الحديث قد سبق في أوائل الجهاد في باب قوله: {من
المؤمنين رجال}.
4 - باب قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]
وَقَالَ مَعْمَرٌ التَّبَرُّجُ: أَنْ تُخْرِجَ
مَحَاسِنَهَا. سُنَّةَ اللَّهِ اسْتَنَّهَا: جَعَلَهَا
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (قوله: {يا أيها النبي قل
لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا}) السعة والتنعم فيها
وذلك أنهن سألنه من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في النفقة
وآذينه بغيرة بعضهن ({وزينتها}) أي زخارفها ({فتعالين
أمتعكن}) متعة الطلاق ({وأسرحكن سراحًا جميلًا)} [الأحزاب:
28] أطلقكنّ طلاق السنة من غير إضرار، وفي قوله: ({فتعالين
أمتعكن وأسرحكن}) إشعار بأنها لو اختارت واحدة الفراق لا
يكون طلاقًا. وقوله: {أمتعكن وأسرحكن} جزم جواب الشرط وما
بين الشرط وجزائه معترض ولا يضر دخول الفاء جملة الاعتراض
أو الجواب قوله: "فتعالين" و"أمتعكن" جواب لهذا الأمر،
وسقط لأبي ذر: وأسرحكن الخ وقال بعد أمتعكن الآية.
(وقال معمر) بفتح الميمين وسكون العين المهملة بينهما ابن
المثنى أبو عبد الله التيمي مولاهم البصري النحوي. وقال
الحافظ ابن حجر: وتوهم مغلطاي ومن قلده أنه معمر بن راشد
فنسب هذا إلى تخريج عبد الرزاق في تفسيره عن معمر ولا وجود
لذلك في كتاب عبد الرزاق وإنما أخرج عن معمر عن ابن أبي
نجيح عن مجاهد في هذه الآية قال: كانت المرأة تخرج تتمشى
بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية اهـ.
وتعقبه العيني فقال: لم يقل مغلطاي ابن راشد وإنما قال:
هذا رواه عبد الرزاق عن معمر ولم يقل أيضًا في تفسيره حتى
يشنع عليه بأنه لم يوجد في تفسيره وعبد الرزاق له تآليف
أخر غير تفسيره وحيث أطلق معمرًا يحتمل أحد المعمرين اهـ.
وأجاب الحافظ ابن حجر في كتابه الانتقاض فقال: هذا اعتذار
واهٍ فإن عبد الرزاق لا رواية له عن معمر بن المثنى وتآليف
عبد الرزاق ليس فيها شيء يشرح الألفاظ إلا التفسير، وهذا
تفسيره موجود ليس فيه هذا اهـ. وسقط وقال معمر لغير أبي
ذر.
({التبرج}) في قوله تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية
الأولى} [الأحزاب: 33] هو (أن تخرج) المرأة (محاسنها)
للرجال. وقال مجاهد وقتادة: التبرج التكسر والتغنج وقيل
التبختر وتبرج الجاهلية مصدر تشبيهي أي مثل تبرج والجاهلية
الأولى ما بين آدم ونوح أو الزمان الذي ولد فيه الخليل
إبراهيم كانت المرأة تلبس درعًا من اللؤلؤ فتمشي وسط
الطريق تعرض نفسها على الرجال أو ما بين نوح وإدريس وكانت
ألف سنة والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ونبينا -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقيل الجاهلية الأولى الكفر
قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام.
({سنة الله}) في قوله تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من
قبل} [الأحزاب: 38] أي (استنها جعلها) قاله أبو عبيدة
وقال: جعلها سنّة اهـ.
والمعنى: أن سنة الله في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم
بما أحل لهم. وقال الكلبي ومقاتل: أراد داود حين جمع بينه
وبين تلك المرأة
(7/294)
وكذلك محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وزينب.
4785 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَهَا حِينَ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ
يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ، فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «إِنِّي
ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ تَسْتَعْجِلِي
حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ»، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ
أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ.
قَالَتْ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ}» إِلَى تَمَامِ الآيَتَيْنِ
فَقُلْتُ لَهُ: فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟
فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ
الآخِرَةَ. [الحديث 4785 - طرفه في: 4786]
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن
عوف (أن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرته أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاءها حين أمر الله) بإسقاط ضمير
المفعول ولأبي ذر أمره الله (أن يخيّر أزواجه) بين الدنيا
والآخرة أو بين الإقامة والطلاق قال الماوردي الأشبه يقول
الشافعي الثاني وهو الصحيح. وقال القرطبي: والنافع الجمع
بين القولين لأن أحد الأمرين ملزوم بالآخر وكأنهن خيرن بين
الدنيا فيطلقهن وبين الآخرة فيمسكهن (فبدأ بي رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في التخيير قبلهن
(فقال):
(إني ذاكرٌ لكِ أمرًا، فلا عليك أن تستعجلي) أي لا يلزمك
الاستعجال ولأبي ذر أن لا تستعجلي أي لا بأس عليك في
التأني وعدم العجلة (حتى تستأمري أبويك) أي تطلبي منهما
المشورة.
وفي حديث جابر عند مسلم: حتى تستشيري أبويك. وعند أحمد:
إني عارض عليك أمرًا فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على
أبويك أبي بكر وأم رومان وهو يرد على من زعم أن أم رومان
ماتت سنة ست من الهجرة فإن التخيير كان في سنة تسع قالوا:
وإنما أمرها عليه السلام باستشارتهما خشية أن يحملها صغر
السن على اختيار الفراق فإذا استشارت أبويها أرشداها لما
فيه المصلحة. ولذا لما فهمت عائشة ذلك قالت:
(وقد علم) عليه السلام (أن أبوي) بالتشديد (لم يكونا
يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال) عليه السلام: (إن الله قال:
{يا أيها النبي قل لأزواجك} إلى تمام الآيتين) [الأحزاب:
28، 29] وهو قوله فإن الله أعدّ للمحسنات منكنّ أجرًا
عظيمًا وهل كان هذا التخيير واجبًا عليه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا ريب أن القول واجب عليه لأنه
إبلاغ للرسالة لقوله تعالى: ({قل}) وأما التخيير؛ (فقلت
له) عليه
السلام: (ففي أي هذا) ولأبي ذر عن المستملي ففي أي شيء
(أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة) زاد
محمد بن عمرو عند أحمد والطبراني، ولا أوامر أبوي أبا بكر،
وأم رومان فضحك وأي اسم معرب يستفهم به نحو {فبأي حديث
بعده يؤمنون} [المرسلات: 50] {وأيكم زادته هذه إيمانًا}
[التوبة: 124].
وحديث الباب أخرجه المؤلّف أيضًا في الطلاق وكذا مسلم،
وأخرجه النسائي في النكاح والطلاق والترمذي في التفسير.
5 - باب قَوْلِهِ [تعالى]: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}
[الأحزاب: 29] وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَاذْكُرْنَ مَا
يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 29] الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ
(باب قوله) تعالى: ({وإن كنتن تردن الله ورسوله}) رضا الله
ورسوله ({والدار الآخرة}) نعيم الجنة ({فإن الله أعد
للمحسنات منكنّ أجرًا عظيمًا}) [الأحزاب: 29] ثوابًا
جزيلًا في الجنة تستحقر دونه الدنيا وزينتها ومن للبيان
لأنهن كلهن كن محسنات وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
(وقال قتادة) فيما وصله ابن أبي حاتم في قوله تعالى:
({واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة})
[الأحزاب: 34] هما (القرآن والسنة) لف ونشر مرتب ولأبوي ذر
والوقت من آيات الله القرآن والحكمة السنة. قال في
الأنوار: وهو تذكير بما أنعم عليهن حيث جعلهن أهل بيت
النبوّة ومهبط الوحي وما شهدن من برحاء الوحي مما يوجب
قوّة الإيمان والحرص على الطاعة حثًا على الانتهاء
والائتمار فيما كلفن.
وَقَالَ اللَّيْثُ:
4786 - حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَخْيِيرِ
أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ
أَمْرًا، فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى
تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ». قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ
أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ.
قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ
قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}
-إِلَى- {أَجْرًا عَظِيمًا}» قَالَتْ فَقُلْتُ: فَفِي
أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. قَالَتْ: ثُمَّ
فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِثْلَ مَا فَعَلْتُ تَابَعَهُ. مُوسَى بْنُ
أَعْيَنَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
وَأَبُو سُفْيَانَ الْمَعْمَرِىُّ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ.
(وقال الليث) بن سعد الإمام فيما وصله الذهلي عن أبي صالح
عنه (حدّثني) بالإفراد (يونس) بن يزيد (عن ابن شهاب)
الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد
الرحمن) بن عوف (أن عائشة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت لما أمر رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أمر وجوب (بتخيير أزواجه)
وكن يومئذ تسع نسوة خمسة من قريش عائشة بنت أبي بكر وحفصة
بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة
بنت أبي أمية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وميمونة بنت
الحارث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث
المصطلقة (بدأ بي) إنما بدأ بها -رضي الله عنها- على غيرها
من أزواجه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لفضلها كما
قاله النووي أو لأنها كانت السبب في التخيير لأنها طلبت
(7/295)
منه ثوبًا فأمره الله بالتخيير رواه ابن
مردويه من طريق الحسن عن عائشة لكن الحسن لم يسمع من عائشة
فهو مرسل (فقال):
(إني ذاكرٌ لكِ أمرًا، فلا عليك أن لا تعجلي) بفتح الجيم
وإسقاط السين أي لا بأس عليك في عدم العجلة (حتى تستأمري
أبويك) فيه وزاد في رواية عمرة عن عائشة عند الطبري
والطحاوي وخشي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حداثتي لأن الصغر مظنة لنقص الرأي، فإذا
استشارت أبويها أوضحا لها ما فيه المصلحة (قالت: وقد علم
أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال) عليه
الصلاة والسلام: (إن الله جل ثناؤه) ولأبي ذر عز وجل (قال:
{يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا
وزينتها -إلى- أجرًا عظيمًا}) فيه أن سبب التخيير سؤالهن -
رضي الله عنهن - منه عليه الصلاة والسلام الدنيا وزينتها
فقيل أنهن اجتمعن يومًا فقلن نريد ما تريد النساء من
الحلي، وطلبت أم سلمة سترًا معلمًا، وميمونة حلة يمانية،
وزينب ثوبًا مخططًا، وأم حبيبة ثوبًا سحوليًّا وسألته كل
واحدة منهن شيئًا.
قال النقاش: إلا عائشة وآلمن قلبه عليه السلام بمطالبتهن
له بتوسعة الحال فأنزل الله التخيير لئلا يكون لأحد منهن
منّة عليه في الصبر على ما اختاره عليه الصلاة والسلام من
خشونة العيش.
وعند الإمام أحمد -رضي الله عنه- من حديث جابر: أقبل أبو
بكر -رضي الله عنه- يستأذن على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والناس ببابه جلوس والنبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل
عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا
والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالس وحوله
نساؤه وهو ساكت فقال عمر: لأكلمن رسول الله-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعله يضحك فقال عمر: يا رسول الله لو
رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفًا فوجأت عنقها،
فضحك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بدا
ناجذه وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى
عائشة ليضربها وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان تسألان
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما ليس عنده،
فنهاهما رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقلن نساؤه والله لا نسأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد هذا المجلس ما ليس عنده قال:
وأنزل الله عز وجل الخيار فبدأ بعائشة. ورواه مسلم منفردًا
به دون البخاري وزاد: ثم اعتزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين ثم
نزلت عليه هذه الآية: {يا أيها النبي قل لأزواجك إلى
عظيمًا} قال فبدأ بعائشة.
وسبق في المظالم من طريق عقيل عن ابن شهاب عن عبيد الله بن
عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس عن عمر في قصة المرأتين
اللتين تظاهرتا الحديث بطوله وفيه: فاعتزل النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أجل ذلك الحديث حين أفشته
حفصة إلى عائشة: وكان قد قال ما أنا بداخل عليهن شهرًا من
شدّة موجدته حين عاتبه الله فلما مضت تسع وعشرون دخل على
عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة: إنك أقسمت أن لا تدخل
علينا شهرًا وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدّها عدًا
فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الشهر
تسع وعشرون" وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين. قالت عائشة:
فأنزل الله آية التخيير فبدأ بي أول امرأة.
قال في الفتح: فاتفق الحديثان على أن آية التخيير نزلت عقب
فراغ الشهر الذي اعتزلهن فيه، لكن اختلفا في سبب الاعتزال
ويمكن الجمع بأن يكونا جميعًا سبب الاعتزال فإن قصة
المتظاهرتين خاصة بهما وقصة سؤال النفقة عامة في جميع
النسوة ومناسبة آية التخيير بقصة سؤال النفقة أليق منها
بقصة المتظاهرتين اهـ.
(قالت) عائشة: (فقلت ففي أي) الأمرين من (هذا) الذي ذكرته
(أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة) وهذا
يدل على كمال عقلها وصحة رأيها مع صغر سنها (قالت: ثم فعل
أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل ما
فعلت) من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة بعد أن خيرهن
(تابعه) أي تابع الليث (موسى بن أعين) بفتح الهمزة
والتحتية بينهما عين ساكنة الجزري بالجيم والزاي والراء
الحراني فيما وصله النسائي
(7/296)
(عن معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن
مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة) بن
عبد الرحمن بن عوف (وقال، عبد الرزاق) بن همام فيما وصله
مسلم وابن ماجة (وأبو سفيان) محمد بن حميد السكري
(المعمري) بفتح الميمين بينهما عين ساكنة مما وصله الذهلي
في الزهريات (عن معمر) هو ابن راشد (عن الزهري عن عروة) بن
الزبير (عن عائشة). وفيه إشارة إلى ما وقع من الاختلاف على
الزهري في الواسطة بينه وبين عائشة في هذه القصة، ولعل
الحديث كان عند الزهري عنهما فحدث به تارة عن هذا وتارة عن
هذا، وإلى هذا جنح الترمذي، وقد رواه عقيل وشعيب عن الزهري
عن عائشة بغير واسطة ولو اختارت المخيرة نفسها وقعت طلقة
رجعية عندنا وبائنة عند الحنفية. وفي هذا المبحث زيادة
تأتي إن شاء الله تعالى في الطلاق بعون الله وقوّته.
6 - باب قَوْلُهُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (قوله) عز وجل مخاطبًا لنبيه
صلوات الله وسلامه عليه في قصة زينب وزيد ({وتخفي في نفسك
ما الله مبديه}) وهو نكاح زينب إن طلقها زيد أو إرادة
طلاقها أو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته كما أخرجه ابن
أبي حاتم من طريق السدي لفظ: بلغنا أن هذه الآية نزلت في
زينب بنت جحش: وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد
أن يزوّجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك ثم إنها رضيت بما
صنع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فزوجها
إياه ثم أعلم الله نبيه بعد أنها من أزواجه فكان يستحي أن
يأمره بطلاقها.
وعنده من طريق علي بن زيد عن علي بن الحسين بن علي قال:
أعلم الله نبيه أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوّجها
فلما أتاه زيد يشكوها إليه وقال له: اتق الله وأمسك عليك
زوجك قال الله: إني قد أخبرتك إني مزوجكها وتخفي في نفسك
ما الله مبديه، لكن في الثاني علي بن زيد بن جدعان وهو
ضعيف.
({وتخشى الناس}) أي تعييرهم إياك به والواو عطف على تقول
أي وإذ تجمع بين قولك كذا وإخفاء كذا وخشية الناس ({والله
أحق أن تخشاه}) [الأحزاب: 37] وحده إن كان فيه ما يخشى
والواو للحال وسقط قوله باب لغير أبي ذر.
4787 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ،
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي
الله عنه- أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ
مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ
ابْنَةِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. [الحديث 4787 -
طرفه في: 7420].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي الوقت: حدّثني بالإفراد (محمد بن
عبد الرحيم) صاعقة قال: (حدّثنا معلى بن منصور) الرازي
نزيل بغداد (عن حماد بن زيد) اسم جده درهم الأزدي الجهضمي
البصري قال: (حدّثنا ثابت) البناني (عن أنس بن مالك -رضي
الله عنه- أن هذه الآية ({وتخفي في نفسك ما الله مبديه}
نزلت في شأن زينب ابنة جحش) ولأبي ذر بنت جحش بإسقاط الألف
(وزيد بن حارثة) كذا اقتصر على هذا القدر من هذه القصة
هنا.
وأخرجه بأتم من هذا في باب: وكان عرشه على الماء من كتاب
التوحيد من وجه آخر على حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال:
جاء زيد بن حارثة يشكو فجعل النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك. قالت
عائشة: لو كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كاتمًا شيئًا لكتم هذه الآية. قال: فكانت زينب
تفخر على أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
وعن ثابت: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس}
[الأحزاب: 37] نزلت في شأن زينب وزيد بن حارثة وذكر ابن
جرير وابن أبي حاتم هنا آثارًا لا ينبغي إيرادها وما ذكرته
فيه مقنع والله يهدينا إلى سواء السبيل بمنّه وكرمه.
7 - باب قَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ
وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: تُرْجِي: تُؤَخِّرُ. أَرْجِهُ: أَخِّرْهُ
(باب قوله) عز وجل: ({ترجي}) تؤخر ({من تشاء منهن}) من
الواهبات ({وتؤوي}) وتضم ({إليك من تشاء})، منهن ({ومن
ابتغيت}) ومن طلبت ({ممن عزلت}) رددت أنت
منهن فيه بالخيار إن شئت عدت فيه فآويته ({فلا جناح عليك})
[الأحزاب: 51] في شيء من ذلك. قال عامر الشعبي: كن نساء
وهبن أنفسهن له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدخل
ببعض وأوجأ بعضًا منهن أم شريك وهذا شاذ والمحفوظ أنه لم
يدخل بأحد من الواهبات ما سيأتي قريبًا في هذا الباب إن
شاء الله تعالى، أو المراد بالإرجاء والإيواء القسم وعدمه
لأزواجه أي إن شئت تقسم لهن
(7/297)
أو لبعضهن وتقدم من شئت وتؤخر من شئت
وتجامع من شئت وتترك من شئت، كذا روي عن ابن عباس ومجاهد
والحسن وقتادة وغيرهم، وذلك لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع إلى عبده،
ومن ثم قال جماعة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم لم يكن
القسم واجبًا عليه صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال أبو
رزين وابن زيد نزلت الآية عقب آية التخيير ففوّض الله
تعالى أمرهن إليه يفعل فيهن ما يشاء من قسم وتفضيل بعض في
النفقة وغيرها فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط -رضي الله
عنه- ومع ذلك قسم اختيارًا منه لا على سبيل الوجوب وسوى
بينهن وعدل فيهن كذلك.
وحديث الباب الأوّل يقتضي إن الآية نزلت في الواهبات،
والثاني في أزواجه، واختار ابن جرير أن الآية عامة في
الواهبات واللاتي عنده وهو اختيار حسن جامع للأحاديث.
(وقال ابن عباس) فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن
أبي طلحة عنه (ترجي) أي (تؤخر) وقوله: (أرجه) في الأعراف
والشعراء أي (أخره) وذكره استطرادًا وهو من تفسير ابن عباس
فيما رواه ابن أبي حاتم.
4788 - حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ
عَلَى اللاَّتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَقُولُ: أَتَهَبُ
الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي
إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ
عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} قُلْتُ: مَا أُرَى
رَبَّكَ إِلاَّ يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ. [الحديث 4788 -
طرفه: 5113].
وبه قال: (حدّثنا زكريا بن يحيى) أبو السكين الطائي الكوفي
قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة: (قال هشام) هو ابن
عروة (حدّثنا) قال في الفتح فيه تقديم المخبر على الصيغة
وهو جائز وتقديره قال: حدّثنا هشام (عن أبيه) عروة بن
الزبير بن العوّام (عن عائشة - رضي الله عنها-) أنها
(قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) كذا روي بالغين
المعجمة من الغيرة وهي الحمية والأنفة. وعند الإسماعيلي من
طريق محمد بن بشر عن هشام كانت تعير اللاتي وهبن أنفسهن
بعين مهملة وتشديد التحتية (وأقول: أتهب المرأة نفسها)
وظاهر قوله وهبن أن الواهبة أكثر من واحدة منهن خولة بنت
حكيم وأم شريك وفاطمة بنت شريح وزينب بنت خزيمة كما سيأتي
في النكاح إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك. وفي حديث
سماك عن عكرمة
عن ابن عباس عند الطبري بإسناد حسن لم يكن عند رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امرأة وهبت نفسها له،
والمراد أنه لم يدخل بواحدة ممن وهبن أنفسهن له وإن كان
مباحًا له لأنه راجع إلى إرادته (فلما أنزل الله تعالى
{ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن
عزلت فلا جناح عليك} قلت ما أرى): بضم الهمزة أي ما أظن
(ربك إلا يسارع في هواك) أي إلا موجدًا لك مرادك بلا
تأخير.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في النكاح والنسائي فيه وفي عشرة
النساء والتفسير.
4789 - حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ
مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ
يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ
أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ
ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ}
فَقُلْتُ لَهَا: مَا كُنْتِ تَقُولِينَ؟ قَالَتْ كُنْتُ
أَقُولُ لَهُ: إِنْ كَانَ ذَاكَ إِلَيَّ فَإِنِّي لاَ
أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْكَ
أَحَدًا. تَابَعَهُ عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ سَمِعَ
عَاصِمًا.
وبه قال: (حدّثنا حبان بن موسى) بكسر الحاء المهملة وتشديد
الموحدة السلمي المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك
قال: (أخبرنا عاصم) هو ابن سليمان (الأحول) البصري (عن
معاذة) بنت عبد الله العدوية (عن عائشة -رضي الله عنها- أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يستأذن
في يوم المرأة منا) بإضافة يوم إلى المرأة أي يوم نوبتها
إذا أراد أن يتوجه إلى الأخرى (بعد أن أنزلت هذه الآية
{ترجي من نشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن
عزلت فلا جناح عليك}) قالت معاذة: (فقلت لها) أي لعائشة
مستفهمة: (ما كنت تقولين؟) له عليه الصلاة والسلام (قالت:
كنت أقول له إن كان ذاك) الاستئذان (إليّ فإني لا أريد يا
رسول الله أن أؤثر عليك أحدًا) وظاهره أنه عليه الصلاة
والسلام لم يرجئ أحدًا منهن وهو قول الزهري فيما أخرجه ابن
أبي حاتم ما أعلم أنه أرجى أحدًا من نسائه. (وتابعه) أي
تابع عبد الله بن المبارك (عباد بن عباد) بفتح العين
والموحدة المشددة فيهما أبو معاوية المهلبي فيما وصله ابن
مردويه في تفسيره فقال: إنه (سمع عاصمًا) الأحول.
والحديث أخرجه مسلم في الطلاق وأبو داود في النكاح
والنسائي في عشرة النساء.
8 - باب قَوْلِهِ:
{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ
لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ
إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ
فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ
ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ
وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ
وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا
أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ
ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} يُقَالُ إِنَاهُ:
إِدْرَاكُهُ أَنَى يَأْنِى أَنَاةً. {لَعَلَّ السَّاعَةَ
تَكُونُ قَرِيبًا} إِذَا وَصَفْتَ صِفَةَ الْمُؤَنَّثِ
قُلْتَ قَرِيبَةً، وَإِذَا جَعَلْتَهُ ظَرْفًا وَبَدَلًا
وَلَمْ تُرِدِ الصِّفَةَ نَزَعْتَ الْهَاءَ مِنَ
الْمُؤَنَّثِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُهَا فِي الْوَاحِدِ
وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى.
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (قوله: {لا تدخلوا بيوت النبي
إلا أن يؤذن لكم}) أي إلا مصحوبين بالإذن فهي
(7/298)
في موضع الحال أو إلا بسبب الإذن لكم فأسقط
باء السبب وقال القاضي كالزمخشري إلا وقت أن يؤذن لكم ورده
أبو حيان بأن النحاة نصوا على أن المصدرية لا تقع موقع
الظرف لا يجوز آتيك أن يصيح الديك وإن جاز ذلك في المصدر
الصريح نحو آتيك صياح الديك ({إلى طعام}) متعلق بيؤذن لأنه
بمعنى إلا أن تدعوا إلى طعام ({غير ناظرين إناه}) نصب على
الحال فعند الزمخشري العامل فيه يؤذن وعند غيره مقدر أي
ادخلوا غير ناظرين إدراكه أو وقت نضجه والمعنى لا ترقبوا
الطعام ذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن
هذا مما يكرهه الله ويذمه قال ابن كثير وهذا دليل على
تحريم التطفيل وقد صنف الخطيب البغدادي كتابًا في ذم
الطفيليين ذكر فيه من أخبارهم ما يطول إيراده وأمال حمزة
والكسائي أناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك ({ولكن إذا
دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا}) تفرقوا واخرجوا من
منزله ولا تمكثوا والآية إما تقديم أي لا تدخلوا إلى طعام
إلا أن يؤذن لكم أولًا والثاني أولى لأن الأصل عدم التقديم
وحينئذ فالإذن مشروط بكونه إلى طعام فلو أذن لأحد أن يدخل
بيوته لغير الطعام أو لبث بعد الطعام لحاجة لا يجوز لكنا
نقول الآية خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيدخلون ويقعدون
منتظرين لإدراكه فهي مخصوصة بهم وبأمثالهم فيجوز ولا يشترط
التصريح بالإذن بل يكفي العلم بالرضا كما يشعر به قوله إلا
أن يؤذن لكم حيث لم يبين الفاعل مع قوله أو صديقكم ({ولا
مستأنسين لحديث}) نصب عطفًا على غير أي لا تدخلوها غير
ناظرين ولا مستأنسين أو حال مقدرة أي لا تدخلوا هاجمين ولا
مستأنسين أو جر عطفًا على ناظرين أي غير ناظرين وغير
مستأنسين واللام في لحديث للعلة أي لأجل أن يحدث بعضكم
بعضًا والمعنى ولا طالبين الأنس للحديث وكانوا يجلسون بعد
الطعام يتحدثون طويلًا فنهوا عنه ({إن ذلكم}) الانتظار
والاستئناس ({كان يؤذي النبي}) لتضييق المنزل عليه وعلى
أهله وإشغاله فيما لا يعنيه ({فيستحيي منكم}) أي من
إخراجكم فهو من تقدير المضاف بدليل قوله: ({والله لا
يستحيي من الحق}) أي أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء
ولهذا نهاكم وزجركم عنه قال في الكشاف وهذا أدب أدّب الله
به الثقلاء وقال السمرقندي في الآية حفظ الأدب وتعليم
الرجل إذا كان ضيفًا لا يجعل نفسه ثقيلًا بل إذا كل ينبغي
أن يخرج ({وإذا سألتموهن متاعًا}) حاجة (فاسألوهن) المتاع
({من وراء حجاب}) أي ستر ({ذلكم}) أي الذي شرعته لكم من
الحجاب ({أطهر لقلوبكم وقلوبهن}) من الريب لأن العين روزنة
القلب فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب فهو عند عدم الرؤية
أطهر وعدم الفتنة حينئذٍ أظهر وهذه آية الحجاب وهي مما
وافق تنزيلها قول عمر كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى
({وما كان لكم}) وما صح لكم ({أن تؤذوا رسول الله}) أن
تفعلوا شيئًا يكرهه ({ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده
أبدًا}) [الأحزاب: 53] بعد وفاته أو فراقه تعظيمًا له
وإيجابًا لحرمته.
وفي حديث عكرمة عن ابن عباس مما رواه ابن أبي حاتم أن
الآية نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعده قال رجل لسفيان: أهي
عائشة؟ قال قد ذكروا ذاك، وكذا قال مقاتل وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم، وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك
طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- حتى نزل التنبيه على
تحريم ذلك ({إن ذلكم}) أي إيذاءه ونكاح نسائه ({كان عند
الله}) ذنبًا ({عظيمًا}) وسقط لأبي ذر قوله: غير ناظرين
إناه الخ وقال بعد قوله: (إلى طعام) إلى قوله: (إن ذلكم
كان عند الله عظيمًا يقال إناه) قال أبو عبيدة أي (إدراكه)
وبلوغه ويقال (أنى) بفتح الهمزة والنون (يأنى) بسكون
الهمزة وفتح النون (أناة) بفتح الهمزة والنون من غير همز
آخره هاء تأنيث مقصور ولابن عساكر إناء
(7/299)
بهمزة من غير هاء تأنيث وزاد أبو ذر: فهو
آن.
({لعل الساعة تكون قريبًا}) [الأحزاب: 63] القياس أن يقول
قريبة بالتاء وأجاب المؤلّف عنه بأنك (إذا وصفت صفة المؤنث
قلت قريبة) بالتاء (وإذا جعلته ظرفًا) قال الكرماني: أي
اسمًا زمانيًا وعبارة أبي عبيدة مجازه مجاز الظرف (وبدلًا)
أي عن الصفة يعني جعلته اسمًا مكان الصفة (ولم ترد الصفة
نزعت الهاء من المؤنث) فقلت قريبًا (وكذلك لفظها) أي لفظ
الكلمة المذكورة إذا لم ترد الصفة يستوي (في) لفظها
(الواحد والاثنين والجميع للذكر والأنثى) بغير هاء وبغير
جمع وبغير تثنية. وقال في الدر الظاهر أن لعل تعلق ما يعلق
التمني وقريبًا خبر كان على حذف موصوف أي شيئًا قريبًا
وقيل التقدير قيام الساعة فروعيت الساعة في تأنيث تكون
وروعي المضاف المحذوف في تذكير قريبًا، وقيل قريبًا أكثر
استعماله استعمال الظروف فهو هنا ظرف في موضع الخبر وسقط
لأبوي ذر والوقت وابن عساكر لفظ الواحد وقال العيني كابن
حجر وسقط لغير أبي ذر والنسفيّ قوله: لعل الساعة الخ وصوب
لأنه ساقه في غير محله لتقديمه على الأحاديث المسوقة في
معنى قوله لا تدخلوا بيوت النبي إلى آخرها.
4790 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: قُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ
وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْحِجَابِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (عن يحيى) هو ابن
سعيد القطان ولأبي ذر حدّثنا يحيى (عن حميد) الطويل (عن
أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال عمر) بن الخطاب (-رضي
الله عنه-: قلت: يا رسول الله يدخل عليك) في بيوتك (البر
والفاجر) هو الفاسق وهو مقابل البر (فلو أمرت أمهات
المؤمنين بالحجاب فأنزل الله) تعالى (آية الحجاب}) وهذا
طرف من حديث ذكره في باب ما جاء في القبلة من كتاب الصلاة
وسورة البقرة أوله: وافقت ربي في ثلاث وقد تحصل من
جملة الأخبار لعمر من الموافقات خمسة عشر تسع لفظيات وأربع
معنويات واثنتان في التوراة فأما اللفظيات فمقام إبراهيم
حيث قال: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى،
فنزلت والحجاب وأسارى بدر حيث شاوره -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيهم فقال: يا رسول الله هؤلاء أئمة
الكفر فاضرب أعناقهم فهوى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما قاله الصديق من إطلاقهم وأخذ
الفداء فنزلت {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} [الأنفال: 67]
رواه مسلم وغيره وقوله لأمهات المؤمنين: لتكففن عن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو ليبدلنه الله
أزواجًا خيرًا منكنّ فنزلت أخرجه أبو حاتم وغيره، وقوله
لما اعتزل عليه الصلاة والسلام نساءه في المشربة يا رسول
الله: إن كنت طلقت نساءك فإن الله عز وجل معك وجبريل وأنا
وأبو بكر والمؤمنون فأنزل الله {وإن تظاهرا عليه} الآية،
وأخذه بثوب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما
قام يصلّي على عبد الله بن أبي ومنعه من الصلاة عليه فأنزل
الله {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا} [التوبة: 84]
أخرجاه ولما نزل {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله
لهم} قال عليه الصلاة والسلام: فلأزيدن على السبعين فأخذ
في الاستغفار لهم فقال عمر: يا رسول الله والله لا يغفر
الله لهم أبدًا استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، فنزلت {سواء
عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم}
أخرجه في الفضائل ولما نزل قوله تعالى: {ولقد خلقنا
الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله: {أنشأناه خلقًا آخر}
قال عمر: تبارك الله أحسن الخالقين رواه الواحدي في أسباب
النزول.
وفي رواية فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: تزيد في القرآن يا عمر فنزل جبريل بها وقال
إنها تمام الآية خرجها السجاوندي في تفسيره، ولما استشاره
عليه الصلاة والسلام في عائشة حين قال لها أهل الإفك ما
قالوا فقال عمر: يا رسول الله من زوجكها. قال الله تعالى،
قال: أفتظن أن ربك دلس عليك فيها {سبحانك هذا بهتان عظيم}
فأنزلها الله تعالى ذكره صاحب الرياض عن رجل من الأنصار.
وأما المعنويات فروى ابن السمان في الموافقة أن عمر قال
لليهود: أنشدكم بالله هل تجدون وصف محمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كتابكم؟ قالوا: نعم. قال: فما
يمنعكم من اتباعه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولًا إلا كان
(7/300)
له من الملائكة كفيل وإن جبريل هو الذي
يكفل محمدًا وهو عدوّنا من الملائكة وميكائيل سلمنا فلو
كان هو الذي يأتيه لاتبعناه قال عمر فإني أشهد أنه ما كان
ميكائيل ليعادي سلم جبريل وما كان جبريل ليسالم عدوّ
ميكائيل فنزل {قل من كان عدوًا لجبريل} إلى قوله: {عدوّ
للكافرين} [البقرة: 97].
وعند القلعي أن عمر كان حريصًا على تحريم الخمر وكان يقول:
اللهم بين لنا في الخمر فإنها تذهب المال والعقل فنزل
{يسألونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219] الآية. فتلاها
عليه عليه الصلاة والسلام فلم ير فيها بيانًا فقال: اللهم
بين لنا فيها بيانًا شافيًا فنزل {يا أيها الذين آمنوا لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] فتلاها عليه،
عليه الصلاة والسلام فلم ير
فيها بيانًا شافيًا فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا
شافيًا فنزل {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر}
[المائدة: 90] الآية. فتلاها عليه عليه الصلاة والسلام
فقال عمر عند ذلك: انتهينا يا رب انتهينا، وذكر الواحدي
إنها نزلت في عمر ومعاذ ونفر من الأنصار، وعن ابن عباس أنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل غلامًا من
الأنصار إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فدخل فرأى
عمر على حالة كره عمر رؤيته عليها فقال: يا رسول الله وددت
لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان فنزلت {يا أيها
الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} [النور: 58]
الآية رواه أبو الفرج وصاحب الفضائل، وقال بعد قوله: فدخل
عليه وكان نائمًا وقد انكشف بعض جسده فقال: اللهم حرم
الدخول علينا في وقت نومنا فنزلت ولما نزل قوله تعالى:
{ثلة من الأوّلين وقليل من الآخرين} [الواقعة: 13] بكى عمر
وقال: يا رسول الله وقليل من الآخرين آمنا برسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصدقناه ومن ينجو منا
قليل، فأنزل الله تعالى: {ثلة من الأوّلين وثلة من
الآخرين} [الواقعة: 39، 40] فدعاه رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقال قد أنزل الله فيما قلت.
وأما موافقته لما في التوراة فعن طارق بن شهاب جاء رجل
يهودي إلى عمر بن الخطاب فقال: أرأيت قوله تعالى: {وسارعوا
إلى مغفرة من رَبكُم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدّت
للمتقين} [آل عمران: 133] فأين النار؟ فقال لأصحاب النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أجيبوه فلم يكن
عندهم منها شيء فقال عمر: أرأيت النهار إذا جاء أليس يملأ
السماوات والأرض؟ قال: بلى. قال: فأين الليل؟ قال: حيث شاء
الله عز وجل. قال عمر: فالنار حيث شاء الله عز وجل. قال
اليهودي: والذي نفسك بيده يا أمير المؤمنين إنها لفي كتاب
الله المنزل كما قلت أخرجه الخلعي وابن السمان في
الموافقة. وروي أن كعب الأحبار قال يومًا عند عمر بن
الخطاب: ويل لملك الأرض من ملك السماء. فقال عمر: إلا من
حاسب نفسه، فقال كعب: والذي نفسي بيده إنها لتابعتها في
كتاب الله عز وجل فخرّ عمر ساجدًا لله. اهـ.
ملخصًا من مناقب عمر من الرياض وزاد بعضهم آية الصيام في
حل الرفث {ونساؤكم حرث لكم} [البقرة: 223] و {لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء: 65] إذ أفتى بقتل
ونسخ الرسم لآية قد نزلت في الرجم وفي الأذان.
4791 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ،
قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ، حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا
تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ، دَعَا الْقَوْمَ
فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، وَإِذَا هُوَ
كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا،
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ
قَامَ وَقَعَدَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَدْخُلَ فَإِذَا
الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا،
فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا
فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى
الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ
النَّبِيِّ}
[الأحزاب: 53] الآيَةَ. [الحديث 4791 - أطرافه في: 4792،
4793، 4794، 5154، 5163، 5166، 5168، 5170، 5171، 5466،
6228، 6229، 6271، 7421].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله الرقاشي) بفتح الراء
والقاف المشدّدة وبعد الألف معجمة فتحتية نسبة لرقاش بنت
ضبيعة قال: (حدّثنا معتمر بن سليمان قال سمعت أبي) سليمان
بن طرخان (يقول: حدّثنا أبو مجلز) بكسر الميم وسكون الجيم
وبعد اللام المفتوحة زاي لاحق بن حميد (عن أنس بن مالك رضي
الله عنه) أنه (قال: لما تزوج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب ابنة جحش) سنة ثلاث أو خمس أو
غير ذلك ولأبي ذر بنت بإسقاط الألف (دعا القوم فطعموا ثم
جلسوا يتحدثون) فأطالوا الجلوس (وإذا هو) عليه الصلاة
والسلام (كأنه يتهيّأ للقيام) ليفطنوا لمراده فيقوموا
لقيامه (فلم يقوموا) وكان عليه الصلاة والسلام يستحي أن
يقول لهم قوموا (فلما رأى ذلك قام) لكي يقوموا ويخرجوا
(فلما قام من قام وقعد ثلاثة نفر) لم يسموا يتحدثون في
البيت وخرج عليه الصلاة والسلام (فجاء النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليدخل) على زينب (فإذا القوم
جلوس) في بيتها فرجع عليه الصلاة والسلام (ثم أنهم قاموا)
فخرجوا (فانطلقت فجئت فأخبرت
(7/301)
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أنهم قد انطلقوا فجاء) عليه الصلاة والسلام (حتى دخل فذهبت
أدخل فألقى الحجاب) أي الستر (بيني وبينه فأنزل الله)
تعالى ({يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية)
[الأحزاب: 53] بعد خروج القوم.
4792 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ،
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ
بِهَذِهِ الآيَةِ آيَةِ الْحِجَابِ: لَمَّا أُهْدِيَتْ
زَيْنَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَانَتْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ، صَنَعَ طَعَامًا
وَدَعَا الْقَوْمَ، فَقَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَجَعَلَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْرُجُ
ثُمَّ يَرْجِعُ، وَهُمْ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}
-إِلَى قَوْلِهِ- {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فَضُرِبَ
الْحِجَابُ، وَقَامَ الْقَوْمُ.
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قاضي مكة قال:
(حدّثنا حماد بن زيد) اسم جده درهم (عن أيوب) السختياني
(عن أبي قلابة) بكسر القاف عبد الله الجرمي أنه قال: (قال
أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (أنا أعلم الناس بهذه الآية
آية الحجاب) بخفض آية الحجاب بدلًا من سابقتها (لما أهديت
زينب بنت جحش -رضي الله عنها-) وزفت (إلى رسول الله) ولأبي
ذر إلى النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط
لغير أبي ذر بنت جحش -رضي الله عنها- (كانت معه في البيت
صنع طعامًا ودعا القوم فقعد ويتحدثون) بعد أن أكلوا (فجعل
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخرج) لكي
يخرجوا (ثم يرجع) لبيت زينب (وهم قعود يتحدثون فأنزل الله
تعالى) قبل خروجهم ({يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت
النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} -إلى
قوله- {من وراء حجاب}) وسقط لأبي ذر {إلى
طعام غير ناظرين إناه} (فضرب الحجاب) بضم الضاد مبنيًّا
للمفعول (وقام القوم).
4793 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ
عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: بُنِيَ عَلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ،
فَأُرْسِلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا فَيَجِيءُ قَوْمٌ
فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ
فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا
أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ
مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ، قَالَ: ارْفَعُوا
طَعَامَكُمْ وَبَقِيَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي
الْبَيْتِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ:
«السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ». فَقَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ.
فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ، يَقُولُ لَهُنَّ
كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ، وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ
عَائِشَةُ. ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا ثَلاَثَةُ رَهْطٍ فِي
الْبَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَدِيدَ الْحَيَاءِ فَخَرَجَ
مُنْطَلِقًا نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَمَا أَدْرِي
آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا،
فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسْكُفَّةِ
الْبَابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين
مهملة ساكنة عبد الله بن عمرو المقعد قال: (حدّثنا عبد
الوارث) بن سعيد التنوري البصري قال: (حدّثنا عبد العزيز
بن صهيب) البناني البصري (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه
(قال: بني) بضم الموحدة وكسر النون أي دخل (على النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بزينب ابنة) ولأبي ذر
بنت (جحش بخبز ولحم فأرسلت) بضم الهمزة وكسر السين وسكون
اللام مبنيًّا للمفعول أي أرسلني النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (على الطعام) حال كوني (داعيًا) القوم
للأكل منه (فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ثم يجيء قوم فيأكلون
ويخرجون فدعوت) القوم (حتى ما أجد أحدًا أدعو) بحذف ضمير
المفعول (فقلت: يا نبي الله ما أجد أحدًا أدعوه) بإثبات
ضمير النصب ولأبوي ذر والوقت أدعو بحذفه (قال) عليه الصلاة
والسلام ولابن عساكر فقال:
(ارفعوا طعامكم) ولأبي ذر والأصيلي فارفعوا بالفاء (وبقي
ثلاثة رهط) لم يسموا (يتحدثون في البيت فخرج النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ليخرجوا (فانطلق إلى حجرة
عائشة) -رضي الله عنها- (فقال: السلام عليكم أهل البيت
ورحمة الله) وفي نسخة أبي ذر: رحمت الله بالتاء المجرورة
كالتالية (فقالت) عائشة (وعليك السلام) وسقط لأبي ذر
السلام (ورحمة الله. كيف وجدت أهلك) تريد زينب (بارك الله
لك. فتقرى) بفتح الفوقية والقاف والراء المشددة مقصورًا من
غير همز أي تتبع (حجر نسائه كلهن) بالجر تأكيد لنسائه
(يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن) ولأبي ذر فيقلن الله كما
قالت عائشة) -رضي الله عنه- قالت عائشة:
(ثم رجع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإذا
ثلاثة رهط في البيت يتحدثون وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شديد الحياء) ولذا لم يواجههم بالأمر
بالخروج بل تشاغل بالسلام على أمهات المؤمنين ليفطنوا
لمراده (فخرج منطلقًا نحو حجرة عائشة) ففطنوا لمراده
فخرجوا (فما أدري آخبرته) بمد الهمزة في الفرع كأصله (أو
أخبر)
بضم الهمزة مبنيًا للمفعول والشك من أنس (أن القوم خرجوا
فرجع) عليه الصلاة والسلام (حتى إذا وضع رجله) الشريفة (في
أسكفة الباب) بضم الهمزة وسكون المهملة وضم الكاف وتشديد
الفاء مفتوحة العتبة التي يوطأ عليها (داخلة) وفي نسخة
داخله بهاء الضمير للباب (وأخرى خارجة) ولأبي ذر والأخرى
بالتعريف خارجة بضمير الباب (أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت
آية الحجاب) بعد قيام القوم.
4794 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنَا
حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَوْلَمَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ فَأَشْبَعَ
النَّاسَ خُبْزًا وَلَحْمًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُجَرِ
أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ صَبِيحَةَ
بِنَائِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيَدْعُو لَهُنَّ،
وَيُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ. فَلَمَّا رَجَعَ
إِلَى بَيْتِهِ رَأَى رَجُلَيْنِ جَرَى بِهِمَا
الْحَدِيثُ، فَلَمَّا رَآهُمَا رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ،
فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلاَنِ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ وَثَبَا
مُسْرِعَيْنِ، فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ
بِخُرُوجِهِمَا أَمْ أُخْبِرَ، فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ
الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ،
وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي
مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ
سَمِعَ أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن منصور) المروزي قال: (أخبرنا
عبد الله بن بكر) بفتح الموحدة وسون الكاف (السهمي)
الباهلي البصري قال: (حدّثنا حميد) الطويل (عن أنس -رضي
الله عنه-) أنه (قال: أولم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين بنى بزينب
(7/302)
ابنة) ولأبي ذر بنت (جحش فأشبع الناس خبزًا
ولحمًا ثم خرج) عليه الصلاة والسلام والقوم جالسون يتحدثون
بعد أن أكلوا (إلى حجر أمهات المؤمنين كما كان يصنع) عليه
الصلاة والسلام (صبيحة بنائه) أي صباحًا بعد ليلة الزفاف
(فيسلم عليهن ويدعو لهن ويسلمن عليه ويدعون له) ولأبي ذر
فيسلم عليهن ويسلمن عليه ويدعو لهن ويدعون له (فلما رجع
إلى بيته رأى رجلين جرى بهما الحديث) في السابق فإذا
ثلاثة. وأجاب البرماوي كالكرماني بأن مفهوم العدد لا
اعتبار له والمحادثة كانت بينهما والثالث ساكن، وقال في
الفتح: كان أحد الثلاثة فطن لمراد الرسول فخرج وبقي
الاثنان (فلما رآهما رجع عن بيته فلما رأى الرجلان نبي
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجع عن بيته)
وفهما مراده (وثبا مسرعين) قال أنس: (فما أدري أنا أخبرته
بخروجهما أم أخبر فرجع) عليه الصلاة والسلام (حتى دخل
البيت وأرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب) ظاهره
كالسابق نزول الآية بعد قيام القوم إلا الثانية فقبله فأول
بأنها نزلت حال قيامهم أي أنزلها الله وقد قاموا.
(وقال ابن أبي مريم) هو سعيد بن محمد بين الحكم بن أبي
مريم المصري ولأبي ذر إبراهيم ابن أبي مريم شيخ المؤلّف
وذكر إبراهيم غلط فاحش (أخبرنا يحيى) بن أيوب الغافقي
المصري قال: (حدّثني) بالإفراد (حميد) الطويل أنه (سمع
أنسًا) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) صرح حميد بالسماع من أنس فعنعنته غير مؤثرة.
4795 - حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
-رضي الله عنها- قَالَتْ خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَ مَا
ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً
جَسِيمَةً لاَ تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ أَمَا
وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كَيْفَ
تَخْرُجِينَ. قَالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً وَرَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِي،
وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ، فَدَخَلَتْ
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ
حَاجَتِي، فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا وَكَذَا: قَالَتْ:
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ وَإِنَّ
الْعَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ
أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (زكريا بن
يحيى) بن صالح البلخي الحافظ قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد
بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي
الله عنها-) أنها (قالت: خرجت سودة) بنت زمعة أم المؤمنين
-رضي الله عنها- (بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها) بضم الضاد
المعجمة مبنيًّا للمفعول (وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على
من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- (فقال: يا
سودة أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم وبعدها ألف حرف
استفتاح ولأبي ذر أم بحذف الألف (والله ما تخفين علينا
فانظر كيف تخرجين) ولعله قصد المبالغة في احتجاب أمهات
المؤمنين بحيث لا يبدين أشخاصهن أصلًا ولو كن مستترات
(قالت: فانكفأت) بالهمزة أي انقلبت حال كونها (راجعة ورسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيتي وأنه)
بالواو ولأبي ذر فإنه (ليتعشى وفي يده) ولأبوي ذر والوقت
في يده بإسقاط الواو (عرق) بفتح العين وسكون الراء ثم قاف
العظم الذي عليه اللحم (فدخلت فقالت: يا رسول الله إني
خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا قالت): أي عائشة
(فأوحى الله إليه) ولأبي ذر فأوحي إليه بضم الهمزة مبنيًّا
للمفعول (ثم رفع عنه) ما كان فيه من الشدة بسبب نزول
الوحّي (وإن العرق) بفتح العين وسكون الراء (في يده ما
وضعه) والجملة حالية (فقال: إنه) أي أن الشأن (قد أذن) بضم
الهمزة مبنيًّا للمفعول (لكنّ أن تخرجن لحاجتكن) دفعًا
للمشقة ورفعًا للحرج، وفيه تنبيه على أن المراد بالحجاب
التستر حتى لا يبدو من جسدهن شيء لا حجب أشخاصهن في البيوت
والمراد بالحاجة البراز كما وقع في الوضوء من تفسير هشام
بن عروة وقال الكرماني وتبعه البرماوي فإن قلت: قال ها هنا
أنه كان بعد ما ضرب الحجاب، وقال في كتاب الوضوء في باب
خروج النساء إلى البراز أنه قبل الحجاب قلت لعله وقع مرتين
اهـ.
ومراده أن خروج سودة للبراز وقول عمر لها ما ذكر وقع مرتين
لا وقوع الحجاب، وقول الحافظ ابن حجر عقب جواب الكرماني،
قلت: بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني وذكره
العيني وأقره فيه نظر إذ ليس في الحديث ما يدل لذلك بل ولا
أعلم أحدًا قال بتعدّد الحجاب. نعم يحتمل أن يكون مراده
الحجاب الثاني بالنظر لإرادة عمر -رضي الله عنه- أن يحتجبن
في البيوت فلا يبدين أشخاصهن فوقع الإذن لهن في الخروج
لحاجتهن دفعًا للمشقة كما صرح هو به في الفتح وليس المراد
نزول الحجاب مرتين
(7/303)
على نوعين، وأما قوله أيضًا تقدم في كتاب
الطهارة
من طريق هشام بن عروة عن أبيه ما يخالف ظاهر رواية الزهري
هذه عن عروة يعني رواية هذا الباب فليس كذلك فإن رواية هذا
الباب إنما هي من طريق هشام بن عروة عن أبيه والسابقة
المصرحة بالقبلية من طريق الزهري عن عروة فلعلّه سبق قلم.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله بعد ما ضرب الحجاب.
9 - باب قَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ
وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ
وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب: 54،
55]
(وقوله) تعالى يخاطب من أضمر نكاح عائشة بعده -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ({إن تبدوا}) ولأبي ذر باب
بالتنوين في قوله: إن تبدوا ({شيئًا}) تظهروا شيئًا من
تزوّج أمهات المؤمنين على ألسنتكم ({أو تخفوه}) في صدوركم
({فإن الله كان بكل شيء عليمًا}) لا تخفى عليه خافية يعلم
خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولما نزلت آية الحجاب قال
الآباء والأبناء والأقارب أو نحن أيضًا نكلمهن من وراء
حجاب فأنزل الله تعالى: ({لا جناح}) لا إثم ({عليهن في})
أن لا يحتجبن من ({آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا
أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن}) يعني النساء
المؤمنات لا الكتابيات ({ولا ما ملكت أيمانهن}) من العبيد
والإماء. وقال سعيد بن المسيب مما رواه ابن أبي حاتم إنما
يعني به الإماء فقط وإنما لم يذكر العم والخال لأنهما
بمنزلة الوالدين ولذلك سمى العم أبًا في قوله: {وإله آبائك
إبراهيم إسماعيل وإسحاق}، وقال عكرمة والشعبي فيما رواه
ابن جرير عنه لأنهما ينعتانها لأبنائهما وكرها أن تضع
خمارها عند خالها وعمها. ({واتقين الله}) عطف على محذوف أي
امتثلن ما أمرتن واتقين الله أن يراكن غير هؤلاء ({إن الله
على كل شيء شهيدًا}) [الأحزاب: 54، 55] أي إنه تعالى شاهد
عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله
فاتقوه فإنه شهيد على كل شيء فراقبوا الرقيب وسقط لأبي ذر
من قوله: ({بكل شيء عليمًا} إلى قوله: {على كل شيء شهيدًا}
وقال بعده قوله: {كان} إلى قوله: {شهيدًا} وسقط لفظ باب
لغيره.
4796 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ
أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ
عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ، بَعْدَ مَا
أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ: لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى
أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ
هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي
الْقُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ،
فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَمَا
مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِين عَمُّكِ؟» قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ
أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي
الْقُعَيْسِ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ،
تَرِبَتْ يَمِينُكِ» قَالَ عُرْوَةُ: فَلِذَلِكَ كَانَتْ
عَائِشَةُ تَقُولُ: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا
تُحَرِّمُونَ مِنَ النَّسَبِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام
(أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: استأذن عليّ) بتشديد
الياء أي طلب الإذن في الدخول عليّ (أفلح) بفتح الهمزة
وسكون الفاء وبعد اللام المفتوحة حاء مهملة (أخو أبي
القعيس) بضم القاف وفتح العين المهملة وبعد التحتية
الساكنة مهملة واسمه وائل الأشعري (بعد ما أنزل الحجاب)
آخر سنة خمس (فقلت: لا آذن له) بالمد ليس في اليونينية لفظ
والله بعد فقلت (حتى أستأذن فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن أخاه أبا القعيس ليس هو) الذي
(أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل عليّ النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت له: يا رسول
الله) سقط لفظ له لأبي ذر (إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن)
أي في الدخول عليّ (فأبيت أن آذن) بالمد وزاد أبو ذر له
(حتى أستأذنك، فقال النبي) وفي نسخة فقال رسول الله
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(وما منعك أن تأذنين) بالرفع بثبوت النون كقراءة: أن يتم
الرضاعة شاذة بالرفع على إهمال أن الناصبة حملًا على ما
أختها لاشتراكهما في المصدرية قاله البصريون ولم يجعلوها
المخففة من الثقيلة لأنه لم يفصل بينها وبين الجملة
الفعلية بعدها أو أن ما قبلها ليس بفعل علم ويقين، وقال
الكوفيون هي المخففة من الثقيلة وشذ وقوعها موقع الناصبة
كما شذ وقوع الناصبة موقعها، ولأبي ذر والأصيلي: أن تأذني
بحذف النون للنصب (عمك) بالنصب على المفعولية أو بالرفع أي
هو عمك (قلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن
أرضعتني امرأة أبي القعيس فقال): عليه الصلاة والسلام
(ائذني له فإنه عمك تربت يمينك) كلمة تقولها العرب ولا
يريدون حقيقتها إذ معناها افتقرت يمينك وقيل المعنى ضعف
عقلك إذا قلت هذا أو تربت يمينك إن لم تفعلي.
(قال عروة) بن الزبير بالسند المذكور (فلذلك) الذي قاله
عليه الصلاة والسلام (كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة
ما يحرمون من
(7/304)
النسب) بالنون ولأبي ذر: ما تحرموا بحذفها
من غير ناصب وهو لغة فصيحة كعكسه وقد اجتمع في هذا الحديث
الأمران، وقال في فتح الباري: ومطابقة الآيتين للترجمة من
قوله: ({لا جناح عليهن في آبائهن}) لأن ذلك من جملة
الآيتين، وقوله في الحديث: ائذني له فإنه عمك مع قوله في
الحديث الآخر: "العم صنو الأب" وبهذا يندفع اعتراض من زعم
أنه ليس في الحديث مطابقة للترجمة أصلًا وكأن البخاري رمز
بإيراد هذا الحديث إلى الردّ على من كره للمرأة أن تضع
خمارها عند عمها أو خالها كما ذكرته عن عكرمة والشعبي فيما
سبق هنا قريبًا، وهذا من دقائق ما ترجم به البخاري رحمه
الله.
وهذا الحديث قد سبق في الشهادات.
10 - باب قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
[الأحزاب: 56]
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلاَةُ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ
عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلاَئِكَةِ، وَصَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ
الدُّعَاءُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلُّونَ:
يُبَرِّكُونَ. لَنُغْرِيَنَّكَ: لَنُسَلِّطَنَّكَ
(باب قوله) ولأبي ذر باب بالتنوين أي في قوله: ({إن الله
وملائكته يصلون على النبي}) اختلف هل يصلون خبر عن الله
وملائكته أو عن الملائكة فقط وخبر الجلالة محذوف لتغاير
الصلاتين لأن صلاة الله غير صلاتهم أي أن الله يصلّي
وملائكته يصلون إلا أن فيه بحثًا وذلك أنهم نصوا على أنه
إذا اختلف مدلولا الخبرين فلا يجوز حذف أحدهما لدلالة
الآخر عليه وإن كانا بلفظ واحد فلا تقول زيد ضارب وعمرو
يعني وعمرو ضارب في الأرض أي مسافر، وعبّر بصيغة المضارع
ليدل على الدوام والاستمرار أي أنه تعالى وجميع ملائكته
الذين لا يحصون بالعدّ ولا يحصرون بالحد يصلون عليه، وفيه
الاعتناء بشرفه وتعظيم شأنه في الملأ الأعلى ({يا أيها
الذين آمنوا صلوا عليه}) أي اعتنوا أيها الملأ الأدنى
بشرفه وتعظيمه أيضًا فإنكم أولى بذلك وقولوا: اللهم صل
عليه ({وسلموا تسليمًا} [الأحزاب: 56]. وقولوا السلام عليك
أيها النبي وأكد السلام بالمصدر.
واستشكل بأن الصلاة آكد منه فكيف أكده بالمصدر دونها؟
وأجيب: بأنها مؤكدة بأن وبإعلامه تعالى بأنه يصلي عليه
وملائكته ولا كذلك السلام إذ ليس ثمّ ما يقوم مقامه أو أنه
لما وقع تقديمها عليه لفظًا وللتقديم مزية في الاهتمام حسن
تأكيد السلام لئلا يتوهم قلة الاهتمام به لتأخره، وأضيفت
الصلاة إلى الله وملائكته دون السلام وأمر المؤمنون بهما
فيحتمل أن يقال: إن السلام لما كان له معنيان التحية
والانقياد فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم والله وملائكته
لا يجوز منهم الانقياد فلم يضف إليهم دفعًا للإيهام كذا
أجاب الحافظ ابن حجر والأمر للوجوب في الجملة أو كلما ذكر
الحديث "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ" رواه البخاري
في الأدب والترمذي وحديث عليّ عند الترمذي وقال: حسن غريب
صحيح: البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ أو في المجلس مرة
لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا
الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة فإن شاء
عذبهم وإن شاء غفر لهم" رواه الترمذي. أو في العمر مرة
واحدة لأن الأمر المطلق لا يقتضي تكرارًا والماهية تحصل
بمرة وفي القعود آخر الصلاة بين التشهد والسلام قاله
إمامنا الشافعي والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهي
الأخيرة وإسحاق بن راهويه ونصه: إذا تركها عمدًا بطلت
صلاته أو سهوا رجوت أن تجزئه، وابن الموّاز من المالكية
واختاره ابن العرب منهم أيضًا، وألزم العراقي القائل
بوجوبها كلما ذكر كالطحاوي أن يقول به في التشهد لتقدم
ذكره عليه الصلاة والسلام في التشهد وفيه ردّ على من
زعم أن الشافعي شذ في ذلك كأبي جعفر الطبري والطحاوي وابن
المنذر والخطابي كما حكاه القاضي عياض في الشفاء.
وفي كتابي المواهب اللدنية بالمنح المحمدية ما يكفي ويشفي
وسقط لأبي ذر قوله: {يا أيها الذين آمنوا} الخ وقال بعد
{على النبي} الآية. وقد انتزع النووي من الآية الجمع بين
الصلاة والسلام فلا يفرد أحدهما من الآخر. قال الحافظ ابن
كثير: والأولى أن يقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تسليمًا.
(قال أبو العالية): رفيع بالتصغير ابن مهران الرياحي بكسر
الراء بعدها تحتية وبعد الألف حاء مهملة مولاهم البصري أحد
أئمة التابعين أدرك الجاهلية، ودخل على أبي بكر
(7/305)
وصلى خلف عمر، وحفظ القرآن في خلافته توفي
سنة تسعين في شوّال، وقال البخاري سنة ثلاث وتسعين (صلاة
الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء)
أخرجه ابن أبي حاتم.
(قال) ولأبي ذر وقال (ابن عباس) -رضي الله عنهما- (يصلون)
أي (يبركون) بتشديد الراء المكسورة أي يدعون له بالبركة.
أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه، ونقل الترمذي
عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا: صلاة الرب
الرحمة وصلاة الملائكة الاستغفار، وعن الحسن مما رواه ابن
أبي حاتم أن بني إسرائيل سألوا موسى هل يصلّي ربك؟ قال:
فكان ذلك كبر في صدر موسى فأوحى الله إليه أخبرهم أني أصلي
وأن صلاتي أن رحمتي سبقت غضبي وهو في معجمي الطبراني
الصغير والأوسط من طريق عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- رفعه. قلت: يا جبريل أيصلّي ربك جل ذكره؟
قال: نعم. قلت: ما صلاته؟ قال: سبوح قدوس سبقت رحمتي غضبي.
وعن أبي بكر القشيري مما نقله القاضي عياض: الصلاة على
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الله تشريف
وزيادة تكرمة وعلى من دون النبي رحمة. وبهذا التقرير يظهر
الفرق بين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين
سائر المؤمنين حيث قال تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على
النبي} [الأحزاب: 56] وقال قبل ذلك في السورة هو الذي
يصلّي عليكم وملائكته، ومن المعلوم أن القدر الذي يليق
بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ذلك أرفع
مما يليق بغيره.
({لنغرينك}) في قوله تعالى: {والمرجفون في المدينة لنغرينك
بهم} [الأحزاب: 60] أي (لنسلطنك) عليهم بالقتال والإخراج
قاله ابن عباس فيما وصله الطبري.
4797 - حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
أَبِي، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنِ الْحَكَمِ عَنِ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رضي الله عنه-
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ
فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلاَةُ؟ قَالَ: «قُولُوا
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ،
كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ
مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ
إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (سعيد بن
يحيى) ولأبي ذر زيادة ابن سعيد أو عثمان الأموي البغدادي
قال: (حدّثنا أبي) يحيى قال: (حدّثنا مسعر) بكسر الميم
وسكون السين وفتح العين المهملتين آخره راء ابن كدام (عن
الحكم) بفتحتين ابن عيينة (عن ابن أبي ليلى) عبد الرحمن
(عن كعب بن عجرة رضي الله عنه) أنه (قيل: يا رسول الله)
القائل كعب بن عجرة كما أخرجه ابن مردويه ووقع السؤال
أيضًا عن ذلك لبشير بن سعد والد النعمان بن بشير كما في
حديث ابن مسعود عند مسلم (أما السلام عليك فقد عرفناه) بما
علمتنا من أن نقول في التحيات: السلام عليك أيها النبي
ورحمة الله وبركاته وقد أمرنا الله في الآية بالصلاة
والسلام عليك. وفي الترمذي من طريق يزيد بن أبي زياد عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت: {إن
الله وملائكته يصلون على النبي} الآية. قلنا يا رسول الله
قد علمنا السلام (فكيف الصلاة؟) زاد أبو ذر عليك أي علمنا
كيف اللفظ به نصلي عليك كما علمتنا السلام، فالمراد بعدم
علمهم الصلاة عدم معرفة تأديتها بلفظ لائق به عليه الصلاة
والسلام، ولذا وقع بلفظ كيف التي يسئل بها عن الصفة، وفي
حديث أبي مسعود البدري عند الإمام أحمد وأبي داود والنسائي
والحاكم أنهم قالوا: يا رسول الله أما السلام فقد عرفناه
فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ وبه استدلّ
الشافعي على الوجوب في التشهد الأخير كلما مرّ (قال) عليه
الصلاة والسلام:
(قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد) والأمر للوجوب
وقال قولوا ولم يقل قل لأن الأمر يقع للكل وإن كان السائل
البعض (كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد) فعيل من الحمد
بمعنى محمود وهو من تحمد ذاته وصفاته أو المستحق لذلك
(مجيد) مبالغة بمعنى ماجد من المجد وهو الشرف (اللهم بارك)
من البركة وهي الزيادة من الخير (على محمد وعلى آل محمد
كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ولم يقل في
الموضعين على إبراهيم بل قال كما صليت على آل إبراهيم وكما
باركت على آل إبراهيم.
4798 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا
التَّسْلِيمُ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:
«قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ
وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ،
وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا
بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ
اللَّيْثِ: «عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا
بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ». [الحديث 4798 - طرفه
في: 6358].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام (قال: حدّثني) بالإفراد (ابن الهاد)
عبد الله بن أسامة الليثي (عن عبد الله بن خباب) بخاء
معجمة
مفتوحة فموحدتين الأولى مشددة بينهما ألف
(7/306)
الأنصاري (عن أبي سعيد الخدري) -رضي الله
عنه- أنه (قال: قلنا يا رسول الله هذا التسليم) بوزن
التكليم أي قد عرفناه (فكيف نصلى عليك؟ قال):
(قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل
إبراهيم) وسقط كما صليت على آل إبراهيم (وبارك على محمد
وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم) ذكر إبراهيم وأسقط آل
إبراهيم.
(قال أبو صالح) عبد الله كاتب الليث (عن الليث) بإسناده
المذكور (على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم)
يعني أن عبد الله بن يوسف لم يذكر آل إبراهيم عن الليث
وذكرها أبو صالح عنه في الحديث المذكور.
0000 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ
وَقَالَ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ
عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ».
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن حمزة) بالحاء المهملة والزاي
ابن محمد بن مصعب بن الزبير بن العوّام القرشي الزبيري
قال: (حدّثنا ابن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي عبد
العزيز واسم أبي حازم سلمة (والدراوردي) عبد العزيز بن
محمد كلاهما (عن يزيد) هو ابن الهاد (وقال: كما صليت على
إبراهيم) أي كما تقدمت منك الصلاة على إبراهيم فنسأل منك
الصلاة على محمد بطريق الأولى لأن الذي يثبت للفاضل يثبت
للأفضل بطريق الأولى، وبهذا يحصل الانفصال عن الإيراد
المشهور وهو أن من شرط التشبيه أن يكون المشبه به أقوى
ومحصل الجواب أن التشبيه ليس من باب إلحاق الكامل بالأكمل
بل من باب التهييج ونحوه قاله في الفتح. ويأتي مزيد بحث
لذلك إن شاء الله تعالى في كتاب الدعاء بعون الله وقوته
ولم يذكر في هذه وعلى آل إبراهيم.
(وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل
إبراهيم) بإسقاط لفظ على في الآل في الموضعين وإثبات
إبراهيم وآله في كما باركت، قيل: أصل آل أهل قلبت الهاء
همزة ثم سهلت ولهذا إذا صغر ردّ إلى الأصل فقيل أهيل وقيل
أصله أول من آل إذا رجع سمي بذلك من يؤول إلى الشخص ويضاف
إليه ويقوّيه أنه لا يضاف إلى معظم فيقال آل القاضي ولا
يقال آل الحجام بخلاف أهل، وقد يطلق آل فلان على نفسه
وعليه وعلى من يضاف إليه جميعًا وضابطه أنه إذا قيل فعل آل
فلان كذا دخل هو فيهم وإن ذكرا معًا فلا وهو كالفقير
والمسكين والإيمان والإسلام، ولما اختلفت ألفاظ الحديث في
الإتيان بهما معًا وفي إفراد أحدهما كان أولى المحامل أن
يحمل على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال ذلك
كله ويكون بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر،
ويحتمل أن يكون بعض من اقتصر على آل إبراهيم بدون ذكر
إبراهيم رواه بالمعنى بناء على دخول إبراهيم في قوله: آل
إبراهيم كما تقدم، ووقع في أحاديث الأنبياء من البخاري في
ترجمة إبراهيم عليه السلام من طريق عبد الله بن عيسى بن
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى كما
صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وكذا في
قوله: كما باركت، وغفل عنه ابن القيم فزعم أن أكثر
الأحاديث بل كلها مصرحة بذكر محمد وآل محمد وبذكر آل
إبراهيم فقط أو بذكر إبراهيم فقط قال: ولم يجيء في حديث
صحيح بلفظ إبراهيم وآل إبراهيم معًا، وإنما أخرجه البيهقي
من طريق يحيى بن السباق عن رجل من بني الحارث عن ابن مسعود
ويحيى مجهول وشيخه مبهم فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من
وجه آخر قوي لكنه موقوف على ابن مسعود قاله في الفتح.
ويأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الدعاء مزيد لذلك بعون
الله وقوته.
11 - باب قَوْلِهِ: {لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا
مُوسَى} [الأحزاب: 69]
(قوله: {لا تكونوا}) ولأبي ذر باب بالتنوين أي في قوله
تعالى: لا تكونوا ({كالذين آذوا موسى}) [الأحزاب: 69] أي
لا تؤذوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كما آذى بنو إسرائيل موسى.
4799 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ
عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَخِلاَسٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مُوسَى كَانَ
رَجُلًا حَيِيًّا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ
عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه قال:
(أخبرنا) ولأبي ذر: حدّثنا (روح بن عبادة) بفتح الراء
وسكون الواو بعدها حاء مهملة وعبادة بضم العين وتخفيف
الموحدة البصري قال: (حدّثنا عوف) هو ابن أبي جميلة عرف
بالأعرابي (عن الحسن) هو البصري (ومحمد) هو ابن سيرين
(وخلاس) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام وبعد الألف
(7/307)
مهملة ابن عمرو الهجري البصري الثلاثة (عن أبي هريرة -رضي
الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن موسى) عليه الصلاة والسلام (كان رجلًا حييًّا) بفتح
الحاء المهملة وكسر التحتية الأولى وتشديد الثانية أي كثير
الحياء. زاد في أحاديث الأنبياء ستيرًا لا يرى من جلده شيء
استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما
يستتر موسى هذا التستر إلا بعيب في جلده إما برص وإما أدرة
وإما آفة وأن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى
فخلا يومًا وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ
أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى
عصاه فطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى
إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا
أحسن ما خلق الله وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه
فلبسه وطفق بالحجر ضربًا بالعصا فوالله إن بالحجر لندبًا
من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا. (وذلك قوله
تعالى): محذرًا أهل المدينة أن يؤذوا رسول الله كما آذى
بنو إسرائيل موسى ({يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين
آذوا موسى فبرأه الله}) فأظهر الله براءته ({مما قالوا
وكان عند الله وجيهًا}) أي كريمًا ذا جاه وما مصدرية أو
بمعنى الذي. وسبق في أحاديث الأنبياء أن خلاسًا والحسن لم
يسمعا من أبي هريرة.
وهذا الحديث ساقه هنا مختصرًا جدًّا وذكره تامًّا في
أحاديث الأنبياء. |