شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

67 - كتاب النكاح
هو لغة الضم والتداخل. وقال المطرّزي والأزهري: هو الوطء حقيقة، ومنه قول الفرزدق:
إذا سقى الله قومًا صوب غادية ... فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم ... والناكحين بشطي دجلة البقرا
وهو مجاز في العقد لأن العقد فيه ضم، والنكاح هو الضم حقيقة قال:
ضممت إلى صدري معطر صدرها ... كما نكحت أُم العلاء صبيها
أي: كما ضمت أو لأنه سببه فجازت الاستعارة لذلك، وقال بعضهم: أصله لزوم شيء لشيء، مستعليًا عليه ويكون في المحسوسات، وفي المعاني قالوا: انكح المطر الأرض، ونكح النعاس عينه، ونكحت القمح في الأرض إذا حرثتها وبذرته فيها، ونكحت الحصاة أخفاف الإبل.
قال المتنبي:
أنكحت صم حصاها خف يعملة ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
يقال: أنكحوا الحصى أخفاف الإبل إذا ساروا، واليعملة الناقة النجيبة المطبوعة على العمل، والتغشمر الأخذ قهرًا. وقال الفراء: العرب تقول نكح المرأة بضم النون بعضها وهو كناية عن الفرج، فإذا قالوا نكحها أرادوا أصاب نكحها. وقال ابن جني: سألت أبا علي الفارسي عن قولهم نكحها؟ فقال: فرقت العرب فرقًا لطيفًا يعرف به موضع العقد من الوطء فإذا قالوا: نكح فلان فلانة أو بنت فلان أو أخته أرادوا تزوّجها وعقد عليها، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا المجامعة لأن بذكر المرأة أو الزوجة يستغني عن العقد واختلف أصحابنا في حقيقته على ثلاثة أوجه حكاها القاضي حسين في تعليقه. أصحها أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء وهو الذي صححه القاضي أبو الطيب وقطع به المتولي وغيره واحتج له بكثرة وروده في الكتاب والسُّنّة للعقد حتى قيل: إنه لم يرد

(8/2)


في القرآن إلا للعقد ولا يرد مثل قوله حتى تنكح زوجًا غيره لأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسُّنَّة وإلاّ فالعقد لا بدّ منه لأن قوله تعالى: {حتى تنكح} [البقرة: 230] معناه حتى تتزوج أي يعقد عليها ومفهومه أن ذلك كافٍ بمجرده لكن ثبتت السُّنَّة أن لا عبرة بمفهوم الغاية بل لا بدّ بعد العقد من ذوق العسيلة. قال ابن فارس: لم يرد النكاح في القرآن إلا للتزويج إلا قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6] فإن المراد به الحلم. والثاني: أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد وهو مذهب الحنفية. والثاني: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك ويتعين المقصود بالقرينة كما مرّ عن أبي علي، وذكر ابن القطاع للنكاح أكثر من ألف اسم وفوائده كثيرة منها: أنه سبب لوجود النوع الإنساني، ومنها قضاء الوطر بنيل اللذة والتمتع بالنعمة وهذه هي الفائدة التي في الجنة إذ لا تناسل فيها، ومنها غض البصر وكفّ النفس عن الحرام إلى غير ذلك.

1 - باب التَّرْغِيبُ فِي النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
(بسم الله الرحمن الرحيم) كذا للنسفي تقديم البسملة، وعند رواة الفربري تأخيرها ولأبي ذر سقوطها (باب الترغيب) ولأبي ذر: باب الترغيب (في النكاح لقوله تعالى): ولأبي ذر لقول الله عز وجل: ({فانكحوا ما طاب لكم من النساء}) [النساء: 6] زاد أبو الوقت والأصيلي الآية، والأمر يقتضي الطلب وأقل درجاته الندب فثبت الترغيب وقول داود وأتباعه من أهل الظاهر أنه فرض عين على القادر على الوطء والإنفاق تمسكًا بالآية. وقوله عليه الصلاة والسلام لعكاف بن وداعة الهلالي: "ألك زوجة يا عكاف" قال: لا. قال: "ولا جارية" قال: لا. قال: "وأنت صحيح موسر" قال: نعم والحمد لله. قال: "فأنت إذًا من إخوان الشياطين إما أن تكون من رهبان النصارى فأنت منهم وإما أن تكون منا فاصنع كما نصنع فإن من سُنّتنا النكاح شراركم عزابكم وأراذل أمواتكم عزّابكم. ويحك يا عكاف تزوّج" فقال عكاف: يا رسول الله لا أتزوّج حتى تزوّجني مَن شئت. قال: فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فقد زوّجتك على اسم الله والبركة كريمة كلثوم الحميري". رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من طريق بقية فهو إيجاب على معين فيجوز أن يكون سبب الوجوب تحقق في حقه، والآية لم تسق إلا لبيان العدد المحلل على ما عرف في الأصول.
5063 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَنْتُمُ
الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) هو سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي مريم الجمحي مولاهم البصري قال: (أخبرنا محمد بن جعفر) أي ابن أبي كثير المدني قال: (أخبرنا) ولأبي الوقت: أخبرني بالإفراد (حميد بن أبي حميد الطويل) اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال (أنه سمع أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: جاء ثلاثة رهط) اسم جمع لا واحد له من لفظه، والثلاثة علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون كما في مرسل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق (إلى بيوت أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسألون عن عبادة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما أخبروا) بضم الهمزة وكسر الموحدة مبنيًّا للمفعول بذلك (كأنهم تقالوها)، بتشديد اللام المضمومة عدّوها قليلة (فقالوا: وأين نحن من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قد غفر له) بضم الغين ولابن عساكر وأبوي الوقت وذر عن المستملي قد غفر الله له (ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. قال) ولأبوي الوقت وذر فقال (أحدهم: أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم للتفضيل (أنا فإني) ولأبي ذر عن المستملي والكشميهني: فأنا (أصلي الليل أبدًا) قيد لليل لا لقوله أصلي (وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر). بالنهار سوى العيدين وأيام التشريق ولذا لم يقيده بالتأبيد (وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد الأربعة لفظ إليهم (فقال) لهم:
(أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف تنبيه (والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له)، قال في الفتح: فيه إشارة إلى ردّ ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره فأعلمهم أنه مع كونه لا يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشدّدون، وإنما كان كذلك لأن المشدّد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره

(8/3)


وخير العمل ما داوم عليه صاحبه انتهى.
فالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن أعطي قوى الخلق في العبادات لكن قصده التشريع وتعليم أمته الطريق التي لا يمل بها صاحبها. وقال ابن المنير: إن هؤلاء بنوا على أن الخوف الباعث على العبادة ينحصر في خوف العقوبة فلما علموا أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مغفور له ظنوا أن لا خوف وحملوا قلة العبادة على ذلك، فردّ عليه الصلاة والسلام عليهم ذلك وبيّن أن لا خوف الإجلال أعظم من الإكثار المحقق الانقطاع لأن الدائم وإن قل أكثر من الكثير إذا انقطع وفيه دليل على صحة مذهب القاضي حيث قال: لو أوجب الله شيئًا لوجب وإن لم يتوعد بعقوبة على تركه وهو مقام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التعبد على الشكر وعلى الإجلال لا على خوف العقوبة فإنه منه في عصمة.
(لكني) استدراك من محذوف دلّ عليه السياق تقريره أنا وأنتم بالنسبة إلى العبودية سواء لكن أنا (أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النساء فمن رغب) أعرض (عن سُنّتي) طريقتي وتركها (فليس مني) إذا كان غير معتقد لها والسُّنَّة مفرد مضاف يعم على الأرجح فيشمل الشهادتين وسائر
أركان الإسلام فيكون المعرض عن ذلك مرتدًّا وكذا إن كان الإعراض تنطعًا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، وأما إن كان ذلك بضرب من التأويل كالورع لقيام شبهة في ذلك الوقت أو عجزًا عن القيام بذلك أو لمقصود صحيح فيعذر صاحبه.
وفيه الترغيب في النكاح، وقد اختلف هل هو من العبادات أو المباحات فقال الحنفية: هو سُنّة مؤكدة على الأصح. وقال الشافعية: من المباحات. قال القمولي في شرح الوسيط المسمى بالبحر في باب النكاح فرع نص الإمام على أن النكاح من الشهوات لا من القربات. وإليه أشار الشافعي في الأم حيث قال: قال الله تعالى: {زين للناس حبِّ الشهوات من النساء} [آل عمران: 14] وقال عليه الصلاة والسلام: "حبب إليَّ من دنياكم الطيب، والنساء"، وابتغاء النسل به، أمر مظنون ثم لا يدري أصالح أم طالح انتهى.
وقال النووي: إن قصد به طاعة كاتباع السُّنّة أو تحصيل ولد صالح أو عفة فرجه أو عينه فهو من أعمال الآخرة يُثاب عليه وهو للتائق أي المحتاج له ولو خصيًا القادر على مؤونة أفضل من التخلي للعبادة تحصينًا للدين ولما فيه من إبقاء النسل والعاجز عن مؤونة يصوم والقادر غير التائق إن تخلى للعبادة فهو أفضل من النكاح وإلا فالنكاح أفضل له من تركه لئلا تُفضي به البطالة الى الفواحش انتهى.
وقد تعقب الشيخ كمال الدين بن الهمام قولهم التخلي للعبادة أفضل فقال: حقيقة أفضل تنفي كونه مباحًا إذ لا فضل في المباح والحق أنه إن اقترن بنيّة كان ذا فضل والتجرّد عند الشافعي أفضل لقوله تعالى: {وسيدًا وحصورًا} [آل عمران: 39] مدح يحيى عليه السلام بعدم إتيان النساء مع القدرة عليه لأن هذا معنى الحصور وحينئذٍ فإذا استدل عليه بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: "أربع من سنن المرسلين. الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح" رواه الترمذي وقال حسن غريب. فله أن يقول في الجواب لا أنكر الفضيلة مع حسن النيّة، وإنما أقول التخلي للعبادة أفضل فالأولى في جوابه التمسك بحاله عليه الصلاة والسلام في نفسه ورده على من أراد من أمته التخلي للعبادة فإنه صريح في عين المتنازع فيه يعني حديث هذا الباب، فإنه عليه الصلاة والسلام رد هذا الحال ردًّا مؤكدًا حتى تبرأ منه، وبالجملة فالأفضلية في الاتباع لا فيما تخيل النفس أنه أفضل نظرًا إلى ظاهر عبادة أو توجه ولم يكن الله عز وجل يرضى لأشرف أنبيائه إلا بأشرف الأحوال وكان حاله إلى الوفاة النكاح فيستحيل أن يقرّه على ترك الأفضل مدة حياته، وحال يحيى عليه السلام كان أفضل في تلك الشريعة، وقد نسخت الرهبانية في ملتنا ولو تعارضا قدم التمسك بحال نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن تأمل ما يشتمل عليه النكاح من تهذيب الأخلاق وتربية الولد والقيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها وإعفاف المحرم ونفسه ودفع الفتنة عنه وعنهنّ إلى غير ذلك من الفرائض

(8/4)


الكثيرة لم يكد يقف عن الجزم بأنه أفضل من التخلي بخلاف ما إذا عارضه خوف جور إذ الكلام ليس فيه بل في الاعتدال مع أداء الفرائض والسُّنن، وذكرنا أنه إذا لم تقترن
به نيّة كان مباحًا لأن المقصود منه حينئذ مجرّد قضاء الشهوة ومبنى العبادة على خلافه ثم قال: وأقول بل فيه فضل من جهة أنه كان متمكّنًا من قضائها بغير الطريق المشروع فالعدول إليه مع ما يعلمه من أنه قد يستلزم أثقالًا فيه قصد ترك المعصية وعليه يُثاب انتهى.
5064 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لاَ تَعُولُوا} قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ.
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن عبد الله المديني كما جزم به المزي كأبي مسعود أنه (سمع حسان بن إبراهيم) الكرماني العنزي قاضي كرمان (عن يونس بن يزيد) الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة) بن الزبير بن العوّام (أنه سأل عائشة) -رضي الله عنها- (عن قوله تعالى: {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا}) [النساء: 3] أقرب من أن لا تميلوا من قولهم عال الميزان عولًا (قالت) عائشة: (يا ابن أختي) أسماء هي (اليتيمة) التي مات أبوها (تكون في حجر وليها)، القائم بأمورها (فيرغب في مالها وجمالها يريد أن يتزوّجها بأدنى) بأقل (من سنة صداقها) من مهر مثلها (فنهوا) بضم النون والهاء (أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن فيكملوا الصداق) على عادتهن في ذلك (وأمروا) بالواو (بنكاح من سواهن) أي سوى اليتامى (من النساء). وهذا الحديث قد سبق في تفسير سورة النساء.

2 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ. لأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ». وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لاَ أَرَبَ لَهُ فِي النِّكَاحِ؟
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من استطاع منكم الباءة) بالموحدة والهمزة المفتوحتين وتاء التأنيث ممدودًا وقد لا يهمز ولا يمد وقد يهمز ويمد من غير هاء (فليتزوّج لأنه) أي التزوّج ولأبوي الوقت وذر عن المستملي والكشميهني: فإنه بالفاء بدل اللام وهو لفظ الحديث (أغض للبصر) بالغين والضاد المعجمتين (وأحصن للفرج) بالحاء والصاد المهملتين (وهل يتزوج من لا أرب له) بفتح الهمزة والراء والموحدة أي من لا حاجة له (في النكاح)؟ أم لا.
5065 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَيَا، فَقَالَ عُثْمَانُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ؟ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهْوَ يَقُولُ: أَمَالَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال (حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان (قال حدّثني) بالإفراد (إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن قيس أنه (قال: كنت مع عبد الله) بن مسعود (فلقيه عثمان بمنى فقال) عثمان له: (يا أبا عبد الرحمن) وهي كنية ابن مسعود (إن لي إليك حاجة فخليا)، بالياء وللأصيلي كما في الفتح واليونينية فخلوا بالواو بدل الياء كدعوا وصوّبها ابن التين لأنه واوي يعني من الخلوة أي دخلا في موضع خالٍ (فقال عثمان) له: (هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوّجك بكرًا تذكّرك ما كنت تعهد) من نشاطك وقوّة شبابك (فلما رأى عبد الله) بن مسعود (أن ليس له) لنفسه (حاجة إلى هذا) الذي ذكره عثمان من التزويج، ولأبوي ذر والوقت عن الحموي والمستملي: أو ليس له أي لعثمان حاجة إلا هذا بتشديد اللام بدل إلى الجارّة أي الترغيب في النكاح (أشار إليّ فقال: يا علقمة فانتهيت إليه وهو) أي والحال أن ابن مسعود (يقول: أما) بالتخفيف (لئن قلت ذلك لقد قال لنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا معشر الشباب) جمع شاب وهو من بلغ إلى أن يكمل ثلاثين عند الشافعية. وفي الجواهر لابن شاس من المالكية إلى أربعين أي يا طائفة الشباب (من استطاع منكم الباءة) أي الجماع فهو محمول على المعني الأعم بقدرته على مؤن النكاح (فليتزوّج) جواب الشرط وعند النسائي من طريق أبي معشر عن إبراهيم النخعي من كان ذا طول فلينكح (ومن لم يستطع) أي الجماع لعجزه عن مؤنه (فعليه بالصوم). قال أبو عبيد: فعليه بالصوم إغراء لغائب ولا تكاد العرب تغري إلا لشاهد تقول عليك زيدًا ولا تقول عليه زيدًا. وأجيب: بأن الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولًا بقوله "فمن استطاع منكم" فالهاء في فعليه ليست لغائب بل هي للحاضر المبهم إذ لا يصح خطابه بالكاف وهذا كما يقول الرجل: من قام الآن

(8/5)


منكم فله درهم فهذه الهاء لمن قام من الحاضرين لا لغائب (فإنه) أي الصوم (له وِجاء) بكسر الواو وبالجيم ممدودًا. وقيل بفتح الواو مع القصر بوزن عصا أي التعب والجفاء وذلك بعيد إلا أن يراد فيه معنى الفتور لأنه من وجى إذا فتر عن المشي، فشبه الصوم في باب النكاح بالتعب في باب المشي أي قاطع لشهوته، وأصله رض الأُنثيين لتذهب شهوة الجماع، وإطلاق الصوم على الوجاء من مجاز المشابهة لأن الوجاء قطع الفعل وقطع الشهوة إعدام له أيضًا وخص الشباب بالخطاب لأنهم مظنة قوّة الشهوة غالبًا بخلاف الشيوخ وإن كان المعنى معتبرًا إذا وجد السبب في الكهول والشيوخ أيضًا.
واستدلّ بالحديث على أن من لم يستطع الجماع فالمطلوب منه ترك التزويج لأنه أرشده إلى ما ينافيه ويضعف دواعيه، والأمر في قوله فليتزوج وفي قوله فانكحوا وإن كان ظاهرهما الوجوب إلا أن المراد بهما الإباحة.
قال في الأم بعد أن قال: قال الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} إلى قوله: {يغنهم الله من فضله} [النور: 32] الأمر في الكتاب والسُّنّة يحتمل معاني. أحدها: أن يكون الله حرم شيئًا ثم أباحه فكان أمره إحلال ما حرم. كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] وكقوله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10] الآية. وذلك أنه حرم الصيد على المحرم ونهى عن البيع عند النداء ثم أباحهما في وقت غير الذي حرمهما فيه كقوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} إلى {مريئًا} [النساء: 4]. وقوله: {فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا} [الحج: 36] قال: وأشباه ذلك كثير في كتاب الله وسُنّة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس حتمًا أن يصطادوا وإذا حلّوا لا ينتشروا لطلب التجارة إذا صلوا ولا يأكل من صداق امرأته إذا طابت به عنه نفسًا ولا يأكل من بدنته إذا نحرها. قال: ويحتمل أن يكون دلّهم على ما فيه رشدهم بالنكاح كقوله: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} [النور: 32] يدل على ما فيه سبب الغنى والنكاح. كقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سافروا تصحّوا" انتهى.
وقد قسم بعضهم النكاح إلى الأحكام الخمسة: الوجوب، والندب، والتحريم، والإباحة، والكراهة. فالوجوب: فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح إلا أنه لا يتعين واجبًا بل إما هو وإما التسرّي فإن تعذر التسرّي تعيّن النكاح حينئذٍ للوجوب لا لأصل الشريعة والندب لتائق يجد أهبته. والكراهة لعنين وممسوح وزمن ولو كانوا واجدين مؤنه وعاجز عن مؤنه غير تائق له لانتفاء حاجتهم إليه مع التزام العاجز ما لا يقدر عليه وخطر القيام به فيمن عداه والتحريم إما أن يكون لعينه كالسبع المذكورات في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] أو غير ذلك مما هو مذكور في محله.

3 - باب مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ
(باب من لم يستطع الباءة فليصم).
5066 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَبَابًا لاَ نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) قال: (حدّثنا أبي) قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال: (حدّثني) بالإفراد (عمارة) بضم العين وتخفيف الميم ابن عمير التيمي
الكوفي (عن عبد الرحمن بن يزيد) بن قيس النخعي أنه (قال: دخلت مع علقمة) أي عمه (والأسود) بن يزيد أي أخيه (على عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- (فقال عبد الله) بن مسعود: (كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شبابًا لا نجد شيئًا فقال لنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا معشر الشباب) أي يا طائفة الشباب (من استطاع) استفعل من الطاعة أصله استطوع استثقلت الحركة على الواو فنقلت إلى الساكن قبلها ثم قلبت الواو ألفًا أي أطاق (الباءة) المراد به هنا المعنى اللغوي وهو الجماع مأخوذ من المباءة وهي المنزل لأن من تزوج امرأة بوّأها منزلًا وإنما تتحقق قدرته بالقدرة على مؤنه ففيه حذف مضاف أي من استطاع منكم أسباب النكاح ومؤنه (فليتزوج). وقيل: المراد بها نفس مؤن النكاح سميت باسم ما يلازمها ولا بدّ من أحد التأويلين لأن قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ومن لم يستطع) عطف على قوله (من استطاع) ولو حمل الباءة على الجماع لم يستقم قوله بعد: فإن الصوم له وجاء لأنه لا يقال للعاجز هذا، وإنما

(8/6)


يستقيم إذا قيل: أيها القادر المتمكن من الشهوة إن حصلت لك مؤن النكاح فتزوّج وإلاّ فصم ولذا خصّ الشباب (فإنه) أي التزوّج (أغض للبصر) لأن بعد حصول التزويج يضعف فيكون أغض وأحصن مما لم يكن لأن وقوع الفعل مع ضعف الداعي أندر من وقوعه مع وجود الداعي وهو أفعل تفضيل بمعنى غاض أو التفضيل على بابه من غض طرفه إذا خفضه وأغمضه وكل شيء كففته فقد غضضته والمراد بالبصر هنا الطرف المشتمل عليه لأنه الذي يضاف إليه الغض حقيقة وللنسائي فإنه أغض للطرف فصرح به (وأحصن) أي أعف (للفرج)، ولم يرد به أفعل التفضيل لأنه لا يكون من رباعي كما نبه عليه ابن فرحون واللام في للبصر وللفرج للتعدية كما قرروه في أفعل التعجب نحو: ما أضرب زيدًا لعمرو ولا فرق بين البابين قاله في العدّة ولم يقل في الرواية السابقة فإنه إلى آخره وهي ثابتة عند جميع من أخرج الحديث من طرق الأعمش بهذا الإسناد.
قال في الفتح: ويغلب على ظني أن حذفها من قبل حفص بن غياث شيخ البخاري وإنما آثر البخاري روايته على رواية غيره لوقوع التصريح فيها من الأعمش بالتحديث فاغتفر له اختصار المتن لهذه المصلحة انتهى.
(ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ذهب ابن عصفور إلى أن الباء زائدة في المبتدأ والتقدير فعليه الصوم وضعف باقتضائه حينئذٍ الوجوب لأن ذلك ظاهر في هذه الصيغة ولا قائل به (فإنه) أي الصوم (له وِجاء). وعند ابن حبان زيادة وهي: وهو الإخصاء وهي مدرجة لم تقع إلا في طريق زيد بن أبي أنيسة وفي تفسير الوِجاء بالإخصاء نظر لأن الوِجاء كما مر رضّ الأُنثيين والإخصاء سلّهما فيحمل على المجاز والمسامحة لتقاربهما في المعنى.

4 - باب كَثْرَةِ النِّسَاءِ
(باب كثرة النساء) لمن قدر على العدل بينهن.
5067 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ: حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلاَ تُزَعْزِعُوهَا وَلاَ تُزَلْزِلُوهَا وَارْفُقُوا، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِسْعٌ كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ وَلاَ يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) الفراء الصغير قال: (أخبرنا هشام بن يوسف) أبو عبد الرحمن قاضي صنعاء (أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبرهم قال: أخبرني) بالإفراد (عطاء) هو ابن أبي رباح (قال: حضرنا مع ابن عباس) -رضي الله عنهما- (جنازة ميمونة) أم المؤمنين بنت الحارث الهلالية (بسرف) بفتح السين وكسر الراء المهملتين بعدها فاء موضع بينه وبين مكة اثنا عشر ميلًا وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنى بها فيه وعند ابن سعد بإسناد صحيح عن يزيد بن الأصم قال: دفنا ميمونة بسرف في الظلة التي بنى بها فيها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإذا رفعتم نعشها) بالعين المهملة والشين المعجمة سريرها الذي وضعت عليه وهي ميتة (فلا تزعزعوها) بزايين معجمتين وعينين مهملتين (ولا تزلزلوها) أي لا تحركوها حركة شديدة بل سيروا بها سيرًا وسطًا معتدلًا فإن حرمتها بعد موتها باقية كحرمتها في حياتها وللحموي فلا تزعجوها بدل تزعزعوها (وارفقوا) أي بها (فإنه كان عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عند موته (تسع) من الزوجات في عصمته: سودة بنت زمعة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وأم حبيبة، وجويرية، وصفية، وميمونة. (كان يقسم لثمان) منهن في المبيت عندهن (ولا يقسم لواحدة) منهن وهي سودة وهبت ليلتها لعائشة.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، ووجه تعليل ابن عباس الرفق بميمونة بأنه كان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة التنبيه على مكانة ميمونة من وجهين كونها زوجته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنها كانت عنده غير مرغوب عنها لأنها كانت من اللاتي يقسم لهن -رضي الله عنه- وقد كانت سودة آخر أمهات المؤمنين موتًا.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في النكاح والنسائي فيه وفي عِشرة النساء.
5068 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ. وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) الحناط أبو معاوية البصري قال: (حدّثنا سعيد) بكسر العين ابن أبي عروبة مهران اليشكري البصري (عن قتادة) بن دعامة السدوسي (عن أنس رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتطوف على نسائه) أي يجامعهن

(8/7)


(في ليلة واحدة وله) يومئذٍ (تسع نسوة) وفي كتاب الغسل وهن إحدى عشرة، لكن قال ابن خزيمة:
تفرّد بذلك معاذ بن هشام عن أبيه وجمع ابن حبان في صحيحه بين الروايتين بحمل ذلك على حالتين، واختلف في ريحانة هل كانت زوجة أو سرية وجزم ابن إسحاق بأنها اختارت البقاء في ملكه وهي ماتت قبله عليه الصلاة والسلام؟ فالأكثر على أنها ماتت قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل. قال ابن عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة. قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا لم يجمع عنده من الزوجات أكثر من تسع مع أن سودة وهبت نوبتها لعائشة فرجحت رواية سعيد يعني رواية الباب، لكن تحمل رواية هشام على أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليهن لفظ نسائه تغليبًا.
وبه قال: (قال لي خليفة) بن خياط بن خليفة أبو عمرو العصفري البصري صاحب الطبقات والتاريخ أحد شيوخ المؤلّف (حدّثنا يزيد بن زريع) قال: (حدّثنا سعيد) هو ابن أبي عروبة (عن قتادة أن أنسًا حدّثهم عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وغرض المؤلّف بسياقه بيان تصريح قتادة بتحديث أنس له بذلك.
5069 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ طَلْحَةَ الْيَامِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَتَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً.
وبه قال: (حدّثنا علي بن الحكم) بفتح الحاء المهملة والكاف (الأنصاري) المروزي قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن رقبة) بالراء والقاف والموحدة المفتوحات ابن مصقلة بالميم المفتوحة والصاد المهملة الساكنة والقاف واللام المفتوحتين (عن طلحة) بن مصرف (اليامي) بالتحتية وبعد الألف ميم مخففة (عن سعيد بن جبير) أنه (قال: قال لي ابن عباس) -رضي الله عنهما-: (هل تزوّجت؟ قلت: لا. قال: فتزوّج فإن خير هذه الأمة) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أكثرها نساء) لأنه كان له تسع نسوة والتقييد بهذه الأمة ليخرج مثل سليمان عليه السلام لأنه كان أكثر نساء. وقيل المعنى خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل.

5 - باب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى
هذا (باب) بالتنوين (من هاجر) إلى دار الإسلام (أو عمل خيرًا) كصلاة أو حج أو صدقة أو هجرة (لتزويج امرأة) قال الكرماني: ليجعلها زوجة نفسه أو التفعيل بمعنى التفعل واللام للتعليل (فله ما نوى).
5070 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله ورسوله فهجرته إلى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن قزعة) بفتح القاف والزاي والعين المهملة الحجازي قال: (حدّثنا مالك) الإمام (عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) التيمي (عن علقمة بن وقاص) الليثي (عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(العمل) صحيح أو صحة العمل (بالنية) بالإفراد فيهما فالعمل مبتدأ أو الخبر الاستقرار الذي يتعلق به حرف الجر فإن قلت: العامل المقدر في المجرور يقتضي النصب وقد قيل إنه الخبر فكيف يكون في محل نصب. وأجيب: بأن الذي في موضع النصب قوله النية لأنه المفعول الذي وصل إليه العامل بواسطة الباء، والذي في موضع الرفع مجموع بالنية لأنه الذي ناب عن الاستقرار، وكذلك القول في كل مبتدأ خبره ظرف أو مجرور نحو قولك: زيد في الدار وزيد عندك ولفظ إنما ساقط هنا والباء في بالنية للإلصاق لأن كل عمل تلصق به نيته أو للسببية بمعنى أنها مقوّمة للعمل فكأنها سبب في إيجاده وسبق مزيد بحث في ذلك أول الكتاب (وإنما لامرئ) رجل أو امرأة (ما نوى) هذه الجملة مؤكدة للسابقة أو مفيدة غير ما أفادته الأولى لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها فترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه. وقال ابن عبد السلام: الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها وأفادت أن النية إنما تشترط في العبادات التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأودعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح لمتعجب فلا ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان

(8/8)


أكثر ثوابًا، ولذا قال في الإحياء: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة خير من حركة اللسان بالغيبة بل هو خير من السكوت مطلقًا أي المجرد عن التفكّر. قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب، (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله) أي إلى طاعة الله أو إلى عبادة الله من مكة إلى المدينة قبل الفتح (فهجرته إلى الله ورسوله) جواب الشرط وجواب الشرط إذا كان جملة اسمية فلا بد من الفاء أو وإذا قوله تعالى: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} [الروم: 36] والفاء في جواب الشرط للسببية أو التعقيب وظاهره اتحاد الشرط مع الجزاء والقاعدة اختلافهما نحو من أطاع الله أثيب ومن عصاه عوقب واتحادهما غير مفيد لأنه من تحصيل الحاصل وأجاب ابن دقيق العيد بأن التقدير فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيّةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجْرًا حكمًا وشرعًا.
قال ابن مالك: من ذلك قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث حذيفة: ولو مت مت على غير الفطرة وجاز ذلك لتوقف الفائدة على الفضلة ومنه قوله تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء: 7] فلولا قوله في الأول على غير الفطرة وفي الثاني لأنفسكم ما صح ولم يكن في الكلام فائدة.
قال في العدّة: وإعراب قصد أو نيّة يصح أن يكون خبر كان أي ذات قصد وذات نية
وتتعلق إلى بالمصدر ويصح أن يكون إلى الله الخبر وقصدًا مصدر في موضع الحال وأما قوله ثوابًا فلا يصح فيه إلا الحال من الضمير في الخبر انتهى.
وأعاد المجرور ظاهرًا لا مضمرًا لأنه لم يقل فهجرته إليهما ولم يذكره بلفظ الموصول كالذي بعده لقصد الاستلذاذ بذكر الله ورسوله بخلاف الدنيا والمرأة فإن الاحتقار والإبهام فيهما أولى (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها) يحصلها استعارة من إصابة الغرض والدنيا عند المتكلمين ما على الأرض والهواء والأظهر أنها كل مخلوق من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة والمراد بها في الحديث المال ونحوه بدليل ذكر المرأة في قوله (أو امرأة ينكحها) وإفرادها بعد دخولها في لفظ دنيا من باب ذكر الخاص بعد العامّ لأن الواقعة المذكورة في قصة المهاجر لتزويج امرأة فذكرت الدنيا مع القصة زيادة في التحذير قالوا: وفيه رد على ابن مالك حيث زعم في شرح عمدته أن عطف الخاص على العام لا يكون إلا بالواو والقصة المذكورة رواها سعيد بن منصور بإسناد صحيح على شرط الشيخين قال: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال: من هاجر يبتغي شيئًا فإنما له ذلك. هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس. وليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك (فهجرته إلى ما هاجر إليه)، من الدنيا والمرأة حكمًا وشرعًا كما مرّ بما فيه من البحث أوّلًا أو الخبر محذوف في الثاني والتقدير فهجرته إلى ما هاجر إليه من الدنيا والمرأة قبيحة غير صحيحة أو غير مقبولة ولا نصيب له في الآخرة، وعورض بأنه يقتضي أن تكون الهجرة مذمومة مطلقًا وليس كذلك فإن من ينوي بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوّج المرأة معًا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يُثاب لكن دون ثواب من أخلص وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله لأنه من الأمر المباح الذي قد يُثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف، كما وقع في قصة إسلام أبي طلحة المروية عند النسائي عن أنس قال: تزوّج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام. أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت: إني قد أسلمت فإن أسلمت تزوجتك فأسلم فتزوجته.
قال في الفتح: وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، وأما إذا نوى العبادة وخالطها شيء مما

(8/9)


يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء فإن كان في ابتدائه لله خالصًا لم يضره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب وغيره والله أعلم.

6 - باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالإِسْلاَمُ. فِيهِ سَهْلٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب تزويج المعسر) الذي ليس معه شيء من المال (الذي معه القرآن والإسلام فيه) أي في
الباب (سهل) الساعدي الأنصاري ولأبي ذر والأصيلي وابن عساكر سهل بن سعد -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) السابق موصولًا في باب القراءة عن ظهر القلب في قصة الواهبة نفسها وقوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذي قال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوّجنيها "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئًا فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتمًا من حديد، وقوله عليه السلام له: "ماذا معك من القرآن" قال: معي سورة كذا وكذا عدّها قال: "أتقرؤهن عن ظهر قلبك"؟ قال: نعم. قال: "اذهب فقد ملّكتكها بما معك من القرآن".
5071 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي الحافظ قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي خالد سعد البجلي الكوفي قال: (حدّثني) بالإفراد (قيس) هو ابن أبي حازم عوف الأحمسي (عن ابن مسعود) عبد الله (رضي الله عنه) أنه (قال: كنا نغزو مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس لنا نساء فقلنا: يا رسول الله ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام (نستخصي) لتزول عنا شهوة الجماع (فنهانا عن ذلك) لما فيه من ضرر النفس وقطع النسل المقصود بالنكاح شرعًا.
ومطابقة الحديث للترجمة كما قال ابن المنير: أنه عليه الصلاة والسلام نهاهم عن الاستخصاء ووكّلهم إلى النكاح فلو كان المعسر لا ينكح وهو ممنوع من الاستخصاء لكلف شططًا وكان كلٌّ منهم لا بد وأن يحفظ شيئًا من القرآن فتعين التزويج بما معهم من القرآن فحكم الترجمة من حديث سهل بالتنصيص ومن حديث ابن مسعود بالاستدلال.
وهذا الحديث قد سبق في التفسير.

7 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لأَخِيهِ انْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
(باب قول الرجل لأخيه انظر أيّ زوجتيّ) بتشديد الياء (شئت حتى أنزل لك عنها) بفتح الهمزة وكسر الزاي أي أطلقها فإذا انقضت عدّتها تزوجها (رواه) أي المذكور في الترجمة (عبد الرحمن بن عوف) كما سبق موصولًا في البيع.
5072 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَعِنْدَ الأَنْصَارِيِّ امْرَأَتَانِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَأَتَى السُّوقَ، فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَشَيْئًا مِنْ سَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ أَيَّامٍ
وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: «مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ». فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ أَنْصَارِيَّةً قَالَ: «فَمَا سُقْتَ»؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) العبدي (عن سفيان) الثوري (عن حميد الطويل) أنّه (قال: سمعت أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (قال: قدم عبد الرحمن بن عوف) من مكة إلى المدينة مهاجرًا (فآخى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري) بسكون عين سعد (وعند الأنصاري امرأتان فعرض عليه) أي على عبد الرحمن (أن يناصفه أهله وماله فقال) له عبد الرحمن: (بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق فأتى السوق فربح شيئًا من أقط وشيئًا من سمن فرآه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أيام وعليه وضر) بفتح الواو والضاد المعجمة وبالراء لطخ من خلوق (من صفرة فقال) عليه الصلاة والسلام:
(مهيم) بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء بعدها ميم ساكنة أي ما حالك وما شأنك (يا عبد الرحمن؟ فقال: تزوجت) يا رسول الله (أنصارية قال: فما سقت) زاد أبو ذر عن المستملي إليها (قال) سقت إليها (وزن نواة من ذهب) خمسة دراهم (قال: أولم ولو بشاة).
وهذا الحديث قد مرّ في البيع.

8 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ
(باب ما يكره من التبتل) بموحدة بين فوقيتين ثانيتهما مشدّدة أي الانقطاع عن النساء وترك التزويج للعبادة (والحصاء) بكسر الخاء المعجمة والمد وهو الشق على الأُنثيين وانتزاعهما.
5073 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا. [الحديث 5073 - أطرافه في: 5074].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) التميمي اليربوعي الكوفي قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: (أخبرنا ابن شهاب) محمد بن مسلم أنه (سمع سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ردّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة الساكنة (التبتل) أي ردّ عليه اعتقاد مشروعية التبتل كأنه لما رآه عبادة وليس كذلك ردّه عليه لأن كل ما يفعله العبد تقربًا إلى الله تعالى بقصد أن يتوصل به إلى رضا الله ورسوله وليس

(8/10)


من الشرع فهو مردود فردّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما كان من ذلك خارجًا عن شرعه وسنته ولم يأذن له (ولو أذن) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (له) أي لابن مظعون في ترك النكاح (لاختصينا) افتعال من خصيته سللت خصيته فهو خصيّ بفتح أوّله ومخصيّ أي: لفعلنا فعل من يختصي بأن نفعل ما يُزيل الشهوة، وليس المراد إخراج الخصيتين لأنه حرام أو هو على ظاهره وكان قبل النهي عن الاختصاء.
قال في الفتح ويؤيده توارد استئذان جماعة من الصحابة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك كأبي هريرة وابن مسعود وغيرهما. قال في شرح المشكاة: وكان من حق الظاهر أن يقال لو أذن له لتبتلنا فعدل إلى قوله اختصينا إرادة للمبالغة أي لو أذن لنا بالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء ولم يرد حقيقة الاختصاء لأنه غير جائز. قال في الفتح: وإنما كان التعبير بالخصاء أبلغ من التعبير بالتبتل لأن وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشهوة ووجود الشهوة ينافي المراد من التبتل فيتعين الخصاء طريقًا إلى تحصيل المطلوب وغايته أن فيه ألمًا عظيمًا في العاجل يغتفر في جنب ما يندفع به في الآجل فهو كقطع الأصبع إذا وقعت في اليد المتأكلة صيانة لبقية اليد وليس الهلاك بالخصاء محققًا بل هو نادر.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة في النكاح.
5074 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: لَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْنِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَلَوْ أَجَازَ لَهُ التَّبَتُّلَ لاَخْتَصَيْنَا.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول: لقد ردّ ذلك) أي اعتقاد مشروعية التبتل (يعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عثمان بن مظعون) ثبت ابن مظعون لأبي الوقت (ولو أجاز) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (له التبتل لاختصينا) لدفع شهوة النساء ليمكننا التبتل حينئذٍ ولعلهم كانوا يظنون جوازه ولم يكن هذا الظن موافقًا فإن الاختصاء حرام في الآدمي وغيره من الحيوانات إلا المأكول فيجوز في صغره ويحرم في كبره.
5075 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ، فَقُلْنَا: أَلاَ نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن إسماعيل) بن أبي خالد البجلي (عن قيس) هو ابن أبي حازم أنه (قال: قال عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه-: (كنا نغزو مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس لنا) من المال (فقلنا) أي لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ألا نستخصي) أي ألا نستدعي من يفعل بنا الخصاء أو نعالج ذلك بأنفسنا (فنهانا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن ذلك) نهي تحريم لما فيه من تعذيب النفس والتشويه وإبطال معنى الرجولية وتغيير خلق الله وكفر النعمة لأن خلق الشخص رجلًا من النعم العظيمة، فإذا أزال ذلك فقد تشبه بالمرأة واختار النقص على الكمال. (ثم رخص) عليه الصلاة والسلام (لنا) بعد ذلك (أن ننكح المرأة بالثوب) أي إلى أجل
في نكاح المتعة (ثم قرأ علينا) أي عبد الله بن مسعود كما في رواية مسلم وكذا الإسماعيلي في تفسير المائدة ({يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}) ما طاب ولذّ من الحلال ومعنى لا تحرموا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدًا منكم وتقشفًا وعن ابن مسعود أن رجلًا قال له: إني حرمت الفراش فتلا هذه الآية. وقال: نم على فراشك وكفر عن يمينك ودعي الحسن إلى طعام ومعه فرقد السبخي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها ألوان من الدجاج المسمن والفالوذج وغير ذلك فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن أهو صائم قالوا لا ولكنه يكره هذه الألوان فأقبل الحسن عليه، وقال: يا فريقد أترى لُعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم ({ولا تعتدوا}) أي لا تتجاوزوا الحدّ الذي حدّ عليكم في تحريم أو تحليل أو ولا تتعدّوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم ({إن الله لا يحب المعتدين}) [المائدة: 87] حدوده. قال الراغب: لما ذكر تعالى حال الذين قالوا إنا نصارى ذكر أن منهم قسيسين ورهبانًا فمدحهم بذلك، وكانت الرهابنة قد حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم ورأى الله تعالى قومًا تشوّفوا إلى حالهم

(8/11)


وهموا أن يقتدوا بهم نهاهم عن ذلك.
فإن قلت: لِمَ لم يقل والله يبغض المعتدين ليكون أبلغ؟ أجيب: بل المذكور أبلغ لأن من المعتدين من لا يوصف بأن الله يبغضه ويوصف بأن الله لا يحبه وهو من لم يكن اعتداؤه كثيرًا.
قال في الفتح: وظاهر استشهاد ابن مسعود بهذه الآية هنا يشعر بأنه كان يرى جواز المتعة ويأتي إن شاء الله تعالى البحث، في ذلك بعون الله تعالى.
5076 - وَقَالَ أَصْبَغُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ، وَأَنَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ، وَلاَ أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ، فَسَكَتَ عَنِّي. ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ».
(وقال أصبغ) بن الفرج وراق عبد الله بن وهب فيما وصله جعفر الفريابي في كتاب القدر والجوزقي في الجمع بين الصحيحين (أخبرني) بالإفراد (ابن وهب) عبد الله (عن يونس بن يزيد) الأيلي (عن ابن شهاب) محمد الزهري (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قلت يا رسول الله: إني رجل شاب وأنا) ولأبي ذر عن الكشميهني وإني (أخاف على نفسي العنت) بفتح العين المهملة والنون والفوقية أي الزنا (ولا أجد ما أتزوّج به النساء) زاد في رواية حرملة فائذن لي أختصي (فسكت) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عني ثم قلت: مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاقٍ) أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي كتب به جافًّا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به (فاختص) بكسر الصاد المهملة المخففة أمر من الاختصاء (على ذلك) أي فاختص حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضاء الله وقدره فالجار والمجرور متعلق بمحذوف (أو ذر) أي أترك وفي رواية الطبري فاقتصر بالراء بعد الصاد ومعناه كما في شرح المشكاة اقتصر على الذي أمرتك به أو اتركه وافعل ما ذكر من الخصاء، وعلى الروايتين فليس الأمر فيه لطلب الفعل بل هو للتهديد كقوله تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29].

9 - باب نِكَاحِ الأَبْكَارِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ: لَمْ يَنْكِحِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكْرًا غَيْرَكِ
(باب نكاح الأبكار. وقال ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة واسمه زهير الأحول المكي فيما وصله المؤلّف في تفسير سورة النور (قال ابن عباس لعائشة) -رضي الله عنهم-: (لم ينكح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكرًا غيرك) والبكر هي التي لم توطأ.
5077 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِي أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟ قَالَ: «فِي الَّتي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا». تَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) هو ابن أبي أويس القرشي التيمي ابن أخت الإمام مالك بن أنس وصهره على ابنته (قال: حدّثني) بالإفراد (أخي) عبد الحميد أبو بكر الأعشى (عن سليمان) بن بلال (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت) أي أخبرني (لو نزلت واديًا وفيه شجرة قد أكل منها) بضم الهمزة وكسر الكاف (ووجدت شجرة لم يؤكل منها) بالإفراد في شجرة في الموضعين.
وقال في الفتح: وفي رواية أبي ذر وفيه شجرة قد أكل منها ووجدت شجرًا يعني بالإفراد في الأولى والجمع في الثانية. قلت: وهو الذي في اليونينية من غير عزو لرواية. وذكره الحميدي بلفظ فيه شجر قد أكل منها، وكذا في مستخرج أبي نعيم بلفظ الجمع وهو أصوب لقولها (في أيها) أي في أي الشجر (كنت ترتع بعيرك) بضم أوّله وكسر ثالثه ولو أرادت الموضعين لقالت في أيّهما (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
ارتع (في) الشجر (التي لم يرتع منها) بضم التحتية وفتح الفوقية والراء بينهما ساكنة وزاد أبو نعيم فأنا هيه بكسر الهاء وفتح التحتية وسكون الهاء وهي للسكت (يعني) بالتحتية في الفرع وبالفوقية في غيره وهو الذي في اليونينية أي تعني عائشة (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يتزوّج بكرًا غيرها)
وهذا فيه غاية بلاغة عائشة وحسن تأنيها في الأمور كما قاله في الفتح، وما أحسن قول الحريري في تفضيل البكر حيث قال: أما البكر فالدرة المخزونة، والبيضة المكنونة، والثمرة الباكورة، والسلافة المدخورة، والروضة الأنف، والطوق الذي ثمن وشرف لم يدنسها لامس، ولا استغشاها لابس ولا مارسها عابث، ولا واكسها طامث، لها الوجه الحييّ والطرف الخفي، والغزالة المغازلة، والملحة الكاملة، والوشاح الطاهر القشيب، والضجيع الذي يشب ولا يشيب.
5078 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ. فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ».
وبه قال: (حدّثنا

(8/12)


عبيد بن إسماعيل) القرشي الهباري من ولد هبار بن الأسود الكوفي وكان اسمه عبد الله وعبيد لقب غلب عليه وعرف به، قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أريتك) بضم الهمزة وكسر الراء والكاف (في المنام مرتين إذا رجل) ملك في صورة رجل وفي الترمذي أنه جبريل (يحملك) أي صورتك (في سرقة حرير) بفتح السين والراء المهملتين ثم قاف أي قطعة حرير (فيقول: هذه امراتك) زاد ابن حبان في الدنيا والآخرة (فأكشفها) أي السرقة (فإذا هي) أي الصورة التي في السرقة (أنت فأقول: إن يكن هذا) الذي رأيته (من عند الله يمضه) بضم أوله من الإمضاء.
فإن قلت: رؤيا الأنبياء وحي فما معنى قوله إن يكن؟ أجيب: باحتمال أن تكون هذه الرؤيا قبل النبوة وبعدها فعلى الأول لا إشكال، وعلى الثاني فلها ثلاثة أوجه أن تكون على ظاهرها فلا تحتاج إلى تعبير فسيمضيها الله تعالى وينجزها أو تحتاج إلى تعبير وتفسير وصرف عن ظاهرها كأن يخرج على مثالها كأختها أو قريبتها أو سميتها فالشك عائد إلى أنها على ظاهرها أو تحتاج إلى تعبير أو المراد إن كانت هذه الزوجية في الدنيا أو في الآخرة أو لم يشك، ولكن أخبر على التحقيق وأتى بصورة الشك وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمى مزج الشك باليقين قاله القاضي عياض.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التعبير ومسلم في الفضائل، ونقل في المصابيح عن ابن المنير أن من خصائص عائشة -رضي الله عنها- أنها ولدت مسلمة بإسلام أبيها قبل ولادتها قال: وهذا لازم لأهل السير والتواريخ فيما ينقلونه ولم أر أحدًا انتزعه قبل ذلك والله أعلم.

10 - باب الثَّيِّبَاتِ وَقَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَالَ: لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ»
(باب الثيبات) اللاتي تزوجن، ولأبي ذر باب تزويج الثيبات (وقالت أم حبيبة) أم المؤمنين
رملة بنت أبي سفيان الأموي مما وصله في باب وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم الآتي إن شاء الله تعالى (قال النبي) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر قال لي النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مخاطبًا لأزواجه (لا تعرضن) بفتح التاء وسكون العين المهملة وكسر الراء وسكون الضاد المعجمة مصححًا عليها في الفرع (عليّ بناتكن ولا أخواتكن) لحرمتهن لأنهن ربائبه وهو يحقق أنه عليه الصلاة والسلام تزوج الثيب ذات البنت من غيره، فحصلت المطابقة بين الحديث والترجمة.
5079 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَزْوَةٍ، فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ الإِبِلِ، فَإِذَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «مَا يُعْجِلُكَ»؟ قُلْتُ: كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ. قَالَ: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا»؟ قُلْتُ: ثَيِّبٌ قَالَ: «فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ». قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ قَالَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا -أَيْ عِشَاءً- لِكَىْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا هشيم) بضم الهاء وفتح الشين المعجمة ابن بشير بضم الموحدة وفتح الشين المعجمة قال: (حدّثنا سيار) بفتح السين المهملة وتشديد التحتية ابن أبي سيار واسمه وردان العنزي الواسطي (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري -رضي الله عنهما- أنه (قال: قفلنا) رجعنا (مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غزوة) هي غزوة تبوك (فتعجلت على بعير لي قطوف) بفتح القاف أي بطيء (فلحقني راكب من خلفي فنخس بعير بعنزة) عصا طويلة أقصر من الرمح (كانت معه فانطلق بعيري كأجود ما أنت راءٍ من الإبل) بتنوين راء (فإذا) هو (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) لي:
(ما يعجلك)؟ بضم التحتية وسكون العين وكسر الجيم أي ما سبب إسراعك (قلت: كنت حديث عهد بعرس) بضم العين والراء المهملتين في الفرع كأصله وفي نسخة بسكون الراء أي قريب البناء بامرأة (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أتزوجت (بكرًا) ولأبي ذر أبكرًا بإثبات همزة الاستفهام (أم) تزوجت (ثيبًا؟ قلت) هي (ثيب) ولأبي ذر ثيبًا نصب بتقدير تزوجت (قال) عليه الصلاة والسلام: (فهلا) تزوجت (جارية) بكرًا (تلاعبها وتلاعبك) وعند الطبراني من حديث كعب بن عجرة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لرجل فذكر الحديث نحو حديث جابر وفيه تعضها وتعضك، وكلمة هلا للتحضيض (قال) جابر: (فلما ذهبنا) لندخل المدينة (قال) عليه الصلاة والسلام: (أمهلوا) بهمزة

(8/13)


قطع (حتى تدخلوا ليلًا أي عشاءً) قال الحافظ ابن حجر: وهذا يعارضه الحديث الآخر الآتي قبيل أبواب الطلاق لا يطرق أحدكم أهله ليلًا وهو من طريق الشعبي عن جابر أيضًا ويجمع بينهما بأن الذي في الباب لمن علم خبر مجيئه والعلم بوصوله والآتي لمن قدم بغتة (لكي تمتشط الشعثة) بفتح الشين المعجمة، وكسر العين المهملة، وفتح المثلثة، المنتشرة الشعر المغبرة الرأس الغير المتزينة (وتستحد المغيبة) بضم الميم
وكسر الغين المعجمة وسكون التحتية بعدها موحدة أي تستعمل الحديدة وهي الموسى في إزالة الشعر من غاب عها زوجها أي لأن تتهيأ وتتزين لزوجها بامتشاط الشعر وتنظيف البدن.
وهذا الحديث قد سبق مطوّلًا ومختصرًا في البيوع والاستقراض والشروط والجهاد.
5080 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبٌ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ تَزَوَّجْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. «مَا تَزَوَّجْتَ»؟ فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا. فَقَالَ: «مَا لَكَ وَلِلْعَذَارَى وَلِعَابِهَا». فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَقَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَلاَّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا محارب) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وبعد الألف راء مكسورة فموحدة ابن دثار بكسر الدال المهملة وفتح المثلثة آخره راء السدوسي (قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عهما يقول تزوّجت فقال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما تزوّجت؟ فقلت): يا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (تزوجت ثيبًا. فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ما لك وللعذارى) بالذال المعجمة أي الأبكار (ولعابها) بكسر اللام مصدر من الملاعبة يقال: لاعب لعابًا وملاعبة. قال في الفتح: وفي رواية المستملي ولعابها بضم اللام والمراد به الريق وفيه إشارة إلى مصّ لسانها ورشف شفتها وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل وليس ببعيد كما قاله القرطبي، يؤيده أنه بمعنى آخر غير المعنى الأول وعند ابن ماجة عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهًا وأنتق أرحامًا بنون وفوقية أي أكثر حركة قال محارب: (فذكرت ذلك) وهو قوله ما لك وللعذارى (لعمرو بن دينار فقال عمرو: وسمعت جابر بن العبد الله يقول: قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هلا جارية تلاعبها وتلاعبك) تعليل لتزويج البكر لما في من الإلفة التامة فإن الثيب قد تكون متعلقة القلب بالزوج الأول، فلم تكن محبتها كاملة بخلاف البكر وذكر ابن سعد أن اسم امرأة جابر المذكورة سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصارية الأوسية وقد كان بين تزويج جابر لهذه المرأة وسؤاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له عن ذلك مدة طويلة.

11 - باب تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ
(باب) حكم (تزويج الصغار من الكبار في السن).
5081 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَالَ: «أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَهْيَ لِي حَلاَلٌ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن
يزيد) بن أبي حبيب بفتح المهملة وكسر الموحدة (عن عراك) بكسر العين المهملة وتخفيف الراء ابن مالك الغفاري (عن عروة) بن الزبير (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب عائشة) فأنهى خطبتها (إلى أبي بكر) -رضي الله عنهما- أو إلى بمعنى من والأول كقوله أحمد إليك الله أي أنهي حمده إليك (فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك) حصر مخصوص بالنسبة إلى تحريم نكاح بنت الأخ (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له:
(أنت أخي في دين الله وكتابه) أشار إلى نحو قوله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة} (وهي) أي عائشة (لي حلال) نكاحها لأن الأخوّة المانعة من ذلك أخوّة النسب والرضاع لا أخوّة الدين.
وهذا الحديث صورته صورة المرسل ويحتمل أنه حمله عن خالته عائشة أو عن أمه أسماء بنت أبي بكر. وقال أبو عمر بن عبد البر: إذا علم لقاء الراوي لمن أخبر عنه ولم يكن مدلسًا حمل ذلك على سماعه ممن أخبر عنه ولو لم يأت بصيغة تدل على ذلك.

12 - باب إِلَى مَنْ يَنْكِحُ، وَأَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ
هذا (باب) بالتنوين إذا أراد أن يتزوج ينتهي أمره (إلى من ينكح) من النساء بفتح التحتية وكسر الكاف أو بضم ثم فتح أي إلى من يعقد (وأي النساء خير وما يستحب) للرجل (أن يتخير) من النساء (لنطفه من غير إيجاب) في الأنواع الثلاثة.
5082 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُو نِسَاءِ قُرَيْشٍ: أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال: خير نساء ركبن الإبل) إشارة إلى العرب لأنهم الذين يكثر منهم

(8/14)


ركوب الإبل والعرب خير من غيرهم مطلقًا فى الجملة فيستفاد منه تفضيل نسائهم مطلقًا على نساء غيرهم مطلقًا (صالحو نساء قريش) أي في الدين وحسن المخالطة للزوج وأصله صالحون فسقطت النون للإضافة ولابن عساكر وأبوي الوقت وذر عن الكشميهني صالح بالإفراد وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي والمستملي صلح بضم الصاد وتشديد اللام المفتوحة جمع صالح (أحناه) بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح النون أكثرهن شفقة (على ولد) نكر الولد إشارة إلى أنها تحنو على أي ولد كان وإن كان ولد زوجها من غيرها ولأبي ذر عن الحموي والمستملي على ولده بإثبات الضمير (في صغره) قال الهروي: والحانية على ولدها هي التي تقوم عليهم في حال يتمهم فلا تتزوج فإن تزوجت فليست بحانية وذكر الضمير في قوله أحناه وصالح وكان القياس أحناهن وصالحة باعتبار
اللفظ، أو الجنس، أو الشخص أو الإنسان (وأرعاه على زوج) أي أحفظه وأصون لماله بالأمانة فيه والصيانة له (في ذات يده). أي ماله المضاف له.
وفي الحديث فضيلة الحنوّ على الأولاد والشفقة عليهم وحسن تربيتهم والقيام عليهم ومراعاة حق الزوج في ماله والأمانة فيه وتدبيره في النفقة وغيرها وخرج بقوله ركبن الإبل مريم عليها السلام، وقد سبق في أواخر أحاديث الأنبياء في ذكر مريم، قول أبي هريرة: ولم تركب مريم بعيرًا قط، وكأنه أراد إخراج مريم من هذا التفضيل فلا يكون فيه تفضيل نساء قريش عليها.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة في النوع الأول والثاني، وأما الثالث فبطريق اللزوم لأنه إذا ثبت أن نساء قريش خير النساء فالمتزوّج منهن قد تخير لنطفه.

12 م - باب اتِّخَاذِ السَّرَارِيِّ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
(باب اتخاذ السراري).
جمع سرية بضم السين وتشديد الراء المكسورة وتحتية مشدّدة وهي الأمة المتخذة للوطء واشترط الفقهاء في صدق هذه التسمية حصول الوطء ولو مرة وتظهر فائدة ذلك فيمن جعل بيد زوجته عتق السرية التي يتخذها عليها فإن لم يطأها لم تعتق ولفظ السرية مأخوذ من التسرر وأصله من السر وهو من أسماء الجماع.
قال في القاموس: السر بالكسر ما يكتم كالسريرة الجمع أسرار وسرائر والجماع والذكر والنكاح والإفصاح به والزنا وفرج المرأة انتهى. وسميت بذلك لأنها يكتم أمرها عن الزوجة غالبًا وإنما ضمت سينها جريًا على المعتاد من تغيير النسب كما قالوا في النسبة إلى الدهر دهري وإلى السهل سهلي، وعن الأصمعي أنها مشتقة من السرور فيقال: تسررت سرية وتسريت بالياء فالأولى على الأصل والثاني: على البدل ما يقال تظنيت، وروى أبو داود في مراسيله عن الزبير بن سعد الهاشمي عن أشياخه رفعه قال: عليكم بأمهات الأولاد فإنهن مباركات الأرحام. وفي رواية عليكم بالسراري. وفي الكامل لأبي العباس قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ليس قوم أكيس من أولاد السراري لأنهم يجمعون عز العرب ودهاء العجم يريد إذا كن من العجم (و) ثواب (من أعتق جاريته ثم تزوجها).
5083 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ. وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي، فَلَهُ أَجْرَانِ. وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ أَدَّى حَقَّ مَوَالِيهِ وَحَقَّ رَبِّهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ». قَالَ الشَّعْبِيُّ: خُذْهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، قَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَنْ
أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَعْتَقَهَا ثُمَّ أَصْدَقَهَا».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا عبد الواحد) بن زياد قال: (حدّثنا صالح بن صالح) أي ابن حي (الهمداني) بسكون الميم والدال المهملة المفتوحة قال: (حدّثني) بالإفراد والذي في اليونينية بالجمع (الشعبي) عامر بن شراحيل قال: (حدّثني) بالإفراد (أبو بردة) بضم الموحدة وسكون الراء عامر (عن أبيه) أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أيما رجل كانت عنده وليدة) أي أمة (فعلمها) ما يجب تعليمه من الدين (فأحسن تعليمها وأدبها) لتتخلق بالأخلاق الحميدة (فأحسن تأديبها) برفق ولطف من غير عنف (ثم أعتقها وتزوجها) بعد أن أصدقها (فله أجران) أجر العتق وأجر التزويج (وأيما رجل من أهل الكتاب) التوراة والإنجيل أو الإنجيل فقط على القول بأن النصرانية ناسخة لليهودية حال كونه قد (آمن بنبيه) قال الداودي: يعني كان على دين عيسى، وأما اليهود وكثير من النصارى فليسوا من ذلك لأنه لا يجازى على الكفر بالخير قال

(8/15)


في المصابيح: وهذا ظاهر من الحديث فإن اليهود الذين بقوا على يهوديتهم بعد إرسال عيسى عليه السلام لا يصدق عليهم أنهم آمنوا بنبيهم. قال: فإذن هاتان الطائفتان خارجتان عن معنى الحديث فتأمله (وآمن بي) ولأبي ذر والوقت: وآمن يعني بي (فله أجران وأيما مملوك أدى حق مواليه) بلفظ الجمع ليدخل ما لو كان مشتركًا بين موال والمراد من حقهم خدمتهم (وحق ربه) تعالى كالصلاة والصوم (فله أجران).
ومباحث الحديث سبقت في العلم والجهاد.
و (قال الشعبي): عامر لرواية صالح بن صالح أو لرجل من خراسان ففي رواية هشيم عن صالح بن صالح المذكور قال رأيت رجلًا من أهل خراسان سأل الشعبي فقال: إن من قبلنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا أعتق أمته ثم تزوّجها فهو كالراكب بدنته فقال الشعبي: فذكر الحديث إلى أن قال له: (خذها) أي المسألة (بغير شيء) من أجرة بل بثواب التعليم (قد كان الرجل يرحل فيما دونه) أي المذكور ولأبي ذر دونها أي المسألة المذكورة (إلى المدينة) النبوية. (وقال أبو بكر): بسكون الكاف شعبة بن عياش بالتحتية آخره شين معجمة القارئ مما وصله أبو داود الطيالسي في مسنده (عن أبي حصين) بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين عثمان بن عاصم (عن أبي بردة) عامر (عن أبيه) أن موسى الأشعري -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الحديث. وقال فيه: (أعتقها ثم أصدقها). فصرح بثبوت الصداق هنا بخلاف الرواية السابقة فإن ظاهرها أن يكون العتق نفس المهر.
5084 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن تليد) بفتح الفوقية وكسر اللام المخففة وسكون التحتية بعدها دال مهملة المصري (قال أخبرني) بالإفراد ولأبوي ذر والوقت أخبرنا (ابن وهب) عبد الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (جرير بن حازم) بالحاء المهملة والزاي (عن أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن سيرين (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
0000 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلاَّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ: بَيْنَمَا إِبْرَاهِيمُ مَرَّ بِجَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَعْطَاهَا هَاجَرَ قَالَتْ: كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْكَافِرِ، وَأَخْدَمَنِي آجَرَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ.
وبه قال: (حدّثنا سليمان) بن حرب (عن حماد بن زيد عن أيوب) السختياني (عن محمد) أي ابن سيرين ولأبي ذر عن مجاهد بدل عن محمد قال الحافظ ابن حجر: وتبعه العيني وهو خطأ (عن أبي هريرة) رضي الله عنه.
(لم يكذب) كذا ورد موقوفًا لكريمة والنسفيّ، وكذا عن أبي نعيم وجزم به الحميدي قال الحافظ ابن حجر: وأظنه الصواب في رواية حماد عن أيوب وأن ذلك هو السر في إيراد رواية جرير بن حازم مع كونها نازلة ولأبي ذر والأصيلي وابن عساكر قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لم يكذب (إبراهيم) كذا في هامش الفرع كأصله وزاد في الفتح وكذا في رواية أبي الوقت والنسفيّ وأفاد أن ابن سيرين كان يقف كثيرًا من حديث أبي هريرة تخفيفًا أي لا يرفعه إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إلا ثلاث كذبات) بفتح الذال المعجمة وعند ابن الحطيئة عن أبي ذر بسكونها وليس هذا من الكذب الحقيقي المذموم بل هو من باب المعاريض المحتملة للأمرين لقصد شرعي ديني (بينما) بالميم (إبراهيم مرّ بجبار) اسمه صادوق كما قاله ابن قتيبة أو غير ذلك وكان على مصر فيما ذكره السهيلي (ومعه سارّة) زوجته (فذكر الحديث) ولفظه كما في أحاديث الأنبياء فقيل له: إن ها هنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه؟ قال أختي فأتى سارّة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأطلق ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال: ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأطلق فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان (فأعطاها هاجر) أم إسماعيل (قالت) للخليل: (كف الله يد الكافر) الجبار عني (وأخدمني آجر) بالهمزة الممدودة بدل الهاء (قال أبو هريرة): بالسند السابق يخاطب العرب (فتلك) يعني هاجر (أمكم يا بني ماء السماء)

(8/16)


لكثرة ملازمتهم الفلوات التي بها مواقع المطر لرعي دوابهم.
ومطابقة الحديث للترجمة كما قال ابن المنير من جهة أن هاجر كانت مملوكة وقد صح أن إبراهيم أولدها بعد أن ملكها فهي سرية انتهى.
وتعقبه في الفتح فقال: إن أراد أن ذلك وقع صريحًا في الصحيح فليس بصحيح، وإنما الذي في الصحيح أن سارة ملكتها وأن إبراهيم أولدها إسماعيل وكونه ما كان بالذي يستولد أمة امرأته إلا بملك مأخوذ من خارج حديث الصحيح، وفي مسند أبي يعلى فاستوهبها إبراهيم من سارة فوهبتها له.
5085 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ، أُمِرَ بِالأَنْطَاعِ فَأَلْقَي فِيهَا مِنَ التَّمْرِ وَالأَقِطِ وَالسَّمْنِ، فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهْيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهْيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأ لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا إسماعيل بن جعفر) المدني (عن حميد) الطويل (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: أقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين خيبر والمدينة) بسدّ الصهباء (ثلاثًا)، أي ثلاثة أيام (يبنى عليه بصفية بنت حيي) بعد أن دفعها لأم سليم حتى تهيئها له ويبنى بضم التحتية وسكون الموحدة وفتح النون مبنيًّا للمفعول من البناء وهو الدخول بالزوجة قال في المصابيح وفيه رد على الجوهري حيث خطأ من قال بنى الرجل بأهله (فدعوت المسلمين إلى وليمته) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فما كان فيها من خبز ولا لحم) وسقطت من لأبي ذر (أمر) بضم الهمزة وكسر الميم ولأبي ذر بفتحهما وفي أصل اليونينية أمر بلالًا (بالأنطاع فألقى) بفتح الهمزة والقاف (فيها من التمر والإقِطِ والسمن فكانت وليمته) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها (فقال المسلمون: أحدى أمهات المؤمنين أو مما ملكت يمينه) وعند مسلم فقال الناس لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد (فقالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه فلما ارتحل وطأ) أي هيأ (لها) شيئًا تقعد عليه (خلفه) أي على الراحلة (ومدّ الحجاب بينها وبين الناس).
قيل: ومطابقة الحديث للترجمة من تردد الصحابة هل صفية زوجة أو سرية.

13 - باب مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الأَمَةِ صَدَاقَهَا
(باب من جعل عتق الأمة صداقها) هل يصح أم لا؟
5086 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ، وَشُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البغلاني قال: (حدّثنا حماد) بن زيد (عن ثابت) البناني (وشعيب بن الحبحاب) بحاءين مهملتين مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة وبعد الألف موحدة ثانية
البصري كلاهما (عن أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعتق صفية) بنت حيي (وجعل عتقها صداقها) أي أعتقها بشرط أن يتزوجها فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها.
وفي رواية حماد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس قال: وصارت صفية لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد أنت سألت أنسًا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها فتبسم فهو ظاهر جدًّا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق وقد تمسك بظاهره أبو يوسف وأحمد فقالا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها صح العقد والعتق والمهر على ظاهر الحديث، عبارة المرداوي من الحنابلة في تنقيحه، وإذا قال لأمته القن أو المدبرة أو المكاتبة أو أم ولده أو إلى المعلق عتقها على صفة أعتقتك وجعلت عتقك صداقك صح وإن كان متصلًا بحضرة شاهدين ويصح جعل صداق من بعضها رقيق عتق ذلك البعض صداق انتهى.
ومنهم من جعله من خصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وممن جزم بذلك الماوردي ويحيى بن أكثم ونقله المزني عن الشافعي قال وموضع الخصوصية أنه أعتقها مطلقًا وتزوّجها بغير مهر ولا ولي ولا شهود، وهذا بخلاف غيره، وقيل المعنى أعتقها ثم تزوجها فلما لم يعلم أنس أنه ساق لها صداقًا قال أصدقها نفسها أي لم يصدقها شيئًا فيما أعلم فلم ينفِ أصل الصداق، ولهذا قال الطبري من الشافعية وابن المرابط من المالكية ومن تبعهما: أنه قول أنس قاله: ظنًّا من قبل نفسه ولم يرفعه، وعورض بما أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها أنها قالت: أعتقني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعل عتقي صداقي فيرد على القائل بأن أنسًا قاله من قبل نفسه.
وهذا الحديث سبق في غزوة خيبر.

14 - باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
(باب) جواز (تزويج المعسر لقوله تعالى: {إن يكونوا فقراء}) من المال ({يغنهم الله

(8/17)


من فضله}) [النور: 32] فالإعسار في الحال لا يمنع التزوّج لاحتمال حصول المال في المآل وعن علي بن أبي طلب عن ابن عباس أنه قال: رغبهم الله تعالى في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد يعني في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم} ووعدهم عليه الغنى فقال: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}، وعن سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} رواه ابن أبي حاتم، وعن ابن مسعود أنه قال: التمسوا الرزق في النكاح بقول الله: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} رواه ابن جرير وذكر البغوي عن ابن عمر نحوه، وفي حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثلاثة حق على الله عونهم الناكح" يريد العفاف الحديث، وقال في مصابيح الجامع: وظاهر الآية وعد كل فقير تزوّج بالغنى ووعد الله واجب، فإذا رأينا فقيرًا تزوج ولم يستغن فليس ذلك لإخلاف الوعد حاش لله ولكن لإخلاله هو بالقصد لأن الله تعالى إنما وعد على حسن القصد فمن لم يستغن فليرجع باللوم على نفسه. وقال ابن كثير والمعهود من كرم الله ولطفه رزقه وإياها بما فيه كفاية له ولها، وأما حديث تزوّجوا فقراء يغنكم الله فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف وفي القرآن غنية عنه.
5087 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. فَقَالَ: «وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ»؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا»، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ»، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ، إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ». فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا فَقَالَ: «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ»؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه) أبي حازم سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد الساعدي) أنه (قال: جاءت امرأة) قال في المقدمة: يقال إنها خولة بنت حكيم، وقيل أم شريك ولا يثبت شيء من ذلك (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي) أي أكون لك زوجة بلا مهر وهو من الخصائص أو التقدير وهبت أمر نفسي لك فاللام لام التمليك استعملت هنا في تمليك المنافع (قال: فنظر إليها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصعّد النظر) بتشديد العين أي رفعه (فيها وصوّبه) بتشديد الواو أي خفضه (ثم طأطأ رسول الله) ولأبي ذر عن الكشميهني ثم طأطأ لها رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست فقام رجل من أصحابه) لم يسم (فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فيها (حاجة فزوجنيها فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له:
(وهل عندك من شيء) تصدقها إياه (قال: لا والله يا رسول الله. فقال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئًا، فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئًا. فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: انظر
ولو) كان الذي تجده (خاتمًا من حديد) فأصدقها إياه ففيه حذف كان واسمها وجواب لو وفيه دلالة على جواز التختم بالحديد وفيه خلاف فقيل يكره لأنه من لباس أهل النار والأصح عند الشافعية لا يكره (فذهب) إلى أهله (ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزاري. قال سهل) الساعدي مما أدرجه في الحديث (ما له رداء فلها نصفه فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ما تصنع) أي المرأة (بإزارك إن لبسته) أنت (لم يكن عليها من شيء وإن لبسته) هي (لم يكن عليك شيء) وللأصيلي وأبوي الوقت وذر عن الحموي والمستملي: لم يكن عليك منه شيء (فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه) بكسر اللام (قام فرآه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موليًا) مدبرًا (فأمر به فدعي) بضم الدال وكسر العين (فلما جاء قال) له: (ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا عدّدها) عين النسائي في روايته وكذا أبو داود من حديث عطاء عن أبي هريرة البقرة أو التي تليها وفي الدارقطني عن ابن مسعود البقرة وسور من المفصل، ولتمام الرازي عن أبي أمامة قال: زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلًا من الأنصار على سبع سور (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تقرؤهن عن ظهر قلبك) أي من حفظك (قال: نعم. قال: اذهب

(8/18)


فقد ملكتكها بما معك من القرآن) بفتح الميم قال الدارقطني هذه وهم والصواب زوّجتكها وهي رواية الأكثرين.
قال النووي: يحتمل صحة الوجهين بأن يكون جرى لفظ التزويج أوّلًا ثم لفظ التمليك ثانيًا أي لأنه ملك عصمتها بالتزويج السابق. زاد البيهقي في المعرفة من طريق زائدة عن أبي حازم عن سهل انطلق فقد زوّجتكها بما تعلّمها من القرآن، وفي حديث أبي هريرة عنده أيضًا قال: ما تحفظ من القرآن قال: سورة البقرة والتي تليها قال: قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك، وفي تعليمها القرآن منفعة تعود إليها وهو عمل من أعمال البدن التي لها أجرة، والباء في بما معك باء المقابلة وما موصولة وصلتها الظرف والعائد ضمير الاستقرار وقيل الباء سببية أي بسبب ما معك من القرآن قيل ويرجع إلى صداق المثل، وهذا مذهب الحنفية قالوا: لأن المسمى ليس بمال، والشارع إنما شرع ابتغاء النكاح للمال بقوله: {أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24] وتعليم القرآن ليس بمال فيجب مهر المثل وليس في قوله زوّجتكها بما معك من القرآن أنه جعله مهرًا ومن للبيان أو للتبعيض.

15 - باب الأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}
(باب الأكفاء في الدين) بفتح الهمزة الأولى جمع كفء بضم الكاف وسكون تاليها آخره المثل والنظير يقال: كافأه أي ساواه، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم فالكفاءة معتبرة في النكاح لما روى جابر أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوّجن من غير الأكفاء ولأن النكاح يعقد للعمر، ويشتمل على أغراض ومقاصد كالازدواج والصحبة والألفة وتأسيس القرابات ولا ينتظم ذلك عادة إلا بين الأكفاء، وقد جزم مالك -رحمه الله- بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين لقوله عليه الصلاة والسلام: "الناس سواء لا فضل
لعربي على عجمي إنما الفضل بالتقوى". وقال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]. وأجيب: بأن المراد به في حكم الآخرة وكلامنا في الدنيا، وقال الشيخ خليل في مختصره: والكفاءة الدين والحال قال شارحه وأعتبر فيها خمسة أوصاف.
الدين وهو متفق عليه، وظاهر قول المدوّنة المسلمون بعضهم لبعض أكفاء أن الرقيق ونقله عبد الوهاب نصًّا وعن المغيرة أنه يفسخ وصححه هو وغيره.
والنسب وفي المدونة المولى كفء للعربية، وقيل ليس بكفء.
والحال وهو أن يكون الزوج سالمًا من العيوب الفاحشة.
والمال فالعجز عن حقوقها يوجب مقالها وقيل: المعتبر من ذلك كله عند مالك الدين والحال وعند ابن القاسم الدين والمال وعندهما المال والحال انتهى.
وخصال الكفاءة عند الشافعية خمسة.
سلامة من عيب نكاح كجنون وجذام وبرص.
وحرية فمن مسه أو مس أبًا له أقرب رق ليس كفء سليمة من ذلك لأنها تعير به وخرج بالآباء الأمهات فلا يؤثر فيهن مس الرق.
ونسب ولو في العجم لأنه من المفاخر فعجمي أبًا وإن كانت أمه عربية ليس كفء عربية أبًا وإن كانت أمها أعجمية ولا غير قرشي من العرب كفأ لقرشية لحديث قدّموا قريشًا ولا تقدّموها رواه الشافعي بلاغًا ولا غير هاشمي ومطلبي كفأ لهما لحديث مسلم أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فبنو هاشم وبنو المطلب أكفاء لحديث البخاري نحن وبنو المطلب شيء واحد.
وعفة بدين وصلاح فليس فاسق كفء عفيفة.
وحرفة فليس ذو حرفة دنيئة كفء أرفع منه فنحو كناس ليس كفء بنت خياط ولا خياط بنت تاجر ولا تاجر بنت عالم ولا يعتبر في خصال الكفاءة اليسار لأن المال غادٍ ورائح ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر، وقال الحنابلة: واللفظ للمرداوي في تنقيحه والكفاءة في زوج شرط لصحة النكاح عند الأكثر فهي حق لله والمرأة والأولياء كلهم حتى من يحدث ولو زالت بعد العقد فلها الفسخ فقط وعنه ليست بشرط بل للزوم واختاره أكثر المتأخرين وهو أظهر ولمن لم يرض الفسخ من المرأة والأولياء جميعهم فورًا وتراخيًا فهي حق

(8/19)


للأولياء والمرأة وهي دين ومنصب وهو النسب وحرية وصناعة غير زرية ويسار بمال بحسب ما يجب لها. وقال الشافعي: ليس نكاح غير الأكفاء حرامًا فأردّ به النكاح، وإنما هو تقصير بالمرأة والأولياء فإذا رضوا صح ويكون حقًّا لهم تركوه فلو رضوا إلا واحدًا فله فسخه.
(وقوله) عز وجل: ({وهو الذي خلق من الماء}) أي النطفة ({بشرًا}) إنسانًا ({فجعله نسبًا وصهرًا}) يريد فقسم البشر قسمين ذوي نسب أي ذكورًا ينسب إليهم فيقال: فلان ابن فلان وفلانة بنت فلان، وذوات صهر أي إناثًا يصاهر بهن وهو كقوله: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39] ({وكان ربك قديرًا}) [الفرقان: 54] حيث خلق من النطفة الواحدة بشرًّا نوعين ذكرًا وأنثى، وقيل فجعله نسبًا قرابة وصهرًا أي مصاهرة يعني الموصلة بالنكاح منّ بالأنساب لأن التواصل يقع بها وبالمصاهرة لأن التوالد بها يكون، وسقط لأبي ذر قولها {وكان ربك قديرًا} وقال بعد وصهرًا الآية. ومراد المؤلّف -رحمه الله- من سياق هذه الآية الإشارة إلى أن النسب والصهر مما يتعلق به حكم الكفاءة، ونقل العيني عن ابن سيرين أن هذه الآية نزلت في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلي وزوّج عليه الصلاة والسلام فاطمة عليًّا وهو ابن عمه وزوج ابنته فكان نسبًا وكان صهرًا.
5088 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهْوَ مَوْلًى لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدًا، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} -إِلَى قَوْلِهِ- {وَمَوَالِيكُمْ} فَرُدُّوا إِلَى آبَائِهِمْ فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ كَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّينِ فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ ثُمَّ الْعَامِرِيِّ وَهْيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير عن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا حذيفة) مهشمًا على المشهور خال معاوية بن أبي سفيان (ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس) القرشي العبشمي (وكان ممن شهد بدرًا) والمشاهد كلها (مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبنى سالمًا) أي ابن معقل بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف من أهل فارس المهاجري الأنصاري (وأنكحه) زوّجه (بنت أخيه) بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة (هند) غير مصروف للعلمية والتأنيث ولأبوي الوقت وذر هندًا لسكون وسطه (بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو) أي سالم (مولى لامرأة من الأنصار) اسمها ثبيتة بضم المثلثة وفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الفوقية بنت يعار بفتح التحتية والعين المهملة المخففة وبعد الألف راء ابن زيد بن عبيد الأنصارية زوج أبي حذيفة المذكور (كما تبنى) أي ما اتخذ (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيدًا) ابنًا (وكان من تبنى رجلًا في الجاهلية دعاه الناس إليه) فيقولون فلان ابن فلان للذي تبناه (وورث من ميراثه) كما يرث ابنه من النسب (حتى أنزل الله) تعالى ({ادعوهم لآبائهم} -إلى قوله- {ومواليكم}) [الأحزاب: 5] (فردوا) بصيغة البناء
للمفعول (إلى آبائهم) أي الذين ولدوهم (فمن لم يعلم له أب) بضم التحتية مبنيًّا للمفعول (كان مولًى وأخًا في الدين فجاءت سهلة) بفتح السين المهملة وسكون الهاء (بنت سهيل بن عمرو) بضم السين وفتح الهاء وسكون التحتية وعمرو بفتح العين (القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة بن عتبة) ضرّة معتقة سالم الأنصارية (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله إنا كنا نرى) بفتح النون نعتقد (سالمًا ولدًا) بالتبني (وقد أنزل الله فيه ما قد علمت) من قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} (فذكر) أبو اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري (الحديث) وتمامه كما عند أبي داود والبرقاني: فكيف ترى؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أرضعيه" فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. فبذلك كانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرًا خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحدًا من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها رخصة من رسول الله لسالم دون الناس، وقد أخرج هذا الحديث من طريق القاسم بن محمد عن عائشة ومن طريق زينب عن أم سلمة ففي رواية القاسم

(8/20)


عنده جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو فقالت يا رسول الله إن في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال: أرضعيه. قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: "قد علمت أنه رجل كبير" وفي لفظ فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال وإنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة شيئًا من ذلك فقال: أرضعيه تحرمي عليه فرجعت إليه فقالت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة وهذا مختص بسهلة وسالم أو منسوخ، والجمهور على خلافه كما يأتي إن شاء الله تعالى بعون الله وقوّته في أبواب الرضاع.
ومطابقة الحديث للترجمة من تزويج أبي حذيفة سالمًا الذي تبناه وهو مولى لامرأة من الأنصار بنت أخيه هند ولم يعتبر فيه الكفاءة إلا في الدين، والحديث أخرجه النسائي أيضًا في النكاح.
5089 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهَا: «لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ»؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ لاَ أَجِدُنِي إِلاَّ وَجِعَةً، فَقَالَ لَهَا: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي، قُولِي اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي»، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ.
وبه قال: (حدّثنا عبيد بن إسماعيل) اسمه عبد الله أبو محمد الهباري القرشي الكوفي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: دخل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ضباعة) بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة المخففة (بنت الزبير) بن عبد المطلب الهاشمية بنت عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال لها):
(لعلك أردت الحج؟ قالت: والله لا). ولأبي ذر: ما (أجدني) أي ما أجد نفسي (إلا وجعة)
واتحاد الفاعل والمفعول مع كونهما ضميرين لشيء واحد من خصائص أفعال القلوب وقوله وجعة بفتح الواو وكسر الجيم أي ذات مرض (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لها: حجي واشترطي) أنك حيث عجزت عن الإتيان بالمناسك واحتبست عنها بحسب قوّة المرض تحللت (قولي) ولأبي ذر وقولي (اللهم محلي) بفتح الميم وكسر الحاء، ولأبي ذر بفتحها أي مكان تحللي من الإحرام (حيث حبستني) فيه عن النسك بعلة المرض.
ومباحث ذلك سبقت في الحج في أبواب المحصر (وكانت) ضباعة (تحت المقداد بن الأسود) هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك الكندي ونسب إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة لكونه تبناه فكان من حلفاء قريش، وتزوّج ضباعة وهي هاشمية ففيه أن النسب لا يعتبر في الكفاءة وإلاّ لما جاز له أن يتزوّجها لأنها فوقه في النسب. وأجيب: باحتمال أنها وأولياءها أسقطوا حقهم من الكفاءة.
5090 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن عبيد الله) بضم العين ابن عمر العمري أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (سعيد بن أبي سعيد) كيسان (عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(تنكح المرأة) بضم التاء وفتح الكاف مبنيًّا للمفعول والمرأة رفع به (لأربع) من الخصال (لمالها) بدل من السابق بإعادة العامل لأنها إذا كانت ذات مال قد لا تكلفه في الإنفاق وغيره فوق طاقته، وقول المهلب إن في الحديث دليلًا على أن للزوج الاستمتاع بمال زوجته فإن طابت نفسها بذلك حل له وإلاّ فله من ذلك قدر ما بذل لها من الصداق تعقب بأنه ليس في الحديث ما ذكره من التفصيل ولم ينحصر قصده في الاستمتاع بمالها فقد يقصد ترجي حصول ولد منها فيعود إليه مالها بالإرث أو أن تستغني عنه بمالها عن مطالبته بما يحتاج إليه غيرها من النساء كما مر وأما استدلال بعض المالكية به على أن للرجل أن يحجر على زوجته في مالها معلّلًا بأنه إنما تزوجها لمالها فليس لها تفويته ففيه نظر لا يخفى (و) تنكح المرأة أيضًا (لحسبها) بإعادة الجار أيضًا وفتح الحاء والسين المهملتين ثم موحدة أي لشرفها والحسب في الأصل الشرف بالآباء وبالأقارب مأخوذ من الحساب لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدّوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها فيحكم لمن زاد عدده على غيره وقد قال أكثم بالمثلثة ابن صيفي: يا بني تميم لا يغلبنكم جمال النساء على صراحة الحسب فإن المناكح الكريمة مدرجة للشرف. وقال بكير الأسدي:

(8/21)


وأول خبث المرء خبث ترابه ... وأول لؤم المرء لؤم المناكح
وقال آخر:
وإذا كنت تبغي أيضًا بجهالة ... من الناس فانظر من أبوها وخالها
فإنهما منها كما هي منهما ... كقدّك نعلًا أن أريد مثالها
ولا تطلب البيت الدنيء فعاله ... ولا يد ذا عقل لورهاء مالها
فإن الذي ترجو من المال عندها ... سيأتي عليه شؤمها وخبالها
وقيل: المراد بالحسب المال وردّ بذكر المال قبله وعطفه عليه، وعند النسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة رفعه إن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه المال. وفي حديث ميمونة المرفوع مما صححه الترمذي والحاكم الحسب المال والكرم التقوى، وحمل على أن المراد أن المال حسب من لا حسب له. وروى الحاكم حديث: تخيروا لنطفكم، فيكره نكاح بنت الزنا وبنت الفاسق. قال الأذرعي: ويشبه أن تلحق بهما اللقيطة ومن لا يعرف أبوها (و) تنكح أيضًا لأجل (جمالها) ولم يعد العامل في هذه والجمال مطلوب في كل شيء لا سيما في المرأة التي تكون قرينة وضجيعة، وعند الحاكم حديث خير النساء من تسرّ إذا نظرت وتطيع إذا أمرت. قال الماوردي: لكنهم كرهوا ذات الجمال الباهر فإنها تزهو بجمالها (و) تنكح (لدينها) بإعادة اللام، وفي مسلم بإعادتها في الأربع وحذفت هنا في قوله وجمالها فقط (فاظفر بذات الدين) ولمسلم من حديث جابر فعليك بذات الدين، والمعنى كما قال القاضي ناصر الدين البيضاوي: إن اللائق بذوي المروءات وأرباب الديانات أن يكون الدين مطمح نظرهم في كل شيء لا سيما فيما يدوم أمره ويعظم خطره، فلذا اختاره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بآكد وجه وأبلغه فأمر بالظفر الذي هو غاية البغية ومنتهى الاختيار والطلب الدال على تضمن المطلوب لنعمة عظيمة وفائدة جليلة. وقال في شرح المشكاة قوله: فاظفر جزاء شرط محذوف أي إذا تحققت ما فصلت لك تفصيلًا بيّنًا فاظفر أيها المسترشد بذات الدين فإنها تكسبك منافع الدارين، قال: واللامات المكررة مؤذنة بأن كلاًّ منهن مستقلة في الغرض. وروى ابن ماجة حديث ابن عمر مرفوعًا لا ترجو النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن أي يهلكهن ولا تزوّجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهنّ ولكن تزوّجوهن على الدين ولأمة سوداء ذات دين أفضل.
(تربت يداك) أي افتقرتا إن خالفت ما أمرتك به يقال ترب الرجل إذا افتقر وهي كلمة جارية على ألسنتهم لا يريدون بها حقيقتها. وقيل: فيه تقدير شرط كما مر ورجحه ابن العربي لتعدية ذوات الدين إلى ذوات الجمال والمال، ورجح عدم إرادة الدعاء عليه وذلك لأنهم كانوا إذا رأوا مقدامًا في الحرب أبلى فيه بلاء حسنًا يقولون قاتله الله ما أشجعه، وإنما يريدون به ما يزيد قوته وشجاعته وكذلك ما نحن فيه فإن الرجل إنما يؤثر تلك الثلاثة على ذات الدين لإعدامها مالًا وجمالًا وحسبًا فينبغي أن يحمل الدعاء على ما يجبر عليه من الفقر أي عليك بذات الدين يغنك الله فيوافق معنى الحديث النص التنزيلي: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن
يكونوا فقراء يغنهم الله من فضلهِ} [النور: 32]. والصالح هو صاحب الدين قاله في شرح المشكاة وفي الحديث كما قال النووي الحث على مصاحبة أهل الصلاح في كل شيء لأن من صاحبهم استفاد من أخلافهم وبركتهم وحسن طرائقهم ويأمن المفسدة من جهتهم.
وحكى محيي السُّنَّة أن رجلًا قال للحسن: إن لي بنتًا أحبها وقد خطبها غير واحد فمن ترى أن أُزوّجها؟ قال: زوّجها رجلًا يتقي الله فإنه إن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها.
وقال الغزالي في الإحياء: وليس أمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمراعاة الدين نهيًا عن مراعاة الجمال ولا أمرًا بالإضراب عنه وإنما هو نهي عن مراعاته مجردًا عن الدين فإن الجمال في غالب الأمر يرغب الجاهل

(8/22)


في النكاح دون التفات إلى الدين ولا نظر إليه فوقع النهي عن هذا. قال: وأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن يريد التزوج بالنظر إلى الخطوبة يدل على مراعاة الجمال إذ النظر لا يفيد معرفة الدين، وإنما يعرف به الجمال أو القبح، ومما يستحب في المرأة أيضًا أن تكون بالغة كما نص عليه الشافعي إلا لحاجة كان لا يعفه إلا غيرها أو مصلحة كتزوّجه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عائشة وأن تكون عاقلة. قال في المهمات: ويتجه أن يراد بالعقل هنا العقل العرفي وهو زيادة على مناط التكليف انتهى.
والمتجه أن يراد أعم من ذلك وأن تكون قرابة غير قريبة لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويًا ذكره في الإحياء. وقوله: ضاويًا أي نحيفًا لضعف الشهوة. قال الزنجاني: ولأن من مقاصد النكاح اشتباك القبائل لأجل التعاضد واجتماع الكلمة وهو مفقود في نكاح القريبة. وتوقف السبكي في هذا الحكم لعدم صحة الحديث الدال عليه فقد قال ابن الصلاح: لم أجد له أصلًا معتمدًا. قال السبكي: فلا ينبغي إثباته لعدم الدليل انتهى.
وقال الحافظ زين الدين العراقي: والحديث المذكور إنما يعرف من قول عمر أنه قال لآل السائب قد أضويتم فانكحوا في الغرائب. وقال الشاعر:
تخيرتها للنسل وهي غريبة ... فقد أنجبت والمنجبات الغرائب
وما ذكر في الروضة من أن القريبة أولى من الأجنبية هو مقتضى كلام جماعة، لكن ذكر صاحب البحر والبيان أن الشافعي نص على أنه يستحب أن لا يتزوج من عشيرته، ولا يشكل ما ذكر بتزوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب مع أنها بنت عمته لأنه تزوّجها بيانًا للجواز ولا بتزوّج عليّ فاطمة لأنها بعيدة في الجملة إذ هي بنت ابن عمه لا بنت عمه وأن لا تكون ذات ولد لغيره إلا لمصلحة كما تزوّج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم سلمة ومعها ولد أبي سلمة للمصلحة وأن لا يكون لها مطلق يرغب في نكاحها وأن لا تكون شقراء فقد أمر الشافعي الربيع أن يرد الغلام الأشقر الذي اشتراه له وقال: ما لقيت من أشقر خيرًا.
وحديث الباب أخرجه مسلم أيضًا في النكاح وكذا أبو داود والنسائي.
5091 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا»: قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ، أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا»؟ قَالُوا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا». [الحديث 5091 - أطرافه في: 6447].
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن حمزة) بالحاء المهملة والزاي أبو إسحاق الزبيري الأسدي قال: (حدّثنا ابن أبي حازم) عبد العزيز (عن أبيه) أبي حازم سلمة بن دينار (عن سهل) أي ابن سعد الساعدي الأنصاري -رضي الله عنه- أنه (قال: مرّ رجل) غني لم يقف الحافظ ابن حجر على اسمه (على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) للحاضرين من أصحابه:
(ما تقولون في هذا؟ قالوا حريّ) بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وتشديد التحتية أي حقيق (إن خطب) امرأة (أن ينكح) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول (وإن شفع) في أحد (أن يشفع) بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة أي أن تقبل شفاعته (وإن قال أن يستمع) قوله (قال) سهل: (ثم سكت) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فمرّ رجل) آخر قيل إنه جعيل بن سراقة كما في مسند الروياني وفتوح مصر لابن عبد الحكم وغيرهما (من فقراء المسلمين فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ما تقولون في هذا) الفقير المار (قالوا) هو (حريّ) حقيق (إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يستمع) لقوله لفقره وكان صالحًا دميمًا قبيحًا (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هذا) الفقير (خير من ملء الأرض مثل هذا) الغني وإطلاقه التفضيل على الغني المذكور لا يلزم منه تفضيل كل فقير على كل غني كما لا يخفى. نعم فيه تفضيله مطلقًا في الدين فيطابق الترجمة وقوله ملء بالهمز ومثل بالنصب والجر.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الرقاق وابن ماجة في الزهد.

16 - باب الأَكْفَاءِ فِي الْمَالِ، وَتَزْوِيجِ الْمُقِلِّ الْمُثْرِيَةَ
(باب) حكم (الأكفاء في المال) واختلف فيه، والأشهر عند الشافعي أنه لا أثر له في الكفاءة فالمعسر كفء للموسرة لأن المال غاد ورائح ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر نعم لو زوج الولي بالإجبار موليته معسرًا بغير رضاها بمهر المثل

(8/23)


لم يصح النكاح لأنه بخس حقها كتزويجها بغير كفء نقله في الروضة عن فتاوى القاضي ومنعه البلقيني، وقال الزركشي: هو مبني على اعتبار اليسار مع أنه نقل عن عامة الأصحاب عدم اعتباره انتهى. ونقل صاحب الإفصاح فيما حكاه في الفتح عن الشافعي أنه قال: الكفاءة في الدين والمال والنسب، وجزم باعتباره أبو الطيب والصيمري وجماعة، واعتبره الماوردي في أهل الأمصار وخص الخلاف بأهل البوادي والقرى المتفاخرين بالنسب دون المال انتهى.
(وتزويج المقل) بالجر عطفًا على سابقه والمقل بضم الميم وكسر القاف وتشديد اللام الفقير (المثرية) بضم الميم وسكون المثلثة وفتح التحتية التي لها ثراء بفتح المثلثة والراء والمد هو الغنى.
5092 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ صَدَاقَهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ، إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ. قَالَتْ: وَاسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ إِلَى وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَنَسَبِهَا فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبَةً عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنَ النِّسَاءِ قَالَتْ: فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا، إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا الأَوْفَى فِي الصَّدَاقِ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (يحيى بن بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة) بن الزبير (أنه سأل عائشة -رضي الله عنها-) عن تفسير قوله تعالى: ({وإن خفتم}) وللأربعة فإن خفتم ({أن لا تقسطوا في اليتامى}) [النساء: 3] (قالت: يا ابن أختي) أسماء (هذه) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي هي (اليتيمة) التي مات أبوها (تكون في حجر وليها) القائم بأمورها (فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها) عن مهر مثلها (فنهوا) بضم النون والهاء (عن نكاحهن إلا أن يقسطوا) بضم أوله وكسر ثالثه يعدلوا (في إكمال الصداق) على عادتهن في ذلك (وأمروا بنكاح من سواهن) أي من النساء كما في الرواية الأخرى (قالت) أي عائشة: (واستفتى الناس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك فأنزل الله تعالى: {ويستفتونك}) سقطت واو ويستفتونك الأولى عند الأربعة ({في النساء}) إلى ({وترغبون أن تنكحوهن}) [النساء: 127] لجمالهن أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن (فأنزل الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ونسبها) ولأبي ذر عن الكشميهني وسنتها (في إكمال الصداق وإذا) ولأبي ذر عن الكشميهني وإن (كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها وأخذوا غيرها من النساء. قالت: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في) ولأبي ذر عن الكشميهني: من (الصداق) وكان عمر بن الخطاب إذا جاءه ولي اليتيمة نظر فإن كانت جميلة غنية قال: زوّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك وإن كانت دميمة ولا مال لها قال: تزوجها فأنت أحق بها، وحديث الباب مر في التفسير.

17 - باب مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}
(باب ما يتقى من شؤم المرأة وقوله تعالى: {إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم})
[التغابن: 14] قدم الأزواج لأن المقصود الإخبار بأن منهم أعداء ووقوع ذلك في الأزواج أكثر منه في الأولاد فكان أقعد في المعنى المراد فكان تقديمه أولى وأشار البخاري بإيراد ذلك إلى اختصاص الشؤم ببعض الأزواج دون بعض لما دلت عليه الآية من التبعيض.
5093 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام الأعظم (عن ابن شهاب) الزهري (عن حمزة) بالحاه المهملة والزاي (وسالم ابني عبد الله بن عمر) بن الخطاب (عن) أبيهما (عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(الشؤم) الذي هو ضدّ اليمن يقال تشاءمت بكذا وتيمنت بكذا وواو الشؤم همزة لكنها خففت فصارت واوًا غلب عليها التخفيف حتى لم ينطق بها مهموزة (في المرأة والدار والفرس).
ونقل الحافظ أبو ذر الهرويّ عن البخاري أن شؤم الفرس إذا كان حرونًا وشؤم المرأة سوء خلقها وشؤم الدار سوء جارها وقال غيره: شؤم الفرس أن لا يغزى عليها، وشؤم المرأة أن لا تلد، وشؤم الدار ضيقها. وقيل: شؤم المرأة غلاء مهرها. وللطبراني من حديث أسماء: إن من شقاء المرء في الدنيا سوء الدار والمرأة والدابة وفيه سوء الدار ضيق ساحتها وخبث جيرانها، وسوء الدابة منعها ظهرها وسوء طبعها، وسوء المرأة عقم رحمها وسوء خلقها. وفي

(8/24)


حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا عند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم: من سعادة ابن آدم ثلاثة المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء والمسكن السوء المركب السوء. وفي رواية لابن حبان: المركب الهنيء والمسكن الواسع، وفي رواية للحاكم: ثلاث من الشقاء المرأة تراها فتسوءك وتحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفًا فإن ضربتها أتعبتها وإن تركتها لم تلحق أصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق.
وحديث الباب سبق في الجهاد.
5094 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن منهال) البصري ولأبي ذر المنهال قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الزاي وفتح الراء قال: (حدّثنا عمر بن محمد) بضم العين (العسقلاني عن أبيه) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- أنه (قال: ذكروا الشؤم عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن كان الشؤم في شيء) حاصلًا (ففي الدار والمرأة والفرس) يعني أن الشؤم لو كان له وجود في شيء لكان في هذه الأشياء فإنها أقبل الأشياء له، لكن لا وجود له فيها أصلًا. وعلى هذا فالشؤم في الحديث السابق وغيره محمول على الإرشاد منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعني إن كانت له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس لا تعجبه، فليفارق بالانتقال من الدار ويطلق المرأة ويبيع الفرس حتى يزول عنه ما يجده في نفسه من الكراهة.
5095 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ، فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَسْكَنِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن أبي حازم) سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) الساعدي رضي الله عنه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إن كان) أي الشؤم حاصلًا (في شيء ففي الفرس والمرأة والمسكن) زاد مالك في الموطأ في آخره يعني الشؤم. واتفقت نسخ البخاري كلها على إسقاط الشؤم في هذه الرواية.
وسبق هذا الحديث في الجهاد وفي ذكر هذين الحديثين بعد الآية السابقة، كما قال الشيخ تقي الدين السبكي إشارة إلى تخصيص الشؤم بمن تحصل منها العداوة والفتنة لا كما يفهمه بعض الناس من التشاؤم بكعبها وأن لها تأثيرًا في ذلك وهو شيء لا يقول له أحد من العلماء ومن قال: إنها سبب ذلك فهو جاهل، وقد أطلق الشارع على من ينسب المطر إلى النوء الكفر فكيف بمن ينسب ما يقع من الشر إلى المرأة مما ليس لها فيه مدخل؟ وإنما يتفق موافقة قضاء وقدر فتنفر النفس من ذلك فمن وقع له ذلك فلا يضره أن يتركها من غير أن يعتقد نسبة الفعل إليها.
5096 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن طرخان (التيمي) البصري أنه (قال: سمعت أبا عثمان) عبد الرحمن بن مل (النهدي) بفتح النون وسكون الهاء وكسر الدال المهملة (عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء) فالفتنة بهن أشدّ من الفتنة بغيرهن ويشهد لذلك قوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء} [آل عمران: 14] فجعل الأعيان التي ذكرها شهوات حين أوقع الشهوات أولًا مبهمًا ثم بيّنها بالمذكورات فعلم أن الأعيان هي عين الشهوات فكأنه قيل زين حب الشهوات التي هي النساء فجرد من النساء شئ يسمى شهوات وهي نفس الشهوات، كأنه قيل هذه الأشياء خلقت للشهوات والاستمتاع بها لا غير لكن المقام يقتضي الذم، ولفظ الشهوة عند العارفين مسترذل والتمتع بالشهوة نصيب البهائم وبدأ بالنساء قبل
بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك وتحقيق كون الفتنة بهن أشدّ أن الرجل يحب الولد لأجل المرأة، وكذا يحب الولد الذي أمه في عصمته ويرجحه على الولد الذي فارق أمه بطلاق أو وفاة غالبًا وقد قال مجاهد في قوله تعالى: {إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم} [التغابن: 14] قال: تحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع مع حبه إلا الطاعة، وقال بعض الحكماء: النساء شرّ كلهم وأشرّ ما فيهن عدم

(8/25)


الاستغناء عنهن، ومع أنهن ناقصات عقل ودين يحملن الرجل على تعاطي ما في نقص العقل والدين كشغله عن طلب أمور الدين وحمله على التهالك على طلب الدنيا وذلك أشدّ الفساد.

18 - باب الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
(باب) جواز كون (الحرة تحت العبد) زوجة له إذا رضيت بذلك.
5097 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ، عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ: «لَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ»؟ فَقِيلَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن) المشهور بربيعة الرأي (عن القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصدّيق (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان في بريرة) بفتح الموحدة وكسر الراء الأولى (ثلاث سنن) بضم السين وفتح النون الأولى أي طرق جمع سنة وهي الطريقة وإذا أطلقت في الشرع فالمراد بها ما أمر به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونهى عنه وندب إليه قولا وفعلًا مما لم ينطق به الكتاب العزيز ولذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسنة.
إحداها أنها (عتقت) بفتحات أعتقتها عائشة (فخيرت) بضم الخاء المعجمة مبنيًّا للمفعول خيرها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في فسخ نكاحها من زوجها مغيث وبين المقام معه وكان عبدًا فاختارت نفسها. وفي مرسل عامر الشعبي عند ابن سعد في طبقاته أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها لما أعتقت: قد عتق بضعك معك فاختاري، وهذا مذهب المالكية والشافعية لتضررها بالمقام تحته من جهة أنها تتعير به وأن لسيده منعه عنها وأنه لا ولاية له على ولده وغير ذلك، وهذا بخلاف ما إذا عتقت تحت حر لأن الكمال الحادث لها حاصل له فأشبه ما إذا أسلمت كتابية تحت مسلم ولو عتق بعضها فلا خيار لبقاء النقصان وأحكام الرقّ، ويستثنى من ذلك ما إذا أعتقها مريض قبل الدخول وهي لا تخرج من ثلثه إلا بالصداق فلا خيار لها لأنها لو فسخت سقط مهرها وهو من جملة المال فيضيق الثلث عن الوفاء بها فلا تعتق كلها فلا يثبت الخيار وكل ما أدّى ثبوته إلى عدمه استحال ثبوته وهذه من صور
الدور الحكمي، وليس في هذا الحديث التصريح بكون زوج بريرة عبدًا ولا حرًّا، لكن صحيح البخاري يدل على أنه يمل إلى أنه كان حين عتقت عبدًا، وعنده في الطلاق من حديث عكرمة عن ابن عباس أنه كان عبدًا، وعند أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث الأسود عن عائشة أنه كان حرًّا، وحمله بعض الحنفية على أنه كان حرًّا عندما خيرت وعبدًا قبل قال: الحرية تعقب الرقّ ولا ينعكس فمن أخبر بعبوديته لم يعلم بحريته ولم يخيرها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه كان عبدًا ولا لأنه كان حرًّا وإنما خيرها للعتق لأن الأمة إذا أعتقت لها الخيار في نفسها سواء كان زوجها حرًّا أم عبدًا. وقد أفرد ابن جرير الطبري وابن خزيمة مؤلفًا في الاختلاف هل كان مغيث حرًّا أم عبدًا.
وبقية مباحث هذا تأتي إن شاء الله تعالى في الطلاق.
(وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): في شأن بريرة لما أرادت عائشة أن تشتريها وتعتقها وشرط مواليها أن يكون الولاء لهم (الولاء لمن أعتق) الجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو الولاء أي كائن أو مستقر لمن أعتق وبه يتعلق حرف الجر، ومن موصول وأعتق في موضع الصلة والعائد ضمير الفاعل، وسبق في العتق ما في الحديث من المباحث.
(ودخل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبرمة على النار) بضم الموحدة وسكون الراء قال: ابن الأثير هي القدر مطلقًا وجمعها برام وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز والواو في قوله وبرمة للحال (فقرب إليه) بضم القاف وتشديد الراء المكسورة (خبز وأدم من أدم البيت) جمع أدام كإزار وأزر وهو ما يؤكل مع الخبز أي شيء كان والإضافة إضافة تخصيص (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لم) وللأربعة ألم (أر البرمة) أي على النار فيها لحم والهمزة للتقرير والفعل مجزوم بحذف الألف المنقلبة عن الياء (فقيل) له عليه الصلاة والسلام هو (لحم تصدق به على بريرة) بضم التاء والصاد وكسر الدال المشددة مبنيًّا لما لم يسم فاعله جملة في محل رفع صفة للحم، وسقط لغير أبي ذر لفظ به (وأنت لا تأكل الصدقة) لحرمتها عليك (قال) عليه الصلاة والسلام: (هو) أي اللحم (عليها) أي

(8/26)


على بريرة ولأبي ذر عن الكشميهني لها (صدقة ولنا هدية) والفرق بينهما أن الصدقة إعطاء للثواب والهدية للإكرام.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الطلاق والأطعمة، وأخرجه مسلم في الزكاة والعتق والنسائي في الطلاق.

19 - باب لاَ يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلاَثَ أَوْ رُبَاعَ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُولِى أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلاَثَ أَوْ رُبَاعَ
هذا (باب) بالتنوين (لا يتزوج) الرجل (أكثر من أربع) من النساء كما اتفق عليه الأربعة
وجمهور المسلمين (لقوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع}) وأجاز الروافض تسعًا من الحرائر، ونقل عن النخعي وابن أبي ليلى لأنه بيّن العدد المحلل بمثنى وثلاث ورباع وكذا المدبرة وأم الولد بحرف الجمع، والحاصل عن ذلك تسع. وقد تزوج عليه الصلاة والسلام تسعًا والأصل عدم الخصوصية إلا بدليل. وأجار الخوارج ثمان عشرة لأن مثنى وثلاث ورباع معدول عن عدد مكرر على ما عرف في العربية فيصير الحاصل ثمانية عشر، وحكي عن بعض الناس إباحة أيّ عدد شاء بلا حصر للعمومات من نحو {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ولفظ مثنى إلى آخره تعداد عرفي لا قيد كما يقال خذ من البحر ما شئت قربة وقربتين وثلاثًا والحجة عليهم أن الإحلال، وهو قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] لم يسق إلا لبيان العدد المحلل لا لبيان نفس الحل لأنه عرف من غيرها قبل نزولها كتابًا وسُنة فكان ذكره هنا معقبًا بالعدد ليس إلا لبيان قصر الحل عليه أو هي لبيان الحل المقيد بالعدد لا مطلقًا، كيف وهو حال من طاب فيكون قيدًا في العامل وهو الإحلال المفهوم من {فانكحوا} ثم إن مثنى معدول عن عدد مكرر لا يقف عند حد هو اثنان اثنان هكذا إلى ما لا يقف وكذا ثلاث في ثلاثة ومثله رباع في أربعة أربعة فمؤدى التركيب على هذا ما طاب لكم ثنتين ثنتين جمعًا في العقد أو على التفريق وثلاثًا ثلاثًا جمعًا أو تفريقًا وأربعًا أربعًا كذلك، ثم هو قيد في الحل على ما ذكر فانتهى الحل إلى أربع مخير فيهن بين الجمع والتفريق، وأما حل الواحدة فقد كان ثابتًا قبل هذه الآية بحل النكاح لأن أقل ما يتصور بالواحدة، فحاصل الحال أن حل الواحدة كان معلومًا وهذه لبيان حل الزائد عليها إلى حد معين مع بيان التخيير بين الجمع والتفريق في ذلك، وبه يتم جواب الفريقين قاله في فتح القدير.
قال في الكشاف: معدولة عن أعداد مكررة أي فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد اثنين اثنين وثلاثًا ثلاثًا وأربعًا أربعًا، ولما كان الخطاب للجميع وجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى.
(وقال علي بن الحسين) بن علي بن أبي طالب (عليهما) وعلى أبيهما (السلام يعني مثنى أو ثلاث أو رباع وقوله جل ذكره) في سورة فاطر: ({أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع}) [فاطر: 1] (يعني مثنى أو ثلاث أو رباع) أراد أن الواو بمعنى أو فهي للتنويع أو هي عاطفة على العامل، والتقدير: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وانكحوا ما طاب لكم من النساء ثلاث، وانكحوا ما طاب لكم من النساء رباع. قال في الفتح: وهذا من أحسن الأدلة في الرد على الرافضة لكونه من تفسير زين العابدين، وهو من أئمتهم الذين يرجعون إلى قولهم ويعتقدون عصمتهم انتهى.
وقال حمزة بن الحسين الأصفهاني في رسالته المعربة عن شرف الأعراب: القول بأن الواو
بمعنى أو عجز عن درك الحق واعلم أن الأعداد التي تجتمع قسمان قسم يؤتى به ليضم بعضه إلى بعض وهو الأعداد الأصول نحو {ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] و {ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة} [الأعراف: 142].
وقسم يؤتى به لا ليضم بعضه إلى بعض وإنما يراد به الانفراد لا الاجتماع وهو الأعداد المعدولة كهذه الآية وآية فاطر أي منهم جماعة ذوو جناحين جناحين وجماعة ذوو ثلاثة ثلاثة وجماعة ذوو أربعة أربعة فكل جنس مفرد بعدد وقال:

(8/27)


ولكنما أهلي بواد أنيسه ... ذئاب يبغي الباس مثنى وموحد
ولم يقولوا ثلاث وخماس ويريدون ثمانية كما قال تعالى: {ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} وللجهل بموقع هذه الألفاظ استعملها المتنبي في غير موضع التقسيم فقال:
أحاد أم سداس في أحاد ... ليلتنا المنوطة بالتناد
5098 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قَالَ: الْيَتِيمَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَهْوَ وَلِيُّهَا فَيَتَزَوَّجُهَا عَلَى مَالِهَا وَيُسِيءُ صُحْبَتَهَا وَلاَ يَعْدِلُ فِي مَالِهَا فَلْيَتَزَوَّجْ مَا طَابَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهَا مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد) هو ابن سلام البيكندي قال: (أخبرنا عبدة) بسكون الموحدة ابن سليمان (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها قالت: في قوله تعالى: ({وإن خفتم}) بالواو ولأبي ذر فإن خفتم ({أن لا تقسطوا في اليتامى}) [النساء: 3] أي أن لا تعدلوا فيهم (قال) أي عروة عن عائشة ولأبي ذر قالت: هي (اليتيمة تكون عند الرجل) سقط لفظ تكون لأبي ذر (وهو وليها) القائم بأمورها (فيتزوجها على مالها ويسيء صحبتها) بضم الياء من الإساءة (ولا يعدل في مالها فليتزوج ما) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي من (طاب له من النساء سواها مثنى وثلاث ورباع) والإجماع على أنه لا يجوز للحر أن ينكح أكثر من أربع لما سبق إلا قول رافضي ونحوه ممن لا يعتد بخلافه، فإن احتجوا بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توفي عن تسع ولنا به أسوة قلنا: هذا من خصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كغيره من الأنبياء فلا دليل فيه وهو معارض بقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لغيلان وقد أسلم وتحته عشر نسوة: أمسك أربعًا وفارق سائرهن. رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما وصححوه وهو يدل على تخصيصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك، فلو جمع الرجل خمسًا في عقد واحد لم يصح نكاحهن إذ لا أولوية لإحداهن على الباقيات فإن كان فيهن أختان اختصتا بالبطلان دون غيرهما عملًا بتفريق الصفقة، وإنما بطل فيهما معًا لأنه لا يمكن الجمع بينهما ولا أولوية لإحداهما على الأخرى أو مرتبًا فالخامسة.
وهذا الحديث قد سبق غير مرة.

20 - باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ}
وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ
هذا (باب) بالتنوين في حكم الرضاع لقوله تعالى: ({وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}) هو معطوف على قوله تعالى: {حرّمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] قال في الفتح: ووقع هنا في بعض الشروح كتاب الرضاع ولم أره في شيء من الأصول انتهى. والرضاع بفتح الراء وكسرها اسم لمص الثدي وشرب لبنه، وهذا جرى على الغالب الموافق للغة وإلاّ فهو اسم لحصول لبن امرأة أو ما حصل منه في جوف طفل والأصل في تحريمه قبل الإجماع هذه الآية (و) حديث (يحرم من الرضاعة) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي من الرضاع (ما يحرم من النسب) وهو مروي في الصحيحين وجعل سببًا للتحريم لأن جزءًا من المرضعة وهو اللبن صار جزءًا للرضيع باغتذائه به فأشبه منيِّها وحيضها وأركانه ثلاثة: المرضع فيشترط كونها امرأة حيّة بلغت سنّ الحيض وإن لم تلد فلا تحريم بلبن رجل وخنثى ولا لبن بهيمة ولا لبن انفصل عن ميتة، والثاني: اللبن فيثبت به التحريم وإن تغير كالجبن والزبد أو عجن به دقيق أو خالطه ماء أو مائع وغلب اللبن على الخليط وكذا لو كان مغلوبًا بحيث لم يبق من صفاته الثلاث الطعم واللون والريح حسًّا وتقديرًا شيء فإنه يثبت به التحريم لكن يشترط شرب الجميع وكون اللبن المخلوط مقدار ما لو كان منفردًا أثر في التحريم بأن يمكن أن يسقى منه خمس دفعات، والثالث: المحل وهي معدة الطفل الحي أو دماغه لا ابن حولين ولا أثر له عند الشافعية دون خمس رضعات إلا إن حكم به حاكم يراه فلا ينقض حكمه.
5099 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أُرَاهُ فُلاَنًا»، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ». قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلاَنٌ حَيًّا لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: «نَعَمِ الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلاَدَةُ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني) بالإفراد (مالك) إمام الأئمة ودار الهجرة (عن عبد الله بن أبي بكر) أي ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) -رضي الله عنها- (أخبرتها أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان عندها) في حجرتها (وأنها سمعت صوت رجل) أي يقف الحافظ ابن حجر على اسمه (يستأذن في بيت حفصة) أم المؤمنين (قالت) عائشة: (فقلت: يا رسول الله هذا رجل يستأذن

(8/28)


في بيتك) على حفصة (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أراه) بضم الهمزة أي أظنه وفي اليونينية بفتحها (فلانًا، لعم حفصة) أي عن عم حفصة أو
اللام للتعليل، أي قال لأجل عم حفصة (من الرضاعة. قالت عائشة): كان السياق يقتضي أن تقول: قلت لكنه من باب الالتفات (لو كان فلان حيًّا لعمها) أي لعم عائشة (من الرضاعة دخل عليّ). قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه أيضًا ووهم من فسره بأفلح أخي أبي القعيس لأن القعيس والد عائشة من الرضاعة وأما أفلح فهو أخوه وهو عمها من الرضاعة كما سيأتي أنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشة فأمرها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تأذن له بعد أن امتنعت، وقولها هنا لو كان حيًّا يدل على أنه كان مات فيحتمل أن يكون أخًا لها آخر، ويحتمل أن تكون ظنت أنه مات لبعد عهدها به ثم قدم بعد ذلك فاستأذن (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نعم) كان له أن يدخل عليكِ (الرضاعة) المعتبرة (تحرم ما تحرم الولادة) من تحريم النكاح ابتداءً ودوامًا وانتشارًا لحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة فيحرم عليها هو ويحرم عليها فروعه من النسب والرضاع ولا يسري التحريم من الرضيع إلى آبائه وأمهاته وإخوته وأخواته فلأبيه أن ينكح المرضعة إذ لا منع من نكاح أم الابن وأن ينكح ابنتها، وكما صار الرضيع ابن المرضعة تصير هي أمه فتحرم عليه هي وأصولها من النسب والرضاع وفروعها من النسب والرضاع وإخوتها وأخواتها من النسب والرضاع فهم أخواله وخالاته وإن ثار اللبن من حمل من زوج صار الرضيع ابنًا للزوج فيحرم عليه الرضيع ولا يثبت التحريم من الرضيع بالنسبة إلى صاحب اللبن إلى أصوله وحواشيه فلأم الرضيع أن تنكح صاحب اللبن وصار الزوج أباه، فيحرم على الرضيع هو وأصوله وفصوله من النسب والرضاع فهم أعمامه وعماته ويحرم إخوته وأخواته من النسب والرضاع إذ هم أعمامه وعماته وتنزيلهم منزلتهم في جواز النظر وعدم نقض الطهارة باللمس والخلوة والمسافرة دون سائر أحكام النسب كالميراث والنفقة والعتق بالملك وسقوط القصاص ورد الشهادة.
وهذا الحديث قد سبق في باب الشهادة على الأنساب من كتاب الشهادات.
5100 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلاَ تَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ قَالَ: «إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ». وَقَالَ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ مِثْلَهُ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) بالسين وتشديد الدال الأولى المهملات ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (عن جابر بن زيد) هو أبو الشعثاء البصري (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: قيل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): قال في الفتح: القائل علي بن أبي طالب كما في مسلم (ألا تزوّج) بحذف إحدى التاءين ولأبي ذر عن الكشميهني ألا تتزوج بإثبات التاءين (ابنة حمزة) عمك زاد سعيد بن منصور فإنها من أحسن فتاة في قريش (قال) عليه الصلاة والسلام:
(إنها ابنة أخي من الرضاعة) ولعل عليًّا لم يكن علم أن حمزة رضيع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو جوّز الخصوصية.
(وقال بشر بن عمر): بكسر الموحدة وسكون المعجمة الزهراني مما وصله مسلم (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (سمعت قتادة) قال: (سمعت جابر بن زيد مثله) أي مثل الحديث السابق ومراد البخاري بسياق هذا التعليق بيان سماع قتادة من جابر بن زيد لأنه مدلس والله أعلم.
5101 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: «أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ»؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَحِلُّ لِي». قُلْتُ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ. قَالَ: «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ»؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: «لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي. إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ». قَالَ عُرْوَةُ: وَثُوَيْبَةُ مَوْلاَةٌ لأَبِي لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ، غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ. [الحديث 5101 - أطرافه في: 5106، 5107، 5123، 5372].
وبه قال: (حدّثنا الحكم بن نافع) قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (إن زينب ابنة) ولأبي ذر بنت (أبي سمة أخبرته أن أم حبيبة) رملة (بنت أبي سفيان) صخر بن حرب (أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله انكح) بكسر الهمزة لأنه من نكح ينكح فثالث المضارع مكسور ومتى كسر ثالثه أو فتح كسر الأمر منه ومتى ضم ثالثه ضم الأمر منه كقتل يقتل الأمر منه اقتل بضم الهمزة أي تزوج (أختي) ولمسلم أختي عزة. وعند أبي موسى في الدلائل درة، وعند الطبراني قلت: يا رسول الله هل لك في حمنة (بنت) ولأبي ذر ابنة (أبي سفيان). وجزم المنذري

(8/29)


بأن اسمها حمنة.
وقال القاضي عياض لا نعلم لعزة ذكرًا في بنات أبي سفيان إلا في رواية يزيد بن أبي حبيب وقال أبو موسى الأشهر أنها عزة (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(أوَ تحبين ذلك)؟ الهمزة للاستفهام والواو عاطفة على ما قبل الهمزة عند سيبويه وعلى مقدّر عند الزمخشري وموافقيه، فعلى مذهب سيبويه معطوف على انكح أختي، وعلى مذهب الزمخشري أأنكحها وتحبين ذلك وهو استفهام تعجب من كونها تطلب أن يتزوج غيرها مع ما طبع عليه النساء من الغيرة (فقلت: نعم) حرف جواب مقرّر لما سبق نفيًا أو إثباتًا (لست لك بمخلية) بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر اللام والباء زائدة في النفي أي لست خالية من ضرّة غيري. قال في النهاية: المخلية التي تخلو بزوجها وتنفرد به أي لست لك بمتروكة لدوام الخلوة به وهذا البناء إنما يكون من أخليت ويقال: أخلت المرأة فهي مخلية فأما من خلوت فلا وقد جاء أخليت بمعنى
أخلوت، وقال ابن الأثير في موضع آخر: أي لم أجدك خاليًا من الزوجات غيري وليس من قولهم امرأة مخلية إذا خلت من الزوج (وأحب) بفتح الهمزة والمهملة (من شاركني) بألف بعد الشين (في خير أختي) أحب مبتدأ وهو أفعل تفضيل مضاف إلى من ومن نكرة موصوفة أي وأحب شخص شاركني فجملة شاركني في محل جر صفة لمن، ويحتمل أن تكون موصولة والجملة صلتها، والتقدير أحب المشاركين لي في خير أختي وفي خير متعلق بشاركني وأختي الخبر، ويجوز أن تكون أختي المبتدأ وأحب خبر مقدم لأن أختي معرفة بالإضافة وأفعل لا يتعرف بها في المعروف. قيل: والمراد بالخير صحبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المتضمنة لسعادة الدارين الساترة لما لعله يعرض من الغيرة التي جرت بها العادة بين الزوجات وفي رواية هشام الآتية إن شاء الله تعالى وأحب من شركني فيك أختي قال في الفتح: فعرف أن المراد بالخير ذاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن ذلك) بكسر الكاف خطاب لمؤنث (لا يحل لي) لأن فيه الجمع بين الأختين (قلت فإنا نحدّث) بضم النون وفتح الحاء والدال (إنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة) درة بضم الدال المهملة وتشديد الراء (قال) عليه الصلاة والسلام (بنت أم سلمة) مفعول مقدر أي أأنكح بنت أم سلمة أو تعنين (قلت: نعم) وعدل عن قوله أبي سلمة إلى قوله أم سلمة توطئة لقوله: (فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري) بفتح الحاء وقد تكسر واسم كان ضمير بنت أم سلمة وربيبتي خبرها وربيبة فعيلة بمعنى مفعول لأن زوج الأم يربها وقال القاضي عياض الربيبة مشتقة من الرب وهو الإصلاح لأنه يربها ويقوم بأمورها وإصلاح حاله ومن ظن من الفقهاء أنه مشتق من التربية فقد غلط لأن شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية والاشتراك فيها فإن آخر رب باء موحدة وآخر ربي ياء مثناة تحتية وجواب لو قوله (ما حلت لي) يعني لو كان بها مانع واحد لكفى في التحريم فكيف وبها مانعان وقوله في حجري تأكيد وراعى فيه لفظ الآية ولا مفهوم له عند الجمهور بل خرج مخرج الغالب وقد تمسك بظاهره داود الظاهري فأحل الربيبة البعيدة التي لم تكن في الحجر (إنها لابنة أخي من الرضاعة) اللام في قوله لابنة هي الداخلة في خبر إن (أرضعتني وأبا سلمة ثويبة) بضم المثلثة وفتح الواو وبعد التحتية الساكنة موحدة والجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب ولا يجوز أن تكون بدلًا من خبر إن ولا خبرًا بعد الخبر لعدم الضمير. وأبا سلمة معطوف على المفعول أو مفعول معه (فلا تعرضن عليّ) بتشديد الياء (بناتكن ولا أخواتكن) لا ناهية وتعرضن فعل مضارع والنون الخفيفة نون جماعة النسوة والفعل معها مبنيّ ومع أختيها الشديدة والخفيفة وشرط ابن مالك أن تكون مباشرة مثل لينبذن فن لم تكن مباشرة نحو ولا تتبعان فأما ترين وليسجننه فهو معرب والأكثرون على أن المؤكد بالنون مبني مطلقًا باشرته النون أم لم تباشره، وزعم آخرون

(8/30)


أنه معرب مطلقًا باشرته أم لم تباشره، والصحيح التفصيل الذي اختاره ابن مالك من جهة القياس، وتعرضن هنا بفتح الفوقية وسكون العين والضاد المعجمة بينهما راء مكسورة وآخره نون خفيفة كذا في الفرع بناء على أنه لم يتصل به نون تأكيد وإنما اتصل بالفعل نون جماعة المؤنث فإن روي فلا تعرضن بضم الضاد فالخطاب للمذكرين لأنه لو كان
لمؤنثات لكان فلا تعرضنان لأنه يجتمع ثلاث نونات فيفرق بينها بالألف ومتى قدر أنه اتصل به ضمير جماعة المذكرين فتغليبًا لهم في الخطاب على المؤنثات الحاضرات فأصله لا تعرضونن فاستثقل اجتماع ثلاث نونان فحذف نون الرفع فالتقى ساكنان فحذفن الواو لاعتلالها وبقي النون المشددة لصحتها وإن كان الخطاب لأم حبيبة وحدها فبكسر الضاد وتشديد النون. وقال القرطبي جاء بلفظ الجمع وإن كانت القصة لاثنتين وهما أم حبيبة وأم سلمة ردعًا وزجرًا أن تعود واحدة منهما أو غيرهما إلى مثل هذا.
(وقال غيره) بن الزبير بالإسناد السابق (وثويبة) المذكورة (مولاة لأبي لهب) واختلف في إسلامها قال أبو نعيم لا نعلم أحدًا ذكر إسلامها غير ابن منده (كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) معطوف على أعتقها وظاهره أن عتقه لها كان قبل إرضاعها والذي في السير أن أبا لهب أعتقها قبيل الهجرة وذلك بعد الإرضاع بدهر طويل (فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله) في المنام قيل هو العباس (بشرّ حيبة) بكسر الحاء المهملة وبعد التحية الساكنة موحدة والباء في بشر باء المصاحبة وهي باء الحال أي متلبسًا بسوء حال أو كائنًا به وهذه الرؤية حلمية فتتعدّى إلى مفعولين كالعلمية عند ابن مالك وموافقيه فبعض المرفوع قائم مقام المفعول الأول والثاني المتصل به، وقيل يتعدى لواحد فيكون تعدّيه هنا إلى اثنين بالنقل بالهمزة ولا بد من تقدير في المنام وحذف للعلم به والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب وعند المستملي كما قال في الفتح خيبة بفتح الخاء المعجمة أي في حالة خائبة من كل خير وعزاها في الفرع كأصله لغير الحموي والمستملي (قال) ولأبي ذر فقال (له) الرائي: (ماذا لقيت)؟ بعد الموت (قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرًا) كذا في الفرع بإثبات المفعول. وقال في الفتح: إنه بحذفه في الأصول. قلت: والذي في اليونينية هو الحذف، وقال ابن بطال: سقط المفعول من رواية البخاري ولا يستقيم الكلام إلا به، وفي رواية الإسماعلي لم ألق بعد رخاء ولعبد الرزاق عن معمر عن الزهري لم ألق بعدكم راحة (غير أني سقيت) بضم السين مبنيًّا للمفعول (في هذه) زاد عبد الرزاق وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه وغير نصب على الاستثناء (بعتاقتي ثويبة) بفتح العين مصدر عتق يقال عتق يعتق بالكسر عتقًا وعتاقًا وعتاقة والمصدر هنا مضاف إلى الفاعل وثويبة مفعول للمصدر وفي رواية عبد الرزاق بعتقي.
قال في الفتح: وهو أوجه والوجه أن يقول بإعتاقي لأن المراد التخلص من الرقّ انتهى.
وتعقبه العيني فقال: هذا أخذه من كلام الكرماني فإنه قال: معناه التخلص من الرقيّة فالصحيح أن يقال بإعتاقي قال: وكلٌّ منهما لم يحرر كلامه فإن العتق والعتاقة والعتاق كلها مصادر من عتق العبد وقوله وهو أوجه غير موجه لأن العتق والعتاقة واحد في المعنى فكيف يقول: العتق أوجه؟ ثم قوله: والوجه أن يقول بإعتاقي لأن المراد التخلص من الرقّ كلام من ليس له وقوف على كلام القوم فإن صاحب المغرب قال: العتق الخروج من المملوكية وهو التخلص من الرقية وقد تقدم أن العتق يقوم مقام الإعتاق الذي هو مصدر أعتقه مولاه انتهى.
واستدلّ بهذا على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة وهو مردود بظاهر قوله: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا} [الفرقان: 23] لا سيما والخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدّثه به وعلى تقدير أن يكون موصولًا فلا يحتج به إذ هو رؤيا منام لا يثبت به حكم شرعي لكن يحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مخصوصًا من ذلك بدليل التخفيف عن أبي

(8/31)


طالب المروي في الصحيح والله أعلم.

21 - باب مَنْ قَالَ: لاَ رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}
وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ
باب من قال: لا رضاع بعد حولين لقوله تعالى: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233].
قال في الكشاف: فإن قلت: كيف اتصل قوله لمن أراد بما قبله؟ قلت: هو بيان لمن توجه إليه الحكم كقوله تعالى: {هيت لك} بيان للمهيت به أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع وعن قتادة حولين كاملين. ثم أنزل الله اليسر والتخفيف. فقال: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} أراد أنه يجوز النقصان. وعن الحسن ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر، وقيل اللام متعلقة بيرضعن كما تقول أرضعت فلانة لفلان ولده أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئرًا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه انتهى. فقد جعل تعالى تمام الرضاعة في الحولين فأشعر بأن الحكم بعدها بخلافه لأن الولد يستغني غالبًا بغير اللبن ولا يشبعه بعد ذلك إلا اللحم والخبز ونحوهما. وفي حديث ابن مسعود عند أبي داود لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم وهو عنده أيضًا مرفوع بمعناه وقال: أنشر العظم.
وقد ورد ظواهر أحاديث تمسك بها العلماء فذهب الشافعي والجمهور إلى إناطة الحكم بالحولين بالأهلة من تمام انفصال الولد، وعن أبي حنيفة إناطته بحولين ونصف وعن زفر بثلاثة وعن مالك بزيادة أيام بعد الحولين وعنه بزيادة شهر وشهرين ورواية بثلاثة أشهر لأنه يغتفر بعد الحولين مدة يدمن فيها الطفل على الفطام لأن العادة أن الطفل لا يفطم دفعة واحدة بل على التدريج، وقيل لا يُزاد على الحولين وهو رواية ابن وهب عن مالك، وبه قال الجمهور لحديث ابن عباس عند الدارقطي مرفوعًا لا رضاع إلا ما كان في الحولين، وللترمذي وحسنه: لإرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الحولين.
وأما حديث سهلة السابق بعضه في باب الأكفاء في الدين أنها قالت: يا رسول الله إنّا كنا نرى سالمًا ولدًا وقد أنزل الله فيه ما قد علمت فماذا تأمرني؟ فقال: "أرضعيه خمس رضعات يحرم
بهن عليك" ففعلت فكانت تراه ابنًا فأجاب عنه الشافعي وغيره: بأنه مخصوص بسالم. قال القاضي: ولعل سهلة حلبت لبنها فشربه من غير أن يمص ثديها ولا التقت بشرتاهما. قال النووي: وهو حسن، ويحتمل أنه عفي عن مسّه للحاجة كما خصّ بالرضاعة مع الكبر انتهى.
وظاهر قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أرضعيه يقتضي ذلك لا الحلب، وقد نقل التاج ابن السبكي أن والده قال لامرأة أرادت أن تحج مع كبير أجنبي: أرضعيه تحرمي عليه وفيه دلالة على أنه كان يرى مذهب عائشة فإنها كانت تأمر بنات إخوتها وأخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرًا خمس رضعات ثم يدخل عليها. وقال ابن المنذر: لا يخلو أن يكون حديث سهلة منسوخًا.
(وما يحرم من قليل الرّضاع وكثيره) تمسكًا بعمومات أحاديث كحديث الباب وهو قول مالك وأبي حنيفة ومشهور مذهب أحمد وذهب آخرون إلى أن الذي يحرم ما زاد على رضعة وورد عن عائشة عشر رضعات أخرجه مالك في الموطأ. وعنها أيضًا سبع أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح، وعنها أيضًا في مسلم كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس رضعات محرمات، ثم توفي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهن مما يقرأ وإلى هذا ذهب إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى.
5102 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَشْعَثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخِي، فَقَالَ: «انْظُرْنَ مَا إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الأشعث) بالشين المعجمة والعين المهملة والمثلثة (عن أبيه) أبي الشعثاء سليم بن الأسود المحاربي الكوفي (عن مسروق) أي ابن الأجدع (عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل عليها) حجرتها (وعندها رجل). قال في الفتح: لم أقف على اسمه وأظنه ابنًا لأبي القعيس، وغلط من قال إنه عبد الله بن يزيد رضيع عائشة لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة وكان أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي -صَلَّى اللَّهُ

(8/32)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلذا قيل له رضيع عائشة (فكأنه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (تغير وجهه كأنه كره ذلك) ولمسلم فاشتدّ عليه ذلك ورأيت الغضب في وجهه (فقالت) عائشة: (إنه) أي الرجل (أخي) من الرضاعة (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(انظرن) أي اعرفن وتأملن (من إخوانكن) ومن استفهامية مفعول به ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ما إخوانكن إيقاعًا لما موقع من والأوّل أوجه والإخوان جمع أخ لكنه أكثر ما يستعمل لغة في الأصدقاء بخلاف غيرهم ممن هو بالولادة فيقال فيهم إخوة وكذا الرضاع كما في هذا الحديث (فإنما الرضاعة من المجاعة) تعليل للحث على إمعان النظر والتفكّر فإن الرضاعة تجعل
الرضيع محرمًا كالنسب ولا يثبت ذلك إلا بإنبات اللحم وتقوية العظم فلا يكفي مصّة ولا مصّتان بل أن تكون الرضاعة من المجاعة فيشبع الولد بذلك ويكون ذلك في الصغر ومعدته ضعيفة يكفيه اللبن ويشبعه ولا يحتاج إلى طعام آخر.
وهذا الحديث سبق في باب الشهادة على الأنساب من كتاب الشهادة.

22 - باب لَبَنِ الْفَحْلِ
(باب لبن الفحل) بفتح الفاء وسكون الحاء المهملة الرجل هل يثبت حرمة الرضاع بينه وبين الرضيع ويصير ولدًا له أم لا ونسبة اللبن إليه مجاز لكونه سببًا فيه.
5103 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا وَهْوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عروة بن الزبير) بن العوّام (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن أفلح) بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح اللام بعدها حاء مهملة (أخا أبي القعيس) بضم القاف وفتح العين المهملة وسكون التحتية بعدها سين مهملة وأخا نصب بدلًا من أفلح وعلامة نصبه الألف وأبي مضاف والقعيس مضاف إليه وهذا هو المشهور أي أفلح أخو أبي القعيس واسم أبي القعيس وائل بن أفلح الأشعري كما عند الدارقطني (جاء) حال كونه (يستأذن عليها وهو) أي أفلح (عمها) أي عم عائشة (من الرضاعة) وكان مقتضى السياق أن تقول: وهو عمي لكنه من باب الالتفات وفي رواية معمر عن الزهري وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رواه مسلم وأفلح أخو أبي القعيس فصار عمها من الرضاعة وكان استئذانه عليها (بعد أن نزل الحجاب) أي آية الحجاب أو حكمه آخر سنة خمس (فأبيت) فامتنعت (أن آذن له) بالمدّ للتردّد هل هو محرم وغلبت التحريم على الإباحة وزاد في رواية عراك السابقة في الشهادات فقال أتحتجبين مني وأنا عمك (فلما جاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرته بالذي نعت فأمرني) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أن آذن له) بالمدّ أيضًا. وفيه دليل على أن لبن الفحل يحرم حتى تثبت الحرمة في جهة صاحب اللبن كما تثبت في جانب المرضعة، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أثبت عمومة الرضاع وألحقها بالنسب لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما، ولذا أشار ابن عباس بقوله المروي عند ابن أبي شيبة: اللقاح واحد وهذا مذهب الشافعي وأي حنيفة وصاحبيه ومالك وأحمد كجمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وقال قوم منهم ربيعة الرأي وابن علية وابن بنت الشافعي وداود وأتباعه: الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئًا واحتج بعضهم لذلك بأن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل. وأجيب: بأنه
قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه.
وهذا الحديث سبق في كتاب الشهادات.

23 - باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
(باب) حكم (شهادة المرضعة) وحدها بالرضاعة.
5104 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ لَكِنِّي لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ لِي: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهْيَ كَاذِبَةٌ. فَأَعْرَضَ فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ قُلْتُ إِنَّهَا كَاذِبَةٌ قَالَ: «كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، دَعْهَا عَنْكَ». وَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى يَحْكِي أَيُّوبَ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم) المعروف بأمه علية قال: (أخبرنا أيوب) السختياني (عن عبد الله بن أبي مليكة) بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (عبيد بن أبي مريم) المكي ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وليس له في الصحيح سوى هذا الحديث (عن عقبة بن الحارث) القرشي المكي الصحابي (قال) عبد الله بن أبي مليكة (وقد سمعته) أي هذا الحديث (من عقبة) بن الحارث. قال الحافظ ابن حجر: والعمدة فيه

(8/33)


على سماع ابن أبي مليكة من عقبة نفسه (لكني لحديث عبيد أحفظ قال) عقبة بن الحارث: (تزوجت امرأة) هي أم يحيى بنت أبي إهاب (فجاءتنا امرأة سوداء) أي تسم (فقالت) لنا: قد (أرضعتكما) قال عقبة (فأتيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت): يا رسول الله (تزوجت فلانة بنت فلان فجاءتنا امرأة) وفي بعض الطرق أمة (سوداء فقالت لي: إني قد) ولأبي ذر لقد (أرضعتكما وهي كاذبة) في قولها (فأعرض عنه) من باب الالتفات ولأبي ذر عن الكشميهني عني (فأتيته من قبل وجهه) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهة وجهه (قلت: إنها كاذبة. قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(كيف) تصنع (بها) أي بالتي تزوجتها أو أي فعل تفعل بها (وقد زعمت) أي المرأة السوداء (أنها قد أرضعتكما دعها) اتركها (عنك) أي على سبيل الاحتياط والورع لا الحكم بثبوت الرضاع وفساد النكاح بمجرد قول المرضعة إذ لم يجر بحضرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترافع وإداء شهادة بل كان ذلك مجرد إخبار واستفتاء ثم لو شهدت المرضعة عند حاكم قبلت، ولو قالت: أرضعته لأنها لم تجر بشهادتها نفعًا ولم تدفع بها ضررًا بخلاف شهادتها بولادتها لجرها نفع النفقة والإرث وغيرهما ولا نظر إلى ما
يتعلق بشهادتها من ثبوت الحرمة وحل الخلوة فإن الشهادة لا ترد بمثل ذلك بدليل قبول شهادة الطلاق، وإن استفيد بها حل المناكحة وليس المراد قبول شهادتها وحدها بل لا تقبل عند الشافعي إلا مع ثلاث نسوة أخرى وأن لا تكون طالبة أجرة على الرضاع فإن طلبتها فلا تقبل لاتهامها بذلك واستدلّ به الشافعية على أنه لو شهدت واحدة أو أكثر ولم يتم النصاب بالرضاع فالورع للرجل أن يجتنبها بأن لا ينكحها إن لم ينكحها ويطلقها إن نكحها لتحلّ لغيره ويكره له المقام معها وتقبل في الرضاع شهادة أم الزوجة وبنتها مع غيرهما حسبة بلا تقدّم دعوى، وإن احتمل كون الزوجة مدّعية لأن الرضاع تقبل فيه شهادة الحسبة.
قال علي بن عبد الله المديني: (وأشار إسماعيل) ابن علية (بأصبعيه السبابة والوسطى يحكي) إشارة (أيوب) السختياني حيث يحكي فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث أشار بيده وقال بلسانه: دعها عنك فحكى ذلك كل راوٍ لمن دونه.
وسبق الحديث في كتاب العلم في باب الرحلة وفي باب شهادة: الإماء والعبيد في كتاب الشهادات.

24 - باب مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} إِلَى آخِرِ الآيَةَ، وَقَالَ أَنَسٌ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ الْحَرَائِرُ حَرَامٌ {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ. وَقَالَ: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ فَهْوَ حَرَامٌ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ
(باب ما يحل من النساء وما يحرم) منهن (وقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم}) أي نكاح أمهاتكم فهو من مجاز الحذف الذي دل العقل على حذفه ({وبَناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت}) [النساء: 23] (إلى آخر الآية) وساق في رواية كريمة إلى قوله: {وأخواتكم} وقال: الآيتين إلى قوله: {إن الله كان عليمًا حكيمًا} والأمهات كل أنثى ولدتك أو ولدت من ولدك ذكرًا كان أو أنثى بواسطة أو بغيرها، والبنات كل أنثى ولدتها أو ولدت من ولدها ذكرًا كان أو أنثى بواسطة أو بغيرها، والأخوات كل أنثى ولدها أبواك أو أحدهما والعمات كل أخت ذكر ولدك بواسطة وبغيرها. والخالات كل أخت أنثى ولدتك بواسطة أو بغيرها فأخت أبي الأم عمة لأنها أخت ذكر ولدك بواسطة، وأخت أم الأب خالة لأنها أخت أنثى ولدتك بواسطة، وبنات الأخ وبنات الأخت وإن بعدن لا من دخلت في اسم ولد العمومة والخؤولة فلا تحرم.
(وقال أنس) أي ابن مالك مما وصله إسماعيل القاضي في كتابه أحكام القرآن بإسناد صحيح من طريق سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أنس بن مالك أنه قال: في قوله تعالى: ({والمحصنات من النساء}) أي (ذوات الأزواج) لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج (الحرائر حرام) نكاحهن إلا بعد طلاق أزواجهن وانقضاء عدتهن ({إلا ما ملكت أيمانكم}) [النساء: 24] (لا يرى بأسًا) حرجًا (أن ينزع) وفي نسخة أن يزوج (الرجل جاريته) وللكشميهني جارية (من) تحت (عبده) فيطأها والأكثرون على أن المراد بما ملكت أيمانهم اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين وإن كن محصنات.
(وقال) الله تعالى: ({ولا تنكحوا المشركات})

(8/34)


أي لا تتزوجوهن أو لا تزوجوهن ({حتى يؤمن}) [البقرة: 221] أي المشركات فمن موانع النكاح الكفر فيحرم مناكحة غير أهل الكتابين التوراة والإنجيل وإن كان لهم شبهة كتاب إذ لا كتاب بأيديهم وكذا من المتمسكين بصحف شيث وإدريس وإبراهيم وزبور داود لأنها لم تنزل بنظم يدرس ويتلى وإنما أوحى إليهم معانيها أو أنها لم تتضمن أحكامًا وشرائع بل كانت حكمًا ومواعظ. وكذا يحرم نكاح سائر الكفار كعبدة الشمس والقمر والصور والنجوم والمعطلة والزنادقة والباطنية بخلاف أهل الكتابين. وفرق القفال بين الكتابية وغيرها بأن غيرها اجتمع فيه نقصان الكفر في الحال وفساد الدين في الأصل والكتابية فيها نقص واحد وهو كفرها في الحال.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما وصله الفريابي وعبد بن حميد بإسناد صحيح عنه أنه قال في قوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (ما زاد على أربع) من الزوجات (فهو حرام كأمه وابنته وأخته) أما العبد فيحرم عليه ما زاد على اثنتين. قاله البخاري بالسند إليه.
5105 - وَقَالَ لَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي حَبِيبٌ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ. ثُمَّ قَرَأَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. الآيَةَ وَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ. وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ فِي لَيْلَةٍ، وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِيِّ إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلاَ يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ. وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَرَّمَهُ، وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ بِسَمَاعِهِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ: تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
لاَ تَحْرُمُ حَتَّى يُلْزِقَ بِالأَرْضِ يَعْنِي يُجَامِعَ. وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عَلِيٌّ لاَ تَحْرُمُ وَهَذَا مُرْسَلٌ.
(وقال لنا أحمد بن حنبل) الإمام الأعظم في المذاكرة أو الإجازة. وليس للبخاري عنه في هذا الكتاب إلا هذا وحديث في آخر المغازي بواسطة (حدّثنا يحيى بن سعيد) القطان (عن سفيان) الثوري أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (حبيب) هو ابن أبي ثابت (عن سعيد) ولأبي ذر زيادة ابن جبير (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه قال: (حرم) عليكم (في النسب سبع) من النساء (ومن الصهر) منهن (سبع ثم قرأ {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية) والتحريم يطلق بمعنى التأثيم وعدم الصحة وهو المراد هنا، ويطلق بمعنى التأثيم فقط فيجامع الصحة كما في نكاح مخطوبة الغير مع بقاء خطبته، وزاد الطبراني من طريق عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس في آخر الحديث. ثم قرأ: {حرمت عليكم أمهاتكم} حتى بلغ {وبنات الأخ} ثم قال: هذا النسب ثم قرأ: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} حتى بلغ {وأن تجمعوا بين الأختين} وقرأ {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء: 22] فقال: هذا الصهر وفي تسميته ما هو بالرضاع صهرًا تجوز وكذلك امرأة الغير.
والموانع قسمان: مؤبد وغير مؤبد والمؤبد له أسباب قرابة، ورضاع، ومصاهرة، فيحرم بالمصاهرة أمهات الزوجة وإن علون لقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} وأزواج آبائه وإن علوا لقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} وأزواج أبنائه وإن سفلوا لقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم} وقوله: {الذين من أصلابكم} لإخراج زوجة من تبناه لا زوج ابن الرضاع لتحريمها بما سبق وقدم على مفهوم الآية لتقدم المنطوق على المفهوم حيث لا مانع وكل من هؤلاء المحرمات من النوعين يحرمن بمجرد العقد الصحيح دون الفاسد إذ لا يفيد الحل في المنكوحة والحرمة في غيرها فرع الحل فيها وأما بنت زوجته وإن سفلت فلا تحرم إلا بالدخول بالأم كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.
(وجمع عبد الله بن جعفر) أي ابن أبي طالب (بين ابنة علي) زينب (و) بين (امرأة علي) ليلى بنت مسعود فجمع بين المرأة وبنت زوجها وهذا وصله البغوي في الجعديات.
(وقال ابن سيرين) محمد فيما وصله سعيد بن منصور بسند صحيح لما قيل له: إن عبد الله بن صفوان تزوج امرأة رجل من ثقيف وابنته من غيرها (لا بأس به. وكرهه) أي الجمع بين المرأة وبنت زوجها (الحسن) البصري (مرة ثم قال: لا بأس به) وهذا وصله الدارقطني.
(وجمع الحسن بن الحسن بن علي) أي ابن أبي طالب فيما وصله عبد الرزاق وأبو عبيد بن سلام (بين ابنتي عم في ليلة) واحدة وهما بنت محمد بن علي وبنت عمر بن علي فقال محمد بن علي: هو أحب إلينا منهما، وزاد عبد الرزاق والشافعي من وجه آخر عن عمرو بن دينار عن
الحسن بن محمد بن علي ابن الحنفية فأصبح النساء لا يدرون أين يذهبن.
(وكرهه) أي الجمع المذكور (جابر بن زيد) أبو الشعثاء البصري التابعي (للقطيعة) أي لوقوع التنافس بينهما في الحظوة عند الزوج فيؤدي ذلك إلى القطيعة. وقد أخرج أبو داود وابن أبي شيبة

(8/35)


من مرسل عيسى بن طلحة نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة. وأخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضعائن قال البخاري تفقهًّا: (وليس فيه تحريم لقوله تعالى: ({وأحل لكم ما وراء ذلكم}) [النساء: 24] وانعقد الإجماع عليه.
(وقال عكرمة عن ابن عباس): فيما وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس (إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته) لأن النهي عن الجمع بين الأختين إنما هو إذا كان بعقد التزويج.
(ويروى عن يحيى) بن قيس (الكندي عن الشعبي) عامر بن شراحيل (وأبي جعفر) ولأبي ذر عن المستملي وابن جعفر. قال في الفتح: والأول هو المعتمد أنهما قالا (فيمن يلعب بالصبي إن أدخله فيه) يعني لاط به (فلا يتزوجن أمه) وهذا مذهب الحنابلة وعبارة التنقيح ومن تلوط بغلام أو بالغ حرم على كل واحد منهما أم الآخر وابنته نصًّا والجمهور على خلافه قال البخاري: (ويحيى) الكندي (هذا غير معروف) أي غير معروف العدالة، وقد ذكره المؤلّف في تاريخه وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات وقد ارتفع عنه الجهالة برواية من ذكر (ولم يتابع) بفتح الموحدة (عليه) أي على ما رواه هنا وقوله ويروى عن يحيى إلى آخره ثابت في رواية الكشميهني والمستملي قال ابن الملقن: في عجالته وهذه مقالة عجيبة لو نزّه البخاري عنها كتابه لكان أولى.
(وقال عكرمة: عن ابن عباس) فيما وصله البيهقي (إذا زنى بها) أي بأم امرأته (لا تحرم عليه امرأته) لأن الحرام لا يحرم الحلال، وكذا لا يحرم عليه بنت من زنى بها ولو كانت من مائه إذ لا حرمة لماء الزنا فهي أجنبية عنه شرعًا بدليل انتفاء سائر أحكام النسب عنها سواء طاوعته أمها على الزنا أم لا ولو أرضعت المرأة بلبن الزاني صغيرة فكبنته قاله المتولي، أما المرأة فيحرم عليها وعلى سائر محارمها نكاح ابنها من الزنا لعموم الآية ولثبوت النسب والإرث بينهما، والفرق أن الابن كعضو منها وانفصل منها إنسانًا ولا كذلك النطفة التي خلقت منها البنت. نعم يكره نكاح المخلوقة من زناه خروجًا من خلاف من حرمها عليه. قال المرداوي من الحنابلة: وتحرم بناته من حلال أو حرام أو شبهة.
(ويذكر عن أبي نصر) الأسدي الثقة فيما قاله أبو زرعة فيما وصله الثوري في جامعه (أن ابن عباس حرمه) ولفظ الثوري أن رجلًا قال: إنه أصاب أُم امرأته أي زنى بها فقال له ابن عباس: حرمت عليك امرأتك وذلك بعد أن ولدت منه سبعة أولاد كل بلغ مبالغ الرجال. قال
البخاري: (وأبو نصر هذا لم يعرف) مبني للمفعول (سماعه) رفع مفعول ناب عن فاعله والذي في اليونينية بسماعه (عن ابن عباس) وعدم معرفة المؤلّف ذلك لا يستلزم نفي معرفة غيره به لا سيما وقد وصفه أبو زرعة بالثقة.
(ويروى عن عمران بن حصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين الصحابي فيما وصله عبد الرزاق بإسناد لا بأس به (و) عن (جابر بن زيد) التابعي (والحسن) البصري فيما وصله ابن أبي شيبة من طريق قتادة عنهما (و) عن (بعض أهل العراق) ومنهم الثوري (قال) سقط قوله قال: من اليونينية وآل ملك كلٌّ منهم (يحرم عليه) نكاح امرأته والذي في اليونينية تحرم بالفوقية وسقوط لفظ عليه أي تحرم المرأة أي نكاحها إذا فجر بأمها وكذا هي، وبه قال أبو حنيفة وصاحباه خلافًا للجمهور لأن النكاح في الشرع إنما يطلق على المعقود عليها لا على مجرد الوطء.
(وقال أبو هريرة: لا يحرم عليه) نكاح البنت (حتى يلزق) بضم التحتية وكسر الزاي (وبالأرض يعني يجامع) الأم خلافًا للحنفية فإنهم قالوا إذا مسّ أُم زوجته أو نظر إلى داخل فرجها وهو ما يرى منها عند استلقائها بشهوة وجدها حرمت زوجته، وحدّ الشهوة إن كان شابًّا أن تنتشر آلته بها أو تزداد انتشارًا إن كانت منتشرة قبله، وإن كان شيخًا أو عنينًا فحدّها أن يتحرك قلبه أو يزداد تحركه ولا يعرف

(8/36)


ذلك إلا بقوله، وفي التبيين وجود الشهوة من أحدهما يكفي، ولو رأى فرجها من وراء الزجاج ثبتت الحرم، ولو رآه في المرآة لا تثبت، ولو مسها بحائل إن وصل حرارة البدن إلى يده ثبتت الحرمة وإلاّ فلا. ولا فرق بين أن يكون المسّ عمدًا أو خطأ أو ناسيًا أو مُكرَهًا، وشرطه أن لا ينزل فلو أنزل عند اللمس أو النظر لم تثبت به حرمة لأنه ليس مفضيًا إلى الوطء لانقضاء الشهوة انتهى.
(وجوّزه) أي المقام مع الزوجة وإن زنى بأمها (ابن المسيب) سعيد (وعروة) بن الزبير (والزهري) محمد بن مسلم بن شهاب لما مرّ قريبًا. (وقال الزهري): فيما وصله البيهقي (وقال علي) هو ابن أبي طالب في رجل وطئ أُم امرأته (لا يحرم) المقام مع امرأته. ولفظ البيهقي لا يحرم الحرام الحلال. قال البخاري: (وهذا) الحديث، ولأبي ذر: وهو (مرسل) أي منقطع فأطلق المرسل على المنقطع.

25 - باب {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ. وَمَنْ قَالَ: بَنَاتُ وَلَدِهَا مِنْ بَنَاتِهِ فِي التَّحْرِيمِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأُمِّ حَبِيبَةَ، «لاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ» وَكَذَلِكَ حَلاَئِلُ وَلَدِ الأَبْنَاءِ هُنَّ حَلاَئِلُ الأَبْنَاءِ، وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِهِ وَدَفَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا»، وَسَمَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا.
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وَربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي
دخلتم بهن}) [النساء: 23] قال الزمخشري: من نسائكم متعلق بربائبكم ومعناه أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها انتهى. وذكر الحجور جرى على الغالب فلا مفهوم له ولا فرق بين أن يكون الدخول في عقد صحيح أو فاسد، والمراد بالدخول الوطء على الأصح من قولي الشافعي.
(وقال ابن عباس: الدخول والمسيس واللماس) بكسر اللام (هو الجماع) وهو الأصح من قولي الشافعي وقاله أبو حنيفة (ومن قال بنات ولدها) أي المرأة (من بناته) وفي نسخة هن من بناتها أي كحكم بناتها (في التحريم) على الرجل (لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الآتي موصولًا (لأم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان (لا تعرضن) بفتح الفوقية وسكون العين وكسر الراء وسكون الضاد لوقوعها قبل نون النسوة مثل تضربن وخطابه لجمع النسوة وإن كانت القصة لامرأتين لأم سلمة وأم حبيبة ليعم الحكم كل امرأة وردعًا وزجرًا أن يعود له أحد بمثل ذلك (عليّ بناتكن) وبنت الابن بنت (ولا أخواتكن. وكذلك حلائل ولد الأبناء) أي أزواجهم (هن حلائل الأبناء) أي مثلهن في التحريم وهذا بالاتفاق فكذلك بنات الأبناء وبنات البنات (وهل تسمى الربيبة وإن لم تكن في حجره) الجمهور تسمى به سواء كانت في حجره أم لا، لأن ذكر الحجر خرج مخرج العادة لا مخرج الشرط فهو تقييد عرفي لا تقييد للحكم بدليل قوله تعالى: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23] علق الإباحة بعدم الدخول فقط، ولو كانت الحرمة مقيدة بهما لتعلقت الإباحة بعدمهما وقال علي: لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجره لظاهر الآية، وقول عليّ هذا رواه عنه ابن أبي حاتم في تفسيره وقال به أيضًا عمر بن الخطاب فيما رواه أبو عبيد.
(ودفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ربيبة له) هي زينب بنت أُم سلمة (إلى من يكلفها) وهو نوفل الأشجعي وقال له: إنما أنت ظئري. رواه البزار والحاكم موصولًا (وسمى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما سبق موصولًا في المناقب (ابن ابنته) الحسن بن علي (ابنًا) حيث قال: "إن ابني هذا سيد" وثبت قوله ومن قال إلى هنا للمستملي والكشميهني.
5106 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ؟ قَالَ: «فَأَفْعَلُ مَاذَا»؟ قُلْتُ: تَنْكِحُ. قَالَ: «أَتُحِبِّينَ»؟ قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِيكَ أُخْتِي. قَالَ: «إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِي». قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْطُبُ. قَالَ: «ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ»؛ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي، مَا حَلَّتْ لِي أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ». وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن زينب) بنت أبي سلمة (عن أم حبيبة) بنت أبي سفيان أنها
(قالت: قلت يا رسول الله هل لك في) تزويج أختي عزّة أو درّة أو حمنة (بنت أبي سفيان؟ قال):
(فأفعل ماذا)؟ قالت أم حبيبة: (قلت) يا رسول الله (تنكحـ) ـها (قال: أتحبين)؟ أي ذلك وأراد بالاستفهام الاستثبات في شدة الرغبة ليتقرر الجواب بعد ذلك، وأيضًا ليعلم السبب في محبتها ذلك ليرتب عليه الحكم الشرعي، ولذا قالت (قلت لست لك بمخلية) بضم الميم وسكون المعجمة اسم فاعل من أخلاه وجده خاليًا فهو مخل والمرأة مخلية، وهذا من معاني صيغة أفعل كأحمدته وجدته حميدًا أي لست أجدك خاليًا من الزوجات غيري (وأحب من شركني) بفتح الشين وكسر الراء وتفتح من غير ألف (فيك أختي قال) عليه

(8/37)


الصلاة والسلام: (إنها لا تحل لي) لما فيه من الجمع بين الأختين (قلت) يا رسول الله (بلغني أنك تخطب) أي بنت أبي سلمة درة (قال: ابنة أم سلمة) أي أأنكحها (قلت: نعم. قال) عليه الصلاة والسلام: (لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي أرضعتني وأباها) بفتح الهمزة والموحدة المخففة أي والد درة أبا سلمة (ثويبة) رفع على الفاعلية وقوله: لو لم قال في المصابيح: هذا مثل نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه فإن حلها للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منتف من جهتين كونها ربيبته وكونها ابنة أخيه من الرضاعة كما أن معصية صهيب منتفية من جهتي المخافة والإجلال (فلا تعرضن) بفتح التاء وكسر الراء وسكون الضاد كيضربن (عليّ بناتكن ولا أخواتكن).
(وقال الليث) بن سعد الإمام (حدّثنا هشام) أي ابن عروة بالإسناد المذكور فسمى بنت أبي سلمة فقال: هي (درة) بضم الدال المهملة وفتح الراء المشددة (بنت أبي سلمة) ولأبي ذر أم سلمة فوهم من سماها زينب.

26 - باب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وأن تجمعوا بين الأختين}) في موضع رفع عطفًا على المحرمات. أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين لما فيه من قطيعة الرحم وإن رضيت بذلك فإن الطبع يتغير، وإليه أشار -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهن". كما زاده ابن حبان وغيره سواء كانتا من الأبوين أو من أحدهما من النسب أو الرضاع وسواء النكاح وملك اليمين، ولو اشترى زوجته بأن كانت أمة فله أن يتزوج أختها وأربعًا سواها لأن ذلك الفراش قد انقطع، ولو اشترى أختين صح الشراء إجماعًا لأنه لا يتعين الوطء فلو وطئ إحداهما ولو في الدبر حرمت الأخرى للجمع المنهي عنه ({إلا ما قد سلف}) [النساء: 23] من الجمع بينهما فمعفوّ عنه.
5107 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: «وَتُحِبِّينَ»؟ قُلْتُ: نَعَمْ. لَسْتُ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَحِلُّ لِي». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ
أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ. قَالَ: (بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ). فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ. فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم (أن عروة بن الزبير) بن العوّام (أخبره أن زينب ابنة) ولأبي ذر بنت (أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة) أم المؤمنين رملة (قالت: قلت يا رسول الله انكح أختي) عزة (بنت أبي سفيان قال):
(وتحبين)؟ ذلك استفهام سقطت منه الأداة (قلت: نعم) أحب ذلك لأني (لست لك بمخلية) بضم الميم وسكون المعجمة أي لست أجدك خاليًا من الزوجات غيري كما مرّ وسقط لك لغير أبي ذر (وأحب من شاركني) بألف بعد المعجمة وسقطت واو وأحب لغير أبي ذر عن الكشميهني ولأبي ذر من شركني بغير ألف مع كسر الراء (في خير) في رواية الباب السابق فيك أي في ذاتك (أختي) خبر المبتدأ الذي هو أحب (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن ذلك) بكسر الكاف خطابًا بالمفرد مؤنث (لا يحل لي) لما فيه من الجمع بين الأختين (قلت: يا رسول الله فوالله إنّا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة قال) عليه الصلاة والسلام: (بنت أم سلمة) قال النووي: هو سؤال استثبات ونفي إرادة غيرها. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون لإظهار جهة الإنكار عليها أو على من قال ذلك (فقلت: نعم قال: فوالله لو لم تكن في حجري) بفتح الحاء وسكون الجيم أي ربيبتي (ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة) اللام في لابنة هي الداخلة في خبر إن ولأبي ذر ابنة بإسقاطها أي إنها حرام لسببين لو فقد أحدهما لم يحتي إليه لوجود الآخر (أرضعتني وأبا سلمة) والدها (ثويبة فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن) وتعرضن كيضربن بسكون الموحدة ويجوز تشديد النون للتوكيد فتكسر الضاد حينئذ لالتقاء الساكنين وأصله تعرضنن بثلاث نونات: الأولى نون النسوة والأخريان نون التوكيد المشددة فحذفت النون الأولى فالتقى ساكنان فكسر الأول.
وهذا الحديث سبق غير مرة.

27 - باب لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
هذا (باب) بالتنوين (لا تنكح المرأة على عمتها) أي: ولا خالتها.
5108 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. وَقَالَ دَاوُدُ وَابْنُ عَوْنٍ: عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن
المبارك قال: (أخبرنا عاصم) هو ابن سليمان الأحول (عن الشعبي) عامر بن شراحيل أنه (سمع جابرًا) الأنصاري (-رضي الله عنه-: قال):
(نهى رسول الله

(8/38)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تنكح المرأة على عمتها أو) على (خالتها) أي أخت الأب وأخت الأم. وهذا حقيقة وفي معناهما أخت الجد ولو من جهة الأم وأخت أبيه وإن علا وأخت الجدة وأمها وإن علت ولو من قبل الأب، والضابط أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرًا لحرمت المناكحة بينهما، والمعنى في ذلك ما فيه من قطيعة الرحم كما مرّ مع المنافسة القوية بين الضرّتين، ولا يحرم الجمع بين المرأة وبنت خالها أو خالتها ولا بين المرأة وبنت عمها أو عمتها لأنه لو قدرت إحداهما ذكرًا لم تحرم الأخرى عليه.
وهذا الحديث مخصص لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24].
(وقال داود) بن أبي هند فيما وصله أبو داود والدارمي (وابن عون) عبد الله البصري مما وصله النسائي كلاهما (عن الشعبي عن أبي هريرة) فلفظ رواية الدارمي أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو المرأة على خالتها والعمة على بنت أخيها والخالة على بنت أختها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى وهذا كالبيان والتأكيد لقوله: نهى أن تنكح المرأة على عمتها إلى آخره. ولذلك لم يجيء بينهما بالعاطف والعمة والخالة هي الكبرى وبنت الأخ وبنت الأخت هي الصغرى بحسب المزية والرتبة أو لأنهما أكبر سنًّا منهما غالبًا ولفظ أبي داود لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولفظ النسائي لا تزوج المرأة على عمتها ولا على خالتها.
5109 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلاَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا». [الحديث 5109 - أطرافه في: 5110].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) هو ابن أنس إمام الأئمة (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة- رضي الله عنه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا يجمع بين المرأة وعمتها) في نكاح واحد ولا يملك اليمين (ولا بين المرأة وخالتها) نكاحًا وملكًا وحيث حرم الجمع، فلو نكحهما معًا بطل نكاحهما إذ ليس تخصيص إحداهما بالبطلان أولى من الأخرى فإن نكحهما مرتبًا بطل نكاح الثانية لأن الجمع بها حصل.
5110 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا، فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ.
وبه قال: (حدثَنا عبدان) عبد الله بن عثمان بن جبلة قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال: حدّثني) بالإفراد (قبيصة بن ذؤيب) بفتح القاف وكسر الموحدة وبضم المعجمة وفتح الهمزة في الثاني مصغرًا الخزاعي (أنه سمع أبا هريرة) رضي الله عنه (يقول: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تنكح المرأة على عمتها و) أن تنكح (المرأة وخالتها) قال الزهري: (فنرى) بضم النون أي نظن (خالة أبيها بتلك المنزلة) في التحريم.
5111 - لأَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ.
(لأن عروة) بن الزبير (حدّثني) بالإفراد (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب) قال في الفتح: كأنه أراد إلحاق ما يحرم بالصهر بما يحرم بالنسب كما يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب ولما كانت خالة الأب من الرضاع لا يحل نكاحها فكذلك خالة الأب لا يجمع بيها وبين بنت ابن أخيها.

28 - باب الشِّغَارِ
(باب الشغار) بمعجمتين الأولى مكسورة آخره راء مصدر شاغر يشاغر شغارًا ومشاغرة وسمي شغارًا إما من قولهم شغر البلد عن السلطان إذا خلا عنه لخلوّه عن المهر، وقيل لخلوه عن بعض الشرائط. وقال ثعلب: هو من قولهم شغر الكلب إذا رفع رِجله ليبول، وفي التشبيه بهذه الهيئة القبيحة تقبيح للشغار وتغليظ على فاعله كأن كلاًّ من الوليين يقول للآخر لا ترفع رِجل ابنتي حتى أرفع رِجل ابنتك.
5112 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنِ الشِّغَارِ. وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. [الحديث 5112 - أطرافه في: 6960].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى) نهي تحريم (عن الشغار. والشغار أن يزوّج الرجل ابنته) أو موليته من أخت وغيرها (على أن يزوّجه الآخر ابنته) أو موليته (ليس بينهما صداق) بل بضع كل منهما صداق الأخرى. وقد اختلف الرواة عن مالك فيمن ينسب إليه تفسير الشغار فالأكثر لم ينسبوه لأحد، ولذا قال الشافعي فيما حكاه البيهقي في معرفة السنن لا أدري التفسير عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو عن ابن عمر أو عن

(8/39)


نافع الراوي عنه أو عن مالك. وقال الخطيب: إنه قول مالك وصله بالمتن المرفوع، وفي ترك الخيل من البخاري أنه من قول نافع. وقال الباجي: هو من جملة الحديث. وبالجملة فإن كان مرفوعًا فهو المراد وإن كان من قول الصحابي فمقبول لأنه أعلم بالمقال والمعنى في البطلان التشريك في البضع حيث جعل موردًّا للنكاح وصداقًا للأخرى فأشبه
تزويج واحدة من اثنين. وقال القفال: العلة في البطلان التعليق والتوقيف فكأنه يقول لا ينعقد لك نكاح بنتي حتى ينعقد لي نكاح بنتك وليس المقتضي للبطلان ترك ذر الصداق لأن النكاح يصح بدون تسمية الصداق، لكن قال ابن دقيق العيد: إن قوله في الحديث ليس بينهما صداق يشعر بأن جهة الفساد ترك ذكر الصداق اهـ.
وكذا لا يصح لو ذكر مع البضع مالًا كقوله زوجتك بنتي أو موليتي بألف على أن تزوجني بنتك أو موليتك بألف وبضع كلٍّ منهما صداق الأخرى لوجود التشريك المذكور فلو أسقط في هذه وسابقتها وبضع كلٍّ منهما صداق الأخرى صح النكاح إذ ليس فيه إلا شرط عقد في عقد وهو لا يفسد النكاح، ونص الإمام الشافعي في الأم على البطلان ليس فيه أنه مع إسقاط ذلك فهو مقيد بعدم إسقاطه كلما قيد به في بقية نصوصه فثبت أنه مع الإسقاط يصح النكاحان بمهر المثل لفساد المسمى، ولو قال وبضع ابنتي صداق ابنتك، ولم يزد فقبل الآخر على ذلك صح الثاني فقط. وقال الحنفية: يصح نكاح الشغار ويجب مهر المثل على كل واحد منهما. لأن النكاح مما لا يبطل بالشروط الفاسدة وها هنا شرط فيه ما لا يصلح مهرًا فيبطل شرطه ويصح عقده كما لو سمي خمرًا. وقال الحنابلة: إن سمي المهر في الشغار صح وإن سمي لإحداهما ولم يسم للأخرى صح نكاح من سمي لها.
وهذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا في النكاح وكذا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

29 - باب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لأَحَدٍ
هذا (باب) بالتنوين (هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد)؟ من الرجال على أن ينكحها من غير ذكر صداق، أو مع ذكره أجازه الحنفية لكن قالوا يجب مهر المثل لقوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} عطفًا على المحللات في قوله: {إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن} وقوله عليه الصلاة والسلام: "ملكتكها بما معك من القرآن" قالوا: ولا يقال الانعقاد بلفظ الهبة خاص به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدليل قوله: "خالصة لك" لأنّا نقول الاختصاص والخلوص في سقوط المهر بدليل أنها مقابلة بمن آتى مهرها في قوله تعالى: {إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن} إلى قوله: {وامرأة مؤمنة} وبدليل قوله تعالى: {لكيلا يكون عليك حرج} [الأحزاب: 50] والحرج بلزوم المهر دون لفظ التزويج فصار الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهرًا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم من المهر وغيره، وقال الشافعية والجمهور: لا ينعقد إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح فلا ينعقد بلفظ البيع والتمليك والهبة لحديث مسلم: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولأن النكاح ينزع إلى العبادات لورود الندب فيه والأذكار في العبادات تتلقى من الشرع والشرع إنما ورد بلفظ التزويج والإنكاح، وتعقب بأنه لا حجة في قوله عليه الصلاة والسلام: استحللتم فروجهن بكلمة الله فقد قال ابن
الحاجب في الأمالي: على هذا لو كان المراد لفظ التزويج ولفظ الإنكاح لكان الوجه أن يقال بكلمتي الله إذ لا يطلق المفرد على اثنين إلا فيما إذا كان معلومًا بالعادة كقولهم: أبصرته بعيني وسمعته بأُذني، وأما نحو اشتريته بدرهم والمراد بدرهمين فلا قائل به ولو سلم صحة إطلاق المفرد هنا على الاثنين لامتنّع أيضًا من جهة أنه إذا كان المراد اللفظ فاللفظ الموجود في القرآن إنما هو {أنكحوهن} ونحو: {إذا نكحتم المؤمنات} [الأحزاب: 49] و {زوجناكها} [الأحزاب: 37] وقد علم أنه إذا أخبر عن الكلمة باعتبار أنه إنما يراد صورتها ولفظها مجردة عن معناها أو مع معناها وقد علم أنه لا يقع الإنكاح بهذه الألفاظ

(8/40)


على صورتها لا بمجردها ولا بمعناها المراد بها، ولو سلم أن الإنكاح يقع بهما فليس في اللفظ ما يشعر أنه لا استحلال إلا بذلك، ولو سلم أن في اللفظ ما يشعر بالحصر فعندنا ما يأباه وهو أنه قد ذكر لفظ المراجعة معبرًا به عن التزويج. قال الله تعالى: {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} [البقرة: 23] والمعنى فإن طلقها الزوج الثاني ثلاثًا فلا جناح على الزوج الأول وعلى الزوجة المطلقة من هذا الثاني أن يتراجعا. فقد عبّر بالمراجعة عن التزوبج أو المراد أن يتناكحا وذلك يأبى الحصر المسلم فيه ظهوره تقديرًا انتهى.
وحديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زوّج امرأة فقال: "ملكتكها بما معك من بالقرآن" قيل: إنه وهم من الراوي وبتقدير صحته معارض برواية الجمهور زوجتكها. قال البيهقي: والجماعة أولى بالحفظ من الواحد ويحتمل أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع بين اللفظين.
5113 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ مِنَ اللاَّئِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلاَّ يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ. رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سلام) بتخفيف اللام قال: (حدّثنا ابن فضيل) بضم الفاء محمد قال: (حدّثنا هشام عن أبيه) عروة بن الزبير أنه (قال: كانت خولة) بفتح الخاء المعجمة (بنت حكيم) بفتح المهملة ابن أمية السلمية وكانت امرأة عثمان بن مظعون وكانت من السابقات إلى الإسلام (من اللائي) بالهمزة (وهبن أنفسهن للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت عائشة): فيه إشعار بأن عروة حمل الحديث عن عائشة فلا يكون مرسلًا (أما) بتخفيف الميم (تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل) زاد محمد بن سيرين: بغير صداق (فلما نزلت: ({ترجي}) أي تؤخر ({من تشاء منهن}) وفي رواية عبدة بن سليمان فأنزل الله: {ترجي من تشاء} [الأحزاب: 51] وهي أظهر في أن نزول هذه الآية بهذا السبب (قلت: يا رسول الله ما أرى) بفتح الهمزة (ربك إلا يسارع في هواك) أي في رضاك (رواه) أي الحديث المذكور (أبو سعيد) محمد بن مسلم بن أبي الوضاح (المؤدب) وكان مؤدب موسى الهادي فيما وصله ابن مردوبه في تفسيره من طريق منصور بن أبي مزاحم عنه
(ومحمد بن بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة العبدي الكوفي فيما وصله الإمام أحمد عنه بتمام الحديث (وعبدة) بن سليمان فيما وصله مسلم وابن ماجة الثلاثة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- (يزيد بعضهم) في روايته (على بعض) فأما لفظ رواية ابن مردويه فهو: قالت التي وهبت نفسها للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خولة بنت حكيم وأما رواية الإمام أحمد عنها فهو كانت تعير اللاتي وهبن أنفسهن فلما نزلت: {ترجي من تشاء منهن} قالت: إني لأرى ربك يسارع لك في هواك، وأما رواية مسلم فلفظها أنها كانت تقول: أما تستحي المرأة تهب نفسها لرجل حتى أنزل الله {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} [الأحزاب: 51] فقلت: إن ربك يسارع لك في هواك وإنما قالت عائشة: ذلك لما عندها من الغيرة التي طبعت عليها النساء، وإلاّ فقد علمت أن الله تعالى قد أباح لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن جميع النساء لو ملكه الله رقعهن لكان قليلًا فيغتفر في الغيرة ما لا يغتفر في غيرها من الحالات والله أعلم.

30 - باب نِكَاحِ الْمُحْرِمِ
(باب نكاح المحرم) بالحج أو العمرة أو بهما هل يجوز أم لا؟ والذي ذهب إليه الشافعية الثاني سواء كان الإحرام صحيحًا أو فاسدًا لحديث مسلم عن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه مرفوعًا: المحرم لا ينكح ولا ينكح فيبطل النكاح بحرام أحد الزوجين أو العاقدين من ولي ولو حاكمًا، وتنتقل الولاية للحاكم لا للأبعد إذ الإحرام لا يسلب الولاية لبقاء الرشد والنظر، وإنما يمنع النكاح كما يمنعه إحرام الزوج والزوجة، ولو أحرم الولي أو الزوج فعقد وكيله الحلال لم يصح لأن الوكيل سفير محض، فكان كالعاقد الموكل ولو أحرم السلطان أو القاضي فلخلفائه أن يزوجوه لأن تصرفهم بالولاية لا بالوكالة كما جزم به الخفاف وصححه الروياني، وقيل هذا في السلطان لا في القاضي لأن خلفاءه لا ينعزلون بموته وانعزاله بخلاف خلفاء القاضي ويصح بشهادة المحرم لأنه ليس بعاقد ولا معقود ولو راجع امرأته وهو محرم صح لأنها استدامة كالإمساك في دوام النكاح لا ابتداء عقد، وفي انعقاد النكاح ابتداء من المحرم

(8/41)


بين التحللين قولان صحّح الرافعي الصحة لأنه من المحرمات التي لا توجب تعاطيها إفسادًا فأشبهت الحلق وصحح النووي البطلان لأنه محرم. وقال الحنفية: يجوز تزويج المحرم والمحرمة حالة الإحرام دون الوطء ولو كان المزوّج لها محرمًا قالوا: وهو قول ابن مسعود وابن عباس وأنس بن مالك وجمهور التابعين إذ هو عقد معاوضة والمحرم غير ممنوع منه كشراء الجارية للتسري، ولو جعل عقد النكاح بمنزلة ما هو المقصود به وهو الوطء لكان تأثيره في إيجاب الجزاء أو فساد الإحرام لا في بطلان النكاح، وحديث عثمان ضعيف قاله البخاري، لأن في إسناده بيّنة ابن وهب ولا يلزم حجة. ولئن صح فهو محمول على الوطء لأنه الحقيقة أي لا يطأ المحرم واستدلوا لذلك بحديث الباب وهو ما رويناه بالسند إلى البخاري قال.
5114 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو وحَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ
قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- تَزَوَّجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ مُحْرِمٌ.
(حدّثنا مالك بن إسماعيل) بن زياد النهدي الكوفي قال: (أخبرنا) ولأبي ذر: حدّثنا (ابن عيينة) سفيان قال: (أخبرنا عمرو) بفتح العين ابن دينار قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا (جابر بن زيد) أبو الشعثاء (قال: أنبأنا) ولأبي ذر أخبرنا (ابن عباس -رضي الله عنهما-) قال: (تزوّج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو) أي والحال أنه (محرم) بعمرة القضية، وسبق في أواخر الحج من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس تزوّج ميمونة وهو محرم، وسبق أيضًا في عمرة القضاء من رواية عكرمة بلفظ حديث الأوزاعي. وزاد: وبنى بها وهو حلال وهذا قد عدّ من خصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أن أكثر الروايات أنه تزوجها وهو حلال، وعند مسلم عن يزيد بن الأصم قال: حدّثتني ميمونة أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس. وعند الترمذي وابن خزيمة وابن حبان عن أبي رافع في صحيحهما أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوج ميمونة وهو حلال وبني بها وهو حلال. وكنت أنا الرسول بينهما.
وقرأت في كتاب المعرفة للبيهقي بسنده إلى الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث أبا رافع مولاه ورجلًا من الأنصار فزوّجاه ميمونة بنت الحارث وهو بالمدينة قبل أن يخرج، وقد ردّ الشافعي بذلك رواية ابن عباس الأولى، واحتج على المخالف بحديث عثمان السابق الثابت، وبأن عثمان كان غير غائب عن نكاح ميمونة وبأن ابن أختها يزيد بن الأصم يقول: نكحها حلالًا ومعه سليمان بن يسار عتيقها أو ابن عتيقها وخبر اثنين أكثر من خبر واحد مع رواية عثمان التي هي أثبت من هذا كله. ولئن سلمنا أن الخبرين تكافآ، نظرنا فيما فعل أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعده، وقد رأينا عمر وزيد بن ثابت يردّان نكاح المحرم ويقول ابن عمران: المحرم لا يَنكَح ولا يُنكَح ولا أعلم من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مخالفًا لذلك، وقد روينا عن الحسن أن عليًّا قال: من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ولم نجز نكاحه انتهى. ملخصًا من كتاب المعرفة.
وهذا الحديث سبق في كتاب الحج في باب تزويج المحرم، والظاهر من صنيع البخاري الجواز كالحنفية.

31 - باب نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ آخِرًا
(باب نهي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) نهي تحريم (عن نكاح المتعة آخرًا) ولأبي ذر أخيرًا وهو المؤقت بمدة معلومة كسنة أو مجهولة كقدوم زيد وسمي بذلك لأن الغرض منه مجرد التمتع دون التوالد وسائر أغراض النكاح، وقد كان جائزًا في صدر الإسلام للمضطر كأكل الميتة ثم حرم كما أفهمه قول المصنف، ويأتي إن شاء الله تعالى ما ورد فيه.
5115 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ عَلِيًّا -رضي الله عنه- قَالَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ.
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) النهدي قال: (حدّثنا ابن عيينة) سفيان (أنه سمع الزهري) محمد بن مسلم (يقول أخبرني) بالإفراد (الحسن بن محمد بن علي) أي ابن أبي طالب (وأخوه) أي أخو الحسن (عبد الله) أبو هاشم ولأبي ذر عبد الله بن محمد كلاهما (عن أبيهما) محمد ابن الحنفية (أن) أباه (عليًّا -رضي الله عنه- قال لابن عباس) لما سمعه يفتي في متعة النساء أنه لا بأس بها (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن المتعة) في رواية أحمد عن سفيان عن نكاح المتعة (وعن لحوم الحمر الأهلية زمن

(8/42)


خيبر) ظرف للاثنين.
وفي غزوة خيبر من كتاب المغازي نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية لكن قال البيهقي فيما قرأته في كتاب المعرفة: وكان ابن عيينة يزعم أن تاريخ خيبر في حديث علي إنما هو في النهي عن لحوم الحمر الأهلية لا في نكاح المتعة. قال البيهقي: وهو يشبه أن يكون كما قال فقد روي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه رخص فيه بعد ذلك ثم نهى عنه فيكون احتجاج علي بنهيه آخرًا حتى تقوم به الحجة على ابن عباس، وقال السهيلي: النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ولا رواة الأثر فالذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهري انتهى.
واتفق أصحاب الزهري كلهم على خيبر بالخاء المعجمة والراء آخره إلا ما رواه عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن مالك في هذا الحديث، فقال حنين بالحاء المهملة والنونين أخرجه النسائي والدارقطني وقالا إنه وهم تفرّد به، وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة والذي تحصل من ذلك أن أولها خيبر ثم عمرة القضاء كما رواه عبد الرزاق من مرسل الحسن البصري ومراسيله ضعيفة لأنه كان يأخذ عن كل أحد ثم الفتح كما في مسلم بلفظ: إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ثم أوطاس كما في مسلم بلفظ رخص لنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام أوطاس في المتعة ثلاثًا ثم نهى عنها، لكن يحتمل أنه أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما لكن يبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح قبلها في الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة ثم تبوك فيما أخرجه إسحاق بن راهويه وابن حبان من طريقه من حديث أبي هريرة وهو ضعيف لأنه من رواية المؤمل بن إسماعيل عن عكرمة عن عمار وفي كلٍّ منهما مقال، وعلى تقدير صحته فليس فيه أنهم استمتعوا في تلك الحالة أو كان النهي قديمًا فلم يبلغ بعضهم فاستمر على الرخصة ولذلك قرن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النهي بالغضب كما في رواية الحازمي من حديث جابر لتقدم النهي عنه ثم حجة الوداع كما عند أبي داود بلفظ لكن اختلف فيه علي الربيع بن سبرة والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي، فلعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد إعادة النهي ليسمعه من لم يسمعه قبل ويقوّيه أنهم كانوا حجوا بنسائهم بعد أن وسع الله عليهم بفتح خيبر من
المال والسبي فلم يكونوا في شدة ولا طول عزوبة فلم يبق صحيح صريح سوى خيبر والفتح مع ما وقع في خيبر من الكلام، وأيّده ابن القيم في الهدي بأن الصحابة لم يكونوا يستمتعون باليهوديات. وقال النووي: الصواب والمختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين فكانت حلالًا قبل خيبر ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت يوم الفتح وهو يوم أوطاس لاتصالها بها ثم حرمت يومئذٍ بعد ثلاثة أيام تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة.
وسبق هذا الحديث في المغازي في غزوة خيبر.
5116 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. نَعَمْ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بندار العبدي قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي جمرة) بالجيم والراء نصر بن عمران الضبعي البصري أنه (قال: سمعت ابن عباس) -رضي الله عنهما- (سئل) بضم السين ولأبي ذر يسأل بتحتية مضمومة بلفظ المضارع مبنيًّا للمفعول فيهما (عن متعة النساء فرخص) فيها (فقال له مولى له): قيل: إنه عكرمة (إنما ذلك) الترخيص (في الحال الشديد) من قوّة الشهوة والعزوبة (وفي النساء قلة). وعند الإسماعيلي إنما كان ذلك في الجهاد والنساء قلائل (أو) قال: (نحوه فقال ابن عباس: نعم) أي صدق إنما رخص فيها بسبب العزوبة في حال السفر.
5117 - 5118 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالا: َ كُنَّا فِي جَيْشٍ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا».
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن عبد الله المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال عمرو): بفتح العين ابن دينار (عن الحسن بن محمد) أي ابن علي بن أبي طالب (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (وسلمة بن الأكوع) -رضي الله عنهم- أنهما (قالا: كنا في جيش) بالجيم المفتوحة والتحتية الساكنة بعدها معجمة (فأتانا رسول رسول الله

(8/43)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قيل إنه بلال، وللكشميهني مما في اليونينية رسول رسول رسول الله فلينظر (فقال: إنه قد أذن لكم) بضم الهمزة (أن تستمتعوا) زاد شعبة عند مسلم يعني متعة النساء (فاستمتعوا) بفتح المثناة الفوقية بلفظ الماضي وكسرها بلفظ الأمر.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في النكاح.
5119 - حدثنا وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلاَثُ لَيَالٍ، فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا
تَتَارَكَا» فَمَا أَدْرِي أَشَيْءٌ كَانَ لَنَا خَاصَّةً، أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَبَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مَنْسُوخٌ.
(وقال ابن أبي ذئب) هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب فيما وصله الطبراني والإسماعيلي وغيرهما (حدّثني) بالإفراد (إياس بن سلمة بن الأكوع) بكسر الهمزة وتخفيف الياء (عن أبيه عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال:
(أيما رجل وامرأة توافقا) في النكاح بينهما مطلقًا من غير ذكر أجل (فعشرة ما بينهما ثلاث ليال) بفاء مفتوحة فعين مكسورة فمعجمة ساكنة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بعشرة بموحدة مكسورة بدل الفاء قال في الفتح وبالفاء أصح والمعنى أن إطلاق الأجل محمول على التقييد بثلاثة أيام بلياليهن (فإن أحبا) الرجل والمرأة بعد انقضاء الثلاث (أن يتزايدا) في المدة تزايدًا أو أن يتناقصًا تناقصًا (أو) أحبا أن (يتتاركا) التوافق ويتفارقا (تتاركا) قال سلمة بن الأكوع: (فما أدري أشيء كان) الجواز (لنا) معشر الصحابة (خاصة أم) كان (للناس عامة) نعم وقع في حديث أبي ذر عند البيهقي أنها أحلّت للصحابة ثلاثة أيام ثم نهى عنها.
(قال أبو عبد الله) البخاري: (وبينه) ولأبي ذر وقد بينه أي حكم المتعة (علي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه منسوخ). وقد وقع الإجماع على تحريمها إلا الروافض وقد نقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: هي الزنا بعينه، واختلف هل يحدّ ناكح المتعة أم لا؟ وهو مبني على أن الاتفاق بعد الخلاف هل يرفع الخلاف المتقدّم، ومذهب الشافعية سقوط الحدّ ولو علم فساده لشبهة اختلاف العلماء ولو قال نكحتها متعة ولم يزد عليه فباطل يسقط بالوطء وفيه الحد ويلزم بالوطء فيه المهر والنسب والعدة، وأما نكاح المحلل فإن شرط في العقد أنه يحللها للذي طلقها ثلاثًا أو إذا وطئها لا نكاح بينهما أو أنه إذا حللها طلقها لا يصح لأنه عقد شرط قطعه دون غايته فيبطل كنكاح المتعة، فإن عقد النكاح ليحلها لكنه لم يشرطه في صلب العقد صح النكاح لخلوّه عن المفسدة وكره.

32 - باب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ
(باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح) لينكحها رغبة في صلاحه.
5120 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْحُومٌ قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ، قَالَ أَنَسٌ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَكَ بِي حَاجَةٌ؟ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَاسَوْأَتَاهْ. وَاسَوْأَتَاهْ قَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا. [الحديث 5120 - أطرافه في: 6123].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا مرحوم) البصري مولى آل أبي سفيان
ولأبي ذر مرحوم بن عبد العزيز بن مهران بكسر الميم (قال: سمعت ثابتًا البناني قال: كنت عند أنس وعنده ابنة له) قال في الفتح: لم أقف على اسمها وأظنها أمينة بالتصغير (قال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعرض عليه نفسها) ليتزوجها (قالت: يا رسول الله ألك بي حاجة؟ فقالت بنت) ولأبي ذر: ابنة (أنس: ما أقل حياءها واسوأتاه واسوأتاه) مرتين وهي الفعلة القبيحة والألف للندبة والهاء للسكت (قال) أن لابنته (هي) أي المرأة التي عرضت نفسها عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (خير منك رغبت في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعرضت عليه نفسها) فيه جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح وأنه لا عار عليها في ذلك بل فيه دلالة على فضيلتها نعم إن كان لغرض دنيوي فقبيح.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في النكاح.
5121 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا. فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ»؟ قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: «اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي وَلَهَا نِصْفُهُ، قَالَ سَهْلٌ: وَمَا لَهُ رِدَاءٌ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ». فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلَسُهُ قَامَ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَعَاهُ، أَوْ دُعِي لَهُ فَقَالَ لَهُ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»؟ فَقَالَ لَهُ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ».
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) الجمحي نسبه لجده الأعلى لشهرته به قال: (حدّثنا أبو غسان) بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة محمد بن مطرف بكسر الراء المشددة الليثي المدني (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو حازم) سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) ثبت ابن سعد لأبي ذر الأنصاري -رضي الله عنه- (أن امرأة عرضت نفسها على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فقال له رجل: يا رسول الله زوّجنيها) زاد في رواية إن لم يكن لك بها حاجة (فقال) ولأبي ذر قال عليه الصلاة والسلام له:
(ما عندك)؟ تصدقها (قال) الرجل: (ما عندي شيء) أصدقها إياه (قال) عليه الصلاة والسلام: (اذهب)

(8/44)


إلى أهلك (فالتمس) زاد في رواية شيئًا. واستدلّ بها على جواز كل ما يتموّل في الصداق من غير تحديد ولفظ شيء وإن كان يطلق على غير المال لكنه مخصوص بدليل آخر، وذلك أنه عوض كالثمن في البيع فاعتبر فيه ما يعتبر في الثمن مما دلّ الشرع على اعتباره فيه والالتماس افتعال من اللمس فهو استعارة والمراد الطلب والتحصيل لا حقيقة اللمس (ولو) كان الملتمس (خاتمًا من حديد) فإنه جائز (فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئًا ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزاري) ليس نصفه (ولها نصفه) صداقًا (قال سهل) -رضي الله عنه-: (وما له رداء فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وما تصنع بإزارك وإن لبسته) ولأبي ذر إن لبست بحذف الضمير المنصوب (لم يكن
عليها من شيء) كذا في الفرع والذي في اليونينية لم يكن عليها منه شيء (وإن لبسته) هي (لم يكن عليك منه شيء. فجلس الرجل حتى طال مجلسه) بفتح اللام مصححًا عليها في الفرع كأصله وفي غيرهما بكسرها أي جلوسه (قام) ليذهب (فرآه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدعاه أو دعي له) أي دعاه بنفسه أو أمر من دعاه والشك من الراوي (فقال له: ماذا معك من القرآن)؟ أي ما تحفظ منه (فقال له: معي سورة كذا وسورة كذا) مرتين وزاد أبو ذر عن الكشميهني وسورة كذا (لسور يعدّدها) في فوائد تمام أنها تسع سور من المفصل، وقيل كان معه إحدى وعشرون آية من البقرة وآل عمران. رواه أبو داود. (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أملكناكها) ولأبي ذر أمكناكها من التمكين والأولى من التمليك وفي رواية: زوّجتكها وهي رواية الأكثر وصوّبها الدارقطني وجمع النووي بأنه جرى لفظ التزويج أولًا ثم لفظ التمليك أو التمكين ثانيًا لأنه ملك عصمتها بالتزويج وتمكّن به منها والباء في قوله (بما معك من القرآن) للمعاوضة والمقابلة على تقدير مضاف أي زوّجتك إياها بتعليمك إياها ما معك من القرآن، ويؤيده أن في مسلم انطلق: فقد زوجتكها فعلّمها ما معك من القرآن، أو هي للسببية أي بسبب ما معك من القرآن فيخلو النكاح عن المهر فيكون خاصًّا بهذه القضية أو يرجع إلى مهر المثل وبالأول جزم الماوردي.

33 - باب عَرْضِ الإِنْسَانِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ
(باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير) ليتزوجوا بها.
5122 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يُحَدِّثُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا. قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِي. ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قَالَ عُمَرُ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلاَّ أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبِلْتُهَا.
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إسحاق الزهري (عن صالح بن كيسان) بفتح
الكاف (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (سالم بن عبد الله أنه سمع) أباه (عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يحدّث أن عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- (حين تأيمت حفصة بنت عمر) بفتح الهمزة والتحتية المشددة أي صارت أيمًا (من خنيس بن خذافة) بضم الخاء المعجمة وفتح النون وبعد التحتية الساكنة مهملة وحذافة بالحاء المهملة المضمومة بعدها معجمة فألف ففاء (السهمي) بالسين المهملة البدري (وكان من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتوفي بالمدينة) من جراحة أصابته يوم أُحُد، وجزم ابن سعد بأنه مات عقب قدوم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بدر (فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه) أن يتزوج (حفصة فقال: سأنظر في أمري) أي أتفكّر فيه (فلبثت ليالي ثم لقيني) عثمان (فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا قال) وفي رواية فقال (عمر: فلقيت أبا بكر الصدّيق) -رضي الله عنه- (فقلت) له: (إن شئت زوّجتك حفصة بنت عمر فصمت) أي سكت (أبو بكر فلم يرجع إليّ شيئًا) بفتح الياء وكسر الجيم وهذا تأكيد لرفع المجاز لاحتمال أن يظن أنه سكت زمانًا ثم تكلم قال عمر: (وكنت أوجد) أي أشد موجدة أي غضبًا (عليه) على أبي بكر (مني) أي من غضبي (على عثمان) لقوّة المودّة بينه وبين أبي بكر ولأن عثمان أجابه أولًا ثم اعتذر (فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: لعلك) ولأبي ذر عن الحموى والمستملي لقد (وجدت عليّ حين عرضت عليّ حفصة

(8/45)


فلم أرجع إليك شيئًا) بكسر الجيم أي لم أعد عليك جوابًا (قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعي أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أني كنت علمت أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد ذكرها فلم أكن لأفشي سرّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولو تركها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبلتها) فيه كتمان السر فإن أفشاه صاحبه ساغ للذي أسرّ إليه إظهاره فلو حلف لا يفشي سرّ فلان فأفشى فلان سرّ نفسه ثم تحدّث به الحالف لا يحنث لأن صاحب السرّ هو الذي أفشاه.
وهذا الحديث قد سبق في المغازي.
5123 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ؟ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك) بكسر العين المهملة (أن زينب ابنة) ولأبي ذر بنت (أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان (قالت لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنا قد تحدّثنا أنك ناكح) أي تريد أن تنكح (درّة بنت أبي سلمة فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أعلى أم سلمة)؟ أتزوجها استفهام إنكاري (لو لم أنكح) أمها (أم سلمة ما حلّت لي إن أباها) أبا سلمة (أخي من الرضاعة).
فإن قلت ما وجه المطابقة بين هذا الحديث والترجمة؟ أجيب بأنه طرف من الحديث السابق في باب: وأن تجمعوا بين الأختين، وفيه قالت أم حبيبة: يا رسول الله انكح أختي فعرضت أختها عليه.

34 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ} الآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} {أَكْنَنْتُمْ}: أَضْمَرْتُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ فَهْوَ مَكْنُونٌ
(باب قول الله عز وجل: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء}) أي في عدّة رجعية ({أو أكننتم في أنفسكم علم الله} الآية إلى قوله: {غفور حليم}) [البقرة: 235] وسقط قوله: أو أكننتم إلى آخره لأبي ذر: ({أكننتم}): أي ({أضمرتم}) ولأبي ذر أو أكننتم وسترتم (في أنفسكم) في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين، (وكل شيء صنته وأضمرته فهو مكنون) قاله أبو عبيدة، وثبت لأبي ذر وأضمرته.
5124 - وَقَالَ لِي طَلْقٌ بْنُ غَنَّامٍ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} يَقُولُ: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: يَقُولُ إِنَّكِ عَلَيَّ كَرِيمَةٌ، وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا، أَوْ نَحْوَ هَذَا، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُعَرِّضُ وَلاَ يَبُوحُ، يَقُولُ: إِنَّ لِي حَاجَةً، وَأَبْشِرِي، وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ، وَتَقُولُ هِيَ: قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ وَلاَ تَعِدُ شَيْئًا، وَلاَ يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا، وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلًا فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: {لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} الزِّنَا. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {الْكِتَابُ أَجَلَهُ} تَنْقَضِي الْعِدَّةُ.
قال المؤلّف: (وقال لي طلق) بفتح الطاء المهملة وسكون اللام بعدها قاف ابن غنام بالمعجمة وتشديد النون النخعي الكوفي أحد مشايخ المؤلّف (حدّثنا زائدة) بن قدامة (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن مجاهد) هو ابن جبر (عن ابن عباس) أنه قال في تفسير قوله تعالى: ({فيما عرّضتم به من خطبة النساء} يقول: إني أريد التزويج ولوددت: أنه تيسر ليس امرأة صالحة) بفتح الفوقية والتحتية والسين المهملة المشددة في الفرع كأصله، ولأبي ذر عن الكشميهني: يسر بضم الياء التحتية وكسر السين مبنيًّا للمفعول.
(وقال القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم- فيما وصله مالك وابن أبي شيبة (يقول) في التعريض: (إنك عليّ كريمة وإني فيك لراغب) وهذا يدل على أن التصريح بالرغبة فيها سائغ وأنه لا يكون تصريحًا حتى يصرح بمتعلق الرغبة كان يقول إني في نكاحك لراغب (و) من التعريض أيضًا قوله (إن الله لسائق إليك خيرًا أو نحو هذا) من ألفاظ التعريض
كإذا حللت فآذنيني ومن يجد مثلك. وفي حديث مسلم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لفاطمة بنت قيس: (إذا حللت فآذنيني).
(وقال عطاء): هو ابن أبي رباح فيما وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه مفرّقًا (يعرّض) بالخطبة (ولا يبوح) أي ولا يصرح (يقول: إن لي حاجة وأبشري) بقطع الهمزة (وأنت بحمد الله نافقة). والحكمة في ذلك أنه إذا صرح تحققت رغبته فيها فربما تكذب في انقضاء العدّة ويحرم التصريح بها لمعتدّة من غيره رجعية كانت أو بائنًا بطلاق أو فسخ أو موت أو معتدّة عن شبهة لمفهوم هذه الآية والإجماع والرجعية في معنى المنكوحة والتصريح ما يقطع بالرغبة في النكاح كإذا انقضت عدّتك نكحتك (وتقول هي) في التعريض (عد أسمع ما تقول ولا تعد شيئًا) بكسر العين وتخفيف الدال المهملتين أي لا تعده بالعقد وأنها لا تتزوّج غيره مثلًا (ولا يواعد) أي الرجل (وليها) بالرفع فاعلًا (بغير علمها) كذا في الفرع وفي اليونينية ولا يواعد بالجزم على النهي وليها بالنصب على المفعولية (وإن واعدت) أي المرأة (رجلًا في عدّتها ثم نكحها) تزوجها (بعد) أي بعد انقضاء عدتها (لم يفرق

(8/46)


بينهما) لأن ذلك ليس قادحًا في صحة النكاح وإن أثما.
قال في الكشاف، فإن قلت: أي فرق بين الكناية والتعريض؟ قلت: الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن تذكر شيئًا تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا:
وحسبك بالتسليم مني تقاضيا
وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده انتهى.
وقال بعض أئمة الشافعية: ولا فرق كما اقتضاه كلامهم يعني الفقهاء بين الحقيقة والمجاز والكناية، وهي ما يدل على الشيء بذكر لوازمه كقولك: فلان طويل النجال للطويل وكثير الرماد للمضياف ومثالها هنا للتصريح، أريد أن أنفق عليك نفقة الزوجات، وأتلذذ بك وللتعريض أريد أن أنفق عليك نفقة الزوجات فكلٍّ من الثلاثة إن أفاد القطع بالرغبة في النكاح فهو تصريح أو الاحتمال لها فتعريض، وكون الكناية أبلغ من التصريح المقرر في علم البيان لا ينافي ذلك فمن قال هنا الظاهر أنها كالتصريح لأنها أبلغ منه التبس عليه التصريح هنا بالتصريح ثم؛ انتهى.
(وقال الحسن) البصري فيما وصله عبد بن حميد ({لا تواعدوهن سرًّا}) أي (الزنا. ويذكر) مبني للمفعول (عن ابن عباس) مما وصله الطبري من طريق عطاء الخراساني عنه في قوله تعالى: {حتى يبلغ} ({الكتاب أجله}) ولأبي ذر ثبوت حتى يبلغ أي (تنقضي العدّة) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي انقضاء العدة.

35 - باب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ
(باب) استحباب (النظر إلى المرأة) والمرأة إلى الرجل (قبل التزويج) والخطبة لحديث المغيرة
عند الترمذي وحسنه والحاكم وصححه أنه خطب امرأة فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكم" أي تدوم بينكما المودة والألفة وأن يكون بعد العزم وقبل الخطبة لحديث أبي داود إذا ألفى امرؤ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها وإنما اعتبر ذلك قبل الخطبة لأنه لو كان بعد فلربما أعرض عنها فيؤذيها. وقيد ابن عبد السلام استحباب النظر بمن يرجو رجاءً ظاهرًا أنه يجُاب إلى خطبته دون غيره ولكلٍّ أن ينظر إلى الآخر وإن لم يأذن له اكتفاء بإذن الشارع سواء خشي فتنة أم لا، والمنظور غير العورة المقررة في شروط الصلاة فينظر الرجل من الحرّة الوجه والكفّين لأن الوجه يدل على الجمال والكفّين على خصب البدن، وينظر من الأمة ما عدا ما بين السرة والركبة وهما ينظرانه منه، والنووي إنما حرم نظر ذلك بلا حاجة مع أنه ليس بعورة لخوف الفتنة وهي غير معتبرة هنا فإن لم يتيسر نظره إليها بعث امرأة تتأملها وتصفها له لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث أم سليم إلى امرأة وقال: "انظري عرقوبيها وشمي عوارضها". رواه الحاكم وصححه والعوارض الأسنان التي في عرض الفم وهي ما بين الثنايا والأضراس وذلك لاختبار النكهة فإن لم تعجبه سكت ولا يقول لا أريدها لأنه إيذاء.
5125 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَأَيْتُكِ فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِي: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ»، فَقُلْتُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا حماد بن زيد عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(رأيتك في المنام) ولأبي ذر: أريتك بتقديم الهمزة على الراء مضمومة (يجيء بك الملك) جبريل (في سرقة) بفتح الراء أي قطعة (من حرير فقال لي: هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب) أي عن وجه صورتك (فإذا أنت هي) أي فإذا أنت الآن تلك الصورة أو كشفت عن وجهك عندما شاهدتك فإذا أنت مثل الصورة التي رأيتها في المنام. وهو تشبيه بليغ حيث حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولأبي ذر عن الكشميهني: فإذا هي أنت (فقلت إن يكُ هذا) الذي رأيته (من عند الله يمضه) وزاد في رواية في أوائل النكاح بعد قوله: رأيتك في المنام مرتين. واستدلّ به على تكرار النظر عند الحاجة إليه ليتبين الهيئة فلا يندم بعد النكاح. قال الزركشي ولم يتعرضوا لضبط التكرار ويحتمل تقديره بثلاث قال: وفي خبر

(8/47)


عائشة الذي ترجم عليه البخاري الرؤيا قبل الخطبة أريتك ثلاث ليال.
وقال ابن المنير: الاستشهاد بنظره عليه الصلاة والسلام إلى عائشة قبل تزوجها لا يستثبت لوجهين. أحدهما: أن عائشة كانت حين الخطبة ممن ينظر إليها لطفوليتها إذ كانت بنت خمس سنين وشيء ومثل هذا السن لا عورة فيه البتة، والثاني: أن رؤيته لها كانت منامًا أتاه بها
جبريل عليه السلام في سرقة من حرير أي تمثالها وحكم المنام غير حكم اليقظة انتهى.
وتعقبه فى المصابيح فقال: فيه نظر فتأمله انتهى.
ووجه النظر أن رؤيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النوم كاليقظة فإن رؤيا الأنبياء وحي.
وقد سبق الحديث والجواب عن قوله: إن يك من عند الله يمضه في أوائل النكاح في باب نكاح الأبكار.
5126 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ لأَهَبَ لَكَ نَفْسِي فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. فَقَالَ: «وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ»؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا». فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئًا. قَالَ: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ». فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ: سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ». فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلَسُهُ، ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»؟ قَالَ: مَعِي سُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا، عَدَّدَهَا، قَالَ: «أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا يعقوب) بن عبد الرحمن (عن أبي حازم) سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) بسكون الهاء والعين (أن امرأة جاءت رسول الله) ولأبي ذر إلى رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي) أي أن تتزوجني بلا مهر وقد عدّ هذا من خصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فنظر إليها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصعد النظر) بتشديد بالعين أي رفعه (إليها وصوّبه) بتشديد الواو خفضه (ثم طأطأ رأسه فلما رأت المرأة أنه) عليه الصلاة والسلام (لم يقضِ فيها شيئًا جلست. فقام رجل من أصحابه فقال: أي رسول الله إن لم تكن) بالفوقية (لك بها حاجة فزوّجنيها) لم يقل هبنيها لما ذكر أن ذلك من خصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المراد حقيقة الهبة لأن الحرّ لا يملك نفسه (فقال) عليه الصلاة والسلام له:
(وهل عندك من شيء) تصدقها (قال: لا والله يا رسول الله قال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئًا؟ فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئًا قال: انظر ولو) كان الذي تجده (خاتمًا من حديد) فأصدقها إياه فإنه سائغ (فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا)
وجدت (خاتمًا من حديد) ولأبي ذر ولا خاتم بالرفع أي ولا حضر خاتم من حديد (ولكن هذا إزاري قال سهل: ماله رداء فلها نصفه) صداقًا (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ما تصنع)؟ هي (بإزارك إن لبسته)؟ أنت (لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته) هي (لم يكن عليك شيء) وللكشميهني منه شيء (فجلس الرجل حتى طال مجلسه) بفتح اللام مصححًا عليها في الفرع كأصله (ثم قام فرآه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موليًا فأمر به فدعي فلما جاء قال) له: (ماذا معك من القرآن؟ قال: سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا) ثلاث مرات. ونصب سورة في الثلاث في اليونينية وفرعها فقط وبالرفع أيضًا في غيرهما (عدّدها) ولأبي ذر عادّها بألف بعد العين فدال مشدّدة فهاء وسبق تعيينها (قال: أتقرؤهن عن ظهر قلبك) أي من حفظك (قال: نعم. قال: اذهب فقد ملّكتكها بما معك من القرآن) وفي رواية الأكثرين زوّجتكها بدل ملّكتكها وقال في المصابيح: الباء للسببية فيكون هذا نكاح تفويض انتهى.
والتفويض ضربان تفويض مهر بأن تقول المرأة للولي زوّجنيه بما شاء أو بما شئت وتفويض بضع وهو أن تقول زوّجنيه بلا مهر فزوّجها نافيًا للمهر وساكتًا عنه وجب لها مهر المثل بالوطء لأن الوطء لا يُباح بالإباحة لما فيه من حق الله تعالى أو بموت أحدهما قبل الوطء والفرض لأنه كالوطء في تقرير المسمى، فكذا في إيجاب مهر المثل في التفويض، ولأن بروع بنت واشق نكحت بلا مهر، فمات زوجها قبل أن يفرض لها فقضى لها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمهر نسائها وبالميراث. رواه أبو داود. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال المالكية: تستحق المفوّضة الصداق بالوطء لا بالعقد ولا بالموت أو الطلاق سواء مات هو أو هي وهو المشهور إلا أن يفرض وترضى فيشطر المفروض بالطلاق قبل البناء. قال ابن عبد السلام: وهو ظاهر أن فرض صداق المثل أو دونه ورضيت به، وقال الحنابلة: بالعقد. وسقط قوله: فلما رأت المرأة الخ للحموي، وقال: بعد قوله ثم طأطأ

(8/48)


رأسه وذكر الحديث كله.

36 - باب مَنْ قَالَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ، وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ. وَقَالَ: {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَقَالَ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}
(باب من قال: لا نكاح إلا بولي لقول الله تعالى: {فلا تعضلوهن}) [البقرة: 232] أي لا تحبسوهن. وقال إمامنا الشافعي: إن هذه الآية أصرح دليل على اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى، وعبارته في المعرفة للبيهقي إنما يؤمر بأن لا يعضل من له سبب إلى العضل بأن يكون يتم به له نكاحها من الأولياء. قال: وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقًّا وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف انتهى.
وقال البخاري: (فدخل فيه) في النهي عن العضل (الثيب وكذلك البكر) لعموم لفظ النساء
(وقال) تعالى مخاطبًا للرجال: ({ولا تنكحوا}) أي أيها الأولياء مولياتكم ({المشركين حتى يؤمنوا}) [البقرة: 221] (وقال) عز وجل: ({وأنكحوا الأيامى}) جمع أيم ({منكم}) ولم يخاطب النساء فلا تعقد امرأة نكاحًا لنفسها ولا لغيرها بولاية إذ لا يليق بمحاسن العادات دخولها فيه لما قصد منها من الحياء وعدم ذكره أصلًا، وفي حديث ابن ماجة المرفوع لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها. وأخرجه الدارقطني بإسناد على شرط الشيخين، واستنبط المؤلّف الحكم من الآيات والأحاديث الآتية لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة ليس على شرطه، وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث أبي موسى، فلو وطئ في نكاح بلا ولي بأن زوّجت نفسها ولم يحكم حاكم بصحته ولا ببطلانه لزمه مهر المثل دون المسمى لفساد النكاح، ولحديث الترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم وصححاه أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثًا فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها الحديث ويسقط عنه الحدّ لشبهة اختلاف العلماء في صحته نعم يعزر معتقد تحريمه لارتكابه محرّمًا ولا حدّ فيه ولا كفّارة، وقال أبو حنيفة: لو زوجت نفسها وهي حرة عاقلة بالغة أو وكّلت غيرها أو توكّلت به جاز بلا ولي وكان أبو يوسف أوّلًا يقول: لا ينعقد إلا بولي إذا كان لها ولي ثم رجع وقال: إن كان الزوج كفؤًا لها جاز وإلا فلا.
ثم رجع وقال: جاز سواء كان الزوج كفؤًا لها أو لم يكن. وعند محمد ينعقد موقوفًا على إجازة الولي سواء كان الزوج كفوءًا لها أو لم يكن، ويروى رجوعه إلى قولهما. واستدلّ لذلك بقوله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن} [البقرة: 234] وقوله: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 132] وفوله: {حتى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 230] فهذه الآيات تصرّح بأن النكاح ينعقد بعبارة النساء لأن النكاح المذكور منسوب إلى المرأة من قوله: أن ينكحن، وحتى تنكح. وهذا صريح بأن النكاح صادر منها، وكذا قوله: فيما فعلن، وأن يتراجعا صرّح بأنها هي التي تفعل وهي التي ترجع، ومن قال لا ينعقد بعبارة النساء فقد رد النص، وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الأيم أحق بنفسها من وليها" متفق على صحته، واستدلالهم بالنهي عن العضل لا يستقيم لأنه نهي عن المنع عن مباشرتها العقد، فليس له أن يمنعها المباشرة بعد ما نهي عنه، وقد قال البخاري: لم يصح في باب النكاح حديث دل على اشتراط الولي في جوازه ولئن سلم يكون محمولًا على الأمة والصغيرة انتهى.
5127 - قَالَ: يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ ح حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا. وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ
ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاِسْتِبْضَاعِ، وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ لَيَالي بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، تَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ، فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ، وَنِكَاحُ الرَّابِعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا لَهُمُ الْقَافَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ، فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ، إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) بن يحيى بن سعيد بن مسلم بن عبيد بن مسلم شيخ المؤلّف قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله (عن يونس) بن يزيد الأيلي فيما أخرجه الدارقطني من طريق أصبغ وأبو نعيم في مستخرجه من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب والإسماعيلي والجوزقي من طريق عثمان بن صالح عن ابن وهب.
قال المؤلّف: (حدّثنا) ولأبي ذر وحدّثنا (أحمد بن صالح) أبو جعفر المصري قال: (حدّثنا عنبسة) بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الموحدة والسين المهملة ابن خالد ابن أخي يونس واللفظ المسوق له قال: (حدّثنا يونس) الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرته أن النكاح في) زمن (الجاهلية كان على أربعة أنحاء) بالحاء المهملة أي أنواع (فنكاح منها) وهو

(8/49)


الأول (نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته) كابنة أخيه (أو ابنته) للتنويع لا للشك وثبت وليته لأبي ذر عن الكشميهني (فيصدقها) بضم الياء وسكون الصاد أي يعين صداقها ويسمى مقداره (ثم ينكحها) أي يعقد عليها.
(ونكاح آخر) وهو الثاني (كان الرجل يقول: لامرأته إذا طهرت) بفتح الطاء المهملة وضم الهاء (من طمثها) بفتح الطاء المهملة وسكون الميم بعدها مثلثة أي حيضها ليسرع علوقها (أرسلي إلى فلان) رجل من أشرافهم (فاستبضعي) أي اطلبي (منه) المباضعة وهي الجماع لتحملي منه (ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها) جامعها (زوجها إذا أحب وإنما يفعل) الزوج (ذلك) الاستبضاع (رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع).
(ونكاح آخر) وهو الثالث (يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها) يطؤها (فإذا حملت ووضعت ومرّ ليالي) ولغير أبي ذر ومرّ عليها ليالي (بعد أن تضع حملها أرسلت
إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم) بلفظ الجمع ولأبي ذر عن الكشميهني عرفت تخاطب الواحد (الذي كان من أمركم وقد ولدت) بتاء المتكلمة (فهو ابنك يا فلان تسمي مَن أحبّت باسمه فيلحق به) بفتح الياء والحاء أي بالرجل الذي تسميه (ولدها) رفع بيلحق (لا يستطيع أن يمتنع به) ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني منه (الرجل) الذي تسميه.
(ونكاح الرابع) بالإضافة أي ونكاح النوع الرابع وهو من إضافة الشيء لنفسه على رأي الكوفيين (يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة) يطؤونها (لا تمتنع ممن) ولأبي ذر لا تمنع من (جاءها) من وطئها (وهن البغايا) جمع بغي وهي الزانية (كن ينصبن) بكسر الصاد (على أبوابهن رايات تكون علمًا) بفتح اللام علامة (فمن) ولأبي ذر عن الكشميهني لمن (أرادهن دخل عليهن) فيطؤهن (فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا) بضم الجيم وكسر الميم (لها) أي جمعوا لها الناس (ودعوا لها القافة) بالقاف وتخفيف الفاء الذين يلحقون الولد بالوالد بالآثار الخفية (ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط) بفوقية بعدها ألف فطاء مهملة أي التصق (به) ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني: فالتاطته ألحقته به (ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالحق هدم نكاح) أهل (الجاهلية كله) ما ذكرته وغيره (إلا نكاح الناس اليوم) وهو أن يخطب إلى الولي ويزوّجه كما سبق.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في النكاح.
5128 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ: هَذَا فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِي مَالِهِ، وَهْوَ أَوْلَى بِهَا فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا، وَلاَ يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِي مَالِهَا.
وبه قال: (حدّثنا يحيى) هو ابن موسى المشهور بخت أو ابن جعفر البخاري البيكندي قال: (حدّثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) -رضي الله عنها- في تفسير قوله تعالى: {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن}) [النساء: 127] (قالت: هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل) وفي تفسير النساء هو وليها ووارثها (لعلها أن تكون شريكته في ماله وهو أولى بها فيرغب) عن (أن) ولأبي ذر عنها أن (ينكحها) بفتح الياء أي يتزوج بها (فيعضلها) بضم الضاد المعجمة أي بمنعها أن تتزوج غيره (لمالها ولا ينكحها غيره) بضم الياء (كراهية) نصب على التعليل مضاف إلى المصدر وهو قوله: (أن يشركه أحد) ممن يتزوجها (في مالها) زاد في سورة النساء: فنزلت هذه الآية.
5129 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي
سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنِ ابْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ: بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا. قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد قال: (حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالتوحيد (سالم أن) أباه (ابن عمر أخبره أن) أباه (عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (حين تأيمت حفصة بنت عمر من ابن حذافة) خنيس (السهمي وكان من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أهل بدر توفي بالمدينة) من جراح نالته في سبيل الله (فقال عمر:

(8/50)


لقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه) تزويج حفصة (فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة فقال: سأنظر في أمري) أتفكّر فيه (فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت وإن شئت أنكحتك حفصة) الحديث وتقدم بتمامه قريبًا، والمراد منه هنا قوله: إن شئت أنكحتك حفصة.
5130 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنَّ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن أبي عمرو) حفص النيسابوري قاضيها (قال: حدّثني) بالتوحيد (أبي) حفص بن عبد الله بن راشد (قال: حدّثني) بالتوحيد أيضًا (إبراهيم) بن طهمان (عن يونس) بن عبيد البصري (عن الحسن) البصري أنه (قال) في تفسير قوله تعالى: ({فلا تعضلوهن}) [البقرة: 132] (قال: حدّثني) بالإفراد (معقل بن يسار) بالسين المهملة المخففة المزني (أنها نزلت فيه قال: زوجت أختًا لي) اسمها جميل بضم الجيم وفتح الميم بنت يسار بن عبد الله المزني وقيل اسمها ليلى قاله المنذري تبعًا للسهيلي في مبهمات القرآن. وعند ابن إسحاق فاطمة فيكون لها اسمان ولقب أو لقبان واسم (من رجل) اسمه أبو البدّاح بفتح الموحدة والدال المهملة المشددة وبعد الألف حاء مهملة ابن عاصم بن عديّ القضاعي حليف الأنصار كما في أحكام القرآن لإسماعيل القاضي، واستشكله الذهبي بأن أبا البدّاح تابعي على الصواب، قال في الفتح: فيحتمل أن يكون آخر، فقد جزم بعض المتأخرين بأنه البدّاح بن عاصم (فطلقها حتى إذا انقضت عدتها) منه (جاء يخطبها) من أخيها (فقلت له زوجتكـ) ـها (وفرشتك) لأبي ذر وأفرشتك أي
جعلتها لك فراشًا (وأكرمتك) بذلك (فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك أبدًا. وكان رجلًا لا بأس به) أي جيدًا (وكانت المرأة) جميل (تريد أن ترجع إليه فأنزل الله) تعالى: (هذه الآية: {فلا تعضلوهن}) الآية. وهو ظاهر أن العضل يتعلق بالأولياء (فقلت: الآن أفعل يا رسول الله قال: فزوّجها إياه) بعقد جديد. وفي رواية الثعلبي فإني أؤمن بالله فأنكحتها إياه وكفّر عن يمينه.
وهذا الحديث من أقوى الأدلة وأصرحها على اعتبار الولي وإلاّ لما كان لعضله معنى ولأنها لو كان لها أن تزوّج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه قال ابن المنذر لا أعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.

37 - باب إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْخَاطِبَ، وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَيَّ، قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُكِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لِيُشْهِدْ أَنِّي قَدْ نَكَحْتُك، ِ أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهَا. وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَهَبُ لَكَ نَفْسِي فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا
هذا (باب) بالتنوين (إذا كان الولي) في النكاح (هو الخاطب) كابن العم هل يزوّج نفسه أو يزوّجه وليّ غيره؟ اختلف في ذلك فقال الشافعية: إذا أراد الولي تزويجها كابن العم لم يتول الطرفين فيزوجه من في درجته كابن عم آخر فإن لم يكن زوّجه القاضي فإن أراد القاضي تزويجها زوّجه من في درجته كابن عم آخر فإن لم يكن زوّجه القاضي فإن أراد القاضي تزويجها زوّجه قاضٍ آخر بمحل ولايته إذا كانت المرأة في عمله أو يستخلف من يزوّجه إن كان له الاستخلاف.
(وخطب المغيرة بن شعبة) بن مسعود بن معتب من ولد عوف بن ثقيف (امرأة) هي ابنة عمه عروة بن مسعود (هو أولى الناس بها) في ولاية النكاح (فأمر رجلًا) هو عثمان بن أبي العاص (فزوّجه) إياها لأنه ابن عم أعلى لأنه لا يجتمع معهم إلا في جدهم الأعلى ثقيف لأنه من ولد جشم بن ثقيف وهذا الأثر وصله وكيع في مصنفه والبيهقي من طريقه وكذا سعيد بن منصور.
(وقال عبد الرحمن بن عوف) فيما وصله ابن سعد (لأم حكيم) بفتح الحاء المهملة (بنت قارظ): بالقاف وبعد الألف راء مكسورة فظاء معجمة ابن خالد بن عبيد حليف بني زهرة وكانت قالت له: قد خطبني غير واحد فزوّجني أيهم رأيت (أتجعلين أمرك إليُّ)؟ بتشديد الياء. (قالت: نعم. فقال: قد تزوّجتك) قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح فيما وصله عبد الرزاق عن ابن جريج قالت: قلت لعطاء امرأة خطبها ابن عم لها لا رجل لها غيره. قال: (ليشهد) بالتحتية والجزم على الأمر (أني قد نكحتك أو ليأمر رجلًا من عشيرتها) أن يزوّجها له مع كونه أبعد ولفظ عبد الرزاق قال: فلتشهد أن فلانًا خطبها وأني أشهدكم أني قد نكحته.
(وقال سهل) فيما سبق موصولًا: (قالت امرأة: للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أهب لك نفسي فقال رجل: يا رسول الله

(8/51)


إن لم تكن) بالمثناة الفوقية (لك بها حاجة فزوّجنيها) فزوّجها له عليه الصلاة والسلام وكان خطبها له.
5131 - حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ قَالَتْ: هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فَيَحْبِسُهَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وبه قال: (حدّثنا ابن سلام) محمد قال: (أخبرنا أبو معاوية) محمد بن خازم قال: (حدّثنا هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- في) تفسير (قوله) عز وجل: ({ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن}) [النساء: 127] (إلى آخر الآية قال عروة: قالت عائشة: والذي في اليونينية قالت أي عائشة: (هي اليتيمة) التي مات أبوها (تكون في حجر الرجل) بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم (قد شركته) بفتح المعجمة وكسر الراء (في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها فنهاهم الله عن ذلك) فإن قلت: ما وجه المطابقة؟ أجيب في قوله فيرغب عنها أن يتزوجها لأنه أعم من أن يتولى ذلك بنفسه أو يأمر غيره فيزوجه، وبه احتج محمد بن الحسن لأن الله لما عاتب الأولياء في تزويج من كانت من أهل الجمال والمال بدون سنتها من الصداق وعاتبهم على ترك تزويج من كانت قليلة المال والجمال دل على أن الولي يصح منه تزويجها من نفسه إذ لا يعاتب أحد على ترك ما هو حرام عليه انتهى من الفتح.
5132 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جُلُوسًا فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَخَفَّضَ فِيهَا النَّظَرَ وَرَفَعَهُ فَلَمْ يُرِدْهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَعِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ»؟ قَالَ: مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ قَالَ: «وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ»؟ قَالَ: وَلاَ خَاتَمًا، مِنَ حَدِيدٍ وَلَكِنْ أَشُقُّ بُرْدَتِي هَذِهِ فَأُعْطِيهَا النِّصْفَ، وَآخُذُ النِّصْفَ. قَالَ: «لاَ، هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ»؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن المقدام) بميمين الأولى مكسورة ابن مسلم العجلي البصري قال:
(حدّثنا فضيل بن سليمان) البصري قال: (حدّثنا أبو حازم) سلمة بن دينار قال: (حدّثنا سهل بن سعد) الساعدي (قال: كنا عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جلوسًا فجاءته) ولأبي ذر عن المستملي (فجاءته امرأة تعرض نفسها عليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فخفض فيها النظر) بتشديد الفاء ولأبي ذر عن الحموي والمستملي البصر بالموحدة والصاد المهملة بدل النون والظاء المعجمة (ورفعه فلم يردها) بضم الياء وكسر الراء وسكون الدال (فقال رجل: من أصحابه زوّجنيها يا رسول الله؟ قال):
(أعندك) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي هل عندك (من شيء) تمهرها إياه وهل حرف استفهام موضوع لطلب التصديق الإيجابي دون التصوّر ودون التصديق السلبي قال ابن هشام في مغنيه فيمتنع نحو: هل زيدًا ضربت تقديم الاسم يُشْعِر بحصول التصديق بنفس النسبة فيمتنع نحو هل زيد قائم أم عمرو إذا أريد بأُم المتصلة ويمتنع نحو هل لم يقم زيد ومن في قوله من شيء زائدة في المبتدأ والخبر متعلق الظرف (قال: ما عندي من شيء قال: ولا) تجد (خاتمًا من حديد) ولأبي ذر ولا خاتم بالرفع أي ولا عندك خاتم من حديد (قال) الرجل: (ولا) أجد (خاتمًا) ولأبي ذر ولا خاتم (من حديد ولكن أشق بردتي هذه فأعطيها) بضم الهمزة (النصف) منها (وآخذ النصف قال: لا) وفي الرواية السابقة: ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك شيء (قال: هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم. قال: اذهب فقد زوّجتكها بما معك من القرآن).
قال في فتح الباري: ووجه المطابقة من هذا الحديث يعني لمناسبة الترجمة الإطلاق أيضًا لكن انفصل من منع ذلك بأنه معدود من خصائصه أن يزوج نفسه وبغير وليّ ولا شهود ولا استئذان وبلفظ الهبة.

38 - باب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ
(باب) جواز (نكاح الرجل ولده الصغار) بفتح الواو واللام اسم جنس شامل للذكر والأنثى (لقوله) ولأبي ذر لقول الله (تعالى: {واللائي لم يحضن}) [الطلاق: 4] أي من الصغار (فجعل عدّتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ) فدلّ على أن نكاحها قبل البلوغ جائز، وحذف في الآية قوله: {فعدتهن ثلاثة أشهر} لدلالة المذكور عليه قاله في الكشاف، وهذا من مواطن حذف الخبر.
واختلف في تقديره فقدّره الزمخشري وابن مالك جملة وقدره آخرون مفردًا أي كذلك وهو أحسن لأن أصل الخبر أن يكون مفردًا والأكثرون على تقديره مؤخرًا مفردًا، وقدره ابن عبد السلام مفردًا مقدمًا أي وكذلك اللائي لم يحضن وجعل منه والمحصنات من المؤمنات أي حل لكم وكذلك المحصنات من المؤمنات. وقيل: إن هذه الآية لا حذف فيها، والتقدير واللائي يئسن من الحيض من نسائكم إن ارتبتم واللائي لم يحضن فعدّتهن ثلاثة أشهر فقدّم وأخّر.
5133 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَهَا وَهْيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهْيَ بِنْتُ تِسْعٍ، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا.
وبه قال: (حدّثنا محمد

(8/52)


بن يوسف) البيكندي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوجها) من أبي بكر -رضي الله عنه- (وهي بنت ست سنين وأدخلت عليه) بضم الهمزة مبنيًا للمفعول (وهي بنت تسع) من السنين (ومكثت) بفتح الكاف وضمها (عنده تسعًا) فتوفي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعمرها ثماني عشرة سنة.

39 - باب تَزْوِيجِ الأَبِ ابْنَتَهُ مِنَ الإِمَامِ.
وَقَالَ عُمَرُ: خَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيَّ حَفْصَةَ فَأَنْكَحْتُهُ
(باب تزويج الأب ابنته من الإمام) أي الأعظم (وقال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- مما سبق موصولًا: (خطب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليّ حفصة فأنكحته) إياه اهـ.
5134 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَهَا وَهْيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهْيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، قَالَ هِشَامٌ: وَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ.
وبه قال: (حدّثنا معلى بن أسد) بتشديد اللام المفتوحة العمي البصري قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد البصري (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوجها وهي بنت ست سنين) كذا بفتح ست في الفرع وفي الأصل بالجر والواو للحال (وبنى بها وهي بنت تسع سنين).
قال الجوهري: بنى على أهله بناء أي زفها والعامة تقول بنى بأهله وهو خطأ وكان الأصل فيه أن الداخل بأهله يضرب عليها قبة عند دخوله بها، فقيل لكل داخل على أهله بانٍ، وعليه كلام التوربشتي والقاضي، وبالغًا في التخطئة حتى تجاوزا إلى تخطئة الراوي. وأجاب الطيبي بعد أن ذكر ذلك بأن استعمال بنى عليها بمعنى زفها في بدء الأمر كناية فلما أكثر استعماله في الزفاف فهم منه معنى الزفاف، وإن لم يكن ثمة بناء فأيّ بعد في أن ينتقل من المعنى الثاني إلى ثالث فيكون بمعنى أعرس بها. قال: ويوضح هذا ما قاله صاحب المغرب أصله أن المعرس كان يبني على أهله ليلة الزفاف خباء ثم كثر حتى كني به عن الوطء وعن ابن دريد بنى بامرأته بالباء كأعرس بها.
(قال) ولأبي ذر فقال (هشام) أي ابن عروة بالسند السابق: (وأنبئت) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (أنها) أي عائشة (كانت عنده) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (تسع سنين) ثم توفي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والله أعلم.

40 - باب السُّلْطَانُ وَلِيٌّ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»
هذا (باب) بالتنوين (السلطان ولي) لمن لا ولي لها (بقول النبي) أي بسبب قول النبي، ولأبي ذر لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باللام بدل الموحدة أي لأجل قول النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زوجناكها) بنون العظمة (بما معك من القرآن).
5135 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: إِنِّي وَهَبْتُ مِنْ نَفْسِي، فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، قَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ. تُصْدِقُهَا»؟ قَالَ: مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي. فَقَالَ: «إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ فَالْتَمِسْ شَيْئًا». فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا. فَقَالَ: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدِ». فَلَمْ يَجِدْ فَقَالَ: «أَمَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ»؟ قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا فَقَالَ: «زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن أبي حازم) سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) الساعدي -رضي الله عنه- أنه (قال: جاءت امرأة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: إني وهبت من نفسي) أي وهبت نفسي فمن زائدة ولأبي الوقت وهبت منك نفسي، وفي رواية لك نفسي بلام التمليك، استعملت هنا في تمليك المنافع أي وهبت أمر نفسي لك (فقامت) قيامًا (طويلًا) فطويلًا نعت لمصدر محذوف وسمي مصدرًا لأن المصدر هو اسم الفعل أو عدده أو ما قام مقامه أو ما أضيف إليه وهذا قام مقام المصدر فسمي باسم ما وقع موقعه وقوله فقامت عطف على وهبت (فقال رجل): يا رسول الله (زوجنيها إن لم تكن) بالفوقية (لك بها حاجة قال) عليه الصلاة والسلام ولأبي ذر فقال:
(هل عندك من شيء تصدقها)؟ إياه ومن زائدة في المبتدأ والخبر متعلق الظرف وجملة تصدقها في موضع رفع صفة لشيء ويجوز فيه الجزم على جواب الاستفهام وتصدقها يتعدى لمفعولين الثاني محذوف أي إياه وهو العائد من الصفة على الموصوف (قال) الرجل (ما عندي إلا إزاري فقال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له: (إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك) جواب الشرط ولا نافية وإزار اسم نكرة مبني مع لا ولك يتعلق بالخبر أي ولا إزار كائن لك (فالتمس شيئًا. فقال: ما أجد شيئًا فقال) عليه الصلاة والسلام: (التمس ولو) كان الملتمس (خاتمًا من حديد) فطلب (فلم يجد) ذلك (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له: (أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم) معي (سورة كذا وسورة كذا) بالتكرار مرتين وفيما سبق تكرير ذلك ثلاثًا (لسور سماها) في فوائد تمام إنها تسع من المفصل وقيل غير ذلك مما سبق ذكره (فقال:

(8/53)


زوّجناكها) بنون العظمة ولأبي ذر قد زوّجناكها (بما معك من القرآن).
والمطابقة بين الترجمة والحديث ظاهرة. وفي حديث عائشة عند أبي داود والترمذي وحسنه وصححه أبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم مرفوعًا "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" الحديث. وفيه السلطان ولي من لا ولي له لكنه لما لم يكن على شرط المؤلّف استنبط الحكم من قصة الواهبة ولا يزوج السلطان إلا بالغة بكفء عند عدم وليها الخاص أو غيبة الأقرب مسافة القصر، وهل يزوّج بالولاية العامة أو النيابة الشرعية وجهان حكاهما الإمام، وأفتى البغوي منهما بالأول قال: لأنه كان بالنيابة لما زوج مولية الرجل منه ومن فوائد الخلاف أنه لو أراد القاضي نكاح من غاب وليها إن قلنا بالولاية زوّجه أحد نوابه أو قاضٍ آخر أو بالنيابة لم يجز ذلك.

41 - باب لاَ يُنْكِحُ الأَبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ إِلاَّ بِرِضَاهَا
هذا (باب) بالتنوين (لا ينكح الأب) بضم التحتية وكسر الكاف من الإنكاح (وغيره) من الأولياء (البكر والثيب إلا برضاهما) سواء كانتا كبيرتين أو صغيرتين كما هو ظاهر حديث الباب.
5136 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ». [الحديث 5136 - طرفاه في: 6968، 6970].
وبه قال: (حدّثنا معاذ بن فضالة) بفتح الفاء وتخفيف المعجمة قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي (عن يحيى) بن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (أن أبا هريرة) -رضي الله عنه- (حدّثهم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا تنكح الأيم) بضم الفوقية وفتح الكاف مبنيًّا للمفعول ورفع الحاء على أن لا نافية خبر بمعنى النهي وبالجزم كسر لالتقاء الساكنين على أنها ناهية والأولى أبلغ والأيم بتشديد التحتية المكسورة في الأصل التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا مطلّقة أو متوفّى عنها والمراد بها هنا التي زالت بكارتها بأي وجه كان سواء زالت بنكاح صحيح أو شبهة أو فاسد أو زنا أو بوثبة أو بأصبع أو غير ذلك لأنها جعلت مقابلة للبكر (حتى تستأمر) بضم الفوقية وفتح الميم أي يطلب أمرها (ولا تنكح البكر حتى تستأذن) أي يطلب إذنها وفرق بينهما بأن الأمر لا بد فيه من لفظ والإذن يكون بلفظ وغيره (قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها)؟ أي البكر (قال: أن تسكت) لأنها قد تستحيي أن تفصح واختلف فيما إذا سكتت وظهرت منها قرينة السخط كالبكاء أو الرضا كالتبسم فعند المالكية إن ظهرت منها قرينة الكراهة لم تزوج، وعند الشافعية لا يؤثر ذلك إلا إن وقع مع البكاء صياح ونحوه.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في ترك الحيل ومسلم في النكاح وكذا النسائي.
5137 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي، قَالَ: «رِضَاهَا صَمْتُهَا». [الحديث 5137 - أطرافه في: 6949، 6971].
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن الربيع بن طارق) بفتح العين وسكون الميم الهلالي المصري قال: (أخبرنا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي حدّثنا (الليث) بن سعد الإمام (عن ابن أبي مليكة) عبد الله (عن أبي عمرو) بفتح العين ذكوان (مولى عائشة عن عائشة) -رضي الله عنها- (أنها قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي) أن تفصح به ولأبي ذر تستحيي بياءين (قال) عليه الصلاة والسلام:
(رضاها صمتها) أي سكوتها. وظاهر الحديث أنه ليس للولي تزويج موليته من غير استئذان ومراجعة واطّلاع على أنها راضية بصريح الإذن أو سكوت من البكر وللعلماء في هذا المقام تفصيل واختلاف فاتفقوا على أنه لا يجوز تزويج الثيّب البالغة العاقلة إلا بإذنها والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقًا أيضًا. وأما الثيب غير البالغ فاختلف فيها فقال مالك وأبو حنيفة: يزوّجها أبوها كما يزوج البكر، وقال إمامنا الشافعي أبو يوسف ومحمد: لا يزوجها إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره لأن إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر، وأما البكر البالغ فيزوجها أبوها وكذا غيره من الأولياء. واختلف في استثمارها. والحديث يدل على أنه لا إجبار عليها للأب إذا امتنعت وهو مذهب الحنفية. وقال مالك والشافعي وأحمد: يزوجها. واحتج بمفهوم حديث الباب لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها فدلّ على أن ولي البكر أحق بها منها وألحق الشافعي الجد بالأب، وقال أبو حنيفة في الثيب الصغيرة: يزوجها كل ولي فإذا بلغت ثبت لها الخيار وعن مالك يلتحق بالأب في ذلك وصي الأب دون بقية الأولياء لأنه

(8/54)


أقامه مقامه، وقال الحنابلة: وللأب إجبار بناته الأبكار مطلقًا وثيب لها دون تسع سنين لا من لها تسع فأكثر.

42 - باب إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهْيَ كَارِهَةٌ، فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ
هذا (باب) بالتنوين (إذا زوج) الرجل (ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود) إذا كانت ثيبًا اتفاقًا من الأئمة الأربعة.
5138 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَدَّ نِكَاحَهُ. [الحديث 5137 - أطرافه في: 5139، 6945، 6969].
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الإمام الأعظم (عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عبد الرحمن و) أخيه (مجمع) بضم الميم
الأولى وكسر الثانية مشددة بينهما جيم مفتوحة آخره عين مهملة (ابني يزيد) من الزيادة (ابن جارية) بالجيم الأنصاري ابن أخي مجمع بن جارية الصحابي (عن خنساء) بفتح الخاء المعجمة وبعد النون الساكنة سين مهملة مهموز ممدود (بنت خدام) بكسر الخاء وتخفيف الذال بالمعجمتين وفي الفتح وبالدال المهملة (الأنصارية) الأويسية (أن أباها زوجها وهي ثيب) وإن زوجها الأول اسمه أنيس بن قتادة كما عند الواقدي، وقيل: أسير كما في المبهمات للقطب ابن القسطلاني وأنه مات ببدر وعند عبد الرزاق أن رجلًا من الأنصار تزوّج خنساء بنت خذام فقتل عنها يوم أُحُد فأنكحها رجلًا (فكرهت ذلك) ولم يقف الحافظ ابن حجر على اسم الزوج الثاني. نعم قال الواقدي: إنه من بني مزينة، وعند ابن إسحاق أنه من بني عمرو بن عوف (فأتت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد الإسماعيلي أنها قالت: أنا أريد أن أتزوج عم ولدي وعند عبد الرزاق إن أبي أنكحني وإن عم ولدي أحب إليّ (فردّ) عليه الصلاة والسلام (نكاحه).
وأما ما رواه النسائي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن جابر أن رجلًا زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها فأتت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ففرق بينهما فحمله البيهقي على أنه كان زوّجها من غير كفء أما إذا زوجها بكفء فإنه ينفذ ولو طلبت هي كفأ غيره لأنها مجبرة فليس لها اختيار الأزواج وهو أكمل نظرًا منها بخلاف غير المجبر فإنه لا يزوجها إلا ممن عينته لأن إذنها شرط في أصل تزويجها فاعتبر تعيينها.
5139 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ وَمُجَمِّعَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَاهُ، أَنَّ رَجُلًا يُدْعَى خِذَامًا أَنْكَحَ ابْنَةً لَهُ نَحْوَهُ.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) بن راهويه قال: (أخبرنا يزيد) بن هارون قال: (أخبرنا يحيى) بن سعيد الأنصاري (أن القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصديق (حدّثه أن عبد الرحمن بن يزيد و) أخاه (مجمع بن يزيد حدّثناه أن رجلًا يدعى خذامًا) بالخاء والذال المعجمتين في الفرع (أنكح ابنة له نحوه) أي نحو الحديث السابق. قال في الفتح: وقد ساق أحمد لفظه أن يزيد بن هارون بهذا الإسناد أن رجلًا منهم يدعى خزامًا أنكح ابنته فكرهت نكاح أبيها، فأتت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكرت ذلك له فردّ نكاح أبيها فتزوجت أبا لبابة بن عبد المنذر فذكر يحيى بن سعيد أنه بلغه أنها كانت ثيبًا.

43 - باب تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ، لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا}
إِذَا قَالَ لِلْوَلِيِّ زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ فَمَكِثَ سَاعَةً أَوْ قَالَ: مَا مَعَكَ؟ فَقَالَ: مَعِي كَذَا وَكَذَا أَوْ لَبِثَا ثُمَّ قَالَ: زَوَّجْتُكَهَا فَهْوَ جَائِزٌ. فِيهِ سَهْلٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب تزويج اليتيمة) التي مات أبوها ولم تبلغ (لقوله) تعالى: ({وإن}) بالواو ولأبي ذر:
فإن ({خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى}) الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم واليتم الانفراد ({فانكحوا}) [النساء: 3] الآية.
قال في الكشاف، فإن قلت: كيف جمع اليتيم وهو فعيل كمريض على يتامى؟ قلت: فيه وجهان أن يجمع على يتمى كأسرى لأن اليتم من وادي الآفات والأوجاع فعلى على فعالى كأسارى، ويجوز أن يجمع على فعائل لجري اليتيم مجرى بالأسماء نحو صاحب وفارس، فيقال يتائم ثم يتامى على القلب، وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال فإذا استغنوا بأنفسهم عن قائم عليهم وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم زال عنهم هذا الاسم، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: لا يتم بعد الحلم فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة يعني إذا احتلم لم تجرِ عليه أحكام الصغار انتهى.
(وإذا قال) الخاطب: (للولي زوجني) موليتك (فلانة فمكث ساعة) بضم الكاف وفتحها ثم زوجه (أو قال) الولي للخاطب: (ما معك) تمهرها إياه (فقال: معي كذا وكذا) أو تخلل كلام نحو ذلك بين الإيجاب والقبول (أو لبثا) كلاهما بعد قوله للولي:

(8/55)


زوجني (ثم قال) الولي: (زوجتكها فهو جائز) في الصور بالثلاث ولا يضر ذلك لاتحاد المجلس.
(فيه سهل عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يعني في صفة الواهبة السابقة مرارًا، لكن في استخراج الحكم المذكور منها نظر لأنها واقعة عين يطرقها احتمال أن يكون قبل عقب الإيجاب، ومذهب الشافعية اشتراط القبول فورًا فلا يضر فصل يسير، فلو حمد الله الولي وصلى على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأوصى بتقوى الله، ثم قال: زوجتك فلانة فقال الزوج: الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وأوصى بتقوى الله ثم قبل النكاح صح، ولا يضر هذا الفصل لأن المتخلل مقدمة القبول فلا يقطع الموالاة بينهما والخطبة من الأجنبي كهي ممن ذكر فيحصل بها الاستحباب ويصح معها العقد فإن طال الذكر الفاصل بين الإيجاب والقبول أو تخلل بينهما كلام يسير أجنبي عن العقد لم يتعلق به ولم يستحب بطل العقد لإشعاره بالإعراض.
5140 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَ لَهَا: يَا أُمَّتَاهْ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} -إِلَى- {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} -إِلَى- {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ، أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَنَسَبِهَا وَالصَّدَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبًا عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنَ
النِّسَاءِ، قَالَتْ: فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا الأَوْفَى مِنَ الصَّدَاقِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم (وقال الليث) بن سعد الإمام فيما سبق موصولًا في باب الأكفاء في المال (حدَّثني) بالإفراد (عقيل) بضم العين مصغرًا (عن ابن شهاب) الزهري أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (أنه سأل عائشة -رضي الله عنها- قال لها: يا أمتاه {وإن}) بالواو ولأبي ذر فإن ({خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى} -إلى- {ما}) ولأبي ذر إلى قوله ما ({ملكت أيمانكم} قالت عائشة: يا ابن أختي) أسماء بنت أبي بكر (هذه اليتيمة تكون في حجر وليها) زاد في التفسير تشركه في ماله (فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص من) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي في (صداقها فنهوا) بضم النون والهاء (عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق) أسوة أمثالهن (وأمروا بنكاح من سواهن) من سوى اليتامى (من النساء قالت عائشة: استفتى) ولأبي ذر: فاستفتى (الناس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك) أي بعد نزول آية {وإن خفتم} (فأنزل الله) تعالى: ({ويستفتونك في النساء} -إلى- {وترغبون}) ولأبي ذر إلى قوله: {وترغبون} ({أن تنكحوهن}) [النساء: 127] سقط أن تنكحوهن لغير أبي ذر (فأنزل الله لهم في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها ونسبها والصداق) الذي هو غير صداق مثلها (وإذا كانت مرغوبًا عنها في قلة المال والجمال تركوها) فلم يتزوجوها (وأخذوا غيرها من النساء. قالت) عائشة: (فكما يتركونها) أي اليتيمة (حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق).
وهذا المتن لفظ رواية أبي شعيب وفيه دلالة على أن للولي غير الأب أن يزوج التي دون البلوغ بكرًا كانت أو ثيبًا لأن اليتيمة هي التي دون البلوغ ولا أب لها بكرًا كانت أو ثيبًا وقد أذن في نكاحها شرط أن لا يبخس من صداقها وقد اختلف في ذلك فقال أصحاب أبي حنيفة: يصح النكاح ولها الخيار إذا بلغت في فسخ النكاح وإجازته. وقال الشافعي: باطل لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "اليتيمة تستأمر" واليتيمة كما مر اسم للصغيرة التي لا أب لها وهي قبل البلوغ لا عبرة بإذنها وكأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شرط بلوغها فمعناه لا تنكح حتى تبلغ فتستأمر، وعند الترمذي وقال: حسن صحيح لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن والله أعلم.

44 - باب إِذَا قَالَ: الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا، جَازَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلزَّوْجِ أَرَضِيتَ أَوْ قَبِلْتَ
هذا (باب) بالتنوين (إذا قال الخاطب للولي: زوجني) موليتك (فلانة) وثبت قوله للولي لأبي ذر عن الكشميهني (فقال) للولي: (قد زوجتكـ) ـها (بكذا وكذا جاز النكاح وإن لم يقل للزوج
أرضيت أو قبلت) ويقبل هو ذلك وهذا مذهب الشافعية لوجود الاستدعاء الجازم، ولقوله في حديث الباب زوجنيها فقال: زوجتكها بما معك من القرآن ولم ينقل أته قال بعد ذلك قبلت نكاحها.
5141 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا فَقَالَ: «مَا لِي الْيَوْمَ فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا. قَالَ: «مَا عِنْدَكَ»؟ قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: «أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ». قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: «فَمَا عِنْدَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا قَالَ: «فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا حماد بن زيد عن أبي حازم) سلمة بن دينار (عن سهل) الساعدي ولأبي ذر زيادة ابن سعد

(8/56)


(رضي الله عنه أن امرأة أتت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعرضت عليه نفسها) لينكحها (فقال):
(ما لي اليوم في النساء) ولأبي ذر عن الكشميهني بالنساء (من حاجة. فقال رجل: يا رسول الله زوّجنيها قال: ما عندك)؟ تصدقها (قال: ما عندي شيء. قال) عليه الصلاة والسلام: (أعطها) صداقًا (ولو) كان (خاتمًا من حديد. قال: ما عندي شيء) وهذه الجملة من قوله أعطها إلى هنا ثابتة في رواية أبي ذر (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فما عندك من القرآن؟ قال: كذا وكذا قال) عليه الصلاة والسلام (فقد) ولأبي ذر فقال: قد (ملكتكها) وللأكثرين زوجتكها (بما) أي بتعليمك إياها ما (معك من القرآن) ولم يرد أنه قال: قبلت بعد ذلك اكتفاء بقوله أولًا زوجنيها كما مرّ ومثله في الانعقاد بصيغة الأمر لو قال: تزوج ابنتي فيقول الخاطب: تزوجتها، فلو قال: زوجتني ابنتك أو تزوجنيها أو أتتزوج ابنتي أو تزوجها لا ينعقد لأنه استفهام.

45 - باب لاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ
هذا (باب) بالتنوين (لا يخطب) الرجل (على خطبة أخيه) بكسر الخاء المعجمة (حتى ينكح أو يدع).
5142 - حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يُحَدِّثُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كَانَ يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ.
وبه قال: (حدّثنا مكي بن إبراهيم) الحنظلي البلخي قال: (حدّثنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز ولأبي ذر عن الكشميهني عن ابن جريج (قال: سمعت نافعًا يحدّث أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) نهي تحريم (أن يبيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب
الرجل) بالرفع على النفي (على خطبة أخيه) المسلم وكذا الذمي إذا صرح له بالإجابة (حتى يترك الخاطب قبله) التزويج (أو يأذن له الخاطب) الأول سواء كان الأول مسلمًا أو كافرًا محترمًا وذكر الأخ جرى على الغالب ولأنه أسرع امتثالًا، والمعنى في ذلك ما فيه من الإيذاء والتقاطع وفي معنى الإذن ما لو ترك أو طال الزمان بعد إجابته بحيث يعدّ معرضًا أو غاب زمنًا يحصل به الضرر أو رجعوا عن إجابته والمعتبر في التحريم إجابتها إن كانت غير مجبرة أو إجابة الولي المجبر إن كانت مجبرة، أو إجابتهما معًا إن كان الخاطب غير كفء، أو إجابة السيد أو السلطان في الأمة غير المكاتبة كتابة صحيحة بالنسبة للسيد.
5143 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ. وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا». [الحديث 5143 - أطرافه في 6064، 6066، 6724].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة مصغرًا قال: (حدّثنا الليث) بن سعد (عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز أنه (قال: قال أبو هريرة) -رضي الله عنه- (يأثر) بضم المثلثة أي يروي (عن النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
5144 - «وَلاَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ».
(إياكم والظن) أي احذروا الظن السوء (فإن الظن) السيئ (أكذب الحديث ولا تجسسوا) بالجيم لا تبحثوا عن العورات (ولا تحسسوا) بالحاء المهملة لا تسمعوا لحديث القوم (ولا تباغضوا) بل تحابوا (وكونوا إخوانًا) كالإخوان في جلب المنفعة ودفع المضرة (ولا يخطب الرجل) امرأة (على خطبة أخيه) إذا أجيب (حتى ينكح) المخطوبة (أو يترك) تزويجها.
قال شارح المشكاة -رحمه الله تعالى-: حتى غاية النهي فتوهم أن بعد النكاح لا تكون الخطبة منهيًا عنها وبعد النكاح لا تتصوّر الخطبة، فكيف معنى حتى؟ وأجاب: بأنه من باب التعليق بالمحال يعني إذا استقام أن يخطب بعد النكاح جاز وقد علم أنه لا يستقيم فلا يجوز، ويجوز أن تكون حتى بمعنى كي وأو بمعنى إلى وضمير ينكح راجع إلى الرجل وفي يترك إلى أخيه، والمعنى لا يخطب الرجل على خطبة أخيه لكي ينكحها إلى أن يتركها أخوه انتهى.
وإذا عقد الثاني صح مع الحرمة. وقال الشيخ خليل من المالكية تحرم خطبة راكنة لغير فاسق ولو لم يقدر صداق، وقال شارحه: وتفسير ذلك فيما يرى أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه ويتفقا على صداق وقد تراضيا فتلك التي نهى أن يخطبها الرجل على خطبة أخيه ولم يعن بذلك إذا خطب ولم يوافقها أمره ولم تركن إليه وقوله لغير فاسق احتراز مما إذا ركنت لفاسق فإن خطبتها لا تحرم وإن خطب ولم يدخل فسخ وهو المشهور عن مالك فإن دخل مضى النكاح وبئس ما صنع،
وقال ابن زرقون: وعنه إنه يفسخ على كل حال وعنه أنه لا يفسخ أصلًا وإن كان عاصيًا. وقال ابن القاسم: ويؤدب من

(8/57)


خطب على خطبة أخيه. حكاه في النوادر والعتبية.

46 - باب تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ
(باب تفسير ترك الخطبة) بكسر الخاء.
5145 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يُحَدِّثُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ قَالَ عُمَرُ: لَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلاَّ أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا. تَابَعَهُ يُونُسُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (سالم بن عبد الله أنه سمع) أباه (عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يحدّث أن) أباه (عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة) بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي (قال عمر: لقيت أبا بكر) الصديق (فقلت) له (إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلقيني أبو بكر فقال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت) عليَّ (إلا أني قد علمت أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولو تركها لقبلتها).
قال ابن بطال: تقدم في الباب السابق تفسير ترك الخطبة صريحًا في قوله: حتى ينكح أو يترك. وحديث هذا الباب في قصة حفصة لا يظهر منه تفسير ترك الخطبة لأن عمر لم يكن علم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب حفصة فضلًا عن التراكن، فكيف توقف أبو بكر عن الخطبة أو قبولها من الولي ولكنه قصد معنًى دقيقًا يدل على ثقوب ذهنه ورسوخه في الاستنباط وذلك أن أبا بكر علم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خطب إلى عمر أنه لا يرده بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه به من ذلك. فقام علم أبي بهذا الحال مقام الركون والتراضي فكأنه يقول: كل من علم أنه لا يصرف إذا خطب لا ينبغي لأحد أن يخطب على خطبته.
(تابعه) أي تابع شعيب بن أبي حمزة (يونس) بن يزيد فيما وصله الدارقطني في العلل (وموسى بن عقبة) فيما وصله الذهلي في الزهريات (وابن أبي عتيق) هو محمد بن عبد الله بن أبي عتيق الصديقي القرشي فيما وصله الذهلي أيضًا (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب.
وسبق حديث الباب بأتمّ من هذا في باب عرض الإنسان ابنته.

47 - باب الْخُطْبَةِ
(باب) استحباب (الخطبة) بضم الخاء قبل العقد.
5146 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلاَنِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا». [الحديث 5146 - أطرافه في: 5767].
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بفتح القاف ابن عقبة قال: (حدّثنا سفيان) الثوري أو ابن عيينة (عن زيد بن أسلم) أنه (قال: سمعت ابن عمر يقول: جاء رجلان من المشرق) مشرق المدينة وهما الزبرقان بن بدر التميمي وعمرو بن الأهيم سنة تسع من الهجرة وأسلما (فخطبا) خطبتين بليغتين يأتيان في الطب إن شاء الله تعالى بعون الله تعالى (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن من البيان سحرًا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: لسحرًا بزيادة اللام للتأكيد والبيان نوعان ما تحصل به الإنابة عن المراد والآخر تحسين اللفظ بحيث يستميل قلب السامع وهو الذي يشبه بالسحر إذا جلب القلوب وغلب على النفوس وهو عبارة عن تصنع في الكلام وتكلف تحسينه وصرف الشيء عن حقيقته كالسحر الذي هو تخييل لا حقيقة والمذموم منه ما يقصد به الباطل.
قال في فتح الباري: وجه مناسبة الحديث للترجمة كأنه أشار إلى أن الخطبة وإن كانت مشروعة في النكاح فينبغي أن لا يكون فيها ما يقتضي صرف الحق إلى الباطل بتحسين الكلام، وقال المهلب: الخطبة في النكاح إنما شرعت للخاطب ليسهل أمره فشبه حسن التواصل إلى الحاجة بحسن الكلام فيها باستنزال المرغوب إليه بالبيان بالسحر وإنما كان كذلك لأن النفوس طبعت على الأنفة من ذكر الموليات في أمر النكاح فكان حسن التوصل لدفع تلك الأنفة وجهًا من وجوه السحر الذي يصرف الشيء إلى غيره انتهى.
المستحب في النكاح أربع خطب: خطبة من الخاطب قبل الخطبة بكسر الخاء وخطبة من المجيب قبل الإجابة، وخطبتان قبل النكاح إحداهما من الولي قبل الإيجاب والأخرى من الخاطب قبل القبول لحديث "كل أمر ذي بال" وأخرج أصحاب السنن وصححه أبو عوانة وابن حبان مرفوعًا عن ابن مسعود: إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة من نكاح أو غيره فليقل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن

(8/58)


يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى آله وصحبه. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102]، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم} إلى قوله: {رقيبًا} [النساء: 1]، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدًا} إلى قوله: {عظيمًا} [الأحزاب: 70].
وحديث الباب أخرجه أيضًا في الطب وأبو داود في الأدب والترمذي في البر.

48 - باب ضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ
(باب) إباحة (ضرب الدف في النكاح) بضم الدال في الفرع كأصله على الأفصح وقد تفتح (و) ضرب الدف في (الوليمة) من عطف العام على الخاص ويأتي إن شاء الله تعالى باب الوليمة حق.
5147 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ قَالَ: قَالَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ ابْنِ عَفْرَاءَ: جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ: «دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا بشر بن المفضل) بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة ابن لاحق البصري، وفي نسخة باليونينية: عن بشر بن المفضل قال: (حدّثنا خالد بن ذكوان) أبو الحسن المدني (قال: قالت الربيع) بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة (بنت معوذ ابن عفراء) بكسر الواو المشددة بعدها دال معجمة والعفراء بفتح العين المهملة وسكون الفاء ممدودًا (جاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدخل) وللحموي والكشميهني يدخل بصيغة المضارع (حين بني علي) وفي رواية حماد بن سلمة عند ابن ماجة صبيحة عرسي وكانت تزوّجت إياس بن البكير الليثي (فجلس على فراشي كمجلسك مني) بكسر اللام أي مكانك وقد كان من خصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جواز النظر للأجنبية والخلوة بها (فجعلت جويريات لنا) أي يقف الحافظ ابن حجر على تسميتهن (يضربن بالدف ويندبن) أي يذكرن أوصاف (من قتل من آبائي يوم بدر) بالثناء عليهم وتعديد محاسنهم بالكرم والشجاعة ونحوهما، وكان الذي قتل يوم بدر معوذ ابن عفراء وعوف ومعاذ أحدهم أبوها والآخران عمّاها فأطلقت الأبوّة عليهما تغليبًا (إذ) ثبت لفظ إذ للكشميهني وفي المغازي حتى (قالت إحداهن): إحدى الجواري (وفينا نبيّ يعلم ما) يكون (في غد) بالسكون في اليونينية وفرعها وبالخفض منونًا في غيرهما (فقال) لها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(دعي هذه) المقالة فإن مفاتيح الغيب عند الله لا يعلمها إلا هو، وأيضًا يحتمل أن يكون المنع أن يوصف -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أثناء اللعب واللهو إذ منصبه أجلّ وأشرف من أن يذكر إلا في مجالس الجد (وقولي بالذي كنت تقولين) من المدح والثناء ففيه جواز ذلك ما لم يفض إلى الغلوّ.
وفي هذا الحديث جواز ضرب الدف في النكاح، وقد قال الشافعية بجواز اليراع والدف وإن كان فيه جلاجل في الأملاك والختان وغيرهما، وقيل: يحرم اليراع وهو المزمار العراقي ويحرم الغناء مع الآلات مما هو من شعار شاربي الخمر كالطنبور وسائر المعازف أي الملاهي من الأوتار والمزامير فيحرم استعماله واستماعه قصدًا فلو لم يقصد لم يحرم ولا يحرم الطبل إلا الكوبة وهو طبل
متسع الطرفين ضيق الوسط يعتاد ضربه المخنثون ولا يحرم ضرب الكف بالكف كما صرح به في الإرشاد وغيره ولا الرقص إلا أن يكون فيه تكسر وتثنٍّ.
وهذا الحديث قد سبق في غزوة بدر.

49 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ، وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ} وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ»
(باب قول الله تعالى) ولأبي ذر: عز وجل ({وآتوا النساء صدقاتهن}) مهورهن ({نحلة}) [النساء: 4] من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلًا وانتصابها على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قال: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم، قيل: النحلة لغة الهبة من غير عوض والصداق تستحقه المرأة اتفاقًا لا على وجه التبرع من الزوج، وأجيب: بأن عبيدة قال: عن طيب نفس بالفريضة، وتابعه ابن قتيبة وقال الكيا: الخطاب في فانكحوا للأزواج وإذا كان خطابًا لهم فإنما سماه عطية ترغيبًا في إيفاء صداقها، وقال بعضهم: نحلة اسم الصداق نفسه، وقال آخر: لأن استمتاعه يقابل استمتاعها به فكان الصداق من هذه الجهة لا مقابل له ولذا لم يكن ركنًا في العقد (وكثرة المهر) بالجر عطفًا على سابقه (وأدنى) أقل (ما يجوز من الصداق، وقوله تعالى): ولأبي ذر عز وجل ({وآتيتم

(8/59)


إحداهن قنطارًا}) قال في الكشاف: هو المال العظيم من قنطرت الشيء إذا رفعته ({فلا تأخذوا منه شيئًا}) [النساء: 20] وقد روي أن عمر قال خطيبًا فقال: أيها الناس لا تغالوا بصداق النساء فلو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية فقامت إليه امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين لِمَ تمنعنا حقًّا جعله الله لنا والله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارًا} فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه: تسمعونني أقول مثل هذا فلا تنكرونه عليّ حتى ترده عليّ امرأة ليست من أعلم النساء. ذكره الزمخشري ورواه عبد الرزاق من طريق عبد الرحمن السلمي بلفظ قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر إن الله تعالى يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارًا} من ذهب قال: وكذلك هو في قراءة ابن مسعود فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته (وقوله جل ذكره: {أو تفرضوا لهن}) [البقرة: 236] وزاد أبو ذر: فريضة.
(وقال سهل: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): في قصة الواهبة لمريد تزويجها التمس (ولو خاتمًا من حديد) والآية الأولى دالة لأكثر الصداق والحديث لأدناه وهل يتقدر أدناه أم لا. فمذهب الشافعية والحنابلة أدنى متموّل لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "التمس ولو خاتمًا من حديد" والضابط كل ما جاز أن يكون ثمنًا
وعند الحنفية عشرة دراهم، والمالكية ربع دينار فيستحب عند الشافعية والحنابلة أن لا ينقص عن عشرة دراهم خروجًا من خلاف أبي حنيفة وأن لا يزيد على خمسمائة درهم كأصدقة بنات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وزوجاته، وأما إصداق أم حبيبة أربعمائة دينار فكان من النجاشي إكرامًا له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويستحب أن يذكر المهر في العقد لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يخل نكاحًا عنه ولأنه أدفع للخصومة وعلم من استحباب ذكره في العقد جواز إخلاء النكاح عن ذكره للصداق أسماء ثمانية مشهورة جمعت في قوله:
صداق ومهر نحلة وفريضة ... حباء وأجر ثم عقر علائق
وقيل: الصداق ما وجب بتسمية في العقد والمهر ما وجب بغير ذلك، وسمي صداقًا لإشعاره بصدق رغبة باذله في النكاح، وفي حديث أبي داود أدّوا العلائق. قيل: وما العلائق؟ قال: ما تراضى عليه الأهلون. وقال ابن الأثير: واحد العلائق علاقة بكسر العين المهر لأنهم يتعلقون به على الزوج، والعقر بضم العين وسكون القاف لغة أصل الشيء ومكانه فكأن المهر أصل في تملك عصمة الزوجة والحباء بكسر الحاء المهملة بعدها موحدة العطية، وفي الشرع الصداق هو ما وجب النكاح أو وطء أو تفويت بضع قهرًا كرضاع ورجوع شهود.
5148 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ فَرَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَشَاشَةَ الْعُرْسِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد العزيز بن صهيب) بضم الصاد وفتح الهاء (عن أنس) -رضي الله عنه- (أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة) هي بنت الحيسر أنس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل كما جزم به الزبير بن بكار أو غيرها مما سيأتي إن شاء الله تعالى (على وزن نواة فرأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشاشة) بفتح الموحدة والمعجمتين بينهما ألف أي فرح (العرس) وللأربعة العروس بالجمع ولأبي ذر عن الكشميهني شيئًا شبيه العرس قال ابن قرقول: وهو تصحيف (فسأله) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال: إني تزوجت امرأة على وزن نواة. وعن قتادة) بن دعامة عطف على قوله عن عبد العزيز وهو من رواية شعبة عنهما (عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب) فزاد من ذهب، واختلف في المراد بالنواة فقيل: واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب وأن القيمة عنها يومئذ خمسة دراهم، وقيل: ربع دينار وضعف بأن نوى التمر يختلف في الوزن، فكيف يجعل معيارًا أو أن لفظ النواة من الذهب خمسة دراهم من الورق، وجزم به الخطابي ويشهد له رواية البيهقي عن قتادة وزن نواة من ذهب قوّمت خمسة دراهم

(8/60)


أو وزنها من الذهب خمسة دراهم حكاه ابن قتيبة، وجزم به ابن فارس واستبعد لأنه يستلزم أن يكون ثلاث مثاقيل ونصفًا. وعن بعض المالكية النواة عند
أهل المدينة ربع دينار ويشهد له قول أنس عند الطبراني في الأوسط: حزرناها ربع دينار، وعن الشافعي النواة ربع النش والنش نصف أوقية والأوقية أربعون درهمًا فتكون خمسة دراهم.

50 - باب التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ
(باب التزويج على) تعليم (القرآن وبغير) ذكر (صداق).
5149 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، يَقُولُ: إِنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ قَامَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ. فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا. ثُمَّ قَامَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ. فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحْنِيهَا. قَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ»؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: «اذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ». فَذَهَبَ فَطَلَبَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. فَقَالَ: «هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ»؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، قَالَ «اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ».
وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (سمعت أبا حازم) سلمة بن دينار (يقول: سمعت سهل بن سعد الساعدي) -رضي الله عنه- (يقول: إني لفي القوم عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ قامت امرأة) لم يقف الحافظ ابن حجر على اسمها قال وقول ابن القطاع في الأحكام إنها خولة بنت حكيم أو أم شريك نقل من اسم الواهبة الواردة في قوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} [الأحزاب: 50] وفي رواية فضيل بن سليمان كنا عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جلوسًا فجاءته امرأة فليس المراد من قوله إذ قامت امرأة أنها كانت جالسة في المجلس فقامت، وعند الإسماعيلي أنه كان في المسجد (فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك) أي أمر نفسها أو نحو ذلك، وإلاّ فالحقيقة غير مرادة لأن رقبة الحر لا تملك فكأنها قالت: أتزوجك بغير صداق، وكان الأصل أن يقال: إني وهبت نفسي لك لكنه على طريق الالتفات، وفيه أن الهبة في النكاح من الخصائص لقوله ذلك وسكوته عليه الصلاة والسلام عليه فدلّ على جوازه له خاصة لقول الرجل بعد: زوّجنيها ولم يقل هبها لي مع قوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50] (فر فيها رأيك) براء مفتوحة بغير همز أمر على وزن "ف" لأن عين الفعل ولامه حذفا لأن أصله رأى على وزن أفعل حذفت لام الفعل للجزم لأن الأمر مجزوم ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء للتخفيف فاستغني عن همزة الوصل فحذفت فبقي على وزن ف ولبعضهم بالهمزة الساكنة بعد الراء وكل سائغ (فلم يجبها) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (شيئًا ثم قامت) أي الثانية (فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك فر فيها رأيك فلم يجبها) عليه الصلاة والسلام (شيئًا، ثم قامت الثالثة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لك فر فيها رأيك) سقط للحموي من قوله فلم يجبها الثانية إلى هنا وسكوته عليه الصلاة والسلام إما حياءً أو انتظارًا للوحي (فقام رجل) من
الأنصار لم يقف الحافظ ابن حجر على تسميته، وفي حديث ابن مسعود عند الدارقطني فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من ينكح هذه؟ فقام رجل (فقال: يا رسول الله أنكحنيها). وعند النسائي من حديث أبي هريرة جاءت امرأة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعرضت نفسها عليه، فقال لها: "أجلسي" فجلست ساعة ثم قامت فقال: "أجلسي بارك الله فيك أما نحن فلا حاجة لنا فيك ولكن تملكيني أمرك" قالت: نعم فنظر في وجوه القوم فدعا رجلًا فقال: "إني أريد أن أزوّجك هذا إن رضيت" قالت: ما رضيت لي فقد رضيت (قال):
(هل عندك من شيء)؟ تصدقها فيها إن النكاح لا بدّ فيه من الصداق وقد اتفق على أنه لا يجوز لأحد أن يطأ فرجًا وُهب له دون الرقبة بغير صداق وفيه أيضًا أن الأولى ذكر الصداق في العقد لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة لأنه يثبت لها نصف المسمى إن طلقت قبل الدخول (قال: لا) زاد في رواية هشام بن سعد قال: فلا بدّ لها من شيء (قال) عليه الصلاة والسلام: (اذهب فاطلب ولو خاتمًا من حديد) قال عياض: لو تقليلية ووهم من زعم خلاف ذلك قال: والإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يتمول ولا له قيمة لا يكون صداقًا ولا يحل به النكاح. قال في الفتح: فإن ثبت هذا فقد خرق هذا الإجماع ابن حزم حيث قال: يجوز بكل ما يسمى شيئًا ولو كان حبة شعير ويؤيد ما ذهب إليه الكافة قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ولو خاتمًا من حديد" لأنه أورده مورد التقليل بالنسبة لما فوقه وفيه أنه لا حدّ لأقل المهر وردّ على من قال: إن أقله عشرة دراهم، ومن قال ربع دينار لأن خاتم الحديد لا يساوي ذلك، قاله ابن

(8/61)


المنير.
(فذهب فطلب ثم جاء فقال: ما وجدت شيئًا ولا خاتمًا من حديد) زاد في رواية أبي غسان هنا فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدعاه أو دعي له (فقال) عليه الصلاة والسلام له ولأبي ذر قال: (هل معك من القرآن شيء)؟ تحفظه عن ظهر قلب (قال: معي سورة كذا وسورة كذا) وفي حديث أبي هريرة أنه قال سورة البقرة أو التي تليها كذا أو في رواية أبي داود والنسائي وفي حديث ابن مسعود سورة البقرة وسورة المفصل (قال: اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن).
وفي حديث ابن عباس عند أبي عمر بن حيويه في فوائده قال: هل تقرأ من القرآن شيئًا؟ قال: نعم "إنّا أعطيناك الكوثر". قال: أصدقها إياها، والظاهر أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر أو القصة متعددة، وفي حديث ابن مسعود قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها وإذا رزقك الله عوّضتها فتزوجها الرجل على ذلك.
وفيه أن كل عمل يستأجر عليه كتعليم قرآن وخياطة وخدمة يجوز جعله صداقًا فإن أصدقها تعليم سور من القرآن أو جزء منه بنفسه اشترط تعيينه واشترط علم الزوج والولي بالمشروط تعليمه بأن يعلما عينه وسهولته أو صعوبته وإلا وكّلا أو أحدهما من يعلمه ولا يشترط تعيين الحرف الذي يعلمه لها كقراءة نافع أو أبي عمرو مثلًا فيعلمها ما شاء فإن عينه كل منهما كحرف نافع تعين
عملًا بالشرط فلو خالف وعلمها حرف أبي عمرو فمتطوع به ويلزمه تعليم الحرف المعين عملًا بالشرط فلو لم يحسن الزوج التعليم لما شرط تعليمه لم يجز إصداقه إلا في الذمة لعجزه في الأول دون الثاني فيأمر فيه غيره بتعليمها أو يتعلم ثم يعلمها وإذ تعذر التعليم لبلادة نادرة أو ماتت أو مات والشرط أن يعلم بنفسه وجب مهر المثل فإن طلقها بعد أن علمها وقبل الدخول رجع عليها بنصف الأجرة.
وقال الحنفية: الباء في قوله بما معك من القرآن للسببية والمعنى كما وهبت نفسها منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهبت صداقها لذلك الرجل.
وقال ابن المنير: لما تحقق -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عجز الرجل سأله هل معك من القرآن من شيء لأن القرآن هو الغنى الأكبر فلما ثبت له حظ منه ثبت له حظ من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فزوجه وليس في الحديث إسقاط الصداق فلعله زوجه إياها بصداق وجدت مظنته وإن لم توجد حقيقته وإذا وجدت مظنته أو شك أن يحصل بفضل الله وإنما استفسره عن جهده نصحًا للمرأة فلما أخبره أنه يحفظ شيئًا من القرآن علم أن الله لا يضيعهما قال: ولو فرضنا امرأة فوّضت أمرها في التزويج لرجل فخطبها منه من لا مال له ولكنه حامل للقرآن فزوجها منه ثقة بوعد الله لحامل كتابه بالغنى واقتداء بهذا الحديث لكان جديرًا بالصواب، ويجعل الصداق في ذمته ويكون تفويضًا ولا معنى للتفويض إلا ما وقع في الحديث انتهى.

51 - باب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ
(باب المهر بالعروض) بضم العين والراء جمع عرض بفتح ثم سكون وهو ما يقابل النقد (وخاتم من حديد) من عطف الخاص على العام.
5150 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: لِرَجُلٍ: «تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى) هو ابن موسى البلخي المعروف بخت كما صرح به ابن السكن قال: (حدّثنا وكيع) هو ابن الجراح (عن سفيان) الثوري (عن أبي حازم) سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) الساعدي -رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لرجل) من الأنصار قال له: يا رسول الله زوّجني تلك المرأة الواهبة نفسها (تزوج ولو بخاتم من حديد).
وهذا الحديث ساقه مختصرًا من رواية الثوري وأخرجه ابن ماجة من روايته أيضًا أتم منه، وللإسماعيلي أتم من ابن ماجة والطبراني مقرونًا برواية معمر وفيه فصمت بدل قوله في رواية الباب السابق فلم يجبها شيئًا، وفيه عند الطبراني فصمت ثم عرضت نفسها عليه فصمت فلقد رأيتها قائمة مليًّا تعرض نفسها عليه وهو صامت فقام رجل أحسبه من الأنصار وعند الإسماعيلي أعندك شيء؟ قال: لا. قال: إنه لا يصلح وفيه غير ذلك مما يطول ذكره.

52 - باب الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ، قَالَ: «حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي».
(باب الشروط) التي تحل (في النكاح. وقال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه-:

(8/62)


(مقاطع الحقوق عند الشروط) وصله سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن غنم بلفظ قال: كنت مع عمر حيث تمس ركبتي ركبته فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين تزوجت امرأة وشرطت لها دارها وإني أجمع لأمري أو لشأني أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا فقال لها شرطها فقال الرجل: هلك الرجال إذًا إذًا لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت، فقال عمر: المسلمون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم.
(وقال المسور) ولأبي ذر المسور بن مخرمة مما وصله في المناقب: (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر صهرًا له) هو أبو العاص بن الربع (فأثنى عليه في مصاهرته فأحسن) الثناء (قال: حدّثني فصدقني) بتخفيف الدال ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وصدقني بالواو بدل الفاء (ووعدني فوفى لي) ولأبي ذر عن الكشميهني فوفاني بالنون بدل اللام.
5151 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ، أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك) الطيالسي قال: (حدّثنا ليث) هو ابن سعد الإمام ولأبي ذر الليث (عن يزيد بن أبي حبيب) المصري (عن أبي الخير) مرثد بن عبد الله اليزني (عن عقبة) بن عامر الجهني (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(أحق ما أوفيتم من الشروط) التي أمر الله بها من المهر المشروط في مقابلة البضع (أن توفوا به) وخبر المبتدأ الذي هو أحق قوله (ما استحللتم به الفروج). وقوله: أن توفوا بدل من الشروط وقيل المراد جميع ما تستحقه المرأة بمقتضى الزوجية من المهر والنفقة وحسن العشرة فإن الزوج التزمها بالعقد فكأنها شرطت فيه، ثم إن الشرط إن لم يتعلق به غرض كشرط أن لا تأكل إلا كذا أو تعلق به غرض لكنه يوافق مقتضى النكاح كشرط أن ينفق عليها أو يقسم لها لم يؤثر في النكاح ولا في الصداق وإن لم يوافق مقتضى النكاح فإن لم يخل بمقصود العقد كشرط أن لا ينفق أو لا يتزوج عليها أو لا يسافر بها أو لا يقسم لها أو أن يسكنها مع ضرّتها صح النكاح لعدم الإخلال بمقصوده ولأنه لا يتأثر بفساد العوض فبفساد الشرط أولى، لكن لها مهر المثل لا المسمى لفساد الشرط لأنه إن كان لها فلم ترض بالمسمى وحده وإن كان عليها فلم يرض الزوج ببذل المسمى إلا عند سلامة ما شرطه فإذا فسد الشرط وليس له قيمة يرجع إليها وجب الرجوع إلى مهر المثل
وإن أخل به كشرط أن يطلقها ولو بعد الوطء أو أن له الخيار في النكاح.
قال الحناطي ولو شرط أنها لا ترثه أو أنه لا يرثها أو أنهما لا يتوارثان أو على أن النفقة على غير الزوج بطل للإخلال المذكور وفي قول يصح ويبطل الشرط. قال البلقيني وغيره: وهذا هو الأصح ووجهه أن الشرط المذكور لا يخل بمقصود العقد ولو شرط الزوج أن لا يطأها فلا يبطل وقال أحمد يجب الوفاء بالشرط مطلقًا وأما الشرط الذي يشترطه الولي لنفسه فقال الشافعي: إن وقع في نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها وإن وقع خارجًا عنه لم يجب، وقال مالك: إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر أو خارجًا عنه فهو لمن وهب له وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها فما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه" الحديث.

53 - باب الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ تَحِلُّ فِي النِّكَاحِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لاَ تَشْتَرِطِ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا
(باب الشروط التي لا تحل في النكاح. وقال ابن مسعود) عبد الله: (لا تشترط المرأة طلاق أختها). قال في الفتح: هذا اللفظ وقع في بعض طرق الحديث المرفوع عن أبي هريرة.
5152 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ زَكَرِيَّا هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله بن موسى) بضم العين ابن باذام العبسي الكوفي قال: (عن زكريا هو ابن زائدة) خالد أو هبيرة (عن سعد بن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها) في النسب أو في الرضاع أو في الدين أو في البشرية لتدخل الكافرة أو المراد الضرة ولفظ لا يحل ظاهر في التحريم لكن حمل على ما إذا لم يكن هناك سبب مجوّز كريبة في المرأة لا يسوغ معها الاستمرار في العصمة وقصدت النصيحة المحضة

(8/63)


إلى غير ذلك من المقاصد الصحيحة وحمله على الندب مع التصريح بالتحريم بعيد، وفي مستخرج أبي نعيم لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها وبلفظ الأشراط تحصل المطابقة بين الحديث والترجمة وظاهر هذه الرواية التي فيها لفظ الشرط أن المراد الأجنبية فتكون الأخوة في الدين ويؤيده ما في حديث أبي هريرة عند ابن حبان: لا تسأل المرأة طلاق أختها فإن المسلمة أخت المسلمة (لتستفرغ صحفتها) أي تجعلها فارغة لتفوز بحظها من النفقة والمعروف والمعاشرة، وهذه استعارة مستملحة تمثيلية شبه النصيب والبخت بالصحفة وحظوظها وتمتعها بما يوضع في الصحفة من الأطعمة
اللذيذة وشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به واستعمل في المشبه ما كان مستعملًا في المشبه به من الألفاظ. قاله في شرح المشكاة فيما قرأته فيه. وفي حديث أبي هريرة عند البيهقي: لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ إناء أختها ولتنكح أي ولتتزوج الزوج المذكور من غير أن تشترط طلاق التي قبلها (فإنما لها) أي للمرأة التي تسأل طلاق أختها (ما قدّر لها) في الأزل وقد اختلف في حكم ذلك فقال: الحنابلة إن شرط لها طلاق ضرتها صح وقيل لا وهو الأظهر واختاره جماعة وكذا حكم بيع أمته وعلى القول بالصحة فإن لم يفِ فلها الفسخ. وقال الشافعي: يصح ولها مهر المثل وفى لها أو لم يفِ.
والحديث يأتي في القدر إن شاء الله تعالى بعون الله وقوّته والله أعلم.

54 - باب الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب) حكم (الصفرة للمتزوج. ورواه) ولأبي ذر رواه (عبد الرحمن بن عوف عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما وصله أول البيوع.
5153 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: «كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا»؟ قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن حميد الطويل عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبه أثر صفرة) من خلوق وهو طيب من زعفران وغيره تعلق به من زوجته فهو غير مقصود، وإلا فالتزعفر منهي عنه عند الشافعية والحنفية. وقال المالكية: يجوز في الثوب دون البدن ونقله إمامهم -رحمه الله- عن علماء المدينة وفيه حديث أبي موسى مرفوعًا لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق (فسأله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عن ذلك (فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار) هي بنت الحيسر المهملتين بينهما تحتية ساكنة وآخره راء واسمه أنس بن رافع الأنصاري كما جزم به الزبير بن بكار (قال) عليه الصلاة والسلام له:
(كم سقت إليها) مهرًا (قال) عبد الرحمن سقت إليها: (زنة نواة من ذهب) صفة النواة. قال ابن دقيق العيد: في معنى ذلك قولان: أحدهما: أن المراد نواة من نوى التمر وهو قول مرجوح، والثاني أنه عبارة عن قدر معلوم عندهم وهو وزن خمسة دراهم قال: ثم في المعنى وجهان: أحدهما: أن يكون المصدق ذهبًا وزنه خمسة دراهم، والثاني: أن يكون المصدق دراهم بوزن نواة من ذهب. قال: وعلى الأول يتعلق قوله من ذهب بلفظ زنة، وعلى الثاني يتعلق بنواة، قال ابن فرحون: أما تعلقه بزنة فلأنه مصدر وزن وأما تعلقه بنواة فيصح أن يكون من باب تعلق الصفة
بالموصوف أي نواة كائنة من ذهب ويكون المراد إما عدلها دراهم أو تكون هي الموزون بها (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) له: (أولم) أمر للاستحباب من أولم واللفظة مشتقة من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان (ولو بشاة) ليست لو هذه الامتناعية وإنما هي للتقليل أي أن أقلها للموسر شاة ولغيره ما قدر عليه فقد أولم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على بعض نسائه بمدّين من شعير وعلى صفية بتمر وسمن وأقط.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في النكاح.

55 - باب
هذا (باب) بالتنوين بغير ترجمة وسقط لفظ باب للنسفي.
5154 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَوْلَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِزَيْنَبَ فَأَوْسَعَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، فَخَرَجَ كَمَا يَصْنَعُ إِذَا تَزَوَّجَ، فَأَتَى حُجَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُو وَيَدْعُونَ لَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ فَرَجَعَ، لاَ أَدْرِى أخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ بِخُرُوجِهِمَا.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد بن مسربل الأسدي أبو الحسن البصري الحافظ قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن حميد) الطويل (عن أنس) أنه (قال: أولم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بزينب) بنت

(8/64)


جحش (فأوسع) على (المسلمين خيرًا) بتحتية ساكنة بعد المعجمة المفتوحة وفي سورة الأحزاب خبزًا ولحمًا (فخرج) عليه الصلاة والسلام والقوم جالسون يتحدثون بعد أن أكلوا (كما) كان (يصنع إذا تزوج فأتى حجر أمهات المؤمنين يدعو) لهن (ويدعون له) وسقط له لغير أبي ذر (ثم انصرف) من الحجر (فرأى رجلين) ممن حضر الوليمة قد تأخرا (فرجع) عن بيته، فلما رأيا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرجا مسرعين قال أنس: (لا أدري أخبرته أو أخبر بخروجهما) الحديث ساقه هنا مختصرًا، وسبق بأطول منه بالأحزاب، ولم تظهر المناسبة بين الترجمة والحديث. وأجاب الحافظ ابن حجر بأنه لم يقع في قصة تزويج زينب ذكر للصفرة فكأنه يقول: الصفرة للمتزوج من الجنائز لا من الشروط لكل متزوج وأجاب العيني بأن المطابقة من حيث الأمر بالوليمة في السابق، وفي هذا ذكرها في قوله: أولم كذا قالا فليتأمل والله أعلم.

56 - باب كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ
هذا (باب) بالتنوين (كيف يدعى للمتزوج).
5155 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، قَالَ: «مَا هَذَا»؟ قَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ. أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا حماد هو ابن زيد عن ثابت) هو
البناني (عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة قال):
(ما هذا) استفهام إنكار لما سبق من النهي عن التزعفر (قال: إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب) فعلق بي هذه الصفرة منها ولم أقصد ذلك (قال) عليه الصلاة والسلام: (بارك الله لك أولم ولو بشاة) فيستحب الدعاء للزوجين بالبركة بعد العقد، فيقال: بارك الله لك كما في هذا الحديث وبارك عليك الله وجمع بينكما في خير كما في الترمذي، وقال: حسن صحيح أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا رفأ من تزوج قال بارك الله لك وعليك وجمع بينكما في خير، ويكره أن يقال بالرفاء والبنين للنهي عن ذلك كما رواه بقيّ بن مخلد من طريق غالب عن الحسن عن رجل من بني تميم قال: كنا نقول في الجاهلية بالرفاء والبنين فلما جاء الإسلام علمنا نبينا قال: (قولوا بارك الله لكم وبارك فيكم وبارك عليكم) والرفاء بكسر الراء وبعدها فاء ممدودًا الالتئام من رفأت الثوب ورفوته رفوًا ورفاءً وهو دعاء للزوج بالالتئام والائتلاف واختلف في علة النهي عنه فقيل لأنه من ألفاظ الجاهلية أو لما فيه من الإشعار ببغض البنات لتخصيص البنين بالذكر أو لخلوّه عن حمد الله والثناء عليه، فعلى هذا لو قيل بالرفاء والأولاد أو أُتي بالحمد والثناء لا يكره.

57 - باب الدُّعَاءِ لِلنِّسَاءِ اللاَّتِي يَهْدِينَ الْعَرُوسَ، وَلِلْعَرُوسِ
(باب الدعاء للنساء) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: للنسوة (اللاتي يهدين العروس) بضم الياء من أهدى وبفتحها لغير أبي ذر من الثلاث (و) الدعاء (للعروس) أيضًا.
5156 - حَدَّثَنَا فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ. عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ.
وبه قال: (حدّثنا فروة بن أبي المغراء) بفتح الميم وسكون الغين المعجمة بعدها راء ممدودًا وفروة بالفاء المفتوحة والراء الساكنة الكندي الكوفي وسقط ابن أبي المغراء لغير أبي ذر قال: (حدّثنا علي بن مسهر) بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء القرشي الكوفي (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها قالت: (تزوجني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأتتني أمي) أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس (فأدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت) سمى منهن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية كما عند جعفر المستغفري والطبراني لا أسماء بنت عميس وإن وقع في الطبراني لأن بنت عميس كانت إذ ذاك مع زوجها جعفر بن أبي طالب بالحبشة (فقلن) لأم رومان ومن معها وللعروس (على الخير والبركة) قدمتنّ (وعلى خير طائر) أي حظ ونصيب وعند أحمد أن أمها أجلستها في حجر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله بارك الله لك فيهم.

58 - باب مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ
(باب من أحب البناء) أي الدخول على زوجته (قبل الغزو) إذا حضر الجهاد ليكون فكره مجتمعًا لأن الذي يعقد عقده على امرأة يصير متعلق الخاطر بها بخلاف ما إذا دخل عليها.
5157 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهْوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) الهمداني قال: (حدّثنا عبد الله بن المبارك) المروزي وسقط لغير أبي ذر

(8/65)


لفظ عبد الله (عن معمر) بسكون العين وفتح الميمين ابن راشد (عن همام) بتشديد الميم الأولى ابن منبه (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(غزا) أي أراد أن يغزو (نبي من الأنبياء) يوشع أو داود عليهما السلام (فقال لقومه) بني إسرائيل (لا يتبعني) بالجزم على النهي (رجل ملك بضع امرأة) أي نكحها (وهو) أي والحال أنه (يريد أن يبني بها) أي يدخل عليها (ولم يبن بها) لتعلق قلبه غالبًا بها.
وهذا الحديث قد مرّ في الخمس.

59 - باب مَنْ بَنَى بِامْرَأَةٍ وَهْيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ
(باب من بنى بامرأة) أي دخل عليها (وهي بنت تسع سنين).
5158 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَائِشَةَ وَهْيَ ابْنَةُ سِتٍّ، وَبَنَى بِهَا وَهْيَ ابْنَةُ تِسْعٍ، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا.
وبه قال: (حدّثنا قبيصة بن عقبة) بفتح القاف وكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة فصاد مهملة وعقبة بضم العين وسكون القاف قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن هشام بن عروة عن) أبيه (عروة) بن الزبير أنه قال: (تزوّج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عائشة) -رضي الله عنها- (وهي ابنة) ولأبي ذر بنت (ست) ولأبي ذر عن الكشميهني ست سنين (وبنى بها) دخل عليها (وهي ابنة) ولأبي ذر بنت (تسع ومكثت عنده) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (تسعًا) فتوفي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعمرها ثمان عشرة سنة.
وهذا الحديث مرّ قريبًا في باب إنكاح الرجل ولده الصغار.

60 - باب الْبِنَاءِ فِي السَّفَرِ
(باب البناء) بالمرأة (في السفر).
5159 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَقَامَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَأُلْقِىَ فِيهَا مِنَ التَّمْرِ وَالأَقِطِ وَالسَّمْنِ. فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهْيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهْيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ. فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطأَ لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (محمد بن سلام) البيكندي ولأبي ذر هو ابن سلام قال: (أخبرنا إسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير القارئ (عن حميد) الطويل (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: أقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما رجع من غزوة خيبر (بين خيبر والمدينة) بسدّ الصهباء (ثلاثًا) من الأيام (يبنى عليه) بصيغة المجهول (بصفية بنت حيي فدعوت المسلمين إلى) ولأبي ذر عن المستملي على (وليمته فما كان فيها من خبز ولا لحم) إعلام بأنه ما كان فيها من طعام المتنعمين المسرفين بل من طعام أهل التقشف (أمر) عليه الصلاة والسلام (بالأنطاع) فبسطت (فألقي فيها من التمر والأقط) اللبن الجامد (والسمن فكانت) تلك الحيسة المتخذة من التمر والأقط والسمن (وليمته) عليه الصلاة والسلام (فقال المسلمون): أي (إحدى أمهات المؤمنين) الحرائر؟ (أو مما ملكت يمينه فقالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين وإن لم يحجبها فهي مما ملكلت يمينه. فلما ارتحل وطأ لها خلفه) على ناقته (ومدّ الحجاب بينها وبين الناس) فكانت من أمهات المؤمنين.
وفي الحديث أن السُّنَّة في الإقامة عند الثيب لا تختص بالحضر ولا تتقيد بمن له امرأة غيرها ولو كان تحته واحدة وجدد عليها أخرى أقام وجوبًا عند البكر التي جددها سبعًا فإن كانت ثيبًا ثلاثًا متواليات لحديث ابن حبان في صحيحه سبع للبكر وثلاث للثيب والمعنى فيه زوال الحشمة بينهما وزيد للبكر لأن حياءها أكثر واعتبر تواليها لأن الحشمة لا تزول بالمفرق فلو فرقها لم تحسب وقضاها لها متواليات.
وهذا الحديث سبق في غزوة خيبر.

61 - باب الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلاَ نِيرَانٍ
(باب البناء) أي الدخول للرجل على زوجته (بالنهار) فلا تختص بالليل (بغير مركب) بفتح الميم والكاف للزوج أو الزوجة أو للناس لعلان أو للزينة (ولا نيران) توقد كالشموع ونحوها بين يدي العروس. وفيما رواه سعيد بن منصور ومن طريقه أبو الشيخ ابن حيان عن عبد الله بن قرط الثمالي وكان عامل عمر على حمص أنه مرت به عروس وهم يوقدون النيران بين يديها فضربهم بدرته حتى تفرقوا عن عروسهم ثم خطب فقال: إن عروسكم أوقدوا النيران وتشبهوا بالكفرة والله مطفئ نورهم. نقله في الفتح وفيه دليل على كراهة ذلك والله أعلم.
5160 - حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضُحًى.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (فروة بن أبي المغراء) قال: حدّثنا علي بن مسهر) القرشي الكوفي (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة رضي الله عنها) أنها (قالت: تزوّجني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأتتني أمي) أم رومان (فأدخلتني الدار فلم يرعني) أي لم

(8/66)


يفجأني ولم يخوّفني (إلا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضحى) أي وقت الضحى ففيه ما ترجم له أن دخوله عليه الصلاة والسلام عليها كان نهارًا من غير مركب ولا نيران.

62 - باب الأَنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ
(باب) جواز اتخاذ (الأنماط) بفتح الهمزة وسكون النون ضرب من البسط له خمل (ونحوها) من الحلل والأستار والفرش (للنساء).
5161 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَلِ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا»؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ. قَالَ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري قال: (حدّثنا محمد بن المنكدر) التيمي المدني (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): أي لجابر لما تزوج.
(هل اتخذتم أنماطًا) قال جابر: (قلت يا رسول الله وأنى) بفتح النون المشددة أي ومن أين (لنا أنماط)؟ كذا شطب على اللام ألف في الفرع كأصله (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إنها ستكون) زاد في علامات النبوة لكم الأنماط قال النووي رحمه الله: فيه جواز اتخاذ الأنماط إذا لم تكن من حرير وتعقب بأنه لا يلزم من الأخبار بأنها ستكون الإباحة. وأجيب: بأن أخباره عليه الصلاة والسلام أنها ستكون ولم ينه فكأنه أقرّه نعم في حديث عائشة عند مسلم أنها أخذت نمطًا فسترته على الباب فجذبه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى هتكه وقال: "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين" قالت: فقطعت منه وسادتين فلم يعب ذلك. قال في الفتح: فيؤخذ منه أن الأنماط لا يكره اتخاذها لذاتها بل لما يصنع بها، وقد اختلف في ستر البيوت والجدار والذي جزم به جمهور الشافعية الكراهة، بل صرّح الشيخ أبو نصر المقدسي منهم بالتحريم لحديث عائشة هذا، وقال غيره: ليس في السياق ما يدل على التحريم وإنما فيه نفي الأمر بذلك ونفي الأمر يستلزم نفي ثبوت النهي. نعم يمكن أن يحتج بفعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هتكه، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره والنهي صريحًا،
ولفظه ولا تستروا الجدار بالثياب لكن في إسناده ضعف وله شاهد مرسل عن علي بن الحسين.
وحديث الباب سبق في علامات النبوة.

63 - باب النِّسْوَةِ اللاَّتِي يَهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا
(باب النسوة اللاتي) بالجمع (يهدين) بضم الياء (المرأة إلى زوجها) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: التي بالإفراد والأولى أولى وزاد أبو ذر ودعائهن بالبركة ولأبي ذر لهذه الزيادة في الحديث.
5162 - حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا عَائِشَةُ، مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ، فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ».
وبه قال: (حدّثنا الفضل بن يعقوب) البغدادي قال: (حدّثنا محمد بن سابق) أبو جعفر التميمي البغدادي أحد مشايخ المؤلّف روى عنه بالواسطة قال: (حدّثنا إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) -رضي الله عنها- (أنها زفّت) بالزاي المفتوحة والفاء المشدّدة المفتوحة أيضًا (امرأة) كانت يتيمة في حجرها كما في الأوسط للطبراني وعند ابن ماجة قرابة لها، وعند أبي الشيخ بنت أختها أو ذات قرابة منها، وفي أُسد الغابة ما يدل على أن اسمها الفارعة بنت أسعد بن زرارة (إلى رجل من الأنصار) في أُسد الغابة أن اسمه نبيط بن جابر الأنصاري (فقال نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا عائشة ما كان معكم لهو) وفي رواية شريك فقال: فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال: تقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمـ ... ـر ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا ... ء ما سمنت عذاريكم
(فإن الأنصار يعجبهم اللهو) وفي حديث ابن عباس عند ابن ماجة قوم فيهم غزل، وفي حديث عبد الله بن الزبير عند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم: أعلنوا النكاح. زاد الترمذي وابن ماجة من حديث عائشة: واضربوا عليه بالدف، وسنده ضعيف، ولأحمد والترمذي والنسائي من حديث محمد بن حاطب: فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف.

64 - باب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ
(باب) إهداء (الهدية للعروس) صبيحة البناء.
5163 - وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَاسْمُهُ الْجَعْدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَرَّ بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرُوسًا بِزَيْنَبَ، فَقَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ: لَوْ اهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَدِيَّةً، فَقُلْتُ لَهَا: افْعَلِي. فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِي بُرْمَةٍ فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِي إِلَيْهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لِي: «ضَعْهَا». ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَالَ: «ادْعُ لِي رِجَالًا» سَمَّاهُمْ، وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ. قَالَ: فَفَعَلْتُ الَّذِي أَمَرَنِي فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمُ: «اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ» قَالَ: حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا. فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ، وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ الْحُجُرَاتِ، وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ وَهْوَ يَقُولُ: «{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ.
(وقال إبراهيم) بن طهمان الهروي: (عن أبي عثمان واسمه الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة ابن دينار اليشكري البصري (عن أنس بن مالك قال) أبو عثمان الجعد: (مرّ بنا) أنس بالبصرة (في مسجد بني رفاعة) بكسر الراء وتخفيف الفاء وبالعين المهملة ابن الحارث (فسمعته يقول: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

(8/67)


إذا مرّ بجنبات) أمي (أم سليم) بفتح الجيم والنون والموحدة أي ناحيتها (دخل عليها فسلم عليها ثم قال) أنس: (كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عروسًا بزينب) بنت جحش الأسدية (فقالت لي) أمي: (أم سليم لو أهدينا لرسول الله) ولأبي ذر عن الكشميهني إلى رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هدية فقلت لها: افعلي) ذلك (فعمدت) بفتح الميم (إلى تمر وسمن وأقط فاتخذت حيسة) بفتح الحاء المهملة وبعد التحتية سين مهملة (في برمة) في قِدر من حجر (فأرسلت بها) بالحيسة (معي إليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فانطلقت بها إليه فقال لي):
(ضعها، ثم أمرني فقال: ادع لي رجالًا) سماهم (وادع لي من لقيت. قال) أنس: (ففعلت الذي أمرني) به (فرجعت فإذا البيت غاص) بالغين المعجمة والصاد المهملة المشددة بينهما ألف أي ممتلئ (بأهله فرأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وضع يديه) بالتثنية (على تلك الحيسة) التي أرسلتها أم سليم (وتكلم بها) بالموحدة قبل الهاء مصححًا عليها بالفرع كأصله (ما شاء الله) أن يتكلم، وسقط لفظ بها لأبي ذر (ثم جعل يدعو عشرة عشرة) من القوم الذين اجتمعوا (يأكلون منه) من الطعام المسمى بالحيسة (ويقول لهم) عليه الصلاة والسلام: (اذكروا اسم الله وليأكل كل رجل مما يليه. قال: حتى
تصدعوا) بتشديد الدال المهملة تفرقوا (كلهم عنها) عن الحيسة (فخرج منهم من خرج وبقي نفر) ثلاثة رجال (يتحدثون) في الحجرة (قال) أنس (وجعلت أغتمّ) بالغين المعجمة وتشديد الميم أي أحزن من عدم خروجهم (ثم خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحو الحجرات) سكن أمهات المؤمنين (وخرجت في أثره فقلت) له (إنهم قد ذهبوا فرجع) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو) عليه الصلاة والسلام (يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم}) أي إلا مصحوبين بالإذن فهو في موضع الحال ({إلى طعام غير ناظرين إناه}) مصدر أنى الطعام إذا أدرك أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول ({ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا}) تفرقوا وأخرجوا من منزله ({ولا مستأنسين لحديث وإن ذلكم}) الانتظار والاستئناس ({كان يؤذي النبي}) لتضييق المنزل عليه وعلى أهله ({فيستحيي منكم}) أن يخرجكم ({والله لا يستحيي من الحق}) [الأحزاب: 53] وسقط لأبي ذر قوله: {ولكن إذا دعيتم} إلى آخره وقال بعد قوله: {إناه} إلى قوله: {والله لا يستحيي من الحق} (قال أبو عثمان) الجعد (قال أنس: إنه) أي أنسًا (خدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عشر سنين).
قال في الفتح: وقد استشكل القاضي ما وقع هنا أن الوليمة بزينب كانت من الحيس الذي أهدته أم سليم وإن المشهور من الروايات أنه أولم عليها بالخبز واللحم ولم يقع في القصة تكثير ذلك الطعام وإنما فيه أنه أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا قال: وهذا وهم من رواية وتركيب القصة على أخرى. وأجاب: بأن حضور الحيسة صادف حضور الخبز واللحم فأكلوا كلهم من ذلك.
وقال القرطبي: لعل الذين دعوا إلى الخبز واللحم أكلوا حتى شبعوا وذهبوا ولم يرجعوا وبقي النفر الذين كانوا يتحدثون عنده حتى جاء أنس بالحيسة فأمر أن يدعو أناسًا آخرين ومَن لقي فدخلوا فأكلوا أيضًا حتى شبعوا واستمر أولئك النفر يتحدثون.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في النكاح والترمذي في التفسير.

65 - باب اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ لِلْعَرُوسِ وَغَيْرِهَا
(باب استعارة الثياب للعروس وغيرها) وغير الثياب مما تتجمل به العروس كالحلي أو غير العروس.
5164 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَهَلَكَتْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاَةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلاَّ جَعَلَ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا، وَجُعِلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةٌ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (عبيد بن إسماعيل) قال: (حدّثنا أبو أسامة)
حماد بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أنها استعارت من أسماء) أختها (قلادة) لتتزين بها للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فهلكت) أي ضاعت (فأرسل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ناسًا من أصحابه في طلبها) وفي التيمم رجلًا وفسر بأنه

(8/68)


أسيد بن حضير (فأدركتهم الصلاة) لم أقف على تعيينها (فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شكوا ذلك) أي فقدهم الماء وصلاتهم بغير وضوء (إليه فنزلت آية التيمم) التي في سورة المائدة (فقال أسيد بن حضير): بضم الهمزة والحاء المهملة مصغرين الأنصاري لعائشة (جزاك الله خيرًا فوالله ما نزل أمر قط إلا جعل لك) ولأبي ذر عن الكشميهني إلا جعل الله لك (منه مخرجًا) من مضايقه (وجعل للمسلمين) كلهم (فيه بركة) ولأبي ذر: جعل بضم الجيم مبنيًّا للمفعول فيه بركة رفع نائبًا عن الفاعل قيل: ولا مطابقة بين الحديث والترجمة إذ ليست القلادة من الثياب ولم تكن عائشة حينئذ عروسًا. وأجاب في الفتح: بأن ذلك من جهة المعنى الجامع بين القلادة وغيرها من أنواع الملبوس الذي يتزين به الزوج أعم من أن يكون عند العروس أو بعده. وأجاب العيني بأنّا إذا أعدنا الضمير في قوله في الترجمة وغيرها إلى العروس تحصل المطابقة.

66 - باب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
(باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله) أي إذا أراد الجماع.
5165 - حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فهي بِذَلِكَ أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا».
وبه قال: (حدّثنا سعد بن حفص) بسكون العين الطلحي الكوفي المعروف بالضخم قال: (حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن النحوي (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن سالم بن الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة (عن كريب) مولى ابن عباس (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم استفتاحية (لو أن أحدهم يقول حين يأتي) سقط لغير الكشميهني أن (أهله) يجامع امرأته أو سريته، وعند أبي داود كالمصنف في الدعوات من رواية جرير عن منصور لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله يقول: (بسم الله اللهم جنبني الشيطان) بالإفراد (وجنّب الشيطان ما رزقتنا) بالجمع وأطلق ما على من يعقل لأنها بمعنى شيء كقوله: {والله أعلم بما وضعت} [آل عمران: 36] ولو هذه يجوز أن تكون للتمني على حدّ فلو أن لنا كرّة والمعنى أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تمنى لهم ذلك الخير يفعلونه لتحصل لهم السعادة وحينئذ فيجيء فيه الخلاف المشهور هل يحتاج إلى جواب أو لا وبالثاني قال ابن الضائع وابن هشام: ويجوز أن تكون شرطية
والجواب محذوف والتقدير لمسلم من الشيطان أو نحو ذلك ويدل عليه قوله: (ثم قدر بينهما) ولد (في ذلك) الإتيان (أو قضي ولد) وسقط لغير الكشميهني قوله في ذلك (لم يضره شيطان أبدًا) ولأحمد لم يضر ذلك الولد الشيطان أبدًا أي بإضلاله وإغوائه بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الإسراء: 65] وفي مرسل الحسن عند عبد الرزاق إذا أتى الرجل أهله فليقل: بسم الله اللهم بارك لنا في ما رزقتنا ولا تجعل للشيطان نصيبًا فيما رزقتنا، وكان يرجى إن حملت أن يكون ولدًا صالحًا. وهذا يؤيد أن المراد لا يضره في دينه ولا يقال إنه يبعده انتفاء العصمة لأن اختصاص من خص بالعصمة بطريق الوجوب لا بطريق الجواز فلا مانع أن يوجد من لا تصدر منه معصية عمدًا وإن لم يكن ذلك واجبًا له.

67 - باب الْوَلِيمَةُ حَقٌّ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: قَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
هذا (باب) بالتنوين (الوليمة) وهي الطعام المتخذ للعرس (حق) أي ثابت في الشرع وهل هي واجبة أو سُنة؟ فعند الشافعية أنها واجبة على النص وإليه ذهب ابن خيران لقوله عليه السلام لعبد الرحمن: أولم ولأنه عليه السلام لم يتركها في سفر ولا حضر وقيل فرض على الكفاية إذا فعلها واحد أو اثنان في الناحية أو القبيلة وشاع وظهر سقط الفرض عن الباقين والأصح أنها سُنّة والترجمة لفظ حديث مرفوع أخرجه الطبراني.
(وقال عبد الرحمن بن عوف) فيما وصله في البيع (قال لي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما تزوجت: (أولم ولو بشاة) والأمر للندب قياسًا على الأضحية ونقل القرطبي الوجوب في رواية في مذهب مالك وقال: إن مشهور المذهب أنها مندوبة.
5166 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أُمَّهَاتِي يُوَاظِبْنَنِي عَلَى خِدْمَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ. وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِيَ رَهْطٌ مِنْهُمْ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَطَالُوا الْمُكْثَ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ لِكَيْ يَخْرُجُوا، فَمَشَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَشَيْتُ حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَقُومُوا، فَرَجَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَجَعْتُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَضَرَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنِي وَبَيْنَهُ بِالسِّتْرِ، وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة قال: (حدّثني) بالإفراد (الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين وفتح القاف وسكون التحتية ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال: أخبرني)

(8/69)


بالإفراد (أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بنصب مقدم على الظرفية أي زمان قدومه (المدينة) في الهجرة (فكان) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فكن (أمهاتي) أي أمه وأخواتها (يواظبنني) بالظاء المعجمة والموحدة الساكنة من المواظبة على الشيء وهو الاستمرار عليه، ولأبي ذر عن أبي الوقت يواطئنني بالطاء المهملة والتحتية مهموزة من المواطأة أي يحرّضنني (على خدمة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخدمته عشر سنين) زاد في الأدب والله ما قال لي أف قط (وتوفي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا ابن عشرين سنة فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل) حكمه في آية الأحزاب (وكان أول ما نزل) الحجاب (في مبتنى) في زمان دخول (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بزينب بنت) ولغير أبي ذر ابنة (جحش) -رضي الله عنها- (أصبح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بها عروسًا فدعا القوم) لوليمتها (فأصابوا من الطعام ثم خرجوا وبقي رهط) ما بين الثلاثة إلى العشرة ولم يسموا (منهم عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأطالوا المكث) يتحدّثون في البيت (فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومشيت) معه (حتى جاء عتبة حجرة عائشة ثم ظن أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم) أي النفر (جلوس لم يقوموا فرجع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيني وبينه بالستر) بزيادة الموحدة (وأنزل الحجاب) في آية: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} [الأحزاب: 53] الآية.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة واختلف في وقت الوليمة فقال ابن الحاجب من المالكية إنه بعد البناء. قال الشيخ خليل في التوضيح: وهو ظاهر المذهب واستحبها بعض الشيوخ قبل البناء.
قال اللخمي وواسع قبله وبعده، ولمالك في العتبية لا بأس إن لم يولم قبل البناء وبعده، وقال ابن يونس: يستحب الإطعام عند عقد النكاح وعند البناء. وقال الباجي: المختار منها يوم واحد، وقال ابن حبيب: وقد أبيح أكثر من يوم ويكره استدامة ذلك أيامًا انتهى.
وصرح الماوردي من الشافعية بأنها عند الدخول وحديث الباب صريح في أنها بعده لقوله فيه أصبح عروسًا بزينب فدعا القوم.
وهذا الحديث سبق قريبًا.

68 - باب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ
(باب) استحباب (الوليمة ولو بشاة) للموسر.
5167 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا -رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ: كَمْ أَصْدَقْتَهَا، قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ
مِنْ ذَهَبٍ. وَعَنْ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ نَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الأَنْصَارِ، فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ: أُقَاسِمُكَ مَالِي، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَيَّ. قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ. فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ، فَبَاعَ وَاشْتَرَى، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَتَزَوَّجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن عبد الله المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: حدّثني) بالإفراد (حميد) الطويل (أنه سمع أنسًا -رضي الله عنه- قال: سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عبد الرحمن بن عوف و) الحال أنه كان قد (تزوج امرأة من الأنصار) هي بنت الحيسر بن رافع بن امرئ القيس.
(كم أصدقتها؟ قال): أصدقتها (وزن نواة) ويجوز رفع وزن أي الذي أصدقتها وزن نواة (من ذهب، و) بالسند السابق (عن حميد سمعت) ولأبي ذر عن الكشميهني سمع (أنسًا) -رضي الله عنه- أنه (قال: لما قدموا) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه (المدينة نزل المهاجرون على الأنصار فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع) الأنصاري وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آخى بينهما (فقال) سعد لعبد الرحمن (أقاسمك مالي) فخذ شطره (وأنزل لك عن إحدى امرأتي) فأيتهما شئت طلقتها لك فإذا حلّت تزوجتها. قال في الفتح: ولم أقف على اسم امرأتي سعد بن الربيع إلا أن ابن سعد ذكر أنه كان له من الولد أم سعد واسمها جميلة وأمها عمرة بنت حزم وتزوّج زيد بن ثابت أم سعد فولدت له ابنة خارجة قال: فيؤخذ من هذا تسمية إحدى امرأتي سعد قال: وأخرج الطبري في التفسير قصة مجيء امرأة سعد بن الربيع بابنتي سعد لما استشهد فقالت: إن عمهما أخذ ميراثهما فنزلت آية المواريث، وسماها إسماعيل القاضي في أحكام القرآن بسند له مرسل عمرة بنت حزم انتهى.
ورأيت في حاشية نسخة من الفتح عن شيخنا الحافظ

(8/70)


أبي الخير السخاوي ما نصه قد أبعد شيخنا في عزو ذلك للطبري مع أنه في أبي داود والترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم وغيره قال: وقد وقفت على تسمية الزوجة الثانية في تفسير مقاتل عند قوله تعالى: {الرجال قوّامون على النساء} [النساء: 34] وأنها حبيبة بنت زيد بن أبي زهير.
(قال) عبد الرحمن لا حاجة لي في ذلك (بارك الله لك في أهلك ومالك فخرج إلى السوق) وهو سوق بني قينقاع (فباع واشترى) اتجر (فأصاب) أي ربح (شيئًا من أقط وسمن فتزوج) بنت الحيسر فلقيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سكّة من سكك المدينة وعليه إثر صفرة فقال: مهيم؟ قال: تزوجت (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أولم ولو بشاة) وهي أقلها للموسر ولغيره ما قدر عليه، وقال النسائي: من الشافعية: المراد أقل الكمال شاة لقول صاحب التنبيه بأي شيء أولم من الطعام جاز. وقال القاضي عياض: أجمعوا على أنه لا حدّ لأكثرها وأما أقلها فكذلك ومهما تيسر أجزأ.
5168 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أَوْلَمَ بِشَاةٍ.
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا حماد) هو ابن زيد (عن ثابت) البناني (عن أنس) أنه (قال: ما أولم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على شيء من نسائه ما أولم على زينب) بنت جحش (أولم بشاة) ليس للتحديد وإنما وقع اتفاقًا وهو موافق لحديث جابر.
5169 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ.
وبه قال (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (عن عبد الوارث) بن سعيد البصري ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: حدّثنا عبد الوارث (عن شعيب) هو ابن الحبحاب بحاءين مهملتين بينهما موحدة ساكنة وبعد الألف أخرى البصري (عن أنس) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعتق صفية) بنت حيي (وتزوّجها وجعل عتقها صداقها) أي أعتقها بلا عوض وتروجها بلا مهر مطلقًا وهو في معنى الواهبة نفسها وهي لا مهر لها مطلقًا ولم تجعله الحنابلة من الخصائص بل قالوا إنه إذا قال لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك صح إن كان متصلًا بحضرة شاهدين فلو طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف قيمتها (وأولم عليها بحيس) وهو ما اتخذ من أقط وتمر ونزع نواه وقد يجعل بدل الأقط دقيق أو سويق وقد يزاد فيه السمن.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي في النكاح.
5170 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ بَيَانٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: بَنَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِامْرَأَةٍ، فَأَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا إِلَى الطَّعَامِ.
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) بن زياد بن درهم أبو غسان النهدي الكوفي قال: (حدّثنا زهير) بضم الزاي هو ابن معاوية الجعفي (عن بيان) بفتح الموحدة وتخفيف التحتية ابن بشر الأحمسي أنه (قال: سمعت أنسًا) -رضي الله عنه- (يقول: بنى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) دخل (بامرأة) هي زينب بنت جحش كما في الترمذي (فأرسلني فدعوت رجالًا إلى الطعام) المتخذ لوليمتها.
وهذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي في التفسير.

69 - باب مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ
(باب من أولم على بعض نسائه أكثر من بعض)
5171 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: ذُكِرَ تَزْوِيجُ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ عِنْدَ أَنَسٍ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْلَمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَيْهَا، أَوْلَمَ بِشَاةٍ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا حماد بن زيد بن ثابت) البناني أنه (قال: ذكر تزويج زينب ابنة) ولأبي ذر: بنت (جحش عند أنس فقال: ما رأيت النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أولم على أحد من نسائه) قدر (ما أولم عليها. أو لم بشاة) أي أولم عليها أكثر مما أولم على نسائه شكرًا لنعمة الله إذ زوّجه إياها بالوحي كما قاله الكرماني أو وقع اتفاقًا لا قصدًا كما قاله ابن بطال أو ليبين الجواز كما قاله غيره.
وهذا الحديث أخرجه مسلم.

70 - باب مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ
(باب من أولم بأقل من شاة).
5172 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: أَوْلَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) هو الفريابي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري وجوّز الكرماني أن يكون محمد هو البيكندي وسفيان هو ابن عيينة والذي جزم به الإسماعيلي وأبو نعيم الأول وقال البرقاني: روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي ووكيع والفريابي وروح بن عبادة عن الثوري (عن منصور ابن صفية) واسم والد منصور عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب العبدري الحجبي المكي (عن أمه صفية بنت شيبة) بن عثمان بن أبي طلحة اختلف في صحبتها أنها (قالت: أولم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على بعض نسائه

(8/71)


بمدّين من شعير) وهما نصف صاع لأن المدّ ربع صاع. قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تعيين اسم التي أولم عليها صريحًا. نعم يحتمل أن تفسر بأم سلمة لحديثها عند ابن سعد عن شيخه الواقدي المذكور فيه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما تزوّجها أدخلها بيت زينب بنت خزيمة فإذا جرة فيها شيء من شعير فأخذته فطحنته ثم عصدته في البرمة وأخذت شيئًا من إهالة فآدمته عليه فكان ذلك طعام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وأما حديث أنس المروي من طريق شريك عن حميد عنه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أولم على أم سلمة بتمر وسمن وسويق فوهم من شريك لأنه كان سيئ الحفظ أو من الراوي عنه وهو جندل بن والق فإن مسلمًا والبزار ضعّفاه إنما المحفوظ من حديث حميد عن أنس أن ذلك في قصة صفية أخرجه النسائي، وهذا الحديث مرسل لأن صفية ليست بصحابية أو صحابية لكنها لم تحضر القصة لأنها كانت بمكة طفلة أو لم تولد وترويج المرأة كان بالمدينة وقد روى حديثها هذا أبو أحمد الزبيري ومؤمل بن إسماعيل ويحيى بن اليمان عن الثوري فقال فيه عن صفية عن عائشة والذين لم يذكروا عائشة أكثر عددًا وأحفظ وأعرف بحديث الثوري ممن زاد فالذي يظهر على قواعد المحدثين أنه من
المزيد في متصل الأسانيد، وقد غلط من رواه عن منصور ابن صفية عن صفية بنت حيي انتهى ملخصًا.

71 - باب حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ، وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا وَلاَ يَوْمَيْنِ
(باب حق إجابة الوليمة) أي وجوب الإجابة إلى طعام العرس (والدعوة) بفتح الدال على المشهور وهي أعم من الوليمة لأن الوليمة خاصة بالعرس كما نقله ابن عبد البر عن أهل اللغة ونقل عن الخليل وثعلب وجزم به الجوهري وابن الأثير على هذا فيكون قوله والدعوة من عطف العام على الخاص (و) باب ذكر (من أولم سبعة أيام) كما رواه ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت: لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام الحديث، وأخرجه البيهقي أيضًا من وجه آخر (ونحوه) أي نحو السبعة. قيل يشير إلى رواية عبد الرزاق حديث حفصة المذكور إذ فيه عنده ثمانية أيام بدل قوله في السابقة سبعة (ولم يؤقت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) للوليمة وقتًا معينًا يختص به الإيجاب أو الاستحباب لا (يومًا ولا يومين) نعم أخرج أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الله بن عثمان الثقفي عن رجل من ثقيف كان يثني عليه إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان فلا أدري ما اسمه يقوله قتادة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الوليمة أول يوم حق والثاني معروف والثالث رياء وسمعة". ولكن قال البخاري في تاريخه: لا يصح إسناده ولا يصح لزهير صحبة قال وقال ابن عمر وغيره عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب" ولم يخص ثلاثة أيام ولا غيرها انتهى.
ولحديث زهير بن عثمان شواهد منها عند ابن ماجة من حديث أبي هريرة مثله، وفيه عبد الملك بن حسين وهو ضعيف جدًّا وأحاديث أُخر ضعيفة، لكن مجموعها يدل على أن للحديث أصلًا وقد عمل بظاهر ذلك الحنابلة والشافعية فقالوا: تجب في اليوم الأول وتستحب في الثاني وتكره فيما بعده.
5173 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا». [الحديث 5173 - طرفه في: 5179].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها). قال في الفتح: أي فليأت مكانها والتقدير إذا دعي إلى مكان الوليمة فليأتها ولا يضر إعادة الضمير مؤنثًا والأمر للإيجاب، والمراد وليمة العرس لأنها
المعهودة عندهم، ويؤيده ما في مسلم أيضًا إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب وتكون فرض عين إن لم يرض صاحبها بعذر المدعوّ وفي غيرها مستحبة، لكن في سنن أبي داود إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسًا كان أو غيره وقضيته وجوب الإجابة في سائر الولائم وبه أجاب جمهور العراقيين كما قاله الزركشي واختاره السبكي وغيره، ويؤيد عدم وجوبها في غير العرس أن عثمان بن العاص دعي إلى ختان فلم يجب. وقال: لم يكن يدعى له على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رواه أحمد في مسنده، وإنما تجب

(8/72)


الإجابة أو تستحب بشروط. منها: أن يكون الداعي مسلمًا فلو كان كافرًا لم تجب إجابته لانتفاء طلب المودة معه ولأنه يستقذر طعامه لاحتمال نجاسته وفساد تصرفه وأن لا يخص بالدعوة الأغنياء ولا غيرهم بل يعم عشيرته أو جيرانه أو أهل حرفته وإن كانوا كلهم أغنياء لحديث شر الطعام الآتي قريبًا إن شاء الله تعالى، وليس المراد أن يعم جميع الناس لتعذره وأن لا يطلبه طمعًا في جاهه أو خوفًا منه لو لم يحضره بل للتودد وأن يعين المدعوّ بنفسه أو نائبه لا إن نادى في الناس كأن فتح الباب وقال: ليحضر من أراد أو قال لغيره ادع من شئت وأن يدعو في اليوم الأول فلو أولم ثلاثة أيام فأكثر لم تجب الإجابة أو تسن إلا في اليوم الأول فلو لم يمكنه استيعاب الناس في الأول لكثرتهم أو لصغر منزله أو غيرهما. قال الأذرعي: فذلك في الحقيقة كوليمة واحدة دعي الناس إليها أفواجًا أفواجًا في يوم واحد ويشترط أيضًا أن لا يحضر هناك من يؤذي المدعوّ أو تقبح مجالسته كالأراذل وأن لا يكون هناك منكر كفرش الحرير وصور الحيوان المرفوعة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في النكاح وأبو داود في الأطعمة والنسائي في الوليمة.
5174 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فُكُّوا الْعَانِيَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان (عن سفيان) الثوري (قال: حدّثني) بالإفراد (منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق ابن سلمة (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(فكوا العاني) الأسير (وأجيبوا الداعي) إلى وليمة العرس (وعودوا المريض). ولأبي ذر عن الكشميهني المرضى.
وهذا الحديث سبق في باب فكاك الأسير من الجهاد.
5175 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنِ الأَشْعَثِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ -رضي الله عنهما- أَمَرَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي. وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَعَنِ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيَّةِ، وَالإِسْتَبْرَقِ،
وَالدِّيبَاجِ. تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَالشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَشْعَثَ فِي إِفْشَاءِ السَّلاَمِ.
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن الربيع) البجلي الخشاب البوراني قال: (حدّثنا أبو الأحوص) سلام بن سليم الحنفي مولى بني حنيفة (عن الأشعث) بن أبي الشعثاء بالشين المعجمة والمثلثة فيهما واسم أبي الشعثاء سليم المحاربي (عن معاوية بن سويد) الكوفي أنه قال: (قال البراء بن عازب -رضي الله عنهما- أمرنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض) زيارته مسلم أو ذمي وهي سُنّة إذا كان له متعهد وإلا فواجبة (واتباع الجنازة) وهو فرض كفاية ولأبي ذر عن المستملي الجنائز بالجمع (وتشميت العاطس) بأن يقول له يرحمك الله إذا حمد الله وهو سُنّة على الكفاية (وإبرار القسم) ولأبي ذر عن الكشميهني المقسم بضم الميم وسكون القاف وكسر السين أي تصديق من أقسم عليك وهو أن تفعل ما سأله الملتمس وأقسم عليه أن تفعله (ونصر المظلوم) ولو ذميًّا (وإفشاء السلام وإجابة الداعي) إلى وليمة العرس (ونهانا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن خواتيم الذهب وعن آنية الفضة) استعمالًا واتخاذًا فيهما (وعن المياثر) بفتح الميم وبالمثلثة والراء جمع ميثرة فراش من حرير محشوّ بالقطن يجعله الراكب تحته على الرحل والسرج وهي من مراكب العجم وأصلها موثرة فقلبت الواو ياء لكسرة الميم وتكون من حرير فتحرم وحمراء فمنهي عنها (و) عن الثياب (القسية) بفتح القاف وتشديد السين المهملة المكسورة والتحتية ضرب من ثياب مخلوط بحرير يؤتى به من مضر نسب إلى قرية على ساحل البحر بالقرب من دمياط درسها البحر (و) عن (الإستبرق) بكسر الهمزة الغليظ من الحرير (و) عن الثياب المتخذة من (الديباج) وهو الإبريسم وهذه ستة والسابع الحرير يذكر إن شاء الله تعالى في اللباس، وهذه الخصال مختلفة المراتب في حكم العموم والخصوص والوجوب فيحرم خاتم الذهب ولبس الديباج للرجال خاصة دون النساء وتحرم آنية الفضة عامة على الرجال والنساء للسرف والخيلاء ويجوز أن تعطف السنة على الواجب إن دلت على ذلك قرينة كصوم رمضان وستًّا من شوال.
وهذا الحديث سبق في الجنائز.
(تابعه) أي تابع أبا الأحوص سلام بن سليم (أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري فيما وصله المؤلّف في كتاب الأشربة (و) تابع أبا الأحوص

(8/73)


أيضًا (الشيباني) أبو إسحاق سليمان فيما وصله أيضًا في الاستئذان كلاهما (عن أشعث) بن أبي الشعثاء (في) روايته بلفظ (إفشاء السلام) فخالفا رواية شعبة عن أشعث حيث قال: وردّ السلام كما سبق في الجنائز.
5176 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عُرْسِهِ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ وَهْيَ الْعَرُوسُ. قَالَ سَهْلٌ تَدْرُونَ مَا سَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ. [الحديث 5176 - أطرافه في: 5182، 5183، 5591، 5597، 6685].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البغلاني البلخي قال: (حدّثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي حازم) سلمة بن دينار ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني عن أبيه بدل قوله عن أبي حازم (عن سهل بن سعد) كذا في الفرع كأصله، وقال الحافظ ابن حجر: وفي رواية المستملي عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: وهو سهو إذ لا بدّ من واسطة بينهما، إما أبوه أو غيره (قال: دعا أبو سعيد) بضم الهمزة وفتح السين مالك بن ربيعة (الساعدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عرسه وكانت امرأته) أم أسيد سلامة بنت وهب بن سلامة بن أثيمة (يومئذ خادمهم) يقع على الذكر والأنثى (وهي العروس) نعت استوى فيه المذكر والمؤنث ما داما في تعريسهما (قال سهل) الساعدي (تدرون) استفهام سقطت أداته (ما سقت) أي العروس (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنقعت له تمرات) في ماء (من الليل فلما أكل) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من طعام الوليمة (سقته إياه).
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الأشربة وكذا مسلم، وأخرجه ابن ماجة في النكاح.

72 - باب مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ
(باب من ترك الدعوة) أي إجابة الدعوة (فقد عصى الله ورسوله).
5177 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يقول شر الطعام طعام الوليمة). قال البيضاوي: يريد من شر الطعام فمن مقدّرة فإن من الطعام ما يكون شرًّا منه وإنما سماه شرًّا لما ذكر عقبه حيث قال: (يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء) فإن الغالب فيها ذلك وكأنه قال: شر الطعام طعام الوليمة التي من شأنها هذا، فاللفظ وإن أطلق فالمراد به التقييد بما ذكر عقبه، قال ابن بطال: فإذا ميّز الداعي بين الأغنياء والفقراء وأطعم كلاًّ على حِدَة فلا بأس وقد فعله ابن عمر، وقال الطيبي متعقبًا البيضاوي: التعريف في الوليمة للعهد الخارجي وكان من عادتهم مراعاة الأغنياء فيها وتخصيصهم بالدعوة وإيثارهم، وقوله يدعى إلى آخره استئناف بيان لكونها شرّ الطعام وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير من وقوله ومن ترك حال والعامل يدعى أي يدعى الأغنياء لها والحال أن الإجابة واجبة فيكون دعاؤه سببًا كل المدعوّ شرّ الطعام، وقول الزركشي جملة يدعى في موضع الصفة لطعام تعقبه الدماميني بأن الظاهر أنها صفة للوليمة على أن تجعل اللام جنسية مثلها في قوله:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبني
ويستغنى حيئنذّ عن تأويل تأنيث الضمير على تقدير كونها صفة لطعام انتهى.
وهذا الحديث موقوف على أبي هريرة لكن قوله (ومن ترك الدعوة) أي إجابتها (فقد عصى الله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يقتضي كونه مرفوعًا إذ مثل هذا لا يكون من قبيل الرأي، لكن جلّ رواة مالك كما قال ابن عبد البر لم يصرحوا برفعه. نعم قال روح بن القاسم عن مالك بسنده قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذا أخرجه الدارقطني من طريق إسماعيل بن سلمة بن مغيث عن مالك، ولمسلم من طريق سفيان سمعت زياد بن سعد يقول: سمعت ثابتًا الأعرج يحدّث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال فذكر نحوه. وكذا أخرجه أبو الشيخ مرفوعًا من طليق محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفي قوله: عصى الله ورسوله دليل لوجوب الإجابة لأن العصيان لا يطلق إلا على ترك الواجب كما لا يخفى.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في النكاح وأبو داود في الأطعمة والنسائي في الوليمة وابن ماجة في النكاح.

73 - باب مَنْ أَجَابَ إِلَى كُرَاعٍ
(باب من أجاب إلى كراع) بضم الكاف وتخفيف الراء أي من أجاب إلى وليمة فيها كراع وهو مستدق الساق من الرِّجل ومن حد الرسغ من اليد

(8/74)


وهو من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس والبعير.
5178 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان (عن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي السكري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي حازم) سلمان بسكون اللام مولى عزة بفتح العين المهملة وتشديد الزاي قال الحافظ ابن حجر: ووهم من زعم أنه سلمة بن دينار الراوي عن سهل بن سعد المقدم ذكره قريبًا فإنهما وإن كانا مدنيين لكن راوي حديث الباب أكبر من ابن دينار (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لو دعيت إلى كراع لأجبت) وأما رواية الغزالي الحديث في الإحياء بلفظ: ولو دعيت إلى كراع الغميم لا أصل لهذه الزيادة والمراد به المكان المعروف بين مكة والمدينة وزعم بعضهم أنه أطلق ذلك على سبيل المبالغة في الإجابة ولو بعد المكان، لكن المبالغة في الإجابة مع حقارة الشيء أوضح في المراد ومن ثم ذهب الجمهور إلى أن المراد بالكراع كراع الشاة (ولو أهدي) بضم الهمزة (إليَّ) بتشديد الياء (ذراع) ولأبي ذر كراع (لقبلت) واللام في لقبلت ولأجبت للتأكيد.
وهذا الحديث سبق في الهبة وأخرجه النسائي في الوليمة.

74 - باب إِجَابَةِ الدَّاعِي فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهَا
(باب إجابة الداعي) أي إجابة المدعوّ الداعي فالمصدر مضاف إلى مفعوله وطوي ذكر الفاعل (في العرس) وهو طعام الوليمة المعمول عند العرس (وغيرها) أي غير وليمة العرس، ولأبي ذر وغيره أي وغير العرس. وذكر النووي أن الولائم ثمانية الإعذار بعين مهملة وذال معجمة للختان والعقيقة للولادة في اليوم السابع، والخرس بضم الخاء المعجمة وسكون الراء ثم سين مهملة لسلامة المرأة من الطلق وقيل هو طعام الولادة، والنقيعة لقدوم المسافر مشتقة من النقع وهو الغبار، والوكيرة للسكن المتجدد مأخوذ من الوكر وهو المأوى والمستقر، والوضيمة بضاد معجمة لما يتخذ عند المصيبة، والمأدبة بضم الدال ويجوز فتحها لما يتخذ بلا سبب ومنها الحذاق بكسر الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة وبعد الألف قاف الطعام الذي يعمل عند حذق الصبي ذكره ابن الصباغ في الشامل.
وقال ابن الرفعة: هو الذي يعمل عند ختم القرآن، والعتيرة بفتح المهملة وكسر الفوقية وهي شاة تذبح في أول رجب، وتعقب بأنها في معنى الأضحية فلا معنى لذكرها مع الولائم، وقد أخرج مسلم وأبو داود حديث، إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسًا كان أو غيره وقد أخذ بظاهره بعض الشافعية فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقًا عرشًا كان أو غيره بشرطه، وقد جزم المالكية والحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح.
5179 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا»، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهْوَ صَائِمٌ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله بن إبراهيم) البغدادي قال البخاري عنه أنه متقن قال: (حدّثنا الحجاج بن محمد) الأعور (قال: قال ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبرني) بالإفراد (موسى بن عقبة) صاحب المغازي (عن نافع) مولى ابن عمر أنه (قال: سمعت عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أجيبوا هذه الدعوة) أي دعوة الوليمة (إذا دعيتم لها. قال) نافع: (كان عبد الله) بن عمر (يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو) أي والحال أنه (صائم) وفي مسلم حديث ابن عمر مرفوعًا: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرًا فليطعم وإن كان صائمًا فليصل) أي فليدع بدليل رواية فليدع بالبركة رواه أبو عوانة فإن كان الصوم نفلًا فإفطاره لجبر خاطر الداعي أفضل ولو آخر النهار لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أمسك من حضر معه وقال: إني صائم قال له: "يتكلف أخوك المسلم وتقول إني صائم؟ أفطر ثم اقضِ يومًا مكانه". رواه البيهقي وغيره وفي إسناده راوٍ
ضعيف، لكنه توبع ولو أمسك المفطر عن الأكل لم يحرم. بل يجوز وفي مسلم إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك. وفي شرح مسلم تصحيح وجوب الأكل ويحرم على الصائم الإفطار من صوم فرض.

75 - باب ذَهَابِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِلَى الْعُرْسِ
(باب ذهاب النساء والصبيان إلى) وليمة (العرس) من غير

(8/75)


كراهة.
5180 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَبْصَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءً وَصِبْيَانًا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ فَقَامَ مُمْتَنًّا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الرحمن بن المبارك) العيشي بفتح العين المهملة وسكون التحتية وكسر الشين المعجمة قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد قال: (حدّثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه) أنه (قال: أبصر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نساءً وصبيانًا) حال كونهم (مقبلين من عرس فقام) عليه الصلاة والسلام (ممتنًّا) بميم مضمومة فميم ساكنة فمثلثة مفتوحة كذا في الفرع مصححًا عليه كأصله، وقال في الفتح بمثناة ونون ثقيلة من المنة بضم الميم وهي القوة أي من قام إليهم مسرعًا مشتدًّا في ذلك فرحًا بهم أو من الامتنّان لأن من قام إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأكرمه بذلك فقد امتنّ عليه بشيء لا أعظم منه (فقال):
(اللهم) قالها للتبرك أو للاستشهاد في صدقه على قوله (أنتم من أحب الناس إليّ) وزاد في رواية معمر في مناقب الأنصار قالها ثلاث مرات، وفيه شهود النساء والصبيان لوليمة العرس فلو دعت امرأة امرأة لوليمة أو دعت رجلًا وجب أو استحب لا مع خلوة محرمة فلا يجيبها إلى طعام مطلقًا أو مع عدم الخلوة فلا يجيبها إلى طعام خاص به كان جلست به وبعثت له الطعام إلى بيت آخر من دارها خوف الفتنة بخلاف ما إذا لم تخف فقد كان سفيان الثوري وأضرابه يزورون رابعة العدوية ويسمعون كلامها فإن وجد رجل كسفيان وامرأة كرابعة فالظاهر أنه لا كراهة في الإجابة ويعتبر في وجوب الإجابة للمرأة إذن الزوج أو السيد للمدعوّ والله أعلم.

76 - باب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي الدَّعْوَةِ؟
وَرَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ صُورَةً فِي الْبَيْتِ فَرَجَعَ وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ فَرَأَى فِي الْبَيْتِ سِتْرًا عَلَى الْجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ، وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا فَرَجَعَ
هذا (باب) بالتنوين (هل يرجع) المدعوّ (إذا رأى) شيئًا (منكرًا في) مجلس (الدعوة) كفرش الحرير في دعوة اتخذت للرجال وفرش جلود نمر بقي وبرها كما قاله الحليمي وغيره.
(ورأى ابن مسعود) عبد الله ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري (صورة في البيت) الذي دعي إليه للوليمة (فرجع) ويحتمل أن يكون وقع لكلٍّ من عبد الله بن مسعود ولأبي مسعود عقبة ذلك وأثر أبي مسعود عقبة وصله البيهقي بسند صحيح، وأما أثر ابن مسعود عبد الله فقال: في الفتح لم أقف عليه.
(ودعا ابن عمر) فيما وصله أحمد في كتاب الورع ومسدد في مسنده ومن طريقه الطبراني (أبا أيوب) خالد بن زيد الأنصاري إلى وليمة عرس ابنه سالم فجاء (فرأى في البيت سترًا على الجدار) فأنكر على عبد الله بن عمر (فقال ابن عمر: غلبنا) بفتحات (عليه) أي على وضع الستر على الجدار (النساء) يا أبا أيوب (فقال) أبو أيوب (من كنت أخشى عليه). قال الكرماني: أي إن كنت أخشى على أحد يعمل في بيته مثل هذا المنكر (فلم أكن أخشى عليك) ذلك (والله لا أطعم لكم طعامًا فرجع) وقد اختلف في ستر البيوت والجدران فجزم جمهور الشافعية بالكراهة ويشهد له أثر ابن عمر هذا إذ لو كان حرامًا ما قعد الذين قعدوا من الصحابة ولا فعله ابن عمر، فيحمل فعل أبي أيوب على كراهة التنزيه جمعًا بين الفعلين، ويحتمل أن يكون أبو أيوب كان يرى التحريم والذين قعدوا ولم ينكروا يرون الإباحة، وقد صرح الشيخ أبو نصر المقدسي من الشافعية بالتحريم لحديث مسلم عن عائشة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين" وتعقب بأنه ليس في السياق ما يدل على التحريم وإنما فيه نفي الأمر بذلك ونفي الأمر لا يستلزم ثبوت النهي نعم عند أبي داود من حديث ابن عباس ولا تستروا الجدر بالثياب.
5181 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا بَالُ هَذِهِ النِّمْرِقَةِ»؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَقَالَ: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام الأعظم (عن نافع) مولى ابن عمر (عن القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- (عن) عمته (عائشة) -رضي الله عنها- (زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها أخبرته أنها اشترت نمرقة) بنون وراء مضمومتين بينهما ميم ساكنة وبعد الراء قاف وفي اليونينية بكسر النون والراء وسادة صغيرة (فيها تصاوير) أي تماثيل حيوان (فلما رآها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام على الباب فلم يدخل) زاد في ذكر الملائكة وجعل يتغير

(8/76)


وجهه (فعرفت في وجهه الكراهية) بكسر الهاء بعدها تحتية مخففة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي الكراهة بفتح الهاء وإسقاط التحتية (فقلت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما بال هذه النمرقة)؟ ما شأنها فيها تماثيل (قالت: فقلت: اشتريتها لك) بهمزة قطع مفتوحة في اليونينية (لتقعد عليها وتوسدها) بحذف إحدى التاءين (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن أصحاب هذه الصور) الحيوانية الذين يصنعونها (يعذبون يوم القيامة) على صنعها (ويقال لهم) استهزاءً وتعجيزًا (أحيوا) بهمزة قطع مفتوحة (ما خلقتم. وقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إن البيت الذي فيه الصور) الحيوانية (لا تدخله الملائكة) الذين ليسوا حفظة إذ هم لا يفارقون المكلف وإنما لم يدخلوا لكون ذلك معصية فاحشة لما فيها من مضاهاة خلق الله.
وموضع الترجمة قولها قام على الباب فلم يدخل وهو أعم مقتضاه المنع من الدخول في المكان الذي فيه الصورة سواء كان فيه دعوة أم لا: ومحل المنع من ذلك إن لم يزل ذلك المنكر لأجل المدعوّ فإن كان يزول لأجله وجبت إجابته للدعوة وإزالة المنكر فإن لم يقدر على إزالته فليرجع وهل دخول البيت الذي فيه الصور الممنوعة حرام أو مكروه؟ وجهان، وبالتحريم قال الشيخ أبو حامد، وبالكراهة قال صاحب التقريب، والصيدلاني ورجحه الإمام والغزالي، ولا بأس بصور مبسوطة تُداس أو مخادّ يتكأ عليها أو ممتهنة بالاستعمال كقصعة وطبق أو كانت مرتفعة وقطع رأسها.

77 - باب قِيَامِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ فِي الْعُرْسِ وَخِدْمَتِهِمْ بِالنَّفْسِ
(باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس) أي نفسها.
5182 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ دَعَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلاَ قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلاَّ امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ، بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الطَّعَامِ أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ.
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) هو سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي مريم أبو محمد الجمحي مولاهم البصري قال: (حدّثنا أبو غسان) بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة المفتوحتن محمد بن مطرف بالطاء المهملة المفتوحة والراء المشددة المكسورة (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو حازم) سلمة بن دينار (عن سهل) هو ابن سعد الساعدي أنه (قال لما عرّس) بفتح العين والراء المشددة وهو يردّ على الجوهري حيث قال: يقال أعرس لا عرس أي لما اتخذ عروسًا (أبو أسيد) بضم الهمزة وفتح السين المهملة واسمه على الأصح مالك بن ربيعة (الساعدي دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه فما صنع لهم طعامًا ولا قرّبه إليهم إلا امرأته أم أسيد) بضم الهمزة سلامة بنت وهيب (بلّت تمرات في تور) بفتح المثناة الفوقية قدح (من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الطعام أماثته) بفتح المثلثة وسكون المثناة الفوقية مرسته بيديها (له) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فسقته) عليه الصلاة والسلام حال كونها (تتحفه بذلك) ولأبي ذر عن الكشميهني أتحفته وله عن الحموي
والمستملي تحفة وعند ابن السكن تخصه بالخاء المعجمة والصاد المهملة المشددة.

78 - باب النَّقِيعِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لاَ يُسْكِرُ فِي الْعُرْسِ
(باب) اتخاذ (النقيع) وهو ما ينقع من تمر في ماء لتخرج حلاوته (والشراب الذي لا يسكر في العرس) فلو أسكر حُرِّم اتفاقًا وعطف الشراب على النقيع من عطف العام على الخاص لأنه يعم نقيع التمر وغيره.
5183 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعُرْسِهِ فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَهْيَ الْعَرُوسُ فَقَالَتْ: أَوْ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا أَنْقَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف مصغرًا قال: (حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري) بتشديد التحتية نسبة إلى قارة المدني نزيل الإسكندرية (عن أبي حازم) سلمة بن دينار أنه (قال: سمعت سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعرسه) أي لأجل عرسه (فكانت امرأته) أم أسيد وهي ممن وافقت كنيتها كنية زوجها (خادمهم يومئذٍ) بغير فوقية بعد الميم (وهي العروس) الواو للحال (فقالت) أي العروس: (أو قال) أي سهل بالشك (أتدرون) ولأبي ذر عن الكشميهني فقالت أو ما تدرون بغير شك (ما أنقعت لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنقعت له تمرات من الليل) بالفوقية وفتح الميم (في تور) بالمثناة الفوقية قال في القاموس: إناء يشرب فيه.
وهذا الحديث من رواية سهل كما في الرواية السابقة وحينئذٍ فقوله: أنقعت

(8/77)


بفتح العين وسكون التاء في الموضعين على صيغة الماضي للغائبة وهو الذي في الفرع وعلى رواية بالكشميهني بسكون العين بصيغة المتكلم.

79 - باب الْمُدَارَاةِ مَعَ النِّسَاءِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّمَا الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ»
(باب المداراة) أي المجاملة والملاينة (مع النساء) للإلفة واستمالة قلوبهن لما جبلن عليه من الأخلاق (وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنما المرأة كالضلع) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام وسكونها والفتح أفصح.
5184 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ، إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ».
وبه قال: (حدّثنا عَبْد العزيز بن عبد الله) بن يحيى بن عمرو بن أويس (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الأصبحي (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(المرأة كالضلع) مبتدأ وخبر ولمسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد أن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة وفي صحيح ابن حبان عن سمرة بن جندب مرفوعًا أن المرأة خلقت من ضلع فإن أقمتها كسرتها فدارها تعش بها، وفي غرائب مالك للدارقطني نحو لفظ رواية حديث الباب إلا أنه قال: على خليقة واحدة إنما هي كالضلع. (إن أقمتها) أي إن أردت إقامتها (كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج) بكسر العين وفتح الواو بعدها جيم، ولأبي ذر: عوج بفتح العين والأكثر على الكسر وقيل: إذا كان فيما هو منتصب كالحائط والعود عوج بفتح العين وفي غير المنتصب كالدين والخلق والأرض ونحو ذلك بكسر العين قاله ابن السكيت، ونقل ابن قرقول عن أهل اللغة أن الفتح في الشخص المرئي والكسر فيما ليس بمرئي.
وفي الحديث إشارة إلى الإحسان إلى النساء والرفق بهن والصبر على عوج أخلاقهن واحتمال ضعف عقولهن وغير ذلك مما يأتي إن شاء الله تعالى قريبًا.

80 - باب الْوَصَاةِ بِالنِّسَاءِ
(باب الوصاة) بفتح الواو أي الوصية (بالنساء).
5185 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِي جَارَهُ» [الحديث 5185 - أطرافه في: 6018، 6136، 6138، 6475].
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن نصر) نسبه لجدّه واسم أبيه إبراهيم السعدي قال: (حدّثنا حسين) بضم الحاء ولأبي ذر الحسين بزيادة الألف واللام أي ابن علي بن الوليد (الجعفي) بضم الميم وسكون العين المهملة وبالفاء (عن زائدة) بن قدامة (عن ميسرة) ضدّ الميمنة ابن عمار الأشجعي (عن أبي حازم) سلمان الأشجعي مولى عزة بفتح العين المهملة وتشديد الزاي (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أي من كان يؤمن بالمبدأ والمعاد إيمانًا كاملًا (فلا يؤذي جاره).
5186 - «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا».
(واستوصوا) أي أوصيكم (بالنساء خيرًا) فأقبلوا وصيتي فيهن كذا قرره البيضاوي لأن
الاستيصاء استفعال وظاهره طلب الوصية وليس هو المراد، وقال الطيبي: الأظهر أن السين للطلب مبالغة أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن بخير. وقال في الكشاف: السين للمبالغة أي يسألون أنفسهم الفتح ويجوز أن يكون من الخطاب العام أي يستوصي بعضكم من بعض في حق النساء، (فإنهن خلقن من ضلع) معوج فلا يتهيأ الانتفاع بهن إلا بمداراتهن والصبر على اعوجاجهن، والضلع استعير للمعوج أي خلقن خلقًا فيه اعوجاج فكأنهن خلقن من أصل معوج، وقيل أراد به أن أول النساء حوّاء خلقت من ضلع آدم (وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه) ذكره تأكيدًا لمعنى الكسر أو ليبين أنها خلقت من أعوج أجزاء الضلع كأنه قال: خلقن من أعلى الضلع وهو أعوج، ويحتمل كما قال في الفتح: أن يكون ضرب ذلك مثلًا لأعلى المرأة لأن أعلاها رأسها وفيه لسانها وهو الذي يحصل منه الأذى، وسأل الكرماني فقال: فإن قلت العوج من العيوب فكيف يصح منه أفعل التفضيل؟ وأجاب بأنه أفعل الصفة أو أنه شاذ أو الامتناع عند الالتباس بالصفة فحيث يتميز عنه بالقرينة جاز البناء منه (فإن ذهبت تقيمه) أي الضلع (كسرته وإن تركته) ولم تقمه (لم يزل أعوج) فيه الندب إلى مداراة النساء وسياستهن والصبر على عوجهن وأن مَن رام تقويمهن رام مستحيلًا وفاته الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها

(8/78)


ويستعين بها على معاشه قال:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أتجمع ضعفًا واقتدارًا على الهوى ... أليس عجيبًا ضعفها واقتدارها
فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها (فاستوصوا) أي أوصيكم (بالنساء خيرًا) فأقبلوا وصيتي واعملوا بها، قال الغزالي، وللمرأة على زوجها أن يعاشرها بالمعروف وأن يحسن خلقه معها قال: وليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها والحلم عن طيشها وغضبها اقتداء برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقد كان أزواجه يراجعنه الكلام وتهجره إحداهن إلى الليل قال: وأعلى من ذلك أن الرجل يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة فهي التي تطيب قلوب النساء فقد كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال والأخلاق حتى روي أنه كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يومًا فقال لها: هذه بتلك.
5187 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: كُنَّا نَتَّقِي الْكَلاَمَ وَالاِنْبِسَاطَ إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَيْبَةَ أَنْ يُنْزَلَ فِينَا شَيْءٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَكَلَّمْنَا وَانْبَسَطْنَا.
وبه قال (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: كنا نتقي) أي نتجنب (الكلام) الذي يخشى منه العاقبة (و) نتقي أيضًا (الانبساط إلى نسائنا على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هيبة أن ينزل فينا شيء) من القرآن
بمنع أو تحريم وهيبة نصب مفعولًا لقوله نتقي وإن مصدرية أي نتقي لخوف النزول (فلما توفي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تكلمنا وانبسطنا) إلى نسائنا تمسكًا بالبراءة الأصلية وفيه إشعار بأن الذي كانوا يتركونه كان من المباح والانبساط إليهن يحتمل أن يكون من جملة الوصاة بهن فيناسب الترجمة والله أعلم.
وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة في الجنائز.

81 - باب {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى: ({قوا أنفسكم}) احفظوها بترك المعاصي وفعل الطاعات ({وأهليكم}) بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم ({نارًا}) [التحريم: 6] وفي ذكر المؤلّف هذه الآية عقب الباب السابق المذكور فيه: واستوصوا بالنساء خيرًا كما قال في فتح الباري رمز إلى أنه يقوّمهنّ برفق بحيث لا يبالغ فيكسر وليس المراد أنه يترهن على الاعوجاج إذا تعدين ما طبعن عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها أو ترك الواجب، بل المراد أن يتركهن على اعوجاجهن في الأمور المباحة كما لا يخفى فللَّهِ در المؤلّف ما أدق نظره. قال الحسن: ما أطاع رجل امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار.
5188 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ: فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهْوَ مَسْؤُولٌ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْؤُولٌ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهْيَ مَسْؤولَةٌ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ».
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا حماد بن زيد عن أيوب) السختياني (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله) بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(كلكم راعٍ) أي حافظ وأمين، وأصله راعي بتحتية بعد العين لأنه من رعى يرعى رعاية استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت الياء فصار راعٍ على وزن فاعل فالمحذوف لام الفعل (وكلكم مسؤول) أي عن رعيته (فالإمام) بالفاء ولأبي ذر والإمام (راعٍ وهو مسؤول) أي عن رعيته (والرجل راع على أهله) يأمرهم بطاعة الله وينهاهم عن معاصيه ويقوم عليهم بما لهم من الحق (وهو مسؤول) أي عن رعيته فإن لم يكن له رعية فهو راعٍ على أعضائه وجوارحه وقواه وحواسه ومسؤول عنها (والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة) أي عن رعيتها (والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول) أي عن رعيته (ألا) بالتخفيف (فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول) أي عن رعيته.

82 - باب حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الأَهْلِ
(باب حسن المعاشرة مع الأهل).
5189 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا. قَالَتِ الأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٌّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لاَ سَهْلٍ فَيُرْتَقَى، وَلاَ سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ. قَالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لاَ أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ لاَ أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ. قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ. قَالَتِ الرَّابِعَةُ. زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لاَ حَرٌّ وَلاَ قُرٌّ وَلاَ مَخَافَةَ وَلاَ سَآمَةَ. قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ. قَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ وَلاَ يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ. قَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ، أَوْ عَيَايَاءُ، طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلاًّ لَكِ. قَالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي الْمَسُّ، مَسُّ أَرْنَبٍ وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ. قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ، قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ، مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ، قَلِيلاَتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ، أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ، قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ، فَمَا أَبُو زَرْعٍ، أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ وَمَلأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ، وَدَائِسٍ، وَمُنَقٍّ فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلاَ أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ أُمُّ أَبِي زَرْعٍ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ، مَضْجِعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ. بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ طَوْعُ أَبِيهَا، وَطَوْعُ أُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا، وَغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ لاَ تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا وَلاَ تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، وَلاَ تَمْلأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا، قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالأَوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا وَأَخَذَ خَطِّيًّا، وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا، وَقَالَ كُلِي أُمَّ زَرْعٍ. وَمِيرِي أَهْلَكِ قَالَتْ فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ: وَلاَ تُعَشِّشُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَعْضُهُمْ فَأَتَقَمَّحُ بِالْمِيمِ وَهَذَا أَصَحُّ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (سليمان بن عبد الرحمن) المعروف بابن بنت شرحبيل أبو أيوب الدمشقي (وعلي بن حجر) بضم الحاء المهملة وسكون الجيم بعدها راء ابن إياس أبو الحسن السعدي المروزي (قال: أخبرنا عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي قال: (حدّثنا هشام بن عروة عن) أخيه (عبد الله بن عروة عن) أبيه (عروة) بن الزبير بن العوّام (عن

(8/79)


عائشة) -رضي الله عنها- (قالت) مما هو موقوف وليس بمرفوع. نعم قوله: كنت لك كأبي زرع مرفوع، وقد رواه النسائي في عِشرَة النساء عن أبي عقبة خالد بن عقبة بن خالد السكونيّ عن أبيه عن هشام به موقوفًا وآخره مرفوع، وعن عبد الرحمن بن محمد بن سلم عن أبي عصمة ريحان بن سعيد بن المثنى عن عباد بن منصور عن هشام به جميعه مسند مرفوع، ورواه الطبراني في الكبير من رواية الدراوردي وعباد بن منصور كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعًا، وإنما المرفوع كنت لك كأبي زرع لأُم زرع والمحفوظ فيه رواية سعيد بن سلمة بن أبي الحسام وعيسى بن يونس كلاهما عن هشام بن عروة عن أخيه عبد الله بن عروة عن أبيهما عن عائشة، ورواه الطبراني من حديث الدراوردي وعباد كما أشرنا إليه سابقًا بدون واسطة أخيه عن هشام بن جميعه مسند مرفوع ولفظه، قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع". قالت عائشة: بأبي وأمي يا رسول الله ومن كان أبو زرع؟ قال: "اجتمع" فَسَاق الحديث كله، لكن قال ابن عساكر: الصواب حديث هشام عن أخيه عبد الله بن عروة بعضه مسند وأكثره موقوف انتهى.
وكذا روي مرفوعًا من رواية عبد الله بن مصعب والدراوردي عند الزبير بن بكار، وأخرجه مسلم في الفضائل عن علي بن حجر وأحمد بن جناب بفتح الجيم والنون كلاهما عن عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أخيه عبد الله عن عروة عن عائشة قالت: (جلس) جماعة (إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن) أي ألزمن أنفسهن عهدًا وعقدن على الصدق من ضمائرهن عقدًا (أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا).
وعند الزبير بن بكار عن عائشة دخل عليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعندي بعض نسائه فقال يخصني بذلك: "يا عائشة أنا لك كأبي زرع لأُم زرع" قلت: يا رسول الله ما حديث أبي زرع وأم زرع؟ قال: "إن قرية من قرى اليمن كان بها بطن من بطون اليمن وكان منهم إحدى عشرة امرأة وإنهن خرجن إلى مجلس فقلن تعالين فلنذكر بعولتنا بما فيهم ولا نكذب" ففيه ذكر قبيلتهن وبلادهن، لكن في رواية الهيثم إنهنّ كنّ بمكة.
وعند ابن حزم إنهن من خثعم، وعند النسائي من طريق عمر بن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة قالت: فخرت بمال أبي في الجاهلية وكان ألف ألف أوقية فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اسكتي يا عائشة فإني كنت لك كأبي زرع لأم زرع".
وعند أبي القاسم عبد الحكيم بن حيان بسند له مرسل من طريق سعيد بن عفير عن القاسم بن الحسن عن عمرو بن الحارث عن الأسود بن جبير المعافري قال: دخل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
على عائشة وفاطمة وقد جرى بينهما كلام فقال "ما أنت بمنتهية يا حميراء عن ابنتي إن مثلي ومثلك كأبي زرع مع أم زرع". فقالت: يا رسول الله حدّثنا عنهما فقال: "كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة وكان الرجال خلوفًا فقلن تعالين نذكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب".
(قالت) المرأة (الأولى) ولم تسم تذم زوجها (زوجي لحم جمل غث) بفتح العين المعجمة وتشديد المثلثة والرفع صفة للحم والجرّ صفة لجمل وكلاهما في الفرع. قال البدر الدماميني: لا إشكال في جوازهما لكن لا أدري ما المرويّ منهما ولا هل ثبتا معًا في الرواية فينبغي تحريره انتهى. قلت: قال ابن الجوزي: المشهور في الرواية الخفض، وقال لنا ابن ناصر: الجيد الرفع، ونقله عن التبريزي وغيره والمعنى زوجي شديد الهزال (على رأس جبل) زاد الترمذي في الشمائل وعر أي كثير الصخر شديد الغلظة يصعب الرقيّ إليه وعند الزبير بن بكار على رأس جبل وعث بفتح الواو وسكون المهملة بعدها مثلثة صعب المرتقى بحيث توحل فيه الأقدام فلا تخلص منه ويشق فيه المشي (لا سهل فيرتقى) بضم التحتية وفتح القاف مبنيًا للمفعول أي فيصعد إليه لصعوبة المسلك إليه ولا سهل بالخفض منوّنًا في الفرع كأصله صفة

(8/80)


الجبل، ويجوز الفتح بلا تنوين على إعمال لا مع حذف الخير أي لا سهل فيه والرفع مع التنوين خبر مبتدأ مضمر أي لا هو. قال البدر الدماميني: ويلزم عليه إلغاء لا مع عدم التكرير في توجيه الرفع ودخول لا على الصفة المفردة مع انتفاء التكرير في توجيه الجر وكلاهما باطل انتهى. وعند الطبراني لا سهل فيرتقى إليه (ولا سمين) بالجر والرفع منوّنًا والفتح بلا تنوين كما مرّ في لا سهل، ويجوز أن يكون رفع سمين على أنه صفة للحم وجره صفة للجمل (فينتقل) أي لا ينقله أحد لهزاله. وعند أبي عبيد فينتقى وهو وصف للحم أي ليس له نقي يستخرج والنقي بكسر النون المخ يقال نقوت العظم ونقيته إذا استخرجت مخه.
قال القاضي عياض: انظر إلى كلامها فإنه مع صدق تشبيهه قد جمع من حسن الكلام أنواعًا، وكشف عن محيا البلاغة قناعًا، وقرن بين جزالة الألفاظ، وحلاوة البديع، وضم تفاريق المناسبة والمقابلة والمطابقة والمجانسة والترتيب والترصيع، فأما صدق تشبيهها فقد أودعت أول كلامها تشبيه شيئين من زوجها بشيئين فشبهت باللحم الغث بخله وقلة عرفه، وبالجبل الوعث شراسة خلقه وشموخ أنفه، فلما تممت كلامها جعلت تفسر شابقة كل واحدة من الجملتين وتفصل ناعتة كل قسم من المشبهين ففصلت الكلام وقسمته، وأبانت الوجه الذي علقت التشبيه به وشرحته، فقالت: لا الجبل سهل فلا يشق ارتقاؤه لأخذ اللحم ولو كان هزيلًا لأن الشيء المزهود فيه قد يؤخذ إذا وجد بغير نصب، ولا اللحم سمين فيحتمل في طلبه واقتنائه مشقة صعود الجبل ومعاناة وعورته فإذا لم يكن هذا ولا ذاك واجتمع قلة الحرص عليه ومشقة الوصول إليه، لم تطمح إليه همة طالب ولا امتدت نحوه أمنية راغب، فقطع الكلام عند تمام التشبيه والتمثيل، وابتداؤه بحكم التفسير والتفصيل أليق بنظم الكلام وأحسن من نفي التبرئة وردّ الصفة في نمط البيان وأجلى في ردّ الأعجاز على صدور هذه الأقسام، والتشبيه أحد أبواب البلاغة وأبدع أفانين هذه
الصناعة وهو موضع للجلاء والكشف والمبالغة في البيان والعبارة عن الخفي بالجلي، والمتوهم بالمحسوس والحقير بالخطير والشيء بما هو أعظم منه وأحسن أو أخس وأدون وعن القليل الوجود بالمألوف المعهود، وكل هذا تأكيد في البيان والمبالغة في الإيضاح، فانظر إلى قول امرأة: زوجي بخيل لا يوصل إليّ شيء مما عنده، وإلى كلام هذه المرأة فقد شبهت بخل زوجها وأنه لا يوصل إلى ما عنده مع شراسة خلقه وكبر نفسه بلحم الجمل الغث على رأس الجبل الوعث، فشبهت وعورة خلقه بوعورة الجبل وبعد خيره ببعد اللحم على رأسه والزهد فيما يرجى منه لقلته وتعذره بالزهد في لحم لجمل الغث فأعطت التشبيه حقه ووفته قسطه، وهذا من تشبيه الجلي بالخفي والمتوهم بالمحسوس والحقير بالخطير، ثم انظر أيضًا حسن نظم كلامها ونضارته وأخذه حقه من المؤالفة والمناسبة في الألفاظ التي هي رأس الفصاحة وزمام البلاغة فإنها وازنت ألفاظها وماثلت كلماتها وقدّرت فقرها وحسنت أسجاعها فوازنت في الفقرة الأولى لحم برأس في الثانية وجمل بجبل وغث بوعث وقحر بوعر فأفرغت كل فقرة في قالب أختها ونسجتها على منوال صاحبتها، ثم في كلامها أيضًا نوع آخر من البديع وهو الموازنة ويسمى الترصيع والتسميط والتصفير والتسجيع وهو أن تتضمن الفقر أو بيت الشعر مقاطع أخر بقوافٍ متماثلة غير فقر السجع وقوافي الشعر اللازمة فيتوشح بها القول وينفصل بها نظم اللفظ، كما أتت هذه المرأة بجمل في وسط الفقرة الأولى وجبل في وسط الفقرة الأخرى، ففصلت بذلك الكلام على جزء من المقابلة أثناء السجعتين اللتين هما غث ووعث لكل فقرة سجعتان متقابلتان متماثلتان، ثم في كلامها أيضًا نوع من البديع يسمى المطابقة وهو مقابلة الشيء بضده فقابلت الوعر بالسهل والغث بالسمين في الفقرتين الأخيرتين وهو مما يحسن الكلام ويروق بمناسبته، وفي طيه أيضًا نوع من

(8/81)


المجانسة وهو تجانس جمل بجبل وهو وإن لم يجانسه في كل حروفه فقد جانسه في أكثرها، ثم في كلامها أيضًا نوع من البديع وهو حسن التفسير وغرابة التقسيم وإبداع حمل اللفظ على المعنى والمعنى على المعنى في المقابلة والترتيب وذلك في قولها: لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، فإنها فسرت ما ذكرت، وبينت حقيقة ما شبهت، وقسمت كل قسم على حياله، وفصلت كل فصل من مثاله، وجاءت للفقرتين الأولين بفقرتين مفسرتين، وقابلت لا سهل فيرتقى بقولها: ولا سمين فينتقى، وهذا يسمى المقابلة عند أهل النقد. ووقع في رواية النسائي بتقديم لا سمين لعوده على اللحم المقدم وتأخير سهل لعطفه على الجبل المؤخر فيكون أوّل تفسير لأوّل مفسر وهو قولها كلحم جمل والثاني للثاني فحملت اللفظ على اللفظ، ثم ردت المقدم على المقدم والمؤخر على المؤخر فتقابلت معاني كلماتها وترتبت ألفاظها. ثم في كلامها أيضًا نوع من البديع وهو التزام ما لا يلزم في سجعها وهو قولها فيرتقى وينتقى فالتزمت القاف والتاء في كل سجع قبل القافية وقافية سجعها الياء المقصورة، وهذا نوع زيادة في تحسين الكلام وتماثله وإغراق في جودة تشابهه وتناسبه، ثم فيه أيضًا نوع من البديع يسمى الإيغال وهو أن يتم كلام الشاعر قبل البيت أو الناثر قبل السجع إن كان كلامه مسجعًا وقبل الفصل والقطع إن لم يكن كذلك فيأتي بكلمة لتمام قافية البيت أو السجع
أو مقابلة الفصل والقطع تفيد معنى زائدًا فإنها لو اقتصرف على تشبيه زوجها بلحم جمل على رأس جبل لاكتفت ببعد مناله ومشقة الوصول إليه والزهد فيه وهو غرضها لكنها زادت بسجعها غث ووعر معنيين بينين وبالغت في القول فأفادت بزيادتها التناهي في غاية الوصف انتهى كلام القاضي وإنما أطلنا به لما فيه من فرائد الفوائد.
وأما قوله في التنقيح تريد أنه مع قلة خيره متكبر على عشيرته فيجمع إلى منع الرفد سوء الخلق فتعقبه في المصابيح بأنه لا دلالة في لفظها على أنه متكبر على العشيرة مترفع على قومه انتهى.
ولعل هذا أخذه الزركشي من قول الخطابي إن تشبيهها له بالجبل الوعر إشارة إلى سوء خلقه وأنه يترفع ويتكبر ويسمو بنفسه أي جمع إلى قلة الخير التكبر.
(قالت) المرأة (الثانية) واسمها عمرة بنت عمرو التميمي تذم زوجها (زوجي لا أبث) بالموحدة المضمومة أي لا أظهر ولا أشيع (خبره) لطوله وفي رواية ذكرها القاضي عياض لا أنث بالنون بدل الموحدة أي لا أظهر حديثه الذي لا خير فيه لأن النث بالنون أكثر ما يستعمل في الشر، وعند الطبراني لا أنم بالنون والميم من النميمة (إني أخاف أن لا أذره) بالذال المعجمة والضمير يعود على قولها خبره عند ابن السكيت أي أخاف أن لا أترك من خبره شيئًا لأنه لطوله وكثرته لم أستطع استيفاءه فاكتفت بالإشارة خشية أن تطول العبارة، وقيل يعود الضمير إلى زوجها وكأنها خشيت إذا ذكرت ما فيه أن يبلغه فيفارقها ولا زائدة أو أنها إن فارقته لا تقدر على تركه لعلاقتها به وأولادها منه فاكتفت بالإشارة إلى أن له معايب وفاء بما التزمته من الصدق وسكتت عن تفسيرها للمعنى الذي اعتذرت به (إن أذكره أذكر) بالجزم جواب إن (عجره وبجره) بضم العين والموحدة وفتح الجيم. قال في القاموس: وذكر عجره وبجره أي عيوبه وأمره كله، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام ثم ابن السكيت استعملا فيما يكتمه المرء ويخفيه عن غيره. وقال الخطابي: أرادت عيوبه الظاهرة وأسراره الكامنة. قال: ولعله كان مستور الظاهر رديء الباطن، وقال علي بن أبي طالب أشكو إلى الله عجري وبجري أي همومي وأحزاني وأصل العجرة الشيء يجتمع في الجسد كالسلعة والبجرة نحوها وقيل العجر في الظهر والبجر في البطن.
(قالت) المرأة (الثالثة) وهي حبى بضم الحاء المهملة وتشديد الموحدة مقصورًا بنت كعب اليماني تذم زوجها (زوجي العشنق) بفتح العين المهملة والشين المعجمة والنون المشددة بعدها قاف الطويل المذموم السيء الخلق وقيل: ذمته بالطول لأن الطول في

(8/82)


الغالب دليل السفه لبُعد الدماغ عن القلب (إن أنطق) بكسر الطاء أي إن أذكر عيوبه فيبلغه (أطلق) بضم الهمزة وفتح الطاء واللام المشددة مجزوم جواب الشرط (وإن أسكت) عنها (أعلق) بوزن أطلق السابقة أي يتركني معلقة لا أيمًا فأتفرغ لغيره ولا ذات بعمل فأنتفع به. وقال في الفتح: الذي يظهر لي أنها أرادت وصف سوى حالها عنده فأشارت إلى سوء خلقه وعدم احتماله لكلامها إن شكت له حالها وأنها تعلم
أنها متى ذكرت له شيئًا من ذلك بادر إلى طلاقها وهي لا تحب تطليقه لها لمحبتها فيه ثم عبرت عن الجملة الثانية إشارة إلى أنها إن سكتت صابرة على تلك الحال كانت عنده كالمعلقة. وقال القاضي عياض: أوضحت بقولها على حد السنان المذلق مرادها بقولها قبل إن أسكت أعلق وإن أنطق أطلق أي أنها إن حادت عن السنان سقطت فهلكت وإن استمرت عليه أهلكها.
(قالت) المرأة (الرابعة) واسمها مهدد بفتح بالميم وسكون الهاء وفتح الدال المهملة الأولى بنت أبي هرومة بالراء المضمومة وبعد الواو ميم تمدح زوجها (زوجي كليل تهامة) بكسر التاء الفوقية اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز وهو من التهم بفتح الفوقية والهاء وهو ركود الريح وقال: في القاموس وتهامة بالكسر مكة شرّفها الله تعالى تريد أنه ليس فيه أذى بل راحة ولذاذة عيش كليل تهامة لذيذ معتدل (لا حر) مفرط (ولا قرّ) بضم القاف ولا برد وهو لفظ رواية النسائي والاسمان رفع مع التنوين كما في الفرع. وفي رواية الهيثم بن عدي عند الدارقطني ولا وخامة بواو وخاء معجمة مفتوحتين وبعد الألف ميم يقال مرعى وخيم إذا كانت الماشية لا تنجع عليه (ولا مخافة ولا سآمة) أي لا ملالة لي ولا له من المصاحبة والكلمتان مبنيتان على الفتح في الفرع ويجوز الرفع كقراءة أبي عمرو وابن كثير: فلا رفث ولا فسوق بالرفع والتنوين فيهما على أن لا ملغاة وما بعدها رفع بالابتداء وسوّغ الابتداء بالنكرة سبق النفي عليها وبناء الثالث والرابع على أن لا للتبرئة، والمعنى لا أخاف له غائلة لكرم أخلاقه ولا يسأمني ولا يستثقل بي فيملّ صحبتي وليس بسيئ الخلق فأسأم من عِشرته فأنا لذيذة العيش عنده كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل. وقال ابن الأنباري: أرادت بقولها ولا مخافة أن أهل تهامة لا يخافون لتحصنهم بجبالها أو أرادت وصف زوجها بأنه حامي الذمار مانع لداره وجاره ولا مخافة عند من يأوي إليه ثم وصفته بالجود، وقال غيره: قد ضربوا المثل بليل تهامة في الطيب لأنها بلاد حارة في غالب الزمان وليس فيها رياح باردة فإذا كان الليل كان وهج الحر ساكنًا فيطيب الليل لأهلها بالنسبة لما كانوا فيه من أذى حرّ النهار.
(قالت) المرأة (الخامسة) واسمها كبشة بالموحدة الساكنة والمعجمة تمدح زوجها (زوجي إن دخل) البيت (فهد) بفتح الفاء وكسر الهاء فعل فِعْل الفهد يقال: فهد الرجل إذا أشبه الفهد في كثرة نومه تريد أنه ينام ويغفل عن معايب البيت الذي يلزمني إصلاحه، وقيل تريد وثب عليّ وثوب الفهد كأنها تريد أنه يبادر إلى جماعها من حبه لها بحيث إنه لا يصبر عنها إذا رآها. قال الكمال الدميري قالوا: أنوم من فهد وأوثب من فهد قال: ومن خلقه الغضب وذلك أنه إذا وثب على فريسة لا يتنفس حتى ينالها. وقال القاضي عياض: حمله الأكثر على الاشتقاق من خلق الفهد إما من جهة قوّة وثوبه وإما من كثرة نومه. قال: ويحتمل أن يكون من جهة كثرة كسبه لأنهم قالوا: أكسب من فهد وأصله أن الفهود الهرمة تجتمع على فهد منها فتيّ فيتصيد عليها كل يوم حتى يشبعها فكأنها قالت: إذا دخل المنزل دخل معه بالكسب لأهله كما يجيء الفهد لمن يلوذ به من الفهود الهرمة ثم لما كان في وصفها له بالفهد ما قد يحتمل الذم من جهة كثرة النوم رفعت
اللبس بوصفها له بخلق الأسد فأوضحت أن الأول سجية كرم ونزاهة شمائل ومسامحة في العشرة لا سجية جبن وخور في الطبع فقالت: (وإن خرج) من البيت (أسد) بكسر السين المهملة فعل

(8/83)


ماض تريد يفعل فعل الأسد في شجاعته وفيه كما قال القاضي عياض: المطابقة بين دخل وخرج لفظية وبين فهد وأسد معنوية وتسمى أيضًا المقابلة وفيهما أيضًا الاستعارة فإنها استعارت له في الحالتين خلق هذين الحيوانين فجاء في غاية من الإيجاز والاختصار ونهاية من البلاغة والبيان أي إذا دخل تغافل وتناوم، وإذا خرج صال فلما استعارت له خلق هذين السبعين في الحالين اللازمتين له المختصتين أعربت بذلك عن تخلقه بهما والتزامه لوصفيهما وعبرت عن جميع ذلك بكلمة وكلمة كل واحدة من ثلاثة أحرف حسنة التركيب مع جمالها في اللفظ ومناسبتهما في الوزن وسهولتهما في النطق (ولا يسأل عما عهد) بفتح العين وكسر الهاء أي عما له عهد في البيت من ماله إذا فقده لتمام كرمه وزاد الزبير بن بكار في آخره ولا يرفع اليوم لغد أي لا يدخر ما حصل عنده اليوم من أجل غد فكنّت بذلك عن غاية جوده، ويحتمل أن يكون المراد من قولها فهد على تفسيره بالوثوب عليها للجماع الذم من جهة أنه غليظ الطبع ليست عنده مداعبة قبل المواقعة بل يثب وثوب الوحش أو أنه كان سيئ الخلق يبطش بها ويضربها، وإذا خرج على الناس كان أمره أشدّ في الجرأة والإقدام والمهابة كالأسد ولا يسأل عما تغير من حالها حتى لو عرف أنها مريضة أو معوزة وغاب، ثم جاء لا يسأل عن ذلك ولا يتفقد حال أهله ولا بيته بل إن ذكرت له شيئًا من ذلك وثب عليها بالبطش والضرب.
(قالت) المرأة (السادسة) واسمها هند تذم زوجها (زوجي إن أكل لف) باللام المفتوحة والفاء المشددة فعل ماضٍ أي أكثر الأكل من الطعام مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقي منه شيئًا من نهمته وشرهه، وعند النسائي من رواية عمر بن عبد الله إذا أكل اقتف بالقاف أي جمع واستوعب، وحكى القاضي عياض: أنه روي رف بالراء بدل اللام قال وهي بمعنى لف (وإن شرب اشتف) بالشين المعجمة أي استقصى ما في الإناء، وقيل رويت استف بالسين المهملة وهي بمعناها (وإن اضطجع) نام (التف) في ثيابه وحده في ناحية من البيت وانقبض عنها فهي كئيبة لذلك كما قالت: (ولا يولج الكف) أي لا يدخل كفه داخل ثوبي (ليعلم البث) أي الحزن الذي عندي لعدم الحظوة منه فجمعت في ذمها له بين اللؤم والبخل وسوء العشرة مع أهله وقلة رغبته في النكاح مع كثرة شهوته في الطعام والشراب، وهذا غاية الذم عند العرب فإنها تذم بكثرة الطعام والشرب وتتمدح بقلتهما وكثرة الجماع لدلالة ذلك على صحة الذكورية والفحولية، وقول أبي عبيد في قولها ولا يولج الكف إنه كان في جسدها عيب فكان لا يدخل يده في ثوبها ليلمس ذلك العيب لئلا يشق عليها فمدحته بذلك. تعقبه ابن قتيبة بأنها قد ذمته في صدر الكلام فكيف تمدحه في آخره؟ وأجاب ابن الأنباري بأنه لا مانع أن تجمع المرأة بين مثالب زوجها ومناقبه لأنهن كن تعاهدن أن لا يكتمن من صفاتهم شيئًا، فمنهن من وصفت زوجها بالخير في جميع أموره، ومنهن من ذمته في جميع أموره، ومنهن من جمعت. وفي كلام هذه من البديع المناسبة والمقابلة في قولها: إن أكل وإن
شرب والالتزام فإنها التزمت التاء قبل القافية وقافية سجعها الفاء وفيه الترصيع وهو حسن التقسيم والتتبع والإرداف وهو من باب الكنايات والإشارات وهو التعبير بالشيء بأحد توابعه، وكلٍّ من الكنايات الحسية لأنها عبرت بقولها التف واكتفت به عن الإعراض عنها وقلة الاشتغال بها.
(قالت) المرأة (السابعة) واسمها حبى بنت علقمة تذمّ زوجها: (زوجي غياياء) بالغين المعجمة والتحتيتين المفتوحتين بينهما ألف مهموز ممدود مخفف مأخوذ من الغيّ بفتح المعجمة الذي هو الخيبة قال تعالى: {فسوف يلقون غيًّا} [مريم: 59] أو من الغياية بتحتيتين بينهما ألف وهو كل شيء أظل الشخص فوق رأسه فكأنه مغطى عليه من جهله فلا يهتدي إلى مسالك أو أنه كالظل المتكاثف الظلمة الذي لا إشراق فيه (أو) قالت: (عياياء)

(8/84)


بالمهملة الذي لا يضرب ولا يلقح من الإبل أو هو من العي بكسر العين المهملة أي الذي يعييه مباضعة النساء، والشك من عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الراوي. وقال الكرماني: هو تنويع من الزوجة القائلة كما صرح به أبو يعلى في روايته عن أحمد بن جناب عنه، وللنسائي من رواية عمر بن عبد الله عياياء بمعجمة من غير شك (طباقاء) بطاء مهملة فموحدة مفتوحتين فألف فقاف ممدود هو الأحمق أو الذي لا يحسن الضراب أو الذي تنطبق عليه أموره أو الثقيل الصدر عند الجماع يطبق صدره على صدر المرأة عند الجماع فيرتفع أسفله عنها فلا تستمتع به، وقد ذمت امرأة امرئ القيس فقالت له: ثقيل الصدر خفيف العجز سريع الإراقة بطيء الإفاقة (كل) ما تفرق في الناس من (داء) ومعايب (له داء) أي موجود فيه قال القاضي عياض: في هذا من لطيف الوحي والإشارة الغاية لأنه انطوى تحت هذه اللفظة كلام كثير (شجك) بشين معجمة وجيم مشدّدة مفتوحتين وكاف مكسورة أي أصابك بشجة في رأسك (أو قلك) بفاء ولام مشددة مفتوحتين وكاف مكسورة أي أصابك بجرح في جسدك أو كسرك أو ذهب بمالك أو قسرك بخصومته، وزاد ابن السكيت في رواية أو بجك بموحدة وجيم مشددة مفتوحتين وكاف مكسورة أي طعنك في جراحتك فشقها والبج شق القرحة (أو جمع كلاًّ) من الشج والفل (لك) وفي رواية الزبير إن حدّثته سبك وإن مازحته فلك وإلاّ جمع كلالك فوصفته كما قال القاضي عياض: بالحمق والتناهي في سوء العشرة وجمع النقائص بأن يعجز عن قضاء وطرها مع الأذى فإذا حدّثته سبها وإذا مازحته شجها وإذا أغضبته كسر عضوًا من أعضائها أو شق جلدها أو جمع كل ذلك من الضرب والجرح وكسر العضو وموجع الكلام، وفي هذا القول من البديع المطابقة والالتزام في قولها شجك فلك بجك جمع كلالك والتقسيم وبديع الوحي والإشارة بقولها كل داء له داء وهو من لطيف الوحي والإشارة وهي جملة أنبأت بوجازة ألفاظها وأعربت بلطائف إشاراتها عن معانٍ كثيرة.
(قالت) المرأة (الثامنة) وهي ياسر بنت أوس بن عبد تمدح زوجها: (زوجي المس) منه (مس أرنب) وصفته بأنه ناعم الجلد كنعومة وبر الأرنب أو كنّت بذلك عن حسن خلقه ولين جانبه (والريح) منه (ريح زرنب) أي طيب العرق لنظافته واستعماله الطيب، والزرنب بزاي مفتوحة فراء ساكنة فنون مفتوحة فموحدة. قال في القاموس: طيب أو شجر طيب الرائحة والزعفران، ويحتمل
أن تكون كنّت بذلك عن طيب الثناء عليه لجميل معاشرته، وقال القاضي عياض: هذا من التشبيه بغير أداة وفيه حسن المناسبة والمقابلة بقولها المسّ مسّ أرنب والالتزام في قولها أرنب وزرنب فإنها التزمت الراء والنون، وزاد الزبير بن بكار والنسائي من رواية عقبة وأنا أغلبه والناس يغلب فوصفته مع جميل العِشرة لها والصبر عليها بالشجاعة، وهذا كما حكاه صاحب تحفة النفوس أن صعصعة بن صوحان قال يومًا لمعاوية كيف ننسبك إلى العقل وقد غلبك نصف إنسان يريد امرأته فاختة بنت قرطة. فقال: إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام، وقال عياض: وقولها والناس يغلب فيه نوع من البديع يسمى التتميم لأنها لو اقتصرف على قولها وأنا أغلبه لظن أنه جبان ضعيف فلما قالت: والناس يغلب دل على أن غلبها إياه إنما هو من كرم سجاياه فتممت بهذه الكلمة للمبالغة في حسن أوصافه.
(قالت) المرأة (التاسعة) ولم تسم تمدح زوجها: (زوجي رفيع العماد) بكسر العين المهملة وهو العمود الذي يدعم به البيت تعني أن البيت الذي يسكنه رفيع العماد ليراه الضيفان وأصحاب الحوائج فيقصدونه كما كانت بيوت الأجواد، يعلونها ويضربونها في المواضع المرتفعة ليقصدهم الطارقون والطالبون أو هو مجاز عن زيادة شرفه وعلو ذكره (طويل النجاد) بكسر النون بعدها جيم فألف فدال مهملة. قال في

(8/85)


القاموس: ككتاب حمائل السيف أي طويل القامة وفي ضمن كلامها إنه صاحب سيف فأشارت إلى شجاعته (عظيم الرماد) لأن ناره لا تطفأ لتهتدي الضيفان إليها فيصير رمادها كثيرًا لذلك أو كنّت به عن كونه مضيافًا لأن كثرة الرماد مستلزمة لكثرة الطبخ المستلزمة لكثرة الأضياف، وهذه الكناية عندهم من الكنايات البعيدة لأن الانتقال فيها من الكناية إلى المطلوب بها بواسطة فإنه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور ومن كثرة الإحراق إلى كثرة الطبائخ، ومنها إلى كثرة الآكلين، ومنها إلى كثرة الضيفان.
(وها هنا فائدة جليلة في الفرق بين الكناية والمجاز).
قال الشيخ تقي الدين السبكي، ومن خطة نقلت من الفروق المشهورة بينهما أن الحقيقة لا يصح إرادتها مع المجاز وتصح إرادتها مع الكناية، وأقول هذا صحيح ولا يحصل به شفاء لأن الكناية إن أريد بها معناها كانت حقيقة وإن أريد بها المكنّى عنه كانت مجازًا، وأيضًا فإن هذا إنما يجيء عند من لا يجوّز الجمع بين الحقيقة والمجاز أما من يجوّزه فلا يمنع إرادة الحقيقة مع إرادة المجاز والجواب أن الكناية مثل قولنا: كثير الرماد وله ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يراد حقيقته فقط من غير أن يقصد معنى الكرم فهذا حقيقة لا كناية ولا مجاز بأن يريد الإخبار عن رجل عنده رماد كثير حاصل عنده وإن كان بخيلًا.
الثاني: أن يقصد بقوله كثير الرماد استعماله في معنى كريم ونقله إليه على وجه الاستعارة لما بينهما من العلاقة، وهذا مجاز لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه.
الثالث: أن يقصد استعماله في معناه الحقيقي ليفيد معنى الكرم للزومه له غالبًا وهذا هو الكناية، فالمعنى الحقيقي مراد والمعنى المجازي مراد بالدلالة عليه بالمعنى الحقيقي، فعلى هذا ينبغي حمل قولهم إنه تجتمع الكناية مع الحقيقة بخلاف المجاز ولا فرق بين أن يقول: يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو لا، لأن معنى الجمع بين الحقيقة والمجاز أن يريدهما بكلمة واحدة يستعملها فيهما والكناية لم يستعملها فيهما وإنما استعملها في أحدهما للدلالة على الآخر والتعريض قريب من الكناية يشتركان في إرادة الحقيقة وفي قصد إفادة معنى آخر ويفترقان في أن المفاد بالكناية على جهة اللزوم غالبًا والدلالة عليه قوية وفي التعريض بخلافه والله أعلم انتهى.
(قريب البيت من الناد) من مجلس القوم فإذا اشتوروا على أمر اعتمدوا على رأيه وامتثلوا أمره لشرفه في قومه أو وصفته بقرب البيت لطالب القرى، وبالجملة فقد وصفته بالسيادة والكرم وحسن الخلق وطيب المعاشرة، والنادي بالياء على الأصل لكن المشهور في الرواية حذفها وبه يتم السجع، وفي قولها من البديع المناسبة والاستعارة والإرداف والتتبع وحسن التسجيع فناسبت ألفاظها وقابلت كلماتها بقولها رفيع العماد طويل النجاد فكل لفظة على وزن صاحبتها، وفيه الإرداف والتتبع في طويل النجاد فإن طول النجاد من توابع الطول ولوازمه وعظيم الرماد من توابع الكرم وروادفه وكذلك قريب البيت من الناد من التتبع البديع أيضًا إذ العادة أنه لا ينزل قرب النادي إلا المنتصب للضيفان فكان ردفًا لكرمه وجوده. وقولها طويل النجاد أبلغ وأكمل من قولها طويل، فلما عبرت عنه بما هو من توابعه بقولها طويل النجاد أبلغت في طوله وكأنها أظهرت طوله للسامع صورة ليراها مع ما في هذه الصيغة من طلاوة اللفظ مع الإيجاز إذ لو أرادت تحقيق طوله المحمود لطال كلامها وتحت هذه الألفاظ الوجيزة جمل كثيرة أعربت هذه الكنايات اللطيفة عنها، وأين هي في البلاغة من قولها لو قالت زوجي كريم كثير الضيفان أو كرم الناس فإن واحدًا من هذه الأوصاف على كثرة ألفاظها ومبالغة أوصافها لا ينتهي منتهى واحد من قولها عظيم الرماد. قال القاضي عياض: إذا لمحت كلام هذه وتأملته ألفيتها لأفانين البلاغة جامعة وبعلم البيان وبعض الإيجاز والقصد قارعة انتهى.

(8/86)


(قالت) المرأة (العاشرة) واسمها كبشة كاسم الخامسة بنت الأرقم بالراء والقاف تمدح زوجها: (زوجي مالك وما مالك): استفهامية للتعجب والتعظيم أي أيّ شيء هو مالك ما أعظمه وأكرمه (مالك خير من ذلك) بكسر الكاف زيادة في الإعظام وترفيع المكانة وتفسير لبعض الإبهام وإنه خير مما أشير إليه من ثناء وطيب ذكر (له) أي لزوجي (إبل كثيرات المبارك) بفتح الميم جمع مبرك وهو موضع البروك أي كثيرة ومباركها كذلك أو كثيرًا ما تُثار فتُحلب ثم تبرك فتكثر مباركها لذلك (قليلات المسارح) لاستعداده للضيفان بها لا يوجه منها إلى المرعى إلا قليلًا ويترك سائرها بفنائه فإن فاجأه ضيف وجد عنده ما يقريه به من لحومها وألبانها (وإذا سمعن) أي الإبل (صوت المزهر) عند ضربه به فرحًا بالضيفان عند قدومهم عليه (أيقنّ أنهنّ هوالك) لمعرفتهن بعقرهنّ للضيفان لما كثرت عادته بذلك، والمزهر بكسر الميم وسكون الزاي
وفتح الهاء بعدها راء آلة من آلاف اللهو، والحاصل أنها جمعت في وصفها له بين الثروة والكرم وكثرة القرى والاستعداد له.
(قالت) المرأة (الحادية عشرة) وهي أم زرع بنت أكيمل بن ساعدة اليمنية واسمها فيما حكاه ابن دريد عاتكة تمدح زوجها (زوجي أبو زرع فما) بالفاء ولأبي ذر: وما (أبو زرع) أخبرت أولًا باسمه ثم عظمت شأنه بقولها فما أبو زرع أي إنه لشيء عظيم كقوله تعالى: {الحاقة * ما الحاقة} [الحاقة: 1، 2] وزاد الطبراني صاحب نعم وزرع (أَناس) بهمزة مفتوحة فنون مخففة فألف فسين مهملة أي حرك (من حليّ) بضم الحاء المهملة وكسر اللام وتشديد التحتية أي ملأ (أُذنيّ) تثنية أُذن من أقراط وشنف من ذهب ولؤلؤ حتى تدلى ذلك واضطرب من كثرته وثقله، وفي رواية ابن السكيت أُذني وفرعي بالتثنية أي يديها لأنهما كالفرعين من الجسد تريد حليّ أُذنيّ ومعصميّ (وملأ من شحم عضدي) بتشديد التحتية تثنية عضد. قال في القاموس: بالفتح وبالضم وبالكسر وككتف وندس وعنق ما بين المرفق إلى الكتف وهما إذا سمنا سمن الجسد كله فذكرها العضدين للسجع ودلالتهما على الباقي فكأنها قالت أسمنني وملأ بدني شحمًا (وبجحني) بموحدة وجيم مخففة وفي اليونينية مشددة وحاء مهملة مفتوحات ثم نون مكسورة عظمني (فبجحت) بفتحات ثم سكون الفوقية (إليّ) بتشديد التحتية (نفسي) فعظمت عندي أو فخرني ففخرت أو وسع عليّ وترفني وعند النسائي وبجح نفسي فتبجحت إليّ نفسي بالتشديد أي فرحني ففرحت (وجدني في أهل غنيمة) بضم الغين المعجمة وفتح النون تصغير غنم وأنّث على إرادة الجماعة تقول: إن أهلها كانوا ذوي غنم وليسوا أصحاب إبل ولا خيل (بشق) بموحدة ومعجمة مكسورة عند المحدّثين مفتوحة عند غيرهم اسم موضع أو هو بالكسر أي مشقة من ضيق العيش والجهد أو بشق جبل أي ناحيته كانوا يسكنونه لقلتهم وقلة غنمهم وبالفتح شق في الجبل كالغار فيه (فجعلني في أهل صهيل) صوت خيل (و) أهل (أطيط) صوت إبل من ثقل حملها، وزاد النسائي: وجامل وهو جمع جمل أو اسم فاعل لمالك الجمال كقوله: لابن وتامر (و) أهل (دائس) يدوس الزرع في بيدره ليخرج الحب من السنبل (ومنق) بفتح النون في الفرع وتشديد القاف من نقى الطعام تنقية أي يزيل ما يختلط به من قشر ونحوه، وروي بكسر النون. قال أبو عبيد: ولا أعرفه فإن صحت الرواية به فهو من النقيق وهو أصوات المواشي والأنعام فتكون وصفته بكثرة الأموال وأنه نقلها من شدة العيش وجهده إلى الثروة الواسعة من الخيل والإبل والزرع (فعنده) أي عند زوجي (أقول) وفي رواية الزبير أتكلم (فلا أقبح) بضم الهمزة وفتح القاف والموحدة المشددة بعدها حاء مهملة مبنيًّا للمفعول فلا يقول لي قبحك الله أو لا يقبح قولي لكثرة إكرامه لي لمحبته لي ورفعة مكاني عنده (وأرقد فأتصبح) بهمزة وفوقية ومهملة وموحدة مشدّدة مفتوحات ثم حاء مهملة أي أنام الصبحة وهي نوم أول النهار فلا

(8/87)


أوقظ لأن لي من يكفيني مؤونة بيتي ومهنة أهلي (وأشرب) الماء أو اللبن أو غيرهما (فأتقنح) بهمزة ففوقية فقاف فنون مشددة لأبي ذر مفتوحات فحاء مهملة أي أشرب كثيرًا حتى لا أجد مساغًا أو لا أتقلل من مشروبي ولا يقطع عليّ حتى تتم شهوتي منه. وفي رواية
الهيثم وآكل فأتمنح أي أطعم غيري، يقال: منحه يمنحه إذا أعطاه وأتت بالألفاظ كلها بوزن أتفعل لتفيد تكرر ذلك وملازمته مرة بعد أخرى ومطالبة نفسها أو غيرها بذلك، وقول أبي عبيد لا أراها قالت فأتقنح إلا لعزة الماء عندهم أي فلذلك فخرت بالري من الماء تعقب بأن السياق ليس فيه ذكر الماء فهو محتمل له ولغيره من الأشربة؛ قيل: إن لم تثبت رواية الهيثم وآكل فأتمنح ففي اقتصارها على ذكر الشرب إشارة إلى أن المراد به اللبن لأنه هو الذي يقوم مقام الطعام والشراب، ولغير أبي ذر: فأتقمح بالميم بدل النون ما ذكرها المصنف بعد عن بعضهم، وقال: إنها أصح فقول القاضي عياض إنه لم يقع في الصحيحين إلا بالنون، ورواه الأكثر في غيرهما بالميم لا يخفى ما فيه. قال أبو عبيد: أتقمح بالميم أي أروى حتى لا أشرب مأخوذ من الناقة القامح وهي التي ترد الحوض فلا تشرب وترفع رأسها ريًّا أو هما بمعنى.
(أُم أبي زرع) زوجي (فما أم أبي زرع) ما استفهامية للتعجب والتعظيم (عكومها) بضم العين المهملة والكاف والميم أي أعدالها وغرائرها التي تجمع فيها أمتعتها أو نمطها الذي تجعل فيه ذخيرتها ذكره في القاموس وغيره (رداح) بفتح الراء والدال المهملتين وبعد الألف حاء مهملة مرفوعة أي عكومها كلها رداح ثقيلة فوصفها بالثقل لكثرة ما فيها من المتاع والثياب. وقال في النهاية: أي ثقيلة الكفل ويصح أن يكون رداح خبر عكوم فيخبر عن الجمع بالجمع أو خبر لمبتدأ محذوف أي كلها رداح كما مرّ على أن رداح واحد جمعه ردح بضمتين، وقد سمع الخبر عن الجمع بالواحد مثل أدرع دلاص فيحتمل أن يكون هذا منه، ويحتمل أن يكون مصدرًا كطلاق وكمال أي على حذف مضاف أي عكومها ذات رداح (وبيتها فساح) بفاء مفتوحة فسين مهملة مخففة فألف فحاء مهملة مرفوع واسع كثير، والحاصل أنها وصفت والدة زوجها بكثرة الآلات والأثاث والقماش وسعة المال كبيرة المنزل لبر ابنها أبي زرع لها وأنه لم يطعن في السن لأن ذلك هو الغالب ممن يكون له والدة.
(ابن) زوجي (أي زرع) ولم يسم (فما ابن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة) بفتح الميم والسين المهملة وتشديد اللام مصدر ميمي بمعنى المسلول والشطبة بفتح الشين المعجمة السعفة الخضراء يشق منها قضبان رقاق ينسج منها الحصر أي موضعه الذي ينام فيه في الصغر كمسلول الشطبة ويلزم منه كونه مهفهفًا أو أرادت سيفًا سلّ من غمده، والعرب تشبه الرجل بالسيف لخشونة جانبه ومهابته أو لجماله ورونقه وكمال لألائه أو لكمال صورته في استوائها واعتدالها (ويشبعه ذراع الجفرة) بفتح الجيم وسكون الفاء بعدها راء الأنثى من ولد المعز ابن أربعة أشهر وفصل عن أمه وأخذ في الرعي، ويقال لولد الضأن أيضًا إذا كان ثنيًا. وفي القاموس الجفر من أولاد الشاء ما عظم واستكرش أو بلغ أربعة أشهر وزاد ابن الأنباري ويرويه فيقة اليعرة ويميس في حلة النترة، فقولها ويرويه من الإرواء والفيقة بكسر الفاء وسكون التحتية بعدها قاف ما يجتمع في الضرع بين الحلبتين واليعرة بفتح التحتية وسكون العين المهملة بعدها راء العناق ويميس بالسين المهملة يتبختر، والنترة: بالنون المفتوحة ثم الفوقية الساكنة الدرع اللطيفة، وقيل اللينة الملمس. والحاصل أنها
وصفته بهيف القدّ وأنه ليس ببطين ولا جاف وأنه قليل الأكل والشرب ملازم لآلة الحرب يختال في موضع القتال وذلك مما تتمادح به العرب.
(بنت) زوجي (أبي زرع فما بنت أبي زرع)؟ في مسلم وما بالواو بدل الفاء ولم تسم البنت المذكورة (طوع أبيها وطوع أمها) فلا تخرج عن أمرهما وصفتهما ببرهما وزاد الزبير وزين أهلها ونسائها أي

(8/88)


يتجملون بها (وملء كسائها) لامتلاء جسمها وسمنها (وغيظ جارتها) أي ضرّتها لما ترى من جمالها وأدبها وعفتها. وقول الزركشي كغيره في هذه الألفاظ دليل لسيبويه في إجازته مررت برجل حسن وجهه خلافًا للمبرد والزجاج أي حيث أنكرا إجازة مثل ذلك لأنه من إضافة الشيء إلى مثله، تعقبه البدر الدماميني فقال: ما أظن أن سيبويه يرضى بهذا الاستدلال وذلك لأن كلاًّ من طوع وملء وغيظ ليس صفة مشبهة ولا اسم فاعل ولا مفعول من فعل لازم حتى يجري مجرى الصفة المشبهة، وإنما كلٌّ منها مصدر لفعل متعدٍّ فطوع أبيها بمعنى طائعة أبيها أي مطيعة ومنقادة له، وملء كسائها أي مالئة كساءها، وغيظ جارتها أي غائظة جارتها وجواز مثل هذا في اسم الفاعل من الفعل المتعدي جائز بالإجماع لا يخالف فيه المبرد ولا الزجاج ولا غيرهما، وبالجملة فليس هذا من محل النزاع في شيء انتهى.
وعند مسلم من رواية سعيد بن سلمة وحقر جارتها بفتح الحاء المهملة وسكون القاف أي دهشتها أو قتلها، وللطبراني وحين جارتها بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية بعدها نون أي هلاكها، وزاد ابن السكيت قباء هضيمة الحشا جائلة الوشاح عكناء فعماء نجلاء دعجاء زجاء قنواء مؤنقة معنقة فقوله قباء بفتح القاف وتشديد الموحدة أي ضامرة البطن وهضيمة الحشا بمعنى ضامرة وجائلة الوشاح بالجيم والوشاح بكسر الواو أي يدور وشاحها لضمور بطنها والوشاح قال في القاموس: بالضم والكسر كرسان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر أو أديم عريض مرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها، وهي غرثى الوشاح هيفاء، وعكناء بفتح العين المهملة وسكون الكاف وبالنون والمدّ أي ذات عكن وهي طيات بطنها، وعكناء بفتح العين المهملة وسكون الكاف وبالنون.
والمدّ أي ذات عكن وهي طيات بطنها، وفعماء بفتح الفاء وسكون العين المهملة وبالمدّ أي ممتلئة الأعضاء، ونجلاء بفتح النون وسكون الجيم والمدّ واسعة العين، ودعجاء من الدعج بالجيم شدة سواد العين في شدة بياضها، وزجاء بالزاي والجيم المشدّدة من الزجج وهو تقويس الحاجب مع طول في أطرافه وامتداده وقيل: بالراء بدل الزاي أي كبيرة الكفل يرتج من عظمه، وقنواء بفتح القاف وسكون النون والمد من القنو طول في الأنف ودقة الأرنبة مع حدب في وسطه ومؤنقة بالنون المشدّدة والقاف من الشيء الأنيق المعجب ومعنقة بوزنه أي مغذية بالعيش الناعم وكلها كما لا يخفى أوصاف حسان.
(جارية) زوجي (أبي زرع) لم تسم (فما جارية أبي زرع؟ لا تبث) بضم الموحدة وتشديد
المثلثة لا تفشي (حديثنا تبثيثًا) مصدر من بثّ بوزن فعل بالتشديد للمبالغة أي بل تكتمه (ولا تنقث) بضم الفوقية وفتح النون وكسر القاف المشدّدة بعدها مثلثة أي لا تخرج أو لا تفسد أو لا تسرع بالخيانة أو لا تذهب بالسرقة (ميرتنا) بكسر الميم وسكون التحتية بعدها راء أي زادنا (تنقيثًا) مصدر وصفتها بالأمانة (ولا تملأ بيتنا تعشيشًا) بالعين المهملة والشينين المعجمتين بينهما تحتية ساكنة أي لا تترك الكناسة والقمامة في البيت مفرقة كعش الطائر بل هي مصلحة للبيت مهتمة بتنظيفه وإلقاء كناسته وإبعادها منه، وقيل لا تخوننا في طعامنا فتخبؤه في زوايا البيت وقيل تريد عفاف فرجها وعدم فسقها، وزاد الهيثم بن عدي ضيف أبي زرع فما ضيف أبي زرع في شبع وري ورتع.
طهاة أبي زرع فما طهاة أبي زرع؟ لا تفتر ولا تعدى تقدح قدرًا وتنصب أخرى فتلحق الآخرة بالأولى. مال أبي زرع فما مال أبي زرع؟ على الجمم معكوس وعلى العفاة محبوس، فقوله رتع بفتح الراء والفوقية أي تنعم ومسرة والطهاة بضم الطاء المهملة. أي الطباخون لا تفتر بالفاء الساكنة ثم الفوقية المضمومة لا تسكن ولا تضعف ولا تعدى بضم الفوقية وتشديد الدال المهملة أي لا تترك ذلك ولا تتجاوز عنه وتقدح بالقاف والحاء المهملة آخره أي تغرف وتنصب أي ترفع قدرًا أخرى على النار، والجمم بالجيم جمع جمة القوم يسألون في الدية ومعكوس أي مردود والعفاة بضم العين

(8/89)


المهملة وتخفيف الفاء السائلون ومحبوس أي موقوف عليهما.
(قالت) أم زرع: (خرج) زوجي (أبو زرع) من عندي (والأوطاب) بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الطاء المهملة وبعد الألف موحدة زقاق اللبن واحدها وطب على وزن فلس فجمعه على أفعال مع كونه صحيح العين نادر، والمعروف وطاب في الكثرة وأوطب في القلة والواو للحال أي خرج والحال أن زقاق اللبن (تمخض) بالخاء والضاد المعجمتين مبنيًّا للمفعول ليؤخذ زبد اللبن، ويحتمل أنها أرادت أن خروجه كان غدوة وعندهم الخير الكثير من اللبن الغزير بحيث يشربه صريحًا ومخيضًا ويفضل عندهم حتى يمخضوه ويستخرجوا زبده، ويحتمل أنها أرادت أن الوقت الذي خرج فيه كان زمن الخصب والربيع، وكان خروجه إما لسفر أو غيره فلم تدر ما يحدث لها بسبب خروجه (فلقي امرأة) لم أقف على اسمها (معها ولدان لها) أي يسميا (كالفهدين) وفي رواية ابن الأنباري كالصقرين، وفي رواية الكاذي كالشبلين (يلعبان من تحت خصرها) وسطها (برمانتين) لأنها كانت ذات كفل عظيم فإذا استلقت على ظهرها ارتفع كفلها بها من الأرض حتى يصير تحتها فجوة تجري فيها الرمانة، وحمل بعضهم الرمانتين على النهدين محتجًّا بأن العادة لم تجر بلعب الصبيان ورميهم الرمان تحت أصلاب أمهاتهم. قال: ولعله مدر من كلام بعض الرواة، أورده على سبيل التفسير الذي ظنه فأدرج في الخبر، ورجحه القاضي عياض وتعقب بأن الأصل عدم الإدراج (فطلقني ونكحها) لما رأى من نجابة ولديها إذ كانوا يرغبون أن تكون أولادهم من النساء المنجبات
في الخلق والخُلق، وفي رواية الحارث بن أبي أسامة فأعجبته فطلقني (فنكحت) تزوجت (بعده رجلًا) أي يسم (سريًّا) بفتح السين المهملة وكسر الراء وتشديد التحتية أي خيارًا (ركب) فرسًا (شريًّا) بالشين المعجمة فائقًا يستشري في سيره يمضي فيه بلا فتور ولاء (وأخذ) رمحًا (خطيًّا) بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة المكسورة والتحتية المشددتين صفة موصوف محذوف والخط موضع بنواحي البحرين تجلب منه الرماح (وأراح) بفتح الهمزة والراء آخره حاء مهملة من الإراحة وهي الإتيان إلى موضع المبيت بعد الزوال (عليّ) بتشديد التحتية (نعمًا) بفتح النون والعين واحد الأنعام وأكثر ما يقع على الإبل (ثريًّا) بفتح المثلثة وكسر الراء وتشديد التحتية أي كثيرًا والثروة كثرة العدد وقول التنقيح كغيره وحقه أن يقول ثرية، ولكن وجهه بأن كل ما ليس بحقيقي التأنيث لك فيه وجهان في إظهار علامة التأنيث في الفعل واسم الفاعل والصفة أو تركها، تعقبه في المصابيح بأن هذا إنما هو بالنسبة إلى ظاهر غير الحقيقي التأنيث، وأما بالنسبة إلى ضميره فبالتأنيث قطعًا إلا في الضرورة مع التأويل وإلاّ فمثل قولك: الشمس طلع أو طالع ممتنع وعلى تقدير تسليم ذلك فلا يتمشى في هذا المحل فقد قال الفراء: إن النعم مذكر لا مؤنث يقولون هذا نعم وارد (وأعطاني من كل رائحة) من كل شيء يأتيه من أصناف الأموال التي تأتيه وقت الرواح (زوجًا) أي اثنين ولم يقتصر على الفرد من ذلك بل ثنّاه وضعفه إحسابًا إليها (وقال كلي) يا (أم زرع وميري أهلك) أي صليهم وأوسعي عليهم بالميرة وهي الطعام (قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع). وللطبراني فلو جمعت كل شيء أصبته منه فجعلته في أصغر وعاء من أوعية أبي زرع ما ملأه، والظاهر أنه للمبالغة وإلا فالإناء أو الوعاء لا يسع ما ذكرت أنه أعطاها من أصناف النِعم، والحاصل أنها وصفت هذا الثاني بالسؤدد في ذاته والثروة والشجاعة والفضل والجود لكونه أباح لها أن تأكل ما شاءت من ماله وتهدي ما شاءت لأهلها مبالغة في إكرامها، ومع ذلك لم يقع عندها موقع أبي زرع وأن كثيره دون قليل أبي زرع مع إساءة أبي زرع لها أخيرًا في تطليقها، ولكن حبها له بغّض إليها الأزواج لأنه أول أزواجها فسكنت عبته في قلبها كما قيل:
ما الحب إلا للحبيب الأول

(8/90)


ولذا كره أُولو الرأي تزوج امرأة لها زوج طلقها مخافة أن تميل نفسها إليه والحب يستر الإساءة. قال القاضي عياض: في كلام أم زرع من الفصاحة والبلاغة ما لا مزيد عليه فإنه مع كثرة فصوله وقلة فضوله مختار الكلمات، واضح السمات، نيّر القسمات، قد قدّرت ألفاظه قدر معانيه وقررت قواعده وشيدت مبانيه، وجعلت لبعضه في البلاغة موضعًا، وأودعته من البديع بدعًا، وإذا لمحت كلام التاسعة صاحبة العماد والنجاد ألفيتها لأفانين البلاغة جامعة فلا شيء أسلس من كلامها، ولا أربط من نظامها، ولا أطبع من سجعها، ولا أغرب من طبعها، وكأنما فقرها مفرغة في قالب واحد، ومحذوّة على مثال واحد، وإذا اعتبرت كلام الأولى وجدته مع صدق تشبيهه، وصقالة وجوهه، قد جمع من حسن الكلام أنواعًا، وكشف عن محيا البلاغة قناعًا، بل كلهن حسان الأسجاع، متفقات الطباع، غريبات الإبداع.
(قالت عائشة) -رضي الله عنها- بالسند الأول (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كنت لك كأبي زرع لأم زرع) أي أنا لك فكان زائدة كقوله تعالى: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس} [آل عمران: 110] وهذا فيه شيء لأن كان لا تدل على الانقطاع ولا على الدوام، فليس في هذا الكلام ما يقتضي انقطاع هذه الصفة فلا حاجة إلى دعوى زيادة كان وإن المعنى أنا لك. وزاد في رواية الهيثم بن عدي في الإلفة والوفاء لا في الفرقة والجلاء، وزاد الزبير إلا أنه طلقها وأنا لا أطلقك فاستثنى الحالة المكروهة وهي ما وقع من تطليق أبي زرع تطييبًا لها وطمأنينة لقلبها ودفعًا لإيهام عموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع إذ لم يكن فيه ما تذمه النساء سوى ذلك، وقد أجابت هي عن ذلك جواب مثلها في فضلها وعلمها فقالت: كما عند النسائي والطبراني: يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع، وفي رواية الزبير: بأبي وأمي لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع.
(قال أبو عبد الله) البخاري، وفي اليونينية شطب بالحمرة على قال أبو عبد الله (قال سعيد بن سلمة) بن الحسام المدني الصدوق وليس له في البخاري إلا هذا الموضع وصوّبه الغساني، وقال الكرماني إنه في بعض النسخ أنه وقال موسى: أي ابن إسماعيل التبوذكي عن سعيد بن سلمة (عن هشام) بن عروة يعني بالإسناد ولأبي ذر قال هشام (ولا تعشش) بضم الفوقية وفتح العين المهملة وتشديد الشين الأولى (بيتنا تعشيشًا) وضبطها في الفتح تغشش بالغين المعجمة بدل المهملة قال: وهو من الغش ضد الخالص أي لا تملؤه بالخيانة بل هي ملازمة للنصيحة فيما هي فيه، وقيل كناية عن عفة فرجها، والمراد أنها لا تملأ البيت وسخًا بأطفالها من الزنا.
(قال أبو عبد الله) البخاري أيضًا: (وقال بعضهم: فأتقمح بالميم وهذا أصح) من الرواية بالنون وهو موافق لقول أبي عبيد أتقمح أي أروى حتى لا أحب الشرب، قال: وأما النون فلا أعرفه ولا أراه محفوظًا إلا بالميم وهذا يوضح أن الذي وقع في أصل رواية البخاري بالنون.
وهذا الحديث قد شرحه في جزء مفرد إسماعيل بن أبي أويس شيخ المؤلّف، وثابت بن قاسم، والزبير بن بكار، وأبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث. وأبو محمد بن قتيبة، وابن الأنباري، وإسحاق الكاذي، وأبو القاسم عبد الحليم بن حيان المصري ثم الزمخشري في الفائق، ثم القاضي وهو أجمعها وأوسعها. ذكره الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله، وسيدي علي الوفوي على طريق القوم وأهل الإشارات، وأخرجه مسلم في الفضائل والنسائي، وأخرجه الترمذي في الشمائل.
5190 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ تَسْمَعُ اللَّهْوَ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني
قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عروة) بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: كان الحبش) الجيل المعروف من السودان (يلعبون بحرابهم) جمع حربة في المسجد للتدريب لأجل الجهاد (فيسترني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا أنظر) إلى لعبهم (فما زلت أنظر) إليه (حتى كنت

(8/91)


أنا أنصرف فاقدروا) بضم الدال وتكسر (قدر الجارية الحديثة السن) أي القريبة العهد بالصغر وقد كانت يومئذ بنت خمس عشرة أو أزيد (تسمع اللهو).
وهذا الحديث قد سبق في كتاب العيدين وغيره وفيه ما ترجم له من حسن المعاشرة مع الأهل وكرم الأخلاق.

83 - باب مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ لِحَالِ زَوْجِهَا
(باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها) أي لأجله.
5191 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ، وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ، فَتَبَرَّزَ ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} قَالَ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، هُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ. فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيُرَاجِعْنَهُ وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ فَأَفْزَعَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا: وَقَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ. ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَهْلِكِي؟ لاَ تَسْتَكْثِرِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِيدُ عَائِشَةَ قَالَ عُمَرُ: وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ: أَثَمَّ
هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَ غَسَّانُ؟ قَالَ: لاَ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ. طَلَّقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءَهُ. فَقُلْتُ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ. قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ. فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَشْرُبَةً لَهُ فَاعْتَزَلَ فِيهَا، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكِ، أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا، أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَتْ: لاَ أَدْرِي، هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي الْمَشْرُبَةِ فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ الْغُلاَمُ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كَلَّمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ لِلْغُلاَمِ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الْغُلاَمَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا قَالَ: إِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِي فَقَالَ: قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ إِلَيَّ بَصَرَهُ فَقَالَ: «لاَ». فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قُلْتُ: وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يُرِيدُ عَائِشَةَ. فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَبَسُّمَةً أُخْرَى فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسًا وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ. فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: «أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي. فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءَهُ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ قَالَ: «مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا» مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ. حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا؛ وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ»، فَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخَيُّرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَاخْتَرْتُهُ، ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله بن أبي ثور) بالمثلثة (عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- (عن المرأتين من أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللتين قال الله تعالى) في حقهما: ({إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما}) [التحريم: 4] أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة (حتى حج وحججت معه) فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق (وعدل) عن الطريق المسلوكة الجادّة إلى الأراك لحاجته وفي مسلم أنه مرّ الظهران (وعدلت معه بإداوة) فيها ماء (فتبرز ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ فقلت له: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللتان قال الله تعالى) فيهما: ({إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما}؟ قال: واعجبًا) بالتنوين في الفرع اسم فعل بمعنى أعجب كقوله: واهًا ويجوز عدمه لأن الأصل فيه واعجبي فأبدلت الكسرة فتحة فصارت الياء ألفًا كقوله: يا أسفا ويا حسرتا وفي رواية معمر واعجبي (لك يا ابن عباس) أي كيف خفي عليك هذا القدر مع حرصك على طلب العلم، وفي الكشاف أنه كره ما سأله، وبذلك جزم الزهري كما في مسلم (هما عائشة وحفصة. ثم استقبل عمر الحديث يسوقه) إلى آخر القصة التي كانت سبب نزول الآية المسؤول عنها (قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار) اسمه أوس بن خوليّ أو عتبان بن مالك والأول هو الراجح لأنه منصوص عليه عند ابن سعد، والثاني استنبطه ابن بشكوال من المؤاخاة بينهما وما ثبت بالنص مقدّم (في بني أمية بن زيد وهم من عوالي المدينة) قرية من قرى المدينة مما يلي الشرق وكانت منازل الأوس (وكنا نتناوب النزول) من العوالي (على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) نجعله نوبًا (فينزل) جاري الأنصاري (يومًا وأنزل يومًا فإذا نزلت) على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (جئته بما حدّث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره) من الحوادث الكائنة عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وإذا نزل) جاري (فعل مثل ذلك) وإذا شرطية أو ظرفية (وكنا معشر قريش) ونحن بمكة (نغلب النساء) نحكم عليهن ولا يحكمن علينا (فلما قدمنا) من مكة (على الأنصار) بالمدينة (إذا) هم (قوم تغلبهم نساؤهم) ويحكمن عليهم (فطفق) بفتح الطاء المهملة وكسر الفاء وتفتح جعل أو أخذ (نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) في طريقتهن وسيرتهن فجعلن يكلمننا ويراجعننا (فصخبت) بالصاد المهملة المفتوحة والخاء المعجمة المكسورة، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فسخبت بالسين المهملة بدل الصاد أي صحت (على امرأتي) زينب بنت مظعون لأمر غضبت منه (فراجعتني) راددتني في القول (فأنكرت) عليها (أن تراجعني قالت: ولم)؟ بكسر اللام وفتح الميم (تنكر) ليّ (أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليراجعنه) بكسر الجيم وسكون العين وفتح النون (وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل) بنصب اليوم على الظرفية وخفض الليل بحتى التي بمعنى إلى ونصبه على أنها للعطف، وفي رواية عبيد بن حنين وإن ابنتك لتراجع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يظل يومه غضبان. قال عمر: (فأفزعني ذلك وقلت لها: قد خاب من فعل ذلك منهن ثم جمعت عليّ ثيابي) أي لبستها أجمع جميعًا (فنزلت) من العوالي إلى المدينة (فدخلت على حفصة) ابنتي (فقلت لها:
أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اليوم حتى الليل)؟ والهمزة في أتغاضب

(8/92)


للاستفهام الإنكاري (قالت: نعم) قال عمر: (فقلت) لها (قد خبتِ وخسرتِ) بكسر الفوقيتين (أفتأمنين أن يغضب الله) عز وجل (لغضب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتهلكي) بكسر اللام (لا تستكثري النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لا تطلبي منه الكثير، وفي رواية يزيد بن رومان لا تكلمي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس عنده دنانير ولا دراهم فما كان لك من حاجة حتى دهنة سليني (ولا تراجعيه في شيء) من الكلام (ولا تهجريه) ولو هجرك (وسليني ما بدا) ما ظهر (لك) مما تريدين (ولا يغرنك) بتشديد الراء والنون (إن كانت) بفتح الهمزة وتكسر (جارتك أوضأ) أحسن وأجمل (منك وأحب إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فلا يؤاخذها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا فعلت ما نهيتك عنه فإنها تدل بجمالها ومحبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها (يريد) عمر -رضي الله عنه- بذلك (عائشة) ولم يقل ضرّتك بل جارتك أدبًا منه -رضي الله عنه- أو أنها كانت جارتها حقيقة منزلها جوار منزلها والعرب تطلق على الضرة جارة لتجاورهما المعنوي لكونهما عند شخص واحد وإن لم يكن حسيًّا.
(قال عمر: وكنا قد تحدّثنا أن غسان) بفتح الغين المعجمة والسين المهملة المشددة أي قبيلة غسان وملكهم واسمه الحارث بن أبي شمر (تنعل الخيل) بضم الفوقية وكسر العين (لغزونا) ولأبي ذر عن الكشميهني لتغزونا، وفي اللباس وكان من حول رأس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد استقام له فلم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نتخوّف أن يأتينا (فنزل صاحبي الأنصاري) من العوالي إلى المدينة (يوم نوبته فرجع) من المدينة (إلينا عشاء فضرب بابي ضربًا شديدًا) أي طرقه طرقًا شديدًا ليخبرني بما حدث عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوحي وغيره على العادة (وقال) لما أبطأت عن إجابته (أثم هو) بفتح المثلثة أي في البيت وكأنه ظن أنه خرج منه. قال عمر -رضي الله عنه-: (ففزعت) بكسر الزاي خفت من شدة ضربه الباب إذ هو خلاف عادته (فخرجت إليه) فقلت له: ما الخبر؟ (فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم. قلت) له (ما هو أجاء غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأهول طلّق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نساءه) أي وحفصة منهن فهو أهول بالنسبة إلى عمر لأجل ابنته، وزاد أبو ذر هنا وقال عبيد بن حنين بضم العين والحاء المهملتين فيهما مصغرين مولى زيد بن الخطاب العدوي مما وصله المؤلّف في تفسير سورة والنجم سمع ابن عباس عن عمر أي بهذا الحديث فقال: يعني الأنصاري اعتزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أزواجه بدل قوله طلق نساءه، ولم يذكر البخاري هنا من رواية عبيد بن حنين إلا هذا القدر، ولعله أراد أن يبين به أن قوله طلق نساءه لم تتفق الروايات عليه فلعل بعضهم رواه بالمعنى لما وقع من اعتزاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهن إذ لم تجر عادته بذلك فظنوا أنه طلقهن وأما اللاحق فهو من رواية أبي ثور لا من رواية عبيد وهو قوله: (فقلت: خابت حفصة وخسرت) إنما خصها بالذكر لمكانتها منه (قد كنت أظن هذا يوشك) بكسر الشين المعجمة يسرع (أن يكون) لأن مراجعتهن قد تفضي إلى الغضب المفضي إلى الفرقة (فجمعت عليّ ثياب) لبستها جميعًا ودخلت المسجد (فصليت صلاة الفجر مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مشربة) بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وضم الراء وفتحها أي غرفة (له فاعتزل فيها ودخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ ألم أكن
حذرتك هذا)؟ زاد في رواية سماك لقد علمت أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يحبك ولولا أنا لطلّقك فبكت أشد البكاء وعند ابن مردويه والله إن كان طلّقك لا أكلمك أبدًا. (أطلقكنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قالت: لا أدري ها هو) عليه الصلاة والسلام (ذا معتزل في المشربة فخرجت) من عند حفصة (فجئت إلى المنبر فإذا حوله) أي المنبر (رهط) أي يقف الحافظ ابن حجر على أسمائهم (يبكي بعضهم فجلست معهم قليلًا ثم غلبني ما أجد) من اعتزاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

(8/93)


وَسَلَّمَ- نساءه ومنهن حفصة (فجئت المشربة التي فيها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت لغلام له أسود): اسمه رباح بالراء المفتوحة والموحدة المخففة (استأذن) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لعمر فدخل الغلام فكلّم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في ذلك (ثم رجع فقال: كلمت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذكرتك له فصمت) بفتح الصاد المهملة والميم فسكت كالآتية (فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ثم غلبني ما أجد فجئت) ثانيًا (فقلت للغلام) رباح: (استأذن لعمر فدخل ثم رجع فقال قد ذكرتك له) عليه الصلاة والسلام (فصمت فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام) ثالثًا (فقلت استأذن لعمر فدخل ثم رجع إليّ) بتشديد الياء وهذه اللفظة ساقطة في الأوليين (فقال قد ذكرتك له) عليه الصلاة والسلام (فصمت فلما وليت منصرفًا قال: إذا الغلام) رباح (يدعوني فقال: قد أذن لك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدخلت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإذا هو مضطجع على رمال حصير) بكسر الراء وتضم أي على سرير مرمول بما يرمل به الحصير أي ينسج ورمال الحصير ضلوعه المتداخلة فيه كالخيوط في الثوب (ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه) الشريف حال كونه (متكئًا) ولأبي ذر: متكئ بالرفع أي وهو متكئ (على وسادة من أدم) جلد (حشوها ليف فسلمت عليه ثم قلت) له (وأنا قائم يا رسول الله أطلقت نساءك)؟ بهمزة الاستفهام (فرفع) عليه الصلاة والسلام (إليّ بصره فقال):
(لا) لم أطلقهن (فقلت: الله أكبر) تعجبًا مما أخبرني به الأنصاري من التطليق جازمًا به أو حامدًا الله تعالى على ما أنعم به عليه من عدم وقوع الطلاق (ثم قلت: وأنا قائم) حال كوني (أستأنس) وجزم القرطبي بأنه للاستفهام. قال في الفتح: فيكون أصله بهمزتين تسهل إحداهما وقد تحذف تخفيفًا أي أنبسط في الحديث وأستأنس في ذلك (يا رسول الله). منادى مضاف (لو رأيتني) بفتح التاء الفوقية (وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا) الأنصار (قوم تغلبهم نساؤهم) وذكر مراجعته زوجته له إلى آخر ذلك (فتبسم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ضحك من غير صوت (ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني) بفتح الفوقية (ودخلت على حفصة فقلت لها: لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ) أجمل (منك وأحب إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يريد) عمر (عائشة فتبسم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبسمة) بضم السين ولأبي ذر عن الكشميهني بكسرها من غير مثناة تحتية فيهما كذا من الفرع وأصله، وقال في الفتح: تبسمة بتشديد السين وللكشميهني تبسيمة (أخرى فجلست حين رأيته تبسم فرفعت بصري في بيته) أي نظرت فيه (فوالله ما رأيت في بيته شيئًا يردّ البصر غير أهبة) بفتح الهمزة والهاء منوّنة جلود (ثلاثة) أي تدبغ أو مطلقًا دبغت أو لم تدبغ (فقلت: يا رسول الله ادع الله) عز وجل (فليوسع على أمتك فإن فارسًا) بالصرف ولأبي ذر فارس بعدمه (والروم قد وسع
عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله فجلس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان متكئًا فقال: وفي هذا أنت) بهمزة الاستفهام وواو العطف على مقدّر بعدها. قال الكرماني: أي أنت في مقام استعظام التجملات الدنيوية واستعجالها (يا ابن الخطاب) وعند مسلم من رواية معمر أو في شك: أنت يا ابن الخطاب كرواية عقيل السابقة في المظالم أي أنت في شك أن التوسع في الآخرة خير من التوسع في الدنيا (وأن أولئك) فارس والروم (قوم قد عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا. فقلت: يا رسول الله استغفر لي) عن اعتقادي أن التجملات الدنيوية مرغوب فيها (فاعتزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعًا وعشرين ليلة) وذلك أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خلا بمارية القبطية في بيت حفصة فجاءت فوجدتها معه فقالت: يا رسول الله تفعل هذا معي دون نسائك. فقال: "لا تخبري أحدًا هي عليّ حرام" فأخبرت عائشة أو السبب تحريم العسل السابق ذكره في سورة

(8/94)


التحريم مختصرًا الآتي إن شاء الله تعالى بعون الله عز وجل بأبسط منه في الطلاق.
وعند ابن مردويه من طريق يزيد بن رومان عن عائشة أن حفصة أهديت لها عكّة فيها عسل وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا دخل عليها حبسته حتى تلعقه أو تسقيه منها فقالت عائشة لجارية عندها حبشية يقال لها خضراء: إذا دخل على حفصة فانظري ما تصنع فأخبرتها الجارية بشأن العسل فأرسلت إلى صواحبها فقالت: إذا دخل عليكن فقلن إنّا نجد منك ريح مغافير فقال: "هو عسل والله لا أطعمه أبدًا" فلما كان يوم حفصة استأذنته أن تأتي أباها فأذن لها فذهبت فأرسل إلى جاريته مارية فأدخلها بيت حفصة قالت حفصة: فرجعت فوجدت الباب مغلقًا فخرج ووجهه يقطر فعاتبته فقال: "أشهدك أنها عليّ حرام انظري لا تخبري بهذا امرأة وهي عندك أمانة" فلما خرج قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد حرم أمته، ففيه الجمع بين القولين.
وعند ابن سعد من طريق عمرة عن عائشة قالت: أهديت لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هدية فأرسل إلى كل امرأة من نسائه نصيبها فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها فزادها مرة أخرى فلم ترض فقالت عائشة: لقد أقمأت وجهك تردّ عليك الهدية فقال: "لأنتن أهون على الله من أن تقمئنني لا أدخل عليكن شهرًا" وفي مسلم من حديث جابر أن أبا بكر وعمر دخلا على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحوله نساؤه يسألن النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة وقام عمر إلى حفصة ثم اعتزلهن شهرًا فيحتمل أن يكون جميع ما ذكر كان سببًا لاعتزالهن.
(وكان) عليه الصلاة والسلام (قال) في أول الشهر: (ما أنا بداخل عليهن شهرًا. من شدة موجدته) أي غضبه (عليهن حين عاتبه الله عز وجل) بقوله: {لِمَ تحرم ما أحلّ الله لك} [التحريم: 1] (فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على عائشة فبدأ بها) لكونه اتفق أنه كان يوم نوبتها (فقالت له عائشة: يا رسول الله إنك كنت قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدّها عدًّا فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الشهر تسع وعشرون) زاد أبو ذر عن
الكشميهني ليلة (فكان) بالفاء ولأبي ذر كان (ذلك الشهر تسعًا وعشرين ليلة). قال في الفتح: ومن اللطائف أن الحكمة في الشهر مع أن مشروعية الهجر ثلاثة أيام أن عدتهن كانت تسعة فإذا ضربت في ثلاثة كانت سبعة وعشرين واليومان لمارية لكونها كانت أمة فنقصت عن الحرائر.
(قالت عائشة: ثم أنزل الله تعالى آية التخيير) بفتح الخاء المعجمة وتشديد التحتية مضمومة في الفرع وأصله أي في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} [الأحزاب: 28] إلى آخرها. (فبدأ بي أول امرأة من نسائه) في التخيير (فاخترته) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالت عائشة) -رضي الله عنه- اخترن الله ورسوله.
وهذا الحديث سبق في سورة التحريم مختصرًا، وفي كتاب المظالم في باب الغرفة والعلية المشرفة مطوّلًا ومختصرًا في العلم.

84 - باب صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا
(باب صوم المرأة بإذن زوجها) صومًا (تطوعًا) أو النصب على الحال أي متطوعة.
5192 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي قال: (حدّثنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن همام بن منبه) بكسر الموحدة (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا تصوم المرأة) نفلًا ولأبي ذر عن المستملي: لا تصومن المرأة (وبعلها) أي زوجها (شاهد) حاضر (إلاّ بإذنه) ولا في قوله لا تصوم خبر بمعنى الإنشاء مثل قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة: 233] فيكون نهيًا عن الصوم وإن كان بلفظ الخبر وحينئذ يسقط استشكال السفاقسي عدم الجزم وذلك أنه فهم أن لا ناهية وإنما هي نافية والخبر مؤول بالإنشاء وفي رواية المستملي كما في الفتح لا تصومن بزيادة نون التأكيد، وفي الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعًا في أثنائه: ومن حق الزوج على زوجته أن لا تصوم تطوعًا إلا بإذنه

(8/95)


فإن فعلت لم يقبل منها وهذا يدل على تحريم الصوم المذكور عليها وهو قول الجمهور. قال النووي في المجموع، وقال أصحابنا: يكره والصحيح الأول فلو صامت بغير إذنه صحّ وأثمت وأمر قبوله إلى الله. قال العمراني، قال النووي: ومقتضى المذهب عدم الثواب، ويؤكد التحريم ثبوت الخبر بلفظ النهي ووروده بلفظ الخبر لا يمنع ذلك بل هو أبلغ لأنه يدل على تأكد الأمر فيه فيكون تأكده بحمله على التحريم، وقال النووي في شرح مسلم: وسبب هذا التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بها في كل وقت وحقه واجب على الفور فلا تفوته بالتطوع ولا بواجب على التراخي والتقييد بقوله وبعلها شاهد يقتضي جواز التطوع لها إذا كان زوجها مسافرًا فلو قدم وهي صائمة فله إفساد صومها من
غير كراهة قاله في الفتح، واحتج بعض المالكية بالحديث لمذهبهم في أن من أفطر في صيام التطوع عامدًا عليه القضاء لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها صومها بالجماع ما احتاجت إلى إذنه ولو كان مباحًا كان إذنه لا معنى له.

85 - باب إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا
هذا (باب) بالتنوين (إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها) بغير سبب حرم عليها.
5193 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ، لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن بشار) هو بالموحدة والمعجمة المشددة المعروف ببندار قال: (حدّثنا ابن أبي عدي) بفتح العين وكسر الدال المهملتين وتشديد التحتية محمد (عن شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن مهران الأعمش (عن أبي حازم) سليمان الأشجعي مولى عزة الأشجعية (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إذا دعا الرجل امرأته) أو السيد أمته (إلى فراشه) لأن يجامعها (فأبت أن تجيء) أي فامتنعت عن المجيء. زاد في بدء الخلق فبات أي الزوج غضبان عليها (لعنتها الملائكة حتى تصبح) ظاهره اختصاص اللعن بما إذا وقع ذلك منها ليلًا لقوله حتى تصبح كما سبق في بدء الخلق مع زيادة، لكن في مسلم من رواية يزيد بن يسان عن أبي حازم: والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها، وهو يتناول الليل والنهار وإذا وقع التعبير عن رحمة الله تعالى أو غضبه وقرب نزولهما على الخلق خص السماء بالذكر وفيه دليل على أن سخط الزوج يوجب سخط الرب ورضاه يوجب رضاه وبالتقييد بما في بدء الخلق من قوله: فبات غضبان عليها. يتجه وقوع اللعن لأنها حينئذ يتحقق ثبوت معصيتها فأما إذا لم يغضب فلا.
5194 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عرعرة) بن البرند السامي بالمهملة قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (عن زرارة) بن أبي أوفى (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا باتت المرأة مهاجرة) أي هاجرة كما هو لفظ رواية مسلم (فراش زوجها) فغضب هو لذلك وهي ظالمة (لعنتها الملائكة) الحفظة أو غيرهم من الموكلين بذلك (حتى ترجع) عن هجره،
وروي مما ذكره ابن الجوزي في كتاب النسائن لعن المسوّفة التي إذا أرادها زوجها قالت: سوف سوف والمعكسة التي إذا أرادها تقول: إنها حائض وليست بحائض، وعند الخطابي في غريب الحديث فيما نقله عنه صاحب تحفة العروس لعن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الغاصة بالغين المعجمة والصاد المهملة الحائض التي لا تعلم زوجها أنها حائض والمغوصة بكسر الواو التي لا تكون حائضًا فتكذب على زوجها وتقول إنها حائض.

86 - باب لاَ تَأْذَنُ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا لأَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
هذا (باب) بالتنوين (لا تأذن المرأة) بضم النون، ولأبي ذر: لا تأذن بالجزم على النهي كسر لالتقاء الساكنن (في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه).
5195 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ». وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ أَيْضًا عَنْ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّوْمِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (حدّثنا شعيب) هو ابن أبي حمزة دينار الحمصي قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله) ولأبي ذر عن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا يحل للمرأة أن تصوم) أي نفلًا أو واجبًا على التراخي (وزوجها شاهد إلا بإذنه) لأن حقه في الاستمتاع بها في كل وقت، فلو كان مريضًا بحيث

(8/96)


لا يستطيع الجماع أو مسافرًا جاز لها.
(ولا) يحل لها أن (تأذن) لأحد رجل أو امرأة أن يدخل (في بيته إلا بإذنه) فلو علمت رضاه جاز.
قال في الفتح: وفي الحديث حجة على المالكية في تجويز دخول الأب ونحوه بيت المرأة بغير إذن زوجها وأجابوا عن الحديث بأنه معارض بصلة الرحم وإن بين الحديثين عمومًا وخصوصًا وجهيًّا فيحتاج إلى مرجح ويمكن أن يقال صلة الرحم إنما تندب بما يملكه الواصل والتصرف في بيت الزوج لا تملكه المرأة إلا بإذن الزوج وكما لأهلها أن لا تصلهم بماله إلا بإذنه فإذنها لهم في دخول البيت كذلك انتهى.
(وما أنففت من نفقة) من ماله قدرًا يعلم رضاه به طعام بيها من غير أن تتجاوز العادة (عن غير إمرة) بكسر الهمزة وفتح الراء بعدها تاء تأنيث في الفرع وفي غيره وهو الذي في اليونينية بفتح ثم كسر فهاء أي عن غير إذنه الصريح في ذلك القد المعين، بل عن إذن عام سابق يتناول هذا القدر وغيره إما صريحًا أو جاريًا على المعروف من إطلاق ربّ البيت لزوجته إطعام
الضيف والتصدق على السائل (فإنه يؤدى) بفتح الدال المشددة (إليه) من أجر ذلك القدر المنفق (شطره) أي نصفه. وفي حديث عائشة السابق في الزكاة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب.
وظاهر حديث الباب يقتضي تساويهما في الأجر، ويؤيده ما في حديث عائشة المذكور من طريق جرير من زيادة لا ينقص بعضهم أجر بعض، ويحتمل أن يكون المراد بالتنصيف الحمل على المال الذي يعطيه الرجل في نفقة المرأة فإذا أنفقت منه بغير علمه كان الأجر بينهما للرجل باكتسابه ولأنه يؤجر على ما ينفقه على أهله وللمرأة لكون ذلك من النفقة التي تختص بها، ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود عقب حديث أبي هريرة هذا قال: في المرأة تصدّق من بيت زوجها قال: لا إلا من قوتها والأجر بينهما، ولا يحل لها أن تصدّق من مال زوجها إلا بإذنه قاله في الفتح.
وقال ابن المنير: ليس المراد تنقيص أجْر الرجل حين تتصدق عنه امرأته كأجره حيث يتصدق هو بنفسه، لكن ينضاف إلى أجره هنا أجر المرأة فيكون له ها هنا شطر المجموع وقوله عن غير إمرة تنبيه بالأدنى على الأعلى فإنه إذا أثيب وإن لم يأمر فلأن يثاب إذا أمر بطريق الأولى، وتعقبه في المصابيح بأن قوله له شطر المجموع فيه نظر إذ مقتضاه مشاركة المرأة له في الثواب المقابل لماله وهو محل نظر، فينبغي أن يكون الثواب المقابل لفوات ماله مختصًّا به والأجر المترتب على تفويته بالصدقة مقسومًا بينه وبين المرأة من حيث تعلق فعلها بالمال الذي يملكه فله في فعلها مدخل فتكون المشاركة بهذا الاعتبار فتأمله وحرره فإني لم أقف فيه إلى الآن على ما يشفي انتهى.
وحمله الخطابي على أنها إذا أنفقت على نفسها من ماله بغير إذنه فوق ما يجب لها من القوت غرمت له شطره أي الزائد على ما يجب لها وفيه بعد، لا سيما وحديث أبي هريرة من طريق همام السابق في البيوع الآتي إن شاء الله تعالى في النفقات إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره فله نصف أجره.
(ورواه) أي الحديث المذكور (أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (أيضًا) فيما وصله أحمد والنسائي والدارمي (عن موسى) بن أبي عثمان سعيد التبان بالفوقية المفتوحة والموحدة المشددة (عن أبيه عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (في الصوم) خاصة.

87 - باب
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة فهو كالفصل من سابقه.
5196 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ
دَخَلَهَا النِّسَاءُ». [الحديث 5196 - أطرافه في: 6547].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا إسماعيل) ابن علية قال: (أخبرنا التيمي) سليمان بن طرخان البصري (عن أبي عثمان) عبد الرحمن بن ملّ النهدي (عن أسامة) بن زيد بن حارثة (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد) بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة الغنى (محبوسون) على باب الجنة للحساب (غير أن أصحاب النار) الذين قد استحقوا دخولها (قد أمر بهم إلى النار

(8/97)


وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء) إذا هي الفجائية وعامة من دخلها مبتدأ خبره النساء. ومطابقة الحديث للترجمة السابقة من جهة الإشارة إلى أن النساء غالبًا يرتكبن النهي المذكور، ولذا كنّ أكثر من دخل النار وهذا الحديث أخرجه مسلم في آخر كتاب الدعوات والنسائي في عشرة النساء.

88 - باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ
وَهْوَ الزَّوْجُ وَهْوَ الْخَلِيطُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب كفران العشير وهو الزوج وهو الخليط) أيضًا (من المعاشرة) وهذا تفسير أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: {لبئس المولى ولبئس العشير} [الحج: 13] قال المولى ابن العم: والعشير هو الخليط المعاشر (فيه) أي في هذا المعنى (عن أبي سعيد) سعد بن مالك الخدري -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
5197 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ فَقَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ أَوْ أُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ». قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ» قِيلَ يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ وَلَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ
الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن زيد بن أسلم) الفقيه العمري (عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي زمنه (فصلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والناس معه) يصلون (فقام قيامًا طويلًا نحوًا من) قراءة (سورة البقرة ثم ركع ركوعًا طويلًا) نحوًا من مائة آية (ثم رفع فقام قيامًا طويلًا) نحوًا من قراءة سورة آل عمران (وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلًا) نحوًا من ثمانين آية (وهو دون الركوع الأول ثم رفع ثم سجد) سجدتين (ثم قام فقام قيامًا طويلًا) نحوًا من سورة النساء (وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلًا) نحوًا من سبعين آية (وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قيامًا طويلًا) نحوًا من المائة (وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلًا) نحوًا من خمسين آية (وهو دون الركوع الأول ثم رفع ثم سجد) سجدتين (ثم انصرف) من الصلاة (وقد تجلت الشمس) بين جلوسه والسلام (فقال):
(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان) بفتح الياء وكسر السين (لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله. قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت) بكافين مفتوحتين وعينين مهملتين ساكنتين أي تأخرت أو تقهقرت (فقال) عليه الصلاة والسلام: (إني رأيت الجنة) رؤيا عين حقيقة (أو) قال (رأيت) بضم الهمزة وكسر الراء مبنيًّا للمفعول والشك من الراوي (الجنة فتناولت) في حال قيامي الثاني من الركعة الثانية كما عند سعيد بن منصور (منها عنقودًا) أي وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرًا على تحويله (ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) لأن ثمر الجنة إذا قطف منها شيء خلفه آخر (ورأيت النار فلم أرَ كاليوم منظرًا قط) زاد في الكسوف أفظع أي أقبح (ورأيت أكثر أهلها النساء. قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن) وللكشميهني يكفرن بتحتية وسكون الكاف وضم الفاء وسكون الراء بعدها نون بغير هاء (قيل: يكفرن بالله)؟ بحذف همزة الاستفهام (قال: يكفرن العشير) أي إحسان الزوج (ويكفرن الإحسان) بجحده أو عدم الاعتراف وهذا بيان للأول (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) جميعه مبالغة أو مدّة عمر الزوح (ثم رأت منك شيئًا) لا يوافق غرضها (قالت: ما رأيت منك خيرًا قط) وفيه إشارة إلى سبب التعذيب لأنها بذلك كالمصرة على كفر النعمة والإصرار على المعصية من أسباب العذاب.
وهذا الحديث سبق في الكسوف.
5198 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَسَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ.
وبه قال: (حدّثنا عثمان بن الهيثم) مؤذن جامع البصرة قال: (حدّثنا عوف) بالفاء الأعرابي (عن أبي رجاء) بالجيم عمران بن ملحان (عن عمران) بن الحصين -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(اطلعت في الجنة) ليلة الإسراء أو في المنام (فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء) لكفرهن العشير ولميلهن إلى عاجل زينة الدنيا والإعراض عن الآخرة (تابعه) أي تابع عوفًا (أيوب) السختياني فيما وصله النسائي. (وسلم بن زرير) بفتح السين المهملة وسكون اللام بعدها ميم

(8/98)


وزرير بفتح الزاي وكسر الراء الأولى فيما وصله المؤلّف في صفة الجنة من بدء الخلق.

89 - باب لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ. قَالَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
هذا (باب) بالتنوين (لزوجك) امرأتك (عليك حق) مبتدأ وخبر مقدم (قاله أبو جحيفة) بتقديم الجيم المضمومة على المهملة المفتوحة وهب بن عبد الله: (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما وصله المؤلّف في الصوم في باب من أقسم على أخيه ليفطر.
5199 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ»؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي المجاور بمكة قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا الأوزاعي) عبد الرحمن (قال: حدّثني) بالإفراد (يحيى بن أبي كثير قال: حدّثني) بالإفراد أيضًا (أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن عمرو بن العاص) -رضي الله عنهما- (قال: قال) لي (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا عَبد الله ألم أخبر) بضم الهمزة وفتح الموحدة مبنيًّا للمفعول والهمزة للاستفهام (أنك تصوم النهار وتقوم الليل)؟ أي فيه (قلت: بلى يا رسول الله قال: فلا تفعل صم وأفطر) بقطع الهمزة (وقم ونم فإن لجسدك عليك حقًّا وإن لعينك) بالإفراد (عليك حقًّا وإن لزوجك) امرأتك (عليك حقًّا) فلا ينبغي أن تجهد نفسك في العبادة حتى تضعف عن القيام بحقها من وطء واكتساب، فلو كف الرجل عن امرأته فلم يجامعها من غير ضرورة، فعند مالك يلزم بذلك أو يفرق بينهما، والمشهور عن الشافعية أنه لا يجب عليه لكن يستحب أن لا يعطلها لأنه من المعاشرة بالمعروف وأقل ما يحصل به عدم التعطيل ليلة من أربع اعتبارًا بمن له أربع زوجات.

90 - باب الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
هذا (باب) بالتنوين (المرأة راعية في بيت زوجها).
5200 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا موسى بن عقبة) صاحب المغازي (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي أنه (قال):
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) من رعى يرعى وهو حفظ الشيء وحسن التعهد له والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وكل من كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه (والأمير راع) على ما استرعاه الله (والرجل راع على أهل بيته) من زوج وخادم وغيرهما يقيم فيهم ما أمر به من النفقة وحسن العشرة (والمرأة راعية على بيت زوجها وولده) بحسن التدبير والتعهد لخدمته وغير ذلك (فكلكم راعٍ) بالفاء أي مثل الراعي (وكلكم مسؤول عن رعيته).
وهذا الحديث قد سبق في باب الجمعة في القرى والمدن من كتاب الجمعة وفي الاستقراض أيضًا.

91 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} -إِلَى قَوْلِهِ- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}
(باب قول الله تعالى: {الرجال قوّامون على النساء}) أي يقومون عليهم آمرين ناهين كما تقوم الولاة على الرعايا ({بما فضل الله بعضهم على بعض}) أي بسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال على بعض وهم النساء بالعقل والعزم والحزم والقوّة والغزو وكمال الصوم والصلاة والنبوّة والخلافة والإمامة والأذان والخطبة والجماعة وتضعيف الميراث والتعصيب فيه، (إلى قوله: {إن الله كان عليًّا كبيرًا}) [النساء: 34] أي إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرته تعالى عليكم أعظم من قدرتكم عليهن فاجتنبوا ظلمهن وسقط قوله بما فضل الله إلى آخره لأبي ذر.
5201 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ آلَيْتَ عَلَى شَهْرًا، قَالَ: «إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ».
وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون الخاء وفتح اللام القطواني الكوفي قال: (حدّثنا سليمان) بن بلال (قال: حدّثني) بالإفراد (حميد) الطويل (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: آلى) بمدّ الهمزة وفتح اللام (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نسائه) أي حلف لا يدخل عليهن (شهرًا) وكان أوّل الشهر وليس المراد هنا الإيلاء الفقهي بل المعنى اللغوي وهو الحلف قال الكرماني: فإن قلت: إذا كان للفظ معنى شرعي ومعنى لغوي يقدم الشرعي على اللغوي وأجاب بأنه إذا لم يكن ثمة قرينة صارفة عن إرادة معناه الشرعي والقرينة كونها شهرًا واحدًا (وقعد) ولأبي ذر فقعد (في مشربة) بضم الراء أي غرفة (له فنزل) منها فدخل على عائشة إذ

(8/99)


وافق ذلك يوم نوبتها (لتسع وعشرين) من يوم إيلائه (فقيل) أي قالت عائشة: (يا رسول الله إنك آليت شهرًا) وللمستملي والكشميهني على شهر (قال) عليه الصلاة والسلام:
(إن الشهر) الذي آليت فيه (تسع وعشرون) ومناسبة الآية في قوله تعالى: {فعظوهن واهجروهن في المضاجع} [النساء: 34] ومن الحديث قوله آلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نسائه شهرًا إذ مقتضاه أنه هجرهن، واختلف في المراد بالهجران فقيل لا يدخل عليهن، وقيل: لا يضاجعهن أو يضاجعهن ويوليهن ظهره أو يمتنع من جماعهن أو يجامعهن ولا يكلمهن.

92 - باب هِجْرَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ.
وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ «غَيْرَ أَنْ لاَ تُهْجَرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ» وَالأَوَّلُ أَصَحُّ
(باب هجرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نساءه) شهرًا وسكناه (في غير بيوتهن) فلا مفهوم لقوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع}.
(ويذكر عن معاوية بن حيدة) بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية وفتح الدال المهملة الصحابي مما أخرجه أحمد وأبو داود والخرائطي في مكارم الأخلاق وابن منده في غرائب شعبة مطوّلًا كلهم من رواية أبي قزعة سويد عن حكيم بن معاوية عن أبيه (رفعه) إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسكون الفاء وضم العين في اليونينية (غير أن لا تهجر) وللمستملي: ولا تهجر.
(إلا في البيت. و) حديث أنس (الأول) المروي في الباب السابق المذكور فيه هجره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نساءه في غير بيوتهن (أصح) من حديث معاوية بن حيدة هذا ولفظ رواية أبي داود عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت". قال أبو داود ولا تقبح أي لا تقول قبحك الله انتهى.
وعبّر المؤلّف بيذكر التي للتمريض إشارة إلى انحطاط رتبته بالنسبة لغيرها مع الصلاحية للاحتجاج بذلك، وللكرماني والعيني هنا كلام أضربت عنه لطوله، والذي تقرر هنا من معنى الحديث المعلق مع الاستشهاد له بلفظ أبي داود هو الظاهر فليتأمل مع ما أبداه العيني في شرحه
متعقبًا لما في الفتح مما ذكرته هنا منتصرًا للكرماني والله الموفق والمعين.
والحاصل أن الهجران يجوز أن يكون في البيوت وغيرها وأن الحصر المذكور في حديث معاوية المعلق هنا غير معمول به، بل يجوز في غير البيوت كما فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقول المهلب أن الهجران في غير البيوت فيه رفق بالنساء إذ هو معهن في البيوت آلم لقلوبهن ليس على إطلاقه بل يختلف باختلاف الأحوال على أن الغالب أن الهجران في غير البيوت أشق.
وهذا الحديث المعلق سقط للحموي.
5202 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ح. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عَلَيْهِنَّ أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَلَفْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، قَالَ: «إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا».
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك النبيل (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز قال المؤلّف: (وحدّثني) بالإفراد (محمد بن مقاتل) المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني) بالإفراد (يحيى بن عبد الله بن صيفي) بالصاد المهملة وسكون التحتية الأولى وتشديد الأخيرة (أن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث) بن هشام بن المغيرة وهو أخو أبي بكر بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة، وليس لعكرمة هذا في البخاري إلا هذا الحديث (أخبره أن أم سلمة) زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أخبرته أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حلف لا يدخل على بعض أهله) ولأبي ذر نساءه بدل أهله (شهرًا).
قال في الفتح: كذا في هذه الرواية أي بلفظ بعض نسائه وهو يشعر بأن اللاتي أقسم أن لا يدخل عليهن هن من وقع منهن ما وقع من سبب القسم لا جميع النسوة، لكن اتفق أنه في تلك الحالة انفكت رجله كما في حديث أنس السابق في أوائل الصيام فاستمر مقيمًا في المشربة ذلك الشهر كله قال: وهو يؤيد أن سبب القسم قصة مارية فإنها تقتضي اختصاص بعض النسوة دون بعض بخلاف قصة العسل فإنهن اشتركن فيها إلا صاحبة العسل وإن كانت إحداهن بدأت بذلك وكذلك قصة طلب النفقة فإنهن اجتمعن فيها انتهى.
(فلما مضى تسعة وعشرون يومًا) من حلفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (غدا عليهن) أتاهن غدوة (أو راح فقيل له) القائل عائشة (يا نبي الله

(8/100)


حلفت أن لا تدخل عليهن شهرًا قال):
(إن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا).
5203 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْفُورٍ قَالَ: تَذَاكَرْنَا
عِنْدَ أَبِي الضُّحَى فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْكِينَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلآنُ مِنَ النَّاسِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَنَادَاهُ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: «لاَ، وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا». فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا مروان بن معاوية) الفزاري بالفاء والزاي قال: (حدّثنا أبو يعفور) بفتح التحتية وسكون العين المهملة وضم الفاء وبعد الواو راء عبد الرحمن بن عبيد الكوفي الثقة (قال: تذاكرنا) أي الشهر فقال بعضنا ثلاثين وقال بعضنا تسعًا وعشرين كما في النسائي (عن أبي الضحى) مسلم بن صبيح (فقال) أبو الضحى (حدّثنا ابن عباس) -رضي الله عنهما- (قال: أصبحنا يومًا ونساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبكين عند كل امرأة منهن أهلها فخرجت إلى المسجد فإذا هو ملآن من الناس) بالنون في ملآن وعند القابسي ملأى بلا نون بالتأنيث وكأنه أراد البقعة، وهذا ظاهره حضور ابن عباس لذلك وحديثه السابق مفهومه أنه إنما عرفها من عمر ويحتمل أنه كان يعرفها على سبيل الإجمال ثم عرفها من عمر على سبيل التفصيل لما سأله عن المتظاهرتين (فجاء عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- (فصعد إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في غرفة له) زاد الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن سليمان عن أبي يعفور ليس عنده فيها إلا بلال (فسلم فلم يجبه أحد ثم سلم فلم يجبه أحد ثم سلم فلم يجبه أحد) بالتكرار ثلاثًا (فناداه فدخل) بإسقاط الفاعل ولأبي نعيم فناداه بلال فدخل (على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). واستشكل بأن في رواية مسلم أن اسم الغلام الذي استأذن له رباح وقال هنا: ليس عنده إلا بلال. وأجيب بأن حصر العندية في داخل الغرفة ورباح كان على أسكفة الباب وعند الإذن ناداه بلال وبلغه رباح (فقال): يا رسول الله (أطلقت نساءك؟ فقال):
(لا ولكن آليت) أي حلفت (منهن) أن لا أدخل عليهن (شهرًا. فمكث) عليه الصلاة والسلام (تسعًا وعشرين) يومًا من يوم حلفه (ثم دخل على نسائه).
وفيه مشروعية هجر الرجل امرأته إذا وقع منها ما يقتضي ذلك كالنشوز كما قال تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع} أي إن نشزن {واضربوهن} [النساء: 34] أي إن أصررن على النشوز وأفهم قوله في المضاجع أنه لا يهجرها في الكلام، وهو صحيح فيما إذا زاد على ثلاثة أيام ويجوز في الثلاثة كما قاله في الروضة للحديث الصحيح لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فإن رجي بالهجر صلاح دين للهاجر أو المهجور فلا يحرم وعليه يحمل هجره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كعب بن مالك وصاحبيه ونهيه الصحابة عن كلامهم وكذا ما جاء من هجر السلف بعضهم بعضًا.

93 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَقَوْلِهِ: {وَاضْرِبُوهُنَّ} ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ
(باب ما يكره) للتحريم (من ضرب النساء) الضرب المبرح (وقوله) تعالى: ({واضربوهن} ضربًا غير مبرح) بتشديد الراء المكسورة أي غير شديد الأذى بحيث لا يحصل معه النفور التام ولأبي ذر وقول الله واضربوهن أي ضربًا غير مبرح.
5204 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عبد الله بن زمعة) بفتح الزاي والعين المهملة بينهما ميم ساكنة ابن الأسود بن المطلب (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يجلد) بالجزم على النهي أي لا يضرب (أحدكم امرأته) وعند الإسماعيلي عن أحمد بن سفيان النسائي عن محمد بن يوسف الفريابي بصيغة الخبر وعند أحمد من رواية أبي معاوية إلام يجلد، وعنده من رواية وكيع علام يجلد وعنده من رواية ابن عيينة وعظمهم في النساء فقال يضرب أحدكم امرأته (جلد العبد) بالنصب أي مثل جلد العبد (ثم يجامعها في آخر اليوم) وفي الترمذي مصححًا: ثم لعله أن يضاجعها من آخر يومه وفيه تأديب الرقيق بالضرب الشديد والإيماء إلى جواز ضرب النساء دون ذلك، وإليه أشار المصنف بقوله: غير مبرح وإنما يباح ضربها من أجل عصيانها زوجها فيما يجب من حقه عليها بأن تكون ناشزة كأن يدعوها للوطء فتأبى أو تخرج من المنزل بغير إذنه فيعظها بظهور أمارة النشوز كالعبوس

(8/101)


بعد طلاقة الوجه والكلام الخشن بعد لينه فيقول لها نحو: اتقي الله في الحق الواجب لي عليك واحذري العقوبة ويضربها بتحققه لقوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء: 34] قال في الكشاف أمر بوعظهن أوّلًا ثم بهجرانهن في المضاجع ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران انتهى.
لكن قال في الانتصاف: الترتيب الذي أشار إليه الزمخشري غير مأخوذ من الآية لأنها واردة بواو العطف وإنما استفيد من أدلة خارجة. قال الطيبي: ما أظهر دلالة الفاء في قوله {فعظوهن} على الترتيب وكذا قضية الترتيب في الرفق والنظم فإن قوله: {فالصالحات} وقوله: {واللاتي تخافون نشوزهن} تفصيل لما أجمل في قوله: {الرجال قوّامون على النساء} كما سبق أخبر الله تعالى بتفضيل الرجال على النساء وقوامهم عليهن ثم فصل النساء قسمين، إما قانتات صالحات يحفظن أزواجهن في الحضور والغيبة فعلى الرجال الشفقة عليهن، وإما ناشزات غير مطيعات فعلى الرجال الترفق بهن أوّلًا بالوعظ والنصيحة فإن لم ينجع الوعظ فيهن فبالهجران
والتفرق في مضاجعهن ثانيًا ثم التأديب بالضرب لأن المقصود الإصلاح والدخول في الطاعة لقوله تعالى: {فإن أطعنكم} فرتب الوعظ على الخوف من النشوز فلا بدّ من تقديمه على قرينيه انتهى.
والأولى له العفو عن الضرب.
وحديث أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن إياس بن عبد الله بن ذباب بضم المعجمة وبموحدتين الأولى خفيفة رفعه: لا تضربوا إماء الله محمول على الضرب بغير سبب يقتضيه أو على العفو لا على النسخ إذ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع وعلمنا التاريخ ولو كان الضرب غير مفيد في ذلك في ظنه فلا يضربها كما صرح به الإمام، وينبغي أن يتولى تأديبها بنفسه ولا يرفعها إلى القاضي ليؤدبها لما فيه من المشقّة والعار والتنفير للقلوب، لكن قال الزركشي: ينبغي تخصيص ذلك بما إذا لم يكن بينهما عداوة وإلاّ فيتعين الرفع إلى القاضي.
وللزوج منع زوجته من عيادة أبويها ومن شهود جنازتهما وجنازة ولدها والأولى خلافه.
ولما كان هذا الباب فيه ندب المرأة إلى طاعة زوجها خصص ذلك بما لا يكون فيه معصية فقال:

94 - باب لاَ تُطِيعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي مَعْصِيَةٍ
هذا (باب) بالتنوين (لا تطيع المرأة زوجها في معصية).
5205 - حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنِ الْحَسَنِ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ زَوَّجَتِ ابْنَتَهَا فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ فِي شَعَرِهَا فَقَالَ: «لاَ، إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلاَتُ». [الحديث 5205 - أطرافه في: 5934].
وبه قال: (حدثنا خلاد بن يحيى) السلمي بضم السين الكوفي سكن مكة قال: (حدّثنا إبراهيم بن نافع) المخزومي (عن الحسن) بفتح الحاء (هو ابن مسلم) بن يناق (عن صفية) بنت شيبة المكية (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن امرأة من الأنصار زوّجت ابنتها فتمعط) بتشديد العين وبالطاء الخفيفة المهملتين أي تناثر وانتتف من أصله (شعر رأسها فجاءت إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكرت ذلك له فقالت: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها) شيئًا (فقال) عليه الصلاة والسلام لها:
(لا) تصلي فيه (إنه قد لعن الموصلات) بضم اللام مبنيًّا للمفعول والموصلات بضم الميم وسكون الواو وكسر الصاد. وقال في الفتح: بكسر الصاد المشدّدة ويجوز فتحها مرفوع نائب الفاعل، ولأبي ذر عن الكشميهني الموصولات بفتح الميم وسكون الواو وضم الصاد بعدها واو، وهذا الحديث حجة للجمهور في منع وصل الشعر بشيء آخر سواء كان شعرًا أو غيره، وذهب
بعضهم إلى أن الممتنع وصل الشعر بالشعر أما إذا وصلت بنحو خرقة فلا، وفي حديث سعيد بن جبير عند أبي داود بسند صحيح، قال: لا بأس بالقرامل بالقاف والراء والميم واللام نبات طويل الفروع لين، والمراد به هنا خيوط الشعر من حرير أو صوف تعمل ضفائر تصل بها المرأة شعرها ومنهم من أجازه مطلقًا إذا كان بعلم الزوج وإذنه لكن حديث الباب حجة عليهم.
ومطابقة الحديث الترجمة تؤخذ من المعنى فلو دعاها الزوج إلى معصية وجب عليها الامتناع، وبقية مباحث الحديث تأتي في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى بعون الله وقوّته، وقد أخرجه مسلم في اللباس والنسائي في الزينة.

95 - باب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وإن امرأة خافت

(8/102)


من بعلها نشوزًا أو إعراضًا}) [النساء: 128].
0000 - حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لاَ يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا، فَيُرِيدُ طَلاَقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا، تَقُولُ لَهُ: أَمْسِكْنِي وَلاَ تُطَلِّقْنِي، ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيَّ وَالْقِسْمَةِ لِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
وبه قال: (حدّثنا ابن سلام) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد محمد بن سلام قال: (أخبرنا أبو معاوية) محمد بن حازم (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- ({وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قالت: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها) أي لا يستكثر من مصاحبتها ونحو ذلك لكبر سن أو مرض ويهم بطلاقها (فيريد طلائها ويتزوّج) امرأة (غيرها تقول) ولأبي ذر وتقول (له): حال كونها تسترضيه بترك بعض حقها (أمسكني ولا تطلقني ثم تزوّج غيري فأنت في حِلٍّ من النفقة عليّ والقسمة لي فذلك قوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يصالحًا بينهما}) أصله أن يتصالحا فأبدلت التاء صادًا وأدغمت ({صلحًا}) [النساء: 128] على أن تطيب له نفسًا عن القسمة أو عن بعضها أو عن النفقة أو عنهما ({والصلح خير}) من الفرقة أو من النشوز أو من الخصومة في كل شيء أو الصلح خير من الخيور كما أن الخصومة شرّ من الشرور، وعند الحاكم من طريق ابن المسيب عن رافع بن خديج أنه كان تحته امرأة فتزوّج عليها شابة فآثر البكر عليها فنازعته وطلقها، ثم قال: إن شئت راجعتك وصبرت. فقالت: راجعني، فراجعها ثم لم تصبر فطلقها، قال: فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه هذه الآية. وفي الترمذي أنها من حديث ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل، ونزلت هذه الآية. وله شاهد في الصحيحين
من حديث عائشة أن سودة لما كبرت جعلت نوبتها لعائشة، فكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقسم لها ليلتها ويوم سودة ولم يذكر فيه نزول الآية.

96 - باب الْعَزْلِ
وحديث الباب سبق في سورة النساء (باب) حكم (العزل) بعد الإيلاج لينزل منيه خارج الفرج تحرزًا من الولد وهو مكروه، وإن أذنت فيه المعزول عنها حرّة كانت أو أمة لأنه طريق إلى قطع النسل، ولذا روي العزل الوأد الخفي، رواه مسلم وخرج بالتحرّز عن الولد ما لو عنّ له أن ينزع ذكره قرب الإنزال لا للتحرز عن الولد فلا يكره، وقال النووي: قال أصحابنا لا يحرم في مملوكته ولا زوجته الأمة سواء رضيت أم لا لأن عليه ضررًا في مملوكته بأن تصير أم ولد يجوز بيعها، وفي زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقًا تبعًا لأمه أما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم، واستدلوا بحديث البخاري حيث قال:
5207 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [الحديث 5207 - أطرافه في: 5208، 5209].
(حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى بن سعيد) القطان (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن جابر) الأنصاري -رضي الله عنه- أنه (قال: كنا نعزل) أي ننزل بعد الجماع خارج الفرج خوف الولد (على عهد النبي) ولأبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) على زمنه فالظاهر اطّلاعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقرّه فله حكم الرفع لتوفّر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام فإن لم يضف إلى الزمن النبوي فله أيضًا حكم الرفع عند قوم والحديث من أفراده بهذا الوجه.
5208 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة.
5209 - وَعَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ.
(قال عمرو) هو ابن دينار (أخبرني) بالإفراد (عطاء) هو ابن أبي رباح أنه (سمع جابرًا رضي الله عنه) أنه (قال: كنا نعزل) بنون مفتوحة والزاي مكسورة (والقرآن ينزل، وعن عمرو) أي ابن دينار (عن عطاء عن جابر قال: كنا نعزل على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر عن الكشميهني كان يعزل بتحتية مضمومة بدل النون وفتح الزاي مبنيًّا للمفعول (والقرآن) أي والحال أن القرآن (ينزل) أي بتفاصيل الأحكام زاد في رواية إبراهيم بن موسى في روايته عن سفيان أنه قال حين روى هذا الحديث أي لو كان حرامًا لنزل فيه ولم يقل في هذه الرواية على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال في
الفتح: وكان ابن عيينة حدّث به مرتين فمرة ذكر فيها الأخبار والسماع فلم يقل فيها على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومرة بالعنعنة فذكرها، وقد صرح جابر بوقوع ذلك على عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد وردت عدّة طرق

(8/103)


مصرّحة باطّلاعه على ذلك، وفي مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر قال: كنا نعزل على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبلغ ذلك نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم ينهنا، ومن وجه آخر عن أبي الزبير عن جابر أن رجلًا أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال: "اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها" فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت قال: "قد أخبرتك".
5210 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَصَبْنَا سَبْيًا، فَكُنَّا نَعْزِلُ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَوَ إِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ»؟ قَالَهَا ثَلاَثًا «مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد بن أسماء) بن عبيد بن مخراق البصري قال: (حدّثنا جويرية) بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري وهو عم عبد الله السابق (عن مالك بن أنس) الإمام (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن ابن محيريز) بالحاء المهملة والراء والزاي مصغرًا عبد الله الجمحي (عن أبي سعيد الخدري) -رضي الله عنه- أنه (قال: أصبنا سبيًّا) أي جواري أخذناها من الكفار أُسراء في غزوة بني المصطلق، وفي رواية ربيعة في المغازي فسبينا كرائم العرب وطالت علينا الغربة (فكنا نعزل) عنهن كراهة مجيء الولد من الأمة أنفة أو خوف تعذر بيع الأمة إذا صارت أم ولد أو فرارًا من كثرة العيال إذا كان مقلاًّ فيرغب في قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب أو غير ذلك وزاد ربيعة فقلنا نفعل ذلك ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أظهرنا لا نسأله (فسألنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) عليه الصلاة والسلام:
(أو أنكم) بفتح الهمزة والواو (لتفعلون) العزل المذكور (قالها ثلاثًا) وظاهره أنه عليه الصلاة والسلام ما كان اطّلع على فعلهم ذلك. واستشكل مع قولهم أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يكون مرفوعًا لأن الظاهر إطلاعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وأجيب: بأن دواعيهم -رضي الله عنهم- كانت متوفرة على سؤاله عن أمور الدين فإذا عملوا الشيء وعلموا أنه لم يطلع عليه بادروا إلى السؤال عن الحكم فيه فيكون الظهور من هذه الحيثية قاله فى الفتح. (ما من نسمة) أي نفس (كائنة) أي قدّر كونها (إلى يوم القيامة إلا هي كائنة) سواء عزلتم أو لا فلا فائدة في عزلكم فإنه إن كان الله قدّر خلقها سبقكم الماء فلا ينفعكم الحرص، وقد خلق الله آدم من غير ذكر ولا أُنثى وخلق حوّاء من ضلع منه وعيسى من غير ذكر، وعند أحمد والبزار وصححه ابن حبان من حديث أنس أن رجلًا سأل عن العزل فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لو أن الماء الذي أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدًا". وقول ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل مردود بما سبق من
الخلاف، وبأن المرأة لا حق لها في الجماع أصلًا. واحتج للمانعين بحديث عمر عند ابن ماجة نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها، وفي إسناده ابن لهيعة، وجزم بعض الشافعية بالمنع إذا امتنعت، واتفقت المذاهب الثلاثة على أنه لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها وأن الأمة يعزل عنها بغير إذنها.
قال في الفتح: وينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال: بالمنع هناك ففي هذا أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا، ويمكن أن يفرق بأنه أشد لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب ومعالجة السقط تقع بعد تعاطي السبب، ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصلبه وقد أفتى بعض متأخري الشافعية بالمنع وهو مشكل على القول بإباحة العزل مطلقًا.
وهذا الحديث سبق في البيوع.

97 - باب الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا
(باب القرعة بين النساء إذا أراد) الرجل (سفرًا) وأراد أخذ إحدى زوجاته معه.
5211 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَتْ: حَفْصَةُ أَلاَ تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ، فَقَالَتْ: بَلَى فَرَكِبَتْ فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الإِذْخِرِ وَتَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا عبد الواحد بن أيمن) المخزومي المكي (قال: حدّثني) بالإفراد (ابن أبي مليكة) عبد الله (عن القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا خرج) إلى سفر (أقرع بين نسائه) فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه (فطارت القرعة) أي حصلت (لعائشة

(8/104)


وحفصة، وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا كان بالليل سار مع عائشة) حال كونه (يتحدّث) معها (فقالت حفصة) أي لعائشة لما حصل لها من الغيرة: (ألا) بتخفيف اللام (تركبين الليلة) هذه (بعيري وأركب بعيرك تنظرين) إلى ما لم تنظري إليه (وأنظر) أنا إلى ما لم أكن نظرته (فقالت) لها عائشة لما شوّقتها إليه من النظر (بلى فركبت) كل واحدة منهما بعير الأخرى (فجاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى جمل عائشة) يظنها عليه (وعليه حفصة فسلّم عليها) ولم يذكر في هذه الرواية أنه تحدّث معها (ثم سار حتى نزلوا وافتقدته) عليه الصلاة والسلام (عائشة) -رضي الله عنها- حالة المسايرة (فلما نزلوا جعلت) عائشة (رجليها بين الإذخر) بالذال
الحشيش الطيب الريح المعروف تكون فيه الهوام في البرية غالبًا (وتقول: يا رب) ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني رب بإسقاط حرف النداء (سلط عليّ عقربًا أو حيّة تلدغني) بالدال المهملة والغين المعجمة. قالت ذلك لأنها عرفت أنها الجانية فيما أجابت إليه حفصة (ولا أستطيع) أي قالت عائشة ولا أستطيع (أن أقول له) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (شيئًا) أي لأنه ما كان يعذرني في ذلك، ولمسلم بعد قوله تلدغني رسولك لا أستطيع أن أقول له شيئًا أي هو رسولك. وعند الإسماعيلي ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينظر ولا أستطيع أن أقول له شيئًا أي لا تستطيع أن تقول في حقه شيئًا ولم تتعرض لحفصة لأنها هي التي أجابتها طائعة فعادت على نفسها باللوم.
وفي الحديث مشروعية القرعة فيما ذكر. وقال أصحابنا: لا يجوز للزوج السفر ببعض أزواجه إلا بالقرعة إذا تنازعن وإذا سافر بإحداهن بها فلا قضاء عليه إذ لم ينقل عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضاء بعد عودة فصار سقوط القضاء من رخص السفر ولأن المسافرة معه وإن فازت بصحبته فقد تعبت بالسفر ومشاقه وهذا في السفر مباح ولو كان قصيرًا أما غير المباح فليس له أن يسافر بها فيه بقرعة ولا بغيرها فإن سافر بها حرم ولزمه القضاء للباقيات، وإذا نوى الإقامة بمقصده أو بمحل آخر في طريقه مدة تقطع الترخص للمسافر وهي أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج وجب القضاء، وإن أقام في مقصده أو غيره من غير نيّة قضى الزائد على مدة ترخص السفر فلو أقام لشغل ينتظر تنجزه في كل ساعة فلا يقضي إلى أن تمضي ثمانية عشر يومًا، وإن سافر ببعضهن لنقلة حرم عليه وقضى للباقيات، والمشهور عن المالكية والحنفية عدم اعتبار القرعة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الفضائل والنسائي في عشرة النساء.

98 - باب الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا، وَكَيْفَ يُقْسِمُ ذَلِكَ
(باب المرأة تهب يومها) المختص بها من القسم الكائن (من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك) وقوله وكيف إلى آخره ساقط للمستملي والكشميهني.
5212 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ.
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) أبو غسان النهدي قال: (حدّثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي الكوفي (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة أن سودة بنت زمعة) بن قيس القرشية العامرية (وهبت يومها) وليلتها لما أسنّت وخافت أن يفارقها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لعائشة) فقبل ذلك منها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة) ويقسم لسائرهن يومًا يومًا.
وفي هذا الحديث أنه إذا وهبت إحدى الزوجات حقها من القسم لمعينة ورضي بالهبة بات عند الموهوبة ليلتين ليلة لها وليلة للواهبة، وهذه الهبة ليست على قواعد الهبات ومن ثم لا يشترط رضا الموهوب لها بل يكفي رضًا الزوج لأن الحق مشترك بينه وبين الواهبة ومحل بياته عند الموهوبة
ليلتين ما دامت الواهبة في نكاحه، فلو خرجت عن نكاحه لم يبت عند الموهوبة إلا ليلتها ولو كانت الليلتان متفرقتين لم يوالِ بينهما للموهوبة بل يفرقهما كما كانتا قبل لئلا يتأخر حق التي بينهما، ولأن الواهبة قد ترجع بين الليلتين والموالاة تفوّت حق الرجوع عليها، ولو وهبت حقها لجميع ضرّاتها أو أسقطته مطلقًا جعلها كالمعدومة فيسوّى بين الباقيات، ولو وهبته له فخص به

(8/105)


واحدة منهن ولو في كل دور واحدة جاز لأن الحق له فيضعه حيث شاء ثم ينظر في الليلتين أمتفرقتان أم لا وحكم ذلك كما سبق.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في النكاح.

99 - باب الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} -إِلَى قَوْلِهِ- {وَاسِعًا حَكِيمًا}
(باب) وجوب (العدل بين النساء) في النفقة والكسوة والقسم ({ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء}) أي ولن تطيقوا العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة فتمام العدل أن يسوّى بينهن بالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والمفاكهة وقيل أن تعدلوا في المحبة وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع جلالة شأنه يقسم بين نسائه ويعدل ويقول "هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك". رواه أصحاب السُّنن وصححه ابن حبان وقال الترمذي يعني به الحب (إلى قوله) تعالى: ({واسعًا}) بتحليل النكاح ({حكيمًا}) [النساء: 129، 130] بالإذن في السراح.
وروى البيهقي عن ابن عباس في قوله: {ولن تستطيعوا} الآية. قال في الحب والجماع وسقط لأبي ذر قوله: إلى قوله: {واسعًا حكيمًا}.

100 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا تزوّج) الرجل (البكر على الثيب) كيف يفعل وسقط التبويب ولاحقه لأبي ذر.
5213 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَلَكِنْ قَالَ: "السُّنَّةُ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا". [الحديث 5213 - أطرافه في: 5214].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا بشر) بموحدة مكسورة فمعجمة ساكنة ابن المفضل بن لاحق البصر قال: (حدّثنا خالد) الحذاء بن مهران (عن أبي قلابة) عبد الله بن زيد الجرمي (عن أنس) -رضي الله عنه-. قال أبو قلابة: أو أنس (ولو شئت أن أقول
قال: النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لكنت صادقًا في تصريحي بالرفع إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن المحافظة على اللفظ أولى (ولكن قال):
(السُّنَّة) أي أنه مرفوع بطريق اجتهاده ولمسلم وأبي داود في آخر الحديث قال خالد: ولو شئت أن أقول رفعه لصدقت ولكنه قال: السُّنّة فبين أنه قول خالد لا شيخه أبي قلابة (إذا تزوج البكر) على الثيب (أقام عندها) وجوبًا (سبعًا) من الليالي وتدخل الأيام (وإذا تزوّج الثيب) على البكر (أقام عندها) وجوبًا (ثلاثًا) من الليالي ذلك والمعنى فيه زوال الحشمة بينهما والائتلاف وزيد للبكر لأن حياءها أكثر.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه في النكاح.

101 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا تزوج) الرجل (الثيب على البكر).
5214 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَخَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ قَسَمَ، قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ وَخَالِدٍ قَالَ خَالِدٌ: وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن راشد) نسبه لجده واسم أبيه موسى القطان الكوفي سكن بغداد قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن سفيان) الثوري أنه قال: (حدّثنا أيوب) السختياني (وخالد) الحذاء كلاهما (عن أبي قلابة) عبد الله بن زيد الجرمي والظاهر كما قال الحافظ ابن حجر أن اللفظ لخالد (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: من السُّنّة) النبوية (إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام) وجوبًا (عندها سبعًا) من الليالي بأيامها متواليات فلو فرقها لم تحسب وقضاها لها متواليات وقضى بعد ذلك للأخريات ما فرّق (وقسم) بالواو بعد ذلك لهما (وإذا تزوج الثيب على البكر أقام) وجوبًا (عندها ثلاثًا) من الليالي بأيامها متواليات وخصت البكر بالسبع لما فيها من الحياء والخدر فتحتاج إلى فضل إمهال وصبر وتأنٍّ ورفق والثيب قد جربت الرجال إلا أنها من حيث استجدت الصحبة أكرمت بزيادة الموصلة وهي الثلاث (ثم قسم) بعد ذلك ولا يحسب السبع ولا الثلاث عليهما بل يستأنف القسمة. وعند الإسماعيلي وأبي نعيم بلفظ ثم في الموضعين: ولا يتخلف بسبب حق الزفاف عن الخروج للجماعات ولسائر أعمال البر كعيادة مريض مدّة الثلاث أو السبع إلا ليلًا فله التخلف وجوبًا تقديمًا للواجب على المندوب، لكن قال الأذرعي أن نصوص الشافعي أن الليل كالنهار في استحباب الخروج لذلك.
(قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت إن أنسًا رفعه إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي ولكنه تحرز عن التلفظ به تورعًا.
(وقال عبد الرزاق) مما وصله مسلم (أخبرنا سفيان) الثوري (عن أيوب) السختياني (وخالد) الحذاء يعني بهذا الإسناد والمتن (قال خالد) الحذاء: (ولو شئت قلت رفعه) أي الحديث (إلى النبي

(8/106)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أيوب من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه عن أبي قلابة عن أنس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فصرح برفعه.

102 - باب مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ
(باب من طاف على نسائه) جامعهن (في غسل واحد).
5215 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الأعلى بن حماد) أي ابن نصر البصري سكن بغداد قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الزاي وفتح الراء مصغرًا قال: (حدّثنا سعيد) أي ابن أبي عروبة (عن قتادة) بن دعامة (أن أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (حدّثهم أن نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يطوف على نسائه) يجامعهن (في الليلة الواحدة) بغسل واحد (وله يومئذٍ تسع نسوة) وسريتان مارية وريحانة لأنه كان أعطي قوّة ثلاثين كما في آخر هذا الحديث في باب: إذا جامع ثم عاد، ومن دار على نسائه في غُسل واحد من كتاب الغسل، بل عند الإسماعيلي قوّة أربعين. وزاد أبو نعيم عن مجاهد كل رجل منهم من أهل الجنة وصحح الترمذي حديث أنس مرفوعًا: يعطي المؤمن في الجنة قوّة كذا وكذا قيل: يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال: "يعطى قوّة مائة". وحينئذٍ فالحاصل من ضربها في مائة أربعة آلاف، وقد كانت العرب تتباهى بقوّة النكاح كما كانوا يمدحون قلة الطعام والاجتزاء بالعلقة، فاختار الله تعالى لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأمرين فكان يطوي الأيام لا يأكل حتى يشدّ الحجر على بطنه ومع ذلك يطوف على نساءه في الساعة الواحدة واحتج به من قال: إن القسم ما كان واجبًا عليه وهو وجه لأصحابنا الشافعية أو أن ذلك باستطابتهن أو غير ذلك من الأجوبة السابقة في الغسل.
فإن قلت: ليس في الحديث مطابقة للترجمة. فالجواب: أنه أشار إلى ما روي في بعض طرقه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يطوف على نسائه في غسل واحد رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

103 - باب دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِي الْيَوْمِ
(باب) حكم (دخول الرجل على نسائه في اليوم) ليعلم أن عماد القسم الليل لأنه وقت
السكوت والنهار تابع له إلا نحو الحارس والخفير فإن نهاره ليله فهو عماد قسمه لأنه وقت سكونه فلو دخل من عماد قسمه الليل على إحدى زوجاته في ليلة غيرها ولو لحاجة حرم إلا لضرورة كمرضها المخوف ويقضي إن طال الزمن، وأما النهار فلا يجوز دخوله فيه على الأخرى إلا لحاجة كعيادة ووضع متاع وتسليم نفقة ولو استمتع عند دخوله لحاجة بغير الجماع جاز ولا يخص واحدة بالدخول فلو دخل عليها بلا حاجة قضى لتعدّيه.
5216 - حَدَّثَنَا فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (فروة) بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والواو المفتوحة ابن أبي المغراء الكوفي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (علي بن مسهر) بضم الميم وسكون المهملة وكسر الهاء (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة - رضي الله عنها -) أنها (قالت: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا انصرف من العصر) أي فرغ من صلاة العصر (دخل على نسائه فيدنو من إحداهن) زاد ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة بغير وقاع (فدخل على حفصة) بنت عمر -رضي الله عنهما- (فاحتبس) عندها (أكثر ما) ولأبي ذر أكثر مما (كان يحتبس) الحديث. وتمامه يأتي إن شاء الله تعالى بمباحثه في باب {لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1] من كتاب الطلاق، وعند الإمام أحمد عن عائشة كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي في نوبتها فيبيت عندها وصححه الحاكم.

104 - باب إِذَا اسْتَأْذَنَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فَأَذِنَّ لَهُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرّض في بيت بعضهن فأذن له) وأسقطن حقهن فكأنهن وهبن أيامهن لتلك.
5217 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ: هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا»؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي، فَقَبَضَهُ اللَّهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال حدّثني) بالإفراد (سليمان بن بلال قال هشام بن عروة: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
ولأبي ذر أن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا غدًا أين أنا غدًا) مرتين استفهام استئذان منهن أن يكون عند عائشة على القول بوجوب القسم عليه أو لتطييب قلوبهن ومراعاة لخواطرهن (يريد يوم عائشة فأذن)

(8/107)


بتخفيف النون وفي نسخة فأذن (له أزواجه يكون حيث شاء) من بيوت أزواجه (فكان في بيت عائشة حتى مات عندها قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور عليَّ فيه في بيتي فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري) بفتح النون موضع القلادة (وسحري) بفتح السين المهملة الرئة أي أنه مات وهو مستند إلى صدرها وما يحاذي سحرها منه، وقيل السحر ما لصق بالحلقوم من أعلى البطن وحكى القتيبي عن بعضهم أنه بالشين المعجمة والجيم وأنه سئل عن ذلك فشبك بين أصابعه وقدمها عن صدره كأنه يضم شيئًا إليه أي أنه مات وقد ضمته بيديها إلى نحرها وصدرها والشجر التشبيك وهو الذقن أيضًا قال ابن الأثير والمحفوظ: الأول (وخالط ريقه ريقي) لأنها أخذت سواكًا وسوّته بأسنانها وأعطته له عليه الصلاة والسلام فاستاك به كما في آخر الحديث في باب الوفاة النبوية.

105 - باب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ
(باب) جواز (حب الرجل بعض نسائه أفضل من بعض) فلا يؤاخذ بميل قلبه إلى بعضهن ولا بعدم التسوية في الجماع لأن ذلك يتعلق بالنشاط والشهوة وهو لا يملك ذلك.
5218 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنهم- دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةِ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِيَّاهَا، يُرِيدُ عَائِشَةَ فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَبَسَّمَ.
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) العامري الأويسي قال: (حدّثنا سليمان) بن بلال (عن يحيى) بن سعيد الأنصاري (عن عبيد بن حنين) بضم العين والحاء المهملتين فيهما مصغرين مولى زيد بن الخطاب أنه (سمع ابن عباس) يحدّث (عن عمر -رضي الله عنهم-) أنه (دخل على حفصة) ابنته لما قال له جاره الأنصاري أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طلق نساءه (فقال) لها (يا بنية) بكسر التاء في الفرع كأصله (لا يغرنك) بتشديد الراء والنون (هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إياها يريد عائشة) ولمسلم من رواية سليمان بن بلال وحب بواو العطف، وللطيالسي: لا تغتري بحسن عائشة وحب رسول الله إياها وحينئذٍ يحب هنا رفع عطف على سابقه وحذف حرف العطف، لكن قال السهيلي: بعد أن حكى ذلك عن بعضهم وليس كما قال بل هو مرفوع على البدل من الفاعل الذي في أول الكلام وهو هذه من قول عمر: لا يغرنك هذه، فهذه فاعل والتي نعت وحب بدل اشتمال كما تقول أعجبني يوم الجمعة صوم فيه وسرني زيد حب الناس له انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وثبوت الواو يردّ على ردّه، وقال عياض: يجوز في حب الرفع على
أنه عطف بيان أو بدل اشتمال أو على حذف حرف العطف قال: وضبطه بعضهم بالنصب على نزع الخافض، وقال السفاقسي: حب فاعل وحسنها نصب مفعول من أجله والتقدير أعجبها حب رسول الله إياها من أجل حسنها قال: والضمير الذي يلي أعجبها منصوب فلا يصح إبدال الحسن منه ولا الحب قال عمر: (فقصصت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) القصة (فتبسم) الحديث.
وسبق بتمامه في باب موعظة الرجل ابنته.

106 - باب الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ، وَمَا يُنْهَى مِنِ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ
(باب) ذم (المتشبع بما لم ينل) يتكثر بذلك ويتزين بالباطل (وما ينهى) بضم الياء وفتح الهاء (من افتخار الضرة) بادعائها الحظوة عند زوجها أكثر مما لها عنده تريد بذلك غيظها.
5219 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ح.
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا حماد بن زيد) هو ابن درهم (عن هشام) هو ابن عروة (عن فاطمة) بنت المنذر بن الزبير (عن أسماء) بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال المؤلّف:
0000 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ».
(وحدّثني) بالإفراد (محمد بن المثنى) العنزي الحافظ وسقط واو وحدّثني لغير أبي ذر قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن هشام) هو ابن عروة بن الزبير قال: (حدّثتني) بالتاء والإفراد (فاطمة) بنت المنذر (عن أسماء) بنت أبي بكر (أن امرأة) في أسماء نفسها (وقالت: يا رسول الله إن لي ضرة) هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط (فهل عليّ جناح) إثم (إن تشبعت من زوجي) الزبير بن العوّام كذا سمى المرأة وضرتها في المقدمة لكنه قال في الفتح: لم أقف على تعيين هذه المرأة ولا على تعيين زوجها (غير الذي يعطيني) ولمسلم من حديث عائشة أن امرأة قالت: يا رسول الله

(8/108)


أقول وإن زوجي أعطاني ما لم يعطني (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): وسقط قوله فقال رسول الله: إلى آخره لأبي ذر.
(المتشبع) المتكثر (بما لم يعط) يتجمل بذلك كالذي يرى أنه ثمبعان وليس كذلك (كلابس ثوبي زور). قال السفاقسي: هو أن يلبس ثوبي وديعة أو عارية يظن الناس أنهما له ولباسهما لا يدوم فيفتضح بكذبه وأراد بذلك تنفير المرأة عما ذكرت خوفًا من الفساد بين زوجها وضرتها فتورث بينهما البغضاء، وقال الخطابي: هذا يتأول على وجهين: أحدهما أن الثوب مثل المتشبع بما
لم يعط كصاحب زور وكذب كما يقال: للرجل إذا وصف بالبراءة عن العيوب أنه طاهر الثوب والمراد طهارة نفسه، والثاني: أن يراد به نفس الثوب قالوا: كان في الحي رجل له هيئة حسنة إذا احتاجوا إلى شهادة الزور شهد لهم فيقبل لهيئته وحسن ثوبيه، وقيل: هو أن يلبس قميصًا يصل بكمه كما آخر يرى أنه لابس قميصين أو هو المرائي يلبس ثياب الزهاد ليظن أنه زاهد وليس به، وفي الفائق للزمخشري المتشبع المتشبه بالشبعان وليس به واستعير للمتحلي بفضيلة لم يرزقها وشبه بلابس ثوبي زور أي ذي زور، وهو الذي يزوّر على الناس بأن يتزيا بزي أهل الصلاح رياء وأضاف الثوبين إليه لأنهما كانا ملبوسين لأجله وهو المسوغ للإضافة وأراد بالتشبيه أن المتحلي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور ارتدى بأحدهما واتزر بالآخر، وقال الكرماني: معناه المظهر للشبع وهو جائع كالمزور الكاذب المتلبس بالباطل وشبه الشبع بلبس الثوب بجامع أنهما يغشيان الشخص تشبيهًا حقيقيًّا أو تخييليًّا كذا قرّره السكاكي في قوله تعالى: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} [النحل: 112].
فإن قلت: ما فائدة التثنية؟ قلت: المبالغة إشعارًا بالاتزار والارتداء يعني هو زور من رأسه إلى قدمه أو الإعلام بأن في المتشبع حالتين مكروهتين فقدان ما تشبع به وإظهار الباطل.

107 - باب الْغَيْرَةِ. وَقَالَ وَرَّادٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي»
(باب الغيرة) بفتح الغين المعجمة وسكون التحتية مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص وأشد ذلك ما يكون بين الزوجين.
(وقال وراد) بفتح الواو والراء المشددة وبعد الألف دال مهملة مولى المغيرة وكاتبه فيما وصله المؤلّف مطولًا في الحدود (عن المغيرة) بن شعبة أنه قال: (قال سعد بن عبادة) الخزرجي الساعدي: (لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح) بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الفاء وكسرها أي غير ضارب بعرضه بل بحده للقتل والإهلاك لا بعرضه للزجر والإرهاب، قال القاضي عياض: فمن فتح جعله وصفًا للسيف وحالًا منه، ومن كسر جعله وصفًا للضارب وحالًا منه وفي حديث ابن عباس عند أحمد واللفظ له وأبي داود والحاكم لما نزلت هذه الآية {والذين يرمون المحصنات} [النور: 4] الآية قال سعد بن عبادة: أهكذا أنزلت فلو وجدت لكاع يفتخذها رجل لم يكن لي أن أحركه ولا أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله لا آتي بأربعة شهداء حتى يقضي حاجته فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم"؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوّج امرأة قط إلا عذراء ولا طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوّجها من شدّة غيرته فقال سعد: والله إني
لأعلم يا رسول الله إنه لحق وإنها من عند الله ولكني عجبت (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(تعجبون من غيرة سعد) بهمزة الاستفهام الاستخباري أو الإنكاري أي لا تعجبوا من غيرة سعد (لأنا أغير منه) بلام التأكيد (والله أغير مني) وغيرته تعالى: تحريمه الفواحش والزجر عنها والمنع منها لأن الغيور هو الذي يزجر عما يغار عليه.
5220 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفصر) قال: (حدّثنا أبي) هو حفص بن غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران (عن شفيق) أبي وائل بن سلمة (عن عبد الله بن مسعود) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما من أحد أغير من الله) ما يجوز أن تكون حجازية فأغير منصوب على الخبر وأن تكون تميمية فأغير مرفوع ومن زائدة على اللغتين

(8/109)


للتأكيد ويجوز إذا فتحت الراء من أغير أن تكون في موضع خفض على الصفة لأحد على اللفظ وإذا رفعت أن تكون صفة له على الموضع وعليهما فالخبر محذوف تقديره موجود وقد أولوا الغيرة من الله بالزجر والتحريم كما مر ولذا قال: (من أجل ذلك) أي من أجل أن الله أغير من كل أحد (حرم الفواحش) كل ما اشتد قبحه من المعاصي، وقال ابن العربي: التغير محُال على الله تعالى بالدلالة القطعية فيجب تأويله كالوعيد وإيقاع العقوبة بالفاعل ونحو ذلك انتهى. (وما أحد أحب إليه المدح من الله) برفع أحد اسم ما وأحب بالنصب خبرها على الحجازية وبرفع أحب خبر لأحد على التميمية ومصلحة المدح عائدة على المادح لما يناله من الثواب والله غني عن ذلك.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التوحيد ومسلم في التوبة والنسائي في التفسير.
5221 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ يَزْني. يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) الإمام (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(يا أمة محمد ما أحد أغير من الله) بنصب أغير خبر ما الحجازية (أن يرى عبده أو أمته يزني) بالتذكير للعبد أو بالتأنيث خبرًا للأمة وهذا مكتوب في الفرع مصلح على كشط وهو موافق لليونينية ولأصول معتمدة وفي غير ذلك من الأصول ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أمته
تزني وفي آخر أو تزني أمته بالتقديم والتأخير في هذه الأخيرة. وقال في فتح الباري: قوله يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أمته كذا وقع عنده هنا عن عبد الله بن مسلمة عن مالك ووقع في سائر الروايات عن مالك أو تزني أمته على وزان الذي قبله فيظهر أنه من سبق القلم هنا، أو لعل لفظ تزني سقطت غلطًا من الأصل، ثم ألحقت فأخرها الناسخ عن محلها (يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم) من شؤم الزنا ووبال المعصية أو من أهوال القيامة (لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا) والقلة هنا بمعنى العدم كقوله قليل التشكي أي عديمه.
وهذا الحديث سبق بأتم من هذا في الكسوف.
5222 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لاَ شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ»، وَعَنْ يَحْيَى أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا همام) هو ابن يحيى بن دينار (عن يحيى) بن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (أن عروة بن الزبير) بن العوّام (حدّثه عن أمه أسماء) بنت أبي بكر الصديق (أنها سمعت رسول الله) ولأبي ذر سمعت النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: لا شيء أغير من الله) بنصب أغير نعتًا لشيء المنصوب ورفعها على النعت لشيء على الموضع قبل دخول لا.
5223 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ».
(وعن يحيى) بن أبي كثير عطف على السند السابق أي وحدّثنا موسى حدّثنا همام عن يحيى (أن أبا سلمة) بن عبد الرحمن (حدّثه أن أبا هريرة حدّثه أنه سمع النبي) ولأبي ذر أن أبا سلمة حدّثه أنه سمع أبا هريرة عن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولم يسق المؤلّف المتن من رواية همام بل تحول إلى رواية شيبان فساقه على روايته والذي يظهر كما في الفتح أن لفظهما واحد فقال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن النحوي (عن يحيى) بن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال):
(إن الله) تعالى (يغار) بفتح التحتية والغين المعجمة (وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله) عليه هذا الذي في الفرع كأصله، وقال الحافظ ابن حجر: وفي رواية أبي ذر وغيرة الله أن لا يأتي بزيادة لا قال وكذا رأيتها ثابتة في رواية النسفيّ، وأفرط الصغاني فقال كذا للجميع والصواب حذف لا كذا قال وما أدري ما أراد بالجميع بل أكثر رواة البخاري على حذفها وفاقًا لمن رواه غير البخاري كمسلم والترمذي وغيرهما، وقد وجّهها الكرماني وغيره بما حاصله أن غيرة الله ليست هي الإتيان ولا عدمه فلا بد من تقدير نحو لئلا يأتي أي غيرة الله عن النهي عن الإتيان. وقال
الطيبي: التقدير غيرة الله ثابتة لأجل أن لا يأتي. قال الكرماني: وعلى تقدير أن لا يستقيم المعنى بإثبات لا فذلك دليل على زيادتها وقد عهدت زيادتها في الكلام كثيرًا نحو قوله: {ما منعك أن لا تسجد} [الأعراف: 12] {لئلا يعلم أهل

(8/110)


الكتاب} [الحديد: 29] انتهى.
5224 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ، الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَأْسِي وَهْيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ: فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: «إِخْ إِخْ»، لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لأَرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ يَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي.
وبه قال (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني (محمود) هو ابن غيلان بالغين المعجمة المروزي قال (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (حدّثنا هشام قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير (عن) أمه (أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-) أنها (قالت: تزوجني الزبير) بن العوّام بمكة (وما له في الأرض من مال) إبل أو أرض للزراعة (ولا مملوك) عبد ولا أمة (ولا شيء) من عطف العام على الخاص (غير ناضح) بعير يستقي عليه (وغير فرسه) أي وغير ما لا بدّ له منه من مسكن ونحوهما (فكنت أعلف فرسه) زاد مسلم وأكفيه مؤونته وأسوسه وأدق النوى لناضحه وأعلفه وعنده أيضًا من طريق أخرى، كنت أخدم خدمة البيت وكان له فرس وكنت أسوسه فلم يكن من خدمته شيء أشد عليّ من سياسة الفرس كنت أحتش له وأقوم عليه، (وأستقي) بالفوقية بعد السين المهملة وللكشميهني وأسقي بإسقاطها أي وأسقي الناضح أو الفرس (الماء) والرواية الأولى أشمل معنى وأكثر فائدة ولم تستثن الأرض التي كان أقطعها له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه لم يكن يملك أصل الرقبة بل منفعتها فقط (وأخرز غربه) بخاء وزاي معجمتين بينهما راء وغربه بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة أي وأخيط دلوه (وأعجن) دقيقه (ولم أكن أحسن أخبز) بضم الهمزة في أحسن وفتحها في أخبز مع كسر الموحدة (وكان) أي لما قدمنا المدينة من مكة (يخبز) خبزي (جارات لي من الأنصار وكن نسوة صدق) بإضافتهن إلى الصدق مبالغة في تلبسهن به في حسن العشرة والوفاء بالعهد (وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه) إياها (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مما
أفاء الله عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أموال بني النضير (على رأسي وهي مني) أي من مكان سكني (على ثلثي فرسخ) بتثنية ثلث والفرسخ ثلاثة أميال وكل ميل أربعة آلاف خطوة (فجئت يومًا والنوى على رأسي فلقيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال):
(إخ إخ) بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة ينيخ بعيره (ليحملني) عليه (خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس) أي بالنسبة إلى علمها أو إلى أبناء جنسه وعند الإسماعيلي وكان من أغير الناس (فعرف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أني قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت) له: (لقيني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ) بعيره (لأركب) خلفه (فاستحييت منه وعرفت غيرتك فقال) لها الزبير: (والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ لا عار فيه بخلاف حمل النوى فإنه ربما يتوهم منه خمسة نفسه ودناءة همته واللام في لحملك للتأكيد وحملك مصدر مضاف لفاعله والنوى مفعوله ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أشد عليك بزيادة كاف (قالت) ولو أزل أخدم (حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني) بالتحتية والفوقية المصحح عليها بالفرع كأصله (سياسة الفرس فكأنما أعتقني) وفيه أن على المرأة القيام بخدمة ما يحتاج إليه بعلها ويؤيده قصة فاطمة وشكواها ما تلقى من الرحى والجمهور على أنها متطوعة بذلك أو يختلف باختلاف عوائد البلاد.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الخمس مقتصرًا على قصة النوى ومسلم في النكاح والنسائي في عشرة النساء.
5225 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ»، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا. وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ فِيهِ.
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن عبد الله بن جعفر المديني قال: (حدّثنا ابن علية) بضم العين وفتح اللام وتشديد التحتية اسم أم إسماعيل بن إبراهيم (عن حميد) الطويل (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند بعض نسائه) هي عائشة -رضي الله عنها- (فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين) هي زينب بنت جحش أو صفية أو غيرهما (بصحفة) بفتح الصاد وسكون الحاء المهملتين إناء كالقصعة المبسوطة (فيها طعام فضربت) المرأة (التي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيتها) وهي عائشة (يد الخادم) الذي

(8/111)


جاء بالصحفة (فسقطت الصحفة) من يده (فانفلقت) فانشقت (فجمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلق الصحفة) بكسر الفاء وفتح اللام جمع فلقة وهي القطعة ككسرة وكسر (ثم جعل
يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول) للحاضرين عنده:
(غارت أمكم) عائشة وفيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيرى بما يصدر منها لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة، وفي حديث عائشة المروي عند أبي يعلى بسند لا بأس به مرفوعًا: أن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه، وعند البزار عن ابن مسعود رفعه إن الله كتب الغيرة على النساء فمن صبر منهن كان لها أجر شهيد (ثم حبس) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (الخادم) عن الذهاب لصاحبة الصحفة (حتى أتي) بضم الهمزة وكسر الفوقية (بصحفة من عند التي هو في بيتها) وهي عائشة (فدفع الصحفة الصحيحة) إلى الخادم يدفعها (إلى التي كسرت) بضم الكاف (صحفتها وأمسك) عليه الصلاة والسلام الصحفة (المكسورة في بيت التي) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي في البيت التي (كسرت فيه) كذا في الفرع فيه وسقطت من اليونينية قيل: وكانت القصعتان له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فله التصرف كلما يشاء فيهما، وإلاّ فليست القصعة من المثليات بل من المتقومات وإضافتهما باعتبار كونهما في منزلهما.
5226 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، أَوْ أَتَيْتُ الْجَنَّةَ، فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَلَمْ يَمْنَعْنِي إِلاَّ عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ»، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن أبي بكر المقدمي) بفتح الدال المشددة قال: (حدّثنا معتمر) هو ابن سليمان (عن عبيد الله) بضم العين ابن عمر العمري (عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما-) وسقط لأبي ذر ابن عبد الله (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
"أريت في المنام أني" (دخلت الجنة أو أتيت الجنة فأبصرت) فيها (قصرًا فقلت) لجبريل وغيره (لمن هذا) القصر؟ (قالوا) أي جبريل ومن معه من الملائكة (لعمر بن الخطاب فأردت أن أدخله فلم يمنعني) من دخوله (إلا علمي بغيرتك) يا عمر (قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله) سقط لفظ ابن الخطاب يا رسول الله لأبي ذر (بأبي) أي أنت مفدى بأبي (أنت وأمي يا نبي الله أوعليك أغار)؟ بهمزة الاستفهام والواو العاطفة على مقدّر كما في أومخرجيَّ هم ونحوه.
وهذا الحديث سبق في مناقب عمر.
5227 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جُلُوسٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي
فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا لِعُمَرَ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا». فَبَكَى عُمَرُ وَهْوَ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَالَ: أَوَعَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ؟
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (ابن المسيب) سعيد (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: بينما) بالميم (نحن عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جلوس فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(بينما) بالميم ولأبي ذر بينا (أنا نائم رأيتني) بضم الفوقية والضمير للمتكلم وهو من خصائص أفعال القلوب أي رأيت نفسي (في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) وضوءًا شرعيًا وهو مؤوّل بكونها كانت محافظة في الدنيا على العبادة ولا يلزم من كون الجنة ليست دار تكليف أن لا يصدر من أحد فيها شيء من العبادات باختياره (فقلت) أي لجبريل (لمن هذا)؟ القصر (قال) ولأبي ذر عن الكشميهني قالوا: أي جبريل ومن معه (هذا لعمر فذكرت غيرته) بضمير الغائب ولأبي ذر عن الكشميهني غيرتك بكاف الخطاب (فوليت مدبرًا، فبكى عمر) -رضي الله عنه- سرورًا بما منحه الله تعالى أو تشوقًا إليه (وهو في المجلس ثم قال: أو عليك يا رسول الله أغار) وسقط لأبي ذر الهمزة والواو من قوله أو عليك.

108 - باب غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ
(باب) حكم (غيرة النساء) بفتح الغين المعجمة (ووجدهن) بفتح الواو وسكون الجيم أي وغضبهن من أزواجهن فإن كان ذلك بسبب تحققهن ارتكاب محرم كالزنا أو انتقاص حقهن أو جور عليهن وإيثار ضرة فهي سائغة لا يتوهم في غير ريبة ولا إن كان مقسطًا بينهن ويعذرن بما فيهن مما طبعن عليه منها ما لم يتجاوزن إلى ما يحرم عليهن من قول أو فعل فيلمن عليه.
5228 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى»، قَالَتْ فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ»، قَالَتْ: قُلْتُ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ. [الحديث 5228 - في الأطراف: 6078].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عبيد بن إسماعيل)

(8/112)


الهباري الكوفي واسمه في الأصل عبد الله قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إني لأعلم) شأنك (إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى) قال في المصابيح: هذا مما
ادّعى ابن مالك فيه أن إذا خرجت عن الظرفية وقعت مفعولًا والجمهور على أن إذا لا تخرج عن الظرفية فهي في الحديث ظرف لمحذوف هو مفعول أعلم وتقديره شأنك ونحوه (قالت: فقلت من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت غضبى) ولأبي ذر عن الكشميهني وإذا كنت عليَّ غضبى (قلت لا ورب إبراهيم) فيه الحكم بالقرائن لأنه عليه الصلاة والسلام حكم برضا عائشة وغضبها بمجرد ذكرها اسمه الشريف وسكوتها، واستدل على كمال فطنتها وقوة ذكائها بتخصيصها إبراهيم عليه السلام دون غيره لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أولى الناس به كما في التنزيل فلما لم يكن لها بد من هجر اسمه الشريف أبدلته بمن هو منه بسبيل حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة (قالت: قلت أجل) نعم (والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك) بلفظي فقط، ولا يترك قلبي التعلق بذاتك الشريفة مودة ومحبة كذا قرر معناه ابن المنير. وقال في شرح المشكاة: هذا الحصر في غاية من اللطف في الجواب لأنها أخبرت أنها إذا كانت في غاية من الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا يغيرها عن كمال المحبة المستغرقة ظاهرها وباطنها الممتزجة بروحها وإنما عبرت عن الترك بالهجران لتدل به على أنها تتألم من هذا الترك الذي لا اختيار لها فيه كما قال الشاعر:
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إليك مع الصدود لأميل
اهـ.
واستدلّ به على أن الاسم غير المسمى إذ لو كان الاسم عين المسمى لكانت بهجره تهجر ذاته الشريفة وليس كذلك ولهذه المسألة مبحث يطول استيفاؤه يأتي إن شاء الله تعالى بعون الله في كتاب التوحيد إنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضل عائشة.
5229 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِيَّاهَا وَثَنَائِهِ عَلَيْهَا وَقَدْ أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ لَهَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (أحمد بن أبي رجاء) عبد الله الحنفي الهروي قال: (حدّثنا النضر) بنون مفتوحة وضاد معجمة ساكنة ابن شميل (عن هشام) أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أنها قالت: ما غرت على امرأة لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما غرت على خديجة لكثرة) أي لأجل كثرة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بكثرة بالموحدة بدل اللام أي بسبب كثرة (ذكر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إياها وثنائه عليها) من عطف الخاص على العام وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة وذلك موجب للغيرة إذ أصل غيرة المرأة من تحيل محبة زوجها لضرّتها أكثر وفيه أنها كانت تغار من أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لكن من خديجة أكثر لما ذكر وهي وإن
لم تكن موجودة، وقد أمنت عائشة مشاركتها لها فيه عليه الصلاة والسلام، لكن ذلك يقتضي ترجيحها عنده عليه الصلاة والسلام فهو الذي هيج الغضب المثير للغيرة بحيث قالت: ما سبق في مناقب خديجة قد أبدلك الله خيرًا منها فقال عليه الصلاة والسلام: "ما أبدلني الله خيرًا منها" ومع ذلك فلم يؤاخذها لقيام معذرتها بالغيرة التي جبل عليها النساء (وقد أوحي إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبشرها) بصيغة المضارع ولأبي ذر عن الكشميهني أن بشرها بصيغة الأمر (ببيت لها في الجنة من قصب) بفتح القاف والصاد المهملة بعدها موحدة.
وعند الطبراني في الأوسط: يعني قصب اللؤلؤ وفي الكبير بيت من لؤلؤة مجوفة، وفي الأوسط من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت وهذا أيضًا من جملة أسباب الغيرة لأن اختصاصها بهذه البشرى يُشعِر بمزيد محبته عليه الصلاة والسلام لها.
وعند الإسماعيلي قالت: ما حسدت امرأة

(8/113)


قط ما حسدت خديجة حين بشرها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ببيت من قصب، وفي الحديث أن الغيرة غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلًا عن دونهن وأفضلية خديجة.
وروينا في كتاب مكة للفاكهاني عن أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان عند أبي طالب فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له وبعث معه جارية له يقال لها نبعة فقال لها: انظري ما تقول له خديجة قالت نبعة فرأيت عجبًا ما هو إلا أن سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت: بأبي وأمي والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون النبي الذي يبعث فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك أن يبعثك لي قالت فقال لها: "والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدًا وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدًا.
وهذا الحديث سبق في باب تزويج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خديجة.

109 - باب ذَبِّ الرَّجُلِ عَنِ ابْنَتِهِ فِي الْغَيْرَةِ وَالإِنْصَافِ
(باب ذب الرجل) بالذال المعجمة أي دفعه (عن ابنته في الغيرة و) طلب (الإنصاف) لها.
5230 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ وَهْوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلاَ آذَنُ، ثُمَّ لاَ آذَنُ، ثُمَّ لاَ آذَنُ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعد البلخي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبد الرحمن (عن المسور بن مخرمة) بن نوفل الزهري أنه (قال: سمعت
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: وهو) أي والحال أنه (على المنبر):
(إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا) ولأبي ذر عن الكشميهني: استأذنوني (في أن ينكحوا) بضم أوّله من أنكح (ابنتهم) جويرة أو العوراء أو جميلة بنت أبي جهل (علي بن أبي طالب) وبنو هشام هم أعمام بنت أبي جهل لأنه أبو الحكم عمرو بن هشام بن المغيرة وقد أسلم أخواه الحارث بن هشام وسلمة بن هشام عام الفتح، وعند الحاكم بسند صحيح إلى سويد بن غفلة أحد المخضرمين ممن أسلم في حياة النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يلقه قال: خطب علي بنت أبي جهل إلى عمها الحارث فاستشار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: أعن حسبها تسألني؟ فقال: لا ولكن أتأمرني بها؟ قال: لا الحديث (فلا آذن) لهم في ذلك (ثم لا آذن) لهم في ذلك (ثم لا آذن) لهم بالتكرير ثلاثًا.
قال الكرماني، فإن قلت: لا بد في العطف من المغايرة بين المعطوفين. وأجاب: بأن الثاني فيه مغايرة للأول لأن فيه تأكيدًا ليس في الأول، وفيه إشارة إلى تأبيد مدة منع الإذن كأنه أراد رفع المجاز لاحتمال أن يحمل النفي على مدة بعينها فقال: ثم لا آذن أي ولو مضت المدة المفروضة تقديرًا لا آذن بعدها ثم كذلك أبدًا.
(إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم) بفتح الياء من ينكح (فإنما هي) أي فاطمة (بضعة) بفتح الموحدة وسكون المعجمة وحكي ضم الموحدة وكسرها أي قطعة لحم (مني يريبني) بضم أوله (ما أرابها) تقول أرابني فلان إذا رأيت منه ما تكرهه (ويؤذيني ما آذاها).
وحينئذٍ فمن آذى فاطمة فقد آذى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأذاه حرام اتفاقًا. وزاد في رواية الزهري في الُخمس. "وأنا أتخوف أن تفتن في دينها وإني لست أحرم حلالًا ولا أحل حرامًا ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبنت عدو الله أبدًا".
قال السفاقسي: أصح ما تحمل عليه هذه القصة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حرم على علي أن يجمع بين ابنته وابنة أبي جهل لأنه علل بأن ذلك يؤذيه وأذيته حرام بالإجماع ومعنى قوله لا أحرم حلالًا أي هي له حلال لو لم تكن عنده فاطمة وأما الجمع بينهما المستلزم تأذيه لتأذي فاطمة به فلا اهـ.
ولا يبعد أن يكون من خصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن لا يتزوج على بناته أو هو خاص بفاطمة. وزاد في رواية غير أبي ذر هكذا قال:
وهذا الحديث قد سبق في مناقب فاطمة ويأتي إن شاء الله تعالى في الطلاق.

110 - باب يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً، يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ»
هذا (باب) بالتنوين (يقل الرجال ويكثر النساء) أي في آخر الزمان (وقال أبو موسى) عبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنه- فيما سبق موصولًا في باب الصدقة قبل الرد من كتاب
الزكاة (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال: (وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة) وللحموي والمستملي: نسوة

(8/114)


بدل امرأة وهو خلاف القياس (يلذن) بضم اللام وسكون المعجمة يستغثن (به) ويلتجئن (من قلة الرجال وكثرة النساء).
5231 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْحَوْضِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لاَ يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ، وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ».
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر الحوضي) بفتح الحاء المهملة وسكون الواو بعدها ضاد معجمة مكسورة قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال) والله (لأحدّثنكم حديثًا) ولأبي ذر بحديث (سمعته من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يحدّثكم به أحد غيري) لأنه آخر من مات بالبصرة من الصحابة أو كان إذ ذاك في آخر عمره حيث لن يبق بعده من الصحابة من ثبت سماعه من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا النادر ممن لم يكن هذا الحديث من مرويه وعند ابن ماجة لا يحدّثكم به أحد بعدي (سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(إن من أشراط الساعة) أي علاماتها (أن يرفع العلم) لكثرة قتل العلماء بسبب الفتن وفي كتاب العلم أن يقل العلم فيحتمل أن يكون المراد بالقلة أولًا وبالرفع آخرًا أو أطلقت القلة وأريد بها العدم كعكسه (ويكثر الجهل) بسبب رفع العلم (ويكثر الزنا ويكثر شرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء) بسبب القتل في الرجال من كثرة الفتن دون النساء لأنهن لسن من ذوات الحرب وقيل بل هي علامة محضة لا بسبب آخر بل يقدر الله في آخر الزمان أن يقل من يولد من الذكور ويكثر من يولد من الإناث (حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد) أي من يقوم بأمرهن واللام للعهد إشارة إلى المعهود من كون الرجال قوّامين على النساء، ويحتمل أن يكنى بذلك عن اتباعهن لطلب النكاح حلالًا أو حرامًا. وقوله: لخمسين لا ينافي قوله في المعلق السابق أربعون لأن الأربعين داخلة في الخمسين، أو المراد المبالغة في كثرة النساء بالنسبة إلى الرجال أو الأربعين عدد من يلذن به، والخمسين عدد من يتبعه وهو أعم من أن يلذن به فلا منافاة. وقد روى علي بن سعيد في كتاب الطاعة والمعصية عن حذيفة قال: إذا عمت الفتنة ميز الله أولياءه حتى يتبع الرجل خمسون امرأة تقول: يا عبد الله استرني يا عبد الله آوني. قال في الفتح: وكأن هذه الأمور الخمسة خصت بالذكر لأشعارها باختلاف الأحوال التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد وهي الدين لأن رفع العلم يخل به والعقل لأن شرب الخمر يخل به والنسب لأن الزنا يخل به والنفس والمال لأن كثرة الفتن تخل بهما.
وفي الحديث الإخبار بما سيقع.
وهذا الحديث قد سبق في كتاب العلم.

111 - باب لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ ذُو مَحْرَمٍ، وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ
هذا (باب) بالتنوين (لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم) له بنسب أو رضاع أو مصاهرة فيحل لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن} [النور: 31] الآية ولأن المحرمية معنى يمنع المناكحة أبدًا فكانا كالرجلين والمرأتين ولا فرق في المحرم بين الكافر وغيره إلا إن كان الكافر من قوم يعتقدون حلّ المحارم كالمجوس امتنع خلوته (و) كذا لا يجوز (الدخول على) المرأة (المغيبة) بضم الميم وكسر الغين المعجمة وبعد التحتية الساكنة موحدة التي غاب عنها زوجها لسفر أو غيره ويجوز في الدخول الخفض عطفًا على بامرأة.
5232 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البغلاني قال: (حدّثنا ليث) هو ابن سعد الإمام (عن يزيد بن أبي حبيب) سويد المصري (عن أبي الخير) مرثد بن عبد الله اليزني المصري (عن عقبة بن عامر) الجهني -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إياكم والدخول) بالنصب على التحذير، وقال البرماوي في شرح العمدة: الدخول منصوب عطفًا على إيا المغرى بها والعامل في إيا محذوف أي باعدوا أنفسكم ثم حذف المضاف فقيل إياكم وعطف عليه الدخول، وفي رواية ابن وهب عند أبي نعيم: لا تدخلوا (على النساء) ومنع الدخول مستلزم لمنع الخلوة وعند الترمذي لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (فقال رجل من الأنصار): قال ابن حجر: لم أقف على اسمه (يا رسول الله أفرأيت الحمو) أي أخبرني عن حكم دخول الحمو على المرأة (قال) عليه

(8/115)


الصلاة والسلام مجيبًا له: (الحمو الموت) أي لقاؤه مثل لقاء الموت إذ الخلوة به تؤدي إلى هلاك الدين إن وقعت المعصية أو النفس إن وجب الرجم أو هلاك المرأة بفراق زوجها إذا حملته الغيرة على المرأة على طلاقها. والحمو قال النووي: المراد به هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه لأنهم محارم للزوجة ويجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت، وإنما المراد الأخ وابن الأخ ونحوهما ممن يحل لها تزويجه لو لم تكن متزوجة، وقد جرت العادة بالتساهل فيه فيخلو الأخ بامرأة أخيه فشبهه بالموت وهو أولى بالمنع من الأجنبي فالشر به أكثر من الأجنبي، والفتنة به أمكن من الوصول إلى المرأة، والخلوة بها من غير نكير عليه بخلاف الأجنبي انتهى.
والحمو بفتح الحاء المهملة وسكون الميم بعدها واو فيهما ولأبي ذر الحم بضم الميم وإسقاط الواو فيهما بوزن أخ. وقال القرطبي: إن الذي في الحديث الحمؤ بالهمزة. وقال الخطابي: وزنه
وزن دلو بغير همز وهو الذي اقتصر عليه ابن الأثير وأبو عبيد قال الحافظ أبو الفضلَ بن حجر: والذي ثبت لنا في رواية البخاري حمو كدلو.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الاستئذان والترمذي في النكاح والنسائي في عِشرة النساء.
5233 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَاكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: «ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو) هو ابن دينار (عن أبي معبد) بفتح الميم والموحدة بينهما عين مهملة ساكنة نافذ بالنون والفاء والذال المعجمة مولى ابن عباس (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يخلون رجل بامرأة) فإن الشيطان ثالثهما (إلا مع ذي محرم) لها فيجوز لانتفاء المحذور وحينئذٍ (فقام رجل فقال: يا رسول الله امرأتي خرجت حاجّة واكتتبت في غزوة كذا وكذا) أي كتبت نفسي في أسماء من عين لتلك الغزاة ولم أقف على تعيين هذه الغزوة ولا على اسم الرجل ولا زوجته (قال) عليه الصلاة والسلام (ارجع فحج مع امرأتك) وظاهره الوجوب وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والمشهور أنه لا يلزمه الخروج وفيه كما قال النووي: تقديم الأهم من الأمور المتعارضة فإنه لما عرض له الغزو والحج رجح الحج لأن امرأته لا يقوم غيره مقامه في السفر معها بخلاف الغزو.
ومطابقة الترجمة لما ساقه من الحديثين صريحة في أحد الأمرين المترجم لهما، وأما الثاني فبطريق الاستنباط. وفي حديث جابر المروي عند الترمذي مرفوعًا: "لا تدخلوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم". وفي حديث ابن عمر مرفوعًا "لا يدخل رجل على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان" رواه مسلم. والحديث الثاني من حديثي الباب سبق في حج النساء من كتاب الحج مطوّلًا.

112 - باب مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ
(باب ما يجوز أن يخلو الرجل) الأمين (بالمرأة) الأجنبية في ناحية (عند الناس) لتسأله عن بواطن أمرها في دينها وغيره من أحوالها سرًّا حتى لا يسمع الناس ذلك إذ هو من الامور التي تستحيي المرأة من ذكرها بين الناس وليس المراد أنه يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم.
5234 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَلاَ بِهَا، فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّكُنَّ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (محمد بن بشار) بفتح الموحدة والشين المعجمة المشددة ابن عثمان العبدي الملقب ببندار قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن هشام) هو ابن زيد بن أنس أنه (قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: جاءت امرأة من الأنصار) قال الحافظ ابن حجر: لم أعرفها، وزاد بهز في فضائل الأنصار ومعها صبي لها (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخلا بها) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحيث لا يسمع من حضر شكواها لا بحيث غاب عن أبصار من كان معه وفي مسلم أن امرأة كان في عقلها شيء قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال: "يا أم فلان انظري أيّ السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك" (فقال) لها عليه الصلاة والسلام:
(والله إنكن) بنون النسوة ولأبي ذر إنكم بالميم بدل النون (لأحب الناس إليّ) يريد الأنصار، وفيه فضيلة عظيمة لهم وأن مفاوضة الأجنبية سرًّا لا تقدح في الدين عند أمن الفتنة وسعة حلمه -صَلَّى اللَّهُ

(8/116)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتواضعه.

113 - باب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ
(باب ما ينهى من دخول) الرجال (المتشبهين بالنساء) في أخلاقهن (على المرأة) بغير إذن زوجها وحيث تكون سافرة في خلوة وحدها.
5235 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عِنْدَهَا، وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ فَقَالَ الْمُخَنَّثُ لأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلاَنَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُمْ».
به قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عثمان بن أبي شيبة) إبراهيم قال: (حدّثنا عبدة) بن سليمان (عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب ابنة) ولأبي ذر: بنت (أم سلمة عن أم سلمة) -رضي الله عنها- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان عندها) في بيتها (وفي البيت) الذي هي فيه (مخنّث) بفتح النون المشددة وكسرها بعدها مثلثة يشبه خلقة النساء في حركاتهن وكلامهن اسمه هيت بكسر الهاء وسكون التحتية بعدها فوقية، وكان يدخل على أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في تاريخ الجوزجاني، وذكر ابن إسحاق أن اسمه ماتع بفوقية، وقيل: بنون. وعند أبي موسى المديني أن ماتعًا لقب هيت أو بالعكس أو إنهما اثنان خلاف، وقيل: إن اسمه أنه بفتح الهمزة وتشديد النون، ورجح في الفتح أن اسم المذكور في الباب هيت (فقال المخنّث): هيت (لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية) بن المغيرة بن عبد الله وأمه عاتكة بنت عبد المطلب أسلم قبل الفتح وشهد حنينًا والفتح والطائف فأصابه سهم في الطائف ومات يومئذ واسم أبي أمية حذيفة (إن فتح الله لكم الطائف غدًا) وزاد في رواية أبي أسامة عن هشام في غزوة الطائف وهو محاصر الطائف يومئذ (أدلك على ابنة غيلان)
بفتح الغين المعجمة وسكون التحتية ابن سلمة بن معتب بن مالك واسمها بادية بالموحدة ثم تحتية بعد الدال المهملة، وقيل: بنون بدل التحتية أسلمت وكذا أبوها وكان تحته عشر نسوة، فأمره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يختار أربعًا وعاش إلى أواخر خلافة عمر -رضي الله عنه- ولأبي ذر على بنت غيلان (فإنها تقبل بأربع) من العكن لسمنها (وتدبر بثمان) لأن أعكانها تنعطف بعضها على بعض وهي في طيّها أربع طرائق وتبلغ أطرافها إلى خاصرتها في كل جانب أربع، فإذا أدبرت كانت أطراف هذه العكن الأربع عند منقطع جنبيها ثمانية، وقال بثمان وكان الأصل ثمانية لأن واحد الأطراف مذكر لأنه لم يقل ثمانية أطراف أو لأن كلاًّ من الأطراف عكنة تسمية للجزء باسم الكل فأنّث بهذا الاعتبار. وأما رواية من روى إن أقبلت قلت تمشي بست، وإن أدبرت قلت تمشي بأربع فكأنه يعني ثدييها ورجليها وطرفي ذلك منها مقبلة وردفيها مدبرة وإنما نقص إذا أدبرت لأن الثديين يحتجبان حينئذ. وزاد ابن الكلبي بعد قوله: وتدبر بثمان بثغر كالأقحوان، إن قعدت تثنت، وإن تكلمت تغنّت، وبين رجليها مثل الإناء المكفوء. وزاد المدائني من طريق يزيد بن رومان عن عروة مرسلًا أسفلها كثيب وأعلاها عسيب (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا يدخلن) بفتح اللام وتشديد النون (هذا عليكم) ولأبي ذر عن الكشميهني: عليكن بالنون. وزاد أبو يعلى في روايته من طريق يونس عن الزهري في آخره، وأخرجه فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة يستطعم.
واستنبط منه حجب النساء عمن يفطن لمحاسنهن، والحديث سبق في باب غزوة الطائف من المعازي.

114 - باب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ
(باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم) من الأجانب (من غير ريبة) أي تهمة.
5236 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ عَنْ عِيسَى عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَسْأَمُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي) بن راهويه المروزي سكن نيسابور وتوفي بها (عن عيسى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي (عن الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن عروة) بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسترني بردائه) فيه إشعار بأنه كان بعد نزول الحجاب (وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون) أي بحرابهم ودرقهم (في المسجد) النبوي (حتى أكون أنا الذي) ولأبي ذر عن الكشميهني التي (أسام) أي أملّ واستدلّ به على جواز رؤية المرأة إلى الأجنبي دون العكس، ويدل
له استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق

(8/117)


والأسفار متنقبات لئلا يراهن الرجال ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهن النساء فدلّ على اختلاف الحكم بين الفريقين، وبهذا احتج الغزالي للجواز فقال: لسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في حقه فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط وإن لم تكن فتة فلا إذ لم تزل الرجال على ممرّ الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات فلو استووا لأمر الرجال بالتنقب أو منعن من الخروج انتهى.
وقال النووي: نظر الوجه والكفّين عند أمن الفتنة من المرأة إلى الرجل وعكسه جائز وإن كان مكروهًا لقوله تعالى في الثانية: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31] وهو مفسر بالوجه والكفّين وقيس بها الأولى وهذا ما في الروضة عن أكثر الأصحاب، والذي صححه في المنهاج التحريم وعليه الفتوى، وأما نظر عائشة إلى الحبشة وهم يلعبون فليس فيها أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم ولا يلزم منه تعمّد النظر إلى البدن وإن وقع بلا قصد صرفته في الحال مع أن ذلك كان مع أمن الفتنة أو أن عائشة كانت صغيرة دون البلوغ ويدل لها قولها (فاقدروا) بضم الدال المهملة أي فانظروا وتدبروا (قدر الجارية الحديثة السن) الغير البالغة (الحريصة على اللهو) ومصابرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معها على ذلك لكن عورض بأن في بعض طرقه أن ذلك بعد قدوم وفد الحبشة وأن قدومهم كان سنة سبع ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة فكانت بالغة. نعم احتج المانعون بحديث أم سلمة المشهور حيث قال عليه الصلاة والسلام: "أفعمياوان أنتما" وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها وإسناده قوي. قال في الفتح: وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا تردّ روايته.

115 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ
(باب خروج النساء لحوائجهن) قال في القاموس: الحاجة معروفة والجمع حاج وحاجات وحوج وحوائج غير قياسي أو مولدة أو كأنهم جمعوا حائجة. زاد الجوهري فقال: وكأن من الأصمعي ينكره وإنما أنكره لخروجه عن القياس إلا فهو كثير في كلام العرب وينشد:
نهار المرء أمثل حين ... يقضي حوائجه من الليل الطويل
وحينئذ فقول الداودي في هذا الجمع نظر لأن جمع الحاجة حاجات وجمع الجمع حاج ولا يقال حوائج لا يخفى ما فيه.
5237 - حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلًا فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا فَقَالَ: إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وَهْوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّي، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
فَرُفِعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: «قَدْ أَذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (فروة بين أبي المغراء) بالفاء والواو المفتوحتين بينهما راء ساكنة وفتح ميم المغراء ورائها بينهما غير معجمة ساكنة ممدود الكندي الكوفي قال: (حدّثنا علي بن مسهر) بالسين المهملة أبو الحسن الكوفي الحافظ (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: خرجت سودة بنت زمعة) أم المؤمنين -رضي الله عنها- بعد الحجاب (ليلًا) للبراز. زاد في تفسير سورة الأحزاب: وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها (فرآها عمر) -رضي الله عنه- (فعرفها فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا) حرصًا على أن أمهات المؤمنين لا يبدين أشخاصهن أصلًا ولو كنّ مستترات. وقالت عائشة (فرجعت) سودة (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكرت ذلك) الذي قاله لها عمر (له وهو في حجرتي يتعشى وإن في يده لعرقًا) بفتح العين وسكون الراء بعدها قاف عظم عليه لحم واللام للتأكيد (فأنزل) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ولأبي ذر: فأنزل الله (عليه) الوحي (فرفع عنه) ما كان فيه من الشدة بسبب نزول الوحي (وهو يقول):
(قد أذن الله لكنّ) أمهات المؤمنين (أن تخرجن لحوائجكن) أي للبراز دفعًا للمشقة ورفعًا للحرج، وقد تمسك به القاضي عياض فقال: فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف

(8/118)


في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز، ثم استدلّ بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها، وتعقبه في الفتح فقال: ليس فيما ذكره دليل على ما ادّعاه من فرض ذلك عليهن وقد كنّ يحججن ويطفن ويخرجن إلى المساجد في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعده وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص.
وهذا الحديث قد مرّ في سورة الأحزاب من التفسير.

116 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
(باب استئدان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره) من الضرورات الشرعية.
5238 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال:
(إذا استأذنت امرأة أحدكم) في الخروج (إلى المسجد) فحرف الجر متعلق بمقدّر وهو الخروح وعليه المعنى لأن استأذن يتعدى بفي وخرج يتعدى بإلى أو أن إلى بمعنى في أي: استأذنت في المسجد كقوله:
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطليّ به القار أجرب
وهذا لا يراه سيبويه أو إلى بمعنى اللام التي للعلة أي لأجل المسجد كقوله تعالى: {فاستأذنوك للخروج} [التوبة: 83] (فلا يمنعها) بالجزم بلا الناهية والفاء جواب إذا والرفع على أنها نافية والمعنى على المنهي، والخبر بمعنى الأمر أو النهي أبلغ من لفظهما لأنه بمنزلة المحكوم عليه بذلك مبالغة في الامتثال المقصود كأنه لشدة المبادرة وقع وذلك دليل تأكده؛ ووقع عند المؤلّف في باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس في الصلاة من طريق حنظلة عن سالم إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المساجد فأذنوا لهن ولم يذكر أكثر الرواة عن حنظلة قوله بالليل، واختلف فيه عن الزهري فأورده المصنف من رواية معمر عن الزهري في باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد من أواخر الصلاة وأحمد من رواية عقيل والسراج من رواية الأوزاعي كلهم عن الزهري عن سالم بغير تقييد، وفي صحيح أبي عوانة عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن عيينة مثله لكنه قال في آخره: يعني بالليل كأن اختصاص الليل بذلك لكونه أستر، وقد ترجم المؤلّف بالخروج إلى المسجد وغيره واقتصر على حديث المسجد، وأجاب الكرماني بأنه قاسه عليه والجامع بينهما ظاهر ويشترط في الجميع أمن المفسدة منهن وعليهن واستدلّ به كما قال النووي على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن، وتعقبه ابن دقيق العيد بأنه إذا أخذ من المفهوم فهو مفهوم لقب وهو ضعيف، لكن يتقوى بأن يقال إن منع الرجال نساءهم أمر مقرر.

117 - باب مَا يَحِلُّ مِنَ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِي الرَّضَاعِ
(باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في) وجود (الرضاع) بين الرجل الداخل والمرأة المدخول عليها.
5239 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّهُ عَمُّكِ، فَأْذَنِي لَهُ». قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ» قَالَتْ عَائِشَةُ: وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ قَالَتْ عَائِشَةُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلاَدَةِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام الأعظم (عن هشام بن عروة) بن الزبير (عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أنه قالت: جاء عمي من الرضاعة) وهو أفلح أخو أبي القعيس (فاستأذن) أن يدخل (عليّ) حجرتي (فأبيت) أي فامتنعت (أن آذن له حتى أسأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فجاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسألته عن ذلك فقال):
(إنه عمك) من الرضاعة وعم الرضاع كعم النسب (فأذني له. قالت: فقلت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل) فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل (قالت: فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنه عمك) فألحق الرضاع بالنسب لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا فوجب أن يكون الرضاع منهما (فليلج) بالجيم فليدخل (عليك. قالت عائشة) -رضي الله عنها-: (وذلك بعد أن ضرب) بضم

(8/119)


الضاد المعجمة وكسر الراء ماض مبني للمفعول ولأبي ذر عن الحموي أن يضرب (علينا الحجاب) مضارع مبني للمفعول (قالت عائشة: يحرم من الرضاعة) مثل (ما يحرم من الولادة) أي من النسب.
وهذا الحديث سبق في أوائل النكاح.

118 - باب لاَ تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا
هذا (باب) بالتنوين (لا تباشر المرأة المرأة) بكسر راء تباشر مجزومًا على النهي كسر للساكنين ويجوز الضم (فتنعتها) أي فتصفها (لزوجها).
5240 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا». [الحديث 5240 - أطرافه في: 5241].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) بن واقد الفريابي من أهل خراسان سكن قيسارية من أرض الشام قال: (حدّثنا سفيان) الثوري أو هو ابن عيينة أو محمد بن يوسف هو البيكندي وسفيان هو ابن عيينة (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا تباشر المرأة المرأة) زاد في النسائي في الثوب الواحد (فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) خشية أن تعجبه إن وصفتها بحسن فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة والافتتان بالموصوفة أو بقبح فيكون غيبة.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في عِشرة النساء.
5241 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ
قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) قال: (حدّثنا أبي) قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران (قال: حدّثني) بالإفراد (شقيق) بن وائل بن سلمة (قال: سمعت عبد الله) يعني ابن مسعود (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا تباشر المرأة المرأة) في ثوب واحد (فتنعتها) فتصفها (لزوجها كأنه ينظر إليها) وزاد النسائي من طريق مسروق عن ابن مسعود: ولا الرجل الرجل، وهذه الزيادة عند مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد بأبسط من هذا ولفظه: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد، ففيه أنه يحرم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة، والرجل إلى عورة المرأة والمرأة إلى عورة الرجل بطريق الأولى. نعم يباح للزوجين أن ينظر كلٌّ منهما إلى عورة الآخر ولو إلى الفرج ظاهرًا وباطنًا لأنه محل تمتعه، لكن يكره نظر الفرج حتى من نفسه بلا حاجة والنظر إلى باطنه أشدّ كراهة. قالت عائشة -رضي الله عنها- ما رأيت منه ولا رأى مني أي الفرج، وحديث النظر إلى الفرج يورث الطمس أي العمى. رواه ابن حبان وغيره في الضعفاء، وخالف ابن الصلاح فقال: إنه جيد الإسناد، محمول على الكراهة كما قال الرافعي، واختلف في قوله يورث العمى فقيل في الناظر، وقيل في الولد وقيل في القلب والأمة كالزوجة. ولو نظر فرج صغيرة لا تشتهى جاز لتسامح الناس بنظر فرج الصغيرة إلى بلوغها سن التمييز ومصيرها بحيث يمكنها ستر عورتها عن الناس، وبه قطع القاضي وجزم في المنهاج بالحرمة لكن استثنى ابن القطان الأم زمن الرضاع والتربية للضرورة، أما فرج الصغير فيحل النظر إليه ما لم يميز كما صححه المتولي وجزم به غيره ونقله السبكي عن الأصحاب، ويحرم اضطجاع رجلين أو امرأتين في ثوب واحد إذا كانا عاريين لما ذكر من الحديث السابق، لكن تستثنى المصافحة بل تستحب لحديث أبي داود: ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا ويستثنى الأمرد الجميل الوجه فتحرم مصافحته ومن به عاهة كالأبرص والأجذم فتكره مصافحته كما قاله العبادي، وتكره المعانقة والتقبيل في الرأس والوجه ولو كان المقبّل أو المقبل صالحًا لحديث رواه الترمذي وحسنه ولفظه قال رجل: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: "لا"، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: "لا". قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: "نعم".
نعم يستحبان لقادم لحديث الترمذي وحسنه كتقبيل الطفل ولو ولد غيره شفقة لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبّل ابنه إبراهيم والحسن بن علي، وكتقبيل يد الحيّ لصلاح كما كانت الصحابة تفعله مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. نعم يكره ذلك لغناه ونحوه من الأمور الدنيوية

(8/120)


كشوكته ووجاهته لحديث: من تواضع لغني لغناه ذهب ثلثا دينه. وقد أورد البخاري هذا الحديث من طريقين الأولى بالعنعنة والثانية بالسماع، والظاهر أن قوله: فتنعتها من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خلافًا لما ذكر عن الداودي أنه من كلام ابن مسعود.

119 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِهِ
(باب قول الرجل لأطوفن) أي لأدورن (الليلة على نسائه) وفي نسخة على نسائي أي فأجامعهن.
5242 - حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ -: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِىَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمود) هو ابن غيلان قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة) بفتح الهمزة وضم الطاء بعدها واو ساكنة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي لأطيفن بضم الهمزة وكسر الطاء بعدها تحتية ساكنة (بمائة امرأة) أي أجامعهن (تلد كل امرأة) منهن (غلامًا يقاتل في سبيل الله) عز وجل، وفي الجهاد: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين بالشك ولا منافاة بين القليل والكثير إذ التخصيص بالعدد لا يمنع الزائد (فقال له الملك) جبريل أو غيره: (قل) لكونه نسي (إن شاء الله فلم يقل) إن شاء الله (ونسي) أن يقولها أي بلسانه وإلاّ فلم يغفل عن التفويض إلى الله بقلبه كما يقتضيه مقام النبوة (فأطاف بهن) أي جامعهن (ولم) بالواو (تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان. قال النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لو قال: إن شاء الله لم يحنث) قال السفاقسي: أي لم يتخلف مراده لأن الحنث لا يكون إلا عن يمين، ويحتمل أن يكون حلف أو نزل التأكيد المستفاد من قوله: لأطوفن منزلة اليمين، وهذا الأخير قاله ابن حجر. (وكان) قول إن شاء الله (أرجى لحاجته).
وهذا الحديث سبق في الجهاد.

120 - باب لاَ يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ، مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ
هذا (باب) بالتنوين (لا يطرق) أي الرجل الغائب (أهله ليلًا) تأكيد لأن الطروق لا يكون إلا ليلًا. نعم قيل إنه يقال أيضًا في النهار (إذا أطال الغيبة) قيد في الحكم المذكور (مخافة أن يخوّنهم) بفتح الخاء المعجمة وكسر الواو المشدّدة أي لأجل خوف تخوينه إياهم أي بنسبهم إلى الخيانة فنصب مخافة على التعليل وأن مصدرية (أو يلتمس) أي يطلب (عثراتهم) بالمثلثة بعد العين أي زلاّتهم قال السفاقسي: الصواب يتخونهن وزلاتهم بالنون فيهما. قال في الفتح: بل ورد في
الصحيح بالميم فيهما في صحيح مسلم وغيره وتوجيهه ظاهر كذا قال، ولم يبين وجهه إلا من جهة المروي وهو وإن كان قويًّا في الحجة لكن يبقى الوجه في العربية، ويحتمل أن يكون المراد بالأهل أعم من الزوجة فيشمل الأولاد مثلًا فعبّر بالميم تغليبًا.
5243 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا.
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا محارب بن دثار) بكسر الدال المهملة وتخفيف المثلثة السدوسي قاضي الكوفة (قال: سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكره أن يأتي الرجل أهله طروقًا) بضم الطاء إتيانًا في الليل من سفر أو غيره على غفلة. وفي حديث أنس عند مسلم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان لا يطرق أهله ليلًا وكان يأتيهم غدوة أو عشية، والعلة في ذلك أنه ربما يجد أهله على غير أهبة من التنظيف والتزين المطلوب من المرأة فيكون ذلك سببًا للنفرة بينهما أو يجدها على غير حالة مرضية والستر مطلوب بالشرع.
5244 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ، فَلاَ يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا عاصم بن سليمان) الأحول البصري (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (أنه سمع جابر بن عبد الله) الأنصاري رضي الله عنهما (يقول قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا أطال أحدكم الغيبة) عن أهله في سفر أو غيره (فلا يطرق أهله ليلًا) سبق أن ليلًا تأكيد والتقييد بطول الغيبة يفيد عدم النهي في قصيرها كمن يخرج لحاجة مثلًا نهارًا ويرجع ليلًا إذ لا يتأتى فيه ما في طويلها إذ هو مظنة وقوع المكروه فيما ذكر غالبًا، وفي رواية وكيع عن سفيان الثوري عن محارب عن جابر قال: نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن

(8/121)


يطرق الرجل أهله ليلًا يتخوّنهم أو يطلب عثراتهم، رواه مسلم، لكن اختلف في هذه الزيادة هل هي مدرجة؟ ومن ثم اقتصر البخاري على القدر المتفق على رفعه وساق الباقي في الترجمة، وقد أخرجه بهذه الزيادة النسائي من رواية أبي نعيم عن سفيان، ومسلم من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به، لكنه قال في آخره قال سفيان: لا أدري هذا في الحديث أم لا. والمعنى أنه إذا طرقهم ليلًا وهو وقت خلوة وانقطاع مراقبة الناس بعضهم لبعض كان ذلك سببًا لسوء ظن أهله به، وكأنه إنما قصدهم ليلًا ليجدهم على ريبة حتى توخى وقت غرتهم وغفلتهم، وعند أحمد والترمذي من طريق أخرى عن الشعبي عن جابر: لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وعند أبي
عوانة في صحيحه من حديث محارب عن جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلًا وعندها امرأة تمشطها فظنها رجلًا فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر ذلك للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا. وأخرج ابن خزيمة عن ابن عمر قال: نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يطرق النساء ليلًا فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره، وأخرج من حديث ابن عباس نحوه وقال فيه: فكلاهما وجد مع امرأته رجلًا.
وفي الحديث فوائد لا تخفى على متأمل، وأخرجه المؤلّف أيضًا ومسلم وأبو داود في الجهاد والنساني في عِشرة النساء.

121 - باب طَلَبِ الْوَلَدِ
(باب طلب) الرجل (الولد) بالاستكثار من الجماع لقصد ذلك لا الاقتصار على اللذة.
5245 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ سَيَّارٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا يُعْجِلُكَ»؟ قُلْتُ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ: «فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا»؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا قَالَ: «فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ». قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ فَقَالَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا. أَيْ عِشَاءً. لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ». وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا جَابِرُ يَعْنِي الْوَلَدَ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (عن هشيم) بضم الهاء وفتح الشين المعجمة ابن بشير الواسطي البلخي الأصل (عن سيار) بفتح السين المهملة وتشديد التحتية وبعد الألف راء ابن وردان أبي الحكم العنزي الواسطي (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن جابر) رضي الله عنه أنه (قال: كنت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة) هي غزوة تبوك (فلما قفلنا) رجعنا (تعجلت على بعير) لي (قطوف) أي بطيء (فلحقني راكب من خلفي) زاد في الباب اللاحق فنخس بعيري بعنزة كانت معه فسار بعيري كأحسن ما أنت راءٍ من الإبل (فالتفت فإذا أنا برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) لي:
(ما يعجلك)؟ أي ما سبب إسراعك (قلت: إني حديث عهد بعرس) أي قريب بناء بامرأة (قال) عليه الصلاة والسلام: (فبكرًا تزوجت) بنصب فبكرًا بتزوجت (أم) تزوجت (ثيبًا؟ قلت: بل) تزوّجت (ثيبًا) وفي بعض الأصول، قلت: لا بل ثيبًا بزيادة لا وعليه شرح في المصابيح ثم قال: فإن قلت: قول جابر لا بل ثيبًا ما وجهه ولم يتقدم له شيء يضرب عنه؟ وأجاب بأن معناه لِمَ لا تزوجت بكرًا وأضرب عنه وزاد لا توكيدًا لتقرير ما قبلها من النفي فقال لا بل ثيبًا انتهى.
(قال) عليه الصلاة والسلام (فهلا) تزوجت (جارية) بكرًا (تلاعبها وتلاعبك. قال) جابر: (فلما قدمنا ذهبنا لندخل) المدينة (فقال) عليه الصلاة والسلام (أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا أي عشاءً)
وهذا محمول على بلوغ خبرهم بالوصول فاستعدوا ليجمع بينه وبين النهي عن الطرق ليلًا. (لكي تمتشط الشعثة) بالمثلثة المنتشرة الشعر المغبرة الرأس (وتستحدّ المغيبة) بضم الميم وكسر المعجمة أي تستعمل الحديدة وهي الموسى في إزالة الشعر المشروع إزالته من غاب عنها زوجها.
(قال) أي هشيم كما قاله الإسماعيلي (وحدّثني) بالإفراد (الثقة) قال الكرماني: لم يصرح باسمه لأنه لعله نسيه وليس الجهل باسمه قادحًا لتصريحه بكونه ثقة (أنه قال في هذا الحديث. الكيس الكيس) بالتكرار مرتين والنصب على الإغراء أي فعليك بالجماع أو التحذير أي إياك والعجز عن الجماع (يا جابر) قال البخاري: (يعني) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله الكيس (الولد) فالمراد الحث على ابتغاء الولد يقال: أكيس الرجل إذا ولد له أولاد أكياس. وقال ابن الأعرابي: الكيس العقل كأنه جعل طلب الولد عقلًا، وفي رواية محمد بن إسحاق عند ابن خزيمة في صحيحه: فإذا قدمت فاعمل عملًا كيسًا وفيه

(8/122)


قال جابر: فدخلنا حين أمسينا فقلت للمرأة: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرني أن أعمل عملًا كيسًا. قالت: سمعًا وطاعة فدونك، قال: فبت معها حتى أصبحت.
5246 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَيَّارٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا فَلاَ تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ». قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ». تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْكَيْسِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن الوليد) بن عبد الحميد الملقب بحمدان قال: (حدّثنا محمد بن جعفر) غندر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سيار) أبي الحكم العنزي (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) له لما قفل من تبوك:
(إذا دخلت) المدينة (ليلًا فلا تدخل على أهلك حتى تستحدّ المغيبة) التي غاب عنها زوجها (وتمتشط الشعثة).
واستنبط منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة لئلا يطلع منها على ما يكون سببًا لنفرته منها.
(قال) جابر: (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فعليك بالكيس الكيس) أي اطلب الولد. وفي كتاب معاشرة الأهلين لأبي عمرو النوقاني عن محارب رفعه فقال: اطلبوا الولد والتمسوه فإنهم ثمرات القلوب وقرّة الأعين وإياكم والعاقر. قال في الفتح: وهو مرسل قوي الإسناد. (تابعه) أي تابع الشعبي (عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن عمر العمري فيما سبق موصولًا في أوائل البيوع. (عن وهب) هو ابن كيسان (عن جابر) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكيس) قال الحافظ ابن حجر: والمتابع في الحقيقة هو وهب لكنه نسب ذلك إلى عبيد الله لتفرده بذلك عن وهب.

122 - باب تَسْتَحِدُّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطُ الشَّعِثَةُ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة) أي تحلق التي غاب عنها زوجها بالحديد ما يشرع إزالته من الشعر وتسرح شعر رأسها الذي تغيّر وتفرّق وترجله وتتزين، وسقط الشعثة لغير أبي ذر.
5247 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا كُنَّا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَسَارَ بَعِيرِي كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ الإِبِلِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «مَا يعجلك»؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ: «أَتَزَوَّجْتَ»؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا»؟ قَالَ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا. قَالَ: «فَهَلاَّ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ». قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ. فَقَالَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا. أَيْ عِشَاءً. لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (يعقوب بن إبراهيم) الدورقي قال: (حدّثنا هشيم) بضم الهاء وفتح الشين المعجمة ابن بشير أبو معاوية السلمي الواسطي حافظ بغداد قال: (أخبرنا سيار) العنزي (عن الشعبي) عامر (عن جابر بن عبد الله) -رضي الله عنهما- أنه (قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة) أي غزوة تبوك (فلما قفلنا) بفتح القاف والفاء المخففة أي رجعنا (كنا قريبًا من المدينة تعجلت على بعير لي قطوف) بفتح القاف وضم الطاء المهملة وبعد الواو فاء أي بطيء السير (فلحقني راكب من خلفي فنخس بعيري بعنزة) بفتح العين والنون والزاي عصًا طويلة أقصر من الرمح (كانت معه فسار بعبري كأحسن ما أنت راءٍ من الإبل فالتفت فإذا أنا برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في النكاح (فقال):
(ما يعجلك؟ فقلت: يا رسول الله إني حديث عهد بعرس) بضم العين والراء وتسكن أي قريب البناء بامرأة (قال) عليه الصلاة والسلام (أتزوجت؟ قلت: نعم. قال: أ) تزوجت (بكرًا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: بكرًا بإسقاط أداة الاستفهام (أم) تزوجت (ثيبًا؟ قال) جابر: (قلت) يا رسول الله (بل) تزوجت (ثيبًا. قال) عليه الصلاة والسلام (فهلا) تزوجت (بكرًا تلاعبها وتلاعبك؟ قال) جابر: (فلما قدمنا) المدينة (ذهبنا لندخل) منازلنا (فقال) عليه الصلاة والسلام (أمهلوا حتى تدخلوا) على أهليكم (ليلًا أي عشاءً) جمع بينه وبين النفي في قوله في الروايات السابقة لا يطرق أهله ليلًا بأن الأمر في أول الليل والنهي في أثنائه أو الأمر لمن علم أهله بقدومه والحكمة في الإمهال (لكي تمتشط الشعثة وتستحدّ المغيبة) قال في القاموس: امرأة مغيب ومغيبة ومغيب كمحسن غاب زوجها.

123 - باب {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} -إِلَى قَوْلِهِ-: {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({ولا يبدين}) أي لا يظهرن المؤمنات ({زينتهن}) وهي ما تتزين به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، والمعنى ولا يظهرن مواضع الزينة إذ إظهار عين الزينة وهي الكحل ونحوه مباح فالمراد بها مواضعها أو إظهارها وهي في مواضعها ومواضعها الرأس والأذن والعنق والصدر والعضدان والذراع فهي الإكليل والقرط والقلادة والوشاح والدملج والسوار والخلخال، أو المراد بهذه الآية مواضع الزينة الباطنة كالصدر والساق ونحوهما ({إلا لبعولتهن}) أي لأزواجهن جمع بعل (إلى قوله) تعالى: ({لم يظهروا

(8/123)


على عورات النساء}) [النور: 31] أي لم يطلعوا لعدم الشهوة من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه وعبّر بالجمع في قوله لم يظهروا عن لفظ الطفل لأنه جنس.
5248 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ؟ فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: وَمَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَمُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَعَلِيٌّ يَأْتِي بِالْمَاءِ عَلَى تُرْسِهِ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَحُرِّقَ فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البغلاني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن أبي حازم) سلمة بن دينار أنه (قال: اختلف الناس بأي شيء دووي جرح رسول الله) ولغير أبي ذر دووي رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الذي جرحه بوجهه الشريف (يوم) وقعة (أُحُد فسألوا سهل بن سعد الساعدي وكان من آخر من بقي من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة) فيه احتراز عمن بقي من الصحابة بالمدينة كمحمود بن الربع ومحمود بن لبيد وبغير المدينة كأنس بن مالك بالبصرة (فقال) سهل (وما بقي من الناس) ولأبي ذر: ما بقي للناس (أحد أعلم به مني) أي بالذي دووي به جرحه عليه الصلاة والسلام وأكثر هذا التركيب يستعمل في نفي المثل أيضًا (كانت فاطمة عليها السلام تغسل الدم عن وجهه) المقدّس فيه المطابقة بين الحديث والآية من جهة كون فاطمة -رضي الله عنها- باشرت ذلك من أبيها صلوات الله عليه وسلامه فيطابق الآية من حيث إبداء المرأة زينتها لأبويها (و) كان (علي) -رضي الله عنه- (يأتي بالماء على ترسه فأخذ حصير) بضم الهمزة وكسر الخاء المعجمة (فحرق) بضم الحاء المهملة وتشديد الراء المكسورة وتخفف (فحشي به جرحه).
وهذا الحديث قد مرّ في كتاب الطهارة.

124 - باب {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ}
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى: ({والذين لم يبلغوا الحلم منكم}) [النور: 58]
والأطفال الذين لم يحتملوا من الأحرار والمراد بيان حكمهم بالنسبة إلى الدخول على النساء ورؤيتهم إياهن وسقط منكم لغير أبي ذر.
5249 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- سَأَلَهُ رَجُلٌ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعِيدَ، أَضْحًى أَوْ فِطْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ. لَوْلاَ مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلاَ إِقَامَةً. ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ يَدْفَعْنَ إِلَى بِلاَلٍ، ثُمَّ ارْتَفَعَ هُوَ وَبِلاَلٌ إِلَى بَيْتِهِ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) الملقب بمردويه السمسار المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن عبد الرحمن بن عابس) بالعين المهملة وبعد الألف موحدة مكسورة فسين مهملة النخعي الكوفي أنه قال: (سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما-) وقد (سأله رجل شهدت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العيد) استفهام محذوف الأداة (أضحى) بفتح الهمزة وسكون الضاد والتنوين (أو فطرًا؟ قال) ابن عباس: (نعم ولولا مكاني منه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ما شهدته يعني من صغره) فيه التفات أو ليس هذا من كلام ابن عباس ولأبي ذر عن الحموي من صغري وهو على الأصل. أي لولا منزلتي منه عليه الصلاة والسلام ما حضرت معه لأجل صغري وأراد بشهوده ما وقع من وعظه للنساء لأن الصغير يغتفر له الحضور معهن بخلاف الكبير. (قال) ابن عباس (خرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصلى) بالناس العيد (ثم خطب ولم يذكر) أي ابن عباس (أذانًا ولا إقامة ثم أتى النساء) لأنهن كن في ناحية عن الرجال (فوعظهن وذكرهن) بتشديد الكاف من التذكير تفسير لسابقه أو تأكيد له (وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين) بفتح الياء من الثلاثي ولأبي ذر بضمها من الرباعي بأيديهن (إلى آذانهن وحلوقهن يدفعن إلى بلال) الخواتيم والفتخ (ثم ارتفع) أي رجع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (هو وبلال إلى بيته) والغرض منه مشاهدة ابن عباس ما وقع من النساء حينئذ وكان صغيرًا فلم يحتجبن منه، وأما بلال فيحتمل أن لا يكون إذ ذاك يشاهدهن مسفرات.

125 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: هَلْ أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟ وَطَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِي الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ
(باب قول الرجل لصاحبه هل أعرستم الليلة)؟ كذا في الفرع وأصله لكن عليه علامة السقوط وفي رواية أبي ذر وقال في الفتح: إن ذلك زاده ابن بطال في شرحه، ثم قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدت هذه الزيادة في نسخة الصغاني مقدمة ولفظه باب قول الرجل إلى آخره وبعده (وطعن الرجل ابنته في الخاصرة عند العتاب) وهو عطف على قول الرجل مصدر مضاف إلى فاعله وابنته مفعوله.
5250 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: عَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) هو ابن أنس الإمام الأعظم (عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه) القاسم بن محمد بن أبي بكر التيمي (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت:

(8/124)


عاتبني أبو بكر) أي في قصة ضياع العقد وحبس الناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء (وجعل يطعنني) بضم العين (بيده في خاصرتي) فأدبها بالقول والفعل ولذا قالت: أبو بكر ولم تقل أبي لأن منزلة الأبوة تقتضي الحنوّ (فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورأسه على فخذي).
وهذا الحديث مطابق للجزء الثاني من الترجمة على ما لا يخفى ولم يذكر حديثًا يناسب الجزء الأول فقال في الفتح: إن الذي يظهر أنه أخلى بياضًا ليكتب فيه ما يناسبه. قال: وقد وقع في قصة أبي طلحة وأم سليم عند موت ولدهما وكتمها ذلك عنه حتى تعشى وبات معها فأخبرته بذلك فأخبر بذلك أبو طلحة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: أعرستم الليلة؟ قال: نعم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في أوائل العقيقة بعون الله وقوته.