شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

80 - كتاب الدعوات
قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(كتاب الدعوات) بفتح الدال والعين المهملتين جمع دعوة بفتح أوله مصدر يراد به الدعاء يقال دعوت الله أي سألته (قوله) بالرفع على الاستئناف ولأبي ذر: وقول الله (تعالى) بالجرّ عطفًا على السابق {ادعوني أستجب لكم} لما كان من أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع أمر الله تعالى به فضلاً وكرمًا وتكفل لهم بالإجابة، وعن سفيان الثوري فيما رواه ابن أبي حاتم أنه كان يقول: يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله وليس أحد كذلك غيرك يا رب وفي معناه قال القائل:
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وترى ابن آدم حين يسأل يغضب
وفي حديث أنس بن مالك عند أبي يعلى في مسنده عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما يروي عن ربه عز وجل وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الإِجابة.
وفي حديث النعمان بن بشير عند الإِمام أحمد مرفوعًا: إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {ادعوني أستجب لكم} الآية. ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة.
وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: من لم يدع الله غضب الله عليه، رواه أحمد منفردًا به بإسناد لا بأس به، وقيل المراد بقوله: ({ادعوني أستجب لكم}) الأمر بالعبادة بدليل قوله بعد: ({إن الدين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}) [غافر: 60] صاغرين ذليلين والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله: {إن يدعون من دونه إلاّ إناثًا} [النساء: 117] وأجاب الأوّلون
بأن هذا ترك للظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل وقال العلامة تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك عن عبادتي فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارًا ومن فعل ذلك كفر اهـ.
وتخلف الدعاء عن الإِجابة إنما هو لفقد شرطه، وفي قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 65] إشارة إلى أن من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله أو جاهه أو أصدقائه أو اجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله إلاّ باللسان، وأما القلب فإنه يعوّل في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، وأما إذا دعا الله تعالى في وقت لا يكون القلب فيه متلفتًا إلى غير الله فالظاهر أنه يستجاب له.
واستشكل حديث من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين المقتضي لأفضلية ترك الدعاء حينئذ مع الآية المقتضية للوعيد الشديد على تركه. وأجيب: بأن العقل إذا كان مستغرقًا في الثناء كان أفضل من الدعاء لأن الدعاء طلب الجنة والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من الجنة أما إذا لم يحصل الاستغراق كان الاشتغال بالدعاء أولى لأن الدعاء يشتمل على معرفة عز الربوبية وذل العبودية والصحيح استحباب الدعاء، ورجح بعضهم تركه استسلامًا للقضاء، وقيل: إن دعا لغيره فحسن وإن خصّ نفسه فلا، وقيل: إن وجد في نفسه باعثًا للدعاء استحب وإلاّ فلا، وسقط لأبي ذر قولها {إن الذين يستكبرون} الخ، وقال بدله الآية.

1 - باب وَلِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
(ولكل نبي) ولأبي ذر باب بالتنوين لكل نبي (دعوة مستجابة).
6304 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى فِى الآخِرَةِ» [الحديث 6304 - طرفه في: 7474].
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لكل نبي دعوة يدعو) ولأبي ذر: دعوة مستجابة يدعو (بها) أي بهذه الدعوة على أمته مقطوع فيها بالإِجابة وما عداها على رجاء الإِجابة (وأريد أن أختبئ) بخاء معجمة ساكنة وفوقية مفتوحة فموحدة مكسورة فهمزة أي أدّخر (دعوتي) المقطوع

(9/173)


بإجابتها (شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجاتهم وهذا من كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في أحوالهم جزاه الله عنا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته وصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرًا دائمًا أبدًا.
والحديث من أفراده.
6305 - وَقَالَ مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِى، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كُلُّ نَبِىٍّ سَأَلَ سُؤْلاً» أَوْ قَالَ: «لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فَاسْتُجِيبَ فَجَعَلْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
(وقال معتمر): هو ابن سليمان التيمي ولغير أبي ذر وقال لي خليفة هو ابن خياط قال معتمر: (سمعت أبي) سليمان (عن أنس) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(كل في سأل سؤلاً) بضم السين وسكون الهمزة مطلوبًا (أو قال لكل نبي دعوة) في حق أمته والشك من الراوي (قد دعا بها فاستجيب) له في الدنيا وفي نسخة فاستجيبت بزيادة تاء التأنيث الساكنة آخره (فجعلت دعوتي) المجابة جزمًا (شفاعة لأمتي يوم القيامة). قال ابن الجوزي رحمه الله: هذا من حسن تصرفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث اختار أن تكون فيما يبقى ومن كثرة كرمه أن آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره أن جعلها للمذنبين لكونهم أحوج إليها من الطائعين.
والحديث رواه مسلم موصولاً.

2 - باب أَفْضَلِ الاِسْتِغْفَارِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10].
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [نوح: 10].
(باب) بيان (أفضل الاستغفار) الاستغفار استفعال من الغفران وأصله من الغفر وهو إلباس الشيء بما يصونه من الدنس، ومنه قيل اغفر ثوبك في الوعاء فإنه أغفر للوسخ والغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب، وسقط لفظ باب لأبي ذر فأفضل رفع وإلاّ فضل الأكثر ثوابًا عند الله فالثواب للمستغفر لا للاستغفار فهو نحو: مكة أفضل من المدينة أي ثواب العابد فيها أفضل من ثواب العابد في المدينة فالمراد المستغفر بهذا النوع من الاستغفار أكثر ثوابًا من المستغفر بغيره قاله في الكواكب.
(وقوله تعالى): بالجر عطفًا على المجرور قبله ({استغفروا ربكم}) أي سلوه المغفرة لذنوبكم بإخلاص الإِيمان ({إنه كان غفارًا}) أي يزل غفار الذنوب من ينيب إليه ({يرسل السماء}) المطر قال:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
أو فيه إضمار أي يرسل ماء السماء. ({عليكم مدرارًا}) يحتمل أن يكون حالاً من السماء
ولم يؤنث لأن مفعالاً يستوي فيه المذكر والمؤنث فتقول: رجل مخدام ومطراب وامرأة مطراب ومخدام وأن يكون نعتًا لمصدر محذوف أي إرسالاً مدرارًا، وجزم يرسل جوابًا للأمر ومعنى مدرارًا ذا غيث كثير ({ويمددكم بأموال وبنين}) يزدكم أموالاً وبنين ({ويجعل لكم جنات}) بساتين ({ويجعل لكم أنهارًا}) [نوح: 10 - 12] جارية لمزارعكم وبساتينكم قال مقاتل: لما كذبوا نوحًا عليه السلام زمانًا طويلاً حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت مواشيهم وزروعهم فساروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به فقال: {استغفروا ربكم إنه كان غفارًا} [نوح: 10]. وفي هذه الآية دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والمطر. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت. فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ثم قرأ: {استغفروا ربكم إنه كان غفارًا} إلى آخر ذلك، وشكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال: استغفر الله وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدًا فقال له استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله فقلنا له في ذلك فقال: ما قلت من عندي شيئًا إن الله تعالى يقول في سورة نوح: {استغفروا ربكم} إلى آخر ذلك. وسياق الآية إلى آخر قوله: {أنهارًا} لغير رواية أبي ذر وله إلى قوله: {غفارًا} ثم قال: الآية.
({والذين إذا فعلوا فاحشة}) فعلة متزايدة القبح خارجة عما أذن الله فيه أو الفاحشة الزنا ({أو ظلموا أنفسهم}) باكتساب أيّ ذنب كان مما يؤاخذ الإنسان به أو الفاحشة الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة كالقبلة واللمسة والنظرة، وقيل فعلوا فاحشة فعلاً أو ظلموا أنفسهم قولاً ({ذكروا الله}) بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة أو ذكروا وعبد الله أو عقابه فهو من باب حذف

(9/174)


المضاف أو ذكروا العرض الأكبر على الله ({فاستغفروا لذنوبهم}) فتابوا عنها لقبحها نادمين على فعلها، وهذا حقيقة التوبة فأما الاستغفار باللسان فلا أثر له في إزالة الذنب، وقوله لذنوبهم أي لأجل ذنوبهم: ({ومن يغفر الذنوب إلا الله}) من مبتدأ ويغفر خبره وفيه ضمير يعود إلى من وإلاّ الله بدل من الضمير في يغفر والاستفهام بمعنى النفي، والتقدير ولا أحد يغفر الذنوب إلا الله وفيه تطييب لنفوس العباد وتنشيط للتوبة وبعث عليها وردع عن اليأس والقنوط وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته من التائب وإشعار بأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم، وفي إسناده غفران الذنوب إلى نفسه المقدسة سبحانه وإثباته لذاته المقدسة بعد وجود الاستغفار وتنصل عبيده دلالة على وجوب ذلك قطعًا بحسب الوعد الذي لا خلف له ({ولم يصروا على ما فعلوا}) جملة حالية من فاعل استغفروا أي استغفروا غير مصرين أو الجملة منسوقة على فاستغفروا أي: ترتب على فعلهم الفاحشة ذكر الله تعالى والاستغفار لذنوبهم وعم الإِصرار عليها، وتكون الجملة من قوله: ({ومن يغفر الذنوب إلا الله}) على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني وبين الحال وذي الحال على الأول والمعنى ولم يقيموا على قبيح فعلهم ({وهم يعلمون}) [آل عمران: 135] حال من فاعل استغفروا أو من فاعل يصروا أي ولم يصروا على ما فعلوا من
الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بالحرمة فلا يعذر ومفعول يعلمون محذوف للعلم به تقديره يعلمون أن الله يتوب على من تاب أو تركه أولى أو أنها معصية أو أن الإصرار ضار أو أنهم إذا استغفروا غفر لهم، وسقط لأبي ذر من قولها {ذكروا الله} الخ وقال الآية بدل ذلك.
6306 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ الْعَدَوِىِّ، قَالَ: حَدَّثَنِى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِى فَاغْفِرْ لِى فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج التيمي المقعد المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد قال: (حدّثنا الحسين) بضم الحاء ابن ذكوان المعلم قال: (حدّثنا عبد الله بن بريدة) بضم الموحدة ابن الحصيب الأسلمي أبو سهل المروزي قاضيها (عن بشير بن كعب) بضم الموحدة وفتح المعجمة (العدوي) ولأبي ذر قال: حدثني بالإفراد بشير بن كعب العدوي (قال: حدثني) بالإفراد (شداد بن أوس) الأنصاري (-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال:
(سيد الاستغفار) ترجم البخاري بالأفضلية، والحديث بلفظ السيادة فكأنه كما في الفتح أشار إلى أن المراد بالسيادة الأفضلية والسيد هنا مستعار من الرئيس المقدم الذي يعتمد عليه في الحوائج ويرجع إليه في الأمور كهذا الدعاء الذي هو جامع لمعاني التوبة كلها (أن تقول) بصيغة المخاطب في الفرع. وقال في الفتح: أن يقول العبد وثبت في رواية أحمد والنسائي: إن سيد الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني) كذا في الفرع وأصله أنت مرة واحدة. وقال الحافظ ابن حجر: أنت أنت بالتكرير مرتين وسقطت الثانية من معظم الروايات (وأنا عبدك) قال في شرح المشكاة: يجوز أن تكون حالاً مؤكدة وأن تكون مقدرة أي أنا عابد لك كقوله تعالى: {وبشرناه بإسحق نبيًّا من الصالحين} [الصافات: 112] وينصره عطف قوله: (وأنا على عهدك ووعدك) أي ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك (ما استطعت) من ذلك. وفيه إشارة إلى الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى. وقد يكون المراد كما قاله ابن بطال بالعهد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم {ألست بربكم} [الأعراف: 172] فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية وبالوعد كما قال
على لسان نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن من مات لا يشرك بالله شيئًا وأدى ما افترض عليه أن يدخله الجنة. (أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء) بضم الموحدة وسكون الواو بعدها همزة ممدودًا أعترف (لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي) أعترف به أو أحمله برغمي فلا أستطيع صرفه عني، ولأبي ذر عن الكشميهني وأبوء لك بذنبي (اغفر لي) ولأبي ذر

(9/175)


فاغفر لي بزيادة فاء (فإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت).
قال في شرح المشكاة: اعترف أولاً بأنه أنعم عليه ولم يقيده ليشمل كل النعم، ثم اعترف بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها وعدّه ذنبًا مبالغة في التقصير وهضم النفس اهـ.
قال في الفتح: ويحتمل أن يكون قوله: وأبوء لك بذنبي اعترافًا بوقوع الذنب مطلقًا ليصح الاستغفار منه لا أنه عدّ ما قصر فيه من أداء النعم ذنبًا. (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ومن قالها) أي الكلمات (من النهار موقنًا) مخلصًا (بها) من قلبه مصدقًا بثوابها (فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة) الداخلين لها ابتداء من غير دخول النار لأن الغالب أن المؤمن بحقيتها المؤمن بمضمونها لا يعصي الله تعالى أو أن الله يعفو عنه ببركة هذا الاستغفار قاله في الكواكب. (ومن قالها من الليل وهو موقن) مخلص (بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة) ويحتمل أن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له به ذنوبه.
وقال في بهجة النفوس: من شروط الاستغفار صحة النية والتوجه والأدب فلو أن أحدًا حصل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخلّ بالشروط هل يتساويان؟ والذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة قال: وقد جمع هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى سيد الاستغفار ففيه الإِقرار لله وحده بالإلهية والعبودية والاعتراف بأنه الخالق والإِقرار بالعهد الذي أخذه عليه والرجاء بما وعده به والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه وإضافة النعماء إلى موجدها إضافة الذنب إلى نفسه ورغبته في المغفرة واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو وفي ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة وأن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى اهـ.
وقال في الكواكب: لا شك أن في الحديث ذكر الله تعالى بأكمل الأوصاف وذكر العبد نفسه بأنقص الحالات وهي أقصى غاية التضرع ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو، أما الأول فلما فيه من الاعتراف بوجود الصانع وتوحيده الذي هو أصل الصفات العدمية المسماة بصفات الجلال والاعتراف بالصفات السبعة الوجودية المسماة بصفات الإكرام وهي القدرة اللازمة من الخلق الملزومة للإرادة والعلم والحياة والخامسة الكلام اللازم من الوعد والسمع والبصر اللازمان من المغفرة إذ المغفرة للمسموع والمبصر لا يتصور إلا بعد السماع والإِبصار، وأما الثاني فلما فيه أيضًا من الاعتراف بالعبودية وبالذنوب في مقابلة النعمة التي تقتضي نقيضها وهو الشكر انتهى.
والحديث أخرجه النسائي في الاستعاذة وفي اليوم والليلة.

3 - باب اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
(باب) مقدار (استغفار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في اليوم والليلة).
6307 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «وَاللَّهِ إِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (قال: قال أبو هريرة) -رضي الله عنه- (سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(والله إني لأستغفر الله وأتوب) زاد أبو ذر عن الكشميهني إليه (في اليوم أكثر من سبعين مرة) أي أفعل ذلك الاستغفار إظهارًا للعبودية وافتقارًا لكرم الربوبية أو تعليمًا منه لأمته أو من ترك الأولى أو قاله تواضعًا أو أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما كان دائم الترقي في معارج القرب كان كلما ارتقى درجة ورأى ما قبلها دونها استغفر منها، لكن قال في الفتح: إن هذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقًا بحسب تعدد الأحوال وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك، وفي حديث أنس: إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة والتعبير بالسبعين قيل هو على ظاهره، وقيل المراد التكثير والعرب تضع السبع والسبعين والسبعمائة موضع الكثرة، وقوله في حديث الباب أكثر مبهم يحتمل أن يفسر بحديث أبي هريرة لأستغفر الله في اليوم مائة مرة، وفي حديث الأعزّ عند مسلم

(9/176)


مرفوعًا "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة".
وقد ذكروا في الغين وجوهًا ذكرت منها جملة في كتابي المواهب وأحق من يعبر عن هذا أو يعرب كما قال في شرح المشكاة مشايخ الصوفية الذين نازل الحق أسرارهم ووضع الذكر أوزارهم قال: ومن كلمات شيخنا شيخ الإسلام أبي حفص السهروردي: لا ينبغي أن يعتقد أن الغين نقص في حاله صلوات الله عليه وسلامه بل كمال أو تتمة كمال، وهذا سر دقيق لا ينكشف إلا بمثال وهو أن الجفن المسبل على حدقة البصر وإن كانت صورته صورة نقصان من حيث هو إسبال وتغطية على ما من شأنه أن يكون باديًا مكشوفًا فإن المقصود من خلق العين إدراك المدركات الحسية وذلك لا يتأتى إلا بانبعاث الأشعة الحسية من داخل العين واتصالها بالمرئيات على مذهب قوم وبانطباع صور المدركات في الكرة الجليدية على مذهب آخر فكيفما قدر لا يتم المقصود إلا بانكشاف العين عما يمنع من انبعاث الأشعة عنها، ولكن لما كان الهواء المحيط بالأبدان الحيوانية قلما يخلو من الأغبرة الثائرة بحرة الرياح فلو كانت الحداقة دائمة الانكشاف لاستضرب بملاقاتها وتراكمها عليها فأسبلت أغطية الجفون وقاية لها ومصقلة لتنصقل الحدقة بسبال الأهداب ورفعها لخفة حركة الجفن فيدوم جلاؤها ويحتدّ نظرها، فالجفن وإن كان نقصًا ظاهرًا فهو كمال حقيقة
فهكذا لم تزل بصيرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معترضة لأن تصدأ بالأغبرة الثائرة من أنفاس الأغيار فلا جرم دعت الحاجة إلى إسبال جفن من الغين على حدقة بصيرته سترًا لها ووقاية وصقالاً عن تلك الأغبرة المثارة برؤية الأغيار وأنفاسها، فيصح أن الغين إن كانت صورته نقصًا فمعناه كمال وصقال حقيقة، ثم قال أيضًا: إن روح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم تزل في الترقي إلى مقامات القرب مستتبعة للقلب في رقيها إلى مركزها وهكذا القلب كان يستتبع نفسه الزكية ولا خفاء أن حركة الروح والقلب أسرع وأتمّ من نهضة النفس وحركتها فكانت خطى النفس تقصر عن مدى الروح والقلب في العروج والولوج في حرم القرب ولحوقها بهما فاقتضت العواطف الربانية على الضعفاء من الأمة إبطاء حركة القلب بلقاء الغين عليه لئلا يسرع القلب ويسرح في معارج الروح ومدارجها فتنقطع علاقة النفس عنه لقوة الانجذاب فتبقي العباد مهملين محرومين عن الاستنارة بأنوار النبوة والاستضاءة بمشكاة مصباح الشريعة، وحيث كان يرى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إبطاء القلب بالغين الملقى عليه وقصور النفس عن شأو ترقي الروح إلى الرفيق الأعلى كان يفزع إلى الاستغفار إذ لم تف قواها في سرعة اللحوق بها، وهذا من أعز مقول في هذا المعنى وأحسن مشروح فيه.

4 - باب التَّوْبَةِ
قَالَ قَتَادَةُ: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}: [التحريم: 8]: الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ.
(باب التوبة) سقط لفظ باب لأبي ذر فالتوبة رفع وهي في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه والعزم على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتداركه من الأعمال بالأعمال بالإِعادة وردّ الظلامات لذويها أو تحصيل البراءة منهم، وزاد عبد الله بن المبارك: إن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيذيبه بالهم والحزن حتى ينشأ له لحم طيب وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذة المعصية اهـ.
والتوبة أهم قواعد الإِسلام وهي أول مقامات سالكي الآخرة وبها سعادة الأبد.
(قال): ولأبي ذر: وقال (قتادة) فيما وصله عبد بن حميد في تفسير قوله تعالى: ({توبوا إلى الله توبة نصوحًا}) [التحريم: 8] أي (الصادقة الناصحة) وقيل هي التي لا عود بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقيل الخالصة وقال الحسن: النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره وقيل نصوحًا من نصاحة الثوب أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضاها، وسقط توبوا إلى الله لأبي ذر.
6308 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ، يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى
ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ» فَقَالَ: بِهِ هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ ثُمَّ قَالَ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِى فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ». تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَجَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ وَقَالَ شُعْبَةُ: وَأَبُو مُسْلِمٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي. الكوفي قال: (حدّثنا أبو

(9/177)


شهاب) عبد ربه بن نافع الحناط بالحاء المهملة والنون المشددة وبعد الألف مهملة الصغير لا الكبير (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن عمارة بن عمير) بضم العين فيهما والثاني مصغر التيمي من بني تيم اللات بن ثعلبة الكوفي (عن الحارث بن سويد) التيمي أيضًا التابعي الكبير كالسابقين لكن أولهما صغير من صغارهم والذي بعده من أوساطهم: (حدّثنا عبد الله بن مسعود) وسقط لغير أبي ذر ابن مسعود -رضي الله عنه- (حديثين أحدهما عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والآخر عن نفسه قال): وهو الحديث الموقوف.
(إن المؤمن يرى ذنوبه) مفعول يرى الثاني محذوف أي كالجبال بدليل قوله في الآخر كذباب مرّ أو هو قوله (كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه) لقوّة إيمانه وشدة خوفه فلا يأمن العقوبة بسبب ذنوبه والمؤمن دائم الخوف والمراقبة يستصغر عمله الصالح ويخاف من صغير عمله (وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب) بالمعجمة الطير المعروف (مرّ على أنفه) فلا يبالي به لاعتقاده عدم حصول كبير ضرر بسببه (فقال به) بالذباب (هكذا) أي نحاه بيده أو دفعه وهو من إطلاق القول على الفعل، فالفاجر لقلة عمله يقل خوفه فيستهين بالمعصية ودل التمثيل الأول على غاية الخوف والاحتراز من الذنوب والثاني على نهاية قلة المبالاة والاحتفال بها.
(قال أبو شهاب): الحناط المذكور بالسند السابق في تفسير قوله: فقال به أي (بيده فوق أنفه) والتعبير بالذباب لكونه أخف الطير وأحقره ولأنه يدفع بالأقل وبالأنف للمبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده لأن الذباب قلما ينزل على الأنف، وإنما يقصد غالبًا العين وباليد تأكيدًا للخفة.
(ثم) قال ابن مسعود (قال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(لله) بلام التأكيد المفتوحة (أفرح) أرضى (بتوبة عبده) وأقبل لها والفرح المتعارف في نعوت بني آدم غير جائز على الله تعالى لأنه اهتزاز طرب يجده الشخص في نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه أو يسدّ به خلته أو يدفع به عن نفسه ضررًا أو نقصًا، وإنما كان غير جائز
عليه تعالى لأنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور وإنما معناه الرضا والسلف فهموا منه ومن أشباهه ما وقع الترغيب فيه من الأعمال والإِخبار عن فضل الله، وأثبتوا هذه الصفات له تعالى ولم يشتغلوا بتفسيرها مع اعتقادهم تنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين، وأما من اشتغل بالتأويل فله طريقان: أحدهما أن التشبيه مركب عقلي من غير نظر إلى مفردات التركيب بل تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع وهي غاية الرضا ونهايته، وإنما أبرز ذلك في صورة التشبيه تقرير المعنى الرضا في نفس السامع وتصويرًا لمعناه وثانيهما تمثيلي وهو أن يتوهم للمشبه الحالات التي للمشبه به وينتزع له منها ما يناسبه حالة حالة بحيث لم يختلط منها شيء، والحاصل أن إطلاق الفرح في حقه تعالى مجاز عن رضاه وقد يعبر عن الشيء بسببه أو عن ثمرته الحاصلة عنه فإن من فرح بشيء جاد لفاعله بما سأل وبذل له ما طلب فعبّر عن عطائه تعالى وواسع كرمه بالفرح، وزاد الإِسماعيلي بعد قوله عبد المؤمن وكذا عند مسلم، ولأبي ذر: لله أفرح بتوبة العبد (من رجل نزل منزلاً) بكسر الزاي في الثاني (وبه) أي بالمنزل، وعند الإِسماعيلي بدوية بموحدة مكسورة فدال مفتوحة فواو مكسورة فتحتية مشددة مفتوحة فهاء تأنيث، وهو كذا عند مسلم والسنن أي مقفرة (مهلكة) بفتح الميم واللام تهلك سالكها أو من حصل فيها، وفي بعض النسخ كما في الفتح مهلكة بضم الميم وكسر اللام من مزيد الرباعي أي تهلك هي من حصل بها، وفي مسلم في أرض دوية مهلكة (ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ) من نومه (وقد ذهبت راحلته) فخرج في طلبها (حتى اشتدّ) ولأبي ذر: حتى إذا اشتدّ (عليه الحرّ والعطش أو ما شاء الله) شك من أبي شهاب قاله في الفتح وفي رواية أبي معاوية حتى إذا أدركه الموت (قال: أرجع إلى مكاني)

(9/178)


بقطع الهمزة الذي كنت فيه فأنام (فرجع) إليه (فنام نومة ثم رفع رأسه) بعد أن استيقظ (فإذا راحلته عنده) عليها زاده طعامه وشرابه كذا في رواية عند مسلم. (تابعه) أي تابع أبا شهاب الحناط (أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري فيما وصله الإِسماعيلي (و) تابعه أيضًا (جرير) بفتح الجيم فيما وصله البزار (عن الأعمش) سليمان بن مهران.
(وقال أبو أسامة): حماد بن أسامة فيما وصله مسلم (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال: (حدّثنا عمارة) بن عمير (قال: سمعت الحارث بن سويد) يعني عن ابن مسعود بالحديثين، ومراده كما في الفتح أن هؤلاء الثلاثة وافقوا أبا شهاب في إسناد هذا الحديث إلا أن الأولين عنعناه.
(وقال شعبة) بن الحجاج: (وأبو مسلم) بضم الميم وسكون المهملة زاد أبو ذر عن المستملي اسمه عبيد الله بضم العين ابن سعيد بن مسلم كوفيّ قائد الأعمش سليمان وقد ضعفه جماعة لكن لما وافقه شعبة أخرج له البخاري، وقال في تاريخه: في حديثه نظر (عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد) أي عن ابن مسعود ففيه أن شعبة وأبا مسلم خالفًا أبا شهاب الحناط ومن وافقه في تسمية شيخ الأعمش فقال الأوّلون: عمارة وقال هذان: إبراهيم التيمي.
(وقال أبو معاوية) محمد بن خازم بالمعجمتين (حدّثنا الأعمش) سليمان (عن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم ابن عمير (عن الأسود) بن يزيد النخعي (عن عبد الله) أي ابن مسعود وغرض المؤلف الإعلام بأن أبا معاوية خالف الجميع فجعل الحديث عن الأعمش عن عمارة بن عمير (وعن إبراهيم التيمي) جميعًا لكنه عند عمارة عن الأسود بن يزيد وعند إبراهيم التيمي (عن الحارث بن سويد عن عبد الله) يعني ابن مسعود وأبو شهاب ومن تبعه جعلوه عند عمارة عن الحارث بن سويد. قال في الفتح: ورواية أبي معاوية لم أقف عليها في شيء من السنن والمسانيد على هذين الوجهين ثم قال: وفي الجملة فقد اختلف فيه عمارة في شيخه هل هو الحارث بن سويد أو الأسود واختلف على الأعمش في شيخه هل هو عمارة أو إبراهيم التيمي، والراجح من الاختلاف كله ما قاله أبو شهاب ومن تبعه ولذا اقتصر عليه مسلم وصدر به البخاري كلامه فأخرجه موصولاً وذكر الاختلاف معلقًا كعادته في الإِسناد للإشارة إلى أن مثل هذا الاختلاف غير قادح والله أعلم.

(تنبيه).
قوله: حدّثنا عبد الله حديثين أحدهما عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والآخر عن نفسه أي نفس ابن مسعود ولم يصرح بالمرفوع. قال النووي: قالوا المرفوع لله أفرح الخ والأوّل قول ابن مسعود وكذا جزم ابن بطال بأن الأول هو الموقوف، والثاني هو المرفوع قال الحافظ ابن حجر: وهو كذلك.
6309 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ح. وَحَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِى أَرْضِ فَلاَةٍ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني بالإفراد (إسحاق) هو ابن منصور كما قال: الجياني ولفظه يحتمل أن يكون ابن منصور فإن مسلمًا أخرج عن إسحاق بن منصور عن حبان حديثًا غير هذا وقوّاه الحافظ ابن حجر بما في باب البيعان بالخيار في رواية أبي علي بن شبويه حدّثنا إسحاق بن منصور حدّثنا حبان فذكر حديثًا غير هذا قال: (أخبرنا حبان) بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة ابن هلال الباهلي البصري قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (همام) بفتح الهاء وتشديد الميم الأولى ابن يحيى قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة ولأبي ذر عن قتادة قال: (حدّثنا أنس بن مالك) -رضي الله عنه- وسقط لأبي ذر ابن مالك (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال البخاري (ح):
(وحدّثنا) ولأبي ذر: وحدثني بالإفراد (هدبة) بن خالد قال: (حدّثنا همام) قال: (حدّثنا قتادة عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(الله) بهمزة وصل (أفرح) أرضى (بتوبة عبده) وهو من باب التمثيل كما مرّ وهو أن يشبه الحال الحاصلة بتنجيز الرضا والإِقبال على العبد التائب بحال من كان في المفازة على الصورة
المذكورة في الحديث ثم يترك المشبه ويذكر المشبه به، وفي مسلم من رواية أبي هريرة وغيره: لله أفرح بتوبة عبده المؤمن

(9/179)


(من أحدكم سقط على بعيره) أي صادفه وعثر عليه من غير قصد فظفر به (وقد أضله) ذهب منه بغير قصده (في أرض فلاة) بالإِضافة أي مفازة ليس فيها ما يؤكل ولا ما يشرب. قال في الفتح: إلى هنا انتهت رواية قتادة. وزاد إسحاق بن أبي طلحة عن أنس فيه عند مسلم فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها فنام فبينما هو كذلك إذا بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال: من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح، وفيه كما قال القاضي عياض: إن مثل هذا إذا صدر في حال الدهشة والذهول لا يؤاخذ به الإِنسان وكذا حكايته عنه على وجه العلم أو الفائدة الشرعية لا على سبيل الهزء والعبث والله تعالى بمنه وكرمه يعافينا من كل مكروه.

5 - باب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ
(باب) استحباب (الضجع) بفتح المعجمة وسكون الجيم (على الشق الأيمن) بكسر الشين المعجمة.
6310 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها- قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَجِىءَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدثني (عبد الله بن محمد) المسند قال: (حدّثنا هشام بن يوسف) الصنعاني قاضيها قال: (أخبرنا معمر) بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة ابن راشد عالم اليمن (من الزهري) محمد بن مسلم (عن عروة) بن الزبير (من عائشة رضي الله عنها) أنها (قالت: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلّي من الليل إحدى عشرة ركعة فإذا طلع الفجر صلّى ركعتين خفيفتين) سنة الفجر (ثم اضطجع على شقه الأيمن) لأنه كان يحب التيمن (حتى يجيء المؤذن فيؤذنه) بسكون الواو وكسر الذال المعجمة مخففة يعلمه بصلاة الصبح قال في الكواكب فإن قلت: ما وجه تعلق هذا بكتاب الدعوات؟ وأجاب بأنه يعلم من سائر الأحاديث أنه كان عليه الصلاة والسلام يدعو عند الاضطجاع، وقال في الفتح: وذكر المصنف هذا الباب والذي بعده توطئة لما يذكره بعدهما من القول عند النوم اهـ.
والحديث أخرجه في أبواب الوتر.

6 - باب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه الشخص (إذا بات طاهرًا) ولأبي ذر زيادة وفضله.
6311 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ
قَالَ: حَدَّثَنِى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، وَقُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ»؟ فَقُلْتُ: أَسْتَذْكِرُهُنَّ وَبِرَسُولِكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ قَالَ: «لاَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا معتمر) هو ابن سليمان (قال: سمعت منصورًا) هو ابن المعتمر (عن سعد بن عبيدة) بسكون العين في الأول وضمها في الثاني وآخره تأنيث الكوفي قال: (حدثني) بالإفراد (البراء بن عازب -رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال رسول الله) ولأبي ذر والأصيلي قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا أتيت مضجعك) بفتح الجيم إذا أردت أن تأتي موضع نومك (فتوضأ وضوءك) كوضوئك (للصلاة) والأمر للندب لئلا يأتيه الموت بغتة فيكون على هيئة كاملة قال مجاهد: قال لي ابن عباس: لا تبيتن إلا على وضوء فإن الأرواح تبعث على ما قبضت عليه. رواه عبد الرزاق بسند رجاله ثقات إلا يحيى القتات وهو صدوق فيه كلام ولتصدق رؤياه وليكون أبعد من تلاعب الشيطان به (ثم اضطجع على شقك) بكسر الشين المعجمة جانبك (الأيمن) لأنه أسرع للاستيقاظ لتعلق القلب إلى جهة اليمين فلا يثقل بالنوم (وقل اللهم أسلمت نفسي إليك) ولأبي ذر وجهي بدل نفسي قيل ذاتي أي جعلت نفسي منقادة لك تابعة لحكمك إذ لا قدرة لي على تدبيرها ولا على جلب ما ينفعها إليها ولا على دفع ما يضرها عنها (وفوّضت أمري إليك) أي توكلت عليك في أمري كله لتكفيني همه وتتولى صلاحه (وألجأت ظهري إليك) أي اعتمدت في أموري عليك لتعينني على ما ينفعني لأن من استند إلى شيء تقوّى به (رهبة) خوفًا من أليم عقابك (ورغبة إليك) أي طمعًا في رفدك وثوابك وهما متعلقان بالإِلجاء وأسقط من مع ذكر الرهبة وأعمل إلى مع ذكر الرغبة على طريق الاكتفاء (لا ملجأ) بالهمز أي لا مهرب (ولا منجى) بالقصر لا مخلص (منك (لا إليك) ويجوز همز منجأ للازدواج وأن يترك الهمز فيهما وأن يهمز المهموز ويترك الآخر. وقال في الكواكب، في أواخر الوضوء هذان اللفظان إن كانا مصدرين يتنازعان في منك وإن كانا ظرفين فلا إذ اسم المكان لا يعمل وتقديره لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك

(9/180)


ولا منجى إلا إليك (آمنت بكتابك) القرآن (الذي أنزلتـ) ـه على رسولك -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يتضمن الإيمان بجميع كتب الله المنزلة (وبنبيك) محمد (الذي أرسلتـ) ـه والإيمان به مستلزم للإيمان بكل الأَنبياء (فإن مت) زاد في الوضوء من ليلتك (مت على الفطرة) أي دين الإِسلام قال الشيخ أكمل الدين الحنفي في شرحه لمشارق الأنوار.
فإن قلت: إذا مات الإِنسان على إسلامه ولم يكن ذكر من هذه الكلمات شيئًا فقد مات على الفطرة لا محالة فما فائدة ذكر هؤلاء الكلمات؟ أجيب: بتنويع الفطرة ففطرة القائلين فطرة المقربين
الصالحين وفطرة الآخرين فطرة عامة المؤمنين وردّ بأنه يلزم أن يكون للقائلين فطرتان فطرة المؤمنين وفطرة المقربين. وأجيب: بأنه لا يلزم ذلك بل إن مات القائلون فهم على فطرة المقربين وغيرهم لهم فطرة غيرهم اهـ.
وعند أحمد من رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة بني له بيت في الجنة بدل قوله مات على الفطرة (واجعلهن) أي الكلمات ولأبي ذر فاجعلهن بالفاء بدل الواو (آخر ما تقول) تلك الليلة قال البراء: (فقلت استذكرهن) أي الكلمات (وبرسولك الذي أرسلـ) ـه (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا) تقل ورسولك بل قل (ونبيك الذي لـ) ـه لأنه ذكر ودعاء فينبغي أن يقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه لأن الإجابة ربما تعلقت بتلك الحروف أو لعله أوحي إليه بها فتعين أداؤها
بلفظها.
والحديث سبق في آخر كتاب الوضوء قبل الغسل.

7 - باب مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ
(باب ما يقول) الشخص (إذا نام).
6312 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِىِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: «بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا» وَإِذَا قَامَ، قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ». تُنْشِرُهَا: تُخْرِجُهَا.
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة وبعد التحتية الساكنة صاد مهملة ابن عقبة الكوفي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن عبد الملك) بن عمير (عن ربعي بن حراش) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد التحتية وحراش بالحاء المهملة المكسورة وبعد الراء ألف فشين معجمة (عن حذيفة) -رضي الله عنه- ولأبي ذر زيادة ابن اليمان أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أوى) بقصر الهمزة (إلى فراشه) دخل فيه (قال): (باسمك) بوصل الهمزة (أموت وأحيا) بفتح الهمزة أي بذكر اسمك أحيا ما حييت وعليه أموت أو المراد باسمك المميت أموت وباسمك المحيي أحيا إذ معاني الأسماء الحسنى ثابتة له تعالى فكل ما ظهر في الوجود فهو صادر عن تلك المقتضيات (وإذا قام) من النوم (قال: الحمد لله الذي أحيانًا بعدما أماتنا) قال ابن الأثير: سمي النوم موتًا لأنه يزول معه العقل والحركة تمثيلاً وتشبيهًا اهـ.
قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} أي يسلب ما هي به حية حساسة دراكة {والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42] أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام تشبيهًا للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرّفون كما أن الموتى كذلك، وقيل يتوفى
الأنفس التي لم تمت في منامها هي أنفس التمييز فالتي تتوفى في المنام هي نفس التمييز لا نفس الحياة لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس ولكل إنسان نفسان نفس الحياة التي تفارقه عند الموت، والأخرى نفس التمييز التي تفارقه إذا نام. وعن ابن عباس في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها النفس والتحرك فإذا نام الإِنسان قبض الله نفسه ولم يقبض روحه (وإليه) تعالى (النشور) الإحياء للبعث يوم القيامة.
فإن قيل: ما سبب الشكر على الانتباه من النوم؟ أجاب في شرح المشكاة: بأن انتفاع الإِنسان بالحياة إنما هو بتحري رضا الله عنه وتوخي طاعته والاجتناب عن سخطه وعقابه فمن نام زال عنه هذا الانتفاع ولم يأخذ نصيب حياته وكان كالميت فكان قوله الحمد لله شكرًا لنيل هذه النعمة وزوال ذلك المانع.
(تنشرها): بالفوقية المضمومة أوّله أي (تخرجها) كذا في الفرع وأصله وهو ثابت

(9/181)


في رواية الحموي والذي في القرآن ننشرها بالنون ورواه الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والحديث أخرجه البخاري أيضًا في التوحيد، وأبو داود في الأدب، والترمذي، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجة في الدعاء.
6313 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، قَالاَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ، سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ رَجُلاً وَحَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِىُّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصَى رَجُلاً فَقَالَ: «إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ، مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ».
وبه قال: (حدّثنا سعد بن الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة وسعد في الفرع بسكون العين والذي في اليونينية وهو الصواب سعيد بكسرها ثم تحتية البصري (ومحمد بن عرعرة) بفتح فسكون ففتح مهملات (قالا: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي أنه (سمع) ولأبي ذر: سمعت (البراء بن عازب) -رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر رجلاً) زاد أحمد: من الأنصار. قال البخاري:
(وحدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله (الهمداني) بفتح الهاء وسكون الميم بعدها دال مهملة السبيعي (عن البراء بن عازب) -رضي الله عنه- ولأبي ذر عن الحموي عن أبي إسحاق سمعت البراء بن عازب. قال في
الفتح: والأول أصوب وإلاّ لكان موافقًا للرواية الأولى من كل وجه (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوصى رجلاً) هو البراء راوي الحديث (فقال):
(إذا أردت مضجعك فقل اللهم أسلمت نفسي إليك) جعلتها منقادة لك (وفوّضت أمري إليك) لتتولى صلاحه (ووجهت وجهي) أي ذاتي (إليك) وهذه ليست في الرواية السابقة في الباب قبل هذا (وألجأت) أسندت (ظهري إليك) قال في شرح المشكاة: في قوله أسلمت نفسي إليك إشارة إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه وقوله وجهت وجهي إليك إلى أن ذاته مخلصة له تعالى بريئة من النفاق، وفوضت إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوّضة إليه لا مدبر لها غيره، وألجأت بعد قوله وفوضت تفويض أموره التي هو مفتقر إليها وبها معاشه وعليها مدار أمره (رغبة ورهبة إليك) منصوبان على المفعول له على طريقة اللف والنشر أي فوّضت أمري إليك رغبة وألجأت ظهري من المكاره والشدائد إليك رهبة منك لأنه (لا ملجأ ولا منجا) بالقصر فيهما في الفرع كأصله للازدواج (منك) إلى أحد (إلا إليك آمنت بكتابك) القرآن المستلزم الإِيمان به الإِيمان بسائر الكتب السماوية (الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت) من ليلتك (مت على الفطرة) الإِسلامية.
وسبق هذا الحديث قريبًا وفي الوضوء.

8 - باب وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى تَحْتَ الْخَدِّ الأَيْمَنِ
(باب) استحباب (وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن) ولأبي ذر: اليمنى على تأنيث الخد لغة فيه لكن رأيت في حاشية الفرع كأصله. قال ابن سيده في المحكم، قال الجياني: وهو مذكر لا غير وسقط لأبي ذر قوله اليمنى من قوله اليد اليمنى.
6314 - حَدَّثَنِى مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِىٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا»، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (موسى بن إسماعيل) أبو سلمة التبوذكي قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله (عن عبد الملك) بن عمير (عن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة ابن حراش (عن حذيفة) بن اليمان (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أخذ مضجعه) بفتح الجيم (من الليل) صلة لأخذ على طريق الاستعارة لأن لكل أحد حظًّا منه وهو السكون والنوم فكأنه يأخذ منه حظه ونصيبه قال الله تعالى: {جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} [يونس: 67] فالمضجع على هذا يكون مصدرًا (وضع يده) زاد أحمد من طريق شريك عن
عبد الملك بن عمير اليمنى (تحت خده) وبهذه الزيادة يحصل الغرض من الترجمة وجرى المؤلّف على عادته في الإِشارة إلى ما وقع في بعض طرق الحديث (ثم يقول):
(اللهم باسمك) بذكر اسمك (أموت وأحيا) بفتح الهمزة (وإذا استيقظ قال) الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا) أي رد أنفسنا بعد أن قبضها عن التصرف بالنوم والنوم أخو الموت (وإليه النشور) الإِحياء بعد الإِماتة والبعث يوم القيامة.
والحديث سبق قريبًا.

9 - باب النَّوْمِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ
(باب) استحباب (النوم على الشق الأيمن).

(9/182)


6315 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْعَلاَءُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: حَدَّثَنِى أَبِى عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ وَنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ قَالَهُنَّ ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ». {اسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116] مِنَ الرَّهْبَةِ مَلَكُوتٌ: مُلْكٌ مَثَلُ رَهَبُوتٌ خَيْرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ تَقُولُ: تَرْهَبُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرْحَمَ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا عبد الواحد بن زياد) العبدي مولاهم البصري قال: (حدّثنا العلاء بن المسيب) بفتح التحتية ابن رافع الأسدي (قال: حدثني) بالإفراد (أبي) المسيب بن رافع الكاهلي (عن البراء بن عازب) -رضي الله عنهما- أنه (قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أوى) بقصر الهمزة (إلى فراشه) دخل فيه (نام على شقه الأيمن) بكسر الشين المعجمة (ثم قال):
(اللهم أسلمت نفسي) ذاتي (إليك ووجهت وجهي) قصدي (إليك وفوضت أمري إليك) إذ لا قدرة لي على صلاحه (وألجأت ظهري إليك) أي توكلت عليك واعتمدتك في أمري كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده (رغبة) طمعًا في ثوابك (ورهبة إليك) خوفًا من عقابك وأخرج النسائي وأحمد من طريق حصين بن عبد الرحمن عن سعيد بن عبيدة عن البراء بن عازب رهبة منك ورغبة إليك (لا ملجأ) بالهمز (ولا منجا) بغير همز وفتح الميم فيهما (منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت) اسم جنس شامل لكل كتاب سماوي (ونبيك) ولأبي ذر وبنبيك (الذي أرسلت) وفي رواية أبي زيد المروزي أرسلته وأنزلته بزيادة الضمير فيما (وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من قالهن ثم مات تحت ليلته). قال في شرح المشكاة فيه إشارة إلى وقوع ذلك قبل أن ينسلخ النهار من الليل وهو تحته، أو
المعنى بالتحت أنه مات تحت نازل ينزل عليه في ليلته (مات على الفطرة) أي على الدين القويم ملة إبراهيم فإنه عليه الصلاة والسلام أسلم واستسلم. وقال جماعة: دين الإِسلام، وقد تكون الفطرة بمعنى الخلقة كقوله تعالى {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30] قال الكرماني: وهذا الذكر مشتمل على الإِيمان بكل ما يجب به الإِيمان إجمالاً من الكتب والرسل من الإِلهيات والنبوّات وعلى إسناد الكل إلى الله من الذوات ويدل عليه الوجه، ومن الصفات، ويدل عليه الأمور ومن الأفعال ويدل عليه إسناد الظهر مع ما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه وهذا بحسب المعاش وعلى الاعتراف بالثواب والعقاب خيرًا وشرًّا وهذا بحسب المعاد.
({استرهبوهم}) [الأعراف: 116] في سورة الأعراف هو (من الرهبة) وهي الخوف (ملكوت) تفسيره (ملك) بضم الميم وسكون اللام (مثل رهبوت) بفتح الميم والمثلثة مصححًا عليه في اليونينية (خير من رحموت) في الوزن (تقول: ترهب خير من أن ترحم) بفتح الأول والثالث فيهما كذا في الفرع وأصله بفتح المثناة الفوقية فيهما مصلحًا على كشط وفي غيرهما بضمها أي لأن ترهب خير من أن ترحم، وسقط قوله استرهبوهم الخ لأبي ذر كذا في الفرع وأصله. وقال الحافظ: وقع في مستخرج أبي نعيم في هذا الفرع ما نصه استرهبوهم الخ ولم أره لغيره هنا. وقال العيني: هذا لم يقع في بعض النسخ وليس لذكره مناسبة هنا، وإنما وقع هذا في مستخرج أبي نعيم.

10 - باب الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ بِاللَّيْلِ
(باب) استحباب (الدعاء إذا انتبه بالليل) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي من الليل.
6316 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِىٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَى حَاجَتَهُ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ فَصَلَّى فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّى كُنْتُ أَتَّقِيهِ فَتَوَضَّأْتُ فَقَامَ يُصَلِّى، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِأُذُنِى فَأَدَارَنِى عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلاَتُهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ فَآذَنَهُ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ يَقُولُ فِى دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُورًا، وَفِى بَصَرِى نُورًا، وَفِى سَمْعِى نُورًا، وَعَنْ يَمِينِى نُورًا، وَعَنْ يَسَارِى نُورًا، وَفَوْقِى نُورًا، وَتَحْتِى نُورًا، وَأَمَامِى نُورًا، وَخَلْفِى نُورًا، وَاجْعَلْ لِى نُورًا»، قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعٌ فِى التَّابُوتِ فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ فَحَدَّثَنِى بِهِنَّ، فَذَكَرَ عَصَبِى وَلَحْمِى وَدَمِى وَشَعَرِى وَبَشَرِى وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا ابن مهدي) بفتح الميم عبد الرحمن (عن سفيان) الثوري (عن سلمة) بن كهيل (عن كريب) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: بت عند ميمونة) بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين خالة ابن عباس رضي الله عنهم (فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأتى حاجته غسل) ولأبي ذر: فغسل (وجهه ويديه ثم نام ثم قام فأتى القِربة فأطلق شناقها) بكسر الشين المعجمة وبعد النون ألف فقاف رباطها (ثم توضأ وضوءًا بين وضوءَين) بضم الواو، ولأبي ذر بفتحها من غير تقتير ولا تبذير كما فسره بقوله (لم يكثر) بأن اكتفى بأقل من الثلاث في الغسل (وقد أبلغ) أوصل الماء إلى ما يجب إيصاله إليه (فصلّى فقمت فتمطيت) بالمثناة التحتية الساكنة وأصله تمطط أي تمدد وقيل هو من المطا وهو الظهر لأن المتمطي يمدّ مطاه أي ظهره (كراهية أن يرى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أني كنت أنقيه) بهمزة مفتوحة فنون ساكنة

(9/183)


فقاف مكسورة فتحتية ساكنة كذا في الفرع مصلحة على كشط، ولأبي ذر في هامشه كأصله أرقبه براء ساكنة بعد همزة مفتوحة وبعد القاف موحدة ولم يرقم عليه في اليونينية، وفي الفتح أتقيه بمثناة فوقية مشددة وقاف مكسورة كذا للنسفي وطائفة. وقال الخطابي: أي أرتقبه. وفي رواية أتنقبه بتخفيف النون وتشديد القاف ثم موحدة من التنقيب وهو التفتيش، وفي رواية القابسي أبغيه بموحدة ساكنة بعدها غين معجمة مكسورة ثم تحتية أي أطلبه قال: والأكثر أرقبه وهي أوجه (فتوضأت فقام) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يصلّي فقمت عن يساره فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه فتتامّت) بمثناتين تفاعل وهو لا يجيء إلا لازمًا أي تكاملت (صلاته ثلاث عشرة ركعة ثم اضطجع فنام حتى نفخ وكان) عليه الصلاة والسلام (إذا نام نفخ فآذنه) بالمد أي أعلمه (بلال بالصلاة فصلّى ولم يتوضأ) لأنه تنام عينه ولا ينام قلبه ليعي الوحي إذا أوحي إليه في منامه (وكان يقول في) جملة (دعائه):
(اللهم اجعل في قلبي نورًا) يكشف لي عن المعلومات (وفي بصري نورًا) يكشف المبصرات (وفي سمعي نورًا) مظهرًا للمسموعات (وعن يميني نورًا وعن يساري) ولأبي ذر عن الكشميهني وعن شمالي (نورًا) وخص القلب والبصر والسمع بفي الظرفية لأن القلب مقر الفكرة في آلاء الله والبصر مسارح آيات الله المصونة والأسماع مراسي أنوار وحي الله ومحط آياته المنزلة وخص اليمين والشمال بعن إيذانًا بتجاوز الأنوار عن قلبه وسمعه وبصره إلى من عن يمينه وشماله من أتباعه قاله الطيبي (وفوقي نورًا وتحتي نورًا وأمامي نورًا وخلفي نورًا) ثم أجمل ما فصله بقوله (واجعل لي نورًا) فذلك لذلك وتوكيدًا له، وقد سأل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النور في أعضائه وجهاته ليزداد في أفعاله وتصرفاته ومتقلباته نورًا على نور فهو دعاء بدوام ذلك، فإنه كان حاصلاً له لا محالة أو هو تعليم لأمته.
وقال الشيخ أكمل الدين: أما النور الذي عن يمينه فهو المؤيد له والمعين على ما يطلبه من النور الذي بين يديه، والذي عن يساره نور الوقاية، والذي خلفه فهو النور الذي يسعى بين يدي من يقتدي به ويتبعه فهو لهم من بين أيديهم وهو له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من خلفه فيتبعونه على بصيرة، كما أن المتبع على بصيرة قال الله تعالى {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن}
[يوسف: 108] وأما النور الذي فوقه فهو تنزل نور إلهي قدسي بعلم غريب لم يتقدمه خبر ولا يعطيه نظر وهو الذي يعطي من العلم بالله ما ترده الأدلة العقلية إذا لم يكن لها إيمان فإن كان لها إيمان نوراني قبلته بتأويل لتجمع بين الأمرين وقوله: واجعل لي نورًا يجوز أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد نورًا عظيمًا جامعًا للأنوار كلها يعني التي ذكرها هنا والتي لم يذكرها كأنوار السماء الإِلهية وأنوار الأرواح وغير ذلك. وتحقيق هذا المقام يقتضي بسطًا يخرج عن غرض الاختصار.
(قال كريب): مولى ابن عباس بالسند المذكور (وسبع) من الكلمات أو الأنوار (في التابوت) الصدر الذي هو وعاء القلب تشبيهًا بالتابوت الذي يحرز فيه المتاع أو التابوت الذي كان لبني إسرائيل فيه السكينة أو الصندوق أي سبع مكتوبة عند كريب لم يحفظها ذلك الوقت أو المراد بالتابوت حينئذٍ أن السبعة بجسد الإنسان لا بالمعاني كالجهات الست قال كريب، أو سلمة بن كهيل: (فلقيت رجلاً من ولد العباس) هو عليّ بن عبد الله بن العباس -رضي الله عنهم- (فحدثني بهن فذكر عصبي) بفتح العين والصاد المهملتين ثم موحدة أطناب المفاصل (ولحمي ودمي وشعري وبشري) ظاهر جلده الشريف (وذكر خصلتين) أي العظم والمخ كما قاله السفاقسي والداودي، وقال في الكواكب: لعلهما الشحم والعظم وفي مسلم من طريق عقيل عن سلمة بن كهيل فدعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتسع عشرة كلمة حدثنيها كريب فحفظت منها عشرًا ونسيت ما بقي فذكر ما في رواية الثوري

(9/184)


وزاد: في لساني نورًا بعد قوله في قلبي، وقال في آخره: واجعل لي في نفسي نورًا وأعظم لي نورًا.
وعند الترمذي وقال: غريب من طريق داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده سمعت نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة حين فرغ من صلاته يقول: "اللهم إني أسألك رحمة من عندك" الحديث. وفيه "اللهم اجعل لي نورًا في قبري" ثم ذكر القلب ثم الجهات الست والسمع والبصر ثم الشعر والبشر ثم اللحم والدم ثم العظام ثم قال في آخره "اللهم أعظم لي نورًا وأعطني نورًا واجعل لي نورًا". وعند ابن أبي عاصم في كتاب الدعاء من طريق عبد الحميد بن عبد الرَّحمن عن كريب في آخر الحديث "وهب لي نورًا على نور".
والحديث أخرجه مسلم في الصلاة وفي الطهارة وأبو داود في الأدب والنسائي في الصلاة وابن ماجة في الطهارة.
6317 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِى مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ
خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر بالإفراد (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: سمعت سليمان بن أبي مسلم) الأحول (عن طاوس) هو ابن كيسان (عن ابن عباس) أنه قال: (كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قام من الليل يتهجد) حال من الضمير في قام (قال): في موضع نصب خبر كان أي كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند قيامه متهجدًا يقول:
(اللهم لك الحمد) وفي رواية مالك عن أبي الزبير عن طاوس إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل. وظاهر السياق أنه كان يقوله أول ما يقوم إلى الصلاة والتهجد التيقظ من النوم والهجود النوم فمعناه التجنب عن النوم والحمد الوصف بالجميل على التفضيل والألف واللام فيه للاستغراق (أنت نور السماوات والأرض) منوّرهما (و) منوّر (من فيهن) بنور هدايتك وعبر بمن دون ما تغليبًا للعقلاء على غيرهم (ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن) المدبر لهم في جميع أحوالهم فلا يتصور وجود موجود إلا به (ولك الحمد أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه (ووعدك حق) ثابت لا يدخله شك في وقوعه وتحققه، ولأبي ذر: الحق بالتعريف (وقولك حق) أي مدلوله ثابت، وفي رواية أبي ذر بالتعريف كالسابقة (ولقاؤك) بعد الموت في القيامة (حق والجنة حق والنار حق والساعة) وهو قيامها (حق) فلا بد منه وهو مما يجب الاِيمان به فمنكره كافر ثبتنا الله على ذلك وعلى تصديق كل ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم (والنبيون حق) لا يجوز إنكار واحد منهم (ومحمد حق) عطفه عليهم إيذانًا بالتغاير إذ إنه فائق عليهم بخصوصيات اختص بها دونهم وجرده عن ذاته كأنه غيره ووجب عليه الإِيمان به وتصديقه مبالغة في إثبات نبوته وهذه كلها وسائل قدمت لتحقق المطلوب من قوله (اللهم لك أسلمت) انقدت لأمرك ونهيك (وعليك توكلت) أي فوضت الأمر إليك قاطعًا النظر عن الأسباب العادية (وبك آمنت) صدقت بك وبما أنزلت (وإليك أنبت) رجعت مقبلاً بالقلب وعليك (وبك) بما أعطيتني من البرهان والسنان (خاصمت) الخصم المعاند وقمعته بالحجة والسيف (وإليك حاكمت) كل من جحد (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت) أخفيت وأظهرت أو ما تحرك به لساني أو حدثت به نفسي قال: ذلك مع القطع له بالمغفرة تواضعًا وتعظيمًا لله تعالى وتعليمًا وإرشادًا للأمة (أنت المقدم) لي في البعث في القيامة (وأنت المؤخر) لي في البعث في الدنيا (لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك) ولأبي ذر عن الكشميهني بإسقاط الألف من أو.
والحديث سبق في أول التهجد في آخر كتاب الصلاة.

11 - باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْمَنَامِ
(باب) استحباب (التكبير والتسبيح) وكذا التحميد للشخص (عند المنام).
6318 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِى لَيْلَى، عَنْ عَلِىٍّ أَنَّ فَاطِمَةَ - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - شَكَتْ مَا تَلْقَى فِى يَدِهَا مِنَ الرَّحَى فَأَتَتِ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تَجِدْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ أَقُومُ فَقَالَ: «مَكَانَكِ» فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِى، فَقَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ؟ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»، وَعَنْ شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ.
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الحكم) بفتحتين ابن عتيبة (عن ابن أبي ليلى) عبد الرَّحمن (عن عليّ) أي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- (أن فاطمة عليها السلام شكت) بالتخفيف (ما تلقى في يدها من الرحى) من أثر إدارة الرحى وهي بالقصر لطحن البر والشعير (فأتت النبي تسأله خادمًا) جارية تخدمها ويطلق على الذكر وكان

(9/185)


قد بلغها أنه جاءه رقيق كما في النفقات من طريق يحيى القطان عن شعبة (فلم تجده فذكرت ذلك لعائشة) -رضي الله عنها- (فلما جاء أخبرته) عائشة -رضي الله عنها- (قال) عليّ -رضي الله عنه-: (فجاءنا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت أقوم فقال):
(مكانك) الزمه وفي اليونينية كشط نصبة الكاف ولم يضبطها نعم في آل ملك كسرها فليتأمل (فجلس بيننا حتى وجدت برد قدميه) بالتثنية (على صدري) زاد مسلم هنا أني أخبرت أنك جئت تطلبيني فما حاجتك؟ قالت: بلغني أنه قدم عليك خدم فأحببت أن تعطيني خادمًا يكفيني الخبز والعجن فمانه قد شق عليّ (فقال: ألا) بالتخفيف وفتح الهمزة (أدلكما على ما هو خير لكما من خادم) في الآخرة أو أنه يحصل لكما بسبب ذلك قوة تقدران بها على الخدمة أكثر مما يقدر الخادم عليه قالا بلى فقال: كلمات علمنيهن جبريل (إذا أويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما) بالشك من الراوي سليمان بن حرب كما في الفتح (فكبرا ثلاثًا وثلاثين) مرة (وسبحا ثلاثًا وثلاثين واحمدا ثلاثًا وثلاثين فهذا) التكبير وما بعده إذا قلتماه في الوقت المذكور (خير لكما من خادم) فأحب لابنته وزوجها ما أحب لنفسه من إيثار الفقر وتحمل شدته بالصبر عليه تعظيمًا للأجر وآثر أهل الصفة لوقفهم أنفسهم على سماع العلم المقتضي لعدم التكسب. وقال الطيبي: وهذا من باب تلقي المخاطب بغير ما يتطلب إيذانًا بأن الأهم من المطلوب هو التزود للمعاد والتجافي من دار الغرور.
(وعن شعبة) بن الحجاج بالسند السابق (عن خالد) الحذاء (عن ابن سيرين) محمد موقوفًا عليه أنه (قال: التسبيح أربع وثلاثون) ووقع في مرسل عروة عند جعفر أن التحميد أربع واتفاق الرواة على أن الأربع للتكبير أرجح.
والحديث سبق في باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كتاب الخمس.

12 - باب التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَنَامِ
(باب التعوذ والقراءة عند المنام) مصدر ميمي ولأبي ذر عند النوم.
6319 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِى عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِى يَدَيْهِ وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) أبو محمد الكلاعي الدمشقي ثم التنيسي الحافظ قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (قال: حدثني) بالإفراد (عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري محمد أنه (قال: أخبرني) بالإِفراد (عروة) بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أخذ مضجعه) بفتح الجيم (نفث في يديه) بالمثلثة نفخ كالذي يبصق فقيل لا بصاق فيه فإن كان فهو التفل وقيل هما بمعنى ولأبي ذر عن الحموي والمستملي في يده بالإفراد (وقرأ بالمعوّذات) بكسر الواو المشددة وبالذال المعجمة {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] والسورتين بعدها وعبر بالمعوذات تغليبًا (ومسح بهما) بيديه (جسده) ما استطاع منه والنفث بعد القراءة والواو لا تقتضي الترتيب.
والحديث مرّ في آخر فضائل القرآن.

13 - باب
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة وهو ساقط لبعضهم.
6320 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِى سَعِيدُ بْنُ أَبِى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىُّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِى وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ». تَابَعَهُ أَبُو ضَمْرَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالَ يَحْيَى: وَبِشْرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَابْنُ عَجْلاَنَ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس مشهور بجده قال: (حدّثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي قال: (حدّثنا عبيد الله) بضم العين (ابن عمر) بضم العين العمري قال: (حدثني) بالإفراد (سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه) أبي سعيد كيسان (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا أوى أحدكم) بقصر همزة أوى (إلى فراشه) أتى إليه لينام عليه (فلينفض) بضم الفاء
(فراشه) قبل أن يدخل إليه (بداخلة إزاره) طرفه الذي يين جسده وحكمة ذلك لعله لسر طبيّ يمنع من قرب بعض الحيوانات استأثر الشارع بعلمه. وقال البيضاوي: وإنما أمرنا بالنفض بها لأن المتحول إلى فراشه يحل بيمينه خارجة إزاره وتبقى الداخلة معلقة فينفض بها. وقال الكرماني: ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره لئلا يحصل في يده مكروه إن كان شيء هناك (فإنه لا يدري ما خلفه) بفتح المعجمة واللام (عليه) من المؤذيات كعقرب أو حيّة أو المستقذرات (ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه) أي بك أستعين على وضع جنبي وعلى رفعه فالباء للاستعانة

(9/186)


(إن أمسكت نفسي) توفيتها (فارحمها وإن أرسلتها) رددتها (فاحفظها بما تحفظ به الصالحين) ولأبوي الوقت وذر: به عبادك الصالحين، وعند النسائي وصححه ابن حبان من حديث ابن عمر أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه أن يقول: "اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك موتها ومحياها إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها".
(تابعه) أي تابع زهير بن معاوية (أبو ضمرة) أنس بن عياض فيما وصله في الأدب المفرد ومسلم في صحيحه (وإسماعيل بن زكريا) أبو زياد الكوفي مما وصله الحارث بن أبي أسامة في مسنده كلاهما (عن عبيد الله) بضم العين ابن عمر العمري السابق في إدخال الواسطة بين سعيد المقبري وأبي هريرة. (وقال يحيى) بن سعيد القطان مما وصله النسائي: (وبشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة ابن المفضل فيما وصله مسدد في مسنده الكبير كلاهما (عن عبيد الله) العمري (عن سعيد) المقبري (عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بدون الواسطة بين سعيد وأبي هريرة.
(ورواه) أي الحديث المذكور (مالك) إمام دار الهجرة فيما وصله المؤلّف في التوحيد (وابن عجلان) بفتح العين وسكون الجيم محمد الفقيه فيما وصله أحمد وغيره كلاهما (عن سعيد) المقبري (عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من غير واسطة أيضًا.
وفي حديث الباب ثلاثة من التابعين على نسق واحد، وأخرجه مسلم في الدعوات وأبو داود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة.

14 - باب الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ
(باب) فضل (الدعاء نصف الليل) على غيره إلى طلوع الفجر لتخصيصه بالتنزل الإلهي والتفضل بإجابة الدعاء وغيره.
6321 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِى عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، وَأَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) العامري الأويسي الفقيه قال: (حدّثنا مالك) الإمام الأعظم (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن أبي عبد الله) سلمان (الأغرّ) بفتح الغين المعجمة وتشديد الراء الجهني المدني (وأبي سلمة بن عبد الرَّحمنِ) بن عوف كلاهما (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(يتنزل) بالفوقية بعد التحتية وفتح الزاي المشددة وللكشميهني ينزل (ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) هذا من المتشابهات وحظ السلف من الراسخين في العلم أن يقولوا آمنا به كل من عند ربنا، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث، ومنهم من أوّل على وجه يليق مستعمل في كلام العرب ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريبًا مستعملاً في كلام العرب وما يكون بعيدًا مهجورًا فأوّل في بعض وفوّض في آخر ونقل هذا عن مالك. قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد إلا أن يردد ذلك عن الصادق فيصار إليه، ونقل عن مالكَ أنه أول النزول هنا بنزول رحمته تعالى وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره ومنهم من أوله على الاستعارة والمعنى الإِقبال على الداعي باللطف والإجابة، وقد سبق في التهجد من أواخر كتاب الصلاة مباحثه، ويأتي إن شاء الله تعالى بعون الله غير ذلك في كتاب التوحيد. وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنوّ رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرحمة والرأفة (حين يبقى ثلث الليل الآخر) بكسر المعجمة والرفع صفة لثلث لأنه وقت خلوة ومناجاة وتضرع وخلو النفس من خواطر الدنيا وشواغلها.
وساق المؤلّف الترجمة بلفظ نصف الليل والحديث مصرح أن التنزل ثلث الليل فيحتمل أنه جرى على عادته بالإشارة إلى حديث أحمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: ينزل الله إلى سماء الدنيا نصف الليل الآخر أو ثلث الليل الآخر، وأخرجه الدارقطني عن الأغرّ عن أبي هريرة بلفظ: شطر الليل من غير تردد، وقد اختلفت

(9/187)


الروايات في تعيين الوقت على ستة الثلث الأخير كما هنا أو الثلث الأوّل أو الإطلاق فيحمل المطلق على المقيد، والذي بأوان كان للشك المجزوم به مقدم على المشكوك فيه وإن كان للتردد بين حالين فيجمع بذلك بين الروايات بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لكون أوقات الليل تختلف في الزمان والأوقات باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو يكون النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو أنه يقع في جميع الأوقات التي وردت به، ويحمل على أنه أعلم بأحدها في وقت فأخبر به ثم الآخر فأخبر به فنقلت الصحابة ذلك عنه.
(يقول) ولأبي ذر فيقول: (من يدعوني فأستجيب له) فأجيب دعاءه (من يسألني فأعطيه)
سؤاله (من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه وقوله فأستجيب وفأعطيه وفأغفر نصب على جواب الاستفهام ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ أي فأنا أغفر فأنا أستجيب فأنا أعطيه، وفي الحديث أن الدعاء في هذا الوقت مجاب ولا يعكر عليه تخلفه عن بعض الداعين، فقد يكون لخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى.
والحديث سبق في باب التهجد ويأتي إن شاء الله تعالى بعون الله وقوّته في كتاب التوحيد.

15 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخَلاَءِ
(باب الدعاء عند) إرادة دخول (الخلاء) وهو بفتح الخاء المعجمة ممدودًا وأصله المكان الخالي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ثم غلب في الكنيف.
6322 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عرعرة) بن البرند قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد العزيز بن صهيب) البناني الأعمى (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: كان النبي إذا دخل الخلاء) أراد دخوله (قال):
(اللهم إني أعوذ بك) أستجير بك والباء في بك للإلصاق وهو إلصاق معنوي لأنه لا يلتصق شيء بالله ولا بصفاته لكنه التصاق تخصيص كأنه خص الرب سبحانه بالاستعاذة (من الخبث والخبائث) بضم الموحدة وبالمثلثة فيهما يريد ذكران الشياطين وإناثهم، ويروى بسكون الموحدة. وذكر الخطابي التسكين في أغاليط المحدثين ويراد به الكفر والخبائث الشياطين، وقيل الخبث الشياطين والخبائث البول والغائط استعاذ من شر الأوّل وضرر الآخرين. وقال التوربشتي: الخبث ساكن الباء مصدر خبث الشيء يخبث خبثًا، وفي إيراد الخطابي هذا اللفظ في جملة الألفاظ التي يرويها الرواة ملحونة نظر لأن الخبث إذ جمع يجوز أن تسكن الباء للتخفيف كما يفعل في سبل وسبل ونظائرها من المجموع، وهذا الباب مستفيض في كلامهم غير نادر ولا يسمع من أحد مخالفته إلا أن يزعم أن ترك التخفيف فيه أولى لئلا يشتبه بالخبث الذي هو المصدر ومن للتبعيض والتقدير من كيدهم وشرهم أو للابتداء إذا فسرا بذكور الجن وإناثهم وخص الخلاء لأن الشياطين تحضر الأخلية لأنه يهجر فيها ذكر الله تعالى واستعاذته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لإظهار العبودية وتعليم الأمة وإلا فهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معصوم من ذلك كله. والحديث سبق في الطهارة.

16 - باب مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ
(باب ما يقول) الشخص (إذا أصبح).
6323 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِى، وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ إِذَا قَالَ حِينَ يُمْسِى فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَهُ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) بالسين بعدها دالان مهملتان ابن مسرهد قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الزاي وفتح الراء أبو معاوية البصري قال: (حدّثنا حسين) بضم الحاء وفتح السين ابن ذكوان المعلم البصري قال: (حدّثنا عبد الله بن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء (عن بشير بن كعب) بضم الموحدة وفتح الشين المعجمة العدوي (عن شداد بن أوس) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(سيد الاستغفار) أي أفضله وأعظمه نفعًا (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك) الذي عاهدتك عليه (ووعدك) الذي واعدتك من الإِيمان بك والإِخلاص (ما استطعت أبوء) أعترف (لك بنعمتك وأبوء) أعترف (لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب

(9/188)


إلا أنت أعوذ بك من شر ما صنعت إذا قال) ذلك (حين يمسي فمات دخل الجنة أو) قال (كان من أهل الجنة) من غير أن يدخل النار (وإذا قال) ذلك (حين يصبح فمات من يومه مثله).
وسبق الحديث قريبًا في باب أفضل الاستغفار.
6324 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِىِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ: «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا»، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عبد الملك بن عمير) بضم العين وفتح الميم (عن ربعي بن حراش) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة وحراش بكسر الحاء المهملة وفتح الراء المخففة وبعد الألف شين معجمة (عن حذيفة) بن اليمان -رضي الله عنه- أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أراد أن ينام قال):
(باسمك اللهم أموت وأحيا) بفتح الهمزة. قال القرطبي: فيه أن الاسم عين المسمى فهو
كقوله: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] أي سبح ربك اهـ. والمعنى نزّه تسمية ربك بأن تذكره وأنت له معظم ولذكره محترم فالاسم يكون بمعنى التسمية، وقال الإِمام: كما يجب تنزيه ذاته وصفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب، وقال آخرون: المعنى نزه ربك فالاسم صلة لأن أحدًا لا يقول سبحان اسم الله بل سبحان الله وقد سمى الله تعالى نفسه بالأسماء الحسنى ومعانيها ثابتة له فكل ما ظهر في الوجود فهو صادر عن تلك المقتضيات فكأنه قال: باسمك المحيي أحيا وباسمك المميت أموت. وقال بعضهم: المحيي من أحيا قلوب العارفين بأنوار معرفته وأرواحهم بلطائف مشاهدته والمميت من أمات القلوب بالغفلة والنفوس باستيلاء الزلة والعقول بالشهوة. (و) كان-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إذا استيقظ من منامه قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا) أطلق الموت على النوم لما بينهما من الشبه بجامع ما بينهما من عدم الإدراك والانتفاع بما شرع من القربات فحمد الله تعالى شكرًا على ردّ ذلك لينال ذلك وهذا صدر منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على جهة العبودية والتعليم (وإليه النشور) الإِحياء للبعث أو المرجع في نيل الثواب مما نكتسبه في حياتنا هذه.
والحديث مرّ في باب ما يقول إذا نام.
6325 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِى حَمْزَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِىِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: «اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا»، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان المروزي (عن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن ميمون السكري (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن ربعي بن حراش) أبي مريم العبسي الكوفي ثقة عابد مخضرم (عن خرشة بن الحرّ) بفتح الخاء المعجمة والراء والشين المعجمة والحر بالحاء المهملة المضمومة والراء المشددة الفزاري بالفاء والزاي بعدها راء مكسورة (عن أبي ذر) جندب الغفاري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أخذ مضجعه) بفتح الجيم (من الليل قال):
(اللهم باسمك أموت و) باسمك (أحيا فإذا استيقظ) فإذا بالفاء هنا وفي السابق بالواو بدلها (قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) ولم يحصل في حديث حذيفة الماضي وحديث أبي ذر هذا اختلاف في المتن إلا في الفاء والواو كما ذكرته وقد ظهر أن لربعي فيه طريقين، وقد وافق أبا حمزة على الإسناد شيبان النحوي فيما أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيه من طريقه وفي الباب أحاديث أُخر.

17 - باب الدُّعَاءِ فِى الصَّلاَةِ
(باب الدعاء في الصلاة).
6326 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِى يَزِيدُ، عَنْ أَبِى الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضى الله عنه - أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى صَلاَتِى قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِى مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِى إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». وَقَالَ عَمْرٌو: عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِى الْخَيْرِ إِنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا) ولأبي ذر: حدّثنا (الليث) بن سعد الإِمام قال: (حدثني) بالإفراد (يزيد) بن أبي حبيب (عن أبي الخير) مرثد بن عبد الله اليزني المصري (عن عبد الله بن عمرو) بفتح العين ابن العاصي -رضي الله عنهما- (عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: علمني) قال ابن فرحون: أي حفظني (دعاء) مفعول ثان لعلم (أدعو به في صلاتي) جملة في محل نصب صفة لدعاء والعائد قوله به والضمير يعود على دعاء وفي صلاتي متعلق بأدعو لا يعلمني لفساد المعنى (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا) بملابسة ما يوجب عقوبتها أو ينقص حظها وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه والنفس المراد بها هنا الذات المشتملة على الروح وإن كان بين العلماء خلاف في

(9/189)


أن النفس الروح أو غيرها حتى قيل إن فيها ألف قول وظلمًا مصدر وكثيرًا بالمثلثة نعت له لا بالمنعوت (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فليس لي حيلة في دفعها فأنا المفتقر إليك المضطر الموعود بالإِجابة (فاغفر لي مغفرة من عندك) الفاء للسببية واغفر لفظه لفظ الأمر ومعناه الدعاء وإلاّ إيجاب للنفي. وفائدة قوله: من عندك وإن كان الكل من عند الله أن فضل الله ومغفرته لا في مقابلة عمل ولا بإيجاب على الله وتفيد العندية معنى القرب في المنزلة (وارحمني) عطف على سابقه (إنك أنت الغفور) فعول بمعنى فاعل (الرحيم) بمعنى راحم، وفي الكلام لف ونشر مرتب لأن طلب المغفرة بقوله: اغفر لي وطلب الرحمة بقوله: ارحمني، فالتقدير اغفر لي إنك أنت الغفور وارحمني إنك أنت الرحيم، وفي الكلام حذف لدلالة ما تقدم عليه والتقدير ولا يغفر الذنوب إلا أنت ولا يرحم العباد إلا أنت فحذف ولا يرحم العباد إلا أنت لدلالة وارحمني، ويحتمل أن يكون التقدير ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي ولا يرحم العباد إلا أنت فارحمني.
وهذا الدعاء من أحسن الأدعية لا سيما في ترتيبه فإن فيه تقديم نداء الرب واستغاثته بقوله: اللهم ثم الاعتراف بالذنب في قوله: ظلمت نفسي ثم الاعتراف بالتوحيد إلى غير ذلك مما لا يخفى مع ما اشتمل عليه من التأكيد بقوله: إنك أنت الغفور الرحيم بكلمة إن وضمير الفصل وتعريف الخبر باللام وبصيغة المبالغة.

(تنبيه):
الأمر في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قل يقتضي جواز الدعاء به في الصلاة من غير تعيين محله، لكنه يخصص بالموضع اللائق بالدعاء، وعينه بعضهم في السجود لحديث: فأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، وعينه آخرون بعد التشهد لحديث: ثم ليتخير بعد ذلك في المسألة ما شاء، وهذا الأخير رجحه ابن دقيق العيد، ويؤيده أن الأئمة كالبخاري والنسائي والبيهقي وغيرهم احتجوا بهذا الحديث للدعاء في آخر الصلاة، وقال النووي: إنه استدلال صحيح. وقال الفاكهاني: الجمع بينهما في المحلين أولى.
وحديث الباب سبق في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة.
(وقال عمرو): بفتح العين ولأبي ذر عمرو بن الحارث فيما وصله البخاري في التوحيد (عن يزيد) بن حبيب (عن أبي الخير) مرثد (أنه سمع عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص (قال أبو بكر -رضي الله عنه- للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). وثبت قوله إنه لأبي ذر عن الكشميهني.
6327 - حَدَّثَنَا عَلِىٌّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] أُنْزِلَتْ فِى الدُّعَاءِ.
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن سلمة اللبقي بفتح اللام والموحدة بعدها قاف مكسورة كما قاله الكلاباذي قال: (حدّثنا مالك بن سعير) بضم السين وفتح العين المهملتين وبعد التحتية الساكنة راء ابن الخمس بكسر الخاء المعجمة وسكون الميم بعدها سين مهملة قال: (حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) -رضي الله عنها- ({ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} أنزلت في الدعاء) وقال به ابن عباس فيما رواه عنه عكرمة، وقال به مجاهد وسعيد بن جبير ومكحول وعروة بن الزبير، وقال آخرون: ولا تجهر بصلاتك أي بقراءة صلاتك على حذف مضاف لأنه يلتبس إذ الجهر والمخافتة يعتقبان على الصوت لا غير والصلاة أفعال وأذكار، وسبق في تفسير سورة الإِسراء حديث ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبّوا فنزلت الآية. وحديث عائشة ظاهره العموم في الصلاة وخارجها لكن روى حديثها هذا ابن خزيمة والحاكم، وزاد فيه التشهد فهو مخصص لإِطلاقه كما مرّ في آخر الإِسراء والله أعلم.
6328 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِى الصَّلاَةِ السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ فَقَالَ لَنَا النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِى الصَّلاَةِ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ -إِلَى قَوْلِهِ- الصَّالِحِينَ فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ فِى السَّمَاءِ وَالأَرْضِ صَالِحٍ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ».
وبه قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) هو عثمان بن محمد بن أبي شيبة واسم أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي أخو أبي بكر والقاسم قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد الرازي (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كنا نقول في الصلاة: السلام على الله) زاد يحيى في روايته عند المؤلّف في باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد من عباده، وأخرجه أبو داود عن مسدد

(9/190)


شيخ البخاري فقال: قبل عباده (السلام على فلان) مرة في الصلاة على فلان وفلان، وفي ابن ماجة يعنون الملائكة (فقال لنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذات يوم): لفظ ذات مقحم أو هو من إضافة المسمى إلى اسمه.
(إن الله هو السلام) فكل سلام منه هو مالكه ومعطيه، وقال الخطابي: المراد أن الله هو ذو السلام فلا تقولوا السلام على الله فإن السلام منه إليه يعود ومرجع الأمر في إضافته إليه أنه ذو السلام من كل آفة وعيب (فإذا قعد أحدكم في) تشهد (الصلاة) في وسطها وآخرها (فليقل التحيات لله) أي أنواع التعظيم له (إلى قوله الصالحين) القائمين بما يجب عليهم من حقوق الله وحقوق عباده وتتفاوت درجاتهم (فإذا قالها) أي وعلى عباد الله الصالحين (أصاب كل عبد لله في السماء والأرض صالح) بالجر صفة لعبد (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ثم يتخير من الثناء) على الله (ما شاء) وفي كتاب الصلاة في باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد من الدعاء بدل قوله هنا من الثناء.
والحديث سبق في الصلاة.

18 - باب الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلاَةِ
(باب) مشروعية (الدعاء بعد الصلاة).
6329 - حَدَّثَنِى إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ سُمَىٍّ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: «كَيْفَ ذَاكَ»؟ قَالَ: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ قَالَ: «أَفَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ وَلاَ يَأْتِى أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ إِلاَّ مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ، تُسَبِّحُونَ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا». تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ سُمَىٍّ وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلاَنَ عَنْ سُمَىٍّ وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، وَرَوَاهُ جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ، وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد (إسحاق) هو ابن منصور أو ابن راهويه قال: (أخبرنا يزيد) من الزيادة ابن هارون بن زاذان السلمي مولاهم الواسطي أحد الأعلام قال: (أخبرنا ورقاء) بفتح
الواو وسكون الراء بعدها قاف ممدودًا ابن عمر أبو بشر اليشكري الحافظ (عن سمي) بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد التحتية مولى أبي بكر بن عبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام (عن أبي صالح) ذكوان السمان (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (قالوا) أي فقراء المهاجرين، وسمى منهم النسائي في اليوم والليلة: أبا الدرداء من طريق أبي عمر الضبي وأبي صالح كلاهما عن أبي الدرداء بلفظ قلت: يا رسول الله. وأبو داود والطبراني في الأوسط من وجه آخر عن أبي هريرة أبا ذر، وأخرجه الإمام أحمد وابن خزيمة وابن ماجة من حديث أبي ذر نفسه (يا رسول الله ذهب أهل الدثور) بضم الدال المهملة والمثلثة جمع دثر والدثر المال الكثير والدثور الدروس يقال دثر كقعد الرسم وتداثر الدثور بالفتح الرجل الخامل النؤوم وفي رواية عبيد الله العمري عن سمي في الصلاة وذهب أهل الدثور من الأموال (بالدرجات والنعيم المقيم) الذي لا انقطاع له، والنعيم ما يتنعم به من مطعم وملبس وعلوم ومعارف وغيرها والباء في بالدرجات بمعنى المصاحبة أي ذهب أهل الدثور بالدرجات واستصحبوها معهم في الدنيا والآخرة ومضوا بها ولم يتركوا لنا شيئًا فما حالنا (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(كيف ذاك) استفهام والكاف للخطاب وحقها في خطاب الجماعة ذاكم بالكاف والميم، ولكنه أراد خطاب واحد منهم لأن الكلام قد يكون من واحد لمصلحة جماعة (قال) أحد الفقراء من المهاجرين، ولأبي ذر عن الكشميهني قالوا: (صلوا كما صلينا) أي كانوا يصلون كما نصلي وما مصدرية والكاف نعت لمصدر محذوف عند الفارسي ومن تبعه واختار ابن مالك أن تكون حالاً من المصدر المفهوم من الفعل المتقدم بعد الإِضمار على طريق الاتساع أي يصلون الصلاة في حال كونها مثل ما نصلي (وجاهدوا) في سبيل الله (كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم) أي من زيادتها صدقات ومبرّات (وليست لنا أموال) ننفق منها كما أنفقوا (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أفلا أخبركم) ألا حرف عرض والفاء عاطفة وكان حقها أن تتقدم على همزة الاستفهام إلا أن الاستفهام له الصدر، وقيل الفاء زائدة مؤكدة، وقيل يقدّر في مثل هذا محذوف من معنى الجملة قبلها فيعطف عليه والمعنى هنا إذا قلتم ذلك فأعلمكم (بأمر تدركون) أي به (من كان قبلكم) من هذه الأمة المحمدية لأن فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم ثابت وإن لم يذكروا هذا الذكر (وتسبقون) به (من جاء بعدكم) من أهل الأموال (ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم) زاد أبو ذر به: (إلا من جاء بمثله)

(9/191)


بمثل ما جئتم به (تسبحون في دبر كل صلاة) مكتوبة (عشرًا) بعد السلام، إجماعًا فليس المراد بدبرها قرب آخرها وهو التشهد كما قال بعضهم. قال ابن الأعرابي: دبر الشيء بالضم والفتح. وقال المطرزي في اليواقيت: دبر كل شيء بفتح الدال آخر أوقاته من الصلاة وغيرها قال: وهذا هو المعروف في اللغة، وأما الدبر الذي هو الجارحة فبالضم، والمراد بالدبر في الحديث عقب السلام والصلاة فهو مخالف لكلام أهل اللغة قالوا: إلا أن يكون مراد أهل اللغة بآخر أوقات الشيء الفراغ منه فيطابق تفسيرهم (وتحمدون عشرًا وتكبّرون عشرًا تابعه) أي تابع ورقاء (عبيد الله بن عمر) العمري فيما رواه مسلم في روايته (عن سمي) عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
وهذه المتابعة في إسناد الحديث وأصله لا في العدد المذكور وقد خالف ورقاء غيره في قوله عشرًا. قال في الفتح الباري: لم أقف في شيء من طرق حديث أبي هريرة على من تابع ورقاء على ذلك لا عن سمي ولا عن غيره ثم قال: وجدت لرواية العشر شواهد منها عن علي عند أحمد وعن سعد بن أبي وقاص عند النسائي. وعن عبد الله بن عمرو عنده وعند أبي داود والترمذي وعن أم سلمة عند البزار وعن أم مالك الأنصارية عند الطبراني، وفي حديث زيد بن ثابت وابن عمر أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرهم أن يقولوا كل ذكر منها خمسًا وعشرين ويزيدوا فيها لا إله إلا الله خمسًا وعشرين أخرجه النسائي. وفي حديث ابن عمر عند البزار بإسناد فيه ضعف إحدى عشرة إحدى عشرة.
وسبق في باب الذكر بعد الصلاة بلفظ: تسبحون وتحمدون وتكبّرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وجمع البغوي في شرح السنّة بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة أولها عشرًا ثم إحدى عشرة الخ. ويحتمل أن يكون على سبيل التخيير.
(ورواه) أي حديث الباب (ابن عجلان) بفتح العين المهملة وسكون الجيم محمد (عن سمي و) عن (رجاء بن حيوة) بفتح الراء والجيم ممدودًا وحيوة بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية وفتح الواو بعدها هاء تأنيث وهذا وصله مسلم قال: حدّثنا قتيبة، حدّثنا الليث عن ابن عجلان فذكره مقرونًا برواية عبيد الله العمري كلاهما عن أبي صالح به، ووصله الطبراني من طريق حيوة بن شريح عن محمد بن عجلان عن رجاء بن حيوة وسمي كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة وفيه: تسبحون الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين وتحمدونه ثلاثًا وثلاثين وتكبّرونه أربعًا وثلاثين.
(ورواه) أيضًا (جرير) أي ابن عبد الحميد (عن عبد العزيز بن رفيع) بضم الراء وفتح الفاء الأسدي المكي (عن أبي صالح) السمان (عن أبي الدرداء) عويمر الأنصاري فيما وصله أبو يعلى في مسنده لكن في سماع أبي صالح من أبي الدرداء نظر.
(ورواه) أيضًا (سهيل) بضم السين المهملة وفتح الهاء (عن أبيه) أبي صالح ذكوان السمان (عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) رواه مسلم، لكن قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين. قال سهيل: إحدى عشرة وإحدى عشرة وإحدى عشرة فذلك كله ثلاث وثلاثون. وأخرجه النسائي من رواية الليث عن ابن عجلان عن سهيل بهذا الإِسناد وقال فيه: من قال خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين تكبيرة وثلاثًا وثلاثين تسبيحة وثلاثًا وثلاثين تحميدة ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعني تمام المائة غفرت له خطاياه، وهذا اختلاف شديد على سهيل والمعتمد فى ذلك رواية سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قاله في الفتح.
وحديث الباب سبق في الصلاة.
6330 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ
وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ إِذَا سَلَّمَ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ». وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُسَيَّبَ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) بكسر العين قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (من منصور) هو ابن المعتمر (عن المسيب) بفتح الياء التحتية المشددة (ابن رافع) الكاهلي (عن وراد) بفتح الواو والراء المشددة وبعد الألف دال مهملة (مولى المغيرة بن شعبة) وكاتبه أنه (قال: كتب المغيرة إلى معاوية بن أبي سفيان) لما كتب له معاوية اكتب لي بحديث سمعته من رسول الله

(9/192)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول في دبر كل صلاة) مكتوبة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي صلاته (إذا سلم) منها.
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له) تأكيد لسابقه مع ما فيه من تكثير حسنات الذاكر (له الملك وله الحمد) زاد الطبراني من طريق آخر عن المغيرة "يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير" (وهو على كل شيء قدير) هذا معدود من العمومات التي لم يطرقها تخصيص، ونازع بعضهم فيه من جهة تخصيصه بالمستحيل لكنه مبني على أن لفظة شيء تطلق على المستحيل بل على المعدوم وفيه خلاف مشهور ومذهب أهل السنّة المنع (اللهم لا مانع) يمنع من كل أحد (لما أعطيت) أي لما أردت إعطاءه وإلاّ فبعد الإِعطاء من كل أحد لا مانع له إذ الواقع لا يرتفع بخلاف قوله (ولا معطي لما منعت) فإنه لا يحتاج إلى هذا التأويل والرواية بفتح مانع ومعطي. واستشكل لأن اسم إذا كان شبيهًا بالمضاف يعرف فما وجه ترك التنوين؟ وأجيب: بأن الفارسي حكى لغة بإجراء الشبيه بالمضاف مجرى المفرد فيكون مبنيًّا، وجوّز ابن كيسان في المطوّل بالتنوين وتركه وقال: تركه أحسن (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) بفتح الجيم قال ابن دقيق العيد: الذي ينبغي أن يضمن ينفع معنى يمنع أو ما يقاربه ولا يعود منك إلى الجد على الوجه الذي يقال فيه حظي منك كثير أو قليل بمعنى عنايتك بي أو رعايتك لي فإن ذلك نافع. قال ابن فرحون: وإنما قال ذلك لأن العناية من الله تعالى تنفع ولا بد، وأما الجد الثاني فإنه فاعل ينفع أي لا ينفع صاحب الحظ من نزول عذابك حظه وإنما ينفعه عمله الصالح فالألف واللام في الجد الثاني عوض عن الضمير وقد سوّغ الزمخشري ذلك وكذا اختار كثير من البصريين والكوفيين في نحو قوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] اهـ.
والجمهور على أن الجد معناه الحظ والغنى أي لا ينفع ذا الغنى والحظ منك غناه وحظّه وإنما ينفعه العمل الصالح، وقيل أراد بالجد أبا الأب وأبا الأم أي لا ينفع أحدًا نسبه، وضبطه بعضهم بالكسر وهو الاجتهاد أي لا ينفع ذا الاجتهاد منك اجتهاده وإنما ينفعه رحمتك.
(وقال شعبة) بن الحجاج بالسند المذكور (عن منصور) أي ابن المعتمر (قال: سمعت المسيب) بن رافع ووصله أحمد عن محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة به بلفظ: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا سلم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الحديث.
وحديث الباب سبق في الصلاة.

19 - باب
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِىُّ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ».
(باب) ذكر (قول الله تعالى: {وصلّ عليهم}) [التوبة: 103] أي اعطف عليهم بالدعاء لهم والترحم (و) ذكر (من خصّ أخاه) المسلم أو من النسب (بالدعاء دون نفسه) فيه رد لما في حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة: ابدأ بنفسك.
(وقال أبو موسى): عبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنه- فيما وصله المؤلّف في غزوة أوطاس (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما قال له أبو موسى: إن أبا عامر قال: قل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستغفر لي ودعا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بماء فتوضأ به ثم رفع يديه (اللهم اغفر لعبيد) بالتنوين (أبي عامر) وهو عم أبي موسى وفيه فقلت: ولي فاستغفر فقال: (اللهم اغفر لعبد الله بن قيس) الأشعري (ذنبه) وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريمًا.
6331 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ مَوْلَى سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى خَيْبَرَ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَيَا عَامِرُ لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ فَنَزَلَ يَحْدُو بِهِمْ يُذَكِّرُ (تَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا) وَذَكَرَ شِعْرًا، غَيْرَ هَذَا وَلَكِنِّى لَمْ أَحْفَظْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ هَذَا السَّائِقُ»؟ قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ: «يَرْحَمُهُ اللَّهُ» وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْلاَ مَتَّعْتَنَا بِهِ فَلَمَّا صَافَّ الْقَوْمَ قَاتَلُوهُمْ فَأُصِيبَ عَامِرٌ بِقَائِمَةِ سَيْفِ نَفْسِهِ فَمَاتَ، فَلَمَّا أَمْسَوْا أَوْقَدُوا نَارًا كَثِيرَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا هَذِهِ النَّارُ عَلَى أَىِّ شَىْءٍ تُوقِدُونَ»؟ قَالُوا: عَلَى حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ فَقَالَ: «أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَكَسِّرُوهَا». قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ: «أَوْ ذَاكَ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن يزيد بن أبي عبيد) أبي خالد (مولى سلمة) بن الأكوع قال: (حدّثنا سلمة بن الأكوع) -رضي الله عنه- أنه (قال: خرجنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى خيبر قال): ولأبي ذر فقال (رجل من القوم) لم يعرف اسمه لعامر بن الأكوع وهو عم سلمة (أبا عامر) وفي نسخة أي عامر (لو اسمعتنا من هنيهاتك)
بضم الهاء وفتح النون وبعد التحتية الساكنة هاء أخرى جمع هنيهة ولأبي ذر والأصيلي هنياتك بتشديد التحتية بعد النون من غير هاء ثانية من أراجيزك القصار (فنزل) عامر (يحدو بهم يذكر) بفتح الذال المعجمة وتشديد الكاف المكسورة (تالله لولا الله ما اهتدينا) يقول ذلك وما بعده من المصاريع الأخرى نحو:

(9/193)


ولا تصدقنا ولا صلينا
قال يحيى القطان (وذكر) يزيد بن أبي عبيد (شعرًا غير هذا)، ولكني لم أحفظه قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(من هذا السائق)؟ للإِبل (قالوا: عامر بن الأكوع. قال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يرحمه الله) وكانوا قد عرفوا أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما استرحم لإنسان قط في غزاة يخصه إلا استشهد (وقال): ولأبى ذر فقال (رجل من القوم) وهو عمر بن الخطاب (يا رسول الله: لولا) هلا (متعتنا به) أي وجبت له الجنة بدعائك وهلا تركته لنا (فلما صاف) المسلمون (القوم قاتلوهم فأصيب عامر) الحادي (بقائمة سيف نفسه) لأنه كان قصيرًا فتناول به ساق يهودي ليضربه فرجع ذباب السيف فأصاب عين ركبة نفسه (فمات) -رضي الله عنه- (فلما أمسوا) مساء اليوم الذي فتحت عليهم خيبر (أوقدوا نارًا كثيرة فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ما هذه النار على أي شيء توقدون؟ قالوا) نوقدها (على) لحم (حمر أنسية فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أهريقوا) بهمزة مفتوحة وسكون الهاء أي أريقوا (ما فيها وكسروها) بتشديد السين المهملة، ولأبي ذر هريقوا بإسقاط الهمزة وفتح الهاء وأكسروها بهمزة قطع مفتوحة (قال رجل) لم يسم أو هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (يا رسول الله) ولأبي ذر يا نبي الله (ألا) بالتخفيف (نهريق) بضم النون وفتح الهاء أي نريق (ما فيها ونغسلها؟ قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أو ذاك) بإسكان الواو في الفرع حرف عطف والمعطوف عليه محذوف أي افعلوا الإِراقة والغسل ولا تكسروا القدور لأنها تطهر بالغسل. وقال في التنقيح: أو ذاك بفتح الواو على معنى التقرير.
والحديث سبق في غزوة خيبر وغيرها.
6332 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِى أَوْفَى - رضى الله عنهما- قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ» فَأَتَاهُ أَبِى فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى».
وبه قال: (حدّثنا مسلم) هو ابن إبراهيم قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عمرو) بفتح العين ولأبي ذر هو ابن مرة بضم الميم وتشديد الراء المفتوحة بعدها هاء تأنيث أنه (قال: سمعت ابن أبي أوفى) عبد الله الصحابي ابن الصحابي (-رضي الله عنهما-) قال: (كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أتاه رجل بصدقة) بزكاة ماله ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بصدقته (قال):
(اللهم صلّ على آل فلان) امتثالاً لقوله تعالى: {وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] وفيه مشروعية الدعاء لدافع الزكاة والجمهور على سنية ذلك خلافًا لمن أخذ بظاهر الأمر وسقط لأبي ذر لفظ آل (فأتاه أبي) أبو أوفى علقمة بصدقته (فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى) أي عليه نفسه فآل مقحم أو عليه وعلى أتباعه ولا يحسن هذا من غيره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ هو معدود من خصائصه. نعم يجوز الصلاة لنا على غير الأنبياء تبعًا، والمراد بالصلاة هنا معناها اللغوي وهو الدعاء.
والحديث سبق في الزكاة والله أعلم.
6333 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرًا قَالَ: قَالَ: لِى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلاَ تُرِيحُنِى مِنْ ذِى الْخَلَصَةِ»؟ وَهْوَ نُصُبٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ يُسَمَّى: الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى رَجُلٌ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَصَكَّ فِى صَدْرِى وَقَالَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» قَالَ: فَخَرَجْتُ فِى خَمْسِينَ مِنْ أَخْمَسَ مِنْ قَوْمِى وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: فَانْطَلَقْتُ فِى عُصْبَةٍ مِنْ قَوْمِى فَأَتَيْتُهَا فَأَحْرَقْتُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا مِثْلَ الْجَمَلِ الأَجْرَبِ فَدَعَا لأَحْمَسَ وَخَيْلِهَا.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن إسماعيل) بن أبي خالد الأحمسي الكوفي (عن قيس) هو ابن أبي حازم أنه (قال: سمعت جريرًا) بفتح الجيم وكسر الراء ابن عبد الله الأحمسي الكوفي البجلي -رضي الله عنه- (قال: قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ألا) بالتخفيف (تريحني) بالراء والحاء المهملتين من الإِراحة (من ذي الخلصة) بالخاء المعجمة واللام والصاد المهملة المفتوحات (وهو نصب) بضم النون والصاد المهملة صنم أو حجر (كانوا يعبدونه) من دون الله (يسمى الكعبة اليمانية) بالتخفف، ولأبي ذر عن الكشميهني كعبة اليمانية (قلت: يا رسول الله إني رجل لا أثبت على الخيل) أي أسقط لعدم اعتيادي ركوبها أو كان يخاف السقوط عنها حالة جريها (فصكّ) بالصاد المهملة المفتوحة فضرب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في صدري وقال: اللهم ثبّته) فدعا له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأكثر مما طلب وهو الثبوت مطلقًا (واجعله هاديًا) لغيره حال كونه (مهديًّا) في نفسه (قال) جرير (فخرجت في خمسين) زاد أبو ذر عن الكشميهني فارسًا (من أحمس من قومي) قال علي بن المديني: (وربما قال سفيان) بن عيينة: (فانطلقت في عصبة) ما بين عشرة إلى أربعين رجلاً (من قومي) أحمس (فأتيتها) أي ذا الخلصة

(9/194)


(فأحرقتها) وكان ذلك أول ما استجيب من دعائه له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذلك أنه عمل في ذلك هو والخمسون ما لا يعمله خمسة آلاف (ثم أتيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت: يا رسول الله والله ما أتيتك حتى تركتها) أي ذا الخلصة (مثل الجمل الأجرب) أي المطلي
بالقطران، فكان التشبيه باعتبار السواد الحاصل بالإِحراق (فدعا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لأحمس وخيلها) وفي المغازي فبرك على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.
والحديث سبق في المغازي.
6334 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَسٌ خَادِمُكَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ».
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن الربيع) أبو زيد الهروي البصري وكان يتجر في الثياب الهروية قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة السدوسي أنه (قال: سمعت أنسًا) -رضي الله عنه- (قال: قالت) أمي (أم سليم) -رضي الله عنها- (للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يا رسول الله (أنس خادمك) ادع له (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(اللهم أكثر) بهمزة مفتوحة وكسر المثلثة (ماله وولده وبارك له فيما أعطيته) فكثر ماله وكان له بالبصرة بستان يثمر في السنة مرتين، وكان فيه ريحان ريحه ريح المسك، وكان له مائة وعشرون ولدًا، وقيل: إنه كان يطوف بالكعبة ومعه من ذريته أكثر من سبعين نفسًا وطال عمره، فقيل عاش تسعة وتسعين سنة، وقيل مائة سنة وثلاثين سنة، وقيل مائة وعشرين، وقيل مائة وسبعًا، وفي صحيح مسلم قال أنس: فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليعادّون على نحو المائة.
وحديث الباب أخرجه مسلم في الفضائل.
6335 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلاً يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: «رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا فِى سُورَةِ كَذَا وَكَذَا».
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدثني (عثمان بن أبي شيبة) هو عثمان بن محمد ونسبه لجده أبي شيبة إبراهيم لشهرته به قال: (حدّثنا عبدة) بفتح المهملة وسكون الموحدة آخرها هاء تأنيث ابن سليمان (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلاً) هو عبد الله بن زيد الأنصاري (يقرأ في المسجد فقال):
(رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها) أي نسيتها بعد تبليغها (في سورة كذا وكذا) قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على تعيين الآيات المذكورة.
والحديث سبق في فضائل القرآن، وأخرجه مسلم في الصلاة والنسائي في فضائل القرآن.
6336 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِى سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَسَمَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ وَقَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بضم العين ابن الحارث بن سخبرة الأزدي الحوضي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (أخبرني) بالإفراد (سليمان) بن مهران الأعمش (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- أنه (قال: قسّم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قسمًا) بفتح القاف وسكون السين غنائم حنين فآثر ناسًا في القسمة أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإِبل وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل وأعطى ناسًا من العرب استئلافًا لهم (فقال رجل) اسمه معتب بن قشير المنافق كما عند الواقدي (إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله) بضم همزة أريد مبنيًّا للمفعول. قال ابن مسعود -رضي الله عنه- (فأخبرت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بذلك (فغضب حتى رأيت الغضب) أي أثره (في وجهه) وفي باب الصبر على الأذى من كتاب الأدب وتغيّر وجهه (وقال):
(برحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا) الذي قاله هذا الرجل (فصبر) وأشار بقوله لقد أوذي بأكثر من هذا إلى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى} [الأحزاب: 69] وأذى موسى عليه السلام هو حديث المومسة التي راودها قارون على قذفه بنفسها حتى كان سبب ذلك هلاك قارون أو اتهامهم إياه بقتل هارون فأحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى أو قولهم: هو آدر. وفي الحديث أن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فسهم ومع ذلك فيتلقونه بالحلم كما فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقتداء بموسى عليه السلام، والمراد من الحديث هنا قوله يرحم الله موسى فخصه بالدعاء فهو مطابق لأحد جزأي الترجمة والله أعلم.

20 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّجْعِ فِى الدُّعَاءِ
(باب ما يكره من السجع في الدعاء) وهو بفتح السين المهملة وسكون الجيم بعدها عين مهملة كلام مقفى من غير وزن.
6337 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ أَبُو حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ أَكْثَرْتَ فَثَلاَثَ مِرَارٍ، وَلاَ تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ وَلاَ أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِى الْقَوْمَ، وَهُمْ فِى حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَاجْتَنِبْهُ فَإِنِّى عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ يَعْنِى لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ الاِجْتِنَابَ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن محمد بن السكن)

(9/195)


بفتح السين المهملة والكاف بعدها نون ابن حبيب القرشي البزار بالموحدة والمعجمة البصري نزيل بغداد قال: (حدّثنا حبان بن هلال) بفتح
الحاء المهملة وتشديد الموحدة (أبو حبيب) الباهلي قال: (حدّثنا هارون) بن موسى (المقرئ) بالهمزة النحوي قال: (حدّثنا الزبير بن الخريت) بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة بعدها تحتية ساكنة ثم مثناة البصري (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال): آمرًا أمر إرشاد (حدث الناس كل جمعة مرة فإن أبيت) امتنعت (فمرتين) في كل جمعة (فإن أكثرت فثلاث مرار) ولأبي ذر والأصيلي وابن عساكر: مرات (ولا تمل الناس هذا القرآن) بضم الفوقية وكسر الميم وتشديد اللام المفتوحة من الإِملال وهي السآمة والناس نصب على المفعولية وهو كالبيان لحكمة الأمر بعدم الإِكثار والقرآن مفعول ثان أو بنزع الخافض أي لا تملهم عن القرآن (ولا) بالواو ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بالفاء (ألفينك) بضم الهمزة وسكون اللام وكسر الفاء وفتح التحتية وتشديد النون المؤكدة أي لا أصادفنك ولا أجدنك (تأتي القوم وهم) والحال أنهم (في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم) بضم الفوقية وكسر الميم والرفع، ويجوز النصب بتقدير فإن تملهم (ولكن أنصت) بهمزة قطع مفتوحة وكسر الصاد اسكت مع الإِصغاء (فإذا أمروك) التمسوا منك أن تقص عليهم وتحدثهم (فحدّثهم وهم) والحال أنهم (يشتهونه فانظر) بالفاء ولأبي ذر وانظر (السجع من الدعاء) المتكلف المانع من الخشوع المطلوب فيه أو المستكره من السجع أو الاستكثار منه (فاجتنبه) ولا تشغل فكرك به لما ذكر (فإني عهدت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك) ولفظة إلا ثابتة في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي كما في الفرع وأصله، فتكون ساقطة عند الكشميهني، وحينئذ فيكون موافقًا لما عند الإِسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن يحيى بن محمد شيخ البخاري بسنده فيه حيث قال: لا يفعلون ذلك بإسقاط إلا وذلك واضح كما لا يخفى، وفسره في غير رواية أبي ذر على وجه إثبات لفظ إلا بقوله (يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) وقوله يعني ساقط لأبي ذر قال في الإحياء: المكروه من السجع هو المتكلف لأنه لا يلائم الضراعة والذلة فإن وقع من غير قصد فلا بأس به، وفي الألفاظ النبوية كثير من ذلك كقوله: اللهم منزّل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب، وكقوله: صدق وعده وأعزّ جنده، وقوله: أعوذ بك من عين لا تدمع ونفس لا تشبع وقلب لا يخشع.

21 - باب لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ
هذا (باب) بالتنوين (ليعزم) الشخص (المسألة) لربه تعالى (فإنه لا مكره له) بكسر الراء.
6338 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلاَ يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِى فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا إسماعيل) ابن علية قال: (أخبرنا عبد العزيز) بن صهيب (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة) أي فليقطع بالسؤال، ولأحمد الدعاء بدل المسألة (ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني) بقطع الهمزة أي فلا يشك في القبول بل يستيقن وقوع مطلوبه ولا يعلق ذلك بمشيئة الله وإن كان مأمورًا في جميع ما يريد فعله بمشيئة الله (فإنه لا مستكره له) بكسر الراء فينبغي الاجتهاد في الدعاء وأن يكون الداعي على رجاء الإجابة ولا يقنط من -رحمه الله تعالى- فإنه يدعو كريمًا ويلح فيه ولا يستثني بل يدعو دعاء البائس الفقير.
وفي الترمذي وقال: حديث غريب عن أبي هريرة مرفوعًا: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإِجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" قال التوربشتي: أي كونوا عند الدعاء على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الردّ أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققًا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقًا وإذا لم يكن الرجاء صادقًا لم يكن الرجاء خالصًا والداعي

(9/196)


مخلصًا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقيق الأصل.
والحديث أخرجه مسلم في الدعوات والنسائي في اليوم والليلة.
6339 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى اللَّهُمَّ ارْحَمْنِى إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب الحارثي القعنبي (عن مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) لأن هذا التعليق صورته صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه، وقوله: إن شئت ثبت في رواية أبي ذر عن الحموي في الأولى، وأما في الثانية فثابت اتفاقًا وزاد في رواية همام عن أبي هريرة في كتاب التوحيد: اللهم ارزقني إن شئت (ليعزم المسألة) ولا يقل إن شئت كالمستثني فلو قال ذلك للتبرك لا للاستثناء فلا يكره (فإنه لا مكره له) تعالى، وهل النهي للتحريم أو للتنزيه خلاف. وحمله النووي على الثاني.
والحديث أخرجه أبو داود في الصلاة والترمذي في الدعوات.

22 - باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ
هذا (باب) بالتنوين (يستجاب للعبد) دعاؤه (ما لم يعجل).
6340 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِى عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِى».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام الأعظم (عن ابن شهاب) الزهري (عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال (مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرَّحمن (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة وقال في الكواكب: يستجاب من الاستجابة بمعنى الإِجابة. إلى الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقوله: لأحدكم أي يجاب دعاء كل واحد منكم إذ المفرد المضاف يفيد العموم على الأصح (يقول) بيان لقوله: ما لم يعجل، ولأبي ذر مما في الفتح فيقول بالفاء والنصب (دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم، وفي رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة عند مسلم والترمذي: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل، قيل: وما الاستعجال؟ قال: يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء، وقوله فيستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة. قال المظهري: من كان له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها فإن لكل شيء وقتًا وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة، وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله تعالى يحب الإلحاح في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.
وللدعاء آداب. منها تقديم الوضوء والصلاة والتوبة والإخلاص واستقبال القبلة وافتتاحه بالحمد والثناء والصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يختتم الدعاء بالطابع وهو آمين وأن لا يخص نفسه بالدعاء، بل يعم ليدرج دعاءه وطلبه في تضاعيف دعاء الموحدين ويخلط حاجته بحاجتهم لعلها أن تقبل ببركتهم وتجاب وأصل هذا كله ورأسه اتقاء الشبهات فضلاً عن الحرام، وفي حديث مالك بن يسار مرفوعًا: إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم. رواه أبو داود ومن عادة من يطلب شيئًا من غيره أن يمدّ كفه إليه فالداعي يبسط كفه إلى الله متواضعًا متخشعًا وحكمة مسح الوجه بهما التفاؤل بإصابة ما طلب. وتبركًا بإيصاله إلى وجهه الذي هو أعلى الأعضاء وأولاها فمنه يسري إلى سائر الأعضاء.
والحديث أخرجه مسلم في الدعوات أيضًا، وأبو داود في الصلاة والترمذي وابن ماجة في الدعاء.

23 - باب رَفْعِ الأَيْدِى فِى الدُّعَاءِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِىُّ، دَعَا النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ».
(باب) مشروعية (رفع الأيدي في الدعاء) وسقط لفظ باب لأبي ذر.
(وقال أبو موسى) عبد الله

(9/197)


بن قيس (الأشعري) -رضي الله عنه- فيما سبق موصولاً في غزوة حنين (دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم رفع يديه) في قصة قتل أبي عامر عم أبي موسى (ورأيت بياض إبطيه) بكسر الهمزة وسكون الموحدة (وقال ابن عمر) -رضي الله عنهما- مما وصله المؤلّف في غزوة بني جذيمة بجيم ومعجمة بوزن عظيمة (رفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه):
(اللهم) ولأبي ذر عن الكشميهني وقال اللهم (إني أبرأ إليك مما صنع خالد) أي ابن الوليد -رضي الله عنه- من قتله لهم بعد قولهم صبأنا يريدون خرجنا من ديننا إلى دين الإسلام ولم يحسنوا أن يقولوا ذلك ولم يتثبت في أمرهم ولم يرو أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوجب عليه القود لأنه متأول.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ الأُوَيْسِىُّ حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَشَرِيكٍ سَمِعَا أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ.
(قال أبو عبد الله) البخاري -رحمه الله- (وقال الأويسي): عبد العزيز بن عبد الله (حدثني) بالإفراد (محمد بن جعفر) أي ابن أبي كثير (عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (وشريك) بفتح الشين المعجمة ابن أبي نمير أنهما (سمعا أنسًا) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه). وهذا طرف من حديث سبق في الاستسقاء معلقًا ووصله أبو نعيم، وفي حديث أبي هريرة قدم الطفيل بن عمرو على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: إن دوسًا عصت فادع الله عليها فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: "اللهم اهد دوسًا" رواه البخاري في الأدب، وفي حديث عائشة عند مسلم أنها رأت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو رافعًا يديه.
وفي الباب أحاديث كثيرة يطول سردها وفيها ردّ على القائل بعدم الرفع إلا في الاستسقاء لحديث أنس الصحيح لم يكن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء. وأجيب: بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع فالرفع في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً، وفي الدعاء إلى المنكبين ويكون رؤية بياض إبطيه في الاستسقاء أبلغ منها في غيره أو أن الكفّين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء.

24 - باب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ
(باب الدعاء) حال كون الداعي (غير مستقبل القبلة).
6342 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: بَيْنَا النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا؟ فَتَغَيَّمَتِ السَّمَاءُ وَمُطِرْنَا حَتَّى مَا كَادَ الرَّجُلُ يَصِلُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلَمْ تَزَلْ تُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ، فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا فَقَدْ غَرِقْنَا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا» فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَقَطَّعُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَلاَ يُمْطِرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن محبوب) بالحاء المهملة البناني البصري قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: بينا) بغير ميم (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب يوم الجمعة فقام رجل) أعرابي (فقال: يا رسول الله ادع الله أن يسقينا فتغيمت السماء) الفاء هي الفصيحة الدالة على محذوف أي فدعا فاستجاب الله دعاءه فتغيمت السماء (ومطرنا حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله) من كثرة المطر، ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني إلى المنزل (فلم نزل نمطر) بضم النون وفتح الطاء من الجمعة (إلى الجمعة المقبلة) والذي في الفرع وأصله فلم تزل تمطر بالفوقية فيهما (فقام ذلك الرجل أو غيره فقال): يا رسول الله (ادع الله أن يصرفه) أي المطر (عنا فقد غرقنا فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(اللهم) أنزل المطر (حوالينا ولا) تنزله (علينا. فجعل السحاب يتقطع حول المدينة ولا يمطر) بضم أوله وكسر ثالثه السحاب (أهل المدينة) نصب ولأبي ذر ولا يمطر بفتح الطاء مبنيًّا للمفعول وأهل رفع.
ومناسبة الحديث للترجمة من جهة أن الخطيب من شأنه أن يكون مستدبر القبلة وأنه لم ينقل أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما دعا في المرتين استدار.
والحديث سبق في الاستسقاء على المنبر.

25 - باب الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
(باب الدعاء) حال كون الداعي (مستقبل القبلة).
6343 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِى فَدَعَا وَاسْتَسْقَى ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو وفتح الهاء ابن خالد قال: (حدّثنا عمرو بن يحيى) بفتح العين المازني الأنصاري (عن عبادة بن تميم) بفتح العين وتشديد الموحدة الأنصاري المازني (عن عبد الله بن زيد) الأنصاري -رضي الله عنه- أنه (قال: خرج النبي) ولأبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى هذا المصلّى) بفتح اللام المشددة (يستسقي فدعا واستسقى ثم استقبل القبلة وقلب رداءه) فقدم الدعاء قبل الاستقبال، وحينئذ فلا مطابقة بين الترجمة والحديث، لكن قال

(9/198)


الإِسماعيلي: يحتمل أن البخاري أراد أنه لما تحوّل وقلب رداءه دعا حينئذ أيضًا، ويحتمل أنه أشار كعادته لما ورد في بعض طرق الحديث مما سبق في كتاب الاستسقاء أنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحوّل رداءه وقد ورد في استقبال القبلة عند الدعاء من فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدّة أحاديث.

26 - باب دَعْوَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ، وَبِكَثْرَةِ مَالِهِ
(باب) ذكر (دعوة) وفي نسخة دعاء (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لخادمه) أنس بن مالك -رضي الله عنه- (بطول العمر وبكثرة ماله).
6344 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا حَرَمِىٌّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَتْ أُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود) نسبه لجده واسم أبيه محمد واسم أبي الأسود حميد قال: (حدّثنا حرمي) بفتح الحاء المهملة والراء وكسر الميم وتشديد التحتية ابن عمارة العتكي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة السدوسي (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: قالت أمي) أم سليم الرميصاء (يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له) سقط أنس لأبي ذر (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته) زاد مسلم من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس في آخر هذا الحديث قال أنس: فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليعادّون على نحو المائة اليوم، وثبت في الصحيح أنه كان في الهجرة ابن تسع سنين وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل، وقيل سنة ثلاث وله مائة وثلاث سنين. قال خليفة: وهو المعتمد وأما طول عمره فلم يذكر في حديث الباب وكان المؤلّف أشار لما في بعض طرق الحديث عن أنس قال: قالت أم سليم خويدمك ألا تدعو له؟ فقال: اللهم أكثر ماله وولده وأطل حياته واغفر له. رواه البخاري في الأدب المفرد وفيه دلالة على إباحة الاستكثار من المال والولد والعيال لكن إذا لم يشغله ذلك عن الله والقيام بحقوقه. قال الله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15] ولا فتنة أعظم من شغلهم العبد عن القيام بحقوق المولى ولولا دعوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنس لخيف عليه.

27 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ
(باب) ذكر (الدعاء عند الكرب) بفتح الكاف وسكون الراء بعدها موحدة وهو ما يدهم الإنسان فيأخذ بنفسه فيغمه ويحزنه.
6345 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِى الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الأزدي الفراهيدي بالفاء البصري قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة السدوسي الحافظ المفسر (عن أبي العالية) رفيع الرياحي (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو عند) حلول (الكرب) ولمسلم من رواية يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أبي العالية كان إذا حزبه أمر وهو بفتح الحاء المهملة والزاي وبالموحدة أي هجم عليه أو غلبه (يقول):
(لا إله إلا الله العظيم) المطلق البالغ أقصى مراتب العظمة الذي لا يتصوّره عقل ولا يحيط بكنهه بصيرة (الحليم) الذي لا يستفزه غضب ولا يحمله غيظ على استعجال العقوبة والمسارعة إلى الانتقام وسقط لغير أبي ذر لفظ يقول (لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم) بالجر صفة للعرش ووصف العرش بالعظيم لأنه أعظم خلق الله مطافًا لأهل السماء وقبلة للدعاء، وضبطه الداودي فيما نقله عنه ابن التين السفاقسي بالرفع وبه قرأ ابن محيصن آخر التوبة نعتًا للرب قال أبو بكر الأصم: جعل العظيم صفة لله أولى من جعله صفة للعرش وثبتت الواو في قوله ورب العرش لأبي ذر.
6346 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِى عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ». وَقَالَ وَهْبٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن هشام بن أبي عبد الله) الدستوائي (عن قتادة) بن دعامة (عن أبي العالية) رفيع (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول عند) حلول (الكرب): ولمسلم من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب.
(لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبته إلى أكرم
الأكرمين وقرئ في آية المؤمنين بالرفع صفة للرب تعالى كما مرّ، وقد صدر

(9/199)


هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية ووصف الرب تعالى بالعظمة والحلم وهما صفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز ووصفه بكمال ربوبيته الشاملة للعالم العلوي والسفلي، والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه فعلم القلب ومعرفته بذلك يوجب محبته وإجلاله وتوحيده فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، فإذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها هذا الحديث وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور، وإنما يصدق هذه الأمور من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها أشار إليه في زاد المعاد. وقال في الكواكب فإن قلت: هذا ذكر لا دعاء. قلت: هو ذكر يستفتح به الدعاء بكشف كربه وعن سفيان بن عيينة أما علمت أن الله قال: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين.
ومن دعوات الكرب ما رواه أبو داود وصححه ابن حبان عن أبي بكرة رفعه: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت. ومنها الله الله ربي لا أشرك به شيئًا رواه أصحاب السنن إلا الترمذي من حديث أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب". ولابن أبي الدنيا كتاب الفرج عند الشدة فائق في معناه.
(وقال وهب): بفتح الواو وسكون الهاء وللمستملي وهيب بضم الواو وفتح الهاء لكن قال أبو ذر الهروي: الصواب وهب يعني بفتح الواو وهو وهب بن جرير بن حازم قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) السدوسي (مثله) أي مثل الحديث السابق، وأشار المؤلّف بهذا التعليق إلى رد قول القائل إن قتادة لم يسمع من أبي العالية إلا أربعة أحاديث حديث يونس بن متى، وحديث ابن عمر في الصلاة، وحديث القضاة ثلاثة، وحديث ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون لأن شعبة ما كان يحدث عن أحد من المدلسين إلا بما يكون ذلك المدلس قد سمعه من شيخه وقد حدث شعبة بهذا الحديث عن قتادة فانتفت ريبة تدليس قتادة في هذا الحديث حيث رواه بالعنعنة، لا سيما وقد أخرجه مسلم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن أبا العالية حدثه فصرح بسماعه له منه.

28 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ
(باب التعوّذ) بالله (من جهد البلاء) بفتح الجيم وضمها.
6347 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِى سُمَىٌّ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ
الأَعْدَاءِ. قَالَ سُفْيَانُ: الْحَدِيثُ ثَلاَثٌ زِدْتُ أَنَا وَاحِدَةً لاَ أَدْرِى أَيَّتُهُنَّ هِىَ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدثني) بالإفراد (سمي) بضم السين وفتح الميم وتشديد التحتية مولى أبي بكر بن عبد الرَّحمن (عن أبي صالح) ذكوان الزيات (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعوّذ) تعبدًا وتواضعًا وتعليمًا لأمته (من جهد البلاء) بفتح الموحدة مع المد ويجوز الكسر مع القصر وهو الحالة التي يمتحن بها الإنسان وتشق عليه بحيث يتمنى فيها الموت ويختاره عليها وعن ابن عمر جهد البلاء قلة المال وكثرة العيال (و) من (درك الشقاء) بفتح الدال والراء المهملتين وقد تسكن الراء اللحاق والوصول إلى الشيء والشقاء بالشين المعجمة والقاف الهلاك وقد يطلق على السبب المؤدي إلى الهلاك (و) من (سوء القضاء) ما يسوء الإنسان ويوقعه في المكروه ولفظ السوء ينصرف إلى المقضي عليه دون القضاء وهو كما قال النووي شامل للسوء في الدين والدنيا والبدن والمال والأهل وقد يكون في الخاتمة أسأل الله تعالى العافية وأسأله بوجاهة وجهه الكريم أن يختم لي وللمسلمين بخاتمة الحسنى ويرفعنا إلى المحل الأسنى بمنه وكرمه (و) من (شماتة الأعداء) وهي فرح العدو ببلية تنزل بمن يعاديه.
(قال سفيان) بن عيينة بالسند السابق: (الحديث) مذكور فيه (ثلاث زدت أنا واحدة) من قبل نفسي (لا أدري أيتهن هي) وقد أخرج الإسماعيلي

(9/200)


الحديث من طريق ابن أبي عمر عن سفيان فبين فيه أن الخصلة المزيدة هي شماتة الأعداء، ولعل سفيان كان إذا حدث ميزها ثم طال الأمر فطرأ عليه النسيان فحفظ بعض من سمع تعيينها منه قبل أن يطرأ عليه النسيان ثم كان بعد أن خفي عليه تعيينها يذكر كونها مزيدة مع إبهامها.
والحديث أخرجه البخاري أيضًا في القدر ومسلم في الدعوات والنسائي في الاستعاذة.

29 - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى»
(باب دعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عند موته بقوله (اللهم الرفيق الأعلى) قال في فتح الباري: وتبعه العيني وفي رواية الأكثرين باب بغير ترجمة.
6348 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِى اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِى عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِى رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ: «لَنْ يُقْبَضَ نَبِىٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ». فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِى غُشِىَ عَلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى» قُلْتُ: إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِى كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهْوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى».
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن عفير) نسبه لجده عفير بضم العين المهملة وفتح الفاء وبعد التحتية الساكنة راء واسم أبيه محمد (قال: حدثني) بالإفراد ولأبي ذر بالجمع (الليث) بن سعد إمام المصريين صاحب المكارم العظيمة (قال: حدثني) بالإفراد (عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب) أحد الأعلام وسيد التابعين (وعروة بن الزبير) بن العوّام الأسدي المدني ولد في أوائل خلافة عثمان وتوفي سنة أربع وتسعين على الصحيح (في رجال من أهل العلم) أي أخبراه في جملة طائفة أخرى أخبروه أيضًا بذلك أو في حضور طائفة مستمعين له. وقال في الفتح: لم أقف على تعيين أحد منهم صريحًا، وقد روى أصل الحديث المذكور عن عائشة ابن أبي مليكة وذكوان مولى عائشة وأبو سلمة بن عبد الرَّحمن والقاسم بن محمد، فيحتمل أن يكون الزهري عناهم أو بعضهم (أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول وهو صحيح):
(لن يقبض نبي قط) وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني لم يقبض بلم الجازمة ويقبض بضم أوّله وفتح ثالثه للمفعول فيهما (حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخبر) على صيغة المجهول بين الموت والحياة (فلما نزل به) بفتح النون والزاي في الفرع كأصله حضره الموت (ورأسه) والحال أن رأسه (على فخذي) بالمعجمتين (غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص) بفتح الهمزة والخاء أي رفع (بصره إلى السقف ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى) بنصب الرفيق أي اخترت الرفيق الأعلى وهو اسم جاء على فعيل ومعناه الجماعة كالصديق والخليط. قيل: وهو الذي جاء مبنيًّا في الحديث من قوله: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقيل هم المقربون من الملائكة، وقيل ليس الأعلى من الصفات الموضحة فلا يتوهم أن ثمة رفيقًا ليس بأعلى بل هو من الصفات المادحة من باب قوله تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} [المائدة: 44] قالت عائشة: (قلت إذًا لا يختارنا وعلمت أنه الحديث الذي كان يحدّثنا) به (وهو صحيح) نعني قوله لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير (قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها اللهم الرفيق الأعلى).
والحديث يأتي إن شاء الله تعالى في الرقاق وسبق في مواضع وأخرجه مسلم في الفضائل.

30 - باب الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ
(باب) ذكر كراهية (الدعاء بالموت والحياة) إذا كانت الحياة شرًّا للداعي.
6349 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا، قَالَ: لَوْلاَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن إسماعيل) بن أبي خالد (عن قيس) أي ابن أبي حازم أنه (قال: أتيت خبابًا) بالخاء المعجمة والموحدة المشددة المفتوحتين وبعد الألف موحدة أخرى ابن الأرتّ (وقد اكتوى سبعًا) لوجع كان
به (قال): وللكشميهني وقال: (لولا أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به) على نفسي.
والحديث مرّ في الطب.
6350 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِى قَيْسٌ قَالَ: أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا فِى بَطْنِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَوْلاَ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ، لَدَعَوْتُ بِهِ.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدثني (محمد بن المثنى) العنزي الحافظ قال: (حدّثنا يحيى) القطان (عن إسماعيل) بن أبي خالد أنه (قال: حدثني) بالإفراد (قيس) هو ابن أبي حازم (قال: أتيت خبابًا وقد اكتوى سبعًا في بطنه) لم يقل في الأولى في بطنه، فلذا أورد هذا الحديث أيضًا (فسمعته يقول: لولا أن النبي) وفي نسخة أن رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهانا أن ندعو بالموت

(9/201)


لدعوت به).
6351 - حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِى، وَتَوَفَّنِى إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِى».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدثني بالإفراد (ابن سلام) بتخفيف اللام وتشديدها (حدّثنا) ولأبي ذر حدثني بالإفراد (ابن سلام) بتخفيف اللام وتشديدها محمد قال: (أخبرنا إسماعيل ابن علية) بضم العين وفتح اللام والتحتية المشددة هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم البصري (عن عبد العزيز بن صهيب) البناني الأعمى (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مخاطبًا للصحابة ومن بعدهم من المسلمين عمومًا.
(لا يتمنين) بنون التأكيد الثقيلة (أحد منكم) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أحدكم (الموت لضر) أي لأجل مرض أو غيره (نزل به فإن كان) من نزل به الضر (لا بدّ متمنيًّا للموت فليقل أللهم) بقطع الهمزة كهمزة (أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي) وقوله لا يتمنّين نهي خرج في صورة النفي للتأكيد وإنما نهى عن ذلك لأنه في معنى التبرم عن قضاء الله في أمر منفعته عائدة على العبد في آخرته نعم لو كان التمني خوف فساد الدين ساغ له ذلك وقوله: فليقل ليس للوجوب لأن الأمر بعد الحظر لا يبقى على حقيقته.
والحديث أخرجه مسلم في الدعوات أيضًا والترمذي في الجنائز والنسائي في الطب: والله أسأل أن يطيل عمري في طاعته، ويلبسني أثواب عافيته، ويقبضني على الإسلام والسنة، من غير
فتنة ولا محنة في طيبة الطيبة، وأن يرد ضالتي، ويصلح لي ديني ودنياي وآخرتي، والحمد لله وصلّى الله على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

31 - باب الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحِ رُءُوسِهِمْ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: وُلِدَ لِى غُلاَمٌ وَدَعَا لَهُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَرَكَةِ.
(باب الدعاء للصبيان بالبركة ومسح رؤوسهم وقال أبو موسى) عبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنه- مما سبق موصولاً في العقيقة (ولد لي غلام) ولأبي ذر عن الكشميهني مولود (ودعا له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) معطوف على محذوف ذكره في العقيقة ولفظه ولد لي غلام فأتيت به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة ودعا له (بالبركة).
6352 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنِ الْجَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البلخي قال: (حدّثنا حاتم) بالحاء المهملة وبعد الألف فوقية ابن إسماعيل المدني أبو إسماعيل الحافظ الحارثي مولاهم (عن الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة (ابن عبد الرَّحمن) ويدعى الجعيد بن أوس وقد ينسب إلى جده أنه (قال: سمعت السائب بن يزيد) بن سعيد الكندي صحابي صغير له أحاديث قليلة وحج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة -رضي الله عنهم- (يقول: ذهبت بي خالتي) لم تسم (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي) علية بنت شريح (وجع) بفتح الواو وكسر الجيم أي مريض قال: السائب (فمسح) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (رأسي) بيده (ودعا لى بالبركة).
وهذا من غرض بعض الترجمة.
(ثم توضأ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فشرِبتُ من وضوئه) بفتح الواو من الماء المتقاطر من أعضائه المقدسة (ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتمه) الذي كان يعرف به عند أهل الكتاب (بين كتفيه) بالتثنية إلى جهة كتفه الأيسر (مثل زر الحجلة) بكسر الميم وسكون المثلثة مفعول نظرت وزر بكسر الزاي وتشديد الراء والحجلة بفتح الحاء المهملة والجيم واحدة الحجال بيوت تزين لها عرى وأزرار.
والحديث سبق في باب خاتم النبوّة قبل المبعث وفي باب استعمال وضوء الناس من كتاب الطهارة.
6353 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى أَيُّوبَ، عَنْ أَبِى عَقِيلٍ، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ مِنَ السُّوقِ أَوْ إِلَى السُّوقِ فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ فَيَلْقَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ فَيَقُولاَنِ: أَشْرِكْنَا فَإِنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَيُشْرِكُهُمْ فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِىَ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله أحد الأعلام قال: (حدّثنا سعيد بن أبي أيوب) الخزاعي مولاهم المصري أبو يحيى بن مقلاص (عن أبي عقيل) بفتح العين المهملة وكسر القاف زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام القرشي المصري (أنه كان يخرج به جدّه عبد الله بن هشام) التيميّ من بني تيم بن مرة (من السوق أو إلى السوق) قال الكرماني: من السوق أي من جهة دخول السوق والمعاملة فيه بالشك من الراوي وفي باب الشركة في الطعام

(9/202)


إلى السوق بالجزم من غير شك (فيشتري الطعام فيلقاه ابن الزبير) عبد الله (وابن عمر) عبد الله (فيقولان) له (أشركنا) بقطع الهمزة مفتوحة وكسر الراء في الطعام الذي اشتريته (فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد دعا لك بالبركة) وذلك أن أمه زينب بنت حميد ذهبت به إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمسح رأسه ودعا له كما في رواية الباب المذكور (فيشركهم) بفتح التحتية والراء لأبي ذر وبالضم ثم الكسر لغيره وعبر بالجمع باعتبار أن أقل الجمع اثنان (فربما أصاب) ابن هشام من الربح (الراحلة كما هي) أي بتمامها (فيبعث بها إلى المنزل) ببركة دعوة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له.
وفي الحديث ما ترجم له من الدعاء للصبيان بالبركة ومسح رؤوسهم كما في رواية باب الشركة المذكورة وإجابة دعائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
6354 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ الَّذِى مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى وَجْهِهِ وَهْوَ غُلاَمٌ مِنْ بِئْرِهِمْ.
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي الفقيه قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهري المدني (عن صالح بن كيسان) بفتح الكاف المدني أبي محمد أو أبي الحارث مؤدّب ولد عمر بن عبد العزيز (عن ابن شهاب) الزهري أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (محمود بن الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة الأنصاري الجزري المدني (وهو الذي مج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وجهه وهو غلام) ابن خمس سنين (من) ماء (بئرهم) التي في دارهم وكان فعله لذلك -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للتبريك على عادته الشريفة مع أولاد أصحابه والدعابة معهم لطفًا ورحمة وتشريعًا جزاه الله عنا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته وصلّى عليه وسلم كثيرًا.
والحديث مرّ في العلم وغيره.
6355 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيَدْعُو لَهُمْ فَأُتِىَ بِصَبِىٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي روّاد العتكي المروزي الحافظ أبو عبد الرَّحمن قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يؤتى بالصبيان فيدعو لهم) فأتي بصبي لم يأكل ولم يشرب غير اللبن للتغذي وهو ابن قيس أو الحسن أو الحسين كما فى الأوسط للطبراني (فبال) الصبي (على ثوبه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فدعا بماء فأتبعه إياه) بقطع الهمزة وسكون الفوقية صبه عليه حتى غمره من غير إسالة بدليل قوله (ولم يغسله).
وسبق الحديث في الوضوء.
6356 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى عَبْدُ اللَّهُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ مَسَحَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى سَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (عبد الله بن ثعلبة) بفتح المثلثة والعين المهملة الساكنة الصحابي (ابن صعير) بضم الصاد وفتح العين المهملتين الصحابي أيضًا (وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد مسح عينه) سبق معلقًا في غزوة الفتح من طريق يونس عن الزهري مسح وجهه عام الفتح (أنه رأى سعد بن أبي وقاص يوتر بركعة) واحدة وحمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، ولا يخفى مطابقة الحديث لما ترجم له والله الموفق.

32 - باب الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب الصلاة على النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الصلاة لغة الدعاء قال: تعالى: {وصل عليهم} [التوبة: 103] أي ادع لهم والدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة فالعابد داع كالسائل وبهما فسر قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] فقيل أطيعوني أثبكم، وقيل سلوني أعطكم وقد يستعمل بمعنى الاستغفار ومنه قوله عليه الصلاة والسلام إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم فقد فسر في الرواية الأخرى أمرت أن أستغفر لهم وبمعنى القراءة ومنه قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك} [الإسراء: 110] وإذا علم هذا فليعلم أن الصلاة يختلف حالها بحسب حال المصلي والمصلّى له والمصلّى عليه.
وقد سبق نقل البخاري في تفسير سورة الأحزاب عن أبي العالية أن معنى صلاة الله تعالى على نبيه ثناؤه عليه عند ملائكته ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء له، ورجح القرافي المالكي أن الصلاة من الله المغفرة

(9/203)


وقال الإمام فخر الدين والآمدي: إنها الرحمة وتعقب بأن الله تعالى غاير بين الصلاة والرحمة في قوله: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} [البقرة: 157] وقال ابن الأعرابي: الصلاة من الله الرحمة، ومن الآدميين وغيرهم من الملائكة والجن الركوع والسجود والدعاء والتسبيح، ومن الطير والهوام التسبيح قال تعالى: {كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور: 41].
6357 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلاَ أُهْدِى لَكَ هَدِيَّةً؟ إِنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَقُولُوا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا الحكم) بفتح الحاء المهملة والكاف ابن عتيبة بضم العين المهملة وفتح الفوقية وسكون التحتية بعدها موحدة فقيه الكوفة في عصره (قال: سمعت عبد الرَّحمن بن أبي ليلى) بفتح اللامين مقصور الأنصاري عالم الكوفة (قال: لقيني كعب بن عجرة) بضم العين المهملة وسكون الجيم بعدها راء مفتوحة فهاء تأنيث المدني الأنصاري بالحلف من أصحاب الشجرة وعند الطبري من طريق المحاربي عن مالك بن مغول أن ذلك كان وهو يطوف بالبيت الحرام (فقال) لي: (ألا) بالتخفيف وتكون للعرض والتحضيض والفرق بينه وبين العرض أن العرض معه لين بخلاف التحضيض فإنه بحث فقوله هنا ألا (أهدي) بضم الهمزة (لك هدية) عرض والهدية اسم مصدر والمصدر إهداء لأنه من أهدى والهدية ما يتقرب به إلى المهدي إليه توددًا وإكرامًا، وزاد فيه بعضهم من غير قصد نفع عوض دنيوي بل لقصد ثواب الآخرة وأكثر ما يستعمل في الأجسام لا سيما والهدية فيها نقل من مكان إلى آخر وقد يستعمل في المعاني كالعلوم والأدعية مجازًا لما يشتركان فيه من قصد المواددة والتواصل في إيصال ذلك إليه، وفي رواية شبابة وعفان عن شعبة عند الخلعي في فوائده قلت بلى (إن) بكسر الهمزة على الاستئناف ويجوز الفتح بتقدير هي أن فتكون معمولة أو بتقدير فعل أي أهدي لك أن (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج علينا فقلنا: يا رسول الله) عطف على خرج وجملة يا رسول الله معمولة للقول، وقوله قلنا بصيغة الجمع يحتمل أنه أراد نفسه وغيره من الصحابة ممن كان حاضرًا.
قال في الفتح: وقد وقفت من تعيين من باشر السؤال على جماعة منهم أبي بن كعب عند الطبراني وبشير بن سعد والد النعمان في حديث ابن مسعود عند مالك ومسلم وزيد بن خارجة
الأنصاري عند النسائي وطلحة بن عبيد الله عند الطبري، وحديث أبي هريرة عند الشافعي وعبد الرَّحمن بن بشير عند إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصلاة فإن ثبت أن السائل كان متعددًا فواضح وإن ثبت أنه كان واحدًا فالحكمة في التعبير بصيغة الجمع الإِشارة إلى أن السؤال لا يختص به بل يريد نفسه ومن يوافقه على ذلك ولا يقال هو من باب التعبير عن البعض بالكل، بل حمله على ظاهره من الجمع هو المعتمد لما ذكر.
وعند البيهقي والخلعي من طريق الأعمش ومسعر ومالك بن مغول عن الحكم عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة لما نزلت {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب: 56] الآية قلنا يا رسول الله (قد علمنا كيف نسلم عليك) بما علمتنا من أن نقول السلام عليك أيها النبي وقد أمرنا الله تعالى بالصلاة والسلام عليك في الآية (فكيف نصلي عليك)؟ أي فعلمنا كيف اللفظ اللائق بالصلاة عليك (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(فقولوا) والأمر هنا للوجوب اتفاقًا نعم اختلف هل تتعدد أم لا فقيل في العمر مرة واحدة وقيل في كل تشهد يعقبه سلام قاله الشافعي وفيه مباحث سبقت في سورة الأحزاب وقيل تجب كلما ذكر لحديث رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ وفي كتاب المواهب اللدنية من ذلك ما يكفي ويشفي ولأبي ذر فقال: قولوا (اللهم صل على محمد) قال الحليمي: أي عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، ولما كان البشر عاجزًا عن أن يبلغ قدر الواجب له من ذلك شرع لنا أن نحيل أمر ذلك على الله تعالى بأن نقول: اللهم صل على محمد أي لأنك أنت العليم بما يليق به من ذلك

(9/204)


(وعلى آل محمد) من حرمت عليه الصدقة (كما صليت على آل إبراهيم) وعند البيهقي من وجه آخر عن آدم بن أبي إياس شيخ المؤلّف على إبراهيم ولم يقل على آل إبراهيم قال: في الفتح والحق أن ذكر محمد وإبراهيم وذكر آل محمد وآل إبراهيم ثابت في أصل الخبر وإنما حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر (إنك حميد) محمود (مجيد) ماجد وصفان بنيًا للمبالغة (اللهم بارك على محمد) أي أثبت له وأدم له ما أعطيته من التشريف والكرامة وزده من الكمالات ما يليق بك وبه (وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد).
قال في شرح المشكاة: هذا تذييل للكلام السابق وتقرير له على سبيل العموم أي أنك حميد فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المتكاثرة والآلاء المتعاقبة المتوالية مجيد كريم الإِحسان إلى جميع عبادك الصالحين ومن محامدك وإحسانك أن توجه صلواتك وبركاتك وترحمك على حبيبك نبي الرحمة وآله، وللحافظ أبي الحسن بن المفضل المقدسي جزء جمع فيه طرق حديث عبد الرَّحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة.
6358 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِىُّ عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا السَّلاَمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ
نُصَلِّى؟ قَالَ: قُولُوا «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ».
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن حمزة) بالحاء المهملة والزاي ابن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوّام أبو إسحاق القرشي الأسدي الزبيري المدني والد مصعب بن إبراهيم قال: (حدّثنا ابن أبي حازم) عبد العزيز واسم أبي حازم سلمة بن دينار المدني (والدراوردي) بفتح الدّال المهملة والراء وبعد الألف واو مفتوحة فراء ساكنة فدال مهملة مكسورة عبد العزيز بن محمد (عن يزيد) من الزيادة بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي (عن عبد الله بن خباب) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الموحدة ويعد الألف موحدة أخرى الأنصاري (عن أبي سعيد الخدري) -رضي الله عنه- أنه (قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك) أي قد عرفناه (فكيف نصلي) أي عليك (قال):
(قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم) بإسقاط على في آل في الموضعين وإثبات إبراهيم في الموضعين. نعم الذي في اليونينية في قوله: وبارك على محمد وعلى آل محمد بإثبات على بخلاف الحديث الأول فأسقطها في الموضعين، وسبق أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر فلا حاجة إلى القول بأن ذكر الآل مقحم على رواية الحديث الأول كما لا يخفى.
فإن قلت: لم قال: كما صليت على إبراهيم ولم يقل على موسى؟ أجاب المرجاني: بأن موسى كان التجلي له بالجلال فخرّ موسى صعقًا، والخليل كان التجلي له بالجمال لأن المحبة والخلة من آثار التجلي بالجمال فلذا أمر نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نصلي عليه كما صلّى الله على إبراهيم لنسأل له التجلي بالجمال، وهذا لا يقتضي التسوية بينه وبين الخليل في الوصف الذي هو التجلي بالجمال فإن الحق سبحانه يتجلى بالجمال لشخصين بحسب مقامهما وإن اشتركا في وصف التجلي بالجمال فيتجلى لكل واحد منهما بحسب مقامه عنده ومكانته.

33 - باب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]
هذا (باب) بالتنوين (هل يصلّى) بفتح اللام (على غير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من الأنبياء والملائكة والمؤمنين استقلالاً أو تبعًا (وقول الله) ولأبي ذر وقوله (تعالى) لنبيه عليه الصلاة والسلام ({وصلّ عليهم}) أي العطف عليهم بالدعاء لهم ({إن صلاتك سكن لهم}) (التوبة: 103] يسكنون إليها وتطمئن قلوبهم بها ولغير أبي ذر صلاتك بالتوحيد وفتح التاء نصب بإن وبها قرأ حفص وحمزة والكسائي قيل وهي أكثر من الصلوات لأن المصدر بلفظه يدل على الكثرة.
6359 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِى أَوْفَى قَالَ: كَانَ إِذَا أَتَى رَجُلٌ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِصَدَقَتِهِ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ» فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عمرو بن مرة) الجملي بالجيم أحد الأعلام (عن ابن أبي أوفى) بفتح الهمزة وسكون الواو بعدها فاء مفتوحة مقصورة عبد الله الأسلمي له صحبة أنه (قال: كان إذا أتى رجل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بصدقته) المفروضة (قال):
(اللهم صل عليه) أي اغفر له وارحمه (فأتاه أبي) أبو أوفى (بصدقته) المفروضة وللحموي والمستملي بصدقة (فقال) عليه الصلاة والسلام: (اللهم صل على آل أبي أوفى) امتثالاً لقوله تعالى:

(9/205)


{وصل عليهم} [التوبة: 103].
وفي حديث قيس بن سعد بن عبادة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رفع يديه وهو يقول: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" رواه أبو داود والنسائي وسنده جيد، وتمسك بذلك من جوّز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً وهو مقتضى صنيع المصنف -رحمه الله تعالى- لأنه صدّر بالآية ثم بالحديث الدال على الجواز مطلقًا وقال قوم: لا تجوز مطلقًا استقلالاً وتجوز تبعًا فيما ورد به النص أو ألحق به لقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63] لأنه لما علمهم السلام قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه وعلى أهل بيته، وقال آخرون: تجوز تبعًا مطلقًا ولا تجوز استقلالاً. وأجابوا عن حديث ابن أبي أوفى ونحوه بأن لله ورسوله أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لغيرهما وثبت عن ابن عباس اختصاص الصلاة بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحكي القول به عن مالك وقال: ما تعبدنا به ونحوه عن عمر بن عبد العزيز وعن مالك يكره، وقال القاضي عياض: عامة أهل العلم على الجواز، وقال سفيان: يكره إلا على نبي، ووجدت بخط بعض شيوخ مذهب مالك لا يجوز أن يصلّى إلا على محمد وهذا غير معروف من مذهب مالك وإنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به، وعند الترمذي والحاكم من حديث عليّ في الذي يحفظ القرآن وصل عليّ وعلى سائر النبيين، وعند إسماعيل القاضي بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رفعه: "صلوا على أنبياء الله". وقال ابن القيم: المختار أن يصلّى على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجماع ويكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعارًا.
6360 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِىِّ أَخْبَرَنِى أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) الإِمام (عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه) أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (عن عمرو بن سليم) بفتح العين (الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء وكسر القاف أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (أبو حميد) بضم الحاء المهملة مصغرًا عبد الرَّحمن (الساعدي) -رضي الله عنه- (أنهم) أي الصحابة (قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال):
(قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته) بضم الذال المعجمة نسله وعند عبد الرزاق من طريق ابن طاوس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من الصحابة صل على محمد وأهل بيته وأزواجه وذريته (كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم) وآل ثابتة في الموضعين وهم إبراهيم وذريته من إسماعيل وإسحاق كما جزم به غير واحد وإن ثبت أن إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجر فهم داخلون والمراد المسلمون منهم بل المتقون دون من عداهم (إنك حميد) محمود بتعجيل النعم (مجيد) ظاهر الكرم بتأجيل النقم، ومناسبة ختم الدعاء بهذين الاسمين العظيمين أن المطلوب تكريم الله تعالى لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وثناؤه عليه والتنويه به وزيادة تقريبه وذلك مما يستلزم طلب الحمد والمجد:
واستشكل قوله كما صليت على إبراهيم بأن المقرر أن المشبه دون المشبه به والواقع هنا عكسه لأن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفضل من إبراهيم وآل إبراهيم وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة له أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل لغيره. وأجاب الشيخ عز الدّين بن عبد السلام: بأن المشبه أصل الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وآله بالصلاة على إبراهيم وآله أي المجموع بالمجموع ومعظم الأنبياء هم آل إبراهيم اهـ.
وهذا غير متأت في هذه الرواية فإنه اقتصر فيها على إبراهيم فقط دون آله بالنسبة إلى الصلاة، وقد أجيب عن الاستشكال المذكور بأجوبة أخرى: منها أنه تشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا القدر بالقدر وهذا كما اختاروا في قوله تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب

(9/206)


على الذين من قبلكم} [البقرة: 183] أن المراد أصل الصيام لا كميته ووقته ومنها أن هذه الصلاة الأمر بها للتكرار بالنسبة إلى كل صلاة في حق كل مصل فإذا اقتصر في حق كل على حصول صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان الحاصل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالنسبة إلى مجموع الصلوات أضعافًا مضاعفة لا ينتهي إليها الإحصاء، وأورد ابن دقيق العيد هنا سؤالاً فقال: التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة والفرد منها فإذن الإِشكال وارد، وأجاب بأن الإشكال إنما يرد على تقدير أن الأمر ليس للتكرار وهو هنا للتكرار بالاتفاق فالمطلوب من
المجموع مقدار ما لا يحصى من الصلوات بالنسبة إلى المقدار الحاصل لإبراهيم عليه صلوات الله وسلامه.

34 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ آذَيْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة).
6361 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبراني كان أبوه من أهل طبرستان قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله قال: (أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه أنه سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(اللهم فأيما مؤمن سببته) الفاء جزائية والشرط محذوف يدل عليه السياق أي إن كنت سببت مؤمنًا، وفي مسلم من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه بهذا الإسناد: اللهم إني اتخذت عندك عهدًا لن تخلفنيه فأيما مؤمن سببته أو جلدته، ومن طريق أبي صالح عن أبي هريرة: اللهم إنما أنا بشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته، ومن طريق الأعرج عن أبي هريرة مثل رواية ابن أخي ابن شهاب قال: فأي مؤمن آذيته شتمته لعنته جلدته، ومن طريق سالم عن أبي هريرة: اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدًا الحديث وفيه: فأيما مؤمن آذيته، ومن حديث عائشة قالت: دخل على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فسبهما ولعنهما فلما خرجا قلت له فقال: "أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو شتمته أو سببته" (فاجعل ذلك) السب أو غيره مما ذكر (له قربة) تقربه بها (إليك يوم القيامة) وفي رواية ابن أخي الزهري: فاجعل ذلك كفارة له يوم القيامة، وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة: فاجعلها له زكاة ورحمة، وفي رواية الأعرج فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة. وفي حديث عائشة فاجعلها له زكاة وأجرًا. وفي حديث أنس عند مسلم أيضًا: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورًا وزكاة وقربة تقربه بها يوم القيامة، وقوله ليس لها بأهل أي عندك في باطن أمره لا في ظاهر ما يظهر منه حين دعائي عليه لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان متعبدًا بالظواهر وحساب الناس في البواطن إلى الله تعالى. وفي الحديث كمال شفقته على أمته وجميل خلقه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجزاه عنا أفضل الجزاء بمنه وكرمه وأماتنا على محبته وسنته.
والحديث أخرجه مسلم في الأدب.

35 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ
(باب التعوّذ من الفتن) جمع فتنة وهي اسم للامتحان والاختبار.
6362 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: «لاَ تَسْأَلُونِى الْيَوْمَ عَنْ شَىْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ». فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالاً فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاَحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِى؟ قَالَ: «حُذَافَةُ» ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولاً، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا رَأَيْتُ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ». وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ الْحَدِيثِ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا، عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحارث بن سخبرة الحوضي الأزدي البصري قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه قال: (سألوا) أي الصحابة (رسول الله) وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي والمستملي سئل بضم السين مبنيًّا للمفعول رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى أحفوه المسألة) بحاء مهملة ساكنة وفتح الفاء وسكون الواو ألحوا عليه فيها (فغضب) عليه الصلاة والسلام لتعنتهم وتكلفهم بما لا حاجة لهم به (فصعد) بكسر العين المهملة رقي (المنبر فقال):
(لا تسألوني) بحذف نون الوقاية ولأبي ذر لا تسألونني (اليوم عن شيء) من الغيب (إلا بينته لكم) قال أنس: (فجعلت أنظر يمينًا

(9/207)


وشمالاً فإذا كل رجل) حاضر من الصحابة (لاف رأسه في ثوبه يبكي) بألف بعد لام ففاء مشددة مرفوعة ولأبي ذر وابن عساكر لافًا بالنصب أي حال كونه لافًا وفي تفسير المائدة من وجه آخر لهم خنين وهو بالخاء المعجمة المفتوحة والنون المكسورة صوت مرتفع من الأنف بالبكاء (فإذا رجل كان إذا لاحى) بالحاء المهملة المفتوحة أي خاصم (الرجال يدعى) بضم التحتية وسكون الدال وفتح العين المهملتين ينسب (لغير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال) عليه الصلاة والسلام له أبوك (حذافة) بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة المخففة وبعد الألف فاء وعند أحمد عن أبي هريرة فقال عبد الله بن حذافة من أبي يا رسول الله فقال: حذافة بن قيس وقيل الرجل هو خارجة أخو عبد الله والمعروف السابق (ثم أنشأ عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- لما رأى بوجهه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أثر الغضب (فقال): شفقة على المسلمين (رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسولاً) قال في الكواكب: أي رضينا بما
عندنا من كتاب الله وسنة نبينا واكتفينا به عن السؤال (نعوذ بالله من الفتن) جمع فتنة (فقال رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ما رأيت في الخير والشر كاليوم) يومًا مثل هذا اليوم (قط إنه) بكسر الهمزة (صورت) بضم المهملة وكسر الواو المشددة (لي الجنة والنار حتى رأيتهما) رؤيا عين صورتا له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وراء الحائط) أي حائط محرابه الشريف كانطباع الصورة في المرآة فرأى جميع ما فيهما لا يقال الانطباع إنما يكون في الأجسام الصقيلة لأن ذلك شرط عادي فيجوز انخراق العادة خصوصًا له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(وكان قتادة) بن دعامة السدوسي (يذكر عند هذا الحديث هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء}) قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين: أصله شيآء بهمزتين بينهما ألف وهي فعلاء من لفظ شيء وهمزتها الثانية للتأنيث ولذا لم تنصرف كحمراء وهي مفردة لفظًا جمع معنى ولما استثقلت الهمزتان المجتمعتان قدمت الأولى التي هي لام فجعلت قبل الشين فصار وزنها لفعاء والجملة الشرطية في قوله ({إن تبد لكم تسؤكم}) [المائدة: 101] صفة لأشياء في محل جر وكذا الشرطية المعطوفة أيضًا والحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الفتن وسبق مختصرًا في كتاب العلم، وأخرجه مسلم في الفضائل.

36 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ
(باب التعوذ من غلبة الرجال) أي قهرهم.
6363 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِى عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَبِى طَلْحَةَ: «الْتَمِسْ لَنَا غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِى»؟ فَخَرَجَ بِى أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِى وَرَاءَهُ فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلَّمَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ، قَدْ حَازَهَا فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّى وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أَوْ كِسَاءٍ ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِى نِطَعٍ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَدَعَوْتُ رِجَالاً فَأَكَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: «هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي وسقط ابن سعيد لأبي ذر قال: (حدّثنا إسماعيل بن جعفر) المدني ابن أبي كثير الأنصاري الزرقي (عن عمرو بن أبي عمرو) بفتح العين فيهما واسم الثاني ميسرة (مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب) بفتح المهملتين بينهما نون ساكنة آخره باء موحدة المخزومي القرشي (أنه سمع أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (يقول: قال
رسول الله) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري زوج أم سليم أم أنس.
(التمس لنا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي لي (غلامًا من غلمانكم يخدمني) بالرفع أي هو يخدمني (فخرج بي أبو طلحة) حال كونه (يردفني وراءه) على الدابة (فكنت أخدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما خرج إلى غزوة خيبر (كلما نزل فكنت أسمعه يكثر أن يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم و) من (الحزن) بفتح المهملة والزاي وفرق بينهما لأن الهم إنما يكون في الأمر المتوقع والحزن فيما قد وقع (و) من (العجز) بسكون الجيم وأصله التأخر عن الشيء مأخوذ من العجز وهو مؤخر الشيء وللزوم الضعف والقصور عن الإِتيان بالشيء استعمل في مقابلة القدرة واشتهر فيها (والكسل) هو التثاقل عن الشيء مع وجود القدرة عليه والداعية إليه (والبخل) هو ضد الكرم (والجبن) ضد الشجاعة (وضلع الدين) بفتح المعجمة واللام والدين بفتح الدال المهملة ثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء لثقله وذلك حيث لا يجد منه وفاء ولا سيما مع المطالبة (وغلبة الرجال) تسلطهم واستيلائهم هرجًا ومرجًا وذلك كغلبة القوّام قاله

(9/208)


الكرماني وعن بعضهم قهر الرجال هو جور السلطان (فلم أزل أخدمه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى أقبلنا من خيبر وأقبل بصفية بنت حيي قد حازها) بالحاء المهملة والزاي بينهما ألف أخذها لنفسه من الغنيمة (فكنت أراه) بفتح الهمزة أنظر إليه (يحوي) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وكسر الواو المشددة بعدها تحتية ساكنة أي يجمع ويدوّر (وراءه بعباءة) هي ضرب من الأكسية (أو كساء) بالمد بالشك من الراوي نحو سنام الراحلة (ثم يردفها) أي صفية (وراءه) وإنما كان يحوّي لها خشية أن تسقط (حتى إذا كنا بالصهباء) بالصاد المهملة والموحدة المفتوحتين بينهما هاء ساكنة ممدودًا اسم موضع وحلت صفية بطهرها من الحيض (صنع حيسًا) بحاء وسين مهملتين بينهما تحتية ساكنة طعامًا من تمر وأقط وسمن (في نطع ثم أرسلني فدعوت رجالاً فأكلوا وكان ذلك بناءه بها) زفافه بصفية (ثم أقبل) إلى المدينة (حتى بدا) ظهر ولأبي ذر حتى إذا بدا (له أُحد) بضم الهمزة والمهملة (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هذا جبيل) بالتصغير ولأبي ذر جبل (يحبنا) حقيقة أو مجازًا أو أهله والمراد بهم أهل المدينة (ونحبه فلما أشرف على المدينة قال: اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة) في حرمة الصيد لا في الجزاء ونحوه ومثل نصب بنزع الخافض (اللهم بارك لهم) لأهل المدينة (في مدهم وصاعهم).
وسبق الحديث في باب من غزا بصبي من كتاب الجهاد.

37 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
(باب التعوّذ من عذاب القبر).
6364 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ خَالِدٍ بِنْتَ خَالِدٍ قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرَهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير بن عيسى قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) بضم العين وسكون القاف مولى آل الزبير (قال: سمعت أم خالد) اسمها أمة بتخفيف الميم (بنت خالد) أي ابن سعيد الأموي الصحابية ولدت بالحبشة (قال) موسى: (ولم أسمع أحدًا سمع من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غيرها قالت: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعوّذ) تعليمًا لأمته (من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل على طريق المجاز أو الإِضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه فهو على تقدير في أي يتعوّذ من عذاب القبر، وفيه إثبات عذاب القبر فالإِيمان به واجب.

باب التَّعَوُّذِ مِنَ البُخْلِ
(باب التعوّذ من البخل) قال الواحدي: البخل في كلام العرب عبارة عن منع الإحسان، وفي الشرع منع الواجب والباب مع تاليه ثابت في رواية أبي ذر عن المستملي ساقط لغيره وهو الوجه لأنه ذكره قريبًا بعد ثلاثة أبواب.
6365 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبٍ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ وَيَذْكُرُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا -يَعْنِى فِتْنَةَ الدَّجَّالِ- وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا عبد الملك) بن عمير بن سويد بن حارثة الكوفي (عن مصعب) بضم الميم وسكون الصاد وفتح العين المهملتين ابن سعد بن أبي وقاص (قال: كان سعد) أي ابن أبي وقاص (يأمر) ولأبي ذر عن الكشميهني: يأمرنا (بخمس ويذكرهن عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يأمر بهن).
(اللهم إني أعوذ بك من البخل) ضد الكرم وأعوذ لفظه لفظ الخبر ومعناه الدعاء قالوا: وفي ذلك تحقيق الطلب كما قيل في غفر الله لك بلفظ الماضي والباء للإلصاق وهو إلصاق معنوي لأنه لا يلتصق شيء بالله ولا بصفاته لكنه التصاق تخصيص كأنه خص الرب بالاستعاذة. قال الإمام فخر الدين: جاء الحمد لله ولله الحمد وتقديم المعمول يفيد الحصر عند طائفة فما الحكمة في أنه جاء أعوذ بالله ولم يسمع بالله أعوذ لأن الإتيان بلفظ الاستعاذة امتثال الأمر، وقال بعضهم: تقديم المعمول في الكلام تفنن وانبساط والاستعاذة هرب إلى الله وتذلل فقبض عنان الانبساط والتفنن فيه لائق لأنه لا يكون إلا حالة خوف وقبض والحمد حالة شكر وتذكر إحسان ونعم (وأعوذ بك من الجبن) ضد الشجاعة وهي فضيلة قوّة الغضب وانقيادها للعقل (وأعوذ بك أن أرد) بضم الهمزة وفتح الراء والدال المهملة المشدّدة (إلى أرذل العمر) أخسه يعني الهرم والخوف (وأعوذ بك من فتنة الدنيا يعني) بفتنة الدنيا (فتنة الدجال) قال الكرماني: إن قوله يعني فتنة الدجال

(9/209)


من زيادات
شعبة بن الحجاج ورده في فتح الباري بما في حديث الإِسماعيلي أنه من كلام عبد الملك بن عمير (وأعوذ بك من عذاب القبر) الواقع على الكفار ومن شاء الله من عصاة الموحدين أعاذنا من كل مكروه.
والحديث أخرجه المؤلّف أيضًا والنسائي في الاستعاذة واليوم والليلة.
6366 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَىَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا لِى: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِى قُبُورِهِمْ فَكَذَّبْتُهُمَا، وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَىَّ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ وَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: «صَدَقَتَا إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا» فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِى صَلاَةٍ إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدثني (عثمان بن أبي شيبة) قال: (حدّثنا جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: دخلت عليّ عجوزان) بالتثنية لم يسميا (من عجز يهود المدينة) بضم العين والجيم جمع عجوز كعمود وعُمد ويجمع أيضًا على عجائز، والعجوز المرأة المسنّة ولا يقال عجوزة بهاء التأنيث أو هي لغة رديئة (فقالتا لي: إن أهل القبور يعذّبون في قبورهم فكذبتهما ولم أنعم) بضم الهمزة وكسر العين بينهما ساكنة نون أي ولم أحسن (أن أصدقهما فخرجتا) من عندي (ودخل عليّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت: يا رسول الله إن عجوزين) من يهود المدينة دخلتا عليّ (وذكرت له) ما قالتا والراء في ذكرت ساكنة، وعند الإِسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة دخلتا عليّ فزعمتا أن أهل القبور يعذّبون في قبورهم (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(صدقتا إنهم) أي أهل القبور المعذّبين (يعذبون عذابًا تسمعه البهائم كلها) والعذاب ليس مسموعًا فالمسموع صوت المعذب أو بعض العذاب مسموع كالضرب قاله الكرماني (فما رأيته) عليه الصلاة والسلام (بعد في صلاة إلا تعوّذ) بلفظ الماضي ولأبي ذر عن الكشميهني إلا يتعوّذ (من عذاب القبر) وقوله عجوزان بالتثنية لا ينافي قوله في الحديث المروي في الجنائز أن يهودية دخلت عليها لاحتمال أن إحداهما تكلمت وأقرّتها الأخرى على ذلك فنسبت عائشة القول إليهما مجازًا والإِفراد يحمل على المتكلمة.

38 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ
(باب التعوّذ من فتنة المحيا والممات).
6367 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِى قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ: كَانَ نَبِىُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ
وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا المعتمر قال: سمعت أبي) سليمان بن طرخان (قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: كان نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول): تشريعًا لأمته وتعليمًا لهم صفة المهم من الأدعية.
(اللهم إني أعوذ بك من العجز) وهو عدم القدرة (والكسل) وهو التثاقل والفتور والتواني عن الأمر (والجبن) ضد الشجاعة، ولأبي ذر زيادة والبخل بدل والجبن (والهرم) وهو أقصى الكبر (وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا) مما يعرض للإنسان في مدة حياته من الافتتان بالدنيا وشهواتها وجهالاتها وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت (و) فتنة (الممات) قيل فتنة القبر كسؤال الملكين والمراد من شر ذلك وإلاّ فأصل السؤال واقع لا محالة فلا يدعى برفعه فيكون عذاب القبر مسببًا عن ذلك والسبب غير المسبب، وقيل المراد الفتنة قبيل الموت وأضيفت إلى الموت لقربها منه، وحينئذ تكون فتنة المحيا قبل ذلك، وقيل غير ذلك، والمحيا والممات مصدران بالإِضافة على وزن مفعل ويصلحان للزمان والمكان والمصدر.
والحديث سبق في الجهاد بهذا الإِسناد والمتن.

39 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ
(باب التعوّذ من المأثم) بفتح الميم والمثلثة بينهما همزة ساكنة (والمغرم) بفتح الميم والراء بينهما غين معجمة ساكنة.
6368 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّى خَطَايَاىَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِى مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».
وبه قال: (حدّثنا معلى بن أسد) بضم الميم وفتح العين واللام المشددة قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو وفتح الهاء ابن خالد البصري (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول): تعليمًا لأمته وعبودية منه.
(اللهم إني أعوذ بك من الكسل) وهو الفتور عن الشيء مع القدرة على عمله إيثارًا لراحة البدن على التعب (و) من (الهرم) وهو الزيادة في كبر السن المؤدية إلى ضعف الأعضاء (والمأثم) ما
يوجب الإِثم (والمغرم) أي الذين فيما لا يجوز (ومن فتنة القبر) سؤال منكر ونكير (وعذاب القبر) وهو ما يترتب بعد فتنته على المجرمين فالأول كالمقدمة

(9/210)


للثاني وعلامة عليه (ومن فتنة النار) هي سؤال الخزنة على سبيل التوبيخ وإليه الإشارة بقوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} [الملك: 8] (وعذاب النارَ) بعد فتنتها (ومن شرّ فتنة الغنى) كالبطر والطغيان وعدم تأدية الزكاة (وأعوذ بك من فتنة الفقر) كأن يحمله الفقر على اكتساب الحرام أو التلفظ بكلمات مؤدية إلى الكفر.
قال في الكواكب: فإن قلت: لِمَ زاد لفظ الشرّ في الغنى ولم يذكره في الفقر ونحوه؟ وأجاب: بأنه تصريح بما فيه من الشر وأن مضرّته أكثر من مضرّة غيره أو تغليظًا على الأغنياء حتى لا يغترّوا بغناهم ولا يغفلوا عن مفاسده أو إيماء إلى أن صورة أخواته لا خير فيها بخلاف صورته فإنها قد تكون خيرًا اهـ.
وتعقبه في الفتح بأن هذا كله غفلة عن الواقع فإن الذي ظهر لي أن لفظة شرّ في الأصل ثابتة في الموضعين، وإنما اختصره بعض الرواة فسيأتي بعد قليل في باب الاستعاذة من أرذل العمر من طريق وكيع وأبي معاوية مفرّقًا عن هشام بسنده هذا بلفظ: وشرّ فتنة الغنى وشر فتنة الفقر، ويأتي بعد أبواب أيضًا إن شاء الله تعالى من رواية سلام بن أبي مطيع عن هشام بإسقاط شر من الموضعين والتقييد في الغنى والفقر لا بدّ منه لأن كلاًّ منهما فيه خير باعتبار فالتقييد في الاستعاذة منه بالشر يخرج ما فيه من الخير سواء قلّ أم أكثر اهـ.
وتعقبه العيني فقال: هذا غفلة منه حيث يدعي اختصار بعض الرواة بغير دليل على ذلك قال: وأما قوله وسيأتي بعد لفظة شر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر فلا يساعده فيما قاله لأن للكرماني أن يقول: يحتمل أن يكون لفظ شر فتنة الفقر مدرجًا من بعض الرواة على أنه لم ينف مجيء لفظ شر في غير الغنى ولا يلزمه هذا لأنه في بيان هذا الموضع الذي وقع هنا خاصة اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في انتقاض الاعتراض: حكاية هذا الكلام أي الذي قاله العيني تغني العارف عن التشاغل بالردّ عليه.
(وأعوذ بك من فتنة المسيح) بفتح الميم وكسر السين آخره حاء مهملتين (الدجال) بتشديد الجيم الأعور الكذاب وهذه الفتنة وإن كانت من جملة فتنة المحيا لكن أعيدت تأكيدًا لعظمها وكثرة شرها أو لكونها تقع في محيا أناس مخصوصين وهم الذين في زمن خروجه وفتنة المحيا عامة لكل أحد فتغايرا (اللهم اغسل عني خطاياي) جمع خطيئة (بماء الثلج) بالمثلثة (والبرد) بفتح الموحدة والراء هو حب الغمام، وفي باب ما يقول بعد التكبير في أوائل صفة الصلاة بالماء والثلج والبرد، وقال التوربشتي: ذكر أنواع المطهرات المنزلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بها تبيانًا لأنواع المغفرة التي لا يخلص من الذنوب إلا بها أي طهرني من الخطايا بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأرجاس والأوصاب ورفع الجنابة
والأحداث. وقال الطيبي: ويمكن أن يقال ذكر الثلج والبرد بعد ذكر الماء المطلوب منهما شمول أنواع الرحمة بعد المغفرة لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة لأن عذاب النار يقابله الرحمة فيكون التركيب من باب قوله متقلدًا سيفًا ورمحًا. أي اغسل خطاياي بالماء أي اغفرها وزد على الغفران شمول الرحمة.
(ونق) بفتح النون وتشديد القاف (قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) أي الوسخ ونقيت بفتح المثناة الفوقية وهو تأكيد للسابق ومجاز عن إزالة الذنوب ومحو أثرها (وباعد) أبعد (بيني وبين خطاياي كما باعدت) أي كتبعيدك (بين المشرق والمغرب) أي حل بيني وبينها حتى لا يبقى لها مني اقتراب الكلية.
وسبق الحديث في صفة الصلاة.

40 - باب الاِسْتِعَاذَةِ مِنَ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ
كُسالى وَكَسالى واحِدٌ.
(باب الاستعاذة من الجبن) بضم الجيم وسكون الموحدة (و) الاستعاذة من (الكسل) بفتح الكاف والمهملة (كسالى) بضم الكاف (وكسالى) بفتحها (واحد) وبالأول قرأ الجمهور وبالآخر قرأ الأعرج وهو لغة تميم وهذا ثابت هنا لأبي ذر وأبي الوقت عن المستملي.
6369 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ أَبِى عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ».
وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم بينهما معجمة ساكنة

(9/211)


القطواني الكوفي قال: (حدّثنا سليمان) بن بلال (قال: حدثني) بالإفراد (عمرو بن أبي عمرو) بفتح العين فيهما مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب (قال: سمعت أنسًا) ولأبي ذر أنس بن مالك (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن) بفتح الحاء المهملة والزاي (والعجز والكسل) قال الزركشي: قال صاحب تثقيف اللسان: العجز ما لا يستطيعه الإِنسان والكسل أن يترك الشيء ويتراخى عنه وإن كان يستطيعه (و) أعوذ بك من (الجبن) وهو الخور عن تعاطي الحرب ونحوها خوفًا على المهجة (و) أعوذ بك من (البخل) ضد الكرم (و) أعوذ بك من (ضلع الدين) بفتح الضاد المعجمة واللام ثقله (و) من (غلبة الرجال) تسلطهم.
والحديث سبق قريبًا.

41 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْبُخْلِ
الْبُخْلُ وَالْبَخَلُ وَاحِدٌ مِثْلُ الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ.
(باب التعوّذ من البخل) بسكون الخاء المعجمة (البخل) بضم الموحدة وسكون المعجمة (والبخل) بفتحهما (واحد) في المعنى وبالثاني قرأ حمزة والكسائي (مثل الحزن) بضم الحاء وسكون الزاي (والحزن) بفتحهما وزنًا وهذا ثابت في رواية المستملي هنا وقد تكرر ذم البخل في الحديث، وصح: خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخُلق، وقال سلمان: إذا مات البخيل قالت الأرض والحفظة: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة كما حجب عبادك عما في يده من الدنيا.
6370 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِى غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ - رضى الله عنه - كَانَ يَأْمُرُ بِهَؤُلاَءِ الْخَمْسِ وَيُحَدِّثُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدثني بالإفراد (محمد بن المثنى) العنزي قال: (حدثني) بالإفراد (غندر) محمد بن جعفر (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد الملك بن عمير) الكوفي (عن مصعب بن سعد عن) أبيه (سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-) أنه (كان يأمر بهؤلاء الخمس ويحدثهن) ولأبي ذر عن الكشميهني ويخبر بهن (عن النبي) وهي:
(اللهم إني أعوذ بك من البخل) بأي شيء من الخير سواء كان مالاً أو علمًا (وأعوذ بك من الجبن) ضد الشجاعة (وأعوذ بك أن) ولأبي ذر عن الحموي: من أن (أردّ إلى أرذل العمر) بالذال المعجمة الهرم الشديد (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) سبق قريبًا أنها الدجال وفي إطلاق الدنيا على الدجال إشارة إلى أن فتنته أعظم الفتن الكائنة في الدنيا (وأعوذ بك من عذاب القبر). من إضافة المظروف إلى ظرفه وسبق.

42 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ
أَرَاذِلُنَا: أَسْقَاطُنَا.
(باب التعوّذ من أرذل العُمُر أراذلنا) في قوله تعالى: ({إلا الذين هم أراذلنا} [هود: 27] أي (أسقاطنا) وللمستملي والكشميهني سقاطنا بضم السين وتشديد القاف تقول قوم سقطى وأسقاط وسقّاط والساقط اللئيم في حسبه ونسبه.
6371 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَوَّذُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ،
وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة المنقري المقعد البصري الحافظ قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد البصري (عن عبد العزيز بن صهيب) البناني الأعمى (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعوّذ) حال كونه (يقول):
(اللهم إني أعوذ بك من الكسل) سقط من أصل اليونينية بك من قوله أعوذ بك من الكسل (وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل) وليس في هذا الحديث ما ترجم به لكنه كما قال في الفتح أشار بذلك إلى أن المراد بأرذل العمر في حديث سعد بن أبي وقاص السابق في الباب قبله الهرم الذي في هذا الحديث المفسر بالشيخوخة، وضعف القوّة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر. قال في شرح المشكاة: المطلوب عند المحققين من العمر التفكّر في آلاء الله ونعمائه تعالى من خلق الموجودات فيقوموا بواجب الشكر بالقلب والجوارح والخرف الفاقد لهما فهو كالشيء الرديء الذي لا ينتفع به فينبغي أن يستعاذ منه.

43 - باب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ
(باب الدعاء برفع الوباء) بفتح الواو والموحدة والمد مرض عام ينشأ عن فساد الهواء وقد يسمى طاعونًا بطريق المجاز. (و) برفع (الوجع) الشامل لكل مرض وهو من عطف العام على الخاص.
6372 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى مُدِّنَا وَصَاعِنَا».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) بن واقد الفريابي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها-)

(9/212)


أنها (قالت: قال النبي):
(اللهم حبّب إلينا المدينة) طيبة وسبب ذلك أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قدم المدينة كانت أوبأ أرض الله، ووعك أبو بكر وبلال -رضي الله عنهما- قالت عائشة: دخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك، ويا بلال كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته فيقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل يردن يومًا مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
فجئت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرته فقال: اللهم حبب إلينا المدينة (كما حببت إلينا مكة أو أشد) حبًّا من حبنا لمكة (وانقل حماها إلى الجحفة) بضم الجيم وسكون المهملة ميقات مصر وكانت مسكن يهود فنقلت إليها (اللهم بارك لنا في مدّنا وصاعنا) يريد كثرة الأقوات من الثمار والغلات.
والحديث سبق.
6373 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: عَادَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِى مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِى إِلاَّ ابْنَةٌ لِى وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَىْ مَالِى؟ قَالَ: «لاَ» قُلْتُ: فَبِشَطْرِهِ قَالَ: «الثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِى فِى امْرَأَتِكَ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِى قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِى هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ. قَالَ سَعْدٌ: رَثَى لَهُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَنْ تُوُفِّىَ بِمَكَّةَ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون
العين ابن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف (قال أخبرنا ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عامر بن سعد أن أباه) سعد بن أبي وقاص (قال: عادني) بالدال المهملة (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حجة الوداع من شكوى) بغير تنوين مرض (أشفيت) بالمعجمة الساكنة وبعد الفاء تحتية ساكنة أشرفت (منه على الموت) ولأبي ذر عن الكشميهني منها أي من الشكوى واتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع إلا ابن عيينة فقال: في فتح مكة: أخرجه الترمذي وغيره من طريقه واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه. نعم ورد عند أحمد والبزار والطبراني والبخاري في تاريخه وابن سعد من حديث عمرو بن القاري ما يدل لرواية ابن عيينة ويمكن الجمع بينهما بالتعدد مرتين مرة في عام الفتح وأخرى في حجة الوداع (فقلت: يا رسول الله بلغ بي ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني) من أرباب الفروض أو من الأولاد (إلا ابنة) ولأبي ذر بنت (لي واحدة) تكنى أم الحكم الكبرى (أفأتصدق بثلثي مالي)؟ بفتح المثلثة الثانية وسكون التحتية والتعبير بقوله: أفأتصدق يحتمل التنجيز والتعليق بخلاف أفأوصي، لكن المخرج متحد فيحمل على التعليق جمعًا بين الروايتين (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(لا قلت) يا رسول الله (فبشطره)؟ أي فبنصفه (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (الثلث) كاف وهو (كثير) بالمثلثة (إنك أن تذر) بفتح الهمزة والذال المعجمة أن تدع (ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم) ولأبي ذر عن الكشميهني تدعهم (عالة) بالعين المهملة وتخفيف اللام فقراء (يتكففون) يسألون (الناس)
بأكفهم أو يسألون ما يكف عنهم الجوع (وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله) تعالى (إلا أجرت) أي عليها والجملة عطف على قوله: إنك أن تذر وهو علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث كأنه قيل لا تفعل لأنك إن مت وتذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم فقراء، وإن عشت وتصدقت بما بقي من الثلث وأنفقت على عيالك يكن خيرًا لك (حتى ما تجعل في في امرأتك) في فمها. قال سعد (قلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي)؟ بضم همزة أخلف وفوقها مدّة في اليونينية (قال) عليه الصلاة والسلام: (إنك لن تخلف) بفتح اللام المشددة كالسابق بعد أصحابك (فتعمل) نصب عطفًا على سابقه (عملاً) صالحًا (تبتغي به وجه الله) تعالى (إلا ازددت) أي بالعمل الصالح (درجة ورفعة ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام) من المسلمين (ويضر) بفتح الضاد (بك آخرون) من المشركين (اللهم أمض) بقطع الهمزة أي أتمم (لأصحابي هجرتهم) من مكة إلى المدينة (ولا تردهم

(9/213)


على أعقابهم) بترك هجرتهم. قال إبراهيم بن سعد فيما قال الزهري (لكن البائس) الذي عليه أثر البؤس وهو الفقر والحاجة (سعد بن خولة) بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو (قال سعد رثى) بفتح الراء والمثلثة بلفظ الماضي أي تحزن وتوجع (له النبي) ولأبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أن توفي) في حجة الوداع (بمكة) التي هاجر منها وحرم ثواب الهجرة. وقوله: قال سعد رثى له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صريح في وصل قوله: لكن البائس فلا يكون مدرجًا من قول الزهري كما ادّعاه ابن الجوزي وغيره، وفي الحديث جواز إخبار المريض بشدة مرضه وقوّة ألمه إذا لم يقترن به ما يمنع كعدم الرضا وغير ذلك مما لا يخفى.
وسبق الحديث في كتاب الوصايا.

44 - باب الاِسْتِعَاذَةِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَفِتْنَةِ النَّارِ
(باب الاستعاذة من أرذل العمر) وسبق قبل بباب باب التعوّذ من أرذل العمر (ومن فتنة الدنيا وفتنة النار) ولأبي ذر عن الكشميهني وعذاب النار بدل قوله وفتنة النار.
6374 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَعَوَّذُوا بِكَلِمَاتٍ كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر بالإفراد (إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه قال: (أخبرنا الحسين) بضم الحاء ابن علي الجعفي الزاهد المشهور (عن زائدة) بن قدامة الكوفي (عن عبد الملك) بن عمير (عن مصعب بن سعد) وثبت ابن سعد لأبي ذر (عن أبيه) سعد بن أبي وقاص أنه (قال: تعوّذوا بكلمات) خمس (كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعوّذ بهن) عبودية وإرشادًا لأمته:
(اللهم إني أعوذ بك) أستجير وأعتصم وأصله أعوذ بسكون العين فنقلت حركة الواو تخفيفًا إليها (من الجبن) ضد الشجاعة (وأعوذ بك من البخل) ضد الكرم، ولما كان الجود إما بالنفس وإما بالمال ويسمى الأول شجاعة ويقابلها الجبن والثاني سخاوة ويقابلها البخل ولا تجتمع السخاوة والشجاعة إلا في نفس كاملة ولا ينعدمان إلا من متناه في النقص. استعاذ منهما لما لا يخفى (وأعوذ بك من أن أردّ إلى أرذل العمر) إلى أسفله وهو الهرم الشديد حتى لا يعلم ما كان قبل يعلم وهو أسوأ العمر أعاذنا الله من البلايا بمنّه وكرمه (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) وأعظمها فتنة الدجال (و) من (عذاب القبر) ما فيه من الأهوال والشدائد.
6375 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَاىَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِى مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن موسى) البلخي المعروف بخت قال: (حدّثنا وكيع) بفتح الواو وكسر الكاف ابن الجرّاح أبو سفيان الرؤاسي أحد الأعلام قال: (حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول):
(اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم) المفسر بأرذل العمر فيما مر (و) أعوذ بك من (المغرم) مصدر وضع موضع الاسم يراد به مغرم الذنوب والمعاصي، وقيل كالغرم وهو الدين ويريد به ما استدين فيما يكرهه الله أو فيما يجوز ثم عجز. قال بعضهم: ما دخل همّ الدين قلبًا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه فأما دين احتاج إليه وهو قادر على أدائه فلا يستعاذ منه (والمأثم) الأمر الذي يأثم به الإنسان أو هو الإثم نفسه وضعًا للمصدر موضع الاسم (اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار) بسؤال الخزنة على سبيل التوبيخ (وفتنة القبر) سؤال منكر ونكير مع الخوف وهذه ثابتة هنا لأبي ذر ساقطة لغيره (و) من (عذاب القبر) ومن (شر فتنة الغنى) من البطر والطغيان والتفاخر به وصرف المال في المعاصي وما أشبه ذلك (وشر فتنة الفقر) بإثبات لفظ شر، وسبق أن هذه ثابتة في رواية أبي ذر بعد قوله وفتنة النار (ومن شر فتنة المسيح الدجال) سمي مسيحًا لأن إحدى عينيه ممسوحة فعيلاً بمعنى مفعول أو لأنه يمسح الأرض يقطعها في أيام معلومة بمعنى فاعل (اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد) بفتح الموحدة والراء حب الغمام. قال في الكواكب: العادة أنه إذا أريد المبالغة في الغسل يغسل بالماء الحار لا بالبارد. قال الخطابي: هذه أمثال لم يرد بها أعيانها بل التأكيد في التطهير والمبالغة في محوها والثلج والبرد ماءان مقصوران
على الطهارة لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال فكان ضرب المثل بها أوكد في المراد (ونق قلبي من الخطايا كما ينقى) بضم التحتية

(9/214)


وفتح القاف المشددة مبنيًّا للمفعول (الثوب الأبيض من الدنس) أي الوسخ (وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب).
والحديث سبق قريبًا.

45 - باب الاِسْتِعَاذَةِ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى
(باب الاستعاذة من فتنة الغنى).
6376 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سَلاَّمُ بْنُ أَبِى مُطِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالَتِهِ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَعَوَّذُ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا سلام بن أبي مطيع) بتشديد اللام الخزاعي البصري (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن خالته) عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتعوذ):
(اللهم) معمول لقول مقدر أي يقول: اللهم (إني أعوذ بك من فتنة النار) أي من فتنة تؤدي إلى عذاب النار (ومن عذاب النار وأعوذ بك من فتنة القبر) من فتنة تؤدي إلى عذاب القبر (وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة الغنى) كصرف المال في المعاصي (وأعوذ بك من فتنة الفقر) كالطمع في مال الغير وغير ذلك مما سيذكر في الباب اللاحق (وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال) بدل من المسيح أو نعت أو عطف بيان.

46 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ
(باب التعوّذ من فتنة الفقر).
6377 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ قَلْبِى بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِى مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد) بن سلام قال: (أخبرنا) ولأبي ذر: حدّثنا (أبو معاوية) محمد بن خازم بالمعجمتين بينهما ألف قال: (أخبرنا) ولأبي ذر: حدّثنا (هشام بن عروة) سقط لأبي ذر: ابن عروة (عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار وفتنة القبر وعذاب القبر وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر) بإثبات لفظة شر في الغنى كما مرّ التنبيه عليه محققًا، والمراد الفقر المدقع لأنه الذي يخاف من فتنته كحسد الغنيّ والتذلل له بما يتدنس به عرضه وينثلم به دينه وتسخطه وعدم رضاه بما قسم الله له إلى غير ذلك مما يذم فاعله ويأثم عليه (اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل قلبي بماء الثلج والبرد ونقّ قلبي في الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والمأثم والمغرم).

47 - باب الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ الْبَرَكَةِ
(باب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة) ثبت هذا الباب مع ترجمته في رواية المستملي والكشميهني وسقط للحموي، والصواب كما قال الحافظ ابن حجر إثباته.
6378 - 6379 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ». وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مِثْلَهُ.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة ابن عثمان العبدي مولاهم الحافظ بندار قال: (حدّثنا غندر) بضم المعجمة وسكون النون وفتح المهملة آخره راء محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: سمعت قتادة) بن دعامة (عن أنس عن أم سليم) وهي أم أنس -رضي الله عنهم- (أنها قالت: يا رسول الله أنس خادمك ادع الله له. قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(اللهم أكثر ماله وولده) فكان أكثر الصحابة أولادًا قاله النووي، وقال ابن قتيبة في المعارف كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه: أبو بكرة، وأنس، وخليفة بن بدر، وزاد غيره رابعًا وهو المهلب بن أبي صفرة (وبارك له فيما أعطيته) هذا أعم من المال والولد فيتناول العلم والدين، وعند الترمذي بإسناد رجاله ثقات أنه كان له بستان تأتي منه في كل سنة الفاكهة مرتين وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك.
(وعن هشام بن زيد) أي ابن أنس أي بالسند المذكور إلى قتادة فالواو عطف عليه قال: (سمعت أنس بن مالك مثله) أي الحديث السابق، وأخرجه الإِسماعيلي من رواية حجاج بن محمد
عن شعبة عن قتادة عن هشام بن زيد جميعًا عن أنس، ولأبي ذر بمثله بزيادة الموحدة فغندر عن شعبة جعل الحديث من مسند أم سليم، وكذا هو عند الترمذي عن محمد بن بشار عن غندر وقال: حسن صحيح. وكذا عند الإمام أحمد عن حجاج بن محمد، وعن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة، وأخرجه المؤلّف في باب دعوة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لخادمه بطول العمر من طريق حرمي بن عمارة عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: قالت أمي أم سليم

(9/215)


فظاهره أنه من مسند أنس وهذا الاختلاف لا يضر فإن أنسًا حضر ذلك.
والحديث سبق قريبًا.

باب الدُّعَاءِ بِكِثْرَةِ الْوَلَدِ مَعَ الْبَرَكَةِ

(باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة) ثبت الباب وما بعده لأبي ذر.
6380 - 6381 - حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللهُ لَهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو زيد سعيد بن الربيع) الهروي نسبة لبيع الثياب الهروية قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة السدوسي أنه (قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- قال: قالت أم سليم) -رضي الله عنها- أي لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أنس خادمك ادع الله له قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته) فيه دليل لتفضيل الغنى على الفقر. وأجيب: بأنه يختص بدعائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنه بارك فيه ومتى بارك فيه لم يكن فيه فتنة ولم يحصل بسببه ضرر وفيه استحباب أنه إذا دعا بشيء يتعلق بالدنيا أن يضم إلى دعائه طلب البركة فيه والصيانة.

48 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الاِسْتِخَارَةِ
(باب الدعاء عند الاستخارة) أي طلب الخيرة بكسر الخاء وفتح التحتية بوزن العنبة اسم من قولك اختار الله له. وقال في النهاية: الاستخارة طلب الخير في الشيء وهي استفعال من الخير ضد الشر فالمراد طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.
6382 - حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى الْمَوَالِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِى الأُمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا هَمَّ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى
-أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِى، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى -أَوْ قَالَ فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّى وَاصْرِفْنِى عَنْهُ وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِى بِهِ وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ».
وبه قال: (حدّثنا مطرف بن عبد الله) بضم الميم وفتح الطاء المهملة وكسر الراء مشددة بعدها فاء (أبو مصعب) بضم الميم وسكون الصاد وفتح العين المهملتين الأصم مولى ميمونة بنت الحارث قال: (حدّثنا عبد الرَّحمن بن أبي الموال) بفتح الميم وتخفيف الواو وبعد الألف لام من غير ياء جمع مولى واسمه زيد ويقال زيد جدّ عبد الرَّحمن وأبوه لا يعرف اسمه وثّقه ابن معين وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم (عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي المدني الحافظ (عن جابر -رضي الله عنه-) أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها) خصّه في بهجة النفوس بغير الواجب والمستحب فلا يستخار في فعلهما والمحرم والمكروه لا يستخار في تركهما فانحصر الأمر في المباح أو المستحب إذا تعارض فيه أمران أيهما يبدأ به أو يقتصر عليه وألحق به في الفتح الواجب والمستحب المخير وفيما إذا كان موسعًا قال: ويتناول العموم العظيم والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم (كالسورة) كما يعلمنا السورة (من القرآن) قال في البهجة: التشبيه في تحفظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه.
(إذا همّ) فيه حذف تقديره يقول: إذا همّ (بالأمر) قال الشيخ عبد الله بن أبي جمرة: ترتيب الوارد على القلب على مراتب الهمّة ثم اللمة ثم الخطرة ثم النية ثم الإرادة ثم العزيمة فالثلاثة الأول لا يؤاخذ بها بخلاف الثلاثة الآخر فقوله: إذا همّ يشير إلى أول ما يرد على القلب (فليركع ركعتين) أي من غير الفريضة في غير وقت كراهة (ثم يقول) دعاء الاستخارة فيظهر لم إذ ذاك ببركة الصلاة والدعاء ما هو خير بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده وقويت فيه عزيمته وإرادته فإنه يصير له إليه ميل وحب فيخشى أن يخفى عنه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه قال: ويحتمل أن يكون المراد بالهم العزيمة لأن الخاطر لا يثبت فلا يستمر إلا على ما يقصد التصميم على فعله وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به فتضيع عليه أوقاته اهـ.
وقوله: فليركع جواب إذا المتضمن معنى الشرط ولذا دخلت فيه الفاء واحترز بقوله في الرواية الأخرى من غير الفريضة عن صلاة الصبح مثلاً، وذكر النووي أنه يقرأ فيهما بسورة الكافرون والإِخلاص، لكن قال الحافظ زين الدين العراقي: لم أقف لذلك على دليل ولعله ألحقهما بركعتي الفجر. قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإِخلاص والتوحيد والمستخير يحتاج لذلك فقال: ومن المناسب أن يقرأ مثل قوله: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص: 68] وقوله: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة} [الأحزاب: 36] والأكمل أن يقرأ في كل منهما السورة والآية الأوليين في الأولى
والأخريين في الثانية، وهل يقدم الدعاء على الصلاة الظاهر لا للإتيان بثم

(9/216)


المقتضية للترتيب في قوله ثم يقول:
(اللهم إني أستخيرك بعلمك) أطلب منك الخيرة (وأستقدرك بقدرتك) أي أطلب منك أن تجعل لي على ذلك قدرة أو أطلب منك أن تقدّره لي إذ المراد بالتقدير التيسير والباء في بعلمك وبقدرتك للتعليل أي لأنك أعلم ولأنك قادر أو للاستعانة كقوله: {بسم الله مجراها} [هود: 41] أو للاستعصاف كقوله: {رب بما أنعمت عليّ} [القصص: 17] (وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر) إلا بك (وتعلم ولا أعلم) إلا بك فيما فيه خيرتي فالقدرة والعلم لك وحدك وليس للعبد إلا ما قدرته له (وأنت علاّم الغيوب) فيه لف ونشر غير مرتب (اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي) قال في الكواكب فإن قلت: كلمة إن للشك ولا يجوز الشك في كون الله عالمًا؟ وأجاب بأن الشك في أن العلم يتعلق بالخير أو الشر لا في أصل العلم، وفي رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي تعلم هذا الأمر خيرًا لي (في ديني ومعاشي) بالشين المعجمة وفتح الميم حياتي أو ما يعاش فيه، وفي الأوسط للطبراني عن ابن مسعود في ديني ودنياي وعنده من حديث أبي أيوب دنياي وآخرتي (وعاقبة أمري) أو قال: (في عاجل أمري وآجله فاقدره لي) بوصل الهمزة وضم الدال وتكسر أي اجعله مقدورًا لي أو قدره أو يسره (وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري) أو قال: (في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه) حتى لا يبقى قلبي بعد صرفه عني متعلقًا به ثم عمم الطلب بقوله (واقدر لي الخير حيث كان) ثم ختم بقوله (ثم رضني) بتشديد المعجمة لأن رضا الله ورضا العبد متلازمان بل رضا العبد مسبوق برضا الله وهو جماع كل خير واليسير منه خير من الجنان، ولأبي ذر عن الكشميهني ثم أرضني (به) وهو جماع كل خير واليسير منه خير من الجنان، ولأبي ذر عن الكشميهني ثم أرضني (به) بالهمز قبل الراء والذي في اليونينية لأبي ذر عن الكشميهني ورضني أي اجعلني به راضيًا (ويسمي حاجته) أي ينطق بها بعد الدعاء أو يستحضرها بقلبه عند الدعاء أي فليدع مسميًا حاجته فالجملة حالية والشك في قوله أو قال في الموضعين من الراوي. قال في الكواكب: ولا يخرج الداعي به عن العهدة حتى يكون جازمًا بأنه كما قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يدعو به ثلاث مرات يقول تارة في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري وأخرى في عاجلي وآجلي وثالثة في ديني وعاجلي وآجلي اهـ.
وينبغي أن يفتتح الدعاء ويختمه بالحمد لله والصلاة على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يستخير الله سبعًا، ففي حديث أنس عند ابن السني إذا هممت بأمر فاستخر ربك سبعًا ثم انظر إلى الذي يسبق في قلبك فإن الخير فيه، لكن سنده واهٍ جدًّا، وليشرع في حاجته فإن كان له فيها خيرة يسّر الله له أسبابها وكانت عاقبتها محمودة.
وقد أورد المحاملي في اللباب حديثًا لأبي أيوب الأنصاري في استخارة التزويج عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: اكتم الخطبة ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم صلّ ما كتب الله لك ثم احمد ربك
ومجّده ثم قل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم إنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب فإن رأيت لي في فلانة وتسميها باسمها خيرًا لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقضها لي أو قال: اقدرها لي وإن كان غيرها خيرًا لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاصرفها عني أي فلانة المسماة وفي نسخة فاقضها لي أو قال: قدّرها واقسمها لي أي غير فلانة.

49 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْوُضُوءِ
(باب الدعاء عند الوضوء).
6383 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِى بُرْدَةَ، عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: دَعَا النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ» وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر بالإفراد (محمد بن العلاء) بفتح العين والمدّ أبو كريب الهمداني الحافظ قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن بريد بن عبد الله) بضم الموحدة وفتح الراء (عن) جدّه (أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء عامر (عن) أبيه (أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنه- أنه (قال): كما سبق معناه في المغازي لما رمى رجل جشمي أبا عامر يعني عمه في ركبته بسهم فأثبته وأنه قال له: يا ابن أخي اقرئ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السلام وقل له يستغفر لي ثم مات (دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حين

(9/217)


بلغه ذلك (بماء فتوضأ ثم) ولأبي ذر عن الكشميهني فتوضأ به ثم (رفع يديه فقال):
(اللهم اغفر لعبيد) بضم العين وفتح الموحدة (أبي عامر) الأشعري قال أبو موسى: (ورأيت بياض إبطيه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس) بيان لما قبله لأن الخلق أعمّ والحديث مرّ في غزوة أوطاس وساقه هنا مختصرًا.

50 - باب الدُّعَاءِ إِذَا عَلاَ عَقَبَةً
(باب الدعاء إذا علا) صعد الإِنسان (عقبة) بفتح العين والقاف.
6384 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِى عُثْمَانَ، عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى سَفَرٍ فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا» ثُمَّ أَتَى عَلَىَّ وَأَنَا أَقُولُ فِى نَفْسِى لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ
إِلاَّ بِاللَّهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ -أَوْ قَالَ- أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِىَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) أبو أيوب الواشحي الأزدي البصري قاضي مكة (حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم أحد الأئمة الأعلام (عن أيوب) السختياني (عن أبي عثمان) عبد الرَّحمن بن مل النهدي (عن أبي موسى) الأشعري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تعيينه (فكنا إذا علونا) شرفًا (كبّرنا) الله تعالى فرفعنا أصواتنا (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أيها الناس أربعوا) بالوصل وفتح الموحدة (على أنفسكم) أي ارفقوا بها ولا تبالغوا في الجهر (فإنكم لا تدعون أصم) قال الكرماني: ويروى أصمًّا بالألف قال: لعله باعتبار مناسبته لقوله (ولا غائبًا ولكن) بتخفيف النون (تدعون سميعًا بصيرًا) كالتعليل لقوله: لا تدعون أصم، وفي الجهاد إنه معكم إنه سميع قريب. قال أبو موسى: (ثم أتى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عليّ) بتشديد التحتية (وأنا أقول في نفسي لا حول ولا قوّة إلا بالله فقال) لي: (يا عبد الله بن قيس قل لا حول ولا قوّة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة) أو قال: (ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة) بالشك من الراوي.
قال في الكواكب: أي كالكنز في كونه نفيسًا مدخرًا مكنونًا عن أعين الناس. قال في شرح المشكاة: هذا التركيب ليس باستعارة لذكر المشبه وهو الحوقلة والشبه به وهو الكنز ولا التشبيه الصرف لبيان الكنز بقوله من كنوز الجنة، بل هو إدخال الشيء في جنس وجعله أحد أنواعه على التغليب، فالكنز إذًا نوعان. الأول: المتعارف وهو المال الكثير يجعل بعضه فوق بعض ويحفظ، والثاني: غير المتعارف وهو هذه الكلمة الجامعة المكتنزة بالمعاني الإِلهية لما أنها محتوية على التوحيد الخفي لأنه إذا نفيت الحيلة والاستطاعة عما من شأنه ذلك وأثبتت لله على سبيل الحصر بإيجاده واستعانته وتوفيقه لم يخرج شيء من ملكه وملكوته، ومن الدليل على أنها دالة على التوحيد الخفي قوله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي موسى: ألا أدلك على كنز مع أنه كان يذكرها في نفسه والدلالة إنما يستقيم على ما لم يكن عليه وهو أنه لم يعلم أنه توحيد خفي وكنز من الكنوز ولأنه لم يقل له ما ذكرته كنز من الكنوز بل صرح بها فقال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) تنبيهًا على هذا السر اهـ.
فإن قلت: ما مناسبة الحديث للترجمة فإنه ترجم بالدعاء والذي في الحديث التكبير؟ وأجيب: باحتمال أن يكون أخذه من قوله فيه فإنكم لا تدعون أصم.

51 - باب الدُّعَاءِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا. فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ -رضي الله عنه-
(باب الدعاء إذا هبط) نزل (واديًا فيه) أي في الباب (حديث جابر) الأنصاري (رضي الله عنه) السابق في باب التسبيح إذا هبط واديًا من كتاب الجهاد بلفظ: حدّثنا محمد بن يوسف، حدّثنا سفيان بن حصين بن عبد الرَّحمن عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله رضي الله
عنهما قال: كنا إذا صعدنا كبّرنا وإذا نزلنا سبّحنا. هذا آخر الحديث، وحكمة التكبير عند الصعود الاستشعار بكبرياء الله تعالى عندما يقع البصر على الأمكنة العالية، والتسبيح عند الهبوط استنباط من قصة يونس وتسبيحه في بطن الحوت لينجو من بطن الأودية كما نجا يونس من بطن الحوت، وقيل غير ذلك مما ذكرته في الباب المذكور.
وهذا الباب والترجمة وقوله فيه حديث جابر -رضي الله عنه- ثابتة في رواية المستملي والكشميهني ساقطة لغيرهما.

52 - باب الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، أَوْ رَجَعَ
فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أََنَسٍ.
(باب الدعاء إذا أراد) الإنسان (سفرًا أو رجع) منه (فيه) أي في الباب (يحيى بن أبي إسحاق) الحضرمي (عن أنس) -رضي الله عنه- مما وصله في الجهاد في باب ما يقول إذا رجع من الغزو وفيه فلما أشرفنا على المدينة قال: آيبون

(9/218)


تائبون عابدون لربنا حامدون، وثبت الباب وما بعده إلى هنا في رواية أبي ذر عن الحموي.
6385 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) الإِمام (عن نافع عن عبد الله بن عمر) سقط لأبي ذر لفظ عبد الله (-رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا قفل) رجع (من غزوة أو حج أو عمرة) أو غيرها من الأسفار (يكبّر على كل شرف) بفتح الشين المعجمة والراء بعدها فاء مكان عال (من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول): عقب التكبير وهو على الشرف أو بعده:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون) بمدّ الهمزة أي نحن راجعون إلى الله نحن (تائبون) قاله تعليمًا لأمته أو تواضعًا منه عليه الصلاة والسلام نحن (عابدون لربنا حامدون) له وقوله لربنا متعلق بعابدون أو بحامدون أو بهما أو بالثلاثة السابقة أو بالأربعة على طريق التنازع (صدق الله وعده) فيما وعد به من إظهار دينه (ونصر عبده) محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وهزم الأحزاب) الذين تحزّبوا لحربه عليه الصلاة والسلام (وحده) أفنى السبب فناء في المسبب. قال تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] ولم يذكر المؤلّف الدعاء إذا أراد سفرًا ولعله يشير إلى نحو ما وقع عند مسلم في رواية علي بن عبد الله
الأزدي عن ابن عمر أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر كبّر ثلاثًا ثم قال: "سبحان الذي سخّر لنا هذا" الحديث، وفيه: وإذا رجع قال: (آيبون تائبون) ولا اختصاص للحج والعمرة والغزو عند الجمهور، بل يشرع ذلك في كل سفر.

53 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ
(باب الدعاء للمتزوّج).
6386 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: رَأَى النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ: «مَهْيَمْ أَوْ مَهْ» قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم (عن ثابت) البناني (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على عبد الرَّحمن بن عوف) -رضي الله عنه- (أثر صفرة) من الطيب الذي استعمله عند الزفاف (فقال) له:
(مهيم) بفتح الميم والتحتية بينهما هاء ساكنة آخره ميم ساكنة على البناء قال ابن السيد: كلمة يمانية يقيمونها مقام حرف الاستفهام والشيء المستفهم عنه وهل هي بسيطة أو مركبة؟ استبعد الثاني بأنه لا يكاد يوجد اسم مركب على أربعة أحرف أي ما شأنك (أو) قال (مه) بفتح الميم وسكون الهاء فما استفهامية قلبت ألفها هاء والشك من الراوي (قال) عبد الرَّحمن (تزوجت امرأة على وزن نواة) اسم لقدر معروف عندهم فسروه بخمسة دراهم (من ذهب) صفة لنواة (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له: (بارك الله لك) واللام هنا لام الاختصاص (أولم ولو بشاة) أمر من أولم والوليمة فعيلة من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان ثم نقلت في الشرع لطعام العرس ولو كان قال ابن دقيق العيد تفيد التقليل أي اصنع وليمة وإن قلّت، وقيل بمعنى التمني.
والحديث سبق في البيع والنكاح وغيرهما.
6387 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ - رضى الله عنه - قَالَ: هَلَكَ أَبِى وَتَرَكَ سَبْعَ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ»؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا»؟ قُلْتُ: ثَيِّبًا قَالَ: «هَلاَّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ، أَوْ تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ» قُلْتُ: هَلَكَ أَبِى فَتَرَكَ سَبْعَ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَالَ: «فَبَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ» لَمْ يَقُلِ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل المشهور بعارم قال: (حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم (عن عمرو) بفتح العين بن دينار (عن جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري (-رضي الله عنه-) وعن أبيه أنه (قال: هلك أبي وترك سبع أو تسع بنات) لم أقف على أسمائهن (فتزوجت امرأة فقال) لي (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(تزوجت يا جابر)؟ استفهام محذوف الأداة (قلت نعم) يا رسول الله (قال) عليه الصلاة والسلام (بكرًا) استفهام محذوف الأداة منصوب بتقدير تزوجت؛ ولأبي ذر: أبكرًا (أم) تزوجت (ثيبًا؟ قلت: ثيبًا) كذا في اليونينية بالنصب وفي نسخة بالرفع أي التي تزوجتها ثيب. قال في الفتح: قيل كان الأحسن النصب على نسق الأول أي تزوجت ثيبًا لكن لا يمتنع أن يكون منصوبًا فكتب بغير الألف على تلك اللغة (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هلا) تزوجت (جارية) بكرًا (تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك) كذا في الفرع وقال العيني كابن حجر: أو تضاحكها بالشك من الراوي كذا وجدته في نسخة أخرى معتمدة وهو الذي في اليونينية والتلاعب هل هو من اللعب أو من اللعاب سبق في محله (قلت) يا رسول الله

(9/219)


(هلك أبي فترك) بالفاء ولأبي ذر وترك (سبع أو تسع بنات فكرهت أن أجيئهن بمثلهن) صغيرة لا تجربة لها بالأمور (فتزوجت امرأة) قد جربت الأمور وعرفتها (تقوم عليهن) وتصلح شأنهن (قال) صلوات الله وسلامه عليه (فبارك الله عليك) دعاء له بالبركة واستعلائها عليه وهي النماء والزيادة يقال: بارك الله لك وفيك وعليك.
فإن قلت: قال لعبد الرَّحمن بارك الله لك ولجابر عليك فهل بينهما فرق؟ أجيب: بأن المراد بالأول اختصاصه بالبركة في زوجته كما مرّ أن اللام فيه للاختصاص والثاني شمول البركة له في جودة عقله حيث قدّم مصلحة أخواته على حظ نفسه فعدل لأجلهن عن تزوّج البكر مع كونها أرفع رتبة للمتزوج الشاب من الثيب غالبًا، ويحتمل أن يكون قوله: فبارك الله عليك خبرًا والفاء سببية أي بسبب تزوجك الثيب لما ذكرت يبارك لك وعليك.
(لم يقل ابن عيينة) سفيان فيما سبق موصولاً في المغازي والنفقات (و) لا (محمد بن مسلم) الطائفي فيما سبق أيضًا في المغازي في روايتهما (عن عمرو) أي ابن دينار عن جابر (بارك الله عليك).

54 - باب مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
(باب ما يقول) الرجل (إذا أتى أهله) إذا أراد أن يجامع امرأته.
6388 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِىَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِى ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا».
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدثني بالإفراد (عثمان بن أبي شيبة) أبو الحسن العبسي مولاهم الكوفي الحافظ قال: (حدّثنا جرير) بفتح الجيم بن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن سالم) هو ابن أبي الجعد (عن كريب) بضم الكاف آخره موحدة مصغر ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله) يجامع امرأته أو سريته (قال: بسم الله اللهم جنبنا) بالجمع (الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا) وأطلق ما على من يعقل لأنها بمعنى شيء كقوله: {والله أعلم بما وضعت} [آل عمران: 36] (فإنه إن يقدر) بفتح الدال المشددة (بينهما ولد في ذلك) الجماع المقول فيه ذلك (لم يضره شيطان) بإضراره في دينه أو بدنه (أبدًا).
والحديث سبق في باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله من كتاب النكاح.

55 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً» [البقرة: 201]
(باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً}).
6389 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ {آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}» [البقرة: 201].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد البصري (عن عبد العزيز) بن صهيب (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: كان أكثر دعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اللهم آتنا) وللكشميهني: اللهم ربنا آتنا ({في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة}) الجار في قوله في الدنيا يتعلق بآتنا أو بمحذوف على أنه حال من حسنة لأنه كان في الأصل صفة لها فلما قدم عليها انتصب حالاً والواو في قوله: وفي الآخرة عاطفة شيئين على شيئين متقدمين، ففي الآخرة عطف على في الدنيا بإعادة العامل وحسنة عطف على حسنة والواو تعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر تقول: أعلم الله زيدًا عمرًا فاضلاً وبكرًا خالدًا صالحًا. اللهم إلا أن ينوب عن عاملين ففيها خلاف، وتفصيل مذكور في محله، واختلف في الحسنتين فعن الحسن مما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح: العلم والعبادة في الدنيا، وعنه عند عبد الرزاق: الرزق الطيب والعلم النافع وفي الآخرة الجنة، وعن قتادة: العافية في الدنيا والآخرة، وعن محمد بن كعب القرظي: الزوجة الصالحة من الحسنات، وعن عطية: حسنة الدنيا العلم والعمل به وحسنة الآخرة تيسير الحساب ودخول الجنة ومن عوف قال: من آتاه الله الإسلام والقرآن والأهل والمال والولد فقد آتاه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقيل: الحسنة في الدنيا الصحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء، وفي الآخرة الفوز بالثواب والخلاص من العقاب ومنشأ
الخلاف كما قال الإمام فخر الدين: إنه لو قيل آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة لكان ذلك متناولاً لكل الحسنات، لكنه نكرة في محل الإثبات فلا يتناول إلا حسنة واحدة، فلذلك اختلف المفسرون فكل واحد منهم حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة وهذا بناءً منه

(9/220)


على أن المفرد المعرّف بالألف واللام يعم، وقد اختار في المحصول خلافه.
ثم قال: فإن قيل: أليس لو قيل آتنا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة لكان متناولاً لكل الأقسام فلِم ترك ذلك وذكره منكرًا؟ وأجاب بأن قال: إنّا بيّنا أنه ليس للداعي أن يقول: اللهم أعطني كذا وكذا بل يجب أن يقول: اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي موافقة لقضائك وقدرك فأعطني ذلك فلو قال: اللهم أعطني الحسنة في الدنيا لكان ذلك جزمًا، وقد بيّنّا أن ذلك غير جائز فلما ذكره على سبيل التنكير كان المراد منه حسنة واحدة هي التي توافق قضاءه وقدره فكان ذلك أقرب إلى رعاية الأدب ({وقنا عذاب النار}) قِنا مما حذفت منه فاؤه ولامه لأنه من وقى يقي وقاية أما حذف فائه فبالحمل على المضارع لوقوع الواو بين ياء وكسرة، وأما حذف لامه فلأن الأمر جارٍ مجرى الفعل المضارع المجزوم وجزمه بحذف حرف العلة فكذلك الأمر منه فوزن قنا عنا، والأصل أوقنا فلما حذفت الفاء استغنى عن همزة الوصل فحذفت، والمعنى احفظنا من عذاب جهنم أو عذاب النار المرأة السوء.
وهذا الحديث سبق في تفسير سورة البقرة.

56 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا
(باب التعوّذ من فتنة الدنيا) سقط لفظ باب لأبي ذر فالتعوّذ رفع.
6390 - حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِى الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُنَا هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ».
وبه قال: (حدّثنا فروة بن أبي المغراء) بفتح الميم وسكون الغين المعجمة بعدها راء ممدودًا وفروة بفتح الفاء وسكون الراء أبو القاسم الكندي الكوفي قال: (حدّثنا عبيدة) بفتح العين وكسر الموحدة (ابن) ولأبي ذر هو ابن (حميد) بضم الحاء المهملة مصغرًا الضبي (عن عبد الملك بن عمير) بضم العين المهملة مصغرًا (عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه) سعد بسكون العين (-رضي الله عنه-) أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلمنا هؤلاء الكلمات) أي الخمس (كما تعلم الكتابة) بضم الفوقية وفتح العين واللام المشددة ولأبي ذر عن الكشميهني الكتاب بإسقاط هاء التأنيث وهي:
(اللهم إني أعوذ بك من البخل) الذي هو ضد الكرم (وأعوذ بك من الجبن) الذي هو ضد الشجاعة (وأعوذ بك أن) ولأبي ذر: من أن (نردّ) بالنون وفي باب الاستعاذة من أرذل العمر من أن أردّ بالهمزة بدل النون (إلى أرذل العمر) وهو الهرم المؤدي إلى الخرف (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) فتنة المسيح الدجال أو أعم (و) من (عذاب القبر).
وسبق الحديث قريبًا في الباب المذكور.

57 - باب تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ
(باب تكرير الدعاء) مرة بعد أخرى لإظهار الفقر والحاجة إلى الرب تعالى وخضوعًا وتذللاً له.
6391 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْذِرٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ قَدْ صَنَعَ الشَّىْءَ وَمَا صَنَعَهُ، وَإِنَّهُ دَعَا رَبَّهُ ثُمَّ قَالَ: «أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ»؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «جَاءَنِى رَجُلاَنِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ قَالَ: فَبِمَاذَا؟ قَالَ: فِى مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِى ذَرْوَانَ وَذَرْوَانُ»، بِئْرٌ فِى بَنِى زُرَيْقٍ. قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» قَالَتْ: فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهَا عَنِ الْبِئْرِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلاَّ أَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِى اللَّهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا». زَادَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَاللَّيْثُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَعَا وَدَعَا وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر بالإفراد (إبراهيم بن المنذر) الحزامي المدني أحد الأعلام قال: (حدّثنا أنس بن عياض) أبو ضمرة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طبّ) بضم الطاء المهملة وتشديد الموحدة: سحر (حتى إنه ليخيل إليه) مبني للمفعول واللام للتأكيد أي يظهر له من نشاطه وسابق عادته (أنه قد صنع الشيء وما صنعه) أي جامع نساءه وما جامعهن فإذا دنا منهنّ أخذته أخذة السحر فلم يتمكن من ذلك ولم يكن ذلك إلا في أمر زوجاته فلا ضرر فيه على نبوّته إذ هو معصوم (وأنه) عليه الصلاة والسلام (دعا ربه) عز وجل، وفي كتاب الطب من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة دعا الله ودعاه (ثم قال):
(أشعرت) أعلمت (أن الله) تعالى (أفتاني) ولأبي ذر عن الكشميهني: قد أفتاني (فيما استفيته
فيه فقالت عائشة) -رضي الله عنها- (فما) بالفاء، ولأبي ذر: وما (ذاك يا رسول الله؟ قال: جاءني رجلان) أي ملكان في صفة رجلين (فجلس أحدهما) وهو جبريل (عند رأسي والآخر) وهو ميكائيل (عند رجليّ) بتشديد التحتية على التثنية (فقال أحدهما لصاحبه): وفي الرواية المذكورة فقال الذي عند رأسي للآخر. وعند الحميدي فقال الذي عند رجليّ للذي عند رأسي، قال الحافظ ابن حجر: وكأنها أصوب (ما وجع الرجل)؟ يعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال: مطبوب) أي مسحور (قال: من طبّه)؟ من سحره (قال)

(9/221)


سحره (لبيد بن الأعصم) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الصاد المهملتين، وزاد في الرواية المذكورة رجل من بني زريق حليف اليهود وكان منافقًا (قال: فبماذا؟) سحره (قال: في مشط) الآلة المعروفة (ومشاطة) بضم الميم وبالطاء ما يخرج من الشعر بالمشط، وفي رواية ابن جريج عن آل عروة عن عروة في الطب في مشاقة بالقاف (وجف طلعة) بضم الجيم وتشديد الفاء وإضافتها لتاليها وعاء طلع النخل وقيّده في أخرى بذكر (قال: فأين هو؟ قال في ذروان) بالذال المعجمة المفتوحة وسكون الراء (وذروان بئر في بني زريق قالت) عائشة -رضي الله عنها- (فأتاها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في أناس من أصحابه فنظر إليها وعليها نخل (ثم رجع إلى عائشة) -رضي الله عنها- (فقال) لها: (والله لكأن ماءها) يعني البئر (نقاعة الحناء) بضم النون بعدها قاف أي في حمرة لونه (ولكأن نخلها) أي نخل البستان الذي هي فيه (رؤوس الشياطين) في بشاعة منظرها وخبثها، ويحتمل أن يراد برؤوس الشياطين رؤوس الحيات إذ العرب تسمي بعض الحيات شيطانًا (قالت) عائشة -رضي الله عنها- (فأتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرها عن البئر) قالت عائشة (فقلت يا رسول الله فهلا أخرجته) أي الجف (قال) عليه الصلاة والسلام (أمّا أنا) بتشديد الميم (فقد شفاني الله) منه (وكرهت أن أثير على الناس شرًّا) باستخراجه فيتعلمونه ويضرون به المسلمين.
(زاد عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي على الحديث المذكور مما وصله في الطب (والليث بن سعد) مما سبق في بدء الخلق كلاهما (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: سحر النبي) ولأبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم السين مبنيًّا للمفعول (فدعا ودعا) بتكرير دعا مرتين (وساق الحديث) إلى آخره، ولم يذكر في رواية أنس بن عياض المسوقة في هذا الباب تكرير الدعاء، وفي رواية عبد الله بن نمير عن هشام عند مسلم في هذا الحديث فدعا ثم دعا وبالتكرير تحصل المطابقة بين الحديث والترجمة.

58 - باب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ»، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِى جَهْلٍ» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: دَعَا النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى الصَّلاَةِ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا» حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ} [آل عمران: 128].
(باب الدعاء على المشركين) قيد هذه الترجمة في الجهاد بالهزيمة والزلزلة والتبويب هنا ثابت لأبي ذر عن المستملي.
(وقال ابن مسعود) عبد الله -رضي الله عنه- مما سبق موصولاً في الاستسقاء (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللهم أعني عليهم) على كفار قريش (بسبع) من السنين مقحطة (كسبع يوسف) عليه السلام (وقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مما رواه عنه ابن مسعود -رضي الله عنه- وسبق موصولاً في آخر كتاب الطهارة في قصة سلى الجزور (اللهم عليك بأبي جهل) دعا عليه بالهلاك.
(وقال ابن عمر) -رضي الله عنهما- مما سبق موصولاً في غزوة أُحد وتفسير سورة آل عمران (دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في القنوت (في الصلاة اللهم العين فلانًا وفلانًا حتى أنزل الله عز وجل) ولأبي ذر تعالى ({ليس لك من الأمر شيء}) [آل عمران: 128] اسم ليس شيء والخبر لك ومن الأمر حال من شيء لأنها صفة متقدمة.
6392 - حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ أَبِى خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِى أَوْفَى - رضى الله عنهما - قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الأَحْزَابِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني بالإفراد (ابن سلام) بتخفيف اللام محمد قال: (أخبرنا وكيع) بفتح الواو وكسر الكاف ابن الجراح (عن ابن أبي خالد) هو إسماعيل واسم أبيه سعيد أو هرمز أو كثير البجلي الأحمسي الكوفي أنه (قال: سمعت ابن أبي أوفى) عبد الله واسم أبي أوفى علقمة وهو بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة وهما صحابيان (-رضي الله عنهما- قال: دعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الأحزاب) الذين اجتمعوا يوم الخندق بالهزيمة والزلزلة (فقال):
(اللهم منزل الكتاب سريع الحساب) أي سريعًا فيه أو أن مجيء الحساب سريع (اهزم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم) أي اجعل أمرهم مضطربًا متقلقلاً غير ثابت فاستجاب الله تعالى دعاءه عليهم فأرسل عليهم ريحًا وجنودًا لم يروها فهزمهم.
6393 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِى الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ، قَنَتَ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ».
وبه قال: (حدثنا معاذ بن فضالة) بفتح الفاء والضاد المعجمة المخففة البصري قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي ولأبي ذر هشام بن عبد الله (عن يحيى) بن أبي كثير (عن أبي سلمة)

(9/222)


بن
عبد الرَّحمن (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا قال: سمع الله لمن حمده في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت) قبل أن يسجد يقول:
(اللهم أنج) بقطع الهمزة (عياش بن أبي ربيعة) أخا أبي جهل لأمه (اللهم أنج الوليد بن الوليد) بن المغيرة أخا خالد بن الوليد (اللهم أنج سلمة بن هشام) أخا أبي جهل (اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين) عام بعد خاص (اللهم اشدد وطأتك) عقوبتك (على) كفار قريش أولاد (مضر) القبيلة المشهورة التي منها جميع بطون قريش وغيرهم (اللهم اجعلها) أي وطأتك (سنين) مجدبة ولأبي ذر عن المستملي عليهم سنين (كسني يوسف) المذكورة في سورته.
والحديث سبق في النساء وغيرها.
6394 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: بَعَثَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ فَأُصِيبُوا، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَدَ عَلَى شَىْءٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ فَقَنَتَ شَهْرًا فِى صَلاَةِ الْفَجْرِ وَيَقُولُ: «إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن الربيع) البجلي الكوفي قال: (حدّثنا أبو الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين سلام بتشديد اللام ابن سليم (عن عاصم) هو ابن سليمان الأحول (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سرية يقال لهم القراء) لأنهم كانوا أكثر دراسة للقرآن من غيرهم وكانوا سبعين إلى أهل نجد ليدعوهم إلى الإسلام فلما نزلوا بئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في جماعة فقتلوهم وهو معنى قوله (فأصيبوا) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (فما رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجد) بفتح الواو والجيم حزن (على شيء ما وجد) ما حزن (عليهم فقنت شهرًا في صلاة الفجر) و (يقول):
(إن عصية) بضم العين وفتح الصاد تصغير العصا قبيلة معروفة (عصوا الله) ولأبي ذر عن الكشميهني عصت الله (ورسوله) والحديث سبق في الوتر والمغازي.
6395 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: كَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَطِنَتْ عَائِشَةُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَالَتْ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ»، فَقَالَتْ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: «أَوَ لَمْ تَسْمَعِى أَنِّى أَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؟ فَأَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ».
وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني قال (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن عروة) بن
الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان) ولأبي ذر عن الكشميهني كانت (اليهود يسلمون على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولون) ولأبي ذر تقول (السام) يعنون الموت (عليك ففطنت عائشة) -رضي الله عنها- (إلى قولهم فقالت: عليكم السام واللعنة) وفي رواية باب كيف الردّ ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(مهلاً) بفتح الميم وإسكان الهاء أي رفقًا (يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله فقالت: يا نبي الله أو لم) بفتح الواو (تسمع ما يقولون؟ قال: أو لم تسمعي أردّ) ولأبي ذر: أني أردّ (ذلك عليهم فأقول وعليكم) بواو العطف وإسقاط لفظ السام وسقطت الواو لأبي ذر.
وسبق الحديث في السلام.
6396 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَنْصَارِىُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ: «مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ» وَهْىَ صَلاَةُ الْعَصْرِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي الحافظ قال: (حدّثنا الأنصاري) هو محمد بن عبد الله قاضي البصرة شيخ البخاري روى عنه بالواسطة قال: (حدّثنا هشام بن حسان) الأزدي مولاهم الحافظ قال: (حدّثنا محمد بن سيرين) أبو بكر أحد الأعلام قال: (حدّثنا عبيدة) بفتح العين وكسر الموحدة السلماني بن عمرو، وقيل عبيدة بن قيس الكوفي أحد الأئمة أسلم في حياة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (حدّثنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الخندق) وهي غزوة الأحزاب (فقال):
(ملأ الله قبورهم) أمواتًا (وبيوتهم) أحياء (نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي عن الصلاة الوسطى (حتى غابت الشمس وهي صلاة العصر) وفي مسلم من رواية أبي أسامة ومن رواية المعتمر بن سليمان، ومن رواية يحيى بن سعيد ثلاثتهم عن هشام: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، وأخرج أيضًا من حديث حذيفة مرفوعًا: (شغلونا عن صلاة العصر) وهذا ظاهر في أن قوله وهي صلاة العصر من نفس الحديث، وهو يرد على قوله في الكواكب أنه هنا مدرج في الخبر من قول بعض الرواة على ما لا يخفى، وهشام بن حسان وإن تكلم فيه من قبل حفظه فقد صرح غير واحد

(9/223)


بأنه ثبت في محمد بن سيرين حتى قال سعيد بن أبي عروبة: ما كان أحد أحفظ عن ابن سيرين من هشام بن حسان. وقال يحيى القطان: هشام بن حسان ثقة في محمد بن سيرين.
والحديث سبق في غزوة الخندق.

59 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ
(باب الدعاء للمشركين) زاد في الجهاد بالهدى ليتألفهم.
6397 - حَدَّثَنَا عَلِىٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ، وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ».
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن عبد الله المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قدم الطفيل بن عمرو) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء وسكون التحتية بعدها لام وعين عمرو مفتوحة الدوسي (على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله إن دوسًا) بفتح الدال المهملة وسكون الواو بعدها سين مهملة وهي قبيلة أبي هريرة (قد عصت) أي عصت الله (وأبت) امتنعت عن الإِسلام (فادع الله عليها فظنّ الناس أنه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يدعو عليهم فقال):
(اللهم اهد دوسًا) للإسلام (وائت بهم) مسلمين وكان الطفيل قدم مكة وأسلم وقال: يا رسول الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فلما قدم على أهله دعا أباه وصاحبته إلى الإسلام فأجاباه ثم دعا دوسًا فأبطأوا عليه فجاء إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم فقال: "اللهم اهد دوسًا" ثم قال: ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم قال: فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بخيبر فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس، ثم لحقنا برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأسهم لنا مع المسلمين، وقد استشكل قوله باب الدعاء على المشركين وباب الدعاء للمشركين. وأجيب: بأنه باعتبار حالين فالدعاء عليهم لتماديهم على كفرهم وإيذائهم للمسلمين والدعاء لهم بالهداية ليتألفهم للإِسلام، والحديث سبق في الجهاد.

60 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عبودية وتعليمًا لأمته (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت).
6398 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكَ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِى مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ «رَبِّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى وَجَهْلِى وَإِسْرَافِى فِى أَمْرِى كُلِّهِ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى خَطَايَاىَ وَعَمْدِى وَجَهْلِى وَهَزْلِى، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِى اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ» وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَحَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِى بُرْدَةَ بْنِ أَبِى مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [الحديث 6398 - طرفه
في: 6399].
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدثني (محمد بن بشار) بندار قال: (حدّثنا عبد الملك بن صباح) بفتح المهملة وتشديد الموحدة وبعد الألف حاء مهملة المصري قال أبو حاتم الرازي صالح وهي من ألفاظ التوثيق لكنها في الرتبة الأخيرة عنده فيكتب حديثه للاعتبار وحينئذٍ فليس عبد الملك هذا من شرط الصحيح. وأجيب: بأن اتفاق الشيخين على التخريج له يدل على أنه أرفع رتبة من ذلك لا سيما وقد تابعه معاذ بن معاذ وهو من الإثبات وليس لعبد الملك في الصحيح إلا هذا الموضع قاله في الفتح قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) السبيعي (عن ابن أبي موسى) أبي بردة (عن أبيه) أبي موسى عبد الله بن قيس (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يدعو بهذا الدعاء):
(رب اغفر لي خطيئتي) ذنبي (وجهلي) ضد العلم (وإسرافي) مجاوزتي الحد (في أمري كله وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي خطاياي) جمع خطيئة (وعمدي) ضد السهو (وجهلي) ضد العلم كما مر (وهزلي) ضد الجد وعطف العمد على الخطأ من عطف الخاص على العام باعتبار أن الخطيئة أعم من التعمد أو من عطف أحد المتقابلين على الآخر بأن تحمل الخطيئة على ما وقع على سبيل الخطأ، وفي مسلم اغفر لي هزلي وجدي. قال في الفتح: وهو أنسب وهو بالكسر ضد الهزل (وكل ذلك عندي) موجود أو ممكن كالتذييل للسابق أي أنا متصف بهذه الأشياء فاغفرها لي قاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متواضعًا وهضمًا لنفسه أو عد فوات الكمال وترك الأولى ذنوبًا أو أراد ما كان عن سهو أو ما كان قبل النبوة (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت) وهذان شاملان لجميع ما سبق كقوله (وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم) لمن تشاء من خلقك بتوفيقك إلى رحمتك (وأنت المؤخر) لمن تشاء عن ذلك (وأنت على كل شيء قدير) جملة مؤكدة لمعنى ما قبلها وعلى كل شيء متعلق بقدير وهو فعيل بمعنى فاعل مشتق من القدرة

(9/224)


وهي القوة والاستطاعة وهل يطلق الشيء على المعدوم والمستحيل خلاف.
والحديث أخرجه مسلم في الدعوات (وقال عبيد الله بن معاذ) بضم العين مصغرًا ومعاذ بضم الميم آخره معجمة العنبري التيمي البصري شيخ المؤلّف (وحدّثنا أبي) معاذ وسقطت الواو لأبي ذر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) السبيعي (عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه) أبي موسى (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد أبو ذر عن الكشميهني هنا بنحوه أي بنحو السابق.
6399 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى مُوسَى وَأَبِى بُرْدَةَ أَحْسِبُهُ عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى وَجَهْلِى وَإِسْرَافِى فِى أَمْرِى، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ
مِنِّى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى هَزْلِى وَجِدِّى وَخَطَاىَ وَعَمْدِى، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِى».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدثني بالإفراد (محمد بن المثنى) العنزي الزمن قال: (حدّثنا عبيد الله) بضم العين (ابن عبد المجيد) بفتح الميم بعدها جيم الحنفي البصري قال: (حدّثنا إسرائيل) بن يونس قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدثني بالإفراد (أبو إسحاق) هو السبيعي جد إسرائيل (عن أبي بكر بن أبي موسى و) أخيه (أبي بردة) بن أَبي موسى (أحسبه عن) أبيهما (أبي موسى الأشعري) -رضي الله عنه- وسقط الأشعري لأبي ذر (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يدعو):
(اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي) بكسر الجيم (وخطئي) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وخطاي بغير همز (وعمدي وكل ذلك) المذكور (عندي) قاله على سبيل التواضع والشكر لربه لما علم أنه قد غفر له.

61 - باب الدُّعَاءِ فِى السَّاعَةِ الَّتِى فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ
(باب الدعاء في الساعة التي) ترجى إجابة الدعاء فيها (في يوم الجمعة).
6400 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فِى الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهْوَ قَائِمٌ يُصَلِّى يَسْأَلُ خَيْرًا إِلاَّ أَعْطَاهُ» وَقَالَ بِيَدِهِ «قُلْنَا يُقَلِّلُهَا يُزَهِّدُهَا».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم) هو ابن علية قال: (أخبرنا) ولأبي ذر حدّثنا (أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن سيرين (عن أبي هريرة رضي الله عنه) أنه (قال: قال أبو القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(في الجمعة) ولأبي ذر في يوم الجمعة (ساعة لا يوافقها مسلم) أو مسلمة (وهو قائم يصلّي يسأل خيرًا) ثلاثة أحوال متداخلة أو مترادفة ولأبي ذر عن الكشميهني يسأل الله خيرًا (إلا أعطاه) وقيد بالخير ليخرج نحو الدعاء بإثم أو قطيعة رحم (وقال): أي أشار عليه الصلاة والسلام (بيده) إلى أنها ساعة لطيفة (قلنا يقللها) أي الساعة (يزهدها) بضم التحتية وفتح الزاي وتشديد الهاء المكسورة تأكيد إذ معناه يقللها أيضًا. واختلف في تعيينها فقيل ساعة الصلاة، وقيل آخر ساعة عند الغروب، وسبق مزيد لذلك في كتاب الجمعة، والحاصل أنه اختلف في ذلك على أكثر من أربعين قولاً كليلة القدر. وفي حديث أبي سلمة عند أحمد وصححه ابن خزيمة أن أبا هريرة -رضي الله عنه- سأل عن ساعة الجمعة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "إني كنت أعلمها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر" قال في الفتح: ففي هذا الحديث إشارة إلى أن كل رواية جاء فيها تعيين وقت الساعة المذكورة مرفوعًا وهم فالله أعلم والحكمة في إخفائها استمرار الطاعة في يومها.
والحديث سبق في الصلاة وأخرجه النسائي فيه.

62 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُسْتَجَابُ لَنَا فِى الْيَهُودِ وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستجاب لنا) الدعاء (في اليهود) لأنا لا ندعو عليهم إلا بالحق (ولا يستجاب لهم فينا) لأنهم يدعون علينا بالظلم.
6401 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها- أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ: «وَعَلَيْكُمْ» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوِ الْفُحْشَ» قَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: «أَوَ لَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى فِيهِمْ وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) سقط لأبي ذر ابن سعيد قال: (حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي قال: (حدّثنا أيوب) السختياني (عن ابن أبي مليكة) هو عبد الله بن عبد الرَّحمن بن أبي مليكة (عن عائشة -رضي الله عنها- أن اليهود أتوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا السام) بغير همزة (عليك. قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم:
(وعليكم) بواو التشريك أي وعليكم الموت إذ كل أحد يموت أو هي للاستئناف أي عليكم ما تستحقونه من الذم (فقالت عائشة) -رضي الله عنها- لهم: (السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مهلاً يا عائشة عليك بالرفق) فالزميه (وإياك والعنف) وهو ضد الرفق فاحذريه والعين مثلثة (أو الفحش) بالشك ولأبي ذر والفحش بإسقاط الألف من أو (قالت) يا رسول الله (أو لم تسمع) بفتح الواو (ما قالوا؟ قال) عليه الصلاة والسلام: ({أو لم)

(9/225)


بفتح الواو أيضًا (تسمعي ما قلت رددت عليهم) قولهم (فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ) بتشديد التحتية والحديث سبق في الاستئذان وفي باب الدعاء على المشركين.

63 - باب التَّأْمِينِ
(باب التأمين) وهو قول آمين عقب الدعاء ومعناها اللهم اسمع واستجب. وقال ابن عباس وقتادة: كذلك يكون فهي اسم فعل مبني على الفتح وقيل ليس باسم فعل بل هو من أسماء الله تعالى والتقدير يا آمين، وضعفه أبو البقاء بوجهين. أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُبنى على الضم لأنه منادى مفرد معرفة، والثاني: أن أسماء الله تعالى توقيفية ووجه الفارسي قول من جعله اسمًا لله تعالى على معنى أن فيه ضميرًا يعود على الله تعالى لأنه اسم فعل وهو توجيه حسن نقله صاحب المغرب، وفي آمين لغتان المد والقصر فمن الأول قوله:
آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أبلغها ألفين آمينا
وقال آخر:
يا رب لا تسلبني حبها أبدًا ... ويرحم الله عبدًا قال آمينا
ومن الثاني قوله:
تباعد مني فطحل إذ رأيته ... أمين فزاد الله ما بيننا بُعدا
وفطحل بفتح الحاء المهملة بينهما طاء مهملة ساكنة اسم رجل، وقيل الممدود اسم أعجمي لأنه بزنة قابيل وهابيل، وقال النووي في تهذيبه، قال عطية العوفي: آمين كلمة عبرانية أو سريانية وليست عربية، وقال جماعة: إن أمين المقصورة لم تجيء عن العرب، والبيت الذي ينشد مقصورًا لا يصح على هذا الوجه، وإنما هو فآمين زاد الله ما بيننا بعدًا وهل يجوز تشديد الميم المشهور أنه خطأ نقله الجوهري، لكنه روي عن الحسن البصري وجعفر الصادق التشديد وهو قول الحسن بن الفضل من أم إذا قصد أي نحن قاصدون نحوك وعند أبي داود من حديث أبي زهير النمري قال: وقف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على رجل قد ألح في الدعاء فقال: أوجب إن ختم فقيل بأي شيء؟ قال: بآمين فأتاه الرجل فقال: يا فلان اختم بآمين وأبشر، فكان أبو زهير يقول آمين مثل الطابع على الصحيفة فآمين طابع الدعاء وخاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم، كما أن خاتم الكتاب يمنعه من ظهور ما فيه على غير من كتب إليه وهو الفساد كذلك الختم في الدعاء يمنعه من الفساد الذي هو الخيبة كما في مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: إذا دعا أحدكم لا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم وليعظم الرغبة أي في الإجابة. وقال عبد الرَّحمن بن زيد: آمين كنز من كنوز الجنة وقال غيره: آمين درجة في الجنة تجب لقائلها.
6402 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِىُّ: حَدَّثَنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: الزهري) محمد بن مسلم (حدّثناه) أي الحديث (عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(فإذا أمّن القارئ) الإِمام في الصلاة أو أعم (فأمّنوا فإن الملائكة تؤمّن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة) في الصفة كالخشوع أو في الوقت (غفر له ما تقدم من ذنبه) الذي بينه وبين الله تعالى. وفي حديث حبيب بن مسلمة الفهري عند الحاكم سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمّن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى".
وحديث الباب سبق في الصلاة.

64 - باب فَضْلِ التَّهْلِيلِ
(باب فضل التهليل) اعلم أن العرب إذا أكثر استعمالهم لكلمتين ضموا بعض حروف إحداهما إلى بعض حروف الأخرى مثل الحوقلة والبسملة فالتهليل مأخوذ من قول لا إله إلا الله يقال: هيلل الرجل وهلل إذا قالها وهي الكلمة العليا التي يدور عليها رحى الإِسلام والقاعدة التي تبنى عليها أركان الدين وانظر إلى العارفين وأرباب القلوب كيف يستأثرونها على سائر الأذكار وما ذاك إلا لما رأوا فيها من الخواص التي لم يجدوها في غيرها.
6403 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَىٍّ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِىَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن

(9/226)


مالك) الإِمام الأعظم (عن سمي) بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد التحية مولى أبي بكر بن عبد الرَّحمن المخزومي (عن أبي صالح) ذكوان السمان (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(من قال لا إله إلا الله) قيل التقدير لا إله لنا أو في الوجود قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: وهذا أنكره بعض المتكلمين على النحويين بأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة فإنها إذا نفيت مقيدة كان دالاًّ على سلب الماهية مع القيد وإذا نفيت غير مقيدة كان نفيًا للحقيقة وإذا انتفت الحقيقة انتفت مع كل قيد أما إذا نفيت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر اهـ.
وقال أبو حيان: لا إله مبني مع لا في موضع رفع على الابتداء وبني الاسم مع لا لتضمنه معنى من أو للتركيب الزجاج هو معرب منصوب بها وعلى البناء فالخبر مقدر قال أبو حيان: واعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقديرهم الخبر في لا إله إلا الله وذكر ما ذكره الشيخ تقي الدين قال: وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ري الظمآن فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب فإن إله في موضع المبتدأ على قول سيبويه وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلا بد من خبر للمبتدأ أو للا فما قاله من الاستغناء عن الإِضمار فاسد، وأما قوله إذا لم يضمر كان نفيًا للإلهية فليس بشيء لأن نفي الماهية هو نفي الوجود لأن الماهية لا تتصور عندنا إلا مع الوجود فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود وهذا مذهب أهل السنة خلافًا للمعتزلة فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود وهو فاسد، وقولهم في كلمة الشهادة إلا الله هو في موضع رفع بدلاً من لا إله ولا يكون خبرًا للا لأن لا لا تعمل في المعارف ولو قلنا إن الخبر للمبتدأ وليس للا فلا يصح أيضًا لما يلزم عليه من تنكير المبتدأ وتعريف الخبر.
قال صاحب المجيد السفاقسي: قد أجاز الشلوبين في تقييد له على المفصل أن الخبر للمبتدأ يكون معرفة وسوغ الابتداء بالنكرة النفي ثم أكد الحصر المستفاد من قوله لا إله إلا الله بقوله: (وحده لا شريك له) مع ما فيه من تكثير حسنات الذاكر فقوله وحده حال مؤكدة وتؤوّل بمنفرد لأن الحال لا تكون معرفة ولا شريك له حال ثانية مؤكدة لمعنى الأولى ولا نافية وشريك مبني مع لا على الفتح وخبر لا متعلق له (له الملك وله الحمد) بضم الميم (وهو على كل شيء قدير) جملة حالية أيضًا ومن منع تعدد الحال جعل لا شريك له حالاً من ضمير وحده المؤول بمنفرد وكذلك له الملك حال من ضمير المجرور في له وما بعد ذلك معطوفات (في يوم مائة مرة كانت له عدل) بفتح العين أي أن مثل ثواب إعتاق (عشر رقاب) بسكون الشين (وكتبت) بالتأنيث وللكشميهني كما في الفتح واليونينية وكتب (له) بالقول المذكور (مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزًا) بكسر الحاء أي حصنًا (من الشيطان يومه ذلك) بنصب يوم على الظرفية (حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء) وفي رواية عبد الله بن يوسف في باب صفة إبليس مما جاء به (إلا رجل عمل أكثر منه) الاستثناء منقطع أي لكن رجل عمل أكثر مما عمل فإنه يزيد عليه أو الاستثناء متصل بتأويل.
6404 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِى زَائِدَةَ، عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَنْ قَالَ عَشْرًا كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِى زَائِدَةَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِىِّ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ مِثْلَهُ فَقُلْتُ لِلرَّبِيعِ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ فَأَتَيْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِنِ ابْنِ أَبِى لَيْلَى، فَأَتَيْتُ ابْنَ أَبِى لَيْلَى فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ يُحَدِّثُهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى، عَنْ أَبِى أَيُّوبَ قَوْلَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ مُوسَى: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى، عَنْ أَبِى أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: عَنِ الشَّعْبِىِّ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ: وَقَالَ آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، سَمِعْتُ هِلاَلَ بْنَ يَسَافٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلَهُ. وَقَالَ الأَعْمَشُ: وَحُصَيْنٌ، عَنْ هِلاَلٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلَهُ وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِىُّ، عَنْ أَبِى أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَالصَّحِيحُ قَوْلُ عَمْرٍو قَالَ الحَافِظُ أَبُو ذَرٍّ الهَرَوِيُّ: صَوَابُهُ عُمَرَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ قُلْتُ: وَعَلَى الصَّوَابِ ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ فِي الأَصْلِ كَمَا تَرَاهُ لاَ عَمْرٌو.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا عبد الملك بن عمرو) بفتح العين أبو عامر العقدي قال: (حدّثنا عمر بن أبي زائدة) بضم العين واسم أبي زائدة خالد أو ميسرة وهو أخو زكريا بن أبي زائدة الهمداني (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي التابعي الصغير
(عن عمرو بن ميمون) بفتح العين الأودي التابعي الكبير المخضرم أنه (قال: من قال عشرًا) أي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل). وعند مسلم كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل صفة رقبة أي حصل له من الثواب ما لو اشترى ولدًا من أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام وأعتقه وإنما خصه لأنه أشرف الناس (قال عمر بن أبي زائدة) بالسند السابق وعمر

(9/227)


بضم العين، وسقط لأبي ذر ابن أبي زائدة حدثنا أبو إسحاق.
(وحدّثنا عبد الله بن أبي السفر) بفتح المهملة والفاء واسمه سعيد بن محمد الثوري الهمداني الكوفي (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن ربيع بن خثيم) بضم الخاء وفتح المثلثة بعدها تحتية ساكنة فميم ولأبي ذر عن الربيع بن خثيم (مثله) أي مثل رواية أبي إسحاق (فقلت للربيع) بن خثيم (ممن سمعته فقال: من عمرو بن ميمون) الأودي (فأتيت عمرو بن ميمون فقلت: ممن سمعته؟ فقال: من ابن أبي ليلى) عبد الرَّحمن (فأتيت ابن أبي ليلى فقلت) له: (ممن سمعته؟ فقال: من أبي أيوب) خالد (الأنصاري) الخزرجي (يحدثه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وحاصله أن عمر بن أبي زائدة أسنده عن شيخين أحدهما أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون موقوفًا والثاني عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن الربيع بن خثيم عن عمرو بن ميمون عن ابن أبي ليلى عن أبي أيوب مرفوعًا.
(وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه) يوسف بن إسحاق (عن) جده (أبي إسحاق) عمرو السبيعي أنه قال: (حدثني) بالإفراد (عمرو بن ميمون) الأودي (عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب) الأنصاري (قوله عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقط عن النبي الخ لأبي ذر، وأفادت هذه الرواية التصريح بتحديث عمرو لأبي إسحاق وأفادت أيضًا زيادة ذكر عبد الرَّحمن بن أبي ليلى وأبي أيوب في السند.
(وقال موسى) بن إسماعيل المنقري التبوذكي شيخ المؤلّف مما وصله أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه (حدّثنا وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد (عن داود) بن أبي هند دينار القشيري البصري (عن عامر) الشعبي (عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب) خالد الأنصاري -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولفظ رواية ابن أبي خيثمة كان له من الأجر مثل من أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل.
(وقال إسماعيل) بن أبي خالد الأحمسي البجلي (عن الشعبي) عامر (عن الربيع) بن خثيم (وقوله) أي موقوف قال في الفتح: واقتصار البخاري على هذا القدر يوهم أنه خالف داود في وصله وليس كذلك، وإنما أراد أنه جاء في هذه الطريق عن الربيع من قوله ثم لما سئل عنه وصله قال: وقد وقع لنا ذلك واضحًا في زيادات الزهد لابن المبارك رواية الحسين بن الحسن المروزي قال الحسين: حدّثنا المعتمر بن سليمان سمعت إسماعيل بن أبي خالد يحدث عن عامر الشعبي
سمعت الربيع بن خثيم يقول من قال: لا إله إلا الله فذكره بلفظ فهو عدل أربع رقاب فقلت: عمن ترويه فقال: عن عمرو بن ميمون فلقيت عمرًا فقلت: عمن ترويه فقال: عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى فلقيت عبد الرَّحمن فقلت: عمن ترويه فقال: عن أبي أيوب عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(وقال آدم) بن أبي إياس شيخ المؤلّف وعند الدارقطني حدّثنا آدم بدل قوله وقال آدم (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا عبد الملك بن ميسرة) الهلالي الكوفي الزراد (سمعت هلال بن يساف) بفتح التحتية والمهملة مخففة وبعد الألف فاء الأشجعي (عن الربيع بن خثيم وعمرو بن ميمون) كلاهما (عن ابن مسعود) عبد الله -رضي الله عنه- (قوله) أي من قوله موقوفًا عليه، وعند النسائي من رواية محمد بن جعفر عن شعبة بسنده السابق هنا عن ابن مسعود قال: لأن أقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحديث وفيه أحب إليّ من أن أعتق أربع رقاب وزاد من طريق منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن الربيع وحده عن عبد الله بن مسعود بيده الخير وقال: في آخره كان له عدل أربع رقاب من ولد إسماعيل.
(وقال الأعمش) سليمان بن مهران مما وصله النسائي من طريق وكيع عنه (وحصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن عبد الرَّحمن السلمي الكوفي مما وصله محمد بن الفضل في كتاب الدعاء له كلاهما (عن هلال) هو ابن يساف (عن الربيع) بن خثيم (عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- (قوله) أي من قوله ولفظ الأوّل عند النسائي عن عبد الله بن مسعود

(9/228)


قال: من قال لا إله إلا الله وفيه كان له عدل أربع رقاب من ولد إسماعيل، ولفظ ابن الفضل قال عبد الله: من قال: أوّل النهار لا إله إلا الله وفيه كنّ له كعدل أربع رقاب محررين من ولد إسماعيل وقد وقع قوله قال عمر بن أبي زائدة وحدّثنا عبد الله بن أبي السفر عقب رواية أبي إسحاق عند غير أبي ذر في جميع الروايات عن الفربري وكذا في رواية إبراهيم بن أبي معقل النسقي عن البخاري وهو الصواب، وأما في رواية أبي ذر فتأخرت بعد رواية الأعمش وحصين فصار ذلك مشكلاً لا يظهر منه وجه الصواب كما قاله في الفتح.
(ورواه) أي الحديث المذكور (أبو محمد الحضرمي) بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة ولا يعرف اسمه وكان خادمًا لأبي أيوب، وقال المزي: اسمه أفلح مولى أبي أيوب وقال الدارقطني لا يعرف إلا في هذا الحديث وليس له في الصحيح غيره، وقد وصله أحمد والطبراني من طريق سعيد بن أبي إياس الجريري عن أبي الورد ثمامة بن حزن القشيري عن أبي محمد الحضرمي (عن أبي أيوب) الأنصاري -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وقال فيه: (كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل) وهذا أعني كان كمن الخ ثابت في رواية أبي ذر كما في الفرع وأصله ولفظ رواية الإِمام أحمد والطبراني.
قال أبو أيوب: لما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة نزل عليّ فقال: "يا أبا أيوب ألا أعلمك"؟ قلت:
بلى يا رسول الله. قال: "ما من عبد يقول إذا أصبح لا إله إلا الله" فذكره "إلا كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه بها عشر سيئات وإلاّ كن له عند الله عدل عشر رقاب محررين وإلاّ كان في جنة من الشيطان حتى يمسي ولا قالها حين يمسي إلا كان كذلك" قال: فقلت لأبي محمد أنت سمعتها من أبي أيوب؟ قال: الله لسمعته من أبي أيوب.
ورواه الإمام أحمد أيضًا من طريق عبد الله بن يعيش عن أبي أيوب رفعه: "من قال إذا صلّى الصبح لا إله إلا الله" فذكره بلفظ "عشر مرات كن له كعدل أربع رقاب وكتب له بهن عشر حسنات ومحي عنه بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات وكن له حرزًا من الشيطان حتى يمسي وإذا قالها بعد المغرب فمثل ذلك". وسنده حسن قال الحافظ ابن حجر: واختلاف الروايات في عدد الرقاب مع اتحاد المخرج يقتضي الترجيح بينها فالأكثر على ذكر أربعة ويجمع بينه وبين حديث أبي هريرة بذكر عشرة كقولها مائة فيكون مقابل كل عشر مرات رقبة من قبل المضاعفة فيكون لكل مرة بالمضاعفة رقبة وهي مع ذلك لمطلق الرقاب ومع وصف كون الرقبة من ولد إسماعيل يكون مقابل العشرة من غيرهم أربعة منهم لأنهم أشرف من غيرهم من العرب فضلاً عن العجم، وأما ذكر رقبة بالإفراد في حديث أبي أيوب فشاذ والمحفوظ أربعة كما مرّ.
(قال أبو عبد الله) البخاري: (والصحيح قول عمرو) بفتح العين (قال الحافظ أبو ذر الهروي: صوابه عمر) بضم العين (وهو ابن أبي زائدة) وفي اليونينية عقب قول أبي ذر قلت وعلى الصواب ذكره أبو عبد الله البخاري في الأصل أي لما قال قال عمر بن أبي زائدة وحدّثنا عبد الله بن أبي السفر (كما تراه) في محله المذكور (لا عمرو) بفتح العين. قال في فتح الباري: وعند أبي زيد المروزي في روايته الصحيح قول عبد الملك بن عمرو، وقال الدارقطني: الحديث حديث ابن أبي السفر عن الشعبي وهو الذي ضبط الإسناد، ومراد البخاري ترجيح رواية عمر بن أبي زائدة عن أبي إسحاق على رواية غيره عنه، وقوله قال أبو عبد الله الخ ثبت لأبي ذر عن المستملي وهو في الفرع كأصله على هامشه مخرج له في الفرع بعد قوله، وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه الخ قبل قوله، وقال موسى: حدّثنا وهيب ولم يخرج له في اليونينية.

65 - باب فَضْلِ التَّسْبِيحِ
(باب فضل التسبيح) يعني قول سبحان الله وهو اسم مصدر وهو التسبيح وقيل بل سبحان مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي وهو من الأسماء اللازمة للإضافة وقد يفرد، وإذا أفرد منع الصرف للتعريف وزيادة الألف والنون كقوله:

(9/229)


أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
وجاء منونًا كقوله:
سبحانه ثم سبحانا يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
فقيل صرف ضرورة وقيل هو بمنزله قبل وبعد أن نوى تعريفه بقي على حاله وإن نكر أعرب منصرفًا.
وهذا البيت يساعد على كونه مصدرًا لا اسم مصدر لوروده منصرفًا، ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية فلا يتصرف والناصب له فعل مقدّر لا يجوز إظهاره، وعن الكسائي أنه منادى تقديره يا سبحانك ومنعه جمهور النحويين وهو مضاف إلى المفعول أي سبحت الله ويجوز أن يكون مضافًا إلى الفاعل أي نزه الله نفسه والأول هو المشهور ومعناه تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص.
6405 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَىٍّ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) الإمام (عن سميّ) مولى أبي بكر بن عبد الرَّحمن المخزومي (عن أبي صالح) ذكوان (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(من قال: سبحان الله وبحمده) الواو للحال أي سبحان الله متلبسًا بحمدي له من أجل توفيقه لي للتسبيح (في يوم مائة مرة) متفرقة بعضها أول النهار وبعضها آخره أو متوالية وهو أفضل خصوصًا في أوله (حطت عنه خطاياه) التي بينه وبين الله (وإن كانت مثل زبد البحر). وهذا وأمثاله نحو ما طلعت عليه الشمس كنايات عبّر بها عن الكثرة، وقد يشعر هذا بأن التسبيح أفضل من التهليل من حيث إن عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المائة المذكورة في مقابلة التهليل.
وأجيب: بأن ما جعل في مقابلة التهليل من عتق الرقاب يزيد على فضل التسبيح وتكفير الخطايا إذ ورد أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار فحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عمومًا بعدما ذكره خصوصًا مع زيادة مائة درجة، ويؤيده حديث: أفضل الذكر التهليل وأنه أفضل ما قاله هو والنبيون من قبله، ولأن التهليل صريح في التوحيد والتسبيح متضمن له ومنطوق سبحان الله تنزيه ومفهومه توحيد ومنطوق لا إله إلا الله توحيد ومفهومه تنزيه، فيكون أفضل من التسبيح لأن التوحيد أصل والتنزيه ينشأ عنه.
والحديث أخرجه الترمذي في الدعوات والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجة في ثواب التسبيح.
6406 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِى زُرْعَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ،
سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ». [الحديث 6406 - طرفاه في: 6682، 7563].
وبه قال: (حدّثنا زهير بن حرب) أبو خيثمة النسائي بالنون والمهملة الحافظ نزيل بغداد قال: (حدّثنا ابن فضيل) تصغير فضل محمد الضبي (عن عمارة) بضم المهملة وتخفيف الميم ابن القعقاع (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير البجلي الكوفي (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(كلمتان خفيفتان) أي كلامان من إطلاق الكلمة على الكلام والخفة مستعارة من السهولة (على اللسان ثقيلتان) حقيقة (في الميزان) لأن الأعمال تجسم أو الموزون صحائفها لحديث البطاقة المشهور (حبيبتان) أي محبوبتان (إلى الرحمن) أي يحب قائلهما فيجزل له من مكارمه ما يليق بفضله وخص لفظ الرحمن إشارة إلى بيان سعة رحمته حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل (يسبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده) كذا هنا بتقديم سبحان الله العظيم على سبحان الله وبحمده وكرر التسبيح طلبًا للتأكيد واعتناء بشأنه.
ومباحث هذا الحديث من الإِعراب والبديع والمعاني وغير ذلك من اللطائف والأسرار الشريفة تأتي إن شاء الله تعالى بعون الله وتوفيقه في آخر الكتاب.
والحديث أخرجه أيضًا في الأيمان والنذور وآخر الكتاب ومسلم في الدعوات والترمذي فيه
أيضًا والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجة في ثواب التسبيح.

66 - باب فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
(باب فضل ذكر الله عز وجل) باللسان بالأذكار المرغب فيها شرعًا والإكثار منها كالباقيات الصالحات والحوقلة والحسبلة والبسملة والاستغفار وقراءة القرآن، بل هي أفضل والحديث ومدارسة

(9/230)


العلم ومناظرة العلماء، وهل يشترط استحضار الذاكر لمعنى الذكر أم لا؟ المنقول أنه يؤجر على الذكر باللسان وإن لم يستحضر معناه نعم يشترط أن لا يقصد به غير معناه والأكمل أن يتفق الذكر بالقلب واللسان وأكمل منه استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم المذكور ونفي النقائص عنه تعالى، وقسم بعض العارفين الذكر إلى أقسام سبعة: ذكر العينين بالبكاء، والأذنين بالإصغاء، واللسان بالثناء، واليدين بالعطاء، والبدن بالوفاء، والقلب بالخوف والرجاء، والروح بالتسليم والرضا ذكره في الفتح.
6407 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِى بُرْدَةَ، عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَثَلُ الَّذِى يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِى لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَىِّ وَالْمَيِّتِ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني بالإفراد (محمد بن العلاء) أبو كريب الهمداني الحافظ قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن بريد بن عبد الله) بضم الموحدة وفتح الراء (عن) جده (أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء عامر (عن) أبيه (أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر) زاد أبو ذر بعد هذه ربه (مثل الحي والميت) بفتح الميم والمثلثة في مثل في الموضعين شبه الذاكر بالحي الذي يزين ظاهره بنور الحياة وإشراقها فيه وبالتصرف التام فيما يريده وباطنه بنور العلم والفهم والإدراك كذلك الذاكر مزين ظاهره بنور العلم والطاعة وباطنه بنور العلم والمعرفة فقلبه مستقر في حظيرة القدس وسره في مخدع الوصل وغير الذاكر عاطل ظاهره وباطل باطنه قاله في شرح المشكاة.
والحديث رواه مسلم عن أبي كريب وهو محمد بن العلاء شيخ البخاري فيه بسنده المذكور بلفظ مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت، وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى عن أبي كريب، فلعل البخاري رواه بالمعنى فإن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا المسكن فهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال.
6408 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِى الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ وَهْوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِى؟ قَالُوا: يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِى؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ، مَا رَأَوْكَ قَالَ: فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِى؟ قَالَ: يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِى؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ: يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْهَا قَالَ: يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ». رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) سقط ابن سعيد لأبي ذر قال: (حدّثنا جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عن الأعمش) سليمان (عن أبي صالح) ذكوان (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن لله ملائكة) زاد الإِسماعيلي وابن حبان ومسلم فضلاً بسكون الضاد وضم الفاء جمع فاضل كنزل ونازل، وقيل بفتح الفاء وسكون الضاد أي زيادة على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق لا وظيفة لهم إلا حلق الذكر، وقيل في ضبطها غير ذلك، وهذه اللفظة ليست في صحيح البخاري هنا في جميع الروايات ولمسلم سيارة فضلاً (يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر) ولمسلم من رواية سهيل يبتغون مجالس الذكر (فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله) عز وجل (تنادوا هلموا) أي تعالوا (إلى حاجتكم قال: فيحفونهم) بفتح التحتية وضم الحاء المهملة يطوفون ويدورون حولهم (بأجنحتهم إلى السماء الدنيا) قال المظهري: الباء للتعدية يعني يديرون أجنحتهم حول الذاكرين، وقال الطيبي: الظاهر أنها للاستعانة كما في قولك: كتبت بالقلم لأن حفهم الذي ينتهي إلى السماء إنما يستقيم بواسطة الأجنحة، ولأبي ذر عن الكشميهني: إلى سماء الدنيا (قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم) أي أعلم من الملائكة بحال الذاكرين، ولأبي ذر عن الكشميهني أعلم بهم أي بالذاكرين والجملة حالية. قال في شرح المشكاة: والأحسن أن تكون معترضة أو تتميمًا صيانة عن التوهم وفائدة السؤال مع العلم بالمسؤول التعريض بالملائكة وبقولهم في بني آدم أتجعل فيها من يفسد فيها الخ (ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون) ولأبي ذر قال: تقول أي الملائكة (يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك) يقولون سبحان الله والله أكبر والحمد لله (ويمجدونك) بالجيم وزاد في رواية سهيل ويهللونك وفي حديث البزار عن أنس يعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك ويسألونك (قال: فيقول) عز وجل (هل رأوني؟ قال: فيقولون لا والله ما رأوك. قال فيقول) تعالى (كيف)؟ ولغير أبي ذر وكيف

(9/231)


(لو رأوني قال: يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدًا) وزاد أبو ذر عن الكشميهني وتحميدًا (وأكثر لك تسبيحًا) وزاد الإسماعيلي وأشد لك ذكرًا (قال: يقول فما يسألوني)؟ ولأبي ذر فيقول فما يسألونني بزيادة الفاء والنون (قال: يسألونك الجنة. قال: يقول) تعالى (وهل رأوها؟ قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول) ولأبي ذر فيقول (فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا وأشد لها طلبًا وأعظم فيها رغبة قال) تعالى (فممّ يتعوذّون؟ قال يقولون من النار قال يقول) تعالى (وهل رأوها؟ قال: يقولون لا والله ما) ولأبي ذر لا والله يا رب ما (رأوها. قال: يقول) تعالى (فكيف لو رأوها؟ قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد لها مخافة) وهذا كله فيه تقريع للملائكة وتنبيه على أن تسبيح بني آدم وتقديسهم أعلى وأشرف من تقديسهم لحصول هذا في عالم الغيب مع وجود الموانع والصوارف وحصول ذلك للملائكة في عالم الشهادة من غير صارف (قال فيقول) تعالى (فأشهدكم أني قد غفرت لهم) زاد في رواية سهيل وأعطيتهم ما سألوا (قال: يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما
جاء لحاجة) وفي رواية سهيل قال: يقولون رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم وزاد قال وله قد غفرت.
قال في شرح المشكاة قوله، إنما مرّ مشكل لأن إنما توجب حصر ما بعدها في آخر الكلام كما تقول إنما يجيء زيد أو إنما زيد يجيء ولم يصرح هنا غير كلمة واحدة، وكذلك قوله وله قد غفرت يقتضي تقديم الظرف على عامله اختصاص الغفران بالمارّ دون غيره وليس كذلك. وأجاب: بأن في التركيب الأول تقديمًا وتأخيرًا أي إنما فلان مر أي ما فعل فلان إلا المرور والجلوس عقبه يعني ما ذكر الله تعالى، ثم قال فإن قلت: لم لم يجعل الضمير في مر بارزًا ليكون الحصر فيه؟ وأجاب: بأنه لو أريد هذا لوجب الإبراز، ولئن سلم لأدى إلى خلاف المقصود وأن المرور منحصر في فلان لا يتعدى إلى غيره وهو خلف، وفي التركيب الثاني الواو للعطف وهو يقتضي معطوفًا عليه أي قد غفرت لهم وله ثم أتبع غفرت تأكيدًا وتقريرًا.
(قال) تعالى (هم المجلساء لا يشقى بهم جليسهم). وسقط لفظ بهم لأبي ذر يعني أن مجالستهم مؤثرة في الجليس ولمسلم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم وتعريف الخبر يدل على الكمال أي هم القوم كل القوم الكاملون فيما هم فيه من السعادة فيكون قوله لا يشقى بهم جليسهم استئنافًا لبيان الموجب، وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قيل يسعد بهم جليسهم لكان ذلك في غاية الفضل لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود رواه أي الحديث المذكور (شعبة) بن الحجاج (عن الأعمش) سليمان بن مهران بسنده المذكور (ولم يرفعه) إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هكذا وصله أحمد (ورواه سهيل) بضم السين وفتح الهاء (عن أبيه) أبي صالح السمان (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وصله مسلم وأحمد.

67 - باب قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ
(باب) فضل (قول لا حول ولا قوّة إلا بالله) في إعرابه ونحوه مما تكررت فيه لا النافية للجنس مع اسمها الوجوه الخمسة المقررة في كتب العربية فتح الأول، وفي الثاني وهو اسم لا الثانية ثلاثة أوجه: الفتح بناء والنصب والرفع إعرابًا فالفتح على أنه ركب مع لا كالأول والرفع على إهمال لا الثانية أو إعمالها عمل ليس والنصب على العطف على على اسم لا الأولى، وإهمال الثانية ورفع الأول فيمتنع النصب في الثاني ويجوز فيه الفتح بناء بإعمال لا الثانية أو الرفع بإهمالها أو إعمالها عمل ليس فهي خمسة فتح الأول والثاني معًا ورفعهما معًا وفتح الأول ورفع الثاني وعكسه وفتح الأول ونصب الثاني.
6409 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِىُّ، عَنْ أَبِى عُثْمَانَ، عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ قَالَ: أَخَذَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى عَقَبَةٍ أَوْ قَالَ: فِى ثَنِيَّةٍ قَالَ: فَلَمَّا عَلاَ عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادَى فَرَفَعَ صَوْتَهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بَغْلَتِهِ قَالَ:
«فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا» ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ»؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن) المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا سليمان) بن طرخان (التيمي) البصري (عن أبي عثمان) عبد الرَّحمن بن ملّ النهدي (عن أبي موسى الأشعري) -رضي الله عنه- أنه (قال: أخذ النبي

(9/232)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يمشي (في عقبة أو قال: في ثنية) أي عقبة والشك من الراوي في أي اللفظين قال: وسقط لفظ في لأبي ذر (قال) أبو موسى: (فلما علا عليها) على العقبة أو الثنية (رجل نادى فرفع صوته لا إله إلا الله والله أكبر قال) أبو موسى: (ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على بغلته) قال:
(فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا) في إعرابه الوجوه الخمسة في نحو لا حول ولا قوة وزاد في أخرى فإنكم تدعون سميعًا بصيرًا وهو معكم والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته (ثم قال: يا أبا موسى أو) قال: (يا عبد الله) هو اسم أبي موسى (ألا) بالتخفيف (أدلك على كلمة من كنز الجنة)؟ أي كالكنز في كونها ذخيرة نفيسة يتوقع الانتفاع منها قال أبو موسى: (قلت: بلى) يا رسول الله (قال: لا حول ولا قوة إلا بالله).
والحديث سبق في باب الدعاء إذا علا عقبة ويأتي إن شاء الله تعالى بقوة الله ومعونته في كتاب القدر.

68 - باب لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ
هذا (باب) بالتنوين (لله عز وجل مائة اسم غير واحد) بالتذكير ولأبي ذر واحدة بالتأنيث باعتبار معنى التسمية.
6410 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رِوَايَةً قَالَ: لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا، لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: حفظناه) أي الحديث (من أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان وفي رواية الحميدي في مسنده عن سفيان حدّثنا أبو الزناد (عن الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) حال كونه (رواية) أي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعنه الحميدى قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وكذا لمسلم عن عمرو الناقد عن سفيان، وللمؤلّف في التوحيد من رواية شعيب عن أبي الزناد بسنده أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال):
(لله) عز وجل (تسعة وتسعون اسمًا) بالنصب على التمييز وتسعة مبتدأ قدم خبره (مائة) رفع على البدل (إلا واحدًا) بالتذكير، ولأبي ذر إلا واحدة بالتأنيث. قال ابن بطال: ولا يجوز في
العربية، ووجهها ابن مالك باعتبار معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة، والحكمة في الإتيان بهذه الجملة بعد السابقة أن يتقرر ذلك في نفس السامع جمعًا بين جهتي الإجمال والتفصيل ودفعًا للتصحيف خطأ لاشتباه تسعة وتسعين بسبعة وسبعين. وقال في فتوح الغيب: قوله مائة إلا واحدًا تأكيد وفذلكة لئلا يزاد على ما ورد كقوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] (لا يحفظها) لا يقرؤها (أحد) عن ظهر قلبه والحفظ يستلزم التكرار أي تكرار مجموعها وفي الشروط من أحصاها أي ضبطها أو علمها أو قام بحقها وعمل بمقتضاها بأن يعتبر معانيها فيطالب نفسه بما تضمنته من صفات الربوبية وأحكام العبودية فيتخلق بها (إلا دخل الجنة) ذكر الجزاء بلفظ الماضي تحقيقًا لوقوعه وتنبيهًا على أنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع لأنه كائن لا محالة (وهو) تعالى (وتر) بفتح الواو وكسرها أي فرد ومعناه في حق الله تعالى أنه الواحد الذي لا نظير له في ذاته (يحب الوتر) من كل شيء أو كل وتر شرعه وأثاب عليه. وقال التوربشتي: أي يثيب على العمل الذي أتى به وترًا ويقبله من عامله لما فيه من التنبيه على معاني الفردانية قلبًا ولسانًا وإيمانًا وإخلاصًا ثم إنه أدعى إلى معاني التوحيد.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الدعوات أيضًا وكذا الترمذي لكن من حديث ابن عمر وسردها ثم قال: هذا حديث غريب حدّثنا به غير واحد عن صفوان ولا نعرفه إلا من حديث صفوان وهو ثقة، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا يعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذه الطريق، وقد روي بإسناد آخر عن أبي هريرة فيه ذكر الأسماء وليس له إسناد صحيح اهـ.
ولم ينفرد به صفوان فأخرجه البيهقي في طريق موسى بن أيوب النصيبي وهو ثقة عن الوليد أيضًا وسرد الترمذي للأسماء معروف محفوظ، وقد أخرج الحديث الطبراني عن أبي زرعة الدمشقي عن صفوان بن صالح فخالف في عدة أسماء فقال: القائم الدائم بدل القابض الباسط والشديد بدل الرشيد والأعلى المحيط مالك يوم الدين بدل الودود المجيد الحكيم، وعند ابن حبان عن الحسن بن سفيان عن صفوان الرافع بدل المانع، وعند ابن خزيمة

(9/233)


في رواية صفوان أيضًا الحاكم بدل الحكم والقريب بدل الرقيب والمولى بدل الوال والأحد بدل المغني. وعند البيهقي وابن منده من طريق موسى بن أيوب عن الوليد المغيث بالمعجمة والمثلثة بدل المقيت بالقاف والمثناة، ووقع بين رواية زهير عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة عند أبي الشيخ وابن ماجة وابن أبي عاصم والحاكم وبين رواية صفوان عن الوليد مخالفة في ثلاثة وعشرين اسمًا. فليس في رواية زهير الفتاح القهار الحكم العدل الحسيب الجليل المحصي المقتدر المقدم المؤخر البر المنتقم الغني النافع الصبور البديع الغفار الحفيظ الكبير الواسع الأحد مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وذكر بدلها الرب الفرد الكافي القاهر المبين بالموحدة الصادق الجميل البادئ بالدال القديم البارّ بتشديد الراء الوفي البرهان الشديد الواقي بالقاف القدير الحافظ العادل العلي العالم الأحد الأبد الوتر ذو القوّة.
ولم يقع في شيء من طرف الحديث سرد الأسماء إلا في رواية الوليد بن مسلم عند الترمذي، وفي رواية زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عند ابن ماجة والطريقان يرجعان إلى رواية الأعرج وفيها اختلاف شديد في سرد الأسماء والزيادة والنقص.
ووقع سرد الأسماء أيضًا في طريق ثالثة عند الحاكم في مستدركه وجعفر الفريابي في الذكر من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة فذهب إلى الأخير جماعة مستدلين بخلو أكثر الروايات عنه مع الاختلاف والاضطراب. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون التعيين وقع من بعض الرواة في الطريقين معًا ولذا وقع الاختلاف الشديد بينهما، ولذا ترك الشيخان تخريج التعيين. وقال الترمذي بعد أن أخرجه من طريق الوليد: هذا حديث غريب حدّثنا به غير واحد عن صفوان ولا نعرفه إلا من حديث صفوان وهو ثقة. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذه الطريق، وقد روي بإسناد آخر عن أبي هريرة فيه ذكر الأسماء وليس له سند صحيح. وقال الداودي: ولم يثبت أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عين الأسماء المذكورة وليس المراد من الحديث حصر الأسماء في التسعة والتسعين، ففي حديث ابن مسعود عند أحمد وصححه ابن حبان أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به علم الغيب عندك. قال القرطبي: ويدل على عدم الحصر أن أكثرها صفات وصفات الله لا تتناهى وهل الاقتصار على العدد المذكور معقول أو تعبد لا يعقل معناه، وقيل إن أسماءه تعالى مائة استأثر الله تعالى بواحد منها وهو الاسم الأعظم فلم يطلع عليه أحدًا فكأنه قيل مائة لكن واحد منها عند الله وجزم السهيلي بأنها مائة على عدد درج الجنة، والذي يكمل المائة الله. واستدلّ بهذا الحديث على أن الاسم عين المسمى أو غيره وهي مسألة مشهورة سبق القول فيها أول هذا المجموع ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد لذلك في محله بعون الله.
واختلف هل الأسماء الحسنى توقيفية بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله اسمًا إلا إذا ورد نص به في الكتاب والسنة؟ فقال الإمام فخر الدين: المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية. وقال القاضي أبو بكر والغزالي الأسماء توقيفية دون الصفات قال: وهذا هو المختار، وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في كتاب مفاتيح الحج ومصابيح النهج: أسماء الله تعالى تؤخذ توقيفًا ويراعى فيها الكتاب والسُّنّة والإجماع فكل اسم ورد في هذه الأصول وجب إطلاقه في وصفه تعالى وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه في وصفه وإن يصح معناه، وقال الزجاج: لا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يصف به نفسه فيقول يا رحيم لا يا رفيق ويقول يا قوي لا يا جليد، وقال الإمام، قال أصحابنا: كل ما صح معناه جاز إطلاقه عليه سبحانه وتعالى فإنه الخالق للأشياء كلها، ولا يجوز أن يقال يا خالق الذئب والقردة

(9/234)


وورد وعلم آدم الأسماء كلها وعلمك ما لم تكن تعلم ولا يجوز يا معلم قال: ولا يجوز عندي يا محب وقد ورد: {يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54].
فإن قلت: ما ورد في شرح السنة عن أبي أمية قال: إنه رأى الذي بظهر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: دعني أعالجه فإني طبيب فقال: أنت رفيق والله هو الطبيب هل هو إذن منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تسمية الله تعالى بالطبيب؟ فالجواب: لا لوقوعه مقابلاً لقوله: فإني طبيب مشاكلة وطباقًا للجواب على السؤال كقوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] وهل يجوز تفضيل بعض أسماء الله تعالى على بعض، فمنع من ذلك أبو جعفر الطبري وأبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني لما يؤدي ذلك إلى اعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم وأن أسماء الله تعالى عظيمة. وقال ابن حبان: الأعظمية الواردة المراد بها مزيد ثواب الداعي بها، وقيل الأعظم كل اسم دعا العبد ربه به مستغرقًا بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله فإنه يستجاب له، وقيل الاسم الأعظم ما استأثر الله به وأثبته آخرون معينًا، واختلفوا فيه فقيل: هو لفظة هو نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف، وقيل: الله، وقيل الله الرحمن الرحيم، وقيل الرحمن الرحيم الحي القيوم، وقيل الحي القيوم، وقيل الحنان المنان بديع السماوات، والأرض ذو الجلال والإكرام رآه رجل مكتوبًا في الكواكب في السماء، وقيل ذو الجلال والإكرام، وقيل الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًّا أحد، وقيل رب رب، وقيل دعوة ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وقيل هو الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم. نقله الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه الاسم الأعظم فعلمه في النوم، وقيل هو مخفي في الأسماء الحسنى، وقيل وهو الرابع عشر كلمة التوحيد نقله القاضي عياض اهـ. ملخصًا من الفتح وبالله التوفيق.

69 - باب الْمَوْعِظَةِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ
(باب الموعظة ساعة بعد ساعة) خوف السآمة.
6411 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِى، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِى شَقِيقٌ، قَالَ: كُنَّا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ إِذْ جَاءَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْنَا: أَلاَ تَجْلِسُ؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ أَدْخُلُ فَأُخْرِجُ إِلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ وَإِلاَّ جِئْتُ أَنَا فَجَلَسْتُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِهِ فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا إِنِّى أَخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ، وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُنِى مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِى الأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال: (حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال: (حدثني) بالإفراد (شقيق) أبو وائل بن سلمة (قال: كنا ننتظر عبد الله) يعني ابن مسعود -رضي الله عنه- (إذ جاء يزيد بن معاوية) العبسي الكوفي التابعي وليس له في الصحيحين ذكر إلا في هذا الموضع (فقلنا) له: (ألا) بالتخفيف (تجلس) يا يزيد (قال: لا ولكن أدخل) منزل ابن مسعود (فأخرج إليكم صاحبكم) عبد الله بن مسعود (وإلاّ) أي وإن لم
أخرجه (جئت أنا فجلست) معكم، وفي مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق فقلنا أعلمه بمكاننا فدخل عليه (فخرج عبد الله) بن مسعود (وهو آخذ بيده) بيد يزيد (فقام علينا فقال): جوابًا لقولهم وددنا أنك لو ذكرتنا كل يوم كما مرّ في العلم (أما) بالتخفيف (إني أخبر) بفتح الهمزة والموحدة (بمكانكم ولكنه يمنعني من الخروج إليكم) للموعظة (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتخوّلنا) بالخاء المعجمة يتعهدنا (بالموعظة في الأيام) يعني يذكرنا أيامًا ويتركنا أيامًا (كراهية السآمة علينا) أي أن تقع منا السآمة رفقًا منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنا وحسنًا في التوصل إلى تعليمنا لنأخذ عنه بنشاط فإن التعليم بالتدريج أدعى إلى الثبات وضمن السآمة معنى المشقّة فعداها بعلى والله الموفق.
هذا آخر كتاب الدعاء فرغ منه موّلفه أحمد القسطلاني بعد صلاة العشاء في الليلة المفسر صباحها عن يوم الأربعاء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وتسعمائة أعانه الله على إتمامه ونفع به والحمد لله وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.