شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

79 - كتاب الاستئذان
وهو طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن وقد أجمعوا على مشروعيته وتظاهرت به دلائل القرآن والسنّة.

1 - باب بَدْءِ السَّلاَمِ
(باب بدء السلام) بفتح الباء الموحدة وسكون الدال المهملة وبالواو من غير همز، ولأبي ذر بدء بالهمز بمعنى الابتداء أي أوّل ما وقع السلام، وأشار بالترجمة للسلام مع الاستئذان إلى أنه لا يؤذن لمن لم يسلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعون الله وقوته في الباب التالي مبحثه.
6227 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن جعفر) البيكندي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام بن نافع الحافظ الصنعاني (عن معمر) هو ابن راشد البصري (عن همام) بفتح الهاء وتشديد الميم (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(خلق الله آدم على صورته) الضمير عائد على آدم أي خلقه تمامًا مستويًا (طوله ستون ذراعًا) لم يتغير عن حاله ولا كان من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم جنينًا ثم طفلاً ثم رجلاً حتى تم طوله فلم يتنقل من الأطوار كذريته، وفيه كما قال ابن بطال: إبطال قول الدهرية أنه لم يكن قط إنسان إلا من نطفة ولا نطفة إلا من إنسان، وقيل: إن لهذا الحديث سببًا حذف من هذه الرواية
وإن أوله قصة الذي ضرب عبده فنهاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك وقال له: "إن الله خلق آدم على صورته". رواه (1). وللبخاري في الأدب المفرد وأحمد من طريق ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعًا: لا يقولن قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك، وقيل الضمير لله لما في بعض الطرق على صورة الرحمن أي على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء وقال التوربشتي: وأهل الحق في ذلك طبقتين.
إحداهما المتنزهون عن التأويل مع نفي التشبيه وإحالة العلم إلى علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علمًا وهذا أسلم الطريقتين.
والطبقة الأخرى يرون الإضافة فيها إضافة تكريم وتشريف وذلك أن الله تعالى خلق آدم على صورة لم يشاكلها شيء من الصور في الجمال والكمال وكثرة ما احتوت عليه من الفوائد الجليلة. وقال الطيبي: تأويل الخطابي في هذا المقام حسن يجب المصير إليه لأن قوله طوله بيان لقوله على صورته كأنه قيل خلق آدم على ما عرف من صورته الحسنة وهيئته من الجمال والكمال وطول القامة، وإنما خص الطول منها لأنه لم يكن متعارفًا بين الناس، وقال القرطبي: كأن من رواه على صورة الرحمن أورده بالمعنى متمسكًا بما توهمه فغلط في ذلك، وقوله ستون ذراعًا يحتمل أن يريد بقدر ذراع نفسه أو الذراع المتعارف يومئذ عند المخاطبين والأول أظهر لأن ذراع كل أحد ربعه، فلو كان بالذراع المعهود كانت يده قصيرة في جنب طول جسده.
(فلما خلقه قال) ولأبي ذر خلقه الله قال: (اذهب فسلّم على أولئك النفر) عدة من الرجال من ثلاثة إلى عشرة. وقال في شرح المشكاة: وتخصيص السلام بالذكر لأنه فتح باب المودّات وتأليف القلوب المؤدي إلى استكمال الإيمان، كما ورد: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا إلى قوله: أفشوا السلام
_________
(1) هكذا بياض بالأصل في أكثر النسخ وفي بعضها رواه أبو داود اهـ.

(9/130)


والسلام هو اسم الله فالمعنى اسم الله عليك أي أنت في حفظه وقيل السلامة أي السلامة مستعلية عليك ملازمة لك ولأبي ذر نفر (من الملائكة جلوس) قال في الفتح: ولم أقف على تعيينهم (فاستمع) بالفوقية وكسر الميم ولأبي ذر عن الكشميهني فاسمع بإسقاط الفوقية وفتح الميم (ما يحيونك) بالحاء المهملة بين التحتيتين ولأبي ذر كما في الفتح يجيبونك بالجيم المكسورة والتحتية الساكنة بعدها موحدة من الجواب (فإنها) أي الكلمات التي يحيون أو يجيبون بها (تحيتك وتحية ذريتك) المسلمين شرعًا لكن في حديث عائشة مرفوعًا: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين" أخرجه ابن ماجة وصححه ابن خزيمة وهو يدل على أنه شرع لهذه الأمة دونهم (فقال) لهم آدم (السلام عليكم) واستدلّ بهذا على أن هذه
الصيغة هي المشروعة لابتداء السلام لقوله فهي تحيتك وتحية ذريتك فلو حذف اللام جاز. قال تعالى: ({سلام عليكم}) [الرعد: 24] لكن اللام أولى لأنها للتفخيم، وقال النووي ولو قال: وعليكم السلام بالواو لا يكون سلامًا ولا يستحق جوابًا لأنها لا تصلح للابتداء قاله المتولي، فلو أسقط الواو أجزأ ويجب الجواب لأنه سلام، وكرهه الغزالي في الإحياء، وعن بعض الشافعية فيما نقله ابن دقيق العيد أن المبتدئ لو قال: عليكم السلام لم يجز لأنها صيغة جواب قال: والأولى الجواز لحصول مسمى السلام (فقالوا) له الملائكة (السلام عليك) استدلّ به على جواز أن يقع الرد باللفظ الذي ابتدئ به كما مر ويأتي مزيد لذلك قريبًا إن شاء الله تعالى، ولأبي ذر عن الكشميهني عليك السلام (ورحمة الله فزادوه) الملائكة (ورحمة الله) وهو مستحب اتفاقًا، فلو زاد المبتدئ رحمة الله استحب أن يزاد وبركاته ولو زاد وبركاته فهل تشرع الزيادة في الردّ؟ وكذا لو زاد المبتدئ على بركاته هل يشرع له ذلك؟ عن ابن عباس مما في الموطأ قال: انتهى السلام إلى البركة، وعن ابن عمر الجواز ففي الموطأ عنه أنه زاد في الجواب والغاديات والرائحات، وفي الأدب المفرد عن سالم مولى ابن عمر أنه أتى ابن عمر مرة فقال: السلام عليكم، فقال السلام عليكم ورحمة الله، ثم أتيته فزدته وبركاته فردّ وزادني وطيب صلواته واتفقوا على وجوب الرد على الكفاية. قال الحليمي: وإنما كان الرد واجبًا لأن السلام معناه الأمان فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه فإنه يتوهم منه الشر فيجب عليه دفع ذلك التوهم عنه (فكل من يدخل الجنة) هو مرتب على ما سبق من قوله خلق الله آدم على صورته فالفاء فصيحة ولأبي ذر والأصيلي يعني الجنة. قال في الفتح: كأن لفظ الجنة سقط فزيد فيه يعني (على صورة أم) خبر المبتدأ الذي هو فكل من (فلم يزل الخلق ينقص) من طوله وجماله (بعد) أي بعد آدم (حتى الآن) فإذا دخلوا الجنة عادوا إلى ما كان عليه أبوهم من الحسن والجمال وطول القامة. قيل: وقوله فلم يزل الخ هو معنى قوله تعالى: ({لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين}) [التين: 5] قيل إن في الحديث أن الملائكة يتكلمون بالعربية وعورض باحتمال أن يكون بغير اللسان العربي ثم لما خلق العرب ترجم بلسانهم.
والحديث سبق في بدء الخلق وأخرجه مسلم.

2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 27، 28، 29] وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِى الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ
عَنْهُنَّ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهْمَ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] وَقَالَ قَتَادَةُ: عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُمْ {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] خَائِنَةَ الأَعْيُنِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِىَ عَنْهُ وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: فِى النَّظَرِ إِلَى الَّتِى لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّسَاءِ لاَ يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَىْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِى يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِىَ.
(باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم}) [النور: 27] أي بيوتًا لستم تملكونها ولا تسكنونها، وهذا مما أدّب الله تعالى به عباده ({حتى تستأنسوا}) تستأذنوا. كذا روي عن ابن عباس أخرجه سعيد بن منصور وقرأ به، وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح عن إبراهيم النخعي قال في مصحف ابن مسعود: حتى تستأذنوا، وعن سعيد بن منصور عن إبراهيم قال في مصحف عبد الله: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن عن ابن عباس واستشكله. وأجيب: بأن ابن عباس بناه على قراءته التي تلقاها عن أبيّ بن كعب، وأما اتفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خط المصحف الذي وقع على عدم الخروج عما يوافقه وكانت قراءة أبي

(9/131)


من الأحرف التي تركت القراءة بها والاستئناس في الأصل الاستعلام والاستكشاف استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرًا مكشوفًا أي تستعلموا أيطلق لكم الدخول أم لا. وذلك بتسبيحة أو بتكبيرة أو تنحنح ما في حديث أبي أيوب عند أبي حاتم بسند ضعيف قال: قلت يا رسول الله هذا السلام فما الاستئناس؟ قال: "يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت" وأخرج الطبري من طريق قتادة قال: الاستئناس هو الاستئذان ثلاثًا، فالأولى ليسمع والثانية ليتأهبوا له والثالثة إن شاؤوا أذنوا له وإن شاؤوا ردّوا. وقال البيهقي: معنى حتى تستأنسوا تستبصروا ليكون الدخول على بصيرة فلا يصادف حالة يكره صاحب المنزل أن تطلعوا عليها. ({وتسلموا على أهلها}) بأن تقولوا السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات، فإن أذن وإلاّ رجع، وهل يقدم السلام أو الاستئذان؟ الصحيح تقديم الاستئذان. وأخرج أبو داود وابن أبي شيبة بسند جيد عن ربعي بن حراش حدثني رجل أنه استأذن على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في بيته فقال: أألج؟ فقال لخادمه: أخرج إلى هذا فعلمه. فقال: قل السلام عليكم أألج؟ الحديث. وصححه الدارقطني، وعن الماوردي إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدّم السلام وإلاّ قدّم الاستئذان.
({ذلكم}) أي الاستئذان والتسليم ({خير لكم}) من تحية الجاهلية والدخول بغير إذن وكان الرجل من أهل الجاهلية إذا دخل بيت غيره يقول: حييتم صباحًا وحييتم مساء ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد ({لعلكم تذكرون}) أي قيل لكم هذا لكي تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان، وينبغي للمستأذن أن لا يقف تلقاء الباب
بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره لحديث أن عند أبي داود قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم السلام عليكم، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور تفرد به أبو داود ({فإن لم تجدوا فيها}) في البيوت ({أحدًا}) من الآذنين ({فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم}) حتى تجدوا من يأذن لكم أو فإن لم تجدوا فيها أحدًا من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها لأن التصرف في ملك الغير لا بدّ من أن يكون برضاه ({وإن قيل لكم ارجعوا}) أي إذا كان فيها قوم فقالوا ارجعوا ({فارجعوا}) ولا تلجوا في إطلاق الإذن، ولا تلحوا في تسهيل الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب لأن هذا مما يجلب الكراهة، وإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما أدى إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك، وعن أبي عبيد ما قرعت بابًا على عالم قط ({هو أزكى لكم}) أي الرجوع أطيب لكم وأطهر لما فيه من سلامة الصدور والبعد عن الريبة أو أنفع وأنمى خيرًا ({والله بما تعملون عليم}) وعيد للمخاطبين بأنه عالم بما يأتون وما يذرون وبما خوطبوا به فموف جزاءه عليه ({ليس عليكم جناح أن تدخلوا}) في أن تدخلوا ({بيوتًا غير مسكونة}) استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها كالخانات والربط ({فيها متاع لكم}) أي منفعة كاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع وقيل الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز ({والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}) [النور: 27 - 29] وعيد للذين يدخلون الدور والخربات الخالية من أهل الريب، وسقط في رواية الأصيلي من قوله {ذلكم خير لكم} إلى قوله: {متاع لكم} وقال في فتح الباري: وساق البخاري في رواية كريمة والأصيلي الآيات الثلاث اهـ. ولأبي ذر مما في الفرع وأصله باب قوله {لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم} إلى قوله {وما تكتمون}.
(وقال سعيد بن أبي الحسن) البصري التابعي (للحسن) البصري أخيه (إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن. قال) الحسن لأخيه سعيد: (اصرف بصرك عنهن) يدل له (قول الله) ولأبي ذر عن الكشميهني يقول الله (عز وجل) ولأبي ذر تعالى ({قل

(9/132)


للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}) من للتبعيض والمراد غضّ البصر عما يحرم ({ويحفظوا فروجهم}) عن الزنا (وقال قتادة) فيما أخرجه ابن أبي حاتم في قوله: ويحفظوا فروجهم قال: ({عما لا يحل لهم وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن}) [النور: 30، 31] فلا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته وربته وإن اشتهت غضت بصرها رأسًا ولا تنظر إلى المرأة إلا إلى مثل ذلك، وغضها بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها، وقدم غض الأبصار على حفظ الفروج، لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور ووجه ذكر المؤلّف هذا عقب ذكر الآيات الثلاث المذكورة الإشارة إلى أن أصل مشروعية الاستئذان الاحتراز من وقع النظر إلى ما لا يريد صاحب المنزل النظر إليه لو دخل بلا إذن وأعظم ذلك النظر إلى النساء الأجنبيات. وسقط جميع ذلك من رواية
النسفيّ فقال بعد قوله: {حتى تستأنسوا} الآيتين وقول الله عز وجل {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} الآية. وقل للمؤمنات يغضضن.
(خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه) بضم النون نهي، ولكريمة ما نهى الله عنه، وسقط لأبي ذر لفظ من، وعن ابن عباس مما عند ابن أبي حاتم في قوله تعالى: {يعلم خائنة الأعين} [غافر: 19] قال: هو الرجل ينظر إلى المرأة الحسناء تمر به أو يدخل بيتًا هي فه فإذا فطن له غض بصره، وقد علم الله تعالى أنه يودّ أن لو اطّلع على فرجها وإذا قدر عليها زنى بها.
(وقال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (في النظر إلى التي لم تحض من النساء) ولأبي ذر عن الكشميهني: إلى ما لا يحل من النساء (لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليه) ولأبي ذر عن الكشميهني إليهن (وإن كانت صغيرة. وكره عطاء) هو ابن أبي رباح مما وصله ابن أبي شيبة (النظر إلى الجواري يبعن) ولأبي ذر: اللاتي يبعن (بمكة إلا أن يريد أن يشتري) منهن فيسوغ، وهذا الأثر وسابقه سقطا للنسفي.
6228 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَخْبَرَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلاً وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِى الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِىَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِى عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ: «نَعَمْ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (سليمان بن يسار) بالتحتية والمهملة المخففة قال: (أخبرني) بالإفراد (عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: أردف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفضل بن عباس) أركبه (يوم النحر خلفه على عجز راحلته) في حجة الوداع وعجز بفتح العين المهملة وضم الجيم بعدها زاي أي مؤخرها (وكان الفضل) -رضي الله عنه- (رجلاً وضيئًا) من الوضاءة وهي الجمال والحسن (فوقف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للناس يفتيهم وأقبلت امرأة من خثعم) بفتح الخاء المعجمة والعين المهملة بينهما مثلثة ساكنة قبيلة مشهورة (وضيئة) لحسنها وجمالها (تستفتي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فطفق الفضل) فجعل الفضل (ينظر إليها وأعجبه حسنها فالتفت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والفضل ينظر إليها فأخلف) عليه الصلاة والسلام (بيده) بهمزة مفتوحة وخاء معجمة ساكنة وبعد اللام فاء أي مدها إلى خلفه (فأخذ بذقن الفضل) بفتح الذال المعجمة والقاف (فعدل) بتخفيف الدال (وجهه عن النظر إليها) حين علم بإدامة نظره إليها أنه أعجبه حسنها فخشي عليه فتنة الشيطان ففيه حرمة
النظر إلى الأجنبيات (فقالت: يا رسول الله إن فريضة الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة) أي وجب عليه الحج بأن أسلم وهو بهذه الصفة وزاد في حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة وإن شددته على الراحلة خشيت أن أقتله (فهل يقضي) يجزي (عنه) الحج (أن أحج عنه) نيابة (قال):
(نعم) يجزي، وفي الحديث غض البصر خشية الفتنة ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع لأنه لم يحوّل وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها فخشي عليه الفتنة.
والحديث سبق في الحج في باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة.
6229 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا؟ فَقَالَ: «إِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ». قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ».
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدثني (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (أخبرنا أبو عامر)

(9/133)


عبد الملك العقدي قال: (حدّثنا زهير) بضم الزاي مصغرًا ابن محمد التيمي الخراساني (عن زيد بن أسلم) مولى عمر بن الخطاب (عن عطاء بن يسار) بالتحتية والمهملة (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إياكم) للتحذير (والجلوس) بالنصب (بالطرقات) ولأبي ذر عن الكشميهني في الطرقات (فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بدّ) فراق منها (نتحدث فيها) فيه دليل على أن أمره لهم لم يكن للوجوب بل على طريق الترغيب والأولى إذ لو فهموا الوجوب لم يراجعوه هذه المراجعة قاله القاضي عياض (فقال: إذ) بسكون المعجمة، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فإذا (أبيتم) بالموحدة امتنعتم (إلا المجلس) بفتح اللام مصدر ميمي إلا الجلوس في مجالسكم وفي اليونينية بكسر اللام (فأعطوا) بهمزة قطع (الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال): حق الطريق (غض البصر) عن كل محرم (وكفّ الأذى) عن الخلق (وردّ السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مع القدرة عليهما. وزاد عمر في حديثه عند أبي داود: وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال، وفي حديث أبي طلحة: وإرشاد ابن السبيل وتشميت العاطس إذا حمد، وعند البزار وأعينوا على المحمولة، والبراء عند الترمذي: اهدوا السبيل وأعينوا المظلوم وأفشوا السلام، وسهل بن حنيف عند الطبراني: ذكر الله كثيرًا، ووحشي بن حرب عند الطبراني: واهدوا الأغبياء وأعينوا المظلوم.
وحديث الباب سبق في المظالم ومناسبته لما ترجم به هنا لا خفاء بها.

3 - باب السَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]
هذا (باب) بالتنوين (السلام اسم من أسماء الله تعالى، وإذا حييتم) أي سلم عليكم فإن التحية في ديننا بالسلام في الدارين فسلّموا على أنفسكم تحية من عند الله ({تحيتهم يوم يلقونه سلام} [الأحزاب: 44] (بتحية) هي تفعلة من حيا يحيي تحية ({فحيّوا بأحسن منها}) أي قولوا وعليكم السلام ورحمة الله إذا قال: السلام عليكم وزيدوا وبركاته إذا قال: ورحمة الله كما مرّ ({أو ردّوها}) أو أجيبوها بمثلها فردّ السلام جوابه بمثله لأن المجيب يرد قول المسلم ففيه حذف مضاف أي ردوا مثلها.
وروي: ما من مسلم يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة، وسقط لأبي ذر: أو ردوها.
6230 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِى، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِى شَقِيقٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْنَا: السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلاَمُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِى الصَّلاَةِ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ: أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِى السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنَ الْكَلاَمِ مَا شَاءَ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال: (حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران (قال: حدثني) بالإفراد (شقيق) هو ابن سلمة أبو وائل (عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- أنه (قال: كنا إذا صلينا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلنا) في التشهد (السلام على الله قبل عباده) أي قبل السلام على عباده (السلام على جبريل السلام على ميكائيل السلام على فلان) ولأبي ذر زيادة وفلان، وفي رواية عبد الله بن نمير عن الأعمش عند ابن ماجة يعنون الملائكة، وللإسماعيلي من رواية علي بن مسهر فعند الملائكة (فلما انصرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي فرغ من الصلاة (أقبل علينا بوجهه فقال):
(إن الله هو السلام) قال النووي: السلام اسم من أسماء الله يعني السالم من النقائص، ويقال المسلم أولياءه وقيل المسلم عليهم اهـ. فهو مصدر نعت به والمعنى ذو السلامة من كل آفة ونقيصة. وقد ثبت في القرآن في أسمائه تعالى السلام المؤمن، وفي الأدب المفرد من حديث أنس بسند حسن: السلام من أسماء الله وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم، وأخرجه البزار من
حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا، والبيهقي في شعبه من حديث أبي هريرة مرفوعًا بسند ضعيف، وعن ابن عباس موقوفًا السلام اسم الله وهو تحية أهل الجنة. أخرجه البيهقي في الشعب، والظاهر أن البخاري أخذ بعض الحديث لما لم يجد شيئًا صريحًا على شرطه فجعله ترجمة وأورد ما يؤدي معناه على شرطه هو حديث التشهد. قال في شرح المشكاة: ووظيفة العارف من قوله السلام أن يتخلق به بحيث يسلم قلبه من الحقد والحسد وإرادة الشر وجوارحه عن ارتكاب المحظورات واقتراف الآثام ويكون مسالمًا

(9/134)


لأهل الإسلام ساعيًا في ذبّ المضارّ عنهم ومسلمًا على كل من يراه عرفه أو لم يعرفه (فإذا جلس أحدكم) في الصلاة فليقل (التحيات لله) جمع تحية وهي الملك الحقيقي التام (والصلوات) قيل المراد الصلوات المعهودات في الشرع فيقدر واجبة لله وإن أريد بها رحمته التي تفضل بها على عباده فيقدر كائنة أو ثابتة لعباد الله فيقدر مضاف محذوف (والطيبات) أي الكلمات الطيبات وهي ذكر الله تعالى كلها مستحقة لله (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) السلام مبتدأ وعليك في موضع خبره وبه يتعلق حرف الجر والألف واللام للجنس ويدخل فيه المعهود والمعنى السلام عليك ولك أو معناه التسليم أو التعوّذ أي الله معك أي متوليك وكفيل بك أو معناه الانقياد، لكن قال الشيخ تقي الدين: وليس يخلو بعض هذا من ضعف لأنه لا يتعدى السلام لبعض هذه المعاني بعلى اهـ.
قال ابن فرحون: ويحتمل أن يكون السلام عليك مبتدأ خبره محذوف أي السلام عليك موجود ويتعلق حرف الجر بالسلام لأنه فيه معنى الفعل (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) أعاد حرف الجر ليصح العطف على الضمير المجرور (فإنه إذا قال ذلك) أي وعلى عباد الله الصالحين (أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض) اعتراض بين قوله الصالحين وبين قوله (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ثم يتخير) المصلي (بعد من الكلام) من الدعاء (ما شاء).
والحديث سبق في باب التشهد من الصلاة.

4 - باب تَسْلِيمِ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ
(باب تسليم القليل) من الناس (على الكثير) منهم الشامل للواحد بالنسبة إلى الاثنين فأكثر والاثنين بالنسبة إلى الثلاثة فأكثر.
6231 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ». [الحديث 6231 - أطرافه في: 6232، 6233، 6234].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن) المروزي المجاور بمكة وسقط أبو الحسن لأبي ذر قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا معمر) بسكون العين المهملة ابن راشد
(عن همام بن منبه) بكسر الموحدة المشددة (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(يسلّم الصغير) بلفظ الخبر ومعناه الأمر كما عند أحمد من طريق عبد الرزاق عن معمر ليسلم بلام الأمر (على الكبير) ندبًا للتوقير والتعظيم (و) يسلّم (المارّ على القاعد) بكل حال سواء كان صغيرًا أو كبيرًا قليلاً أو كثيرًا قاله النووي (و) يسلّم (القليل على الكثير) وهو من باب التواضع لأن حق الكثير أعظم.
فإن قلت: المناسب أن يسلّم الكثير على القليل لأن الغالب أن القليل يخاف من الكثير. أجاب في الكواكب: بأن الغالب في المسلمين أمن بعضهم من بعض فلوحظ جانب التواضع الذي هو لازم السلام وحيث لم يظهر رجحان أحد الطرفين باستحقاق التواضع له اعتبر الإعلام بالسلامة والدعاء له رجوعًا إلى ما هو الأصل من الكلام ومقتضى اللفظ اهـ.
وقال الماوردي من الشافعية: لو دخل شخص مجلسًا فإن كان الجمع قليلاً يعمهم بسلام واحد فسلم كفاه فإن زاد فخصص بعضهم فلا بأس وإن كانوا كثيرًا بحيث لا ينتشر فيهم فيبتدئ أول دخوله إذا شاهدهم وتتأدى سنّة السلام في حق جميع من سمعه، وإذا جلس سقط عنه سنّة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وهل يستحب أن يسلّم على من جلس عندهم ممن لم يسمعه وجهان. أحدهما لا لأنهم جمع واحد والثاني نعم.
والحديث أخرجه الترمذي في الاستئذان.

5 - باب تَسْلِيمِ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِى
(باب تسليم الراكب) ولأبي ذر عن الكشميهني: باب التنوين يسلّم الراكب (على الماشي) بلفظ المضارع ورفع الراكب.
6232 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى زِيَادٌ أَنَّهُ سَمِعَ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِى، وَالْمَاشِى عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ».
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدثني (محمد) ولأبي ذر محمد بن سلام بتخفيف اللام على الأصح قال: (أخبرنا مخلد) بفتح الميم وسكون المعجمة وفتح اللام ابن يزيد الحراني قال: (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (قال: أخبرني) بالإفراد (زياد) بكسر الزاي وتخفيف التحتية ابن سعد الخراساني ثم المكي (أنه سمع ثابتًا) هو ابن عياض الأحنف الأعرج العدوي (مولى عبد الرحمن بن زيد) أي ابن الخطاب أخي عمر بن الخطاب وليس لثابت في البخاري غير
هذا الحديث وآخر في المصراة من كتاب البيوع (أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه-

(9/135)


يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يسلّم) أي ليسلم (الراكب على الماشي) قال في شرح المشكاة: وإنما استحب ابتداء السلام للراكب لأن وضع السلام إنما هو لحكمة إزالة الخوف من الملتقيين إذا التقيا أو من أحدهما في الغالب أو لمعنى التواضع المناسب لحال المؤمن، أو للتعظيم لأن السلام إنما يقصد به أحد أمرين إما اكتساب ودّ أو استدفاع مكروه قاله الماوردي، وقال ابن بطال: تسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع، وقال الماوردي: لأن للراكب مزية على الماشي فعوّض الماشي بأن يبدأه الراكب احتياطًا على الراكب من الزهو (والماشي) يسلّم (على القاعد) للإيذان بالسلامة وإزالة الخوف (والقليل) كالواحد يسلّم (على الكثير) كالاثنين فأكثر على ما سبق في الباب قبله لفضيلة الجماعة، ولأن الجماعة لو ابتدؤوا الواحد لزها فاحتيط له ولم يذكر في الرواية المذكورة في الباب السابق تسليم الراكب على الماشي، ولا في رواية هذا الباب الصغير على الكبير كما ذكرها في رواية همام فكان كلاًّ منهما حفظ ما لم يحفظه الآخر، واشتمل الحديثان على أربعة اجتمعت في رواية الحسن عن أبي هريرة فيما رواه الترمذي قاله في الفتح.
والحديث أخرجه مسلم في الأدب.

6 - باب تَسْلِيمِ الْمَاشِى عَلَى الْقَاعِدِ
(باب تسليم الماشي على القاعد) ولأبي ذر باب بالتنوين يسلّم بصيغة المضارع.
6233 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِى زِيَادٌ أَنَّ ثَابِتًا أَخْبَرَهُ، وَهْوَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه -، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِى، وَالْمَاشِى عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ».
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدثني (إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه قال: (أخبرنا روح بن عبادة) بفتح الراء وسكون الواو وبعدها حاء مهملة وعبادة بضم العين وتخفيف الموحدة قال: (حدّثنا ابن جريج) عبد الملك (قال: أخبرني) بالإفراد (زياد) هو ابن سعد (أن ثابتًا) هو ابن عياض (أخبره وهو مولى عبد الرحمن بن زيد) وأما ما حكاه أبو علي الجياني أن في رواية الأصيلي عن الجرجاني عن عبد الرحمن بن يزيد بزيادة تحتية في أوله فقال الحافظ ابن حجر: إنه وهم (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال):
(يسلّم الراكب على الماشي و) يسلّم (الماشي على القاعد و) يسلّم (القليل على الكثير) وقد أبدى صاحب الكواكب سؤالاً فقال: فإن قلت إذا كان المشاة كثيرًا والقاعدون قليلاً فباعتبار المشي
السلام على الماشي وباعتبار القلة على القاعد فهما متعارضان فما حكمه؟ وأجاب: بأنه يتساقط الجهتان ويكون حكم ذلك حكم رجلين التقيا معًا فأيهما ابتدأ بالسلام فهو خير أو يرجح ظاهر أمر الماشي وكذا الراكب فإنه يوجب الأمان لتسلطه وعلوّه.

7 - باب تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ
(باب تسليم الصغير على الكبير) ولأبي ذر: باب بالتنوين يسلم بلفظ المضارع فالصغير رفع.
6234 - وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ».
(وقال إبراهيم بن طهمان) بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء أبو سعيد الخراساني من أئمة الإسلام لكن فيه إرجاء وثبت قوله ابن طهمان لأبي ذر (عن موسى بن عقبة عن صفوان بن سليم) الزهري مولاهم المدني الإمام القدوة ومن يستسقى بذكره (عن عطاء بن يسار) الهلالي (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يسلّم الصغير على الكبير) تعظيمًا له وتوقيرًا ولم يقع تسليم الصغير على الكبير في صحيح مسلم. قال في الفتح: وكأنه لمراعاة حق السن فإنه معتبر في أمور كثيرة في الشرع، فلو تعارض الصغر المعنوي والحسي كأن يكون الأصغر أعلم مثلاً لم أر فيه نقلاً، والذي يظهر اعتبار السن لأنه الظاهر كما تقدم الحقيقة على المجاز، ونقل ابن دقيق العيد عن ابن رشد أن محل الأمر بتسليم الصغير على الكبير إذا التقيا فإن كان أحدهما ماشيًا والآخر راكبًا بدأ الراكب وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير (و) يسلم (المار) ماشيًا كان أو راكبًا صغيرًا أو كبيرًا قليلاً أو كثيرًا (على القاعد) تشبيهًا بالداخل على أهل المنزل.
وفي حديث فضالة بن عبيد عند البخاري في الأدب المفرد والترمذي وصححه النسائي، وصححه ابن حبان: يسلم الفارس على الماشي والماشي على القائم الحديث. ولو تلاقى مارّان راكبان أو ماشيان؟ قال المازري: يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدرًا في الذين إجلالاً لفضله

(9/136)


لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان ومركوب أحدهما أعلى في الحسن من مركوب الآخر كالجمل والفرس يبدأ صاحب الفرس أو يكتفي بالنظر إلى أعلاهما قدرًا في الدين فيبدأ الذي دونه، وهذا الثاني أظهر كما لا نظر إلى من يكون أعلاهما قدرًا من جهة الدنيا إلا أن يكون سلطانًا يخشى منه (و) يسلّم (القليل على الكثير) لفضل الجماعة كما مرّ.
وهذا التعليق وصله البخاري في الأدب المفرد وأبو نعيم والبيهقي، وقول الكرماني عبّر البخاري بقوله وقال إبراهيم لأنه سمع منه في مقام الذاكرة ردّه الحافظ ابن حجر بأنه غلط
عجيب، فإن البخاري لم يدرك ابن طهمان فضلاً عن أن يسمع منه لأنه مات قبل مولد البخاري بست وعشرين سنة.

8 - باب إِفْشَاءِ السَّلاَمِ
(باب إفشاء السلام) أي إظهاره بين الناس ليحيوا سنته وسقط لفظ باب لأبي ذر.
6235 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِىِّ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِى الشَّعْثَاءِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَهَى عَنِ الشُّرْبِ فِى الْفِضَّةِ، وَنَهَانَا عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّىِّ، وَالإِسْتَبْرَقِ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عن الشيباني) بالشين المعجمة المفتوحة والتحتية الساكنة والموحدة وبعد الألف نون أبي إسحاق سليمان بن فيروز الكوفي الحافظ (عن أشعث بن أبي الشعثاء) سليم بن أسود (عن معاوية بن سويد بن مقرن) بالقاف المفتوحة وكسر الراء المشددة (عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما-) وسقط ابن عازب لأبي ذر أنه (قال: أمرنا رسول الله) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسبع) أي بسبع خصال أو نحو ذلك فحذف مميز العدد (بعيادة المريض) مصدر مضاف إلى مفعوله كاللواحق (واتباع الجنائز) افتعال من تبع يتبع (وتشميت العاطس) بالمعجمة ويجوز بالمهملة بأن يقول له يرحمك الله إذا حمد (ونصر الضعيف) وفي باب تشميت العاطس ونصر المظلوم أي إغاثته ومنعه من الظالم (وعون المظلوم). قال في الفتح: الذي يظهر أن نصر الضعيف المراد به عون المظلوم (وإفشاء السلام) انتشاره وإظهاره وأقله كما قال النووي: أن يرفع صوته به بحيث يسمع المسلم عليه فإن لم يسمعه لم يكن آتيًا بالسنة. قال: ويستحب أن يرفع صوته بقدر ما يتحقق أنه سمعه فإن شك استظهر، وقد أخرج المؤلّف في الأدب المفرد بسند صحيح عن ابن عمر: إذا سلمت فأسمع فإنها تحية من عند الله لكن يستثنى من رفع الصوت ما إذا كان بحضرة نيام فقد كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الليل فيسلم تسليمًا لا يوقظ نائمًا ويسمع اليقظان. رواه مسلم في صحيحه من حديث المقداد، ومن فوائد إفشاء السلام حصول المحبة بين المتسالمين، وفي مسلم عن أبي هريرة: ألا أدلكم على ما تحابون به أفشوا السلام بينكم (و) من المأمورات وهو سابعها لفظًا (إبرار المقسم}) بضم الميم وكسر السين اسم فاعل من أقسم أي إبرار يمين المقسم، والمراد بالأمر هنا المطلق في الإيجاب والندب لأن بعضها إيجاب وبعضها ندب، وليس ذلك من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه لأن ذاك إنما هو في صيغة أفعل أما لفظ الأمر فيطلق عليهما حقيقة على المرجح لأنه حقيقة في القول المخصوص.
(ونهى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن الشرب في) إناء (الفضة) والذهب من باب أولى والتعبير بالشرب خرج
مخرج الغالب (ونهانا) ولأبي ذر ونهى (عن تختم الذهب) لبسًا وكذا اتخاذًا (وعن ركوب المياثر) بالمثلثة جمع ميثرة بكسر الميم وسكون التحتية من غير همز وطاء في السروج يكون من الحرير والديباج (وعن لبس الحرير والديباج) وهو ما غلظ وثخن من ثياب الحرير (والقسي) بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس قرية على ساحل البحر قريبة من تنيس ببلاد مصر، وقيل غير ذلك مما سبق في موضعه (والاستبرق) بهمزة قطع مكسورة. قال أبو البقاء: أصل استبرق فعل على استفعل فلما سمي به قطعت همزته وهو غليظ الديباج وكل ذلك سبق غير مرة.
والحديث سبق في الجنائز واللباس والأدب والطب والأشربة وأخرجه في النذور.

9 - باب السَّلاَمِ لِلْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمَعْرِفَةِ
(باب) مشروعية (السلام للمعرفة وغير المعرفة).

(9/137)


6236 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِى يَزِيدُ، عَنْ أَبِى الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَىُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي الأصل الدمشقي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الفهمي الإمام قال: (حدثني) بالإفراد (يزيد) بن أبي حبيب (عن أبي الخير) مرثد بن عبد الله اليزني (عن عبد الله بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم ابن العاص -رضي الله عنهما- (أن رجلاً) لم يسم أو هو أبو ذر (سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيّ) خصال (الإسلام خير؟ قال):
(تطعم) الخلق (الطعام وتقرأ) بفتح الفوقية وضم الهمزة مضارع قرأ (السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف) أي من المسلمين للتأنيس ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد فلا حجة فيه لمن أجاز ابتداء الكافر بالسلام لأن أصل مشروعيته للمسلم فيحمل قوله: من عرفت عليه وأما من لم تعرف فلا دلالة فيه بل إن عرف إسلامه سلم وإلاّ فلا. ولو سلم احتياطًا لم يمتنع حتى يعرف أنه كافر وسقط لأبي ذر لفظ على من قوله وعلى من لم تعرف.
والحديث سبق في كتاب الإِيمان.
6237 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِىِّ، عَنْ أَبِى أَيُّوبَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ». وَذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عطاء بن يزيد الليثي) المدني نزيل الشام (عن أبي أيوب) خالد بن زيد الأنصاري (-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه) المسلم (فوق ثلاث) أي ثلاث ليال بأيامهن (يلتقيان فيصد هذا ويصدّ هذا) بيان لكيفية الهجران أي فيعرض كل منهما عن الآخر يقال صد عنه يصد صدودًا أي أعرض وصده عن الأمر صدًّا منعه وصرفه (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) لأنه فعل حسنة وتسبب في فعل حسنة وهي الجواب مع ما دل عليه الابتداء من حسن طوية المبتدئ وترك ما يكره الشارع من الهجر والجفاء. وفي حديث ابن مسعود مرفوعًا عند الطبراني والبيهقي في شعبه: إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد لا يصلّي فيه وأن لا يسلم إلاّ على من يعرفه.
والحديث سبق في باب الهجرة من كتاب الأدب (وذكر سفيان) بن عيينة بالسند السابق (أنه سمعه) أي الحديث (منه) أي من الزهري (ثلاث مرات).

10 - باب آيَةِ الْحِجَابِ
(باب) ذكر نزول (آية الحجاب) في أمر نساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالاحتجاب من الرجال ولأبي ذر عن الكشميهني علامة الحجاب بدل آية الحجاب.
6238 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرًا حَيَاتَهُ وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ وَقَدْ كَانَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِى عَنْهُ وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِى مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِىَ مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَطَالُوا الْمُكْثَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ كَىْ يَخْرُجُوا فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَشَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، ثُمَّ ظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ، فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَجَعْتُ مَعَهُ، حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَظَنَّ أَنْ قَدْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا فَأُنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ فَضَرَبَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ سِتْرًا.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) الجعفي الكوفي نزيل مصر قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله قال: (أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي وقت قدومه (المدينة) قال: (فخدمت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عشرًا)
من السنين (حياته) أي بقية حياته إلى أن مات (وكنت أعلم الناس بشأن) سبب نزول (الحجاب حين أنزل) بضم الهمزة (وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه) أي عن سبب نزوله (وكان أول ما نزل في مبتنى) بضم الميم وسكون الموحدة وفتح الفوقية والنون من الابتناء أي زفاف (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بزينب ابنة) ولأبي ذر بنت (جحش) الأسدية (أصبح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بها عروسًا) نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في إعراسهما (فدعا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (القوم) لوليمته وجاؤوا (فأصابوا) فأكلوا (من الطعام ثم خرجوا وبقي منهم رهط) ثلاثة لم يسموا (عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الحجرة (فأطالوا المكث فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخرج) من الحجرة ليخرجوا (وخرجت معه كي يخرجوا فمشى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة) -رضي الله عنها-، وفي تفسير سورة الأحزاب من غير هذا الوجه فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله" فقالت: وعليك السلام

(9/138)


ورحمة الله كيف وجدت أهلك بارك الله لك. فتعهد حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة (ثم ظن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه حتى دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يتفرقوا فرجع رسول الله) ولأبي ذر: النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورجعت معه حتى بلغ عتبة حجرة عائشة فظن أن قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فأنزل) بضم الهمزة (آية الحجاب) {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} [الأحزاب: 53] الآية وسقط للحموي والمستملي لفظ آية (فضرب) عليه الصلاة والسلام (بيني وبينه سترًا).
والحديث مضى في تفسير سورة الأحزاب.
6239 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، أَبِى حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ دَخَلَ الْقَوْمُ فَطَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مِنَ الْقَوْمِ، وَقَعَدَ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ وَإِنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا فَأَخْبَرْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآيَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدُ اللهِ: فِيهِ مِنَ الفِقْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُمْ حِينَ قَامَ وَخَرَجَ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومُوا.
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل عارم قال: (حدّثنا معتمر قال أبي) سليمان التيمي (حدّثنا أبو مجلز) بكسر الميم وسكون الجيم بعدها لام مفتوحة فزاي لاحق بن حميد (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: لما تزوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب) بنت جحش (دخل القوم) حجرتها بعد أن دعاهم لوليمتها (فطعموا) من الخبز واللحم (ثم جلسوا يتحدثون فأخذ) أي جعل وشرع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(كأنه يتهيّأ للقيام) ليقوموا (فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام) ثبت لفظ ذلك للأصيلي (فلما قام قام من قام من القوم وقعد بقية القوم وأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح الهمزة وكسرها مصححًا عليها في الفرع (جاء ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا) لما فهموا المراد (فانطلقوا فأخبرت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجاء حتى دخل) الحجرة (فذهبت أدخل فألقى الحجاب) أي الستر (بيني وبينه وأنزل الله تعالى {يا أيها الدين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية) [الأحزاب: 53] إلى آخرها.
(وقال أبو عبد الله) البخاري: (فيه) أي الحديث (من الفقه أنه لم يستأذنهم) أي لم يستأذن القوم الذين تخلفوا (حين قام وخرج) فلا يحتاج في القيام والخروج إلى إذن الأضياف (وفيه أنه تهيأ للقيام وهو يريد أن يقوموا) ففيه جواز التعريض بذلك، وقول البخاري هذا ثابت في رواية أبي الوقت وأبي ذر عن المستملي وسقط للباقين. قال في الفتح: وهو أولى فإنه أفرد لذلك ترجمة تأتي بعد اثنين وعشرين بابًا إن شاء الله تعالى.
6240 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِى عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: احْجُبْ نِسَاءَكَ قَالَتْ: فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْرُجْنَ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهْوَ فِى الْمَجْلِسِ فَقَالَ: عَرَفْتُكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ الْحِجَابِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني (إسحاق) هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم في مستخرجه قال: (أخبرنا يعقوب بن إبراهيم) ثبت ابن إبراهيم لأبي ذر قال: (حدّثنا أبي) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (أن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سقط زوج النبي الخ لأبي ذر (قالت: كان عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- (يقول لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): يا رسول الله (احجب نساءك) فإنه يدخل عليك البر والفاجر (قالت: فلم يفعل) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وكان أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخرجن) للبراز للبول والغائط (ليلاً إلى ليل قبل المناصع) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة المناصع موضع معروف بالمدينة (خرجت) ولأبي ذر فخرجت (سودة بنت زمعة) القرشية أم المؤمنين -رضي الله عنها- ليلة من الليالي. وثبت بنت زمعة في رواية أبي ذر (وكانت امرأة طويلة فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال) لها: (عرفتك) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: عرفناك (يا سودة حرصًا) نصب مفعولاً له لقوله عرفتك (على أن ينزل الحجاب قالت) عائشة: (فأنزل الله عز وجل آية الحجاب) سقط لفظ آية لأبي ذر.
واستشكل بأنه ثبت أن قصة زينب كان سببًا لنزول آية الحجاب فتعارضا. وأجيب: بأن
عمر حرض على ذلك حتى قال لسودة ما قال. فوقعت القصة المتعلقة بزينب فنزلت الآية، فكان كل من الأمرين سببًا لنزولها

(9/139)


أو أن عمر تكرر منه هذا القول قبل الحجاب وبعده أو أن بعض الرواة ضم قصة إلى أخرى، وقد سبق موافقات عمر -رضي الله عنه- في سورة الأحزاب.

11 - باب الاِسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ
هذا (باب) بالتنوين (الاستئذان) شرع (من أجل البصر) لأن المستأذن لو دخل بغير إذن لرأى بعض ما يكره من يدخل إليه أن يطلع عليه.
6241 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِىُّ: حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَا هُنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِى حُجَرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ: «لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِى عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاِسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال الزهري): محمد بن مسلم ليس فيه التصريح بأن سفيان سمعه نعم أخرج الحديث مسلم والترمذي من طرق عن سفيان وفيها عن الزهري ورواه الحميدي وابن أبي عمر في مسنديهما فقالا حدّثنا الزهري قال سفيان (حفظته) أي الحديث من الزهري (كما أنك هاهنا) أي حفظًا ظاهرًا كالمحسوس من غير شك ولا شبهة فيه (عن سهل بن سعد) الساعدي -رضي الله عنه- أنه (قال: اطلع رجل) قيل هو الحكم بن أبي العاص بن أمية (من جحر) بتقديم الجيم المضمومة على الحاء المهملة الساكنة ثقب مستدير (في حجر النبي) بضم الحاء المهملة وفتح الجيم بلفظ الجمع ولأبي ذر عن الكشميهني في حجرة النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مدرى) بكسر الميم وسكون الدال المهملة وتنوين الراء بوزن مفعل حديدة يسرح بها الشعر، وقال الجوهري: شيء كالمسلة يكون مع الماشطة تصلح بها قرون النساء والمدرى يذكر ويؤنث (يحك به رأسه فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له:
(لو أعلم أنك تنظر) أي إليّ ولأبي ذر عن الحموي والمستملي تنتظر بوزن تفتعل والأول أوجه (لطعنت به) بالمدرى (في عينك إنما جعل الاستئذان) بضم الجيم وكسر العين أي شرع الاستئذان في الدخول (من أجل البصر) لئلا يقع على عورة أهل البيت ويطلع على أحوالهم.
والحديث سبق في باب الامتشاط من كتاب اللباس.
6242 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ. [الحديث 6242 - طرفاه في: 6889، 6900].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) بضم الميم وفتح السين والدال الأولى المشددة المهملات ابن مسرهد قال: (حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم الإمام أبو إسماعيل الأزدي أضر وكان يحفظ حديثه كالماء
(عن عبيد الله) بضم العين (ابن أبي بكر عن) جده (أنس بن مالك) -رضي الله عنه- وسقط لأبي ذر ابن مالك (أن رجلاً اطلع من بعض حجر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الحاء وفتح الجيم بلفظ الجمع (فقام إليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمشقص) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف بعدها مهملة نصل سهم إذا كان طويلاً غير عريض (أو) قال: (بمشاقص) بلفظ الجمع والشك من الراوي قال: أنس (فكأني أنظر إليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يختل الرجل) بفتح أوله وسكون الخاء المعجمة وكسر الفوقية بعدها لام يأتيه من حيث لا يشعر (ليطعنه) بضم العين في عينه وهو غافل والحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الدّيات ومسلم في الاستئذان وأبو داود في الأدب.

12 - باب زِنَا الْجَوَارِحِ دُونَ الْفَرْجِ
(باب زنا الجوارح) كاللسان والعين (دون الفرج).
6243 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِى هُرَيْرَةَ، حَدَّثَنِى مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ» [الحديث 6343 - طرفه في: 6612].
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير المكي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه) طاوس بن كيسان (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال): وسقط لفظ قال لأبي ذر (لم أر شيئًا أشبه باللمم من قول أبي هريرة) -رضي الله عنه- بفتح اللام المشددة والميم الأولى أي بالصغائر كالنظرة والقبلة واللمسة والغمزة وأصل اللمم ما قل وصغر، وقيل إن يلم بشيء من غير أن يركبه يقال: ألم بكذا أي قاربه ولم يخالطه، وقال سعيد بن المسيب: ما لمّ على القلب أي خطر، واقتصر البخاري من هذا الحديث من طريق سفيان على هذا القدر موقوفًا على أبي هريرة ثم عطف عليه رواية عمر عن ابن طاوس فساقه مرفوعًا بتمامه فقال: (وحدثني) بالإفراد وسقطت الواو لغير أبي ذر (محمود) هو ابن غيلان قال: (أخبرنا) ولأبي ذر حدّثنا (عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة) ولأبي ذر عن الكشميهني: من قول أبي هريرة (عن النبي

(9/140)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن الله كتب) قدر (على ابن آدم حظه) بالحاء المهملة والظاء المعجمة نصيبه بما قدر عليه (من الزنا أدرك ذلك لا محالة) بفتح الميم والحاء المهملة واللام المخففة لا حيلة له في التخلص من إدراك ما كتب عليه ولا بد له منه (فزنا العين) بالإفراد ولأبي ذر عن الحموي والمستملي العينين
(النظر) بشهوة (وزنا اللسان المنطق) بالميم ولأبي ذر عن الكشميهني النطق أي فيما يستلذ به من محادثة ما لا يحل له وفي حديث أبي الضحى عن ابن مسعود عند ابن جرير قال: زنا العينين النظر وزنا الشفتين التقبيل وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين المشي (والنفس تمنى) بحذف إحدى التاءين، ولأبي ذر عن الكشميهني تتمنى بإثباتها (وتشتهي) قال ابن بطال: سمي النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي ولذا قال: (والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه) ولأبي ذر عن الكشميهني: أو يكذبه واستدلّ به من قال: إنه إذا قال لرجل: زنت يدك أو رجلك أنه لا يكون قذفًا فلا حدّ، وبه قال أشهب من أئمة المالكية. وفي الروضة إذا قال: زنى يدك أو عينك أو رجلك فكناية على المذهب. وقال ابن القاسم: يحد ووجه بأن الأفعال: من فاعلها تضاف إلى الأيدي قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] فكأنه إذا قال: زنت يدك ووصف ذاته بالزنا لأنه الزنا لا يتبعض، وقال في الكواكب فإن قلت: التصديق والتكذيب من صفات الأخبار فما معناهما هنا؟ وأجاب: بأنه لما كان التصديق هو الحكم بمطابقة الخبر للواقع والتكذيب الحكم بعدمها فكأنه هو الموقع أو الواقع فهو تشبيه أو لما كان الإيقاع مستلزمًا للحكم بهما عادة فهو كناية.

13 - باب التَّسْلِيمِ وَالاِسْتِئْذَانِ ثَلاَثًا
(باب) استحباب (التسليم والاستئذان ثلاثًا) سواء اجتمعا أو انفردا.
6244 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاَثًا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن منصور الكوسج الحافظ قال: (أخبرنا) ولأبي ذر حدّثنا (عبد الصمد) بن عبد الوارث قال: (حدّثنا عبد الله بن المثنى) أي ابن عبد الله بن أنس واختلف فيه فوثقه العجلي واليزيدي. وقال أبو زرعة وابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، قال ابن حجر: لعله أراد في بعض حديثه، وقد تقرر أن البخاري حيث يخرج لبعض من فيه مقال يخرج شيئًا مما أنكر عليه، وقول ابن معين ليس بشيء أراد به في حديث بعينه سئل عنه، والرجل إذا ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا مفسرًا بأمر فادح وذلك غير موجود في عبد الله بن المثنى هذا وقال ابن حبان لما ذكره في الثقات: ربما أخطأ والذي أنكر عليه إنما هو من روايته عن غير عمه ثمامة وإنما أخرج له عن عمه هذا الحديث قال: (حدّثنا ثمامة بن عبد الله) بضم المثلثة وتخفيف الميم الأولى ابن أنس بن مالك قاضي البصرة وهو عم عبد الله بن المثنى (عن) جده (أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا سلم) على أناس (سلم) عليهم (ثلاثًا) أي ثلاث مرات وهذه الصيغة كما قال في الكواكب تشعر بالاستمرار عند الأصوليين،
وتعقب بأن صيغة كان بمجردها لا تقتضي مداومة ولا تكثيرًا فإذا شرط جوابه سلم. وقال الإسماعيلي يشبه أن يكون ذلك كان إذا سلم سلام الاستئذان على ما رواه أبو موسى وغيره أي التالي لهذا الحديث، وأما أن يمر المار مسلمًا فالمعروف عدم التكرار، والظاهر أن البخاري فهم هذا المعنى بعينه فأورد هذا الحديث مقرونًا بحديث أبي موسى في قصته مع عمر، لكن يحتمل أن يكون ذلك كان يقع منه أيضًا إذا خشي أن لا يسمع سلامه وقد يشرع تكراره إذا كان الجمع كثيرًا ولم يسمع بعضهم وقصد الاستيعاب، وهل إذا سلم ثلاثًا فظن أنه لم يسمع فقال مالك: يزيد حتى يتحقق، وقال الجمهور: إنه لا يزيد عملاً بالحديث (وإذا تكلم بكلمة) بجملة مفيدة (أعادها ثلاثًا) زاد في كتاب العلم حتى تفهم وللترمذي والحاكم حتى تعقل عنه.
والحديث سبق في باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم في كتاب العلم، وقدم هنا السلام على الكلام كالحديث الأول من الباب المسوق في العلم، وعكس في الحديث الثاني منه فقدم الكلام على السلام، وقد نبهت هناك

(9/141)


على أن الحديث الأول من الباب المذكور ساقط في رواية ابن عساكر وأبي ذر.
6245 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: كُنْتُ فِى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى، فَرَجَعْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ»، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنِى ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِى، يَزِيدُ عَنْ بُسْرٍ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِهَذَا.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا يزيد بن خصيفة) هو يزيد بن عبد الله بن خصيفة بضم الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة وبعد التحتية الساكنة فاء الكندي (عن بسر بن سعيد) بكسر العين وبسر بضم الموحدة وسكون المهملة المدني (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري) -رضي الله عنه- أنه (قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاه أبو موسى) عبد الله بن قيس الأشعري وإذ كلمة مفاجأة (كأنه مذعور) يقال أذعرته لم أفزعته (فقال: استأذنت على عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (ثلاثًا) وكان قد أرسل إليه أن يأتيه كما في مسلم عن عمرو الناقد عن سفيان (فلم يؤذن لي) بضم التحتية وفتح المعجمة وكأنه كان مشغولاً (فرجعت) وفي البيوع ففرغ عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له فقيل له أنه رجع وعند مسلم من رواية بكر بن الأشج عن بسر استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت ثم جئت اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس
(فقال) ولأبي ذر قال: (ما منعك) أن تأتينا (قلت استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت و) قد (قال: رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع فقال) عمر -رضي الله عنه- (والله لتقيمن عليه) أي على ما رويته (بينة) ولغير أبي ذر ببينة. وزاد مسلم: وإلاّ أوجعتك. فقال أبو موسى: (أمنكم) بهمزة الاستفهام الاستخباري (أحد سمعه من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)؟ فيشهد عند عمر بذلك (فقال أبيّ بن كعب): سقط ابن كعب لأبي ذر (والله لا يقوم معك) إلى عمر يشهد عنده بذلك (إلا أصغر القوم) وفي رواية بكر بن الأشج فوالله لا يقوم معك إلا أحدّثنا سنًّا قم يا أبا سعيد قال: (فكنت) بالفاء ولأبي ذر وكنت (أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال ذلك). وفيه دليل على أن العلم الخاص قد يخفى على الأكابر فيعلمه من دونهم. ألا ترى أن عمر -رضي الله عنه- خفي عليه علم الاستئذان ثلاثًا، وعلمه أبو موسى وأبو سعيد وغيرهما. قال ابن دقيق العيد: وذلك يصد في وجه من يطلق من المقلدين إذا استدلّ عليه بحديث فيقول: لو كان صحيحًا لعلمه فلان مثلاً فإن ذلك إذا خفي على أكابر الصحابة فهو على غيرهم أولى، وقول عمر -رضي الله عنه-: لتقيمن عليه بيّنة يتعلق به من يرى اعتبار العدد وليس قول عمر ذلك ردًّا لخبر الواحد بل خاف مسارعة الناس إلى القول على النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما لم يقل كما يفعله المبتدعون والكذابون، فأراد -رضي الله عنه- سدّ الباب لا شكًّا في الرواية، وفي الموطأ أن عمر قال لأبي موسى: أما إني لا أتهمك ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وحديث الباب أخرجه مسلم في الاستئذان وأبو داود في الأدب.
(وقال ابن المبارك): عبد الله مما وصله أبو نعيم في مستخرجه (أخبرني) بالإفراد (ابن عيينة) سفيان قال: (حدثني) بالإفراد أيضًا (يزيد بن خصيفة) وثبت ابن خصيفة لأبي ذر (عن بسر) ولأبي ذر زيادة ابن سعيد أنه قال: (سمعت أبا سعيد) الخدري (بهذا) الحديث. وغرضه من ساق هذا التعليق بيان سماع بسر له من أبي سعيد والله الموفق والمعين لا إله غيره.

14 - باب إِذَا دُعِىَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ؟
قَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «هُوَ إِذْنُهُ».
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (إذا دعي الرجل) إلى منزل (فجاء هل يستأذن) قبل أن يدخل أم لا؟ (قال) ولأبي ذر وقال: (سعيد): هو ابن أبي عروبة ولأبي ذر عن الكشميهني شعبة أن ابن الحجاج قال: في الفتح والأول هو المحفوظ (عن قتادة) بن دعامة (عن أبي رافع) نفيع البصري (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(هو) أي الدعاء (إذنه) فلا يحتاج إلى تجديده.
وهذا التعليق وصله المؤلّف في الأدب المفرد وأبو داود من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة، وزاد أبو داود إلى طعام ثم قال: لم يسمع قتادة من أبي رافع كذا

(9/142)


في رواية اللؤلؤي عن أبي داود قال في الفتح: وقد ثبت سماعه منه في الحديث الآتي إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد من رواية سليمان التيمي عن قتادة أن أبا رافع حدثه ..
6246 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ فَقَالَ: «أَبَا هِرٍّ الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَىَّ»، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأُذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا عمر بن ذر) بضم العين في الأول وفتح الذال المعجمة وتشديد الراء الهمداني (وحدّثنا) وفي نسخة ح للتحويل وحدّثنا ولأبي ذر وحدثني بالإفراد (محمد بن مقاتل) المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا عمر بن ذر) المذكور قال: (أخبرنا مجاهد) هو ابن جبر (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: دخلت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) منزله (فوجد لبنًا في قدح فقال):
(أبا هرّ) بكسر الهاء وتشديد الراء منونة زاد في الرقاق قلت لبيك يا رسول الله قال: (الحق) بهمزة وصل وفتح الحاء المهملة (أهل الصفة) سقيفة كانت بالمسجد ينزل فيها فقراء الصحابة -رضي الله عنهم- (فادعهم إليّ) بتشديد الياء (قال) أبو هريرة -رضي الله عنه-: (فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا) في الدخول (فأذن لهم) بضم الهمزة وكسر المعجمة (فدخلوا) الحديث. ويأتي بتمامه إن شاء الله تعالى في باب كيف كان عيش النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه وتخليهم عن الدنيا من كتاب الرقاق.
واستشكل قوله فاستأذنوا مع قوله في السابق هو إذنه إذ ظاهره التعارض. وأجيب: بأنه يختلف بطول العهد وقصره فإن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الإذن، وإلاّ فلا وقيده السفاقسي بمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله قال: والاستئذان على كل حال أحوط.

15 - باب التَّسْلِيمِ عَلَى الصِّبْيَانِ
(باب) مشروعية (التسليم على الصبيان) وسقط لفظ باب لأبي ذر فالتسليم مرفوع.
6247 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِىِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهُ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن الجعد) بفتح الجيم وسكون العين بعدها دال مهملتين الجوهري البغدادي قال: (أخبرنا شعبة) بن الحجاج (عن سيار) بفتح السين المهملة والتحتية وبعد الألف راء
أبي الحكم بن وردان العنزي الواسطي (عن ثابت البناني) بضم الموحدة نسبة إلى بنانة امرأة (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه مرّ على صبيان) قال ابن حجر: لم أقف على أسمائهم (فسلّم عليهم وقال: كان) ولأبي ذر قال: وكان (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعله) أي السلام على الصبيان تدريبًا لهم على آداب الشريعة وفيه سلوك التواضع ولين الجانب. نعم لو كان الصبي وضيئًا يخشى من السلام عليه الفتنة فلا يشرع، ولو سلم على صبي لم يجب عليه الرد لأن الصبي ليس من أهل الفرض ولو سلم على جماعة فيهم صبي فردّ دونهم لم يسقط الفرض عنهم ولو سلم الصبي على البالغ وجب عليه الرد.
والحديث أخرجه مسلم في الاستئذان وكذا الترمذي وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة.

16 - باب تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ
(باب) مشروعية (تسليم الرجال على النساء و) تسليم (النساء على الرجال) عند أمن الفتنة.
6248 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قُلْتُ لِسَهْلٍ: وَلِمَ قَالَ كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ، فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِى قِدْرٍ وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا ابن أبي حازم) عبد العزيز (عن أبيه) أبي حازم واسمه سلمة بن دينار (عن سهل) بفتح السين وسكون الهاء ابن سعد الساعدي الأنصاري أنه (قال: كنا نفرح يوم الجمعة) ولأبي ذر عن الكشميهني: بيوم الجمعة بزيادة الجار. قال أبو حازم: (قلت لسهل) مستفهمًا (ولم) كنتم تفرحون به؟ (قال: كانت لنا عجوز) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها (ترسل إلى بضاعة) بضم الموحدة وحكي كسرها وفتح المعجمة المخففة وبعد الألف عين مهملة (قال ابن مسلمة): عبد الله شيخ المؤلّف مفسرًا لبضاعة (نخل) بستان (بالمدينة) ولغير أبي ذر نخل بالجر عطف بيان لبضاعة أو بدلاً منها. وقال غير ابن مسلمة: إن بضاعة دور بني ساعدة وبها بئر مشهورة (فتأخذ) العجوز (من أصول السلق) بكسر السين المهملة وسكون اللام بعدها قاف (فتطرحه في قدر) بكسر القاف وسكون المهملة ولأبي ذر عن الكشميهني في القدر (وتكركر) بضم الفوقية وفتح الكاف وسكون الراء بعدها كاف أخرى مكسورة فراء أيضًا تطحن (حبات من شعير)

(9/143)


والكركرة كما قال الخطابي الطحن والجش وأصله الكر فضوعف لتكرار عود الرحى في الطحن مرة بعد أخرى (فإذا صلينا الجمعة انصرفنا ونسلم عليها) وسقطت الواو من ونسلم لأبي ذر (فتقدمه) أي الطعام المذكور (إلينا فنفرح من أجله) أي الطعام (وما كنا نقيل) بفتح النون وكسر القاف من القيلولة أي
نستريح نصف النهار (ولا نتغدى) بالغين المعجمة أي لا نأكل أوّل النهار (إلا بعد) صلاة (الجمعة).
وهذا الحديث سبق في باب قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} [الجمعة: 10] من صلاة الجمعة.
6249 - حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ» قَالَتْ: قُلْتُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَرَى مَا لاَ نَرَى تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَقَالَ يُونُسُ وَالنُّعْمَانُ: عَنِ الزُّهْرِىِّ وَبَرَكَاتُهُ.
وبه قال: (حدّثنا ابن مقاتل) محمد المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (عن عائشة رضي الله عنها) أنها (قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
لي (يا عائشة هذا جبريل) عليه الصلاة والسلام (يقرأ) بفتح أوله وثالثه (عليك السلام قالت: قلت وعليه السلام ورحمة الله) وقد كان جبريل عليه السلام يأتي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صورة دحية وحينئذٍ فتحصل المطابقة بين الترجمة والحديث ويزول الإشكال (ترى ما لا نرى تريد) عائشة -رضي الله عنها- (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ومنع الكوفيون ابتداء النساء بالسلام على الرجال لأنهن منعن من الأذان والإقامة والجهر واستثنوا المحرم فجوّزوا لها السلام على محرمها، وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سدًّا للذريعة ومنع منه ربيعة مطلقًا.
(تابعه) أي تابع معمرًا (شعيب) هو ابن أبي حمزة في روايته عن الزهري في قول عائشة ورحمة الله، وهذه المتابعة وصلها البخاري في الرقاق. (وقال يونس) بن يزيد: مما وصله في المناقب (والنعمان) بن راشد مما وصله الطبراني في الكبير كلاهما (عن الزهري وبركاته).
وحديث الباب سبق في بدء الخلق وفضل عائشة والأدب ويأتي إن شاء الله تعالى في الرقاق بعون الله.

17 - باب إِذَا قَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقَالَ: أَنَا
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (إذا قال) صاحب المنزل لمن طرق الباب: (من ذا) الذي يطرق (فقال: أنا) ما حكمه وسقط لفظ باب لأبي ذر.
6250 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا - رضى الله عنه - يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِى فَدَقَقْتُ الْبَابَ
فَقَالَ «مَنْ ذَا»؟ فَقُلْتُ: أَنَا فَقَالَ: «أَنَا أَنَا» كَأَنَّهُ كَرِهَهَا.
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك) الطيالسي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله الهدير التيمي المدني (قال: سمعت جابرًا) ولأبي ذر جابر بن عبد الله (-رضي الله عنه- يقول: أتيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دين كان على أبي) لأبي الشحم اليهودي وكان ثلاثين وسقًا من التمر (فدققت الباب) بقافين الثانية ساكنة من الدق وعند الإسماعيلي فضربت ولمسلم استأذنت، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فدفعت بالفاء ثم العين المهملة من الدفع (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(من ذا)؟ الذي يدق الباب أو يضربه أو يدفعه أو استأذن (فقلت) له: (أنا. فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أنا أنا) الثانية تأكيد لسابقتها (كأنه كرهها) أي لفظة أنا، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة كره ذلك بالجزم وكره ذلك لأنه أجابه بغير ما يفيد علم ما سأل عنه فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد أن يعرف من ضرب الباب بعد أن عرف أن ثم ضاربًا فأخبره أنه ضارب فلم يستفد منه المقصود.
والحديث أخرجه مسلم في الاستئذان أيضًا وأبو داود في الأدب والترمذي في الاستئذان والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجة في الأدب.

18 - باب مَنْ رَدَّ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلاَمُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَدَّ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى آدَمَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ».
(باب من ردّ) على المسلم (فقال: عليك السلام) بغير واو العطف والإفراد وتأخير السلام عن قوله عليك (وقالت عائشة) -رضي الله عنها- لما قال لها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام" (وعليه السلام ورحمة الله وبركاته) بالواو، وقد مرّ موصولاً في الباب السابق. (وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): فيما سبق موصولاً في بدء السلام (رد الملائكة على آدم السلام عليك ورحمة الله).
6251 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ فِى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فَقَالَ فِى الثَّانِيَةِ: أَوْ فِى الَّتِى بَعْدَهَا عَلِّمْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ
حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاَتِكَ كُلِّهَا» وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِى الأَخِيرِ حَتَّى تَسْتَوِىَ قَائِمًا.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن منصور) الكوسج قال: (أخبرنا عبد الله بن نمير) بضم النون وفتح الميم الهمداني أبو هشام الكوفي قال: (حدّثنا عبيد الله)

(9/144)


بضم العين ابن عمر بن حفص العمري (عن سعيد بن أبي سعيد) كيسان (المقبري) بضم الموحدة (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً) هو خلاد بن رافع (دخل المسجد ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالس في ناحية المسجد فصلّى) أي ركعتين كما عند النسائي من رواية داود بن قيس ففيه كما في الفتح إشعار بأنه صلّى نفلاً والأقرب أنها تحية المسجد (ثم جاء) أصله جيأ تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا (فسلّم عليه) أي على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(وعليك السلام) بالواو والإفراد وتأخير السلام وهذا الغرض من الترجمة (ارجع فصل) أمر من رجع ويأتي لازمًا ومتعديًا فمن اللازم هذا ومن المتعدي قوله تعالى: {فإن رجعك الله} [التوبة: 83] لكن مصدر اللازم رجوعًا ومصدر المتعدي رجعًا. وعند ابن أبي شيبة من رواية محمد بن عجلان فقال: أعد صلاتك (فإنك لم تصل) صلاة صحيحة نفي للحقيقة الشرعية ولا شك في انتفائها بانتفاء ركن أو شرط منها أو لم تصل صلاة كاملة إذا كان بسبب الطمأنينة وهي سنة عند قوم (فرجع فصلّى ثم جاء فسلم) على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال) له: (وعليك السلام فارجع فصل فإنك لم تصل فقال) الرجل (في الثانية أو في التي بعدها علمني يا رسول الله فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء) بهمزة قطع وعند النسائي من رواية إسحاق بن أبي طلحة أنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يتم الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين (ثم استقبل القبلة فكبّر) تكبيرة الإحرام (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ما هاهنا موصولة أو موصوفة ومعك متعلق بتيسر أو حال من القرآن ومن تبعيضية ويبعد أن يتعلق من القرآن باقرأ لأنه لا يجب عليه ولا يستحب أن يقرأ جميع ما تيسر له من القرآن قاله ابن فرحون، وهو محمول على الفاتحة بأدلة أخرى على اشتراط قراءتها أو على من لم يحفظ الفاتحة فإنه يقرأ ما تيسر من غيرها (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا) حتى هنا مقدرة بإلى أن وراكعًا نصب على الحال من الضمير في تطمئن (ثم ارفع حتى تستوي قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا) نصب على الحال كسابقها من ضمائر الأفعال قبلها (ثم افعل ذلك في صلاتها كلها) أكد الصلاة بكلها لأنها أركان متعددة ويحتمل أن يريد بقوله في صلاتك جنس جميع الصلوات على اختلاف أوقاتها وأسمائها.
(وقال أبو أسامة): حماد بن أسامة مما وصله في كتاب الأيمان والنذور (في) اللفظ (الأخير)
وهو حتى تطمئن جالسًا (حتى تستوي قائمًا) وأراد المؤلّف بهذا الإشارة إلى أن راوي الأولى خولف وأن الثانية عنده أرجح.
6252 - حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِى يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِى سَعِيدٌ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا».
وبه قال: (حدّثنا ابن بشار) بالمعجمة محمد قال: (حدثني) بالإفراد (يحيى) بن سعيد القطان (عن عبيد الله) بضم العين العمري أنه قال: (حدثني) بالإفراد (سعيد) المقبري (عن أبيه) كيسان (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا) كذا ساقه هنا مختصرًا وأورده في الصلاة بتمامه، واستدلّ به كثيرون على وجوب الطمأنينة لأنه لما علمه صفة الصلاة صرح له بالطمأنينة فدلّ على اعتبارها وأمره بها فدلّ على وجوبها. قال في العمدة: ولا علقة لمن منع وجوب الطمأنينة بجعل الطمأنينة غاية في الركوع والسجود وغيرهما مما ذكر في الحديث في الدلالة على دعواه، فإن الغاية في دخولها أقوال مشهورة فمن يقول الغاية لا تدخل مطلقًا ولو كانت من جنس ما قبلها كإمامنا الشافعي أن يقول: الطمأنينة ليست واجبة لأنا نقول هذه مغالطة وبيانه من وجوه.
أحدها: أنه قيد بالحال وهو راكعًا وساجدًا وجالساً فالغاية داخلة قطعًا بصريح التقييد لفظًا بالحال.
الثاني: أنه لو لم يقيده بالحال كان داخلاً باللازم

(9/145)


لأنه أمر مغيا بفعل آخر من المأمور فلا بد من وجوده لتحقق الغاية.
الثالث: أن الغاية هنا صدق الطمأنينة وإنما تصدق بوجودها اهـ.
وقد سبق في الصلاة مزيد مباحث للحديث، والغرض هنا ما يتعلق بالترجمة، وغرض البخاري أن رد السلام ثبت بتقديم السلام على عليك فيقال في الابتداء والرد السلام عليك لأن السلام اسم الله فينبغي أن لا يقدم عليه شيء، وعن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال: عليك السلام لم يجز، وثبت أيضًا فيقول عليك السلام وبلفظ الإفراد. وقال بعضهم: لا يقتصر على الإفراد بل يأتي بصيغة الجمع ففي الأدب المفرد من طريق معاوية بن قرة قال لي أبي: إذا مرّ بك الرجل فقال: السلام عليكم فلا تقل وعليك السلام فتخصهُ وحده وسنده صحيح، ولو وقع الابتداء بلفظ الجمع فلا يكفي الرد بالإفراد لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم فلا يكون امتثل الرد بالمثل فضلاً عن الأحسن كما نبه عليه الشيخ تقيّ الدين. وقال آخرون: لا يحذف الواو في الردّ بل يجيب بواو العطف فيقول: وعليك. وقال قوم: يكفي في الجواب أن يقتصر على عليك بغير لفظ السلام.
قال النووي: الأفضل أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلّم عليه واحدًا ويقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويأتي بواو العطف في قوله وعليكم، وأقل السلام أن يقول السلام عليكم فإن قال: السلام عليك حصل أيضًا، وأما الجواب فأقله وعليك السلام أو وعليكم السلام، فإذا حذف الواو أجرأه واتفقوا على أنه لو قال في الجواب: عليكم لم يكن جوابًا فلو قال: وعليكم بالواو فهل يكون جوابًا؟ فيه وجهان. وقال الواحدي في تعريف السلام وتنكيره بالخيار، وقال النووي: بالألف واللام أولى، ولو تلاقى رجلان وسلم كل واحد منهما على صاحبه دفعة واحدة أو أحدهما بعد الآخر فقال القاضي حسين وأبو سعيد المتولي: يصير كل واحد منهما مبتدئًا بالسلام فيجب على كل واحد أن يرد على صاحبه.
وقال الشاشي: فيه نظر فإن هذا اللفظ يصلح للجواب فإذا كان أحدهما بعد الآخر كان جوابًا وإن كان دفعة واحدة لم يكن جوابًا قال: وهو الصواب فإذا قال المبتدئ: وعليكم السلام قال المتولي لا يكون ذلك سلامًا فلا يستحق جوابًا، ولو قال بغير واو فقطع الواحدي بأنه سلام يتحتم على المخاطب به الجواب وإن كان قد قلب اللفظ المعتاد وهو الظاهر وقد جزم به إمام الحرمين اهـ.
فإن قلت: ما الفرق بين قولك سلام عليكم والسلام عليكم؟ أجيب: بأنه لا بدّ للمعرف باللام من معهود إما بخارجي أو ذهني، فإن قيل بالأول كان المراد الذي سلمه آدم عليه السلام على الملائكة في قوله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لآدم: اذهب فسلم على أولئك النفر فإنها تحيتك وتحية ذريتك، وإن قيل بالثاني كان من جنس السلام الذي يعرف كل واحد من المسلمين أنه هو فيكون تعريضًا للفرق بين توارد السلامين معًا وبين ترتب أحدهما على الآخر، وذلك أنه إذا تواردا كان الإشارة منهما إلى أحد المعنيين المذكورين فلا يحصل الردّ وإذا تأخر كان المشار إليه ما تلفظ به المبتدئ فيصح الرد وكأنه قال: السلام الذي وجهته إليَّ فقد رددته عليك، وقد ذهب إلى مثل هذا الفرق في التعريف والتنكير الزمخشري في سورة مريم في قول عيسى {والسلام عليّ} وقد جرت عادة بعضهم بالسلام عند المفارقة فهل يجب الرد أم لا؟ قال القاضي حسين والمتولي: يستحب لأنه دعاء ولا يجب لأن التحتية إنما تكون عند اللقاء لا عند الانصراف، وأنكره الشاشي وقال: السلام سنّة عند الانصراف كما هو سنّة عند اللقاء فكما يجب الردّ عند اللقاء كذلك عند الانصراف وهذا هو الصحيح.

(تنبيه):
إذا سلم على أصم فيتلفظ بالسلام لقدرته عليه ويشير باليد ليحصل الإفهام ويستحق الجواب، فلو لم يجمع بينهما لا يستحق الجواب، ولو سلم عليه أصم فيتلفظ بالرد ويشير باليد، ولو سلم على أخرس وأشار الأخرس باليد سقط الفرض لأن إشارته قائمة مقام العبارة، وكذا لو
سلم عليه أخرس بالإشارة يستحق الجواب،

(9/146)


ولو سلم على صبي لا يجب على الصبي الردّ لأنه ليس من أهل الفرض، ولو سلم الصبي على البالغ وجب الرد على الصحيح، ولو سلم بالغ على جماعة فيهم صبي فردّ الصبي وحده لا يسقط به عن الباقين، وإذا سلم عليه إنسان ثم لقيه عن قرب سن له أن يسلم عليه ثانيًا وثالثًا فأكثر لحديث المسيء صلاته، ويكره السلام إذا كان المسلم عليه مشتغلاً بالبول والجماع ونحوهما، ولو سلم لا يستحق جوابًا، وكذا إن كان ناعسًا أو نائمًا أو مصليًّا أو في حال الأذان والإقامة أو في حمام أو نحو ذلك، أو في فمه لقمة يأكلها، ولو سلم على أجنبية جميلة يخاف الافتتان بها لو سلم عليها لم يجز لها رد الجواب ولا تسلم هي عليه فإن سلمت لا يرد عليها فإن أجابها كره له اهـ ملخصًا من أذكار النووي.

19 - باب إِذَا قَالَ فُلاَنٌ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ
هذا (باب) بالتنوين (إذا قال) شخص لآخر: (فلان يقرئك السلام) بضم التحتية من أقرأ، ولأبي ذر عن الكشميهني: يقرأ عليك السلام بفتح التحتية.
6253 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ: حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا: «إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ» قَالَتْ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا زكريا) بن أبي زائدة الكوفي (قال: سمعت عامرًا) الشعبي (يقول: حدثني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (أن عائشة -رضي الله عنها- حدثته أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها):
يا عائشة (إن جبريل يقرؤك السلام) بضم التحتية ولأبي ذر يقرأ بفتحها عليك السلام. قال النووي: يعني يقرأ السلام عليك وقال غيره: كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويرده (قالت: وعليه السلام ورحمة الله). ولما بلغ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خديجة عن جبريل سلام الله تعالى عليها قالت: إن الله هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام رواه الطبراني، وزاد النسائي من حديث أنس وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ففيه استحباب الردّ على المبلغ، وفي النسائي عن رجل من بني تميم أنه بلغ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سلام أبيه فقال له: وعليك وعلى أبيك السلام. قال الحافظ ابن حجر: لم أر في شيء من طرق حديث عائشة أنها ردت على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدلّ على أنه غير واجب. وقال النووي: في هذا الحديث مشروعية إرسال السلام ويجب على الرسول تبليغه لأنه أمانة، وعورض بأنه بالوديعة أشبه، والتحقيق أن الرسول إن التزمه أشبه الأمانة وإلاّ فوديعة والوديع إذا لم يقبل لم يلزمه شيء. قال: وفيه أن من أتاه شخص بسلام شخص أو في ورقة وجب الرد على الفور.
والحديث سبق قريبًا.

20 - باب التَّسْلِيمِ فِى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ
(باب) حكم (التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين).
6254 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَخْبَرَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَهْوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِى بَنِى الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى مَرَّ فِى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَفِى الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ، أَيُّهَا الْمَرْءُ لاَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا فِى مَجَالِسِنَا وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: اغْشَنَا فِى مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا فَلَمْ يَزَلِ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَفِّضُهُمْ ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ: «أَىْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ»؟ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاصْفَحْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِى أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُونَهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِى أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْهُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) الرازي الصغير قال: (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني (عن معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عروة بن الزبير) أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أسامة بن زيد) -رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ركب حمارًا عليه إكاف) بكسر الهمزة كالبرذعة ونحوها لذوات الحافر (تحته قطيفة) بفتح القاف كساء له خمل (فدكية) بالفاء والدال المهملة نسبة إلى فدك بفتحتين مدينة بعيدة عن المدينة بيومين (وأردف وراءه أسامة بن زيد وهو يعود سعد بن عبادة) من مرض كان به (في بني الحارث بن الخزرج وذلك قبل وقعة بدر حتى مرّ في مجلس فيه أخلاط) ناس مختلطون (من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان) بالمثلثة (واليهود) بالجر عطفًا على سابقه (وفيهم عبد الله بن أبي) بضم الهمز والتنوين (ابن سلول) بفتح المهملة اسم أمه فلا ينصرف (وفي المجلس عبد الله بن رواحة) بفتح الراء والحاء المهملة (فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة) غبارها الذي تثيره (خمّر) غطى (عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال) عبد الله بن أبي: (لا تغبروا) بالموحدة لا تثيروا الغبار (علينا فسلم عليهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول) للنبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أيها المرء لا)
شيء (أحسن من هذا) الذي تدعو إليه (إن كان ما تقول حقًّا فلا تؤذنا) به

(9/147)


(في مجالسنا وارجع) بالواو ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ارجع (إلى رحلك) بالحاء المهملة منزلك (فمن جاءك منا فاقصص عليه. قال ابن رواحة): ولأبي الوقت قال عبد الله بن رواحة (اغشنا) بالغين والشين المفتوحة المعجمتين أي باشرنا به يا رسول الله (في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود) لذلك (حتى هموا) قصدوا (أن يتواثبوا) بالمثلثة بعدها موحدة يتحاربوا ويتضاربوا (فلم يزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخفضهم) يسكتهم (حتى سكتوا ثم ركب) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (دابته) فسار (حتى دخل على سعد بن عبادة) لعيادته (فقال):
(أي سعد ألم تسمع ما) ولأبي ذر: إلى ما (قال أبو حباب): بضم المهملة وتخفيف الموحدة (يريد) عليه الصلاة والسلام (عبد الله بن أبي قال: كذا وكذا. قال) سعد: (اعف عنه يا رسول الله واصفح فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك) من الرسالة (ولقد اصطلح أهل هذه البحرة) بفتح الموحدة وسكون المهملة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي البحيرة بضم الموحدة وفتح المهملة القرية والعرب تسمي القرى البحار وقال الجوهري: البحرة دون الوادي والمراد طيبة (على أن يتوّجوه) أي عبد الله بن أبي بتاج الملك (فيعصبونه) بالفاء والنون ولأبي ذر فيعصبوه (بالعصابة) حقيقة أو كناية عن جعله ملكًا وهما ملازمان للملكية (فلما ردّ الله ذلك) الذي اصطلحوا عليه (بالحق الذي أعطاك شرق) بفتح المعجمة وكسر الراء غص ابن أبي (بذلك) الحق (فذلك) الحق الذي (فعل به ما رأيت) من فعله (فعفا عنه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الحديث.
وسبق بأتمّ من هذا قريبًا، والغرض منه قوله: أنه مرّ في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود وأنه سلم عليهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يرد أنه خصّ المسلمين باللفظ ففيه أنه يسلم بلفظ التعميم ويقصد به المسلم، وقد اختلف في حكم ابتداء الكافر بالسلام هل يمنع منه، ففي مسلم من حديث أبي هريرة: لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام واضطروهم إلى أضيق الطرق، وفي النسائي عن أبي بصرة الغفاري بفتح الموحدة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إني راكب غدًا إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام" وقال: يجوز ابتداؤهم به لما عند الطبري من طريق ابن عيينة قال: يجوز ابتداء الكافر بالسلام لقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} [الممتحنة: 8] وقول إبراهيم لأبيه: سلام عليك، والمعتمد الأول وأن النهي للتحريم.
وأجيب: بأنه ليس المراد بسلام إبراهيم على أبيه التحية بل المتاركة والمباعدة وقال ابن كثير: هو كما قال الله تعالى في صفة المؤمنين {إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} [الفرقان: 63] فمعنى قول إبراهيم لأبيه سلام عليك أي أمان فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوّة اهـ.
لكن المراد منع ابتدائهم بالسلام المشروع فلو سلّم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه كأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فسائغ كما كتب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى هرقل: سلام على من
اتّبع الهدى، ونقل ابن العربي عن مالك إذا ابتدأ شخصًا بالسلام وهو يظنه مسلمًا فبان كافرًا قال ابن عمر: يسترد منه سلامه، وقال مالك: لا، قال ابن العربي: لأن الاسترداد حينئذ لا فائدة له لأنه لم يحصل له منه شيء لكونه قصد السلام على المسلم، وقال غيره: له فائدة وهي إعلام الكافر بانه ليس أهلاً للابتداء بالسلام.
وحديث الباب سبق في الأدب وغيره.

21 - باب مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَلَمْ يَرُدَّ سَلاَمَهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ الْعَاصِى؟
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لاَ تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ.
(باب من لم يسلم على من اقترف ذنبًا) اكتسبه (ومن لم يرد سلامه) وهو مذهب الجمهور.
نعم إن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم كذا قال النووي، قال ابن العربي: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله فكأنه قال: الله رقيب عليهم وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة ككثرة المزاح وفحش القول فلا يرد على أحد سلامه (حتى تتبين توبته) تأديبًا له (وإلى متى تتبين توبة العاصي) المعتمد أن ذلك ليس فيه حدّ محدود وليس

(9/148)


يظهر من يومه ولا ساعته بل حتى يمر عليه ما يدل لذلك.
(وقال عبد الله بن عمرو): بفتح العين مما وصله في الأدب المفرد (لا تسلموا على شربة الخمر) بفتح المعجمة والراء والموحدة واعترضه السفاقسي بأن اللغويين لم يسمعوه كذلك بل شارب وشرب كصاحب وصحب. وأجيب: بأنهم قالوا: فسقة وكذبة في جمع فاسق وكاذب، وعند سعيد بن منصور عن ابن عمر: لا تسلموا على من يشرب الخمر ولا تعودهم إذا مرضوا ولا تصلّوا عليهم إذا ماتوا، لكن سنده ضعيف وهو عند ابن عدي بسند أضعف منه عن ابن عمر مرفوعًا.
6255 - حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍؤ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ كَلاَمِنَا وَآتِى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ فِى نَفْسِى هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ أَمْ لاَ؟ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً، وَآذَنَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ.
وبه قال: (حدّثنا ابن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين المهملة وفتح القاف ابن خالد (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم (عن عبد الرحمن بن عبد الله) ولأبي ذر زيادة ابن كعب (أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن
مالك) حال كونه (يحدث حين تخلّف عن تبوك) أي من غزوتها (ونهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) المسلمين (عن كلامنا وآتي) بمدّ الهمزة وكسر الفوقية (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) معطوف على جملة من الكلام حذفها لروايته له كذا أو لغرض الاختصار والإتيان بالمراد منه (فأسلم عليه فأقول في نفسي هل حرك شفتيه بردّ السلام) عليّ (أم لا)؟ لأنه لم يكن يديم النظر إليه من كثرة حيائه (حتى كملت) بفتح الميم (خمسون ليلة) من حين نهى-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن كلامنا (وآذن) بمدّ الهمزة وفتح المعجمة أعلم، وللكشميهني وأذن بالقصر وكسر المعجمة (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتوبة علينا حين صلّى الفجر) الحديث.
وسبق بتمامه في المغازي والغرض منه ما ترجم له، وهو ترك السلام تأديبًا وترك الردّ أيضًا وهو ما يخص به عموم الأمر بإفشاء السلام.

22 - باب كَيْفَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ السَّلاَمُ؟
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (كيف يردّ) بضم التحتية وفتح الراء (على أهل الذمة) بالمعجمة اليهود والنصارى (السلام) ولأبي ذر: كيف الردّ بالسلام.
6256 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَقَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (عروة) بن الزبير (أن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: السام عليك) ولم يعرف الحافظ ابن حجر أسماء اليهود المذكورين لكنه قال: أخرج الطبراني بسند ضعيف عن زيد بن أرقم قال: بينا أنا عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ أقبل رجل من اليهود اسمه ثعلبة بن الحارث فقال: السام عليك يا محمد فإن كان محفوظًا احتمل أن يكون أحد الرهط المذكورين وكان هو الذي باشر السلام عنهم كما جرت العادة من نسبة القول إلى الجماعة والمباشر له واحد منهم لأن اجتماعهم ورضاهم به في قوة مشاركته في النطق والسام بالمهملة والألف الساكنة وتخفيف الميم الموت وألفه منقلبة عن واو. وقالت عائشة: (ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة) أطلقت اللعنة عليهم إما لأنها ترى جواز لعن الكافر المعين باعتبار الحالة الراهنة وإما لأنها تقدم لها علم بأن المذكورين يموتون على الكفر (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(مهلاً يا عائشة) وزعم بعضهم أن أصله مه زيدت فيه لا (فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا)؟ بفتح واو أو لم (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد قلت وعليكم)
بإثبات الواو والجمع دون لفظ السلام والمعنى وعليكم أيضًا أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت فهو عطف على قولهم أو الواو للاستئناف أي وعليكم ما تستحقونه من الذم ومباحث ذلك في التالي لهذا. وقال النووي: اتفقوا على الردّ على أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم وعليكم السلام بل يقال لهم عليكم فقط أو عليكم.
والحديث سبق في كتاب الأدب في باب لم يكن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاحشًا.
6257 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمُ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ: وَعَلَيْكَ». [الحديث 6258 - طرفه في: 6926].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ

(9/149)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا سلّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك فقل) في الرد (وعليك) بالإفراد فيهما وبإثبات الواو في الثاني، وسقطت عند جميع رواة الموطأ. نعم أخرجه المؤلّف في استتابة المرتدين من طريق يحيى القطان عن مالك والثور جميعًا عن عبد الله بن دينار بلفظ: قل عليك بغير واو، ولكن وقع في رواية السرخسي وحده فقل عليكم بصيغة الجمع بغير واو وأيضًا وهو عند النسائي من طريق ابن عيينة عن عبد الله بن دينار بغير واو بصيغة الجمع، وقال النووي: وقد جاءت الأحاديث في مسلم بالحذف والإثبات وأكثر بالإثبات، ويحتمل أن تكون للعطف وأن تكون للاستئناف كما مرّ واختار بعضهم الحذف لأن العطف يقتضي التشريك، وتقريره أن الواو في مثل هذا التركيب تقتضي تقرير الجملة الأولى وزيادة الثانية عليها كمن قال: زيد كاتب فقلت وشاعر فإنه يقتضي ثبوت الوصفين لزيد. قال النووي: والصواب أن الحذف والإثبات جائزان والإثبات أجود ولا مفسدة فيه لأن السام الموت وهو علينا وعليهم فلا ضرر فيه. وقال البيضاوي: في العطف مقدر لم وأقول عليكم ما تريدون بنا أو ما تستحقون وليس عطفًا على عليكم في كلامهم وإلاّ لتضمن ذلك تقرير دعائهم، ولذا قال: فقل عليك بغير واو، وقد روي بالواو أيضًا. قال الطيبي: سواء عطف على عليكم أو على الجملة من حيث هي لأن المعنى يدور مع إرادة المتكلم فإذا أردت الاشتراك كان ذلك وإن لم ترد حملت على معنى الحصول والوجود كأنه قيل حصل منهم ذاك ومني هذا. قال ابن الحاجب: حروف العطف هي الحروف التي يشرك بها بين المتبوع والتابع في الإعراب فإذا وقعت بعدها المفردات فلا إشكال وإذا وقعت الجمل بعدها، فإن كانت من الجمل التي هي صالحة لمعمول ما تقدم كان حكمها حكم المفرد في التشريك كقولك: أصبح زيد قائمًا وعمرو قاعدًا وشبهه، وإن كانت الجمل معطوفة على غير ذلك كقولك: قام زيد وخرج عمرو فمثل ذلك المراد به حصول مضمون الجملتين حتى كأنه قال: حصل قيام زيد وخروج عمرو وبهذا يتبين أن معنى الواو على ما ذكرناه من تقدير حصول الأمرين ثم كلامه
هذا على تقدير أن يكونا جملتين وعطفت إحداهما على الأخرى وإذا عطفت على الخبر نظرًا إلى عطف الجملة لا على الاشتراك جاز أيضًا. قال ابن جني في قوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6] أن قوله والسماء رفعها عطف على يسجدان وهو جملة من فعل وفاعل نحو قولك: قام زيد وعمرًا ضربته. وقال ابن الحاجب: في الأمالي في قوله تعالى {تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح: 16] الرفع فيه وجهان. أحدهما أن يكون مشتركًا بينه وبين تقاتلونهم في العطف، والآخر أن تكون جملة مستقلة معطوفة على الجملة التي قبلها باعتبار الجملة لا باعتبار الإفراد. وقال في الشرح: الرفع على الاشتراك أو على الابتداء بجملة معربة إعراب نفسها غير مشترك بينها وبين ما قبلها في عامل واحد إذ الجملة الاسمية لا تكون معطوفة على جملة فعلية باعتبار التشريك ولكن باعتبار الاستقلال ذكره في شرح المشكاة.
6258 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ».
وبه قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) أبو الحسن العبسي مولاهم الكوفي الحافظ قال: (حدّثنا هشيم) بضم الهاء وفتح المعجمة ابن بشير الواسطي السلمي حافظ بغداد قال: (أخبرنا عبد الله) بضم العين (ابن أبي بكر بن أنس حدّثنا أنس بن مالك) يعني جدّه (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا سلّم عليكم أهل الكتاب) اليهود والنصارى (فقولوا) لهم في الردّ (وعليكم) وروي هذا الحديث بأتمّ منه عن قتادة عن أنس من طريق شعبة عند مسلم وأبي داود والنسائي بلفظ: إن أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: إن أهل الكتاب يسلّمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال: قولوا وعليكم. وفي مسلم من حديث جابر قال: سلّم ناس من اليهود على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: السام عليكم. قال: وعليكم. قالت عائشة: وغضبت أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: بلى قد رددت عليهم نجاب فيهم ولا يجابون فينا. وقال بعضهم: يقول في

(9/150)


الرد عليهم السلام بكسر السين، واعترضه أبو عمر بأنه لم يشرع لنا سب أهل الذمة. والحديث من أفراده.

23 - باب مَنْ نَظَرَ فِى كِتَابِ مَنْ يُحْذَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ
(باب من نظر في كتاب من يحذر) مبني للمفعول (على المسلمين) منه (ليستبين أمره).
6259 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ حَدَّثَنِى حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِىِّ، عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِىَّ وَكُلُّنَا فَارِسٌ فَقَالَ «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا
رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ» قَالَ: فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ: لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قُلْنَا أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِى مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِى كِتَابٌ فَأَنَخْنَا بِهَا فَابْتَغَيْنَا فِى رَحْلِهَا، فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا قَالَ صَاحِبَاىَ: مَا نَرَى كِتَابًا قَالَ: قُلْتُ لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالَّذِى يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لأُجَرِّدَنَّكِ قَالَ: فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنِّى أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا وَهْىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتِ الْكِتَابَ قَالَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ»؟ قَالَ: مَا بِى إِلاَّ أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا غَيَّرْتُ وَلاَ بَدَّلْتُ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلاَّ وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: «صَدَقَ فَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا» قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِى فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ قَالَ فَقَالَ «يَا عُمَرُ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ» قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن بهلول) بضم الموحدة وسكون الهاء التيمي الكوفي قال: (حدّثنا ابن إدريس) عبد الله الأودي قال: (حدثني) بالإفراد (حصين بن عبد الرحمن) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين (عن سعد بن عبيدة) بضم العين وفتح الموحدة ختن أبي عبد الرحمن السلمي (عن أبي عبد الرحمن السلمي) بضم السين وفتح اللام (عن علي -رضي الله عنه-) أنه (قال: بعثني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والزبير بن العوّام وأبا مرثد) بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة (الغنوي) بفتح الغين المعجمة والنون وكسر الواو وسبق في الجهاد بدل قوله هنا أبا مرثد والمقداد ولا منافاة لاحتمال اجتماعهما إذ التخصيص بالذكر لا ينفي الغير (وكلنا فارس فقال):
(انطلقوا) بكسر اللام (حتى تأتوا روضة خاخ) بمعجمتين بينهما ألف موضع بين مكة والمدينة (فإن بها امرأة من المشركين) اسمها سارة (معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين) أي إلى ناس من المشركين ممن بمكة كما في رواية سورة الممتحنة (قال) علي رضي الله عنه: (فأدركنها تسير على جمل لها حيث قال لنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال قلنا) لها (أين الكتاب الذي معك؟ قالت: ما معي كتاب فأنخنا بها) جملها (فابتغينا) فطلبنا الكتاب (في رحلها) بالحاء المهملة في متاعها (فما وجدنا شيئًا. قال صاحباي): الزبير وأبو مرثد (ما نرى كتابًا. قال) عليّ (قلت لقد علمت ما كذب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والذي يحلف به لتخرجنّ الكتاب) بضم الفوقية وكسر الراء والجيم وتشديد النون (أو لأجردنك) من ثيابك (قال) عليّ -رضي الله عنه- (فلما رأت الجدّ مني) بكسر الجيم وتشديد المهملة (أهوت بيدها إلى حجزتها) بضم الحاء المهملة وسكون الجيم بعدها زاي معقد إزارها (وهي محتجزة بكساء فأخرجت الكتاب).
فإن قلت: سبق في باب الجاسوس من كتاب الجهاد أنها أخرجته من عقاصها أي شعرها وهنا قال: من حجزتها. أجيب: بأنه ربما كان في الحجزة أولاً فأخرجته وأخفته في العقاص فأخرج منها ثانيًا أو بالعكس.
(قال: فانطلقنا به إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) لحاطب: (ما حملك يا حاطب على ما صنعت؟ قال: ما بي إلا أن كون مؤمنًا بالله ورسوله) بكسر الهمزة وتشديد اللام على الاستئناف وللكشميهني أن لا بفتح الهمزة (وما غيّرت) ديني يريد أنه لم يرتد عن الإسلام (وما بدلت) بتشديد المهملة (أردت أن تكون لي عند القوم يد) منّة ونعمة (يدفع الله بها عن أهلي ومالي) الذي بمكة (وليس من أصحابك) أحد له (هناك) أهل ومال (إلا وله من يدفع الله به عن أهله وماله قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (صدق فلا تقولوا له إلاّ خيرًا قال: فقال عمر بن الخطاب: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فأضرب عنقه) بالنصب والفاء أوله وللكشميهني أضرب بإسقاط الفاء والجزم (قال) علي -رضي الله عنه-: (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يا عمر وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر) الذين شاهدوا وقعتها (فقال) مخاطبًا لهم خطاب تكريم (اعملوا ما شئتم ففد وجبت لكم الجنة) بالمغفرة في الآخرة وإلاّ فلو توجه على أحد منهم حدّ أو حق استوفي منه في الدنيا (قال: فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم). وقول عمر -رضي الله عنه- مع قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا تقولوا إلا خيرًا يحمل على أنه لم يسمع ذلك، أو كان قوله قبل قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاله السفاقسي ويحتمل أن يكون عمر لشدته في أمر الله وحمل النهي على ظاهره من منع القول السيئ له ولم في ذلك مانعًا من إقامة ما وجب عليه من العقوبة للذنب الذي ارتكبه فبين -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه صادق في اعتذاره فإن الله عفا عنه، وفيه جواز النظر في كتاب الغير إذا كان طريقًا إلى دفع

(9/151)


مفسدة هي أكبر من مفسدة النظر، فحديث ابن عباس المروي عند أبي داود بسند ضعيف من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكما ينظر في النار إنما هو في حق من لم يكن متهمًا على المسلمين، وأما من كان متهمًا فلا حرمة له، والحاصل أنه يخص منه ما يتعين طريقًا إلى دفع المفسدة كما مرّ والحديث مرّ مرارًا.

24 - باب كَيْفَ يُكْتَبُ الْكِتَابُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ؟
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (كيف يكتب الكتاب إلى أهل الكتاب) اليهود والنصارى وسقط لفظ الكتاب الأول لأبي ذر.
6260 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّامِ، فَأَتَوْهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي (أبو الحسن) قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس أخبره أن أبا سفيان) صخر (بن حرب أخبره أن هرقل) لقبه قيصر (أرسل إليه) حال كونه (في) أي مع (نفر من قريش وكانوا تجارًا) بكسر الفوقية وتخفيف الجيم (بالشام فأتوه فذكر الحديث) السابق في أول هذا الجامع وفي مواضع أُخر إلى أن (قال: ثم دعا) هرقل من يأتيه (بكتاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقرئ فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم) أهل (الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد) الحديث إلى آخره وليس المراد منه التحية لأنه لم يسلم فليس هو ممن اتبع الهدى فهو سلام مقيد لا تمسك به لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، وفيه جواز كتابة البسملة إلى أهل الكتاب وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه.

25 - باب بِمَنْ يُبْدَأُ فِى الْكِتَابِ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (بمن يبدأ في الكتاب) بضم التحتية وسكون الموحدة وفتح المهملة أي بنفسه أو بالمكتوب إليه.
6261 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه -، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِى سَلَمَةَ: عَنْ أَبِيهِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «نَجَرَ خَشَبَةً فَجَعَلَ الْمَالَ فِى جَوْفِهَا وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَحِيفَةً مِنْ فُلاَنٍ إِلَى فُلاَنٍ».
(وقال الليث) بن سعد الإمام مما وصله المؤلّف في الأدب المفرد (حدثني) بالإفراد (جعفر بن ربيعة) الكندي (عن عبد الرحمن بن هرمز) الأعرج (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل) سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار إلى أجل فقال: ائتني بكفيل قال: الله فأعطاه الألف فلما بلغ الأجل وأراد الخروج إليه وحبسه الريح (أخذ خشبة فنقرها) أي فحفرها (فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه) الذي أقرضه وهو النجاشي كما مرّ في الكفالة (وقال عمر بن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبيه) أنه (سمع أبا هريرة) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي عن أبي هريرة يقول: (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(نجر خشبة) بالنون والجيم المفتوحتين والراء ولأبي ذر عن الكشميهني: نقر خشبة بالقاف (فجعل المال) وهو الألف دينار (في جوفها وكتب إليه صحيفة من فلان إلى فلان) فقدم الكاتب اسمه على المكتوب له، ولعل البخاري خصّ سياق هذا الحديث لعدم وجدانه ما هو على شرطه وهو على قاعدته في الاحتجاج بشرع من قبلنا إذ لم ينكر ولا سيما إذا ذكر في مقام المدح لفاعله،
وعند أبي داود من طريق ابن سيرين عن أبي العلاء بن الحضرمي عن العلاء أنه كتب إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبدأ بنفسه.

26 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قوموا إلى سيدكم).
6262 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِى أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِ فَجَاءَ فَقَالَ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ -أَوْ قَالَ- خَيْرِكُمْ» فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ: «فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ» فَقَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَفْهَمَنِى بَعْضُ أَصْحَابِى عَنْ أَبِى الْوَلِيدِ مِنْ قَوْلِ أَبِى سَعِيدٍ إِلَى حُكْمِكَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سعد بن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قاضي المدينة (عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف) بضم الحاء المهملة وفتح النون وبعد التحتية الساكنة فاء الأنصاري (عن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- (أن أهل قريظة) بضم القاف وفتح الراء وبالظاء المعجمة قبيلة من يهود (نزلوا) من حصنهم بعد أن حاصرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (على حكم سعد) هو ابن معاذ (فأرسل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليه) وكان وجعًا لما رمي في أكحله (فجاء فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأنصار خاصة أو لجميع من حضر من المهاجرين معهم:
(قوموا إلى سيدكم أو قال خيركم) توقيرًا وإكرامًا ففيه إكرام أهل الفضل من علم أو صلاح أو شرف بالقيام لهم أو المراد قوموا إليه

(9/152)


لتعينوه على النزول عن الحمار وترفقوا به فلا يصيبه ألم وحذرًا من انفجار عرقه قاله التوربشتي. قال: ولو أراد الإكرام لقال لسيدكم باللام بدل إلى. وأجاب الطيبي بأن إلى في هذا المقام أفخم من اللام كأنه قيل: قوموا واذهبوا إليه تلقيًا وكرامة يدل عليه ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية فإن قوله: إلى سيدكم علة للقيام له وليس ذلك إلا لكونه شريفًا كريمًا عليّ القدر اهـ.
نعم في مسند أحمد عن عائشة من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ فلما طلع قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قوموا إلى سيدكم فأنزلوه" وسنده حسن، وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه وقد منع قوم القيام تمسكًا بحديث أبي أمامة: خرج علينا النبي متوكئًا على عصا فقمنا له فقال: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض" وأجيب بضعفه واضطراب سنده وفيه من لا يعرف، وفي حديث
عبد الله بن بريدة عن معاوية عند الحاكم: ما من رجل يكون على الناس يقوم على رأسه الرجال يحب أن تكثر عنده الخصوم فيدخل الجنة. وعند أبي داود عن معاوية سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار" وسئل مالك عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا، فإن هذا فعل الجبابرة.
وأجاب الخطابي عن قوله: من أحب أن يقام له أي بأن يلزمهم بالقيام له صفوفًا على طريق الكبر. وقال غيره: إن المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس. وعورض بأن سياق حديث معاوية على خلاف ذلك وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيمًا له وبأن هذا لا يقال له القيام للرجل، وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل. اهـ.
وفي حديث أنس عند الطبراني وقال: إنما هلك من كان قبلكم فإنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود، وعن أبي الوليد بن رشد أن القيام يكون على أربعة أوجه: محظور لمن يريد أن يقام له تكبرًا وتعظيمًا على القائمين له، ومكروه لمن لا يتكبر ولا يتعاظم ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر ولما فيه من التشبه بالجبابرة، وجائز على سبيل الاحترام والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة، ومندوب لمن قدم من سفره فرحًا بقدومه ليسلم عليه أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها أو لحاكم في محل ولايته كما دلّ عليه قصة سعد فإنه لما استقدمه النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حاكمًا في بني قريظة فرآه مقبلاً قال: قوموا إلى سيدكم وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه، فأما اتخاذه ديدنًا فمن شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن أحب إليهم من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك والله الموفق.
ومباحث المسألة فيها طول يخرج عن الغرض، ولشيخ الإسلام النووي جزء في ذلك، ولأبي عبد الله بن الحاج في ذلك كلام متين جليل والله يهدينا سواء السبيل، والشك في قوله أو قال خيركم من الراوي.
(فقعد) سعد (عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) له: يا سعد (هؤلاء) أهل قريظة (نزلوا) من حصنهم (على حكمك قال) سعد (فإني أحكم) فيهم (أن تقتل مقاتلتهم) أي الطائفة المقاتلة من الرجال (وتسبى ذراريهم) بالمعجمة التحتية وتخفف جمع ذرية أي النساء والصبيان (فقال) له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لقد حكمت) فيهم (بما حكم به الملك) جل وعلا بكسر اللام وهو الله، وروي بفتحها أي بحكم جبريل الذي جاء به من عند الله.
(قال أبو عبد الله) المؤلّف -رحمه الله- (أفهمني بعض أصحابي) قال في فتح الباري: يحتمل أن يكون محمد بن سعد كاتب الواقدي فإنه أخرجه في الطبقات (عن أبي الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ المؤلّف في هذا الحديث بسنده (من قول أبي سعيد) الخدري من أول الحديث

(9/153)


(إلى)
قوله فيه على (حكمك) وقال في الكواكب أي قال البخاري: سمعت أنا من أبي الوليد على حكمك، وبعض الأصحاب نقلوا عنه إلى بحرف الانتهاء بدل حرف الاستعلاء، والحديث مضى في الجهاد وفضل سعد في المغازي.

27 - باب الْمُصَافَحَةِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَّمَنِى النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ وَكَفِّى بَيْنَ كَفَّيْهِ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَامَ إِلَىَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِى وَهَنَّأَنِى.
(باب) مشروعية (المصافحة) وهي الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد (وقال ابن مسعود) عبد الله -رضي الله عنه- (علمني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التشهد وكفي بين كفيه) وصله المؤلّف في الباب الذي بعد وسقط هذا لأبي ذر (وقال كعب بن مالك): في قصة تخلفه عن تبوك (دخلت المسجد) أي بعد أن تيب عليه (فإذا برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقام إليّ) بتشديد الياء (طلحة بن عبيد الله) حال كونه (يهرول حتى صافحني وهنأني) بتوبة الله عليّ. وهذا قطعة من حديث سبق موصولاً في غزوة تبوك.
6263 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَنَسٍ: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِى أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: نَعَمْ.
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن عاصم) بفتح العين وسكون الميم ابن عبد الله البصري قال: (حدّثنا همام) هو ابن يحيى (عن قتادة) بن دعامة أنه (قال: قلت لأنس) -رضي الله عنه- (أكانت المصافحة في أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: نعم). وعن أبي أمامة عند الترمذي بسند فيه ضعف تمام تحيتكم بينكم المصافحة، وفي الأدب المفرد بسند صحيح عن أنس رفعه: قد أقبل أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة، وفي حديث أنس قيل: يا رسول الله الرجل يلقى أخاه أينحني له؟ قال: "لا" قال: فيأخذه بيده ويصافحه؟ قال: "نعم" أخرجه الترمذي وقال: حسن. وعن البراء عند أبي داود والترمذي رفعه: "ما من مسلمَين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرّقا". وزاد فيه ابن السني وتكاشرا بودّ ونصيحة، وفي رواية لأبي داود وحمدا الله واستغفراه فالمصافحة سنّة مجمع عليها عند التلاقي كما قاله النووي، لكن يستثنى من ذلك المرأة الأجنبية والأمرد الحسن.
والحديث أخرجه الترمذي في الاستئذان.
6264 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِى ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِى حَيْوَةُ قَالَ: حَدَّثَنِى أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) الجعفي الكوفي نزيل مصر (قال: حدثني) بالإفراد (ابن وهب) عبد الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد أيضًا (حيوة) بفتح الحاء المهملة والواو بينهما تحتية ساكنة ابن شريح البصري (قال: حدثني) بالإفراد أيضًا (أبو عقيل) بفتح العين المهملة وكسر القاف (زهرة بن معبد) بضم الزاي وسكون الهاء ومعبد بفتح الميم والموحدة بينهما عين مهملة ساكنة أنه (سمع جدّه عبد الله بن هشام) أي ابن زهرة بن عثمان من بني تميم بن مرّة (قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو آخذ) بمدّ الهمزة (بيد عمر بن الخطاب) الحديث اقتصر منه على الغرض هنا لأن الأخذ باليد يستلزم التقاء صفحة اليد بصفحة اليد غالبًا، وساقه بتمامه في الأيمان والنذور.

28 - باب الأَخْذِ بِالْيَدَيْنِ
وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ.
(باب الأخذ باليدين) بالتثنية، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بالإفراد، ولما كان الأخذ باليد يجوز أن يقع من غير حصول مصافحة أفرده بهذا الباب (وصافح حماد بن زيد ابن المبارك) عبد الله المروزي (بيديه) بالتثنية وصله غنجار في تاريخ بخارى من طريق إسحاق بن خلّف.
6265 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: عَلَّمَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَفِّى بَيْنَ كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ، كَمَا يُعَلِّمُنِى السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ «التَّحِيَّاتُ لِلَّه، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»، وَهْوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلاَمُ، يَعْنِى عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سيف) بسين مهملة مفتوحة وتحتية ساكنة بعدها فاء ابن سليمان أو ابن أبي سليمان المخزومي (قال: سمعت مجاهدًا) هو ابن جبر (يقول: حدثني) بالإفراد (عبد الله بن سخبرة) بفتح المهملة والموحدة بينهما معجمة ساكنة وبعد الراء هاء تأنيث (أبو معمر) بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة الأزدي الكوفي (قال: سمعت ابن مسعود) عبد الله -رضي الله عنه- (يقول: علمني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكفّي بين كفيه) بالتثنية وهو الأخذ باليدين، فيطابق الترجمة. والجملة حالية من ضمير المفعول في علمني معترضة بين الفاعل والمفعول الثاني وهو قوله (التشهد) وعند ابن أبي شيبة بتقديم التشهد على الجملة الحالية (كما يعلمني السورة) ما مصدرية والكاف نعت لمصدر محذوف أي يعلمني التشهد تعليمًا مثل تعليم السورة واختار ابن مالك أن تكون الكاف حالاً من المصدر المفهوم من

(9/154)


الفعل المتقدم المحذوف بعد الاِضمار على طريق الاتساع تقديره يعلمني التعليم مثل ما يعلمني السورة (من القرآن) من للتبعيض أو لبيان الجنس لأن كل سورة منه قرآن ويتعلق حرف الجر بحال من السورة أي السورة كائنة من القرآن (التحيات لله) جمع تحية تفعلة من الحياة بمعنى الإحياء والتبقية الدائمة،
والتحيات مبتدأ، ولله الخبر والجملة إلى آخرها محكية بدلاً من التشهد أعني مفعول علمني أو مفعولاً بفعل مقدر على الحكاية يدل عليه ما قبله أي علمني التحيات لله إلى آخره أي هذا اللفظ أو يقدر قال: قبل التحيات لله فتكون الجملة إلى آخر الحديث معمولة للقول المقدر (والصلوات) قبل المعهودات في الشرع فيقدر واجبة لله وإن أريد بها رحمته التي تفضل بها على عباده فيقدر كائنة أو ثابتة لعباد الله فيقدر مضاف محذوف (والطيبات) بحرف العطف وقدم لله عليهما، فيحتمل أن يكونا معطوفين على التحيات، ويحتمل أن تكون الصلوات مبتدأ وخبرها محذوف، والطيبات عطف عليها والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة التي قبلها، ولأبي ذر حذف الواو من والطيبات فتكون صفة للصلوات (السلام عليك أيها النبي) بالألف واللام للجنس ويدخل فيه المعهود (ورحمة الله وبركاته) معطوفان على السلام (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله) جملة في محل نصب أو جر على تقدير الباء أي بأن لا وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير منصوب محذوف والجملة بعدها خبرها والتقدير أشهد أنه لا إله إلا الله (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) عطف على سابقه ورسول فعول بمعنى مرسل وفعول بمعنى مفعل قليل. قال ابن عطية: العرب تجري رسول مجرى المصدر فتصف به الجمع والواحد والمؤنث، ومنه: أنا رسول رب العالمين. (وهو) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بين ظهرانينا) بفتح النون وسكون التحتية بعدها نون أخرى بالتثنية أي ظهري المتقدم والمتأخر أي كائن بيننا فزيدت الألف والنون للتأكيد (فلما قبض) توفي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قلنا السلام) قال البخاري (يعني على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يعني تركوا الخطاب وذكروه بلفظ الغيبة، وفي الحديث الأخذ باليد وهو مبالغة في المصافحة وهو مستحب.
واختلف في تقبيل اليد فأنكره مالك وأجازه آخرون وحملوا إنكار مالك له على ما إذا كان على وجه التكبر فإن كان لزهد أو صلاح أو علم أو شرف فجائز بل مستحب، وفي حديث أسامة بن شريك عند أبي داود بسند قوي قال: قمنا إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقبلنا يده، وفي حديث يزيد عنده في قصة الأعرابي والشجرة فقال: يا رسول الله ائذن لي أن أقبّل رأسك ورجليك فأذن له، فلو كان التقبيل لغنى أو وجاهة في الدنيا كره. وقال المتولي: لا يجوز، وللحافظ أبي بكر بن المقري جزء في تقبيل اليد، وفي الغرض جمع كتاب حافل في السلام والقيام والمصافحة والتقبيل والمعانقة أعانني الله عليه في عافية.
والحديث سبق في الصلاة.

29 - باب الْمُعَانَقَةِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟
(باب) حكم (المعانقة) وهي مفاعلة من عانق الرجل الرجل إذا جعل يديه على عنقه وضمّه إلى نفسه وليس في حديث الباب ذكر للمعانقة. نعم سبق ذكرها في البيوع في معانقته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للحسن فيحتمل كما نقله ابن بطال عن المهلب أنه قصد أن يسوقه هنا فلم يستحضر له غير السند السابق وليس من عادته غالبًا إعادة السند الواحد فأدركه الموت قبل أن يقع له ما يوافق ذلك،
فصار ما ترجم له بالمعانقة خاليًا من الحديث، وبعده باب قول الرجل كيف؟ فظن الكاتب الأول لما لم يجد بينهما حديثًا أن الباب معقود لهما فجمعهما لكن لفظ المعانقة والواو بعدها إنما ثبت لأبي ذر عن الكشميهني وسقط لغيره، وفي نسخة الحافظ عبد المؤمن الدمياطي مضروب عليهما، وعلى هذا فلا إشكال كما لا يخفى. (وقول الرجل) بالجر عطفًا على السابق الآخر (كيف أصبحت)؟.
6266 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنِى أَبِى عَنِ الزُّهْرِىِّ، أَخْبَرَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا يَعْنِى ابْنَ أَبِى طَالِبٍ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ح وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى وَجَعِهِ الَّذِى تُوُفِّىَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: أَلاَ تَرَاهُ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ الثَّلاَثِ عَبْدُ الْعَصَا، وَاللَّهِ إِنِّى لأُرَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَيُتَوَفَّى فِى وَجَعِهِ، وَإِنِّى لأَعْرِفُ فِى وُجُوهِ بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَسْأَلَهُ فِيمَنْ يَكُونُ الأَمْرُ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِى غَيْرِنَا أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا قَالَ عَلِىٌّ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَمْنَعُنَا لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَإِنِّى لاَ أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَدًا.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن راهويه كما جزم به في الفتح أو ابن منصور كما قاله الكرماني بلفظ لعله قال: (أخبرنا بشر بن شعيب)

(9/155)


بكسر الموحدة وسكون المعجمة قال: (حدثني) بالإفراد (أبي) شعيب بن أبي حمزة دينار القرشي الحمصي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الله بن كعب) أي ابن مالك الأنصاري (أن عبد الله بن عباس) -رضي الله عنهما- (أخبره أن عليًّا يعني ابن أبي طالب) -رضي الله عنه- (خرج من عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط قوله قال أخبرني عبد الله بن كعب إلى هنا لأبي ذر. قال البخاري (ح).
(وحدّثنا) بإثبات واو العطف على السابق لأبي ذر (أحمد بن صالح) أبو جعفر بن الطبري المصري الثقة الحافظ قال: (حدّثنا عنبسة) بعين مهملة وموحدة مفتوحتين بينهما نون ساكنة وبالسين المهملة آخره تاء تأنيث ابن خالد الأيلي قال: (حدّثنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الله بن كعب بن مالك) الأنصاري، وقد ثبت سماع الزهري من عبد الله بن كعب كما مرّ في الوفاة النبوية (أن عبد الله بن عباس أخبره أن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- خرج من عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس) له: (يا أبا حسن كيف أصبح رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: أصبح بحمد الله بارئًا) بالهمز في الفرع كأصله. قال ثابت: هذا على لغة أهل الحجاز يقولون برأت من المرض، وتميم يقولون بريت بالكسر يعني بغير
همز كما يروى باريًا بغير همز فيصح أن يكون على اللغتين جميعًا (فأخذ بيده) بيد علي (للعباس فقال) له: (ألا تراه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي ميتًا أي فيه علامة الموت أو الضمير للشأن لأن الرؤية ليست بصرية (أنت والله بعد الثلاث) ولأبي ذر بعد ثلاث أي بعد ثلاثة أيام (عبد العصا) أي تصير مأمور الغير بموته في وولاية غيره (والله إني لأرى) بضم الهمزة لأظن (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيتوفى) على صيغة المجهول (في وجعه) هذا (وإني لأعرف في وجوه بني عبد المطلب الموت) أي علامته (فاذهب بنا إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنسأله فيمن يكون الأمر) أي الخلافة بعده (فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا آمرناه). قال السفاقسي آمرناه بمدّ الهمزة أي شاورناه. قال: والمشهور القصر أي طلبنا منه، وفيه أن الأمر لا يشترط فيه العلوّ ولا الاستعلاء. قال في الفتح: ولعله أراد أن يؤكد عليه في السؤال حتى يصير كأنه آمر له بذلك (فأوصى بنا) الخليفة بعده (قال عليّ: والله لئن سألناها) أي الخلافة (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيمنعنا) بلفظ المضارع، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فمنعناها أي الخلافة (لا يعطيناها الناس أبدًا وإني لا أسألها رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبدًا).
ولم يقع في الحديث أن اثنين تلاقيا فقال أحدهما للآخر: كيف أصبحت؟ بل فيه أن من حضر عند بابه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سأل عليًّا لما خرج من عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن حاله عليه الصلاة والسلام فأخبر بقوله: بارئًا. نعم أخرج البخاري في الأدب المفرد من حديث جابر قال: قيل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كيف أصبحت؟ قال: "بخير".
وأما المعانقة ففي حديث أبي ذر من طريق رجل من عنزة لم يسم قال: قلت هل كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلاّ صافحني، وبعث إليّ ذات يوم فلم أكن في أهلي فلما جئت أخبرت أنه أرسل إليّ فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكان أجود وأجود، رواه الإمام أحمد ورجاله ثقات إلا الرجل المبهم، وفي الأوسط للطبراني من حديث أنس: كانوا إذا تلاقوا تصافحوا وإذا قدموا من سفر تعانقوا.
وفي حديث عائشة لما قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيتي فقرع الباب فقام إليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عريانًا يجرّ ثوبه فاعتنقه وقبّله. قال الترمذي: حديث حسن، وعن أبي الهيثم بن التيهان أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقيه فاعتنقه وقبّله. رواه قاسم بن أصبغ وسنده ضعيف.
وأما حديث طاوس عن ابن عباس لما قدم جعفر من الحبشة اعتنقه النبي -صَلَّى اللَّهُ

(9/156)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال الذهبي في ميزانه: هذه الحكاية باطلة وإسنادها مظلم.
وحديث الباب سبق في أواخر المغازي في باب مرض النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

30 - باب مَنْ أَجَابَ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ
(باب من أجاب) من ناداه أو سأله (بلبيك) أي أنا مقيم على طاعتك (وسعديك) إسعادًا لك بعد إسعاد.
6267 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلاَثًا، «هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ»؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَالَ: «هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا همام) بالتشديد ابن يحيى البصري (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس) هو ابن مالك (عن معاذ) هو ابن جبل -رضي الله عنه- أنه (قال: أنا رديف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(يا معاذ قلت لبيك وسعديك) يا رسول الله (ثم قال مثله ثلاثًا) تأكيدًا للاهتمام بما يخبر به ثم قال: (هل تدري ما حق الله على العباد)؟ قال معاذ: (قلت: لا) وفي باب إرداف الرجل خلف الرجل من أواخر اللباس قلت الله ورسوله أعلم (قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ثم سار ساعة فقال يا معاذ قلت لبيك وسعديك) يا رسول الله (قال: هل تدري ما حق العباد على الله)؟ عز وجل وهو من باب المشاكلة كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] فالأولى حقيقة والثانية لا، وإنما سميت سيئة لأنها مجازاة لسوء أو لأنه لما وعد به تعالى ووعده الصدق صار حقًّا من هذه الجهة (إذا فعلوا ذلك) الحق الذي له تعالى عليهم المفسر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. زاد في رواية الباب المذكورة قلت الله ورسوله أعلم. قال: حق العباد على الله (أن لا يعذبهم) أي هو أن لا يعذبهم.
ومطابقة الحديث لما ترجم له لا خفاء فيها.
0000 - حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ بِهَذَا.
وبه قال: (حدّثنا هدبة) بن خالد قال: (حدّثنا همام) هو ابن يحيى قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس بن معاذ بهذا) الحديث السابق.
6268 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِى، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً اسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا لِى ذَهَبًا يَأْتِى عَلَىَّ لَيْلَةٌ أَوْ ثَلاَثٌ عِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ إِلاَّ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» وَأَرَانَا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الأَكْثَرُونَ هُمُ الأَقَلُّونَ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا» ثُمَّ قَالَ لِى: «مَكَانَكَ لاَ تَبْرَحْ يَا أَبَا ذَرٍّ حَتَّى أَرْجِعَ» فَانْطَلَقَ حَتَّى غَابَ عَنِّى فَسَمِعْتُ صَوْتًا فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تَبْرَحْ» فَمَكُثْتُ قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ صَوْتًا خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ لَكَ ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَكَ، فَقُمْتُ فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِى فَأَخْبَرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ؛ «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قُلْتُ لِزَيْدٍ: إِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: أَشْهَدُ لَحَدَّثَنِيهِ أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ. قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ. وَقَالَ أَبُو شِهَابٍ: عَنِ الأَعْمَشِ يَمْكُثُ عِنْدِى فَوْقَ ثَلاَثٍ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال: (حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال: (حدّثنا زيد بن وهب) الجهني أبو سليمان الكوفي هاجر ففاتته رؤية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأيام قال: (حدّثنا والله أبو ذر) جندب الغفاري (بالربذة) بفتح الراء والموحدة والمعجمة موضع على ثلاث مراحل من المدينة وذكر زيد القسم تأكيدًا ومبالغة دفعًا لما قيل له أن الراوي لهذا الحديث أبو الدرداء لا أبو ذر كما يشعر به آخر الحديث (قال: كنت أمشي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حرّة المدينة عشاء) أرض ذات حجارة سود بها (استقبلنا أُحد) بفتح اللام مسندًا إلى أُحد وأُحد رفع على الفاعلية جبل بالمدينة، وللأصيلي استقبلنا بسكون اللام مسندًا إلى ضمير المتكلمين وأُحدًا نصب على المفعولية (فقال):
(يا أبا ذر ما أحب أن أُحُدًا) الجبل المذكور (لي ذهبًا) نصب على التمييز (تأتي عليّ) بتشديد التحتية (ليلة أو ثلاث) بالشك من الراوي (عندي منه دينار) ولأبي ذر دينارًا بالنصب (إلا أرصدهُ) بفتح الهمزة وضم الصاد ولأبي ذر بضم الهمزة وكسر الصاد من الرباعي والاستثناء مفرغ، وللأصيلي لا أرصده بكسر الصاد أي لا أعده (لدين) صفة لدينار (إلا أن أقول به) أي أصرفه (في عباد الله) أي أنفقه عليهم (هكذا وهكذا وهكذا) يمينًا وشمالاً وقدّامًا (وأرانا) أبو ذر (ببده) ذلك (ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يا أبا ذر قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله قال: الأكثرون) مالاً (هم الأقلون) ثوابًا (إلا من قال) صرف المال في عباده (هكذا وهكذا ثم قال لي) الزم (مكانك لا تبرح) منه (يا أبا ذر حتى أرجع) إليك (فانطلق) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى غاب عني فسمعت صوتًا فخشيت) ولأبي ذر عن الحموي فتخوّفت (أن يكون عرض) مبني للمفعول مصححًا عليه في الفرع كأصله الرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي ظهر عليه أو أصابه آفة (فأردت أن أذهب ثم ذكرت قول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا تبرح فمكثت) فلما جاء -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قلت: يا رسول الله سمعت صوتًا خشيت) بالمعجمتين أي خفت، ولأبي ذر عن الحموي حسبت بالحاء والسين المهملتين والموحدة

(9/157)


(أن يكون عرض لك) بضم العين (ثم ذكرت قولك) لا تبرح (فقمت) أي فوقفت أو فأقمت موضعي (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ذاك) الذي سمعت (جبريل أتاني فأخبرني، أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة) قال أبو ذر (قلت: يا رسول الله) يدخل الجنة (وإن زنى وإن سرق؟ قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدخلها (وإن زنى وإن سرق) قال الأعمش بالإسناد السابق (قلت لزيد) أي ابن وهب المذكور (أنه بلغني أنه) أي راوي الحديث (أبو الدرداء فقال) زيد (أشهد لحدثنيه) أي الحديث المذكور (أبو ذر) جندب (بالربذة) وأدخل اللام
في لحدثنيه لأن الشهادة في حكم القسم. (قال الأعلم) سليمان بن مهران بالسند المذكور (وحدثني) بالواو والإفراد (أبو صالح) ذكوان السمان (عن أبي الدرداء) عويمر (نحوه) أي نحو الحديث الماضي (وقال أبو شهاب) عبد ربه الحناط بالمهملتين والنون المشدّدة مما سبق موصولاً في الاستقراض (عن الأعمش) أي عن زيد بن وهب عن أبي ذر (يمكث عندي فوق ثلاث) بدل قوله تأتي عليّ ليلة أو ثلاث عندي منه دينار.
والحديث سبق في الاستقراض.

31 - باب لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ
هذا (باب) بالتنوين (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه) خبر معناه النهي.
6269 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) بن أبي أويس (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه) وفي رواية الليث عند مسلم بلفظ النهي المؤكد بالنون وظاهر النهي التحريم فلا يصرف عنه إلا بدليل، وزاد ابن جريج عن نافع مما في كتاب الجمعة قلت لنافع: الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها، ولفظ الحديث وإن كان عامًّا لكنه مخصوص بالمجالس المباحة إما على العموم كالمساجد ومجالس الحكام والعلم، وإما على الخصوص كمن يدعو قومًا بأعيانهم إلى منزله لوليمة ونحوها، وأما المجالس التي ليس للشخص فيها ملك ولا أذن له فيها فإنه يقام ويخرج منها ثم هو في المجالس العامة ليس عامًّا في الناس بل خاص بغير المجانين ومن يحصل منه الأذى كأكل الثوم النيء إذا دخل المسجد، والحكمة في هذا النهي منع استنقاص حق المسلم المقتضي للضعائن، ولأن الناس في المباح كلهم سواء فمن سبق إلى مباح استحقه ومن استحق شيئًا فأخذ منه بغير حق فهو غصب والغصب حرام. قاله في بهجة النفوس.
والحديث سبق في الجمعة.

32 - باب {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشِزُوا فَانْشِزُوا} الآيَةَ [المجادلة: 11]
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى: ({إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس}) توسعوا فيه. وقرأ عاصم في المجالس بالجمع اعتبارًا بأن لكل واحد مجلساً، والمراد مجلس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: نزلت يوم جمعة وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومئذٍ في
الصفة وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسح لهم فشق ذلك على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لمن حوله من غير أهل بدر: "قم يا فلان وأنت يا فلان وأجلسهم في أماكنهم" فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكراهة في وجوههم وتكلم في ذلك المنافقون، فبلغنا أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "رحم الله رجلاً يفسح لأخيه" فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية يوم الجمعة وعن ابن عباس هي مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب قال الحسن: كانوا يتشاحون على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت، والظاهر أن الحكم يطرد في مجالس الطاعات وإن كان السبب خاصًا ({فافسحوا}) فوسعوا ({يفسح الله لكم}) يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة لأن الجزاء من جنس العمل وهو يطلق في كل ما ينبغي للناس الفسحة فيه من المكان والرزق والقبر وغير ذلك ({وإذا قيل انشزوا}) انهضوا

(9/158)


للتوسعة على المقبلين أو انهضوا عن مجلس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أمرتم بالنهوض عنه أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير ({فانشروا}) [المجادلة: 11] فانهضوا في المجلس للتفسح لأن مزيد التوسعة على الواردين يقع إلى فوق فيتسع الموضع أمروا أوّلاً بالتفسح ثم ثانيًا بامتثال الأمر فيه (الآية). وبقيتها {يرفع الله الذين آمنوا منكم} [المجادلة: 11] أي بامتثال أوأمره وأوامر رسوله {والذين أوتوا العلم} [المجادلة: 11] أي والعالمين منهم خاصة {درجات والله بما تعملون خبير} [المجادلة: 11].
قال صاحب الانتصاف: وقع في الجزاء رفع الدرجات مناسبة للعمل لأن المأمور به تفسيح المجالس لئلا يتنافسوا في القرب من المكان المرتفع بحلول الرسول فيه، فالمفسح حابس لنفسه عما يتنافس فيه من الرفعة تواضعًا فجوزي بالرفعة لقوله: من تواضع لله رفعه الله، ثم لما علم أن أهل العلم يستوجبون رفع المجلس خصهم بالذكر ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعًا لله يريد أنه من باب ملائكته وجبريل، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية لترغبكم في العلم، وسقط من قوله يفسح الله لكم إلى آخرها لأبي ذر.
6270 - حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يُجْلِسَ مَكَانَهُ.
وبه قال: (حدّثنا خلاد بن يحيى) بن صفوان السلمي الكوفي نزيل مكة قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن عبيد الله) بضم العين هو العمري (عن نافع عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه نهى) نهي تحريم (أن يقام الرجل من مجلسه) إذا كان في موضع مباح (ويجلس فيه آخر ولكن تفسحوا وتوسعوا) هو عطف تفسير، وعند ابن مردويه من رواية قبيصة عن سفيان ولكن ليقل افسحوا وتوسعوا قال في الكواكب: وتفسحوا أمر فكيف يكون الأمر استدراكًا من
الخبر؟ وأجاب: بأنه يقدر لفظ قال بعد لكن أو يقال نهى أن يقيم في تقدير لا يقيمن، ويحتمل أن لا يكون من تتمة الحديث فهو من كلام ابن عمر اهـ.
وأشار مسلم إلى أن قوله ولكن ليقل تفرد بها عبيد الله عن نافع وأن مالكًا والليث وأيوب وابن جريج رووه عن نافع بدونها وأن ابن جريج زاد قلت لنافع في الجمعة: قال: وفي غيرها.
(وكان ابن عمر) -رضي الله عنهما- بالسند السابق (يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه) بضم التحتية مصححًا عليها في الفرع كأصله وكسر اللام من يجلس. قال ابن حجر الحافظ في روايتنا بالفتح، وضبطه أبو جعفر الغرناطي بالضم على وزن يقام، وفي الأدب المفرد عن قبيصة عن الثوري، وكان ابن عمر إذا قام له الرجل من مجلسه لم يجلس فيه وهذا محمول من ابن عمر على الورع لاحتمال أن يكون الذي قام لأجله استحى منه فقام عن غير طيب قلب فسدّ الباب ليسلم من هذا.

33 - باب مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ بَيْتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَصْحَابَهُ أَوْ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَقُومَ النَّاسُ
(باب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه أو تهيّأ للقيام ليقوم الناس).
6271 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِى يَذْكُرُ عَنْ أَبِى مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ دَعَا النَّاسَ طَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ، قَامَ مَنْ قَامَ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، وَبَقِىَ ثَلاَثَةٌ وَإِنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا قَالَ: فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَرْخَى الْحِجَابَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} -إِلَى قَوْلِهِ- {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53].
وبه قال (حدّثنا الحسن بن عمر) بن شقيق البصري قال: (حدّثنا معتمر) قال: (سمعت أبي) سليمان بن طرخان البصري (يذكر عن أبي مجلز) بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام بعدها زاي لاحق بن حميد السدوسي البصري (عن أنس بن مالك رضي الله عنه) أنه (قال: لما تزوج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في زينب ابنة) ولأبي ذر بنت (جحش دعا الناس طعموا) بكسر العين من وليمته (ثم جلسوا يتحدثون قال) أنس: (فأخذ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (كأنه يتهيّأ للقيام) ليقوموا استحياء أن يقول لهم ذلك (فلم يقوموا فلما رأى ذلك) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قام فلما قام قام من قام معه من الناس وبقي ثلاتة وإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقوا قال) أنس: (فجئت فأخبرت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل) حجرته قال أنس: (فذهبت أدخل) معه (فأرخى
الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} [الأحزاب: 53] إلى قوله {إن ذلكم كان عند الله عظيمًا} [الأحزاب: 53] أي ذنبًا عظيمًا، وفيه أنه لا ينبغي لأحد أن يطيل الجلوس بعد قضاء حاجته التي دخل لها، ولصاحب الدار أن يظهر له أن يقوم من عنده ويظهر التثاقل به.
والحديث سبق قريبًا في باب

(9/159)


آية الحجاب وسورة الأحزاب.

34 - باب الاِحْتِبَاءِ بِالْيَدِ وَهُوَ الْقُرْفُصَاءُ
(باب) حكم (الاحتباء) بالحاء المهملة الساكنة والفوقية المكسورة والموحدة بعدها ألف مهموز (باليد) أي الاحتباء، ولأبي ذر عن الكشميهني: وهو أي صفة الاحتباء (القرفصاء) بضم القاف والفاء بينهما راء ساكنة وبعد الصاد المهملة ألف مهموز وهو أن يجلس على إليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه فيضعهما على ساقيه. وقال ابن فارس وغيره: الاحتباء أن يجمع ثوبه لظهره وركبتيه وقيل القرفصاء الاعتماد على عقبيه ومس إليتيه بالأرض.
6272 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِى غَالِبٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِىُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا.
وبه قال (حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني بالإفراد (محمد بن أبي غالب) الواصلي نزيل بغداد القومسي بالقاف المضمومة وبعد الواو الساكنة ميم فمهملة قال: (أخبرنا إبراهيم بن المنذر) بكسر المعجمة (الحزامي) بكسر الحاء المهملة وبالزاي قال: (حدّثنا محمد بن فليح) بضم الفاء وفتح اللام آخره مهملة مصغرًا الأسلمي المدني (عن أبيه) فليح بن سليمان المدني (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بفناء الكعبة) بكسر الفاء ما امتد من جانبها من قبل بابها (محتبيًا بيده) بالإفراد (هكذا) زاد في الجزء السادس من فوائد أبي محمد بن صاعد فأرانا فليح موضع يمينه على يساره موضع الرسغ، وفي حديث أبي هريرة عند البزار أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جلس عند الكعبة فضمّ رجليه فأقامهما واحتبى بيديه، وفي حديث أبي سعيد عند أبي داود أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا جلس احتبى بيديه زاد البزار ونصب ركبتيه.

35 - باب مَنِ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَىْ أَصْحَابِهِ
قَالَ خَبَّابٌ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً قُلْتُ: أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ؟ فَقَعَدَ.
(باب من اتكأ بين يدي أصحابه) قال الخطابي كل معتمد على شيء متمكن منه فهو متكئ. (وقال خباب) بفتح المعجمة والموحدة المشددة وبعد الألف موحدة ثانية ابن الأرتّ الصحابي مما مر
موصولاً في علامات النبوّة (أتيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو متوسد بردة) ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني ببرده بالهاء (قلت: ألا تدعو الله فقعد).
6273 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِىُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا بشر بن المفضل) بكسر الموحدة وسكون المعجمة والمفضل بالضاد المعجمة المفتوحة ابن لاحق البصري قال: (حدّثنا الجريري) بضم الجيم وفتح الراء سعيد بن إياس (عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه) أبي بكرة نفيع -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ألا) بالتخفيف استفتاحية (أخبركم بأكبر الكبائر) جمع كبيرة (قالوا: بلى) أخبرنا (يا رسول الله. قال) هو (الإشراك بالله) عز وجل بأن يتخذ معه إلهًا آخر أو مطلق الكفر فالجار والمجرور متعلق بالمصدر (وعقوق الوالدين) ضدّ برهما وعطفه على سابقه تعظيمًا لأمر الوالدين وتغليظًا على العاق.
6274 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ مِثْلَهُ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: «أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا بشر) المذكور بسنده (مثله) أي مثل الحديث السابق وقال: (وكان) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (متكئًا فجلس) اهتمامًا وتعظيمًا لقبح ما سيقوله (فقال: ألا) بالتخفيف (وقول الزور) الباطل الشامل للكفر والشهادة والكذب الكثير (فما زال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يكررها) أي قول الزور (حتى قلنا) أي إلى أن قلنا (ليته سكت) لما حصل لهم من الخوف.
والحديث سبق في الأدب وساقه هنا من طريقين لقوله فيه وكان متكئًا فجلس، وفي حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة قال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: ذلك الأبيض المتكئ. وفي حديث سمرة رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متكئًا على وسادة رواه الدارميّ وصححه الترمذي وابن عوانة وابن حبان، وفيه كما قاله المهلب أنه يجوز للعالم والإمام الاتكاء في مجلسه بحضرة جلسائه لاستراحة أو ألم في بعض أعضائه.

36 - باب مَنْ أَسْرَعَ فِى مَشْيِهِ لِحَاجَةٍ أَوْ قَصْدٍ
(باب من أسرع في مشيه) بفتح الميم في الفرع (لحاجة) أي لأجل سبب من الأسباب (أو قصد) أي لأمر مقصود.
6275 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ: صَلَّى النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك النبيل البصري (عن عمر بن سعيد) بضم العين في الأول وبكسرها في الثاني القرشي النوفلي المكي (عن ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبد الرحمن (أن عقبة بن الحارث) بن عامر بن نوفل بن عبد مناف (حدثه قال:

(9/160)


صلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العصر فأسرع) في مشيه بعد فراغه من الصلاة (ثم دخل البيت) زاد في الصلاة في باب من صلّى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال: ذكرت شيئًا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمه، وفي باب من أحب تعجيل الصدقة من الزكاة فلم يلبث أن خرج فقلت أو قيل له فقال: كنت خلفت في البيت تبرًا من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته، وفي قوله ففزع الناس من سرعته إشعار بأن مشيه لغير حاجة كان على هينته ففيه أن الإسراع في المشي إن كان لحاجة فلا بأس به، إلا فلا. نعم روي عن ابن عمر أنه كان يسرع المشي ويقول هو أبعد من الزهو وأسرع في الحاجة أخرجه ابن المبارك في الاستئذان.

37 - باب السَّرِيرِ
(باب) حكم اتخاذ (السرير) قال الراغب: إنه مأخوذ من السرور لأنه في الغالب يكون لأهل النعمة وقد يعبر به عن الملك.
6276 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّى وَسْطَ السَّرِيرِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِىَ الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ فَأَنْسَلُّ انْسِلاَلاً.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن الأعمش) سليمان الكوفي (عن أبي الضحى) مسلم بن صبيح (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلّي وسط السرير) بسكون سين وسط في الفرع ولم يضبطها في اليونينية. وقال السفاقسي: قرأناه بسكون السين المهملة والمشهور في اللغة فتحها. قال في الصحاح: يقال جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم وكل موضع صلح فيه بين فهو بالتسكين وإلا فهو بالتحريك (وأنا مضطجعة) جملة حالية (بينه وبين القبلة تكون لي الحاجة فأكره أن أقوم فأستقبله) بهمزة قطع وكسر الموحدة والنصب (فأنسل) بقطع الهمزة والرفع (انسلالاً).

38 - باب مَنْ أُلْقِىَ لَهُ وِسَادَةٌ
(باب من ألقي) بضم الهمزة (له وسادة) رفع نائب عن الفاعل والوسادة ما يتكأ عليه.
6277 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ ح وَحَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِى أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَحَدَّثَنَا أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذُكِرَ لَهُ صَوْمِى فَدَخَلَ عَلَىَّ فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ وَصَارَتِ الْوِسَادَةُ بَيْنِى وَبَيْنَهُ، فَقَالَ لِى: «أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ»؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «خَمْسًا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «سَبْعًا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «تِسْعًا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِحْدَى عَشْرَةَ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لاَ صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ، شَطْرَ الدَّهْرِ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر بالإفراد (إسحاق) بن شاهين الواسطي قال: (حدّثنا خالد) الطحان قال: البخاري (ح).
(وحدثني) بالواو والإفراد (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا عمرو بن عون) بفتح العين فيهما ابن أوس السلمي من شيوخ البخاري قال: (حدّثنا خالد) هو ابن عبد الله الطحان (عن خالد) الحذاء (عن أبي قلابة) عبد الله بن زيد الجرمي أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (أبو المليح) بفتح الميم وكسر اللام وبعد التحتية الساكنة حاء مهملة عامر وقيل زيد بن أسامة الهذلي (قال) يخاطب أبا قلابة: (دخلت مع أبيك زيد) الجرمي (على عبد الله بن عمرو) بفتح العين بن العاصي (فحدّثنا) بفتح المثلثة (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر) بضم المعجمة (له صومي فدخل عليّ) بتشديد التحتية -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فألقيت له) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وسادة من أدم) جلد (حشوها ليف) هو ما يخرج في أصول سعف النخل تحشى به الوسائد وتفتل منه الحبال (فجلس) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (على الأرض) تواضعًا (وصارت الوسادة بيني وبينه فقال لي: أما) بتخفيف الميم (يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام) تصومها برفع ثلاثة (قلت: يا رسول الله) أطيق أكثر من ذلك (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صم (خمسًا) أي خمسة أيام (قلت: يا رسول الله) أطيق أكثر (قال) صم (سبعًا) أي سبعة أيام (قلت: يا رسول الله) أطيق أكثر (قال) صم (تسعًا قلت: يا رسول الله) أطيق أكثر (قال) صم (إحدى عشرة قلت: يا رسول الله) أطيق أكثر (قال: لا صوم فوق صوم داود شطر الدهر) بنصب شطر على الاختصاص (صيام يوم وإفطار يوم) بالرفع في صيام وإفطار بتقدير هو، ولأبي ذر بالنصب على الاختصاص.
6278 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّامَ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّامِ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى جَلِيسًا، فَقَعَدَ إِلَى أَبِى الدَّرْدَاءِ فَقَالَ؛ مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِى كَانَ لاَ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ يَعْنِى حُذَيْفَةَ أَلَيْسَ فِيكُمْ أَوْ كَانَ فِيكُمُ الَّذِى أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الشَّيْطَانِ يَعْنِى عَمَّارًا، أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ يَعْنِى ابْنَ مَسْعُودٍ كَيْفَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ:
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] قَالَ: {وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} [النجم: 45] فَقَالَ: مَا زَالَ هَؤُلاَءِ حَتَّى كَادُوا يُشَكِّكُونِى وَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: بالإفراد (يحيى بن جعفر) أي ابن أعين أبو زكريا البخاري البيكندي قال: (حدّثنا يزيد) هو ابن هارون الواسطي (عن شعبة) بن الحجاج (عن مغيرة) بن مقسم الضبي بالضاد المعجمة والموحدة (عن إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن قيس النخعي (أنه قدم الشام ح).
قال البخاري: (وحدّثنا) بالواو (أبو الوليد) هشام بن عبد الملك قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج

(9/161)


(عن مغيرة) بن مقسم (عن إبراهيم) النخعي ورأيت في حاشية الفرع ما نصه من قوله عن إبراهيم عن علقمة إلى قوله عن إبراهيم. كل هذا مكتوب في حاشية اليونينية، وفي آخره صح بالسواد مشعر بأنه من الأصل كما هنا وتحته مكتوب. قال أبو ذر: زائد هذا فليعلم وكذا رأيته في اليونينية (قال: ذهب علقمة) بن قيس (إلى الشام فأتى المسجد فصلّى ركعتين فقال: اللهم ارزقني جليسًا) زاد في مناقب عمار صالحًا (فقعد) علقمة (إلى أبي الدرداء) عويمر (فقال) أبو الدرداء لعلقمة (ممن أنت؟ قال) علقمة: (من أهل الكوفة. قال) أبو الدرداء: (أليس فيكم صاحب السر) أي سر النفاق لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عين له أسماء المنافقين ولم يطلع غيره عليها كما قال (الذي كان لا يعلمه غيره يعني حذيفة) بن اليمان (أليس فيكم أو كان فيكم الذي أجاره الله على لسان رسوله من الشيطان) لأنه دعا له بأمانه من الشيطان وقال: إنه طيب مطيب والشك في قوله أو كان فيكم من شعبة (يعني عمارًا، أو ليس) بالواو المفتوحة (فيكم صاحب السواك والوساد) بكسر الواو ولأبي ذر عن الكشميهني والوسادة بتاء التأنيث (يعني ابن مسعود) عبد الله -رضي الله عنه- (كيف كان عبد الله) ابن مسعود (يقرأ: {والليل إذا يغشى}؟ قال) علقمة: يقرأ عبد الله بن مسعود (والذكر والأنثى) بدون وما خلق، وكان أبو الدرداء يقرأ كذلك وأهل الشام يناظرونه على القراءة المتواترة وهي وما خلق الذكر والأنثى ويشككونه في قراءته الشاذة (فقال) أبو الدرداء (ما زال هؤلاء حتى كادوا يشككوني) ولأبي ذر: يشككونني (وقد سمعتها) أي بدون وما خلق (من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) كما يقرؤها ابن مسعود.
والحديث سبق في مناقب عمار والغرض منه هنا قوله والوساد والمراد أن ابن مسعود كان يتولى أمر سواكه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووساده ويتعاهد خدمته في ذلك بالإصلاح وغيره والله الموفق والمعين لا إله سواه.

39 - باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةَ
(باب القائلة بعد) صلاة (الجمعة) بأن يستريح بالنوم أو غيره وسقط لفظ باب لأبي ذر فلفظ القائلة رفع.
6279 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) العبدي البصري قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (سفيان) الثوري (عن أبي حازم) سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) الساعدي أنه (قال: كنا نقيل) ننام (ونتغدى) بالغين المعجمة والدال المهملة (بعد) صلاة (الجمعة) وفيه إشعار بأن هذا كان عادتهم.
والحديث سبق في أواخر الجمعة.

40 - باب الْقَائِلَةِ فِى الْمَسْجِدِ
(باب) حكم (القائلة في المسجد).
6280 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: مَا كَانَ لِعَلِىٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِى تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِىَ بِهَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْتَ فَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِى الْبَيْتِ فَقَالَ: «أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ»؟ فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ شَىْءٌ فَغَاضَبَنِى فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لإِنْسَانٍ: «انْظُرْ أَيْنَ هُوَ»؟ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِى الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَهْوَ يَقُولُ: «قُمْ أَبَا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي قال: (حدّثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن) أبيه (أبي حازم) سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) الساعدي أنه (قال: ما كان لعلي) -رضي الله عنه- (اسم أحب إليه من أبي تراب وإن كان ليفرح به) باسم أبي تراب وإن مخففة من الثقيلة وسقط لفظ به لأبي ذر (إذا دعي بها) بالكنية (جاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيت فاطمة عليها السلام فلم يجد عليًّا في البيت فقال) لفاطمة -رضي الله عنها-:
(أين ابن عمك فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج) حسمًا لمادة الكلام ولأن يسكن سورة غضبهما (فلم يقل) بفتح التحتية وكسر القاف أي فلم ينم (عندي فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لإنسان: انظر أين هو فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد فجاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو) أي والحال أن عليًّا (مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه) بكسر المعجمة (فأصابه تراب فجعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسحه عنه وهو يقول: قم) يا (أبا تراب قم) يا (أبا تراب) مرتين.
والحديث مر قريبًا في باب التكني بأبي تراب قبل كتاب الاستئذان.

41 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَقَالَ عِنْدَهُمْ
(باب من زار قومًا فقال) أي نام (عندهم) نصف النهار.
6281 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىُّ قَالَ: حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ قَالَ: فَإِذَا نَامَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِى قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِى سُكٍّ قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِى حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ قَالَ: فَجُعِلَ فِى حَنُوطِهِ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي أبو رجاء قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله) بن المثنى (الأنصاري) قاضي البصرة روى عنه المؤلّف كثيرًا بلا واسطة (قال: حدثني) بالإفراد (أبي) عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك (عن ثمامة) بضم المثلثة وتخفيف الميم ابن عبد الله بن أنس بن مالك وهو عم عبد الله

(9/162)


بن المثنى (عن أنس) -رضي الله عنه- وهو جد ثمامة، وسقط لأبي ذر عن أنس كما في الفرع وأصله (أن أم سليم) الغميصاء أو الرميصاء بنت ملحان بن خالد الأنصارية وهي أم أنس، وعلى رواية أبي ذر بإسقاط أن يكون الحديث مرسلاً لأن ثمامة لم يدرك جدة أبيه أم سليم. قال في الفتح: لكن دل قوله في أواخره فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إليّ أن يجعل في حنوطه على أن ثمامة حمله عن أنس فليس مرسلاً ولا من مسند أم سليم بل من مسند أنس، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية ابن السني عن محمد بن عبد الله الأنصاري فقال في روايته عن ثمامة عن أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا يشعر بأن أنسًا إنما حمله عن أمه اهـ.
قلت: والظاهر أن الحافظ ابن حجر لم يقف على ثبوت ذلك لغير أبي ذر أو لم يصح عنده، فلذا جعل الحديث من مسند أنس بطريق المفهوم كما قرّره ونقلته عنه. نعم ثبت عن أنس في كل ما رأيته من النسخ الصحيحة وعليه شرح العيني وبه صرح المزي في أطرافه فقال في مسند أنس ما نصه ثمامة بن أنس بن مالك الأنصاري عن جده أنس قال: حدثت أن أم سليم كانت تبسط للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نطعًا فإذا قام أخذت عرقه الحديث أخرجه البخاري في الاستئذان عن قتيبة عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عنه به اهـ.
وقد وقع ما يشعر بأن أنسًا حمله عن أمه أيضًا ففي مسلم من رواية أبي قلابة عن أنس عن أم سليم (كانت تبسط للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نطعًا) بكسر النون وفتح الطاء المهملة (فيقيل) فينام (عندها على ذلك النطع قال) أنس: (فإذا نام) ولأبي ذر فإذا قام (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخذت) أم سليم (من عرقه) وكان كثير العرق (و) تناثر من (شعره) عند الترجل (فجمعته) مع عرته (في قارورة) من زجاج (ثم جمعته في سك) بضم السين المهملة وتشديد الكاف طيب مركب، وليس المراد أنها كانت تأخذ من
شعره وهو نائم، وعند ابن سعد بسند صحيح عن ثابت عن أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما حلق شعره بمنى أخذ أبو طلحة شعره فأتى به أم سليم فجعلته في سكها. قالت أم سليم: وكان يجيء ويقيل عندي على نطع فجعلت أسلت العرق، ففيه أنها لما أخذت العرق وقت قيلولته أضافته إلى الشعر الذي عندها لا أنها أخذت من شعره لما نام، وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم دخل علينا النبي فقال عندنا فعرق وجاءت أم سليم بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ فقال: "يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين"؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا إذ هو من أطيب الطيب (قال) ثمامة (فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى أن) ولأبي ذر أوصى إلى أن (يجعل في حنوطه) بفتح الحاء المهملة وهو الطيب الذي يصنع للميت خاصة وفيه الكافور يجعل في أكفانه (من ذلك السك) الذي فيه من عرقه وشعره (قال: فجعل) بضم الجيم (في حنوطه) كما أوصى تبركًا به وعوذة من المكاره.
والحديث من أفراده.
6282 - 6283 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ قَالَتْ: فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ» -أَوْ قَالَ: «مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ» شَكَّ إِسْحَاقُ قُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ؟ فَدَعَا ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ- أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ» - فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ؟ قَالَ: «أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ» فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) الإمام الأعظم (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن) عمه (أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه سمعه يقول: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا ذهب إلى قباء) بالمد والصرف (يدخل على أم حرام) بالحاء المهملة المفتوحة والراء الرميصاء (بنت ملحان) بكسر الميم وسكون اللام وفتح الحاء المهملة وبعد الألف نون خالة أنس (فتطعمه وكانت تحت عبادة بن الصامت) ظاهره أنها كانت إذ ذاك زوجته لكن سبق في باب غزو المرأة في البحر من طريق أبي طوالة عن أنس أن تزوج عبادة لها بعد دخوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندها وفي مسلم فتزوج بها عبادة بعد وجمع بأن المراد بقوله هنا وكانت تحت عبادة الأخبار عما آل إليه الحال بعد ذلك (فدخل) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها (يومًا فأطعمته) لم أقف على تعيين ما
أكل عندها (فنام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وقت القائلة (ثم استيقظ)

(9/163)


حال كونه (يضحك) إعجابًا وفرحًا بما رأى من المنزلة الرفيعة (قالت) أم حرام: (فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال):
(ناس من أمتي عرضوا علي) بتشديد التحتية (غزاة في سبيل الله) عز وجل (يركبون ثبج هذا البحر) بفتح المثلثة والموحدة والجيم هوله أو معظمه أو وسطه ولمسلم يركبون ظهر البحر أي يركبون السفن التي تجري على ظهره ولما كان جري السفن غالبًا إنما يكون في وسطه. قيل المراد وسطهِ وإلا فلا اختصاص لوسطه بالركوب (ملوكًا) نصب. قال في العمدة: بنزع الخافض أي مثل ملوك ولأبي ذر ملوك بالرفع أي هم ملوك (على الأسرة) في الجنة ورؤياه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحي، وقال الله تعالى في صفة أهل الجنة {على سرر متقابلين} [الحجر: 47] (أو قال مثل الملوك على الأسرة شك) ولأبي ذر يشك بلفظ المضارع (إسحاق) بن عبد الله بن أبي طلحة المذكور. قال في الفتح: والإتيان بالتمثيل في معظم طرق الحديث يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة أو موضع التشبيه أنهم فيما هم فيه من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم والتشبيه بالمحسوس أبلغ في نفس السامع (قالت) ولأبي ذر فقلت يا رسول الله (ادع الله أن يجعلني منهم فدعا) ليس فقال: "اللهم اجعلها منهم" وفي رواية حماد بن زيد في الجهاد فقال: أنت منهم (ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ) حال كونه (يضحك) إعجابًا وفرحًا بما رآه من النعيم (فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج) ظهر (هذا البحر ملوكًا على الأسرة أو) قال: (مثل الملوك على الأسرة - فقلت) يا رسول الله (ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأولين) زاد أبو عوانة من طريق الدراوردي عن أبي طوالة ولست من الآخرين وفي رواية عمير بن الأسود في باب ما قيل في قتال الروم أنه قال: في الأولى يغزون هذا البحر وفي الثانية يغزون قيصر فيدل على أن الثانية إنما غزت في البر. (فركبت البحر) أم حرام (زمان) ولأبي ذر في زمان إمرة (معاوية) بن أبي سفيان على الشام في خلافة عثمان (فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت) أي ماتت وفي رواية الليث في الجهاد، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين إلى الشام قربت لها دابة لتركبها فصرعت عنها فماتت، وفي الحديث جواز ركوب البحر الملح وكان عمر يمنع منه ثم أذن فيه عثمان. قال ابن العربي: ثم منع منه عمر بن عبد العزيز ثم أذن فيه من بعده واستقر الأمر عليه، ونقل عن عمر أنه إنما منع من ركوبه لغير الحج والعمرة ونحو ذلك، ونقل ابن عبد البر أنه يحرم ركوبه عند ارتجاجه اتفاقًا، وكره مالك ركوب النساء البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال إذ يعسر الاحتراز من ذلك، وخص أصحابه ذلك بالسفن الصغار وأما الكبار التي يمكن فيها الاستتار بأماكن تخصهن فلا حرج ومشروعية القائلة لما فيها من الإعانة على قيام الليل، وفيه علم من أعلام نبوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الأخبار بما سيقع فوقع كما قال.
والحديث سبق في الجهاد.

42 - باب الْجُلُوسِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ
(باب الجلوس كيفما تيسر).
6284 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِىِّ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ لِبْسَتَيْنِ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ: اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَالاِحْتِبَاءِ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الإِنْسَانِ مِنْهُ شَىْءٌ، وَالْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِى حَفْصَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عطاء بن يزيد الليثي) بالمثلثة (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن لبستين) بكسر اللام (وعن بيعتين) بفتح الموحدة (اشتمال الصماء) بتشديد الميم بعد الصاد المهملة وهو أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب واشتمال جر بدلاً من سابقه كقوله (والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرج الإنسان منه شيء والملامسة) بضم الميم والخفض عطفًا على سابقه وهو لمس الرجل ثوب الآخر بيده (والمنابذة) بالذال المعجمة وهي أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بهما من غير نظير.
ومطابقة الحديث لما ترجم من حيث إنه خص النهي بحالتين فيفهم منه أن ما عداهما ليس منهيًّا عنه لأن الأصل عدم النهي فالأصل الجواز. نعم نقل

(9/164)


ابن بطال عن ابن طاوس أنه كان يكره التربع ويقول: هي جلسة مهلكة، لكن عورض بأن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا صلّى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس رواه مسلم وغيره من حديث جابر بن سمرة.
(تابعه) أي تابع سفيان بن عيينة في روايته عن الزهري (معمر) هو ابن راشد مما وصله المؤلّف في البيوع (ومحمد بن أبي حفصة) بالحاء والصاد المهملتين بينهما فاء ساكنة البصري مما وصله ابن عدي (وعبد الله بن بديل) بضم الموحدة وفتح الدال المهملة وبعد التحتية الساكنة لام الخزاعي المكي مما وصله الذهلي في الزهريات كما جزم به في المقدمة. وقال في الشرح: أظنها فيها الثلاثة (عن الزهري) محمد بن مسلم.

43 - باب مَنْ نَاجَى بَيْنَ يَدَىِ النَّاسِ وَمَنْ لَمْ يُخْبِرْ بِسِرِّ صَاحِبِهِ فَإِذَا مَاتَ أَخْبَرَ بِهِ
(باب من ناجى) أي خاطب غيره وتحدث معه (بين يدي الناس ولم يخبر) أحدًا (بسر صاحبه فإذا مات أخبر به) الغير.
6285 - 6286 - حَدَّثَنَا مُوسَى، عَنْ أَبِى عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا فِرَاسٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَتْنِى عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - تَمْشِى لاَ وَاللَّهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ قَالَ: «مَرْحَبًا بِابْنَتِى» ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ سَارَّهَا فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، إِذَا هِىَ تَضْحَكُ فَقُلْتُ لَهَا: أَنَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسِّرِّ مِنْ بَيْنِنَا، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلْتُهَا عَمَّا سَارَّكِ قَالَتْ: مَا كُنْتُ لأُفْشِىَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّىَ قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِى عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ لَمَّا أَخْبَرْتِنِى قَالَتْ: أَمَّا الآنَ، فَنَعَمْ. فَأَخْبَرَتْنِى قَالَتْ: أَمَّا حِينَ سَارَّنِى فِى الأَمْرِ الأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِى «أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِى بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلاَ أَرَى الأَجَلَ إِلاَّ قَدِ اقْتَرَبَ فَاتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى، فَإِنِّى نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكَ» قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِى الَّذِى رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِى سَارَّنِى الثَّانِيَةَ قَالَ: «يَا فَاطِمَةُ أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِى سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ»
وبه قال: (حدّثنا موسى) بن إسماعيل التبوذكي (عن أبي عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري أنه قال: (حدّثنا فراس) بكسر الفاء بعدها راء فألف فسين مهملة ابن يحيى المكتب الكوفي (عن عامر) أي ابن شراحيل الشعبي (عن مسروق) هو ابن الأجدع أنه قال: (حدثتني) بتاء التأنيث والإفراد (عائشة أم المؤمنين) -رضي الله عنها- أنها (قالت: إنا كنا أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ورضي عنهن (عنده) في مرض موته (جميعًا لم تغادر) بضم الفوقية وفتح المعجمة وبعد الألف مهملة مفتوحة فراء مبنيًّا للمجهول لم تترك (منا واحدة فأقبلت فاطمة) ابنته (عليها السلام تمشي لا) ولأبي ذر عن الكشميهني ولا (والله ما تخفى مشيتها) بفتح الميم وكسرها مصححًا على الفتح (من مشية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بكسرها بوزن فعلة وهي للنوع أي كان مشيها مماثلاً لمشيه (فلما رآها) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (رحّب) بتشديد المهملة (قال):
(مرحبًا) ولأبي ذر وقال مرحبًا (بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله) بالشك من الراوي (ثم سارّها) بتشديد الراء أي كلمها سرًّا (فبكت بكاءً شديدًا فلما رأى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حزنها سارّها الثانية إذا) ولأبي ذر: فإذا (هي تضحك) قالت عائشة -رضي الله عنها- (فقلت لها: أنا من بين نسائه خصك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالسر من بيننا ثم أنت تبكين فلما قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سألتها عما) بالألف بعد الميم ولأبي ذر عن الكشميهني: عم (سارك)؟ بإسقاط الألف (قالت: ما كنت لأفشي) بضم الهمزة (على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سرّه فلما توفي) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قلت لها: عزمت) أقسمت (عليك بما لي عليك من الحق) والباء في بما لي للقسم (لما) بفتح اللام وتشديد الميم مصححًا على كل منهما في الفرع كأصله بمعنى ألا (أخبرتني) وهي لغة مشهورة في هذيل تقول: أقسمت عليك لما فعلت كذا أي
ألا فعلت قاله الأخفش ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أخبرتني بإثبات التحتية بعد الفوقية (قالت) فاطمة -رضي الله عنها-: (أما الآن فنعم) أخبرك قالت عائشة: (فأخبرتني قالت) فاطمة -رضي الله عنها- (أما حين سارّني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة وأنه قد عارضني به) هذا (العام مرتين ولا أرى) بفتح الهمزة (الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري فإني نعم السلف أنا لك) بكسر الكاف (قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت) بكسر الفوقية (فلما رأى جزعي) عدم صبري (سارّني الثانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين) ولأبي ذر عن الكشميهني المؤمنات (أو سيدة نساء هذه الأمة).

44 - باب الاِسْتِلْقَاءِ
(باب) جواز (الاستلقاء) وهو الاضطجاع على القفا ووضع الظهر على الأرض سواء كان معه نوم أم لا.
6287 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ قَالَ: أَخْبَرَنِى عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى الْمَسْجِدِ مُسْتَلْقِيًا وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (عباد بن تميم) بفتح العين والموحدة المشدّدة المازني الأنصاري

(9/165)


(عن عمه) عبد الله بن زيد الأنصاري -رضي الله عنه- أنه (قال: رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد) حال كونه (مستلقيًا) على قفاه حال كونه (واضعًا إحدى رجليه على الأخرى) فيه كما قال الخطابي: إن النهي الوارد في مسلم عن ذلك منسوخ أو محمول على أنه حيث يخشى أن تبدو العورة والجواز حيث يؤمن ذلك، ورجح الثاني إذ النسخ لا يثبت بالاحتمال وعلى هذا فيجمع بينهما بما ذكر، وجزم به البغوي والبيهقي وغيرهما، والظاهر أن فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان لبيان الجواز كان في وقت الاستراحة لا عند مجتمع الناس لما عرف من عادته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الجلوس بينهم بالوقار التام، وعند البيهقي عن محمد بن نوفل أنه رأى أسامة بن زيد في مسجد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مضطجعًا إحدى رجليه على الأخرى.
والحديث سبق في أبواب المساجد وفي آخر اللباس وأخرجه مسلم في اللباس أيضًا وأبو داود والترمذي.

45 - باب لاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة: 9] إِلَى قَوْلِهِتَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
[التوبة: 51] وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} -إِلَى قَوْلِهِ- {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 12، 13].
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (لا يتناجى اثنان دون الثالث) إلا بإذنه وسقط باب لأبي ذر (وقوله تعالى) ولأبي ذر وقال عز وجل: ({يا أيها الذين آمنوا}) بألسنتهم وهو خطاب للمنافقين والظاهر أنه خطاب للمؤمنين ({إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول}) أي إذا تناجيتم فلا تشبهوا باليهود والمنافقين في تناجيهم بالشر وهو من التجوز بلفظ المراد عن الإرادة المعنى إذا أردتم التناجي ومنه {إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47] أي إذا أراد قضاء أمر، ومنه {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42] معناه وإن أردت الحكم فاحكم بينهم بالقسط وفيه مجاز من وجهين أحدهما التعبير بالحكم عن الإِرادة والثاني التعبير بالماضي عن المستقبل ({وتناجوا بالبر}) بأداء الفرائض والطاعات ({والتقوى} إلى قوله تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}) [المجادلة: 9 - 10] أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان وسقط لأبي ذر قوله: ({بالإثم والعدوان} إلى {فليتوكل}.
(وقوله) تعالى: ({يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول}) أي إذا أردتم مناجاته ({فقدموا بين يدي نجواكم صدقة}) أي قبل نجواكم وهي استعارة ممن له يدان كقول عمر -رضي الله عنه-: من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم قبل حاجته ({ذلك}) التقديم ({خير لكم}) في دينكم ({وأطهر}) لأن الصدقة طهرة ({فإن لم تجدوا}) ما تتصدقون به ({فإن الله غفور رحيم}) في ترخيص المناجاة من غير صدقة. وقد نسخ وجوب ذلك عنهم وقيل إنه لم يعمل بها قبل نسخها إلا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وقال معمر عن قتادة: ما كانت إلا ساعة من نهار، وعن ابن عباس لما أكثر المسلمون المسائل على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن نبيه فقال لهم: {إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة} [المجادلة: 12] فضنّ كثير من الناس وكفوا عن المسائلة فأنزل الله تعالى {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [المجادلة: 13] فوسع الله عليهم ولم يضيق (إلى قوله: {والله خبير بما تعملون}) [المجادلة: 12 - 13] ولأبي ذر {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} إلى قوله: {بما تعملون} وأشار بالآيتين الأوليين إلى أن التناجي الجائز مقيد بأن لا يكون في الإِثم والعدوان.
6288 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةٌ فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي الحافظ قال: (أخبرنا مالك) الإمام قال البخاري (ح).
(وحدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الأصبحي الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله) بن عمر (-رضي الله عنه-) وعن أبيه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا كانوا ثلاثة) بالرفع مصححًا عليه في الفرع كأصله، ولأبي ذر ثلاثة بالنصب وصحح عليه أيضًا خبر كان، والأول على أنها تامة، ونسب في فتح الباري وتبعه العيني الرفع لحديث مسلم ولعله لم يقف عليه في رواية البخاري (فلا يتناجى) بألف لفظًا مقصورة ثابتة

(9/166)


في الكتابة تحتية وتسقط في الدرج للساكنين بلفظ الخبر ومعناه النهي، وللكشميهني فلا يتناج بإسقاطها بلفظ النهي ومعناه (اثنان دون الثالث) لأنه ربما يتوهم أنهما يريدان به غائلة. وفي مسلم عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه".

46 - باب حِفْظِ السِّرِّ
(باب حفظ السر) وهو ترك إفشائه لأنه أمانة وحفظها واجب. وعند ابن أبي شيبة من حديث جابر مرفوعًا: إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة. وعند عبد الرزاق من مرسل أبي بكر بن حزم إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره.
6289 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِى قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: أَسَرَّ إِلَىَّ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِرًّا فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِى أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن صباح) بفتح الصاد آخره حاء مهملتين بينهما موحدة مشددة فألف العطار البصري قال: (حدّثنا معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي) سليمان بن طرخان التيمي (قال: سمعت أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (يقول: أسرّ إليّ) بتشديد الياء (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سرًّا فما أخبرت به أحدًا بعده) أي بعد وفاته عليه الصلاة والسلام (ولقد سألتني أم سليم) عن ذلك (فما أخبرتها به). وفي مسلم عن ثابت عن أنس فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت بعثني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحاجة. قالت: ما حاجته؟ قلت: إنه سر. قالت: لا تخبر بسر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحدًا الحديث. قال بعضهم: كان هذا السر يختص بنساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلاّ فلو كان من العلم ما وسع أنسًا كتمانه. وفي الفتح انقسام كتمان السر بعد صاحبه إلى ما يباح وقد يستحب ذكره، ولو كرهه صاحبه كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة وإلى ما يكره مطلقًا وقد يحرم، وهو ما إذا كان على صاحبه منه ضرر وغضاضة وقد يجب
ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه.
والحديث أخرجه مسلم في الفضائل.

47 - باب إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَلاَ بَأْسَ بِالْمُسَارَّةِ وَالْمُنَاجَاةِ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة) بتشديد الراء (والمناجاة) مع بعض دون بعض لعدم التوهم الحاصل بين الثلاثة وسقط لفظ باب لأبي ذر.
6290 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى رَجُلاَنِ دُونَ الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ أَجْلَ أَنْ يُحْزِنَهُ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر بالإفراد (عثمان) بن أبي شيبة قال: (حدّثنا جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا كنتم ثلاثة) بالنصب مصححًا عليه في الفرع كأصله (فلا يتناجى رجلان دون الآخر) بالياء والألف بعد جيم يتناجى في الفرع كأصله ولأبي ذر عن الكشميهني: فلا يتناج بجيم فقط من غير شيء بعدها (حتى تختلطوا بالناس) بالفوقية قبل الخاء المعجمة الساكنه في الفرع مصلحة على كشط بالتحتية أي حتى يختلط الثلاثة بغيرهم وهو أهم من أن يكون واحدًا فأكثر (أجل) بفتح الهمزة وسكون الجيم بعدها لام مفتوحة كذا استعملته العرب فقالوا: أجل قد فضلكم بحذف من أي من أجل (أن يحزنه) بضم التحتية وكسر الزاي وبفتح ثم ضم من أحزن وحزن والعلة ظاهرة لأن الواحد إذا بقي فردًا وتناجى من عداه دونه أحزنه ذلك إما لظنه احتقارهم إياه عن أن يدخلوه في نجواهم، وإما لأنه قد يقع في نفسه أن سرهم في مضرته، وهذا المعنى مأمون عند الاختلاط وعدم إفراده من بين القوم بترك المناجاة فلا يتناجى ثلاثة دون واحد ولا عشرة كما نقل عن أشهب لأنه قد نهى أن يترك واحدًا لأن المعنى في ترك الجماعة للواحد كترك الاثنين للواحد ومهما وجد المعنى فيه ألحق به في الحكم.
والحديث أخرجه مسلم في الاستئذان.
6291 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِى حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَسَمَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ قُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لآتِيَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ وَهْوَ فِى مَلأٍ فَسَارَرْتُهُ فَغَضِبَ، حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي (عن أبي حمزة) بالمهملة والزاي محمد بن ميمون السكري (عن الأعمش) سليمان (عن شقيق) أبي وائل بن سلمة (عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- أنه (قال: قسم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومًا قسمة) هو يوم حنين فآثر ناسًا فأعطى الأقرع مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى ناسًا

(9/167)


(فقال رجل من الأنصار) هو معتب (إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله) ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي به قال ابن مسعود (قلت: أما) بالتخفيف وهي ثابتة للحموي والمستملي (والله لآتين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأتيته وهو في ملأ) من الناس (فساررته) يقول الرجل (فغضب حتى احمرّ وجهه) من شدة غضبه لله (ثم قال):
(رحمة الله على موسى) أي الكليم (أوذي) بضم الهمزة وكسر الذال المعجمة (بأكثر من هذا) الذي أوذيت (فصبر).
والغرض من الحديث قوله: فأتيته وهو في ملأ فساررته لأن فيه دلالة على أن أصل المنع يرتفع إذا بقي جماعة لا يتأذون بالسرار. نعم إذا أذن من بقي ارتفع المنع وظاهر الإطلاق أنه لا فرق في المنع بين السفر والحضر وهو قول الجمهور، وخص ذلك بعضهم بالسفر في الموضع الذي لا يأمن فيه الرجل على نفسه فأما في الحضر والعمارة فلا بأس، وقيل: إن هذا كان في أول الإسلام فلما فشا الإسلام وأمن الناس سقط هذا الحكم، والصحيح بقاء الحكم والتعميم والله أعلم.
48 - باب طُولِ النَّجْوَى
{وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [المجادلة: 7] مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ.
(باب طول النجوى) قال في اللباب: النجوى يكون اسمًا ومصدرًا قال تعالى: ({وإذ هم نجوى}) أي متناجون. وقال: ({ما يكون من نجوى ثلاثة}) [المجادلة: 7] وقال في المصدر (إنما النجوى من الشيطان) وسقط لفظ باب لأبي ذر (وإذ هم نجوى) ولأبي ذر وقوله: وإذ هم نجوى هو (مصدر من ناجيت فوصفهم بها والمعنى يتناجون) وقال الأزهري: أي هم ذو نجوى وهذا كله ثابت في رواية المستملي.
6292 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة المعروف ببندار قال: (حدّثنا محمد بن جعفر) المعروف بغندر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد العزيز) بن صهيب (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: أقيمت الصلاة) أي صلاة العشاء كما
في مسلم (ورجل يناجي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يتحدث معه ولم أعرف اسم الرجل (فما زال يناجيه حتى نام أصحابه) -رضي الله عنهم-، وعند إسحاق بن راهويه في مسنده حتى نعس بعض القوم (ثم قام -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فصلّى).
والحديث سبق في باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة بلفظ حتى نام القوم كذا في الفرع وسائر ما وقفت عليه من الأصول، وفي النسخة التي شرح عليها الحافظ ابن حجر في الباب المذكور في الصلاة حتى نام بعض القوم، وقال في هذا الباب: فيحمل حديث الإطلاق أي في حديث هذا الباب على ذلك أي المقيد في ذلك الباب والله الموفق للصواب.

49 - باب لاَ تُتْرَكُ النَّارُ فِى الْبَيْتِ عِنْدَ النَّوْمِ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (لا تترك النار) بضم الفوقية مبنيًّا للمفعول والنار رفع نائب عن الفاعل أي لا يترك أحد (في البيت عند النوم).
6293 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَتْرُكُوا النَّارَ فِى بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا ابن عيينة) سفيان (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا تتركوا النار) على أي صفة كانت كالسراج وغيره (في بيوتكم حين تنامون) قيد به لحصول الغفلة به غالبًا. نعم إذا أمن الضرر كالقناديل المعلقة فلا بأس.
والحديث أخرجه مسلم في الأشربة وأبو داود في الأدب والترمذي في الأطعمة وابن ماجة في الأدب.
6294 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِى بُرْدَةَ، عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِىَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ»
وبه قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) أبو كريب الهمداني الكوفي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن بريد بن عبد الله) بضم الموحدة وفتح الراء (عن) جده (أبي بردة) عامر وقيل الحارث (عن) أبيه (أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: احترق بيت بالمدينة) الشريفة (على أهله) لم أقف على تسميتهم (من الليل فحدّث) بضم الحاء المهملة مبنيًّا للمفعول (بشأنهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إن هذه النار إنما هي عدوّ لكم) أي لأنها كما قال ابن العربي تنافي أبداننا وأموالنا منافاة العدوّ وإن كانت لنا بها منفعة فأطلق عليها العداوة لوجود معناها (فإذا نمتم فأطفئوها عنكم).
6295 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ كَثِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خَمِّرُوا الآنِيَةَ وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتِ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا حماد) هو ابن زيد (عن كثير) زاد أبو ذر هو ابن شنظير بكسر

(9/168)


المعجمتين بينهما نون ساكنة وبعد الظاء مثناة تحتية ساكنة فراء الأزدي البصري (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(خمّروا الآنية) أي غطّوها (وأجيفوا) بفتح الهمزة وكسر الجيم وبعد التحتية الساكنة فاء مضمومة أي أغلقوا (الأبواب وأطفئوا المصابيح) التي لا يؤمن معها الإِحراق (فإن الفويسقة) بضم الفاء وفتح الواو وبالسين المهملة وبالقاف الفارة المأمور بقتلها في الحل والمحرم والفسق الخروج عن الاستقامة وسميت بذلك على الاستعارة لخبثها، وقيل لأنها عمدت إلى حبال السفينة فقطعتها وليس في الحيوان أفسد منها لا تأتي على حقير ولا جليل إلا أهلكته وأتلفته (ربما جرت الفتيلة) التي في نحو السراج (فأحرقت أهل البيت). وفي حديث يزيد بن أبي نعيم عند الطحاوي أنه سأل أبا سعيد الخدري: لَم سميت الفأرة الفويسقة؟ قال: استيقظ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذات ليلة وقد أخذت فأرة فتيلة لتحرق على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البيت فقام إليها وقتلها وأحلّ قتلها للحلال والمحرم.
وعن ابن عباس قال: جاءت فأرة فأخذت تجرّ الفتيلة فذهبت الجارية تزجرها فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دعيها" فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الخمرة التي كان قاعدًا عليها فأحرقت منها موضع درهم، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم" ففيه بيان سبب الأمر بالإطفاء، وبيان السبب الحامل للفأرة على جرّ الفتيلة وهو الشيطان فيستعين وهو عدوّ الإنسان بعدوّ آخر وهي النار أعاذنا الله منها بوجهه الكريم دنيا وأخرى.
قال النووي: وهذا الأمر عام يدخل فيه نار السراج وغيرها، وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر، وإن أمن ذلك كما هو الغالب فالظاهر أنه لا بأس بهما لانتفاء العلة التي علل بها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإذا انتفت العلة زال المنع.

فائدة:
ذكر أصحاب الكلام في الطبائع أن الله تعالى جمع في النار الحركة والحرارة واليبوسة واللطافة والنور، وهي تفعل بكل صورة من هذه الصور خلاف ما تفعل بالأخرى، فبالحركة تغلي
الأجسام، وبالحرارة تسخن، وباليبوسة تجفف وباللطافة تنفذ، وبالنور تضيء ما حولها. ومنفعة النار تختص بالإنسان دون سائر الحيوان فلا يحتاج إليها شيء سواه وليس له غنى عنها في حال من الأحوال ولذا عظّمها المجوس.
والحديث سبق في كتاب بدء الخلق، وأخرجه أبو داود في الأشربة والترمذي في الاستئذان.

50 - باب إِغْلاَقِ الأَبْوَابِ بِاللَّيْلِ
(باب) مشروعية (إغلاق الأبواب) بهمزة مكسورة، ولأبي ذر غلق الأبواب (بالليل) بإسقاط الهمزة في لغة قليلة.
6296 - حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِى عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ» قَالَ هَمَّامٌ، وَأَحْسِبُهُ قَالَ: «وَلَوْ بِعُودٍ».
وبه قال: (حدّثنا حسان بن أبي عباد) بفتح الحاء والسين المشددة المهملتين في الأول وفتح العين والموحدة المشددة في الثاني واسمه حسان أيضًا البصري ثم المكي قال: (حدثنا همام) هو ابن يحيى (عن عطاء) هو ابن أبي رباح ولأبي ذر حدّثنا عطاء (عن جابر) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
(أطفئوا المصابيح بالليل إذا رقدتم) إذ هو الغفلة فربما سقط منها شيء على متاع البيت أو جرّت الفويسقة الفتيلة فيقع الحريق (وغلّقوا) بفتح المعجمة وكسر اللام المشددة، ولأبي ذر عن الكشميهني: وأغلقوا (الأبواب) حراسة للأنفس والأموال من أهل الفساد ولا سيما الشيطان (وأوكئوا الأسقية) أي اربطوا فم القُرب وشدوه صيانة من الشيطان فإنه لا يكشف غطاء ولا يحل سقاء واحترازًا من الوباء الذي ينزل في ليلة من السنة من السماء، كما روي، وقيل إنها في كانون الأول (وخمّروا الطعام والشراب) بالخاء المعجمة أي غطوهما (قال همام) هو ابن يحيى السابق (وأحسبه) أي أظن عطاء (قال): وخمروا الطعام والشراب (ولو بعود) زاد أبو ذر عن الكشميهني يعرضه أي أحدكم عليهما.

51 - باب الْخِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ وَنَتْفِ الإِبْطِ
(باب) ذكر

(9/169)


مشروعية (الختان بعد الكبر) بكسر الكاف وفتح الموحدة والختان بكسر الخاء المعجمة قطع القلفة التي تغطي الحشفة في فرج الرجل، وقطع بعض الجلدة التي في أعلى فرج المرأة ويسمى ختان الرجل إعذارًا بالعين المهملة والذال المعجمة، وختان المرأة خفضًا بالخاء والضاد المعجمتين بينهما فاء ساكنة (و) ذكر مشروعية (نتف الإِبط).
6297 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قُزَعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن قزعة) بالقاف والزاي والعين المهملة المفتوحات المكي المؤذن قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن ابن شهاب) الزهري (عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الفطرة) أي خصال الفطرة التي هي سنّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين أمرنا بالاقتداء بهم (خمس الختان) وهو واجب عند الشافعية وقال مالك وأبو حنيفة: سنّة (و) ثانيها (الاستحداد) وهو حلق شعر العانة (و) ثالثها (نتف) شعر (الإِبط و) رابعها (قصّ الشارب و) خامسها (تقليم الأظفار) وسبق في أواخر اللباس مبحث ذلك. والغرض منه هنا ذكر الختان وهو واجب الأربعة والأخرى سنّة، فالمراد بالفطرة السنّة التي هي الطريقة الأعم من المندوب.
6298 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِى حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ» مُخَفَّفَةً. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ أَبِى الزِّنَادِ وَقَالَ: «بِالْقَدُّومِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب بن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(اختتن إبراهيم) خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام (بعد ثمانين سنة) من مولده (واختتن بالقدُوم) بفتح القاف وضم الدال المهملة (مخففة) بعدها واو فميم.
(قال أبو عبد الله) البخاري (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا المغيرة) بن عبد الله الحزامي بالحاء المهملة المكسورة والزاي المخففة المدني. (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان الحديث (وقال: بالقدوم وهو موضع مشدد) داله وسقط لغير أبي ذر وهو موضع مشدد وفي المتفق للجوزقي بسند صحيح عند عبد الرزاق قال: القدوم قرية، وفي تاريخ أبي العباس السراج عن عبيد الله بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن أبي عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "اختتن إبراهيم بالقدوم" قال: فقلت ليحيى ما القدوم؟ قال: الفأس. وقال ابن القيم: الأكثر أن القدوم الذي اختتن به إبراهيم هو الآلة ويقال بالتشديد والتخفيف والأفصح التخفيف، وأنكر ابن السكيت التشديد مطلقًا، وقيل: قدوم كانت قرية عند حلب، وقيل، كانت مجلس إبراهيم. وقال
المهلب بالتخفيف الآلة وبالتشديد الموضع. قال: وقد يتفق لإبراهيم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأمر أن يعني أنه اختتن بالآلة وفي الموضع، وفي الموطأ من رواية أبي الزناد عن الأَعرج عن أبي هريرة موقوفًا عليه أن إبراهيم أول من اختتن وهو ابن عشرين ومائة واختتن بالقدوم وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، وهو في فوائد ابن السماك من طريق أبي أويس عن أبي الزناد بهذا السند مرفوعًا، لكن أبو أويس فيه لين وأكثر الروايات أنه اختتن وهو ابن ثمانين كحديث الباب، وجمع في الفتح بينهما على تقدير تساوي الحديثين في الرتبة باحتمال أن يكون المراد بقوله: وهو ابن ثمانين سنة من وقت فراق قومه وهاجر من العراق إلى الشام، وأن الرواية الأخرى وهي ابن مائة وعشرين أي من مولده، وأن بعض الرواة رأى مائة وعشرين فظنها مائة إلا عشرين أو بالعكس، وليس المراد تأخير الاختتان لما ذكر كما لا يخفى، والذي ينبغي المبادرة به عند بلوغ السن الذي يؤمر فيه الصبي بالصلاة، وثبت لأبي ذر قوله: قال أبو عبد الله، وقوله وهو موضع مشدد.
6299 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ، قَالَ: وَكَانُوا لاَ يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ. [الحديث 6299 - طرفه في: 6300].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر بالإِفراد (محمد بن عبد الرحيم) صاعقة البغدادي قال: (أخبرنا عباد بن موسى) بتشديد الموحدة بعد فتح المهملة الختلي بضم الخاء المعجمة وتشديد الفوقية المفتوحة بعدها لام من شيوخ المؤلّف قال: (حدّثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري الزرقي (عن إسرائيل)

(9/170)


بن يونس (عن) جده (أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن سعيد بن جبير) أنه (قال: سئل ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مثل) بكسر الميم وسكون المثلثة (من أنت حين قبض النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: أنا يومئذٍ) يوم قبض (مختون قال) أبو إسحاق أو إسرائيل أو من دونه (وكانوا لا يختنون الرجل) بفتح التحتية وكسر الفوقية أي كانت عادتهم لا يختنون الصبي (حتى يدرك) الحلم.
6300 - وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُبِضَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا خَتِينٌ.
(وقال ابن إدريس): هو عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الأودي الكوفي فيما وصله الإِسماعيلي (عن أبيه) إدريس (عن أبي إسحاق) السبيعي (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (قبض النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا ختين) بفتح المعجمة وكسر الفوقية، والصحيح أن ابن عباس ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة فيكون أدرك فختن قبل الوفاة النبوية وبعد حجة الوداع، والختان إنما يجب بعد البلوغ ويندب قبله.
ووجه مناسبة الترجمة لكتاب الاستئذان كما قال الكرماني: إن الختان يستدعي الاجتماع في المنازل غالبًا.

52 - باب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ
وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6].
هذا (باب) بالتنوين (كل لهو باطل إذا شغله) أي شغل اللاهي به (عن طاعة الله) ولو كان مأذونًا فيه كمن اشتغل بصلاة نافلة أو تلاوة أو ذكر أو تفكّر في معاني القرآن حتى خرج وقت المفروضة عمدًا (و) حكم (من قال لصاحبه: تعال أقامرك) بالجزم (وقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث}) [لقمان: 6].
قال ابن مسعود فيما رواه ابن جرير: هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات. وبه قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير، وقال الحسن: أنزلت في الغناء والمزامير، وعند الإمام أحمد عن وكيع قال: حدّثنا خلاّد الصفار عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن هو أبو عبد الرحمن مرفوعًا: "لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهن وأكل أثمانهن حرام". ورواه ابن أبي شيبة بالسند المذكور إلى القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا بلفظ أحمد، وزاد وفيه أنزلت هذه الآية {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} ورواه الترمذي من حديث القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية". وقال: حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه قال: وسألت البخاري عن إسناد هذا الحديث فقال: علي بن يزيد ذاهب الحديث ووثق عبيد الله والقاسم بن عبد الرحمن، ورواه ابن ماجة في التجارات من حديث عبيد الله الأفريقي عن أبي أمامة قال: نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن بيع المغنيات وعن شرائهن وعن كسبهن وعن أكل أثمانهن. ورواه الطبراني عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ثمن القينة سحت وغناؤها حرام والنظر إليها حرام وثمنها من ثمن الكلب وثمن الكلب سحت ومن نبت لحمه من سحت فالنار أولى به". ورواه البيهقي عن أبي أمامة من طريق ابن زحر مثل رواية الإمام أحمد، وفي معجم الطبراني الكبير من حديث أبي أمامة الباهلي أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَم قال: "ما رفع رجل بعقيرته غناء إلا بعث الله شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يسكت متى سكت". وقيل الغناء مفسدة للقلب منفذة للمال مسخطة للرب، وفي ذلك الزجر الشديد للأشقياء المعرضين عن الانتفاع بسماع كلام الله المقبلين على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب وإضافة اللهو إلى الحديث للتبيين بمعنى "من" لأن اللهو يكون من الحديث وغيره فبين بالحديث أو للتبعيض كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه
({ليضل}) أي ليصد الناس ({عن سبيل الله}) دين الإِسلام والقرآن وسقط لأبي ذر قوله {ليضل عن سبيل الله} وقال بدلها: الآية.
6301 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير)

(9/171)


هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي مولاهم المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري الإمام المشهور (عن عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي الأموي مولاهم (عن ابن شهاب) الزهري أَنه (قال: أخبرني) بالإفراد (حميد بن عبد الرحمن) بضم الحاء المهملة وفتح الميم ابن عوف الزهري المدني (أن أبا هريرة) -رضي الله عنه- (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من حلف منكم) بغير الله (فقال في حلفه) يمينه (باللات) بالموحدة أوله (والعزى) كما يحلف المشركون (فليقل لا إله إلا الله) المبرأ من الشرك فإنه قد شابه الكفار حيث حلف بآلهتهم فكفارته كلمة التوحيد (ومن قال لصاحبه تعال) بفتح اللام (أقامرك) الهمزة والجزم جواب الأمر (فليتصدق) بما يطلق عليه اسم الصدقة فإنه يكفر عنه إثم دعائه صاحبه إلى القمار المحرم اتفاقًا وفيه أن القمار من جملة اللهو.
وجه تعلق هذا الحديث بالترجمة والترجمة. بالاستئذان كما قاله في الكواكب أن الداعي إلى القمار لا ينبغي أن يؤذن له في دخول المنزل، ثم لكونه يتضمن اجتماع الناس، ومناسبة بقية حديث الباب للترجمة أن الحلف باللات لهو يشغل عن الحق بالخلق فهو باطل.
والحديث سبق في تفسير سورة النجم.

53 - باب مَا جَاءَ فِى الْبِنَاءِ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِى الْبُنْيَانِ».
(باب ما جاء في البناء) من إباحة ومنع.
(وقال أبو هريرة) -رضي الله عنه- مما سبق موصولاً في كتاب الأيمان (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في سؤال جبريل إياه متى الساعة قال: (من أشراط الساعة) أي علاماتها السابقة عليها أو مقدماتها (إذا تطاول رعاء البهم في البنيان) بكسر الراء وبعد الألف همزة ممدودًا والبهم بفتح الموحدة وسكون الهاء، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: رعاة بضم الراء وبعد الألف هاء تأنيث أي وقت تفاخرهم في طول بيوتهم ورفعتها تطاول الرجل إذا تكبر. قال في الفتح: وأشار المؤلّف بهذه القطعة من الحديث إلى ذم التطاول في البنيان وفي الاستدلال بذلك نظر، وقد ورد في ذم تطويل
البناء صريحًا ما أخرج ابن أبي الدنيا بسند ضعيف مع كونه موقوفًا من رواية عمارة بن عامر: إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي يا فاسق إلى أين تذهب؟ وفي ذمه مطلقًا حديث خباب يرفعه: "يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب" أو قال: "البناء" صححه الترمذي، وأخرج له شاهدًا عن أنس بلفظ: إلا البناء فلا خير فيه، وفي المعجم الأوسط من حديث أبي بشير الأنصاري إذا أراد الله بعبد سوءًا أنفق ماله في البنيان وهو محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بدّ منه للتوطن وما يكن من البرد والحرّ.
6302 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ: رَأَيْتُنِى مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنَيْتُ بِيَدِى بَيْتًا يُكِنُّنِى مِنَ الْمَطَرِ، وَيُظِلُّنِى مِنَ الشَّمْسِ مَا أَعَانَنِى عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا إسحاق هو ابن سعيد) بكسر العين ابن عمرو بن سعيد بن العاصي الأموي القرشي (عن) أبيه (سعيد عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: رأيتني) بضم الفوقية أي رأيت نفسي (مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في زمنه (بنيت بيدي بيتًا يكنني) بضم التحتية والنون الأولى المشددة بينهما كاف مكسورة من أكن أي يقيني (من المطر ويظلني من الشمس ما أعانني عليه) أي على بنائه (أحد من خلق الله) عز وجل تأكيد لقوله بنيت بيدي.
والحديث أخرجه ابن ماجة في الزهد.
6303 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلاَ غَرَسْتُ نَخْلَةً مُنْذُ قُبِضَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ سُفْيَانُ: فَذَكَرْتُهُ لِبَعْضِ أَهْلِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَنَى قَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ فَلَعَلَّهُ قَالَ: قَبْلَ أَنْ يَبْنِىَ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال عمرو) بفتح العين ابن دينار (قال ابن عمر) عبد الله -رضي الله عنهما-: (والله ما وضعت لبنة على لبنة) بفتح اللام وكسر الموحدة فيهما ويجوز الكسر ثم السكون (ولا غرست نخلة منذ قبض النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال سفيان) بن عيينة (فذكرت) أي الحديث (لبعض أهله) أي أهل ابن عمر، ولم يقف الحافظ ابن حجر على تسميته (قال: والله لقد بنى) ابن عمر زاد أبو ذر عن الكشميهني بيتًا. (قال سفيان: قلت) لبعض أهله (فلعله قال) ما وضعت لبنة على لبنة (قبل أن يبني) البيت الذي

(9/172)


بناه بيده وهو اعتذار حسن من سفيان -رحمه الله تعالى-.
هذا آخر كتاب الاستئذان ولله الحمد والمنّة فرغ في رابع عشر جمادى الأولى سنة أربع عشرة وتسعمائة وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.