شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
82 - كتاب القدر
(كتاب القدر) زاد أبو ذر عن المستملي فقال: باب بالتنوين
في القدر وهو بفتح القاف والدال المهملة وقد تسكن. قال
الراغب فيما رأيته في فتوح الغيب: القدر هو التقدير
والقضاء هو التفصيل والقطع فالقضاء أخص من القدر لأن الفصل
بين التقدير فالقدر كالأساس والقضاء هو التفصيل والقطع
وذكر بعضهم أن القدر بمنزلة المعدّ للكيل والقضاء بمنزلة
الكيل، ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر -رضي الله عنه- لما
أراد الفرار من الطاعون بالشأم أتفرّ من القضاء؟ قال: أفرّ
من قضاء الله إلى قدر الله تنبيهًا على أن القدر لم يكن
قضاء فمرجوّ أن يدفعه الله فإذا قضى فلا مدفع له ويشهد
لذلك قوله تعالى: {وكان أمرًا مقضيًّا} [مريم: 21] {وكان
على ربك حتمًا مقضيًّا} [مريم: 71] تنبيهًا على أنه صار
(9/343)
بحيث لا يمكن تلافيه.
ويذكر أن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل فقال: أشكل
عليّ قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] وقال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "جف القلم بما
أنت لاقيه". وقال أهل السنة: إن الله تعالى قدّر الأشياء
أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد
منها ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلوي والسفلي
إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن
الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة
وأن ذلك كله إنما حصل لهم
بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه لا إله إلا هو ولا خالق
غيره كما نص عليه القرآن والسُّنّة.
وقال ابن السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من
الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل فمن عدل عن التوقيف
فيه ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء ولا ما يطمئن به
القلب، لأن القدر سرّ من أسرار الله تعالى اختص العليم
الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم
لما علمه من الحكمة فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب قيل
إن القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف قبل دخولها.
1 - باب في القدر
6594 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنِى سُلَيْمَانُ
الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ الصَّادِقُ
الْمَصْدُوقُ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِى
بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً
مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ،
ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ:
بِرِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَشَقِىٌّ، أَوْ سَعِيدٌ،
فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوِ الرَّجُلَ يَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، أَوْ ذِرَاعَيْنِ فَيَسْبِقُ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ
فَيَدْخُلُهَا». قَالَ آدَمُ: إِلاَّ ذِرَاعٌ.
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك) الطيالسي
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (أنبأني) بالإفراد من
الأنباء (سليمان الأعمش) الكوفي (قال: سمعت زيد بن وهب)
الجهني أبًا سليمان الكوفي مخضرم (عن عبد الله) بن مسعود
-رضي الله عنه- أنه (قال: حدّثنا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الصادق) المخبر بالقول
الحق (المصدوق) الذي صدقه الله وعده، والجملة كما قال في
شرح المشكاة الأولى أن تكون اعتراضية لا حالية ليعم
الأحوال كلها وأن يكون من عادته ودأبه ذلك فما أحسن موقعه
هنا (قال):
(إن أحدكم) في اليونينية مضبوطة أن بفتح الهمزة وقبلها قال
مخرجة مصحح عليها فالله أعلم هل الضبط قبل تخريج قال أم
بعده؟ كذا رأيته في الفرع كأصله. وقال أبو البقاء. لا يجوز
إلا الفتح لأنه مفعول حدّثنا، فلو كسر لكان منقطعًا عن
قوله حدثنا وجزم النووي في شرح مسلم بأنه بالكسر على
الحكاية، وحجة أبي البقاء أن الكسر على خلاف الظاهر ولا
يجوز العدول عنه إلا لمانع ولو جاز من غير أن يثبت به
النقل لجاز في مثل قوله تعالى {أيعدكم أنكم إذا متم}
[المؤمنون: 35] وقد اتفق القراء على أنها بالفتح لكن تعقبه
الخويي بأن الرواية جاءت بالفتح والكسر فلا معنى للرد قال:
ولو لم تجيء به الرواية لما امتنع جوازًا على طريق الرواية
بالمعنى. وأجاب عن الآية بأن الوعد مضمون الجملة وليس
بخصوص لفظها، فلذلك اتفقوا على الفتح، وأما هنا فالتحديث
يجوز أن يكون بلفظه وبمعناه اهـ. من فتح الباري، وهذا مبني
على حذف قال وعلى تقدير حذفها في الرواية فهي مقدرة إذ لا
يتم المعنى بدونها، ولأبي ذر عن الكشميهني إن خلق أحدكم أي
ما يخلق منه أحدكم (يجمع) بضم أوّله وسكون الجيم وفتح
الميم أي يحزن (في بطن أمه). قال في النهاية: ويجوز أن
يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم أي تمكث النطفة في الرحم
(أربعين يومًا) تتخمر فيها حتى تتهيأ للخلق.
وقال القرطبي أبو العباس المراد أن المنيّ يقع في الرحم
حين انزعاجه بالقوّة الشهوانية الدافعة مبثوبًا متفرفًا
فيجمعه في محل الولادة من الرحم، وفي رواية آدم في
التوحيد: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا أو
أربعين ليلة بالشك، وزاد أبو عوانة من رواية وهب بن جرير
عن شعبة نطفة بين قوله أحدكم وبين قوله أربعين فبين أن
الذي يجمع هو النطفة والنطفة المني فإذا لاقى مني الرجل
مني المرأة بالجماع وأراد الله تعالى أن يخلف من ذلك
جنينًا هيأ أسباب ذلك لأن في رحم المرأة قوّتين قوّة
انبساط عند مني الرجل حتى ينتشر في جسدها وقوّة انقباض
بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسًا ومع كون المني
ثقيلاً بطبعه، وفي مني الرجل قوّة الفعل، وفي مني المرأة
قوّة الانفعال فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة
للبن، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره من رواية الأعمش عن
خيثمة
(9/344)
بن عبد الرَّحمن عن ابن مسعود أن النطفة
إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارت في
جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يومًا ثم تنزل
دمًا في الرحم. قال في شرح المشكاة: والصحابة أعلم الناس
بتفسير ما سمعوه وأحقهم بتأويله وأولاهم بالصدق وأكثرهم
احتياطًا فليس لمن بعدهم أن يردّ عليهم اهـ.
وفيه أن ابتداء جمعه من ابتداء الأربعين، وعند أبي عوانة
اثنتان وأربعون، وعند الفريابي من طريق محمد بن مسلم
الطائفي عن عمرو بن الحارث خمسة وأربعين ليلة. (ثم يكون
علقة) دمًا غليظًا جامدًا تحوّل من النطفة البيضاء إلى
العلقة الحمراء وسمي بذلك للرطوبة التي فيه وتعلقه ما مرّ
به (مثل ذلك) الزمان وهو الأربعون (ثم يكون) يصير (مضغة)
بضم الميم وسكون المعجمة قطعة لحم قدر ما يمضع (مثل ذلك)
الزمان وهو أربعون (ثم) في الطور الرابع حين يتكامل بنيانه
وتتشكل أعضاؤه (يبعث الله ملكًا) موكلاً بالرحم، وعند
الفريابي من رواية أبي الزبير أتى ملك الأرحام ولأبي ذر عن
الكشميهني يبعث بضم أوّله مبنيًّا للمفعول إليه ملك
لتصويره وتخليقه وكتابة ما يتعلق به فينفخ فيه الروح كما
أمر بذلك، وفي حديث علي عند ابن أبي حاتم إذا تمت النطفة
أربعة أشهر بعث الله إليها ملكًا فينفخ فيها الروح وإسناد
النفخ إلى الملك مجاز عقلي لأن ذلك من أفعال الله كالخلق
(فيؤمر بأربع) بالتذكير، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي:
بأربعة والمعدود إذا أبهم جاز تذكيره وتأنيثه أي يؤمر
بكتابة أربعة أشياء من أحوال الجنين (برزقه) أي غذائه
حلالاً أو حرامًا قليلاً أو كثيرًا وكل ما ساقه الله تعالى
إليه فيتناول العلم ونحوه (وأجله) طويل أو قصير (وشقي)
باعتبار ما يختم له (أو سعيد) كذلك وكل من اللفظين مرفوع
مصحح عليه بالفرع كأصله خبر مبتدأ محذوف ويجوز الجر، وتعقب
العيني الرفع فقال ليس كذلك لأنه معطوف على المجرور
السابق، وقال في شرح المشكاة: كان حق الظاهر أن يقول تكتب
سعادته وشقاوته فعدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما
والتفصيل وارد عليهما.
(فوالله إن أحدكم أو الرجل) بالشك من الراوي (يعمل بعمل
أهل النار) من المعاصي والباء
في بعمل زائدة للتأكيد أي يعمل عمل أهل النار أو ضمن معنى
يعمل معنى يتلبس أن يتلبس بعمل أهل النار (حتى ما يكون)
نصب بحتى وما نافية غير مانعة لها من العمل وجوز بعضهم كون
حتى ابتدائية فيكون رفع وهو الذي في اليونينية (بينه
وبينها غير باع أو ذراع) برفع غير (فيسبق عليه) ما تضمنه
(الكتاب) بفاء التعقيب المقتضية لعدم المهلة وضمن يسبق
معنى يغلب وعليه في موضع نصب على الحال أي يسبق المكتوب
واقعًا عليه (فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) والمعنى أنه
يتعارض عمله في اقتضاء الشقاوة والمكتوب في اقتضاء السعادة
فيتحقق مقتضى المكتوب فعبر عن ذلك بالسبق لأن السابق يحصل
مراده دون المسبوق (وإن الرجل) ولم يقل وإن أحدكم أو الرجل
على الشك كما سبق (ليعمل) بلام التأكيد (بعمل أهل الجنة)
من الطاعات (حتى ما يكون بينه وبينها) أي الجنة (غير ذراع)
برفع غير (أو ذراعين) ولأبي ذر أو باع بدل ذراعين والباع
قدر مد اليدين "فيسبق عليه الكتاب" أي مكتوب الله وهو
القضاء الأزلي (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها قال) ولأبوي
ذر والوقت وقال (آدم) بن أبي إياس مما وصله في التوحيد
(إلا ذراع) فلم يشك، ولأبي ذر عن المستملي والحموي: إلا
باع بدل ذراع والتعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت
فيحال بينه وبين المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة
وضابط ذلك الحسي الغرغرة التي جعلت علامة لعدم قبول
التوبة، وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صرفًا إلى الموت
لا الذين خلطوا وماتوا على الإسلام فلم يقصد تعميم أحوال
المكلفين بل أورده لبيان أن الاعتبار بالخاتمة ختم الله
أعمالنا بالصالحات بمنه وكرمه.
وفي مسلم من حديث أبي هريرة: إن الرجل ليعمل الزمان الطويل
بعمل
(9/345)
أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة، وعند
أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة سبعين سنة، وعنده أيضًا عن
عائشة مرفوعًا: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وهو مكتوب
في الكتاب الأول من أهل النار فإذا كان قبل موته تحوّل
فعمل عمل أهل النار فمات فدخلها الحديث، وفيه أن في
التقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق فالسابق ما في علم الله
تعالى واللاحق ما يقدر على الجنين في بطن أمه كما في هذا
الحديث وهذا هو الذي يقبل النسخ.
6595 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ
أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَىْ
رَبِّ نُطْفَةٌ؟ أَىْ رَبِّ عَلَقَةٌ؟ أَىْ رَبِّ
مُضْغَةٌ؟ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِىَ
خَلْقَهَا قَالَ: أَىْ رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى
أَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ؟
فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِى بَطْنِ أُمِّهِ».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الإمام أبو أيوب الواشحي
البصري قاضي مكة قال: (حدّثنا حماد) هو ابن زيد (عن عبيد
الله) بضم العين (ابن أبي بكر بن أنس عن) جده (أنس بن مالك
-رضي الله عنه-) سقط لأبي ذر ابن أنس وابن مالك (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(وكل الله) عز وجل بتشديد الكاف (بالرحم ملكًا) وفي الحديث
السابق ثم يبعث الله ملكًا (فيقول) عند نزول النطفة في
الرحم التماسًا لإتمام الخلقة (أي) بسكون الياء أي يا (رب)
هذه (نطفة أي رب) هذه (علقة أي رب) هذه (مضغة) ويجوز النصب
فيها على إضمار فعل أي خلقت أو صار، والمراد أنه يقول كل
كلمة من ذلك الوقت الذي يصير فيه كذلك، فبين قوله أي رب
نطفة وقوله علقة أربعون يومًا كقوله يا رب مضغة لا في وقت
واحد إذ لا تكون النطفة علقة مضعة في ساعة واحدة.
وحديث ابن مسعود السابق يدل على أن الجنين يتقلب في مائة
وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين ثم بعد
تكملتها ينفخ فيه الروح، وقد ذكر الله تعالى هذه الأطوار
الثلاثة من غير تقييد بمدة في سورة الحج، وزاد في سورة
المؤمنين بعد المضعة {فخلقنا المضعة عظامًا فكسونا العظام
لحمًا} [المؤمنون: 14] الآية ويؤخذ منها، ومن حديث الياب
أن تصير المضعة عظامًا بعد نفخ الروح.
(فإذا أراد الله) عز وجل (أن يقضي خلقها) أي يأذن فيها أو
يتمها (قال: أي) ولأبوي ذر والوقت يا (رب ذكر) ولأبي ذر
أذكر (أم أنثى) وفي حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم إذا مر
بالنطفة ثلاث وأربعون وفي نسخة ثنتان وأربعون ليلة بعث
الله إليها ملكًا فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها
وعظمها ثم قال: أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء ويكتب
الملك، وعند الفريابي عن حذيفة بن أسيد إذا وقعت النطفة في
الرحم ثم استقرت أربعين ليلة قال: فيجيء ملك الرحم فيدخل
فيصور له عظمه ولحمه وشعره وبشره وسمعه وبصره ثم يقول: أي
رب ذكر أو أنثى الحديث وهذا كما قال عياض: ليس على ظاهره
لأن التصوير إنما يقع في آخر الأربعين الثالثة، فالمعنى في
قوله فصوّرها كتب الله ذلك ثم يفعله بعد بدليل قوله بعد
ذلك أذكر أم أنثى (أشقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل
فيكتب) بصيغة المبني للمفعول أي فيكتب الملك (كذلك)
المذكور من الشقاء والسعادة والرزق والأوجل على جبهته أو
رأسه مثلاً وهو (في بطن أمه).
وفي الحديث أن خلق السمع والبصر يقع والجنين في بطن أمه
وهو محمول جزمًا على الأعضاء ثم على القوة الباصرة
والسامعة لأنها مودعة فيهما وأما الإدراك، فالذي يترجح أنه
يتوقف على زوال الحجاب المانع. وقال المظهري إن الله تعالى
يحوّل الإنسان في بطن أمه حالة بعد حالة مع أنه تعالى قادر
على أن يخلقه في لمحة وذلك أن في التحويل فوائد وعبرًا
منها أنه لو خلقه دفعة لشق على الأم لأنها ما تكن معتادة
لذلك فجعل أولاً نطفة لتعتاد بها مدة ثم علقة مدة وهلم جرا
إلى الولادة ومنها إظهار قدرة الله تعالى ونعمته ليعبدوه
ويشكروا له حيث قلبهم من تلك الأطوار إلى كونهم إنسانًا
حسن الصورة متحليًا العقل والشهامة متزينًا بالفهم
والفطانة، ومنها إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على
الحشر والنشر لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين ثم
من علقة
ومضعة مهيأة لنفخ الروح فيه يقدر على صيرورته ترابًا ونفخ
الروح فيه وحشره في المحشر للحساب والجزاء.
2 - باب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ
وَقَوْلُهُ: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:
23].
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: لِى النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا
أَنْتَ لاَقٍ».
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَهَا سَابِقُونَ} سَبَقَتْ لَهُمُ
السَّعَادَةُ.
هذا (باب) بالتنوين في فرع اليونينية كهي قال الحافظ ابن
حجر: خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب وتعقبه
(9/346)
العيني فقال: هذا قول من لم يمس شيئًا من
الإعراب والتنوين يكون في المعرب ولفظ باب هنا مفرد فكيف
ينون والتقدير هذا باب يذكر فيه (جف القلم على علم الله)
عز وجل. وأجاب في انتقاض الاعتراض بأن الكرماني قد جوز في
كل ما لم يكن مضافًا التنوين والجزم على قصد السكون لأنه
للتعداد، وقد أكثر المصنفون من الفقهاء والعلماء حتى
النحاة وغيرهم في تصانيفهم ذكر باب بغير إضافة، وكذا ذكر
فصل وفرع وتنبيه ونحو ذلك وكله يحتاج إلى تقدير، وقول
الشارح باب هو بالتنوين لا يستلزم نفي التقدير، وقد سلم
العيني هذا المقدر فقال في باب المحاربين باب بالتنوين لا
يكون إلا بالتقدير، لأن المعرب هو جزء المركب والمفرد وحده
لا ينون انتهى.
وجفاف القلم كناية عن الفراغ من الكتابة فهو كما قال
الطيبي: من إطلاق اللازم على الملزوم لأن الفراغ من
الكتابة يستلزم جفاف القلم عن مداده مخاطبة لنا بما نعهد،
وقوله على علمه أي حكمه لأن معلومه لا بدّ أن يقع فعلمه
بمعلومه يستلزم الحكم بوقوعه.
وفي حديث عبد الله بن عمر عند أحمد وصححه ابن حبان من طريق
عبد الله بن الديلمي عنه مرفوعًا: إن الله عز وجل خلق خلقه
في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذٍ
اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول جف القلم على علم الله،
والقائل أقول هو عبد الله بن عمر كما عند أحمد وابن حبان
من طريق أخرى عن ابن الديلمي، ويذكر أن عبد الله بن طاهر
أمير خراسان للمأمون سأل الحسين بن الفضل عن قوله تعالى:
{كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] وقوله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: جف القلم فقال هي شؤون يبديها لا
شؤون يبتديها فقام إليها وقبل رأسه.
(وقوله) تعالى: ({وأضله الله على علم}) [الجاثية: 23] حال
من الجلالة أي كائنًا على علم منه أو حال من المفعول أي
أضله وهو عالم وهذا أشنع له فعلى الأول المعنى أضله الله
تعالى على علمه في الأزل وهو حكمه عند ظهوره وعلى الثاني
أضله بعد أن أعلمه وبين له فلم يقبل.
(وقال أبو هريرة) -رضي الله عنه- مما وصله المؤلّف في
أوائل النكاح (قال لي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: جف القلم بما أنت لاق) وعند الطبراني من حديث
ابن عباس: واعلم أن القلم قد جف بما هو كائن، وفي حديث
الحسن بن علي عند الفريابي رفع الكتاب وجف القلم.
(قال): ولأبي ذر وقال (ابن عباس) -رضي الله عنهما- في
تفسير قوله تعالى ({لها سابقون}) من قوله تعالى: {أولئك
يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} [المؤمنون: 61] مما
وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه أي (سبقت
لهم السعادة) أي يرغبون في الطاعات فيبادرونها بما سبق لهم
من السعادة بتقدير الله. قال الكرماني: فإن قلت: تفسير ابن
عباس يدل على أن السعادة سابقة والآية على أن السعادة
مسبوقة. وأجاب: بأن معنى الآية أنهم سبقوا لأجل السعادة لا
أنهم سبقوا السعادة.
6596 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ الرِّشْكُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟
قَالَ: «كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَوْ لِمَا
يُسِّرَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (حدّثنا يزيد) من الزيادة (الرشك) بكسر الراء
وسكون المعجمة والكاف رفع صفة ليزيد لقب به قيل لكبر لحيته
وهو بالفارسية ويقال إنه بلغ من طول لحيته إلى أن دخلت
فيها عقرب ومكثت ثلاثة أيام لا يدري بها، ورجح في الفتح
قول أبي حاتم الرازي أنه كان غيورًا فقيل له: ارشك
بالفارسية فمضى عليه الرشك. وقال الكرماني: هو بالفارسية
القمل الصغير الملتصق بأصول شعر اللحية (قال: سمعت مطرف بن
عبد الله) بكسر الراء المشددة (ابن الشخير) بكسر الشين
والخاء المشددة المعجمتين (يحدث عن عمران بن حصين) بضم
الحاء وفتح الصاد المهملتين (قال: قال رجل) هو عمران بن
حصين كما بينه مسدد في مسنده: (يا رسول الله أيعرف) بفتخ
الهمزة وضم التحتية وفتح الراء (أهل الجنة من أهل النار)
أي أيميز ويفرق بينهما بحسب قضاء الله وقدره (قال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(نعم قال) عمران: يا رسول الله (فلم يعمل العاملون) أي إذا
سبق القلم بذلك فلا يحتاج العامل إلى العمل لأنه سيصير إلى
ما قدر له (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كل
يعمل لما) للذي (خلق له) بضم الخاء وكسر اللام (ولما)
بالواو
(9/347)
المفتوحة وفي الفتح أو لما (يسر له) بضم
أوله وكسر السين المهملة المشددة، ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي: ييسر له بتحتيتين وفتح السين، فعلى المكلف أن
يدأب في الأعمال الصالحة فإن عمله أمارة إلى ما يؤول إليه
أمره غالبًا وربك يفعل ما يشاء، فالعبد ملكه يتصرف فيه بما
شاء لا يسأل عما يفعل لا إله إلا هو عليه توكلت وبوجهه
الكريم أستجير من عذابه الأليم، وأسأله جنات النعيم إنه
الجواد الرحيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في التوحيد ومسلم في
القدر وأبو داود في السنة والنسائي في التفسير.
3 - باب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
هذا (باب) التنوين (الله أعلم بما كانوا) أي أولاد
المشركين (عاملين).
6597 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِى بِشْرٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى
الله عنهما - قَالَ: سُئِلَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَوْلاَدِ الْمُشْرِكِينَ
فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بندار العبدي قال: (حدّثنا
غندر) محمد بن جعفر (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي
بشر) بكسر الباء الموحدة وسكون المعجمة جعفر بن أبي وحشية
إياس اليشكري الواسطي (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس) -رضي
الله عنهما- أنه (قال: سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بضم السين وكسر الهمزة (عن أولاد المشركين) أي
أيدخلون الجنة (فقال):
(الله أعلم بما كانوا عاملين) فيه إشعار بالتوقف أي أنه
علم أنهم لا يعملون ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير
مكلفين، وقيل: قال ذلك قبل أن يعلم أنهم من أهل الجنة، وفي
حديث عائشة عند أبي داود وأحمد أنها قالت قلت: يا رسول
الله ذراريّ المسلمين الحديث. وعند عبد الرزاق بسند فيه
ضعيف عن عائشة أيضًا سألت خديجة النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أولاد المشركين ففيه التصريح
بالسائل.
والحديث سبق في الجنائز.
6598 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
وَأَخْبَرَنِى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَرَارِىِّ
الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
عَامِلِينَ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) نسب لجده واسم أبيه عبد
الله المخزومي مولاهم المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد
الإمام (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن
مسلم الزهري أنه (قال: وأخبرني) بالإفراد والعطف على محذوف
كأنه حدث قبل ذلك بشيء ثم قال: وأخبرني (عطاء بن يزيد)
الليثي (أنه سمع أبا هريرة) -رضي الله عنه- (يقول: سئل
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذراريّ
المشركين) بفتح الذال المعجمة والراء وبعد الألف راء أخرى
مكسورة وتشديد التحتية وتخفف أي أولادهم الذين لم يبلغوا
الحلم (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(الله أعلم بما كانوا عاملين) أي إن الله يعلم ما لا يكون
أن لو كان كيف يكون فأحرى أن
يعلم ما يكون وما قدره وقضاه في كونه، وهذا يقوي مذهب أهل
السنّة أن القدر هو علم الله وغيبه الذي استأثر فلم يطلع
عليه أحدًا من خلقه.
6599 - حَدَّثَنِى إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ
يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ
وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ هَلْ
تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا
أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا»؟. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهْوَ صَغِيرٌ قَالَ: «اللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (إسحاق) ولأبي
ذر إسحاق بن إبراهيم. قال في فتح الباري: هو ابن راهويه
واعترضه العيني فقال: جوّز الكلاباذي أن يكون ابن إبراهيم
بن نصر السعدي وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي وإسحاق بن
إبراهيم الكوسج، فالجزم بأنه ابن راهويه من أين؟ وأجاب في
انتقاض الاعتراض: بأنه من القرينة الظاهرة في قوله أخبرنا
فإنه لا يقول حدّثنا كما أن إسحاق بن منصور الكوسج يقول
حدّثنا ولا يقول أخبرنا وهذا يعرف بالاستقراء قال: (أخبرنا
عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن
همام) بفتح الميم المشددة ابن منبه (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما من مولود إلا يولد على الفطرة) الإسلامية ففيه
القابلية للدين الحق فلو ترك وطبعه لما اختار دينًا غيره،
وما من مولود مبتدأ ويولد خبره لأن من الاستغراقية في سياق
النفي تفيد العموم كقولك: ما أحد خير منك والتقدير هنا ما
من مولود يولد على أمر من الأمور إلا على الفطرة (فأبواه
يهوّدانه) يجعلانه يهوديًّا إذا كانا من اليهود (وينصرانه)
يجعلانه نصرانيًّا إذا كانا من النصارى والفاء في فأبواه
للتعقيب أو للتسبب أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبوه
(كما) حال من الضمير المنصوب في يهودانه مثلاً أي يهودان
المولود بعد أن خلق على الفطرة كما (تنتجون البهيمة) سليمة
بضم الفوقية الأولى
(9/348)
وكسر الثانية بينهما نون ساكنة وضم الجيم
من الإنتاج يقال أنتجت الناقة إذا أعنتها على النتاج. وقال
في المغرب: نتج الناقة ينتجها نتجًا إذا ولى نتاجها حتى
وضعت فهو ناتج وهو للبهائم كالقابلة للنساء أو كما صفة
مصدر محذوف أي يغيرانه تغييرًا مثل تغييرهم البهيمة
السليمة فيهودانه وينصرانه تنازعًا في كما على التقديرين
(هل تجدون فيها) في البهيمة (من جدعاء) بفتح الجيم وسكون
الدال المهملة والمد مقطوعة الأطراف أو أحدها في موضع
الحال على التقديرين أي بهيمة سليمة مقولاً في حقها هذا
القول، وفيه نوع من التأكيد يعني أن كل من نظر إليها قال
هذا القول لسلامتها (حتى تكونوا أنتم تجدعونها) بفتح
الفوقية والدال المهملة بينهما جيم ساكنة أي تقطعون
أطرافها أو شيئًا منها وشبه بالمحسوس المشاهد ليفيد أن
ظهوره بلغ في الكشف والبيان مبلغ هذا المحسوس المشاهد،
ومحصله أن العالم إما عالم الغيب أو عالم الشهادة، فإذا
نزل الحديث على عالم الغيب أشكل معناه وإذا صرف إلى عالم
الشهادة سهل تعاطيه فإذا نظر الناظر إلى المولود نفسه من
غير اعتبار عالم الغيب وأنه ولد على الفطرة من الاستعداد
للمعرفة وقبول الحق
والتأبي عن الباطل والتمييز بين الخطأ والصواب حكم أنه لو
ترك على ما هو عليه ولم يعتوره من الخارج ما يصد استمر على
ما هو عليه من الفطرة السليمة، وانظر قتل الخضر الغلام إذ
كان باعتبار النظر إلى عالم الغيب، وإنكار موسى عليه كان
باعتبار عالم الشهادة، وظاهر الشرع فلما اعتذر الخضر
بالعلم الخفي الغائب أمسك موسى عليه السلام عن الإنكار فلا
عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان
الشرعي المكتسب بالإرادة والفعل اهـ. ملخصًا من شرح
المشكاة.
(قالوا: يا رسول الله أفرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب
على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها
والهمزة فيه مقررة أي قد رأيت ذلك فأخبرنا (من يموت وهو
صغير)؟ لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة (قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(الله أعلم بما كانوا عاملين). قال البيضاوي: فيه إشارة
إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلاّ لزم أن يكون
ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل
النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي
المقدر لهما في الأزل، فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم
بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر
الآخرة من الثواب والعقاب. وقال النووي: أجمع من يعتبر به
من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل
الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث
عائشة في مسلم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت: طوبى لهذا عصفور من
عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال: أو غير ذلك يا
عائشة إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب
آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم،
وأجابوا عن هذا بأنه لعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون
عندها دليل قاطع أو أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في
الجنة، وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب: فالأكثرون
على أنهم في النار، وتوقفت طائفة، والثالث وهو الصحيح أنهم
من أهل الجنة.
والحديث سبق في الجنائز وفيه أو يمجسانه وأخرجه مسلم في
القدر والله الموفق.
4 - باب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}
هذا (باب) بالتنوين في اليونينية أي في قوله تعالى ({وكان
أمر الله}) الذي يريد أن يكوّنه ({قدرًا مقدورًا})
[الأحزاب: 38] قضاء مقضيًا وحكمًا مبتوتًا لا محيد عنه فما
شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
6601 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ
تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ
صَحْفَتَهَا، وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ
لَهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن
الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله
عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لا تسأل المرأة) في باب الشروط التي لا تحل في النكاح من
كتابه لا يحل لامرأة تسأل (طلاق أختها) من نسب
(9/349)
أو رضاع أو دين أو في البشرية فيعم لكن عند
ابن حبان عن أبي هريرة لا تسأل المرأة طلاق أختها فإن
المسلمة أخت المسلمة (لتستفرغ صحفتها) تجعلها فارغة لتفوز
بحظها (ولتنكح) بإسكان اللام والجزم أي ولتنكح هذه المرأة
من خطبها. وقال الطيبي: ولتنكح عطف على لتستفرغ وكلاهما
علة للنهي أي لا تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها وتنكح
زوجها نهى المرأة أن تسأل الرجل طلاق زوجته لينكحها ويصير
لها من نفقته ومعاشرته ما كان للمطلقة فعبر عن ذلك
باستفراغ الصحفة مجازًا ولتنكح الزوج المذكور من غير أن
تشترط طلاق التي قبلها (فإن لها) للتي تسأل طلاق أختها (ما
قدر لها) أي لن يعدو ذلك ما قسم لها ولن تستزيد به شيئًا.
وقال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث من أحسن أحاديث
القدر عند أهل العلم لما دل عليه من أن الزوج لو أجابها
وطلق من تظن أنها تزاحمها في رزقها فإنه لا يحصل لها من
ذلك إلا ما كتب الله لها سواء أجابها أم لم يجبها.
والحديث سبق في النكاح.
6602 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِى عُثْمَانَ، عَنْ
أُسَامَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى
بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ
وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ
إِلَيْهَا لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى
كُلٌّ بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ».
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) أبو غسان النهدي الحافظ
قال: (حدّثنا إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق (عن عاصم) هو
ابن سليمان الأحول (عن أبي عثمان) عبد الرَّحمن النهدي (عن
أسامة) بن زيد بن حارثة -رضي الله عنه- أنه (قال: كنت عند
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ جاءه رسول
إحدى بناته) هي زينب كما عند ابن أبي شيبة ولم يسم الرسول
(وعنده سعد) هو ابن عبادة (وأبي بن كعب ومعاذ) هو ابن جبل
(أن ابنها) علي بن أبي العاص بن الربيع (يجود بنفسه) أي في
سياق الموت.
واستشكل كونه علي بن أبي العاص مع قوله في آخر الحديث كما
في الجنائز فرفع إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الصبي بأن المذكور عاش إلى أن ناهز الحلم فلا
يقال فيه صبي عرفًا، فيحتمل أن يكون عبد الله بن عثمان بن
عفان من رقية بنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فعند البلاذري في الأنساب أنه لما توفي وضعه
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجره وقال:
إنما يرحم الله من عباده الرحماء أو هو محسن كما عند
البزار من حديث أبي هريرة لما ثقل ابن لفاطمة فبعثت إلى
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر نحو حديث
الباب وقيل غير ذلك مما سبق في الجنائز.
(فبعث) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إليها)
يقرئها السلام ويقول (لله ما أخذ ولله ما أعطى) أي الذي
أراد أن يأخذه هو الذي كان أعطاه فإن أخذه أخذ ما هو له أو
ما مصدرية أي لله الأخذ والإِعطاء (كل بأجل فلتصبر
ولتحتسب) يجوز أن يكون أمرًا للغائب المؤنث أو الحاضر على
قراءة من قرأ فبذلك فلتفرحوا بالمثناة الفوقية على الخطاب
وهي قراءة رويس. قال الزمخشري وهي الأصل والقياس، وقال أبو
حيان: إنها لغة قليلة يعني أن القياس أن يؤمر المخاطب
بصيغة افعل وبهذا الأصل قرأ أبي فافرحوا موافقة لمصحفه
وهذه قاعدة كلية وهي أن الأمر باللام يكثر في الغائب
والمخاطب المبني للمفعول مثال الأول ليقم زيد وكالآية
الكريمة، ومثال الثاني لتعن بحاجتي لا إن كان مبنيًّا
للفاعل كقراءة روش هذه بل الكثير في هذا النوع الأمر بصيغة
افعل نحو: قم يا زيد وقوموا وكذلك يضعف الأمر باللام
للمتكلم وحده أو ومعه غيره نحو: لأقم تأمر نفسك بالقيام،
ومثال الثاني لنقم أي نحن وكذلك النهي، والمراد بالاحتساب
أن تجعل الولد في حسابه لله فتقول: إنّا لله وإنّا إليه
راجعون وهو معنى قوله السابق: لله ما أخذ ولله ما أعطى.
6603 - حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ
قَالَ: أَخْبَرَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ
الْجُمَحِىُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ رَجُلٌ مِنِ
الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ
سَبْيًا وَنُحِبُّ الْمَالَ كَيْفَ تَرَى فِى الْعَزْلِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «أَوَ إِنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ لاَ
عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا، فَإِنَّهُ لَيْسَتْ
نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَّ هِىَ
كَائِنَةٌ».
وبه قال: (حدّثنا حبان بن موسى) بكسر الحاء المهملة وتشديد
الموحدة المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك
المروزي قال: (حدّثنا) وفي اليونينية أخبرنا (يونس) بن
يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني)
بالإفراد (عبد الله بن محيريز) بضم الميم وفتح الحاء
المهملة وسكون التحتية بعدها راء فتحتية أخرى فزاي
(الجمحي) بضم الجيم وفتح الميم وكسر الحاء المهملة بعدها
تحتية مشددة (أن) بفتح الهمزة (أبا سعيد الخدري) -رضي الله
عنه- (أخبره أنه بينما) بالميم ولأبي ذر
(9/350)
عن الكشميهني بينا (هو جالس عند النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء رجل من الأنصار)
هو أبو صرمة بن قيس أو هو أبو سعيد كما عند المصنف في
المغازي أو مجري بن عمرو الضمري كما عند ابن منده في
المعرفة (فقال: يا رسول الله إنّا نصيب) في المغازي
(سببًا) أي جواري مسبيات (ونحب المال كيف ترى في العزل)؟
وهو أن يجامع فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج وهو
مكروه عندنا لأنه طريق إلى قطع النسل، ولذا ورد العزل
الوأد الخفي قال: أصحابنا لا يحرم في مملوكته ولا زوجته
الأمة سواء رضيت أم لا لأن عليه ضررًا في مملوكته بأن
يصيرها أم ولد لا يجوز بيعها وفي زوجته الرقيقة يصير ولده
رقيقًا تبعًا لأمه، أما زوجته الحرّة فإن أذنت فيه لم يحرم
وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم (فقال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أو إنكم) بفتح الواو وكسر الهمزة بعدها (تفعلون) ولأبي ذر
لتفعلون (ذلك) العزل (لا
عليكم أن لا تفعلوا) ولأبي ذر أن تفعلوا أي لا بأس عليكم
أن تفعلوا ولا مزيدة فيجوز العزل أو غير زائدة فهو نهي عنه
وقال لا لما سألوه وقوله عليكم أن لا تفعلوا كلام مستأنف
مؤكد له (فإنه ليست نسمة) بفتح النون والمهملة والميم نفس
(كتب الله) عز وجل أي قدر (أن تخرج) من العدم إلى الوجود
(إلا هي كائنة).
6604 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ
حُذَيْفَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: لَقَدْ خَطَبَنَا
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُطْبَةً
مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ
إِلاَّ ذَكَرَهُ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ
جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لأَرَى الشَّىْءَ قَدْ نَسِيتُ
فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ
فَرَآهُ فَعَرَفَهُ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن مسعود) أبو حذيفة النهدي قال:
(حدّثنا سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن
أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن حذيفة) بن اليمان (-رضي الله
عنه-) أنه (قال: لقد خطبنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خطبة ما ترك فيها) في الخطبة (شيئًا) هو كائن
من الأمور المقدرة (إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه
وجهله من جهله). ولمسلم من رواية جرير عن الأعمش حفظه من
حفظه ونسيه من نسيه (إن كنت) هي المخففة من الثقيلة (لأرى
الشيء قد نسيت) بفتح همزة لأرى وحذف المفعول من نسيت ولأبي
ذر عن الكشميهني نسيته ثم أتذكره (فأعرف) ولأبي ذر فأعرفه
(ما) وفي نسخة كما (يعرف الرجل) أي الرجل فحذف المفعول وفي
رواية بإثباته (إذا غاب عنه فرآه فعرفه). وعند الإسماعيلي
من رواية محمد بن يوسف عن سفيان كما يعرف الرجل وجه الرجل
غاب عنه ثم رآه فعرفه أي الذي كان غاب عنه فنسي صورته ثم
إذا رآه عرفه.
والحديث أخرجه مسلم في العتق وأبو داود (1).
6605 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِى حَمْزَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِىِّ، عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله
عنه - قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِى
الأَرْضِ وَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ قَدْ
كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ»
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَلاَ نَتَّكِلُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ
مُيَسَّرٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى
وَاتَّقَى}» [الليل: 5] الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة
العتكي المروزي (عن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد
بن ميمون السكري (عن الأعمش) سليمان (عن سعد بن عبيدة)
بضم العين وبسكونها في الأول السلمي الكوفي (عن) ضمرة (أبي
عبد الرَّحمن) عبد الله بن حبيب التابعي الكبير (السلمي)
بضم السين وفتح اللام (عن علي -رضي الله عنه-) أنه (قال:
كنا جلوسًا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
وفي الجنائز في موعظة المحدث عند القبر من طريق منصور عن
سعد بن عبيدة كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقعد وقعدنا
حوله (ومعه عود ينكت) بفتح التحتية وسكون النون وبعد الكاف
المضمومة مثناة فوقية أي يضرب به (في الأرض) كما هي عادة
من يتفكر في شيء يهمه (وقال) بالواو وسقطت لأبي ذر وفي
الجنائز ثم قال:
(ما منكم من أحد) وزاد في رواية منصور ما من نفس منفوسة
(إلا قد كتب مقعده) موضع قعوده (من النار أو من الجنة) فأو
للتنويع أو بمعنى الواو ويؤيده رواية منصور إلا كتب مكانها
من الجنة والنار وفي رواية سفيان إلا وقد كتب مقعده من
الجنة ومقعده من النار وفي حديث ابن عمر عند المؤلّف
الدلالة على أن لكل أحد مقعدين (فقال رجل من القوم) في
مسلم أنه سراقة بن مالك بن جعشم (ألا) بالتخفيف (نتكل) أي
نعتمد زاد منصور على كتابنا وندع العمل (يا رسول الله؟
قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا) تتركوا
العمل بل (اعملوا) امتثالاً لأمر المولى وعبودية له ولقوله
تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]
_________
(1) بياض بأصله.
(9/351)
(فكل ميسر) بفتح السين المشدّدة زاد في
رواية شعبة عن الأعمش السابقة في سورة الليل لما خلق له
(ثم قرأ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ({فأما من
أعطى واتقى} [الليل: 5] الآية).
قال الخطابي رحمه الله: إن قول الصحابي هذا مطالبة بأمر
يوجب تعطيل العبودية فلم يرخص له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لأن إخبار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن سابق الكتاب إخبار عن غيب علم الله تعالى
فيهم وهو حجة، عليهم، فرام أن يتخذه حجة لنفسه في ترك
العمل فأعلمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
هاهنا أمرين محكمين لا يعطل أحدهما بالآخر: باطن وهو
الحكمة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر وهو السمة اللازمة
في حق العبودية وهي أمارة ومخيلة غير مفيدة حقيقة العلم،
ويشبه أن يكون والله أعلم إنما عوملوا بهذه المعاملة
وتعبدوا بهذا التعبد ليتعلق خوفهم رجاؤهم بالباطن وذلك من
صفة الإيمان وبين -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
كلاًّ ميسر لما خلق له وأن عمله في العاجل دليل مصيره في
الآجل، وهذه الأمور في حكم الظاهر ومن وراءه ذلك حكم الله
تعالى وهو الحكيم الخبير لا يسأل عما يفعل واطلب نظيره من
الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، ومن الأجل المضروب مع
المعالجة بالطب المأمور بها.
والحديث سبق في باب موعظة المحدث عند القبر من الجنائز
ولما كان ظاهر هذا الحديث يقتضي اعتبار العمل الظاهر أردفه
بما يدل على أن الاعتبار بالخاتمة فقال:
5 - باب الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (العمل بالخواتيم) جمع خاتمة.
6606 - حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -
رضى الله عنه - قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْبَرَ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِى الإِسْلاَمَ: «هَذَا
مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ
قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، وَكَثُرَتْ
بِهِ الْجِرَاحُ فَأَثْبَتَتْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الَّذِى
تَحَدَّثْتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَدْ قَاتَلَ
فِى سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، فَكَثُرَتْ
بِهِ الْجِرَاحُ فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ» فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَرْتَابُ
فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ الرَّجُلُ
أَلَمَ الْجِرَاحِ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ
فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا،
فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ، قَدِ
انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا
بِلاَلُ قُمْ فَأَذِّنْ، لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ
مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ
بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ».
وبه قال: (حدّثنا حبان بن موسى) بكسر الحاء المهملة وتشديد
الموحدة المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك
المروزي قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد
بن مسلم (عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه-)
أنه (قال: شهدنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خيبر) أي فتح معظمها لأنه لم يحضر وقعتها (فقال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لرجل) عن
رجل منافق (ممن معه يدعي الإسلام) اسمه قزمان بضم القاف
وسكون الزاي الظفري بفتح المعجمة والفاء.
(هذا من أهل النار) لنفاقه أو لأنه سيرتد ويقتل نفسه
مستحلاًّ لذلك (فلما حضر القتال) لم يضبط اللام في
اليونينية نعم ضبطها في المغازي بالرفع مصححًا عليها وهو
على الفاعلية ويجوز النصب على المفعولية أي فلما حضر الرجل
القتال (قاتل الرجل من أشد القتال) ولفظ من ساقط في
المغازي (وكثرت) بالواو وضم المثلثة ولأبي ذر عن المستملي
فكثرت (به الجراح) بكسر الجيم (فأثبتته) فأثخنته وجعلته
ساكنًا غير متحرّك (فجاء رجل من أصحاب النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله أرأيت
الذي) ولأبي ذر أرأيت الرجل الذي (تحدّثت) بفتح الفوقية
والدال بعدها مثلثة ساكنة ففوقية ولأبي ذر عن الكشميهني
تحدث بضم الفوقية وكسر الدال وإسقاط الفوقية بعد المثلثة
(إنه من أهل النار قاتل في سبيل الله) عز وجل (من أشد
القتال فكثرت به الجراح فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم (إنه
من أهل النار فكاد) أي قارب (بعض المسلمين يرتاب) يشك فيما
قاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فبينما) بالميم
(هو على ذلك إذ وجد الرجل) قزمان المذكور (ألم الجراح
فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهمًا) نشابة (فانتحر)
نحر (بها) نفسه (فاشتد) أسرع (رجال من المسلمين) المشي
(إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقالوا يا رسول الله صدّق الله حديثك قد انتحر فلان) الذي
قلت إنه من أهل النار (فقتل نفسه فقال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا بلال قم فأذن) بتشديد
المعجمة المكسورة أي أعلم الناس أنه (لا يدخل الجنة، إلا
مؤمن وإن الله ليؤيد) بلام التأكيد
(هذا الدين بالرجل الفاجر) ال للجنس فيعم كل فاجر أو
المراد الرجل الذي قتل نفسه وهو قزمان.
والحديث سبق في الجهاد.
6607 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ،
حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنِى أَبُو حَازِمٍ، عَنْ
سَهْلٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ
غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِى غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَظَرَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ
مِنَ الْقَوْمِ وَهْوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ أَشَدِّ
النَّاسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى جُرِحَ
فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ
بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ،
فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْرِعًا فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ
رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ»؟ قَالَ: قُلْتَ
لِفُلاَنٍ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ
أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ» وَكَانَ مِنْ
أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَرَفْتُ
أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا جُرِحَ
اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ
ذَلِكَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ
النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ
عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ،
وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ».
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) هو سعيد بن الحكم بن
محمد بن أبي مريم أبو محمد الجمحي مولاهم قال: (حدّثنا أبو
غسان) بفتح الغين المعجمة والسين
(9/352)
المهملة المشدّدة وبعد الألف نون محمد بن
مطرف الليثي قال: (حدثني) بالإفراد (أبو حازم) سلمة بن
دينار (عن سهل) ولأبي ذر زيادة ابن سعد الأنصاري -رضي الله
عنه- (أن رجلاً) اسمه قزمان (من أعظم المسلمين غناء) بفتح
الغين المعجمة والنون والمد يقال أغنى عنه أي أجزأ وناب
(عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) هي غزوة خيبر (فنظر النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إليه (فقال):
(من أحب أن ينظر إلى الرجل) ولأبي ذر إلى رجل (من أهل
النار فلينظر إلى هذا) الرجل أي قزمان (فاتبعه رجل من
القوم) اسمه أكثم بن أبي الجون الخزاعي (وهو) أي الرجل
(على تلك الحال من أشد الناس على المشركين) قتالاً (حتى
جرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة سيفه) طرفه (بين ثدييه)
بالتثنية (حتى خرج) السيف (من بين كتفيه) واستشكل قوله هنا
فجعل ذبابة سيفه مع قوله في السابق أنه نحر نفسه بالسهم،
فقيل بالتعدد وإنهما قصتان متغايرتان في موطنين لرجلين أو
إنهما قصة واحدة ونحر نفسه بهما معًا (فأقبل الرجل) أكثم
بن أبي الجون (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مسرعًا فقال: أشهد أنك رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وما ذاك؟ قال: قلت) بفتح التاء
(لفلان) أي عن فلان (من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار
فلينظر إليه وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين فعرفت أنه لا
يموت على ذلك فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه، فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند ذلك: إن العبد
ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وبعمل عمل أهل
الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال) أي اعتبار الأعمال
(بالخواتيم).
والحديث مر في الجهاد.
6 - باب إِلْقَاءِ النَّذْرِ الْعَبْدَ إِلَى الْقَدَرِ
(باب إلقاء النذر العبد إلى القدر) بنصب العبد على أنه
مفعول بالمصدر المضاف إلى الفاعل ولأبي ذر الحموي
والمستملي: إلقاء العبد النذر بالرفع على أنه فاعل بالمصدر
المضاف إلى المفعول.
6608 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ النَّذْرِ
قَالَ: «إِنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا
يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ». [الحديث 6608 - طرفاه
في: 6692، 6693].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن عبد الله
بن مرة) الهمداني الخارقي بمعجمة وراء مكسورة وفاء الكوفي
(عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: نهى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) نهي تنزيه لا تحريم
(عن النذر) أي عن عقد النذر أو التزام النذر (قال) ولأبي
الوقت وقال:
(إنه لا يردّ شيئًا) أي من القدر، ولمسلم: لا تنذروا فإن
النذر لا يغني من القدر شيئًا والمعنى لا تنذروا على أنكم
تصرفون به ما قدر عليكم أو تدركون به شيئًا لم يقدره الله
لكم (إنما) وللكشميهني وإنما (يستخرج به) بالنذر (من
البخيل) لأنه لا يتصدق إلا بعوض يستوفيه أوّلاً، والنذر قد
يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن يريد أن
يخرجه، وفي قوله يستخرج دلالة على وجوب الوفاء به.
واستشكل كونه نهى عن النذر مع وجوب الوفاء به عند الحصول.
وأجيب: بأن المنهي عنه النذر الذي يعتقد أنه يغني عن القدر
بنفسه كما زعموا وكم من جماعة يعتقدون ذلك لما شاهدوا من
غالب الأحوال حصول المطالب بالنذر وأما إذا نذر واعتقد أن
الله تعالى هو الضار والنافع، والنذر كالوسائل والذرائع
فالوفاء به طاعة وهو غير منهي عنه.
والحديث أخرجه أيضًا في الأيمان والنذور، ومسلم وأبو داود
والنسائي في النذور، وابن ماجة في الكفارات.
6609 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ
مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَأْتِى ابْنَ
آدَمَ النَّذْرُ بِشَىْءٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ،
وَلَكِنْ يُلْقِيهِ الْقَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ
أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ». [الحديث 6609 - طرفه
في: 6694].
وبه قال: (حدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة وسكون المعجمة
السختياني أبو محمد المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن
المبارك المروزي قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن همام
بن منبه)
بكسر الموحدة المشددة (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يأت ابن آدم النذر بشيء لم يكن قد قدرته) صفة لقوله
بشيء ويأت بغير تحتية بعد الفوقية في الفرع على الوصل
كقوله تعالى {سندع الزبانية} [العلق: 18] بغير واو وفي
غيره بإثباتها على الأصل وهو من أتى بمعنى جاء يتعدى لواحد
بخلاف آتي (ولكن) بالتخفيف (يلقيه) من الإلقاء (القدر) أي
إلى النذر، ولا مطابقة بين هذا
(9/353)
وبين الترجمة كما لا يخفى، فالظاهر كما
قاله في الكواكب أن الترجمة مقلوبة إذ القدر هو الذي يلقي
بالحقيقة إلى النذر كما في الحديث، فكان الأولى أن يقول
يلقيه القدر بالقاف إلى النذر بالنون ليطابق الحديث. وأجاب
بأنهما صادقان إذ الذي يلقي بالحقيقة هو القدر وهو الموصل،
وبالظاهر هو النذر، نعم في رواية الكشميهني في متن الحديث
مما ذكره في الفتح يلقيه النذر بالنون والذال المعجمة وبها
تحصل المطابقة ونسبة الإلقاء إلى النذر مجازية وسوّغ ذلك
كونه سببًا إلى الإلقاء فنسب الإلقاء إليه (وقد قدرته له
أستخرج) بلفظ المتكلم من المضارع (به من البخيل) الباء في
به باء الآلة قاله ابن فرحون في إعراب العمدة والحديث من
أفراده.
7 - باب لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ
(باب) بغير تنوين في الفرع كأصله للإضافة إلى قوله (لا حول
ولا قوّة إلا بالله) وقال في الفتح: بالتنوين.
6610 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو
الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا
خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِى عُثْمَانَ النَّهْدِىِّ،
عَنْ أَبِى مُوسَى، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى غَزَاةٍ،
فَجَعَلْنَا لاَ نَصْعَدُ شَرَفًا وَلاَ نَعْلُو شَرَفًا،
وَلاَ نَهْبِطُ فِى وَادٍ إِلاَّ رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا
بِالتَّكْبِيرِ قَالَ: فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ،
فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا،
إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا»، ثُمَّ قَالَ: «يَا
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً
هِىَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ
إِلاَّ بِاللَّهِ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن
مقاتل أبو الحسن) الكسائي نزيل بغداد ثم مكة قال: (أخبرنا
عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا خالد الحذاء) بالحاء
المهملة والذال المعجمة (عن أبي عثمان) عبد الرَّحمن بن مل
(النهدي) بفتح النون وسكون الهاء (عن أبي موسى) عبد الله
بن قيس الأشعري -رضي الله عنه- أنه (قال: كنا مع رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزاة) هي غزوة
خيبر كما سبق في المغازي (فجعلنا لا نصعد شرفًا) بفتح
الشين المعجمة والراء والفاء موضعًا عاليًا (ولا نعلو
شرفًا ولا نهبط في واد إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير قال)
أبو موسى (فدنا) أي قرب (منا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم) بهمزة وصل وفتح الموحدة
وضم العين المهملة ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم (فإنكم
لا تدعون أصم ولا غائبًا). قال الكرماني وتبعه العيني:
أصمًّا ولعله باعتبار التناسب وأطلق على التنكير دعاء لأنه
بمعنى النداء إذ الذاكر يريد إسماع من ذكره والشهادة له
(إنما تدعون سميعًا بصيرًا ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي موسى: (يا عبد الله بن قيس ألا)
بالتخفيف (أعلمك كلمة) من باب إطلاق الكلمة على الكلام (هي
من كنوز الجنة) أي من ذخائر الجنة وقال النووي أي إن قولها
يحصل ثوابًا نفيسًا يدخر لصاحبه في الجنة (لا حول ولا قوّة
إلا بالله) أي لا تحوّل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة
الله ولا قوّة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله فهي كما
قال النووي كلمة استسلام وتفويض يشير إلى أن العبد لا يملك
لنفسه شيئًا وأنه لا قدرة له على دفع ضرر ولا قوّة له على
جلب خير إلا بقدر الله تعالى وإرادته.
والحديث أخرجه في آخر كتاب الدعوات.
8 - باب الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ
عَاصِمٌ: مَانِعٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: سُدًا عَنِ الْحَقِّ
يَتَرَدَّدُونَ فِى الضَّلاَلَةِ. دَسَّاهَا: أَغْوَاهَا.
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (المعصوم من عصم الله) بإسقاط ضمير
المفعول (عاصم) في قوله تعالى {لا عاصم اليوم} [هود: 43]
أي (مانع) كذا فسره عكرمة فيما أخرجه الطبري من طريق الحكم
بن أبان عنه.
(قال مجاهد): هو ابن جبر (سدّا) بألف بعد الدال المنوّنة
أي من غير تشديد في الفرع كأصله وقال في الفتح بالتشديد
والألف أي (عن الحق يترددون في الضلالة) وهذا وصله ابن أبي
حاتم من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه في قوله تعالى
{وجعلنا من بين أيديهم سدّا} [يس: 9] قال: عن الحق، ووصله
عبد بن حميد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله
تعالى {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا} قال: عن الحق وقد
يترددون، ورأيته في بعض النسخ سدي بتحتية بعد الدال مخففًا
وعليها شرح الكرماني قال في الفتح: فزعم الكرماني أنه وقع
هنا أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي مهملاً مترددًا في
الضلالة ولم أر في شيء من نسخ البخاري إلا اللفظ الذي
أوردته ولم أر في شيء من التفاسير التي تساق بالأسانيد
لمجاهد في قوله {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [القيامة: 36]
كلامًا ولم أر في قوله في الضلالة في شيء من المنقول
بالسند عن مجاهد اهـ.
وتعقبه العينى فقال: هذا الكلام ينقض آخره أوله لأنه قال
أولاً: ورأيته في بعض نسخ البخاري سدى بتخفيف الدال ثم
قال: ولم أر في شيء من نسخ البخاري إلا الذي أوردته، ومع
هذا
(9/354)
فإنه لم يطلع على جميع النسخ إذ لم يطلع
إلا على النسخ التي في مدينته، وأما النسخ
التي في كرمان وبلخ وخراسان فلا وأجاب في انتقاض الاعتراض
بأن الذي نفى رؤيته قول الكرماني قوله وقال: {أيحسب
الإنسان أن يترك سدى} [القيامة: 36] أي مهملاً مترددًا في
الضلالة، وأما الذي ذكر أنه رآه في بعض النسخ فهو مجرد لفظ
سدي بالتخفيف وبالتحتية آخره فأين التناقض.
{دساها} من قوله تعالى: {وقد خاب من دساها} [الشمس: 10]
قال مجاهد فيما رواه الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح
عنه (أغواها) قال:
وأنت الذي دسست عمرًا فأصبحت ... حلائله منه أرامل ضيعا
وأصلها دسسها من التدسيس فكثرت الأمثال فأبدل من ثالثها
حرف علة والتدسية الإخفاء يعني أخفى الفجور، وقال ابن
الأعرابي {وقد خاب من دساها} أي دس نفسه في جملة الصالحين
وليس منهم.
6611 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ،
أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: حَدَّثَنِى
أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ،
بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ،
وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ
وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ». [الحديث 6611 - طرفه
في: 7198].
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان المروزي
قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا يونس) بن
يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: حدثني)
بالإفراد (أبو سلمة) بن عبد الرَّحمن بن عوف (عن أبي سعيد
الخدري) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما استخلف) بضم الفوقية وسكون المعجمة وكسر اللام (خليفة
إلا له بطانتان بطانة) بكسر بطانة فيهما اسم جنس يشمل
الواحد والجماعة وبطانة الرجل خاصته الذين يباطنهم في
الأمور ولا يظهر غيرهم عليها مشتقة من البطن والباطن دون
الظاهر، وهذا كما استعاروا الشعار والدثار في ذلك ويقال
بطن فلان بفلان بطونا وبطانة وقال:
أولئك خلصاني نعم وبطانتي ... وهم عيبتي من دون كل قريب
فبطانة (تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه
عليه) بضم الحاء المهملة والضاد المعجمة (والمعصوم من عصم
الله) بإسقاط ضمير المفعول أي من عصمه الله بأن حماه من
الوقوع في الهلاك أو ما يجر إليه.
والحدث أخرجه المؤلّف أيضًا في الأحكام والنسائي في البيعة
والسير.
9 - باب {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]
{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ
آمَنَ} [هود: 36].
{وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ النُّعْمَانِ: عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحِرْمٌ بِالْحَبَشِيَّةِ وَجَبَ.
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى ({وحرام}) ولأبوي
الوقت وذر وابن عساكر وحرم بكسر الحاء وسكون الراء وهي
قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي وهما لغتان كالحل والحلال
وَزْنًا وضده معنى أي وممتنع ({على قرية أهلكناها أنهم لا
يرجعون}) قال في الكشاف: استعير الحرام الممتنع وجوده،
ومنه قوله تعالى {إن الله حرمهما على الكافرين} [الأعراف:
55] أي منعهما منهم وأبى أن يكونا لهم، ومعنى أهلكناها
عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها، ومعنى الرجوع الرجوع
من الكفر إلى الإسلام والإنابة، ومجاز الآية أن قومًا عزم
الله على إهلاكهم غير متصوّر أن يرجعوا وينيبوا إلى أن
تقوم القيامة فحينئذٍ يرجعون اهـ.
والظاهر كما قال بعضهم: إن المعنى وحرام على قرية أهلكناها
عدم رجوعهم إلينا في القيامة، فتكون الآية واردة في تقرير
أمر البعث والتفخيم لشأنه وهذا يتعين المصير إليه لأوجه:
أحدها: أنه ليس فيه مخالفة للأصول بخلاف غيره مما يدعى فيه
زيادة لا وكونه في طائفة مخصوصة وكون حرام معنى ممتنع أو
بمعنى واجب كما قيل في قوله:
وإن حرامًا لا أرى الدهر باكيًا ... على شجره إلا بكيت على
عمرو
الثاني: أن سياق الآية قبلها وبعدها وارد في أمر البعث وهو
قوله {كل إلينا راجعون} [الأنبياء: 93] وقوله: حتى إذا
فتحت.
الثالث: أن حملها على الرجوع إلى الدنيا لا كبير فائدة
فإنه معلوم عند المخاطبين من الموافقين والمخالفين وحملها
على الرجوع إلى القيامة أكثر فائدة فإن الكفار ينكرونه
فأكد وفخم تهديدًا لهم وزجرًا وقوله تعالى في سورة هود:
({إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}) [هود: 36] إقناط من
إيمانهم وأنه غير متوقع، وقوله تعالى: ({ولا يلدوا إلا
فاجرًا كفارًا}) [نوح: 27] إلا من بلغ فجر وكفر وإنما قال
ذلك لأن الله أخبره إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
ودخول ذلك في أبواب
(9/355)
القدر ظاهر فإنه يقتضي سبق علم بما يقع من
العبد.
(وقال منصور بن النعمان) اليشكري بفتح التحتية وسكون الشين
المعجمة وضم الكاف البصري، وفي حاشية الفرع كأصله صوابه
منصور بن المعتمر قال: وفي حاشية أصل أبي ذر صوابه منصور
بن النعمان وكذا في أصل الأصيلي وابن عساكر وقال الحافظ
ابن حجر: وقد زعم
بعض المتأخرين أن الصواب منصور بن المعتمر والعلم عند الله
(عن عكرمة عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (وحرم) بكسر
الحاء وسكون الراء (بالحبشية) أي (وجب) أخرجه عبد بن حميد
من طريق عطاء عن عكرمة عنه.
6612 - حَدَّثَنِى مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ
طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا
رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ
آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ
مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا
اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى
وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ
وَيُكَذِّبُهُ». وَقَالَ شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ،
عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبوي ذر والوقت بالجمع (محمود
بن غيلان) بفتح الغين المعجمة وسكون التحتية أبو حامد
المروزي الحافظ قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام قال:
(أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن ابن طاوس) عبد الله (عن
أبيه) طاوس (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: ما
رأيت شيئًا أشبه باللمم) بفتح اللام والميم الأولى وأصل ما
قل وصغر ومنه اللمم وهو المس من الجنون وألم بالمكان قلّ
لبثه فيه، وألم بالطعام قلّ أكله منه، وقال أبو العباس:
أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يرتكبه يقال ألم بكذا
إذا قاربه ولم يخالطه وقال جرير:
بنفسي من تجنبه عزيز ... عليّ ومن زيارته لمام
وقال آخر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبًا جزلاً ونارًا
تأججا
واللمم: صغار الذنوب أي ما رأيت شيئًا أشبه بصغار الذنوب
(مما قال أبو هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إن الله) عز وجل (كتب على ابن آدم حظه) نصيبه (من الزنا)
بالقصر ومن بيانية (أدرك) أصاب (ذلك) المكتوب عليه (لا
محالة) بفتح الميم والحاء المهملة لا بدّ له منه لأن ما
كتبه الله لا بد أن يقع وكتب يحتمل أن يراد به أثبت أي
أثبت فيه الشهوة والميل إلى النساء وخلق فيه العينين
والأذن والقلب وهي التي تجد لذة الزنا، ويحتمل أن يراد به
قدّر أي قدّر في الأزل أن يجري على ابن آدم الزنا فإذا
قدّر في الأزل أدرك ذلك لا محالة (فزنا العين النظر) إلى
ما لا يحل للناظر (وزنا اللسان المنطق) بميم مفتوحة فنون
ساكنة فطاء مهملة مكسورة ولأبي ذر عن الكشميهني النطق بلا
ميم وضم النون وسكون الطاء. وقال ابن مسعود: العينان
تزنيان بالنظر، والشفتان تزنيان وزناهما التقبيل، واليدان
تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما المشي
(والنفس تمنى) فعل مضارع أصله تتمنى حذفت منه إحدى التاءين
(وتشتهي والفرج يصدق ذلك) النظر والتمني بأن
يقع في الزنا بالوطء (ويكذبه) بأن يمتنع من ذلك خوفًا من
ربه تعالى، ولأبي ذر: أو يكذبه وسمى ما ذكر من نظر العين
وغيره زنا لأنها مقدمات له مؤذنة بوقوعه ونسب التصديق
والتكذيب للفرج لأنه منشؤه ومكانه. وقال في شرح المشكاة:
شبه صورة حالة الإنسان من إرسال الطرف الذي هو رائد القلب
إلى النظر إلى المحارم وإصغائه بالأذن إلى السماع ثم
انبعاث القلب إلى الاشتهاء والتمني ثم استدعائه منه، فصار
ما يشتهي ويتمنى باستعمال الرجلين في المشي واليدين في
البطش والفرج في تحقيق مشتهاه، فإذا مضى الإنسان على ما
استدعاه القلب حقق متمناه فإذا امتنع من ذلك خيبه فيه بحال
رجل يخبره صاحبه بما يزينه له ويغويه عليه فهو إما يصدقه
ويمضي على ما أراده منه أو يكذبه، ثم استعمل في حال المشبه
ما كان مستعملاً في جانب المشبه به من التصديق والتكذيب
ليكون قرينة للتمثيل أو الإسناد في قوله: والفرج يصدق ذلك
ويكذبه مجازي لأن الحقيقي هو أن يسند للإنسان فأسند إلى
الفرج لأنه مصدر الفعل والسبب القوي.
(وقال شبابة): بفتح الشين المعجمة والموحدتين بينهما ألف
مع التخفيف ابن سوّار بفتح المهملة والواو المشددة (حدّثنا
ورقاء) بفتح الواو والقاف بينهما راء ساكنة آخره همزة
ممدود ابن عمر
(9/356)
أبو بشر الحافظ (عن ابن طاوس) عبد الله (عن
أبيه) طاوس (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال في الفتح: كأن
طاوسًا سمع من ابن عباس عن أبي هريرة، أو سمعه من أبي
هريرة بعد أن سمعه من ابن عباس. قال: ولم أقف على رواية
شبابة هذه موصولة.
ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن الزنا ودواعيه مكتوبة
مقدرة على العبد غير خارجة عن سابق القدر.
10 - باب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ
إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]
(باب) قوله تعالى: ({وما جعلنا الرؤيا التي أريناك) ليلة
المعراج ({إلا فتنة للناس}) [الإسراء: 60] أي اختبارًا
وامتحانًا، ولذا ارتد من استعظم ذلك وبه تعلق من قال: كان
الإسراء في المنام، ومن قال: كان في اليقظة فسر الرؤيا
بالرؤية، وإنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا:
لعلها رؤيا رأيتها استبعادًا منهم لها ويمكن أن يكون هاهنا
من باب المشاكلة أو هي أنه سيدخل مكة والفتنة الصد
بالحديبية أو أراه مصارع القوم بوقعة بدر في منامه فكان
يقول حين ورد ماء بدر والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم
وهو يومئ إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان.
6613 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
- رضى الله عنهما - {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى
أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قَالَ: هِىَ
رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ إِلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، قَالَ: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى
الْقُرْآنِ} قَالَ: هِىَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) بضم الحاء المهملة وفتح الميم
عبد الله بن الزبير قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال:
(حدّثنا عمرو) بفتح العين ابن دينار (عن عكرمة) مولى ابن
عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه قال في تفسير
قوله تعالى: ({وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة
للناس} [الإسراء: 60] (قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الهمزة وكسر
الراء من الإراءة (ليلة أسري به) أي في طريقه (إلى بيت
المقدس) هذا من البخاري كما في اليونينية وغيرها كما عند
سعيد بن منصور (قال) ابن عباس (والشجرة الملعونة في القرآن
قال: هي شجرة الزقوم).
فإن قلت: ليس في القرآن ذكر لعن شجرة الزقوم. أجيب: بأن
المعنى والشجرة الملعون آكلوها وهم الكفرة لأنه قال:
{فإنهم لآكلون منها فمالؤون منها البطون} [الصافات: 66]
فوصفت بلعن أهلها على المجاز، ولأن العرب تقول لكل طعام
مكروه وضار ملعون، ولأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة وهي في
أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة.
ومطابقة الحديث لما ترجم له خفية، لكن قال السفاقسي: وجه
دخول هذا الحديث في كتاب القدر الإشارة إلى أن الله قدر
على المشركين التكذيب لرؤيا نبيه الصادق فكان ذلك زيادة في
طغيانهم حيث قالوا: كيف يسير إلى بيت المقدس في ليلة واحدة
ثم يرجع فيها، وكذلك جعل الشجرة الملعونة زيادة في طغيانهم
حيث قالوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟
والجواب عن شبهتهم أن الله خلق الشجرة المذكورة من جوهر لا
تأكله النار كخزنتها وحياتها وعقاربها وأحوال الآخرة لا
تقاس بأحوال الدنيا.
والحديث مرّ في تفسير سورة الإسراء وأخرجه الترمذي
والنسائي في التفسير.
11 - باب تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (تحاج) بفتح الفوقية والمهملة
وتشديد الجيم وأصله تحاجج بجيمين أدغمت أولاهما في الأخرى
(آدم وموسى) عليهما الصلاة والسلام (عند الله عز وجل)
والعندية للاختصاص والتشريف لا عندية مكان كما لا يخفى.
6614 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو،
عَنْ طَاوُسٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «احْتَجَّ
آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ
أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ،
قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ
بِكَلاَمِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِى عَلَى
أَمْرٍ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى
بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلاَثًا».
قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَهُ.
وبه قال: (حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني قال (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال: حفظناه) أي الحديث (من عمرو) بفتح
العين ابن دينار وعند الحميدي في مسنده عن سفيان حدّثنا
عمرو بن
دينار (عن طاوس) هو ابن كيسان الإمام أبو عبد الرَّحمن أنه
قال: (سمعت أبا هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(احتج آدم وموسى) صلّى الله عليهما وسلم أي تحاجا وتناظرا
وفي رواية همام عند مسلم تحاج كما في الترجمة وهي أوضح
(فقال له): أي لآدم (موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا) أي
أوقعتنا في الخيبة وهي الحرمان (وأخرجتنا) أي كنت سببًا
لإخراجنا (من الجنة) دار النعيم والخلود إلى دار البؤس
والفناء والجملة مبنية للسابقة ومفسرة لما أجمل (قال له)
لموسى (آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه)
(9/357)
أي جعلك خالصًا صافيًا عن شائبة ما لا يليق
بك وقوله بكلامه فيه تلميح إلى قوله: {وكلم الله موسى
تكليمًا} [النساء: 164] وقوله: {تلك الرسل فضلنا} [البقرة:
253] الآية (وخط لك) ألواح التوراة (بيده) بقدرته (أتلومني
على أمر قدّر الله عليّ) بتشديد الياء وحذف ضمير المفعول
ولأبي ذر عن الكشميهني قدّره الله عليّ (قبل أن يخلقني
بأربعين سنة) أي ما بين قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض
خليفة} [البقرة: 30] إلى نفخ الروح فيه أو هي مدة لبثه
طينًا إلى أن نفخت فيه الروح، ففيه مسلم أن بين تصويره
طينًا ونفخ الروح فيه كان أربعين سنة أو المراد إظهاره
للملائكة، وفي رواية أبي صالح السمان عند الترمذي وابن
خزيمة من طريق الأعمش فتلومني على شيء كتبه الله عليّ قبل
خلقي، وفي حديث أبي سعيد عند البزار: أتلومني على أمر
قدّره الله تعالى عليّ قبل أن يخلق السماوات والأرض وجمع
بحمل المقيد بالأربعين على ما يتعلق بالكتابة والآخر على
ما يتعلق بالعلم (فحج آدم) بالرفع على الفاعلية (موسى) نصب
مفعولاً (فحج آدم موسى) قالها (ثلاثًا) والملفوظ به هنا
ثنتان أي غلبه بالحجة بأن ألزمه أن ما صدر عنه لم يكن هو
مستقلاًّ به متمكنًا من تركه، بل كان قدرًا من الله تعالى
لا بدّ من إمضائه، والجملة مقررة لما سبق وتأكيد له وتثبيت
للأنفس على توطين هذا الاعتقاد أي أن الله أثبته في أمّ
الكتاب قبل كوني، وحكم بأنه كائن لا محالة فكيف تغفل عن
العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي
هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سرّ الله
تعالى من وراء الأستار، وهذه المحاجة لم تكن في عالم
الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب،
وإنما كانت في العالم العلوي عند ملتقى الأرواح واللوم
وإنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف أما بعدها
فأمره إلى الله تعالى لا سيما وقد وقع ذلك بعد أن تاب الله
عليه، فلذا عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق فالتائب لا
يلام على ما تيب عليه منه ولا سيما إذا انتقل عن دار
التكليف.
واختلف في وقت هذه المحاجة فقيل يحتمل أنه في زمان موسى
فأحيا الله له آدم معجزة له فكلمه، أو كشف له عن قبره
فتحدثا، أو أراه الله روحه كما أري النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة المعراج أرواح الأنبياء، أو أراه
الله له في المنام ورؤيا الأنبياء وحي، أو كان ذلك بعد
وفاة موسى فالتقيا في البرزخ أول ما مات موسى فالتقت
أرواحهما في السماء. وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي أو
أن ذلك لم يقع بعد وإنما يقع في الآخرة والتعبير عنه في
الحديث بلفظ الماضي لتحقق وقوعه.
والحديث أخرجه مسلم في القدر أيضًا وأبو داود في السنة
والنسائي في التفسير وابن ماجة في السنة أيضًا.
(قال سفيان) بن عيينة ولأبي الوقت، وقال سفيان بواو العطف
على قوله حفظناه من عمرو فهو موصول (حدّثنا أبو الزناد)
عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن
أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثله) أي مثل الحديث السابق.
12 - باب لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ
هذا (باب) بالتنوين (لا مانع لما أعطى الله).
6615 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِى لُبَابَةَ، عَنْ
وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ:
كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَىَّ
مَا سَمِعْتَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاَةِ، فَأَمْلَى عَلَىَّ
الْمُغِيرَةُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاَةِ: «لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،
اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِىَ
لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ
الْجَدُّ». وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِى عَبْدَةُ
أَنَّ وَرَّادًا أَخْبَرَهُ بِهَذَا، ثُمَّ وَفَدْتُ
بَعْدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ
بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سنان) بكسر السين المهملة وتخفيف
النون العوقي قال: (حدّثنا فليح) بضم الفاء عبد الملك بن
سليمان قال: (حدّثنا عبدة) بفتح العين المهملة وسكون
الموحدة (ابن أبي لبابة) بضم اللام وتخفيف الموحدة الأسدي
الكوفي سكن دمشق (عن وراد) بفتح الواو والراء المشددة
(مولى المغيرة بن شعبة) وكاتبه أنه (قال: كتب معاوية) بن
أبي سفيان (إلى المغيرة) بن شعبة (اكتب إلي) بتشديد الياء
(ما) ولأبي ذر بما (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول: خلف الصلاة) المكتوبة (فأملى عليّ
المغيرة) بفتح الهمزة واللام بينهما ميم ساكنة وعلي بتشديد
الياء (قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول: خلف الصلاة) المكتوبة:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له) ذكره بعد استفادة الحصر
من الذي قبله وهو لا إله إلا الله تأكيد مع ما فيه من
تكثير حسنات الذاكر (اللهم
(9/358)
لا مانع لما أعطيت) أي لما أردت إعطاءه
وإلا فبعد الإعطاء من كل أحد لا مانع له إذ الواقع لا
يرتفع (ولا معطي لما منعت) ما موصول وجملة أعطيت صلتها
والعائد محذوف أي لما أعطيته. وقال في العدة: ولا مانع اسم
نكرة مبني مع لا وخبر لا الاستقرار المتعلق به المجرور أو
الخبر محذوف وجوبًا على لغة بني تميم ووافقهم كثير من
الحجازيين فيتعلق حرف الجر بمانع، قيل فيجب نصبه وتنوينه
لأنه مطوّل والرواية على بنائه من غير تنوين فيحتمل له بأن
يعلق بخبر لمانع محذوف أي لا مانع لنا لما أعطيت فيتعلق
بالكون المقدر لا بمانع ما قيل في قوله تعالى {لا غالب لكم
اليوم} [الأنفال: 48]. ويحتمل أن يكون أصله
لا مانعًا بالتنوين ثم حذف التنوين بعد أن أبدل منه ألف ثم
حذفت الألف فصار على صورة المبني، ويجوز أن يكون لما أعطيت
في محل صفة لمانع والخبر محذوف، ويحتمل أن يقدر لا مانع
لما أعطيت يمنع فيتعلق بيمنع ويكون يمنع خبر لا على إحدى
اللغتين، واختار الزمخشري في قوله تعالى: {لا تثريب عليكم
اليوم} [يوسف: 92] إن اليوم معمول بتثريب، وردّ عليه أبو
حيان لأجل الفصل بين المصدر ومعموله بعليكم وهو إما خبر أو
صفة وأيًّا ما كان فلا يجوز وكان يلزم تنوين تثريب (ولا
ينفع ذا الجد منك الجد) بفتح الجيم فيهما على المشهور ومنك
يتعلق بينفع أي لا ينفع صاحب الحظ من نزول عذابك حظه وإنما
ينفعه عمله الصالح. وقال في الكواكب: ومن هي البدلية أي
المحظوظ لا ينفعه بذلك أي بدل طاعتك.
والحديث سبق في الصلاة والدعوات.
(وقال ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز فيما وصله الإمام
أحمد ومسلم (أخبرني) بالإفراد (عبدة) بن أبي لبابة (أن
ورادًا) مولى المغيرة (أخبره بهذا) الحديث قال عبدة (ثم
وفدت) بالفاء من الوفود (بعد إلى معاوية) لما كان بالشام
(فسمعته يأمر الناس بذلك القول) وهو لا إله إلا الله إلى
آخره، ومراد المؤلّف من سياق هذا التعليق التصريح بأن
ورادًا أخبر به عبدة لأنه رواه في الرواية السابقة
بالعنعنة.
13 - باب مَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ
وَسُوءِ الْقَضَاءِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}
(باب من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء)، وقوله
تعالى ({قل أعوذ برب الفلق}) أي الصبح أو الخلق أو هو واد
في جهنم أوجب فيها ({من شر ما خلق}) [الفلق: 1] الشيطان
خاصة لأن الله تعالى لم يخلق خلقًا أشر منه، وقيل جهنم وما
خلق فيها، وقيل عام أي من شر كل ذي شر خلقه الله وما
موصولة والعائد محذوف أو مصدرية ويكون الخلق بمعنى
المخلوق، وقرأ بعض المعتزلة الذين يرون أن الله لم يخلق
الشر من شر بالتنوين ما خلق على النفي وهي قراءة مردودة
مبنية على مذهب باطل، وهذه السورة دالة على أن الله تعالى
خالق كل شيء ففيها الرد على من زعم أن العبد يخلق فعل نفسه
لأنه لو كان السوء المأمور بالاستعاذة منه مخلوقًا لفاعله
لما كان للاستعاذة بالله منه معنى لأنه لا يصح التعوذ إلا
بمن قدر على إزالة ما استعيذ به منه.
6616 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
سُمَىٍّ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ وَدَرَكِ
الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا سفيان)
بن عيينة (عن سمي) بضم
السين المهملة وفتح الميم وتشديد التحتية مولى أبي بكر
المخزومي (عن أبي صالح) ذكوان السمان (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(تعوذوا بالله من جهد البلاء) بفتح الجيم وسكون الهاء
الحالة التي يختار عليها الموت أو قلة المال وكثرة العيال
(ودرك الشقاء) بفتح الدال المهملة والراء اللحاق، والشقاء
بفتح الشين المعجمة والقاف ممدودًا الشدة والعسر (وسوء
القضاء) أي المقضي (وشماتة الأعداء) وهو فرح العدوّ ببلية
تنزل بمن يعاديه.
والحديث سبق في باب التعوّذ من جهد البلاء من كتاب
الدعوات.
14 - باب يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({يحول بين المرء
وقلبه}) [الأنفال: 24] قال الواحدي: حكاية عن ابن عباس
والضحاك يحول بين المرء الكافر وطاعته ويحول بين المطيع
ومعصيته، فالسعيد من أسعده الله، والشقي من أضله الله
والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء. وقال السدي: يحول بين
الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن
(9/359)
ولا أن يكفر إلا بإذنه.
6617 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو
الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: كَثِيرًا مِمَّا كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْلِفُ: «لاَ وَمُقَلِّبِ
الْقُلُوبِ». [الحديث 6617 - طرفاه في: 6628، 7391].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن) المروزي قال:
(أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا موسى
بن عقبة) بضم العين وسكون القاف (عن سالم عن) أبيه (عبد
الله) بن عمر -رضي الله عنهما- أنه (قال: كثيرًا) نصب صفة
لمصدر محذوف أي يحلف حلفًا كثيرًا (ما كان النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحلف) أي يريد أن يحلف من
ألفاظ الحلف (لا) أفعل أو لا أترك (و) حتى (مقلب القلوب)
وهو الله عز وجل. قال في الفتح: وكان البخاري أشار إلى
تفسير الحيلولة التي في الآية بالتقلب الذي في الحديث أشار
إلى ذلك الراغب، وقال: المراد أنه يلقي في قلب الإنسان ما
يصرفه عن مراده لحكمة تقتضي ذلك وحقيقة القلوب لا تتقلب،
فالمراد تقلب أعراضها وأحوالها من الإرادة وغيرها. وقال
ابن بطال: الآية نص في أن الله تعالى خلق الكفر والإيمان
وأنه يحول بين قلب الكافر وبين الإيمان الذي أمره به فلا
يكسبه إن لم يقدره عليه بل أقدره على ضده وهو الكفر، وكذا
في المؤمن بعكسه فتضمنت الآية أنه خالق جميع أفعال العبد
خيرها وشرها وهو معنى قوله: مقلب القلوب لأن معناه تقليب
قلب العبد عن إيثار الإيمان إلى إيثار الكفر وعكسه، وكل
فعل لله عدل فيمن أضله وخذله لأنه لم يمنعهم حقًّا وجب لهم
عليه اهـ.
والحديث أخرجه أيضًا في التوحيد والأيمان والنذور والترمذي
في الإيمان والنسائي في (1) وابن ماجة في الكفارات.
6618 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ حَفْصٍ، وَبِشْرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ قَالاَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ،
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاِبْنِ صَيَّادٍ:
«خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا» قَالَ: الدُّخُّ قَالَ: «اخْسَأْ
فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ» قَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِى
فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: «دَعْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ
فَلاَ تُطِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلاَ خَيْرَ
لَكَ فِى قَتْلِهِ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن حفص) المروزي (وبشر بن محمد) بكسر
الموحدة وسكون المعجمة السختياني المروزي (قالا: أخبرنا
عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا معمر) بفتح
الميمين بينهما عين مهملة ساكنة ابن راشد (عن الزهري) محمد
بن مسلم (عن سالم) هو ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله
عنهما-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لابن صياد) صاف (خبأت لك خبيئًا) بفتح المعجمة
وكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة، ولأبي ذر خبأ بسكون
الموحدة من غير تحتية (قال) ابن صياد هو (الدخ) بضم الدال
المهملة والخاء المعجمة المشددة أراد أن يقول: الدخان فلم
يستطع أن يقول ذلك تامًّا على عادة الكهان من اختطاف بعض
الكلمات من أوليائهم من الجن (قال) النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له خطاب زجر وإهانة (اخسأ) بالخاء
المعجمة والهمزة الساكنة بينهما سين مهملة مفتوحة أي اسكت
صاغرًا مطرودًا (فلن تعدو قدرك) بالعين المهملة (قال عمر)
بن الخطاب -رضي الله عنه- يا رسول الله (ائذن لي فأضرب
عنقه قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (دعه)
اتركه (إن يكن هو) الدجال (فلا تطيقه) لأنه إن كان سبق في
علم الله تعالى أنه يخرج ويفعل ما يفعل فإنه الله تعالى لا
يقدرك على قتل من سبق في علمه أنه سيحيا إلى أن يفعل ما
يفعل، إذ لو أقدرك على ذلك لكان فيه انقلاب علمه والله
تعالى منزه عن ذلك قاله ابن بطال. وفي الجنائز فلن تسلط
عليه بالجزم على لغة من يجزم بلن (وإن لم يكن هو فلا خير
لك في قتله) ويكن هو بالضمير المنفصل في الموضعين، ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي: يكنه بالضمير المتصل واختار الأول
ابن مالك في التسهيل، والثاني في الخلاصة. فعلى الأولى لفظ
هو تأكيد للضمير المستتر وكان تامة وقول الزركشي في
التنقيح أن يكنه استدلّ به ابن مالك على اتصال الضمير إذا
وقع خبرًا لكان لكن في رواية إن يكن هو فلا دليل فيه تعقبه
في المصابيح فقال: هذا من أعجب ما يسمع كيف تكون الرواية
الثانية مقتضية لعدم الدليل في الرواية الأولى، والفرض أن
الضمير المنفصل المرفوع في الثانية تأكيد للضمير المستكن
في يكن وهو اسم كان وخبرها محذوف أي إن يكن هو الدجال
والضمير المتصل في الرواية الأخرى خبر كان فبهذا وقع
الاستدلال في محل النزاع وهو هل الأولى في خبر كان إذا وقع
ضميرًا أن يكون متصلاً أو
منفصلاً. فهذا الحديث شاهد لاختيار الاتصال، وأما إن يكن
هو فليست من محل النزاع في شيء إذ ليس الضمير فيها خبر كان
قطعًا.
والحديث سبق في باب
_________
(1) بيّض المؤلّف بعد قوله والنسائي في والذي في الأطراف
أي في الإيمان اهـ. من هامش
(9/360)
إذا أسلم الصبي فمات هل يصلّى عليه من كتاب
الجنائز.
15 - باب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَنَا} [التوبة: 51]: قَضَى. قَالَ مُجَاهِدٌ:
بِفَاتِنِينَ بِمُضِلِّينَ إِلاَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ
أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ {قَدَّرَ فَهَدَى} [الأَعلى:
3] قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ وَهَدَى الأَنْعَامَ
لِمَرَاتِعِهَا
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى ({قل لن يصيبنا
إلا ما كتب الله لنا}) [التوبة: 51] أي (قضى) لنا من خير
أو شر كما قدر في الأزل وكتب في اللوح المحفوظ، ولنا مفيدة
معنى الاختصاص كأنه قيل لن يصيبنا إلا ما اختصنًا الله
بإثباته وإيجابه. وقال الراغب: عبّر بقوله لنا ولم يعبر
بقوله علينا تنبيهًا على أن الذي يصيبنا نعده نعمة لا
نقمة.
(قال مجاهد) في تفسير قوله تعالى: {ما أنتم عليه}
({بقانتين}) [الصافات: 162] أي ما أنتم (بمضلين إلا من كتب
الله) عليه في السابقة (أنه يصلّى الجحيم) أي يدخل النار
وهذا وصله عبد بن حميد بمعناه.
وقال مجاهد أيضًا في تفسير قوله تعالى: {والذي} ({قدر
فهدى}) [الأعلى: 3] أي (قدر الشقاء والسعادة وهدى الأنعام
لمراتعها) وهذا وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن
مجاهد وقيل قدر أقواتهم وأرزاقهم وهداهم لمعائهم إن كانوا
أناسًا ولمراعيهم إن كانوا وحشًا، وعن ابن عباس والسدي
ومقاتل والكلبي في قوله {فهدى} قال: عرف خلقه كيف يأتي
الذكر الأنثى كما قال في طه {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}
[طه: 50] أي الذكر للأنثى: وقال عطاء: جعل لكل دابة ما
يصلحها وهداها له، وقيل: قدر فهدى قدر لكل حيوان ما يصلحه
فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به، يقال: إن الأفعى إذا
أتت عليها ألف سنة عميت وقد ألهمها الله تعالى أن مسح
العينين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها فربما كانت
في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة
على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على الرازيانج
لا تخطئها فتحك به عينها فترجع باصرة بإذن الله تعالى
وهدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه
ودينه والهامات البهائم والطيور وهوام الأرض أمر ثابت واسع
فسبحان ربي الأعلى وبحمده.
6619 - حَدَّثَنِى إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْحَنْظَلِىُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ قَالَ: حَدَّثَنَا
دَاوُدُ بْنُ أَبِى الْفُرَاتِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ عَائِشَةَ -
رضى الله عنها - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ
الطَّاعُونِ فَقَالَ: «كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِى بَلَدٍ
يَكُونُ فِيهِ وَيَمْكُثُ فِيهِ لاَ يَخْرُجُ مِنَ
الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ
يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ
لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (إسحاق بن
إبراهيم) بن راهويه (الحنظلي) بفتح الحاء المهملة والظاء
المعجمة بينهما نون ساكنة نسبة إلى حنظلة بن مالك قال:
(أخبرنا النضر) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن شميل
بضم الشين المعجمة قال: (حدّثنا داود بن أبي الفرات) بضم
الفاء وتخفيف الراء وبعد الألف فوقية المروزي ثم البصري
واسم أي الفرات عمرو (عن عبد الله بن بريدة) بضم الموحدة
وفتح الراء الأسلمي قاضي مرو (عن يحيى بن يعمر) بفتح
التحتية والميم والعين المهملة ساكنة قاضي مرو أيضًا (أن
عائشة -رضي الله عنها- أخبرته أنها سألت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الطاعون) وهو بثر مؤلمة
جدًّا تخرج من الآباط والمراق غالبًا مع اسوداد حواليه
وخفقان في القلب (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-:
(كان) أي الطاعون (عذابًا يبعثه الله) عز وجل (على من
يشاء) من عباده (فجعله الله رحمة للمؤمنين) أي سبب الرحمة
لهم لتضمنه مثل أجر الشهداء (ما من عبد يكون في بلد) بفتح
اللام وفي نسخة باليونينية بلدة بسكونها وهاء تأنيث آخره
(يكون فيه) في البلد أو فيها (ويمكث فيه) أو فيها (لا)
ولأبي ذر عن الكشميهني فلا (يخرج من البلدة) أو البلد حال
كونه (صابرًا) على ما يصيبه (محتسبًا) أجره عند الله (يعلم
أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له) وقدره في الأزل (إلا كان
له مثل أجر شهيد) وإن لم يصبه طعن، وهذا هو المراد من
الحديث هنا وقد سبق في كتاب الطب.
16 - باب {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاَ أَنْ
هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] {لَوْ أَنَّ اللَّهَ
هَدَانِى لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 57]
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى: ({وما كنا لنهتدي
لولا أن هدانا الله}) [الأعراف: 43] اللام في لنهتدي
لتوكيد النفي وأن وما في حيزها في محل رفع بالابتداء
والخبر محذوف وجواب لولا مدلول عليه بقوله وما كنا تقديره
لولا هدايته لنا موجودة لشقينا أو ما كنا مهتدين، وقد دلت
على أن المهتدي من هداه الله وأن من لم يهده الله لم يهتد
ومذهب المعتزلة أن كل ما فعل الله في حق الأنبياء
والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حق جميع
الكفار والفساق، وإنما حصل الامتياز بين المؤمن والكافر
والمحق والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه فكان يجب
(9/361)
عليه أن يحمد نفسه لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان وهو
الذي أوصل نفسه إلى درجات الجنة وخلصها من دركات النيران
فلما لم يحمد نفسه البتة إنما حمد الله تعالى فقط علمنا أن
الهادي ليس إلا الله تعالى، وقوله تعالى: ({لو أن الله
هداني}) أعطاني الهداية ({لكنت من المتقين}) [الزمر: 57]
من الذين يتقون الشرك.
قال الشيخ أبو منصور -رحمه الله تعالى-: وهذا الكافر أعرف
بالهداية من المعتزلة وكذا أولئك الكفرة الذين قالوا
لأتباعهم: لو هدانا الله لهديناكم يقولون لو وفقنا الله
للهداية وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه، ولكن علم منا اختيار
الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا والمعتزلة يقولون: بل
هداهم وأعطاهم التوفيق لكنهم لم يهتدوا، والحاصل أن عند
الله لطفًا من أعطى ذلك اهتدى وهو التوفيق والعصمة ومن لم
يعطه ضل وغوى، وكان استيجابه العذاب وتضييعه الحق بعدما
تمكن من تحصيله لذلك. والحاصل من مذهب أهل السنة أن الله
تعالى أقدر العباد على اكتساب ما أراد منهم من إيمان وكفر
وأن ذلك ليس بخلق للعباد كما زعمت القدرية.
6620 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا
جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ، عَنِ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْخَنْدَقِ
يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَهْوَ يَقُولُ:
وَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ
صُمْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ
الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا
أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال:
(أخبرنا جرير) بفتح الجيم (هو ابن حازم) بالحاء المهملة
والزاي (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن
البراء بن عازب) -رضي الله عنهما- أنه (قال: رأيت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الخندق ينقل معنا
التراب) من حفر الخندق (وهو يقول) رجزًا من كلام عبد الله
بن رواحة.
(والله لولا الله ما اهتدينا).
وهذا موضع الترجمة.
(ولا صمنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا).
(وثبت الأقدام إن لاقينا) العدوّ (والمشركون قد بغوا
علينا) أي ظلموا (إذا أرادوا فتنة أبينا) بالموحدة أي
الفرار.
والحديث أخرجه في الجهاد. |