شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
93 - كتاب الأحكام
(كتاب الأحكام) بفتح الهمزة جمع حكم وهو عند الأصوليين
خطاب الله وهو كلامه النفسي الأزلي المسمى في الأزل خطابًا
المتعلق بأفعال المكلفين وهم البالغون العاقلون من حيث
إنهم مكلفون وخرج بفعل المكلفين خطاب الله المتعلق بذاته
وصفاته وذوات المكلفين والجمادات كمدلول الله لا إله إلا
هو خالق كل شيء ولقد خلقناكم ويوم نسيّر الجبال ولا يتعلق
الخطاب إلا بفعل كل بالغ عاقل لامتناع تكليف الغافل
والملجأ والمكره وإذا تقرر أن الحكم خطاب الله فلا حكم إلا
الله خلافًا للمعتزلة القائلين بتحكيم العقل.
1 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى
الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]
(وقول الله تعالى) ولأبي ذر باب قول الله تعالى: ({أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}) [النساء: 59]
الولاة والأمراء أو العلماء الذين يعلّمون الناس دينهم لأن
أمرهم ينفذ على الأمراء، وهذا قول الحسن والضحاك ومجاهد،
ورواه محيي
(10/215)
السُّنَّة عن ابن عباس ودليله: ولو ردوه
إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه
منهم، وقيل: فإن تنازعتم أي أنتم وأولو الأمر منكم في شيء
من أمور الدين، وهذا يؤيد أن المراد بأولي الأمر أمراء
المسلمين إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف
المرؤوس إلا أن يقال: الخطاب لأولي الأمر على طريقة
الالتفات أي تنازعتم في شيء فيرد العلماء إلى الكتاب
والسُّنّة، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر ليؤذن بأنه لا
استقلال لهم في الطاعة استقلال الرسول، ودلت الآية على أن
طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلا طاعة
لهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق" وسقط الباب لغير أبي ذر فالتالي رفع.
7137 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ،
عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى أَبُو
سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى
الله عنه - يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِى
فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى
اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِى، فَقَدْ أَطَاعَنِى،
وَمَنْ عَصَى أَمِيرِى فَقَدْ عَصَانِى».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) عبد الله بن عثمان قال: (أخبرنا
عبد الله) بن المبارك (عن يونس) بن يزيد (عن الزهري) محمد
بن مسلم أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد
الرحمن) بن عوف (أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول:
إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(من أطاعني فقد أطاع الله). لأني لا آمر إلا بما أمر الله
به فمن فعل ما آمره به فإنما أطاع من أمرني أن آمره (ومن
عصاني) فيما أمرته به أو نهيته (فقد عصى الله، ومن أطاع
أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني). وقال الخطابي:
كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يدينون لغير رؤساء
قبائلهم، فلما كان الإسلام وولي عليهم الأمراء أنكرته
نفوسهم وامتنع بعضهم من الطاعة فأعلمهم -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن طاعتهم مربوطة بطاعته ليطيعوا من
أمره عليه الصلاة والسلام عليهم ولا يستعصوا عليه لئلا
تتفرق الكلمة.
والحديث سبق في المغازي.
7138 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلاَ كُلُّكُمْ
رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،
فَالإِمَامُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى
أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،
وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا
وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ
الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ
عَنْهُ أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن عبد الله بن دينار عن عبد الله
بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(ألا) بالتخفيف (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) قال محيي
السُّنّة: الراعي الحافظ المؤتمن على ما يليه فأمره
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالنصيحة فيما يلزمه
وحذره الخيانة فيه بإخباره أنه مسؤول عنه (فالإمام) الأعظم
(الذي على الناس راعٍ) يحفظهم ويحيط من ورائهم ويقيم فيهم
الحدود والأحكام (وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل
بيته) يقوم عليهم بالحق في النفقة وحسن العشرة (وهو مسؤول
عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها) بحسن التدبير
في أمر بيته والتعهد لخدمته وأضيافه (وولده) بحسن تربيته
وتعهده (وهي مسؤولة عنهم) أي عن بيت زوجها وولده وغلب
العقلاء فيه على غيرهم (وعبد الرجل راعٍ على مال سيده)
بحفظه والقيام بشغله (وهو
مسؤول عنه ألا) بالتخفيف (فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن
رعيته). فجعل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل ناظر
في حق غيره راعيًا له فإذا تقدم لرعاية غيره من يأكله فهو
في الهلاك قال:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الذئاب لها رعاء
وقال في شرح المشكاة قوله: ألا فكلكم راعٍ تشبيه مضمر
الأداة أي كلكم مثل الراعي، وقوله: وكلكم مسؤول عن رعيته
حال عمل فيه معنى التشبيه وهذا مطّرد في التفصيل، ووجه
التشبيه حفظ الشيء وحسن التعهد لما استحفظ وهو القدر
المشترك في التفصيل، وفيه أن الراعي ليس بمطلوب لذاته،
وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فعلى السلطان حفظ
الرعية فيما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنها لإدخال
داخلة فيها أو تحريف لمعانيها أو إهمال حدودهم أو تضييع
حقوقهم وترك حماية مَن جارَ عليهم ومجاهدة عدوّهم فلا
يتصرف في الرعية إلا بإذن الله ورسوله ولا يطلب أجره إلا
من الله، وهذا تمثيل لا يرى في الباب ألطف منه ولا أجمع
ولا أبلغ منه، ولذلك أجمل أوّلاً ثم فصل ثم أتى بحرف
التنبيه وبالفذلكة كالخاتمة فالفاء في قوله: ألا فكلكم راع
جواب شرط
(10/216)
محذوف والفذلكة هي التي يأتي بها الحاسب
بعد التفصيل ويقول فذلك كذا وكذا ضبطًا للحساب وتوقيًا عن
الزيادة والنقصان فيما فصله اهـ.
وقال بعضهم: يدخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوجة له
ولا خادم فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل
المأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقًا واعتقادًا فجوارحه
وقواه وحواسه رعيته، ولا يلزم من الاتّصاف بكونه راعيًا أن
لا يكون مرعيًا باعتبار آخر.
والحديث سبق في باب الجمعة في القرى والمدن من كتاب
الجمعة.
2 - باب الأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (الأمراء) كائنون (من قريش)
ولأبي ذر عن الكشميهني: الأمر أمر قريش. قال في الفتح:
والأول هو المعروف.
7139 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَلَغَ
مُعَاوِيَةَ وَهْوَ عِنْدَهُ فِى وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ
سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ فَغَضِبَ فَقَامَ
فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّ رِجَالاً
مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِى كِتَابِ
اللَّهِ، وَلاَ تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ
فَإِيَّاكُمْ وَالأَمَانِىَّ الَّتِى تُضِلُّ أَهْلَهَا،
فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِى
قُرَيْشٍ لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ
عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ». تَابَعَهُ
نُعَيْمٌ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِىِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: كان محمد بن جبير بن مطعم) بضم الميم وكسر العين
بينهما طاء مهملة ساكنة القرشي (يحدّث أنه بلغ معاوية) بن
أبي سفيان (وهو عنده) أي والحال أن محمد بن جبير عند
معاوية ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وهم عنده بالميم بدل
الواو (في وفد من قريش) أي محمد بن جبير ومن كان معه من
الوفد الذين أرسلهم أهل المدينة إلى معاوية ليبايعوه وذلك
حين بويع له بالخلافة لما سلم له الحسن بن علي بن أبي طالب
-رضي الله عنهما-. قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم
الذي بلغه ولا على أسماء الوفد (أن عبد الله بن عمرو) بفتح
العين ابن العاص وهو في موضع رفع فاعل بلغ وقوله (يحدّث
أنه) أي الشأن (سيكون ملك من قحطان فغضب) معاوية من ذلك
(فقام) خطيبًا (فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما
بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يحدّثون) ولأبي ذر عن
الكشميهني يتحدّثون بزيادة فوقية بعد التحتية المفتوحة
(أحاديث) جمع حديث على غير قياس. قال الفرّاء: نرى أن واحد
الأحاديث أُحدوثة ثم جعلوه جمعًا للحديث (ليست في كتاب
الله ولا تؤثر) بضم أوله مبنيًّا للمفعول ولا تنقل (عن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). والمراد
بكتاب الله القرآن وهو كذلك فليس فيه تنصيص أن شخصًا بعينه
أو بوصفه يتولى الملك في هذه الأمة المحمدية ولم يصرح بذكر
ابن عمرو بل قال: بلغني أن رجالاً منكم على الإبهام ومراده
عبد الله بن عمرو ومن وقع منه التحديث بذلك مراعاة لخاطر
عمرو (وأولئك) الذين يتحدّثون بأمور الغيب من غير استناد
إلى الكتاب والسُّنّة (جهالكم) بضم الجيم وتشديد الهاء جمع
جاهل (فإياكم والأمانيّ) بتشديد التحتية وتخفف احذروا
الأماني (التي تضل أهلها) بضم الفوقية وكسر الضاد المعجمة
وأهلها نصب على المفعولية صفة للأماني (فإني سمعت رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(إن هذا الأمر) أي الخلافة (في قريش لا يعاديهم أحد إلاّ
كبّه الله على وجهه) أي ألقاه ولأبي ذر في النار على وجهه
أي ألقاه فيها وهو من الغرائب إذ أكبّ لازم وكب متعدٍّ عكس
المشهور والمعنى لا ينازعهم في أمر الخلافة أحد إلا كان
مقهورًا في الدنيا معذّبًا في الآخرة (ما أقاموا الدين) ما
مصدرية والوقت مقدر وهو متعلق بقوله كبّه الله أي مدة
إقامتهم أمور الدين فإذا لم يقيموه خرج الأمر عنهم هذا
مفهومه.
وذكر محمد بن إسحاق في كتابه الكبير قصة سقيفة بني ساعدة
وبيعة أبي بكر وفيها فقال أبو بكر: إن هذا الأمر في قريش
ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره، ومن ثم لما استخف
الخلفاء بأمر الدين تلاشت أحوالهم بحيث لم يبق لهم من
الخلافة إلا الاسم فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقول
السفاقسي أجمعوا أن الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة يقام
عليه تعقب بأن المأمون والمعتصم والواثق كلٌّ منهم دعا إلى
بدعة القول بخلق القرآن وعاقبوا العلماء بسبب ذلك بالضرب
والقتل والحبس وغير ذلك، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم
بسبب ذلك.
تنبيه:
سبق في باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان حديث أبي هريرة
مرفوعًا: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس
بعصاه، وفيه إشارة إلى أن ملك القحطاني
(10/217)
يقع في آخر الزمان عند قبض أهل الإيمان فإن
كان حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا موافقًا لحديث
أبي هريرة فلا معنى لإنكاره أصلاً، وإن كان لم يرفعه وكان
فيه قدر زائد يُشعِر بأن القحطاني يكون في أوائل الإسلام
فهو معذور في إنكاره وقد يكون معناه أن قحطانيًّا يخرج في
ناحية من النواحي فلا يعارض حديث معاوية قاله في فتح
الباري.
(تابعه) أي تابع شعيبًا (نعيم) هو ابن حماد (عن ابن
المبارك) عبد الله (عن معمر) بفتح الميمين بينهما عين
مهملة ساكنة ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن محمد
بن جبير) وهذه المتابعة وصلها الطبراني في معجمه الكبير
والأوسط مثل رواية شعيب إلا أنه قال بعد قوله فغضب فقال
سمعت ولم يذكر ما قبل سمعت، وقال في رواية: كبّ على وجهه
بضم الكاف وإنما ذكرها البخاري -رحمه الله- تقوية لصحة
رواية الزهري عن محمد بن جبير حيث قال: كان محمد بن جبير
فقد قال صالح جزرة الحافظ ولم يقل أحد في روايته عن الزهري
عن محمد بن جبير إلا ما وقع في رواية نعيم بن حماد عن عبد
الله بن المبارك، قال صالح: ولا أصل له من حديث ابن
المبارك، وكانت عادة الزهري إذا لم يسمع الحديث يقول كان
فلان يحدّث، وتعقبه البيهقي بما أخرجه من طريق يعقوب بن
سفيان بن حجاج بن أبي معين الرصافي عن جده عن الزهري عن
محمد بن جبير بن مطعم، وأخرجه الحسن بن رشيق في فوائده من
طريق عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري عن
محمد بن جبير قاله في الفتح.
7140 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ أَبِى يَقُولُ: قَالَ
ابْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يَزَالُ الأَمْرُ فِى قُرَيْشٍ
مَا بَقِىَ مِنْهُمُ اثْنَانِ».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن
يونس اليربوعي الكوفي قال: (حدّثنا عاصم بن محمد) قال:
(سمعت أبي) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب
(يقول: قال) جدي (ابن عمر) -رضي الله عنه- (قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا يزال هذا الأمر) أي الخلافة (في قريش) يلونها (ما بقي
منهم اثنان) قال النووي: في الحديث أن الخلافة مختصة بقريش
لا يجوز عقدها لغيرهم وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن
الصحابة ومن بعدهم ومن خالف في ذلك من أهل البدع فهو محجوج
بإجماع الصحابة. قال ابن المنير: وجه الدلالة من الحديث
ليس من جهة تخصيص قريش بالذكر فإنه يكون مفهوم اللقب لا
حجة فيه عند المحققين وإنما الحجة وقوع المبتدأ معرّفًا
باللام الجنسية لأن المبتدأ بالحقيقة هاهنا هو الأمر
الواقع صفة لهذا وهذا لا يوصف إلا بالجنس فمقتضاه حصر جنس
الأمر في قريش فيصير كأنه
قال لا أمر إلا في قريش وهو كقوله: الشفعة فيما لم يقسم،
والحديث وإن كان بلفظ الخبر فهو بمعنى الأمر كأنه قال:
ائتموا بقريش خاصة، وقوله ما بقي منهم اثنان ليس المراد به
حقيقة العدد، وإنما المراد به انتفاء أن يكون الأمر في غير
قريش، وهذا الحكم مستمر إلى يوم القيامة ما بقي من الناس
اثنان، وقد ظهر ما قاله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في
قريش من غير مزاحمة لهم على ذلك ومن تغلب على الملك بطريق
الشوكة لا ينكر أن الخلافة في قريش وإنما يدّعي أن ذلك
بطريق النيابة عنهم اهـ.
ويحتمل أن يكون بقاء الأمر في قريش في بعض الأقطار دون بعض
فإن في البلاد اليمنية طائفة من ذرية الحسن بن علي لم تزل
مملكة معهم من أواخر المائة الثالثة وأمراء مكة من ذرية
الحسن بن عليّ والينبع والمدينة من ذرية الحسين بن علي وإن
كانوا من صميم قريش لكنهم تحت حكم غيرهم من ملوك مصر.
قال الحافظ ابن حجر: ولا شك في كون الخليفة بمصر قرشيًّا
من ذرية العباس ولو فقد قرشي فكناني، ثم رجل من بني
إسماعيل، ثم عجمي على ما في التهذيب، أو جرهمي على ما في
التتمة، ثم رجل من بني إسحاق وأن يكون شجاعًا ليغزو بنفسه
ويعالج الجيوش ويقوى على فتح البلاد ويحمي البيضة، وأن
يكون أهلاً للقضاء بأن يكون مسلمًا مكلفًا حرًّا عدلاً
ذكرًا مجتهدًا ذا رأي وسمع وبصر ونطق وتنعقد الإمامة ببيعة
أهل العقد والحل من العلماء ووجوه الناس المتيسر اجتماعهم
وباستخلاف الإمام من يعينه
(10/218)
في حياته ويشترط القبول في حياته ليكن
خليفة بعد موته وباستيلاء متغلب على الإمامة ولو غير أهل
لها كصبي وامرأة بأن قهر الناس بشوكته وجنده وذلك لينتظم
شمل المسلمين.
والحديث سبق في المناقب وأخرجه مسلم في المغازي.
3 - باب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
(باب أجر من قضى بالحكمة) وسقط لفظ أجر لأبي ذر المروزي أي
مَن قضى بحكم الله تعالى فلو قضى بغير حكم الله تعالى فسق
(لقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الفاسقون}) [المائدة: 47] الخارجون عن طاعة الله، وقال أبو
منصور رحمه الله: يجوز أن يحمل على الجحود في الثلاثة يعني
قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}
[المائدة: 44] {فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45] {فأولئك
هم الفاسقون} فيكون ظالمًا كافرًا فاسقًا لأن الفاسق
المطلق والظالم المطلق هو الكافر، وقيل التعريف فيه للعهد.
قال ابن بطال: مفهوم الآية أن من حكم بما أنزل الله استحق
جزيل الأجر.
7141 - حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ
قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ
فِى اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً
فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَآخَرُ
آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِى بِهَا
وَيُعَلِّمُهَا».
وبه قال: (حدّثنا شهاب بن عباد) بفتح العين المهملة وتشديد
الموحدة الرؤاسي القيسي العبدي الكوفي قال: (حدّثنا
إبراهيم بن حميد) بضم الحاء ابن عبد الرحمن الرؤاسي القيسي
الكوفي (عن إسماعيل) بن أبي خالد (عن قيس) هو ابن أبي حازم
(عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا حسد) لا غبطة (إلاّ في اثنتين) أي خصلتين (رجل) بالرفع
على الاستئناف (آتاه) أي أعطاه (الله مالاً فسلطه على
هلكته) بفتحات إهلاكه أي إنفاقه (في الحق و) رجل (آخر آتاه
الله حكمة) بكسر الحاء وسكون الكاف علمًا يمنعه عن الجهل
ويزجره عن القبح (فهو يقضي بها) بالحكمة بين الناس
(ويعلمها) لهم وفيه الترغيب في التصدق بالمال وتعليم
العلم، وقيل إن فيه تخصيصًا لإباحة نوع من الحسد وإن كانت
جملته محظورة وإنما رخص فيهما لما يتضمن مصلحة الدين قال
أبو تمام:
وما حاسد في المكرمات بحاسد
وقيل: معناه لا يحسن الحسد في موضع إلا في هذين الموضعين،
وقال الطيبي: أثبت الحسد في الحديث لإرادة المبالغة في
تحصيل النعمتين الخطيرتين يعني ولو حصلتا بهذا الطريق
المذموم، فينبغي أن يتحرى ويجتهد في تحصيلهما فكيف بالطريق
المحمودة وكيف لا وكل واحدة من الخصلتين بلغت غاية لا أمد
فوقها، وإذا اجتمعتا في امرئ بلغ من العلياء كل مكان، قال
ابن المنير: ليس المراد بالنفي حقيقته، وإلاّ لزم الخلف
لأن الناس حسدوا في غير هاتين الخصلتين وغبطوا من فيه
سواهما فليس هو خبرًا، والمراد به الحكم ومعناه حصر
المرتبة العليا من الغبطة في هاتين الخصلتين فكأنه قال فما
آكد القرابات التي يغبط بها، وفي الترغيب في ولاية القضاء
لمن جمع شروطه وقوي على أعمال الحق ووجد له أعوانًا لما
فيه من الأمر بالمعروف ونصر المظلوم وأداء الحق لمستحقه
وكف يد الظالم والإصلاح بين الناس، وذلك كله من القربات
وهو من مرتبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعند
ابن المنذر عن ابن أبي أوفى مرفوعًا: الله مع القاضي ما لم
يجر فإذا جار تخلّى عنه ولزمه الشيطان.
وحديث الباب سبق في العلم والزكاة.
4 - باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِمَامِ مَا لَمْ
تَكُنْ مَعْصِيَةً
(باب) وجوب (السمع والطاعة للإمام) الأعظم ونائبه (ما لم
تكن) تلك الطاعة (معصية) إذ لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق.
7142 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ
شُعْبَةَ، عَنْ أَبِى التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ
حَبَشِىٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) بضم الميم وفتح المهملة بعدها
مهملتان مسرهد بن مسربل الأسدي البصري الحافظ أبو الحسن
قال: (حدّثنا يحيى بن سعيد) القطان وسقط ابن سعيد لغير أبي
ذر (عن شعبة) بن الحجاج (عن أبي التياح) بالفوقية ثم
التحتية المشددة وبعد الألف حاء مهملة يزيد بن حميد الضبعي
البصري (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-) كأنه (قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل) بضم الفوقية وكسر الميم
مبنيًّا للمفعول (عليكم عبد حبشي) برفع عبد نائب الفاعل
وحبشي صفته قيل معناه وإن استعمله الإمام الأعظم على القوم
لا أن العبد الحبشي هو الإمام الأعظم فإن الأئمة
(10/219)
من قريش أو المراد به الإمام الأعظم على
سبيل الفرض، والتقدير وهو مبالغة في الأمر بطاعته والنهي
عن شقاقه ومخالفته. وعند مسلم من حديث أم الحصين اسمعوا
وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، ولأبي ذر
عن الحموي والمستملي: وإن استعمل أي الإمام عليكم عبدًا
حبشيًّا بالنصب على المفعولية والحبشة جبل معروف من
السودان، وسبق في الصلاة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال لأبي ذر: اسمع وأطع ولو لحبشي (كأن رأسه
زبيبة) بزاي مفتوحة وموحدتين بينهما تحتية ساكنة واحدة
الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جفّ وشبّه رأس
الحبشي بالزبيبة لتجمعها وسواد شعرها ورؤوس الحبشة توصف
بالصغر وذلك يقتضي الحقارة وبشاعة الصورة وعدم الاعتبار
بها فهو على سبيل المبالغة في الحض على طاعتهم مع حقارتهم،
وقد أجمع على أن الإمامة لا تكون في العبيد، ويحتمل أن
يكون سماه عبدًا باعتبار ما كان قبل العتق، نعم لو تغلب
عبد حقيقة بطريق الشوكة وجبت طاعته إخمادًا للفتنة ما لم
يأمر بمعصية. وسبق الحديث في الصلاة.
7143 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ، عَنِ الْجَعْدِ، عَنْ أَبِى رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ
شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ
يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلاَّ مَاتَ
مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
حماد) هو ابن زيد (عن الجعد) بفتح الجيم وسكون العين بعدها
دال مهملتين أبي عثمان بن دينار اليشكري بالتحتية المفتوحة
بعدها شين معجمة ساكنة وكاف مضمومة الصيرفي (عن أبي رجاء)
عمران العطاردي (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- حال كونه
(يرويه) أي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من رأى من أميره شيئًا فكرهه) ولأبي ذر عن الكشميهني
يكرهه (فليصبر) على جوره
وظلمه والأمر بالصبر يستلزم وجوب السمع والطاعة فتحصل
المطابقة (فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا) أي قدر شبر
(فيموت) بالرفع في الفرع كأصله ويجوز النصب نحو ما تأتينا
فتحدّثنا أي فيموت على ذلك من مفارقة الجماعة (إلا مات
ميتة جاهلية) بكسر الميم كالقتلة بكسر القاف أي الحالة
التي يكون عليها الإنسان من الموت والقتل أي كالميتة
الجاهلية حيث لا يرجعون إلى طاعة أمير ولا يتبعون هدي إمام
بل كانوا مستنكفين عن ذلك مستبدين في الأمور لا يجتمعون في
شيء ولا يتفقون على رأي وليس المراد أنه يكون كافرًا بذلك.
والحديث سبق في أوائل الفتن.
7144 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِى نَافِعٌ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «السَّمْعُ
وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ
وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ
بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال (حدّثنا يحيى بن
سعيد) القطان (عن عبيد الله) بضم العين ابن عمر العمري
قال: (حدّثني) بالإفراد (نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله)
بن عمر (-رضي الله عنه-) وعن أبيه (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(السمع والطاعة) ثابتة أو واجبة للإمام أو نائبه (على
المرء المسلم فيما أحب وكره) ولأبي ذر أو كره (ما لم يؤمر)
أي المرء المسلم من قبل الوالي عليه (بمعصية فإذا أمر) بضم
الهمزة (بمعصية فلا سمع ولا طاعة) حينئذ تجب بل يحرم ذلك
على القادر.
وهذا تقييد لما أطلق في الحديثين السابقين من الأمر بالسمع
والطاعة ولو لحبشي ومن الصبر على ما يقع من الأمير مما
يكره والوعيد على مفارقة الجماعة.
والحديث سبق في الجهاد وأخرجه مسلم في المغازي وأبو داود
في الجهاد.
7145 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ،
حَدَّثَنَا أَبِى، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا
سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ: بَعَثَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً وَأَمَّرَ
عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ
أَمَرَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَنَّ تُطِيعُونِى؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: عَزَمْتُ
عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا وَأَوْقَدْتُمْ
نَارًا ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا
فَأَوْقَدُوا فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فَقَامَ
يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِرَارًا مِنَ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا؟
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ
وَسَكَنَ غَضَبُهُ فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا
خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِى
الْمَعْرُوفِ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) قال: (حدّثنا أبي)
حفص قال: (حدّثنا
الأعمش) سليمان بن مهران قال: (حدّثنا سعد بن عبيدة) بسكون
العين في الأول وضمها وفتح الموحدة في الثاني أبو حمزة
بالزاي ختن أبي عبد الرحمن (عن أبي عبد الرحمن) عبد الله
بن حبيب السلمي لأبيه صحبة (عن علي -رضي الله عنه-) هو ابن
أبي طالب أنه (قال: بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سرية) قطعة من الجيش نحو ثلاثمائة أو أربعمائة
بسبب ناس تراءاهم أهل جدة سنة تسع (وأمّر عليهم رجلاً من
الأنصار) اسمه عبد الله بن حذافة السهمي المهاجري وفيه
مجازًا أو يكون بالمعنى الأعم من كونه ممن نصر النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الجملة، أو كان
أنصاريًّا بالمحالفة. وفي ابن ماجة ومسند الإمام أحمد
تعيين عبد الله بن حذافة وأن أبا سعيد كان من جملة
المأمورين
(10/220)
(وأمرهم) عليه السلام (أن يطيعوه فغضب
عليهم) ولمسلم فأغضبوه في شيء (وقال) لهم: (أليس قد أمر
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تطيعوني؟
قالوا: بلى. قال: عزمت) ولأبي ذر قد عزمت (عليكم لما)
بتخفيف الميم (جمعتم حطبًا وأوقدتم نارًا ثم دخلتم فيها
فجمعوا حطبًا فأوقدوا) زاد الكشميهني نارًا فقال: ادخلوها،
وقيل: إنما أمرهم بدخولها ليختبر حالهم في الطاعة أو فعل
ذلك إشارة إلى أن مخالفته توجب دخول النار وإذا شق عليكم
دخول هذه النار فكيف تصبرون على النار الكبرى ولو رأى منهم
الجد في ولوجها منعهم (فلما همّوا بالدخول) فيها (فقام)
بالإفراد ولأبي ذر عن الكشميهني فقاموا (ينظر بعضهم إلى
بعض) زاد في المغازي وجعل بعضهم يمسك بعضًا (فقال بعضهم:
وإنما تبعنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فرارًا من النار) بكسر الفاء (أفندخلها)؟ بهمزة استفهام
(فبينما) بالميم (هم كذلك إذ خمدت النار) بفتح المعجمة
والميم وتكسر انطفأ لهيبها (وسكن غضبه فذكر) ذلك (للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(لو دخلوها) أي لو دخلوا النار التي أوقدوها ظانّين أنهم
بسبب طاعتهم أميرهم لا تضرهم (ما خرجوا منها أبدًا) أي
لماتوا فيها ولم يخرجوا منها مدّة الدنيا، ويحتمل أن يكون
الضمير في منها لنار الآخرة والتأييد محمول على طول
الإقامة لا على البقاء الممتد دائمًا من غير انقطاع لأنهم
لم يكفروا بذلك فيجب عليهم التخليد (إنما) تجب (الطاعة في
المعروف) لا في المعصية.
والحديث مرّ في المغازي.
5 - باب مَنْ لَمْ يَسْأَلِ الإِمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ
(باب) بالتنوين يذكر فيه (من لم يسأل الإمارة أعانه الله)
زاد أبو ذر عليها.
7146 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا
جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا عَبْدَ
الرَّحْمَنِ لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ
أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ
أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا،
وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ يَمِينَكَ، وَاْئتِ الَّذِى
هُوَ خَيْرٌ».
وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم وسكون النون
الأنماطي البصري قال: (حدّثنا جرير بن حازم) بالحاء
المهملة والزاي الأزدي (عن الحسن) البصري (عن عبد الرحمن
بن سمرة) بن حبيب بن عبد شمس أسلم يوم الفتح -رضي الله
عنه- (قال: قال النبي) ولأبي ذر قال لي النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة) بكسر الهمزة (فإنك إن
أعطيتها عن مسألة) عن سؤال، وعن يحتمل أن تكون بمعنى الباء
أي بسبب مسألة أو بمعنى بعد أي بعد مسألة كقوله تعالى:
{لتركبن طبقًا عن طبق} [الانشقاق: 19] أي بعد طبق وقول
العجاج:
ومنهل وردته عن منهل
أي بعد منهل وجواب الشرط قوله: (وكلت إليها) بضم الواو
وكسر الكاف مخففة وسكون اللام صرفت إليها ولم تعن عليها من
أجل حرصك (وإن أعطيتها) بضم الهمزة (من غير مسألة) وجواب
الشرط قوله (أعنت عليها). وعن أنس رفعه: من طلب القضاء
واستعان عليه بالشفعاء وكّل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل
الله عليه ملكًا يسدده أخرجه ابن المنذر والترمذي وأبو
داود وابن ماجة وفي معنى الإكراه عليه أن يدعى إليه فلا
يرى نفسه أهلاً لذلك هيبة له وخوفًا من الوقوع في المحذور
فإنه يُعان عليه إذا دخل فيه ويسدد قاله المهلب (وإذا حلفت
على) محلوف (يمين فرأيت) فعلمت أو ظننت (غيرها خيرًا منها
فكفّر يمينك) بالنصب على المفعولية ولأبي ذر عن يمينك
(وائت الذي هو خير) واتفق على أن الكفّارة إنما تجب بعد
الحنث ولا تقدم على اليمين، واختلف في توسطها بين اليمين
والحنث فقال بالجواز أربعة عشر من الصحابة، وبه قال مالك
والشافعي، واستثنى الشافعي التكفير بالصوم لأنه عبادة
بدنية فلا تقدم قبل وقتها ومناسبة الجملة لسابقتها أن
الممتنع من الإمارة قد يؤدي به الحال إلى الحلف على عدم
القبول مع كون المصلحة في ولايته.
والحديث سبق في الأيمان.
6 - باب مَنْ سَأَلَ الإِمَارَةَ وُكِلَ إِلَيْهَا
(باب) بالتنوين يذكر فيه (من سأل الإمارة وكّل إليها) ولم
يعن عليها ووكّل بالتخفيف.
7147 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ،
حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ
لِى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لاَ تَسْأَلِ
الإِمَارَةَ، فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ
وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ
مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ
الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمر المقعد البصري
قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن
سعيد التنوري البصري أبو عبيدة الحافظ قال: (حدّثنا يونس)
بن يزيد الأيلي (عن الحسن) البصري قال: (حدّثني) بالإفراد
(عبد الرحمن بن سمرة) -رضي الله عنه- (قال: قال لي رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة) أي الولاية ولأبي
ذر عن الكشميهني لا تتمنين الإمارة (فإن أعطيتها عن مسألة
(10/221)
وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت
عليها وإذا حلفت على يمين) أي حلفت على محلوف يمين فسماه
يمينًا مجازًا للملابسة بينهما والمراد ما شأنه أن يكون
محلوفًا عليه وإلاّ فهو قبل اليمين ليس محلوفًا عليه فيكون
من مجاز الاستعارة ويحتمل أن يكون على معنى الباء ويؤيده
رواية النسائي إذا حلفت بيمين لكن قوله (فرأيت غيرها خيرًا
منها فائت الذي هو خير وكفّر عن يمينك) يدل على الأول لأن
الضمير لا يصح عوده على اليمين بمعناها الحقيقي ولذا رجح
في الكشاف الأول فقال في قوله تعالى: {ولا تجعلوا الله
عرضة لأيمانكم} [البقرة: 224] أي حاجزًا لما حلفتم عليه
وسمي المحلوف يمينًا لتلبسه باليمين كما قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعبد الرحمن بن سمرة إذا حلفت
على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فائت الذي هو خير أي على
شيء مما يحلف عليه.
7 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الإِمَارَةِ
(باب ما يكره من الحرص على) طلب (الإمارة).
7148 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ، عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ
عَلَى الإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ
الْفَاطِمَةُ». وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمْرَانَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِىِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) نسبه لجده واسم أبيه عبد
الله قال: (حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن المدني
(عن سعيد المقبري) بضم الموحدة (عن أبي هريرة) -رضي الله
عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(إنكم ستحرصون) بكسر الراء وفتحها (على الإمارة) الإمامة
العظمى أو الولاية بطريق النيابة (وستكون ندامة) لمن لم
يعمل فيها بما ينبغي (بوم القيامة). وفي حديث عوف بن مالك
عند البزار والطبراني بسند صحيح: أوّلها ملامة وثانيها
ندامة وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل، وعن أبي هريرة
في أوسط الطبراني الإمارة أولها ندامة وأوسطها غرامة
وآخرها عذاب يوم القيامة (فنعم المرضعة) الولاية فإنها تدر
عليه المنافع واللذات العاجلة (وبئست الفاطمة) عند انفصاله
عنها بموت أو غيره فإنها تقطع عنه تلك اللذائذ والمنافع
وتُبقي عليه الحسرة والتَّبِعَة وألحقت التاء في بئست دون
نعم، والحكم فيهما إذا كان فاعلهما مؤنثًا جواز الإلحاق
وتركه فوقع التفنن في هذا الحديث
بحسب ذلك. وقال في المصابيح: شبه على سبيل الاستعارة ما
يحصل من نفع الولاية حال ملابستها بالرضاع وشبه بالفطام
انقطاع ذلك عنه عند الانفصال عنها إما بموت أو بغيره
فالاستعارة في المرضعة والفاطمة تبعية.
فإن قلت: هل من لطيفة تلمح في ترك التاء من فعل المدح
وإثباتها مع فعل الذم؟ قلت: رضاعها هو أحب حالتيها إلى
النفس وفطامها أشق الحالتين على النفس والتأنيث أخفض حالتي
الفعل وتركه أشرف حالتيه إذ هي حالة التذكير وهو أشرف من
التأنيث فآثر استعمال أشرف حالتي الفعل مع الحالة المحبوبة
التي هي أشرف حالتي الولاية واستعمل الحالة الأخرى وهي
التأنيث مع الحالة على النفس، وهي حالة الفطام عن الولاية
لمكان الناسبة في المحلين فهذا أمر قد يتخيل في هذا المقام
فتأمله اهـ.
وقال في شرح المشكاة: إنما لم يلحق التاء بنعم لأن المرضعة
مستعارة للإمارة وهي وإن كانت مؤنثة إلا أن تأنيثها غير
حقيقي وألحقها ببئس نظرًا إلى كون الإمارة حينئذٍ داهية
دهياء، وفيه أن ما يناله الأمير من البأساء والضراء أبلغ
وأشد مما يناله من النعماء والسرّاء، وإنما أتي بالتاء في
المرضع والفاطم دلالة على تصوير تينك الحالتين المتجددتين
في الإرضاع والإفطام فعلى العاقل أن لا يلم بلذة تتبعها
حسرات.
وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي وقال حديث غريب أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من ولي القضاء
أو جعل قاضيًا بين الناس فقد ذبح بغير سكّين" والذبح إذا
كان بغير سكين فيه زيادة تعذيب للمذبوح بخلاف الذبح
بالسكّين ففيه إراحة له بتعجيل إزهاق الروح وقيل إن الذبح
لما كان في العرف بالسكّين عدل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إلى غيره ليعلم أن المراد ما يخاف عليه من هلاك
دينه دون بدنه. قال التوربشتي: وشتان ما بين الذبحين فإن
الذبح بالسكّين عناء ساعة والآخر عناء عمره، أو المراد أنه
ينبغي أن يميت جميع دواعيه الخبيثة وشهواته الرديئة فهو
مذبوح بغير سكّين، وعلى هذا فالقضاء مرغوب فيه وعلى ما
قبله فالمراد التحذير منه. قال المظهريّ: خطر القضاء كثير
وضرره عظيم لأنه
قلما عدل القاضي بين
(10/222)
الخصمين لأن النفس مائلة إلى من تحبه أو من
له منصب يتوقع جاهه أو يخاف سلطنته، وربما يميل إلى قبول
الرشوة، وهذا الداء العضال وما أحسن قول ابن الفضل في هذا
المعنى:
ولما أن توليت القضايا ... وفاض الجور من كفيك فيضا
ذبحت بغير سكّين وإنّا ... لنرجو الذبح بالسكّين أيضًا
والحديث أخرجه النسائي في البيعة والسِّيَر والقضاء.
قال البخاري بالسند السابق أوّل هذا التعليق إليه: (وقال
محمد بن بشار) بالموحدة والشين المعجمة المشددة وهو
المعروف ببندار (حدّثنا عبد الله بن حمران) بضم الحاء
المهملة وسكون الميم
بعدها راء فألف الأموي مولاهم البصري قال: (حدّثنا عبد
الحميد بن جعفر) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاري
المدني، وسقط ابن جعفر لغير أبي ذر (عن سعيد المقبري عن
عمر بن الحكم) بضم عين الأول وبفتح المهملة والكاف في
الثاني ابن ثوبان المدني (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه-
(قوله). أي موقوفًا عليه، وقد أدخل عمر بن الحكم بين سعيد
المقبري وأبي هريرة بخلاف الطريق السابقة.
7149 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِى بُرْدَةَ،
عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَا
وَرَجُلاَنِ مِنْ قَوْمِى فَقَالَ: أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ
أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَالَ الآخَرُ:
مِثْلَهُ، فَقَالَ: «إِنَّا لاَ نُوَلِّى هَذَا مَنْ
سَأَلَهُ وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) بن كريب الهمداني الحافظ
أبو كريب مشهور بكنيته قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن
أسامة (عن بريد) بضم الموحدة عامر أو الحارث (من) جده (أبي
بردة عن) أبيه (أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (-رضي
الله عنه-) أنه (قال: دخلت على النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنا ورجلان من قومي) لم يسميا نعم في
معجم الطبراني الأوسط أن أحدهما ابن عمه (فقال أحد
الرجلين: أمرنا) بفتح الهمزة وكسر الميم المشددة أي ولنا
(يا رسول الله) موضعًا (وقال الآخر مثله فقال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إنّا لا نولي هذا) الأمر
(من سأله ولا حرص عليه) بفتح المهملة والراء والحرص على
الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء
واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض قاله
المهلب.
8 - باب مَنِ اسْتُرْعِىَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ
(باب) ذكر (من استرعي) بضم الفوقية وكسر العين أي من
استرعاه الله (رعية فلم ينصح) لها.
7150 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِى مَرَضِهِ الَّذِى
مَاتَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّى مُحَدِّثُكَ
حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ
اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا
بِنَصِيحَةٍ إِلاَّ لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
أبو الأشهب) بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الهاء
بعدها موحدة جعفر بن حبان السعدي العطاردي البصري وهو
مشهور بكنيته (عن الحسن) البصري (أن عبيد الله) بضم العين
(ابن زيد) بكسر الزاي بعدها تحتية أمير البصرة في زمن
معاوية وولده (عاد معقل بن يسار) معقل بكسر القاف ويسار
بالتحتية والسين
المهملة المخففة المزني الصحابيّ (في مرضه الذي مات فيه)
وكانت وفاته في خلافة معاوية (فقال له معقل: إني محدّثك
حديثًا سمعته من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(ما من عبد استرعاه) استحفظه (الله) ولأبي ذر والأصيلي
يسترعيه الله (رعية فلم يحطها) بفتح التحتية وضم الحاء
وسكون الطاء المهملتين أي فلم يحفظها ولم يتعهد أمرها
(بنصيحة) بفتح النون وبعد الصاد المهملة المكسورة تحتية
ساكنة وتنوين آخره، ولأبي ذر عن المستملي: بالنصيحة بزيادة
أل كذا في الفرع كأصله، وفي الفتح بنصحه بضم النون وهاء
الضمير وقال كذا للأكثر وللمستملي بالنصيحة (إلا لم يجد
رائحة الجنة) إذا كان مستحلاًّ لذلك أو لا يجدها مع
الفائزين الأوّلين لأنه ليس عامًّا في جميع الأزمان أو خرج
مخرج التغليظ، وزاد الطبراني وعرفها يوجد يوم القيامة من
مسيرة سبعين عامًّا وسقط لأبي ذر والأصيلي لفظ إلا من قوله
إلا لم يجد.
قال في الكواكب: فيصير مفهوم الحديث أنه يجدها عكس
المقصود، وأجاب: بأن إلا مقدرة أي إلا لم يجد والخبر محذوف
أي ما من عبد كذا إلا حرم الله عليه الجنة ولم يجد رائحة
الجنة استئناف كالمفسر له أو ما ليست للنفي وجاز زيادة من
للتأكيد في الإثبات عند بعض النحاة وقد ثبتت إلا في بعض
النسخ اهـ.
وفي اليونينية سقوطها لأبي ذر والأصيلي. قال في الفتح: لم
يقع الجمع بين اللفظين المتوعد بهما في طريق واحدة
(10/223)
فقوله لم يجد رائحة الجنة وقع في رواية أبي
الأشهب، وقوله حرم الله عليه الجنة في رواية هشام أي
التالية لهذه فكأنه أراد أن الأصل في الحديث الجمع بين
اللفظين فحفظ بعض ما لم يحفظ بعض وهو محتمل، لكن الظاهر
أنه لفظ واحد تصرف فيه بعض الرواة.
وفي الكبير للطبراني من وجه آخر عن الحسن قال: قام علينا
عبيد الله بن زياد أميرًا أمره علينا معاوية غلامًا سفيهًا
يسفك الدماء سفكًا شديدًا وفينا عبد الله بن مغفل المزني
فدخل عليه ذات يوم فقال له: انتهِ عما أراك تصنع فقال له:
وما أنت وذاك؟ قال: ثم خرج إلى المسجد فقلنا له: ما كنت
تصنع بكلام هذا السفيه على رؤوس الناس؟ فقال: إنه كان عندي
علم فأحببت أن لا أموت حتى أقول به على رؤوس الناس ثم قام
فما لبث أن مرض مرضه الذي توفي فيه فأتاه عبيد الله بن
زياد يعوده فذكر نحو حديث الباب. قال الحافظ ابن حجر:
فيحتمل أن تكون القصة وقعت للصحابيين.
وحديث الباب أخرجه مسلم في الإيمان.
7151 - : إسحاقُ نجنُ قتصُويى، أخْبَرَنًا حُسَينَ
انجُغفِى قالَ زائِدَةُ: ذَكَرَهُ كق هِشايم،
7151 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا
حُسَيْنٌ الْجُعْفِىُّ قَالَ زَائِدَةُ: ذَكَرَهُ عَنْ
هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَتَيْنَا مَعْقِلَ بْنَ
يَسَارٍ نَعُودُهُ، فَدَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ
لَهُ مَعْقِلٌ: أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِى رَعِيَّةً مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهْوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلاَّ
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن منصور) الكوسج أبو يعقوب
المروزي قال: (أخبرنا حسين) بضم الحاء المهملة ابن علي
(الجعفي) قال (قال زائدة) بن قدامة (ذكره) أي الحديث الآتي
(عن هشام) أي ابن حسان (عن الحسن) البصري أنه (قال: أتينا
معقل بن يسار نعوده) أي في مرضه الذي مات فيه (فدخل عبيد
الله) بن زياد ولأبي ذر عن الكشميهني فدخل علينا عبيد الله
(فقال له معقل: أحدّثك) بضم الهمزة ورفع المثلثة (حديثًا
سمعته من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال):
(ما من والٍ) وفي رواية أبي المليح عند مسلم ما من أمير
(يلي رعية من المسلمين فيموت) الفاء فيه وفي فلم يحطها في
الحديث السابق كاللام في قوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم
عدوًّا وحزنًا قاله الطيبي. قال في المدارك: أي ليصير
الأمر إلى ذلك لا أنهم أخذوه لهذا كقولهم للموت ما تلد
الوالدة وهي لم تلده لأن يموت ولدها ولكن المصير إلى ذلك
كذا قاله الزجّاج، وعن هذا قال المفسرون إن هذه لام
العاقبة والصيرورة وقال في الكشاف هي لام كي التي معناها
التعليل كقوله: جئتك لتكرمني، ولكن معنى التعليل فيها وارد
على طريق المجاز لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له شبه
بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي
ينتجه المجيء وقوله: (وهو غاشٌّ لهم إلاَّ حرم الله عليه
الجنة). بفتح الغين المعجمة وبعد الألف شين معجمة حال مقيد
للفعل مقصود بالذكر يعني أن الله تعالى إنما ولاّه
واسترعاه على عباده ليديم النصيحة لهم لا ليغشهم فيموت
عليه، فلما قلب القضية استحق أن لا يجد رائحة الجنة وقال
القاضي عياض المعنى من قلّده الله تعالى شيئًا من أمر
المسلمين واسترعاه عليهم ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو
دنياهم فإذا خان فيما ائتمن عليه فلم ينصح فقد غشّهم حرّم
الله عليه الجنة اهـ.
وهذا وعيد شديد على أئمة الجور فمن ضيع من استرعاه توجه
عليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة وكيف يقدر على
التحلل. نعم يجوز أن يتفضل الله تعالى عليه فيرضي عنه
أخصامه فهو الجواد الكريم الرؤوف الرحيم.
9 - باب مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (من شاق) على الناس بأن أدخل
عليهم المشقّة (شق الله عليه) جزاء وفاقًا لأعمالهم.
7152 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِىُّ، حَدَّثَنَا
خَالِدٌ، عَنِ الْجُرَيْرِىِّ، عَنِ طَرِيفٍ أَبِى
تَمِيمَةَ قَالَ شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَبًا
وَأَصْحَابَهُ وَهْوَ يُوصِيهِمْ فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ
سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: وَمَنْ
يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
فَقَالُوا: أَوْصِنَا فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ
مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ
يَأْكُلَ إِلاَّ طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ
أَنْ لاَ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ
كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ». قُلْتُ
لأَبِى عَبْدِ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جُنْدَبٌ
قَالَ: نَعَمْ جُنْدَبٌ.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) بن شاهين أبو بشر (الواسطي) قال:
(حدّثنا خالد) هو ابن عبد الله الطحان (عن الجريري) بضم
الجيم وفتح الراء نسبة إلى جرير بن عباد واسمه سعيد بن
إياس (عن طريف) بالطاء المهملة آخره فاء بوزن عظيم (أبي
تميمة) بالفوقية بوزن عظيمة ابن مجالد بضم الميم وتخفيف
الجيم الجهيمي بضم الجيم مصغرًا نسبة إلى بني الجهيم بطن
من تميم وكان مولاهم أنه (قال: شهدت صفوان) بن محرز بن
زياد التابعي البصري (وجندبًا) بضم الجيم والدال المهملة
بينهما نون ساكنة ابن عبد الله البجلي الصحابي المشهور
(وأصحابه) أي أصحاب صفوان (وهو) أي صفوان بن محرز (يوصيهم)
بسكون الواو وعند الكرماني الضمير راجع إلى جندب وكذا هو
في الأطراف للمزي، ولفظه: شهدت صفوان
(10/224)
وأصحابه وجندبًا يوصيهم (فقالوا) أي صفوان
وأصحابه لجندب (هل سمعت من رسول الله شيئًا؟ قال): نعم
(وسمعته) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يقول):
(من سمع سمع الله به يوم القيامة) بفتح السين والميم
المشددة أي من عمل للسمعة يظهر الله للناس سريرته ويملأ
أسماعهم بما ينطوي عليه، وقيل سمع الله به أي يفضحه يوم
القيامة وقيل معناه من سمع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله
عيوبه، وقيل أسمعه المكروه، وقيل أراه الله ثواب ذلك من
غير أن يعطيه إياه لكون حسرة عليه، وقيل من أراد أن يعلمه
الناس أسمعه الله الناس وكان ذلك حظه.
(قال) عليه الصلاة والسلام: (ومن يشاقق) ولأبي ذر عن
الكشميهني بإسقاط إحدى القافين أي يضر الناس ويحملهم على
ما يشق من الأمر أو يقول فيهم أمرًا قبيحًا ويكشف عن
عيوبهم ومساويهم (يشقق الله عليه) يعذبه (يوم القيامة)
ويشاقق ويشقق بلفظ المضارع وفك القاف فيهما (فقالوا) له:
(أوصنا. فقال) جندب (إن أول ما ينتن) بضم التحتية وسكون
النون وكسر الفوقية قال في الصحاح نتن الشيء وأنتن بمعنى
فهو منتن ومنتن بكسر الميم إتباعًا لكسرة التاء والنتن
الرائحة الكريهة (من الإنسان) بعد موته (بطنه فمن استطاع
أن لا يأكل إلاّ طينًا) أي حلالاً (فليفعل ومن استطاع أن
لا يحال) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة مبنيًّا للمفعول
وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني أن لا يحول (بينه وبين
الجنة ملء كفه) كذا للكشميهني ملء بغير حرف الجر ورفع ملء
على أنه فاعل بفعل محذوف دل عليه المتقدم أي يحول بينه
وبين الجنة ملء كفه ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بملء كف
(من دم) بغير ضمير ومن بيانية (أهراقه) بفتح الهمزة وسكون
الهاء صبه بغير حقه (فليفعل).
وهذا الحديث وإن كان ظاهره أنه موقوف فهو في حكم المرفوع
لأنه لا يقال بالرأي. نعم وقع مرفوعًا عند الطبراني من
طريق الأعمش من أبي تميمة بلفظ قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يحولن بين أحدكم وبين
الجنة" فذكر نحو رواية الجريري.
قال الفربري (قلت لأبي عبد الله) محمد بن إسماعيل البخاري
(من يقول سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- جندب؟ قال: نعم جندب) وفي الفرع كأصله سقوط
قوله قلت إلخ لأبي ذر، وقال في الفتح: وقد خلت رواية
النسفي من ذلك.
10 - باب الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِى الطَّرِيقِ
وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الطَّرِيقِ وَقَضَى
الشَّعْبِىُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ.
(باب) جواز (القضاء والفتيا) حال كونهما (في الطريق) وعن
أشهب لا بأس بالقضاء إذا كان سائرًا إذا لم يشغله عن
الفهم. وقال السفاقسي: لا يجوز فيما يكون غامضًا.
(وقضى يحيى بن يعمر) بفتح التحتية والميم بينهما عين مهملة
ساكنة التابعي المشهور قاضي مرو (في الطريق) كما وصله ابن
سعد في طبقاته. (وقضى الشعبي) بفتح المعجمة وسكون المهملة
وبالموحدة المكسورة عامر بن شراحيل (على باب داره) وصله
أيضًا ابن سعد.
7153 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ
أَبِى الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى
الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ،
فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا أَعْدَدْتَ
لَهَا»؟ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ ثُمَّ قَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ
وَلاَ صَلاَةٍ وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ».
وبه قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) أخو أبي بكر قال:
(حدّثنا جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عن منصور) هو
ابن المعتمر (عن سالم بن أبي الجعد) رافع الأشجعي مولاهم
الكوفي أنه قال: (حدّثنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال:
بينما) بالميم (أنا والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خارجان من المسجد فلقينا رجل) بكسر القاف وفتح
التحتية (عند سدة المسجد) بضم السين وفتح الدال المشددة
المهملتين المظلة على بابه لوقاية المطر والشمس أو الباب
أو عتبته أو الساحة أمام بابه والرجل قال ابن حجر لم أعرف
اسمه لكن في الدارقطني أنه ذو الخويصرة اليماني (فقال: يا
رسول الله متى الساعة)؟ تقوم (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما أعددت لها)؟ ما هيأت لها من عمل (فكأن الرجل استكان)
افتعل من السكون فتكون ألفه خارجة عن القياس، وقيل إنه
استفعل من الكون أي انتقل من كون إلى كون كما قالوا استحال
إذا انتقل من حال إلى حال، وقوّة المعنى تؤيد الأوّل إذ
الاستكانة هي الخضوع والانقياد وهو يناسب السكون والخروج
عن القياس يضعفه والقياس يؤيد الثاني وقوة المعنى تضعفه إذ
ليس بيهما
(10/225)
أعني الشتق والمشتق منه مناسبة ظاهرة
فيحتاج إثباتها إلى تكلف، وقيل هو مشتق من الكين وهو لحبم
باطن الفرج إذ هو في أذل المواضع أي صار مثله في الذل وقيل
كان يكين بمعنى خضع وذل والوجه بناء على هذا هو الثاني إذ
لا يلزم الخروج عن القياس ولا عدم المناسبة ولو كانت هذه
اللفظة مشهورة لكان أحسن الوجوه قاله في المصابيح، ولأبي
ذر عن الكشميهني: قد استكان.
(ثم قال: يا رسول الله ما أعددت) بالهمزة كالسابقة ولأبي
ذر عن الكشميهني ما عدّدت بغير همزة. قال في الفتح: وهو
بالتشديد مثل جمع مالاً وعدده اهـ. وقال المفسرون: جمع
مالاً وعدّده أي أعدّه لنوائب الدهر مثل كرّم وأكرم، وقيل
أحصى عدده قاله السدي، وقرأ الحسن والكلبي بتخفيف الدال أي
جمع مالاً وعدد ذلك المال، والمعنى هنا ما هيأت (لها كبير
صيام) بالباء الموحدة ولبعضهم بالمثلثة (ولا صلاة ولا صدقة
ولكني) بكسر النون المشددة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
ولكن بسكون النون مخففة (أحب الله ورسوله. قال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له: (أنت) في الجنة (مع من
أحببت). فألحقه بحسن نيته من غير زيادة عمل بالصحابي
الأعمال الصالحة. وقال ابن بطال: فيه جواز سكوت العالم عن
جواب السائل والمستفتي إذا كانت المسألة لا تعرف أو كانت
مما لا حاجة بالناس إليها أو كانت مما يخشى منها الفتنة أو
سوء التأويل.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله عند السدة. قال المهلب:
الفتيا في الطريق وعلى الدابة ونحو ذلك من التواضع فإن
كانت للضعيف فمحمودة وإن كانت لشخص من أهل الدنيا أو ممن
يخشى فمكروهة لكن إذا خشي من الثاني ضررًا وجب ليأمن شره.
والحديث سبق في الأدب في باب علامات حب الله.
11 - باب مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ
(باب ما ذكر أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لم يكن له بوّاب) راتب ليمنع الناس من الدخول عليه.
7154 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ
الْبُنَانِىُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ
لاِمْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ: تَعْرِفِينَ فُلاَنَةَ؟
قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ فَإِنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِهَا وَهْىَ تَبْكِى
عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: «اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى»
فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّى فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ
مُصِيبَتِى قَالَ: فَجَاوَزَهَا وَمَضَى فَمَرَّ بِهَا
رَجُلٌ فَقَالَ: مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: مَا عَرَفْتُهُ
قَالَ: إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ
فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ فَقَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ الصَّبْرَ
عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) ولأبي ذر والأصيلي: إسحاق بن
منصور أي ابن بهرام الكوسج أبو يعقوب المروزي قال:
(أخبرنا) ولأبي ذر والأصيلي: حدّثنا (عبد الصمد) بن عبد
الوارث قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا ثابت
البناني) بضم الموحدة وفتح النون (عن أنس بن مالك) -رضي
الله عنه- ولأبي ذر قال: سمعت أنس بن مالك (يقول لامرأة من
أهله: تعرفين فلانة) لم يقف الحافظ على اسم المرأتين
(قالت: نعم) أعرفها (قال: فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّ بها وهي) أي والحال أنها (تبكي
عند قبر فقال) لها:
(اتقي الله) توطئة لقوله (واصبري) بكسر الموحدة أي لا
تجزعي وخافي غضب الله واصبري
حتى تثابي فأجابت (فقالت) له: (إليك) أي تنح وابعد (عني
فإنك خلو) بكسر المعجمة وسكون اللام خال (من مصيبتي). وعند
أبي يعلى من حديث أبي هريرة أنها قالت: يا عبد الله إني
أنا الحراء الثكلاء ولو كنت مصابًا عذرتني (قال) أنس:
(فجاوزها) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ومضى فمرّ
بها رجل) هو الفضل بن العباس (فقال) لها: (ما قال لك رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قالت) له: (ما
عرفته. قال: إنه لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) زاد مسلم في رواية له فأخذها مثل الموت أي من
شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال) أنس: (فجاءت) أي المرأة
(إلى بابه) عليه الصلاة والسلام (فلم تجد عليه بوّابًا) أي
راتبًا تواضعًا منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فلا يعارض هذا حديث أبي موسى أنه كان بوّابًا له عليه
الصلاة والسلام لما جلس على القف، وحديث عمر لما استأذن له
الأسود في قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرًا لأنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في خلوة نفسه
يتخذ البوّاب. واختلف في مشروعية الحجاب للحاكم فقال
إمامنا الشافعي: لا ينبغي اتخاذه له، وقال آخرون بالجواز،
وقال آخرون يستحب لترتيب الخصوم ومنع المستطيل ودفع
الشرّير ويكره دوام الاحتجاب، وقد يحرم ففي أبي داود
والترمذي بسند جيد عن أبي مريم الأسدي مرفوعًا: مَن ولاّه
الله من أمر الناس شيئًا فاحتجب عن حاجتهم احتجب الله عن
حاجته يوم القيامة. وقال في شرح المشكاة: فائدة قوله
(10/226)
فلم تجد عنده بوّابًا إنه لما قيل لها إنه
لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استشعرت
خوفًا وهيبة في نفسها فتصوّرت أنه مثل الملوك له حاجب
وبوّاب يمنع الناس من الوصول إليه فوجدت الأمر بخلاف ما
تصوّرته.
(فقالت: يا رسول الله والله ما عرفتك. فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لها (إن الصبر عند أول صدمة)
ولأبي ذر عن الكشميهني: عند أول الصدمة بالتعريف، والمعنى
إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع
فهو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر فالمرء لا يؤجر
على المصيبة لأنها ليست من صنعه وإنما يؤجر على حسن تثبته
وجميل صبره.
وسبق الحديث في الجنائز في باب زيارة القبور.
12 - باب الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ الإِمَامِ الَّذِى فَوْقَهُ
(باب) ذكر (الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه) القتل
(دون الإمام الذي فوقه) أي الذي ولاّه من غير احتياج إلى
استئذانه في خصوص ذلك وباب مضاف لتاليه في الفرع، وقال
العيني: ليس مضافًا وإن قوله الحاكم رفع بالابتداء وقوله
يحكم بالقتل خبره. وقال في الكواكب وتبعه البرماوي قوله
دون هو إما بمعنى عند وإما بمعنى غير، لكن الحديث الثاني
يدل على أنه بمعنى غير ليس إلا والأول يحتملهما.
7155 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الذُّهْلِىُّ،
حَدَّثَنَا الأَنْصَارِىُّ مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبِى
عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ
كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ
الأَمِيرِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن خالد) هو محمد بن يحيى بن عبد
الله بن خالد بن فارس (الذهلي) بضم المعجمة وسكون الهاء
وكسر اللام وسقط الذهلي لأبي ذر قال: (حدّثنا الأنصاري
محمد) بتقديم النسبة على الاسم وهي رواية أبي زيد المروزي
كما في الفتح وللأكثر حدّثنا محمد بن عبد الله الأنصاري
قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبي ذر: حدّثني (أبي) عبد الله بن
المثنى بن عبد الله بن أنس (عن) عم أبيه (ثمامة) بضم
المثلثة وتخفيف الميم الأولى والثانية بينهما ألف (عن أنس)
-رضي الله عنه- (أن قيس بن سعد). قال في الفتح: وزاد في
رواية المروزي ابن عبادة أي الأنصاري الخزرجي لا قيس بن
سعد بن معاذ ولأبي ذر عن أنس بن مالك قال: إن قيس بن سعد
(كأن يكون بين يدي النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير). بضم المعجمة
وفتح الراء بعدها طاء مهملة. وزاد الإسماعيلي عن الحسن بن
سفيان عن محمد بن مرزوق عن الأنصاري مما أدرجه الأنصاري من
كلامه كما بيّنه الترمذي لا ينفذه من أموره. والشرطة أعوان
الأمير الذين يتصرفون في الجند بأمره والمراد بصاحب الشرطة
كبيرهم، فقيل سموا بذلك لأنهم رذالة الجند أو لأنهم
الأشداء الأقوياء من الجند. قال الأزهري: شرطة كل شيء
خياره، ومنه الشرطة لأنهم نخبة الجند وقيل هم أول طائفة
تتقدم الجيش وتشهد الوقعة، وقيل مأخوذ من الشريط وهو الحبل
المبرم لما فيهم من الشدة.
وفي الحديث تشبيه ما مضى بما حدث بعده، لأن صاحب الشرطة لم
يكن موجودًا في العهد النبوي عند أحد من العمال، وإنما حدث
في دولة بني أمية فأراد أنس تقريب حال قيس بن سعد عند
السامعين فشبهه بما يعهدونه وفائدة تكرار لفظ الكون في
قوله كان يكون بيان الدوام والاستمرار كما قاله في
الكواكب.
وقوله في الفتح إنه وقع في الترمذي وغيره من طرق عن
الأنصاري كان قيس بن سعد من النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: فظهر أن ذلك كان من تصرف الرواة،
تعقبه العيني بأن رواية الترمذي وغيره لا تستلزم نفي رواية
كان يكون فإن كلاًّ لا يروي إلا ما ضبطه فعدم النسبة إلى
تصرف الرواة أولى من كونهم تصرفوا في ذلك من أنفسهم ومفهوم
التكرار، وزيادة الإسماعيلي أن ذلك كان لقيس على سبيل
الوظيفة الراتبة لكن يعكر عليه ما ذكره الإسماعيلي بلفظ
قال الأنصاري، ولا أعلمه إلا عن أنس أنه لما قدم النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان قيس بن سعد في
مقدمته بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير فكلم سعد النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قيس أن يصرفه من
الموضع الذي وضعه فيه مخافة أن يقدم على شيء فصرفه عن ذلك،
ثم أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن الأنصاري بدون تلك
الزيادة التي في آخره قال: ولم يشك في كونه عن أنس فكأن
الأنصاري كان يتردد في وصلها. قال الحافظ ابن حجر: وعلى
تقدير ثبوت هذه
(10/227)
الزيادة فلم يقع ذلك لقيس بن سعد إلا في
تلك المرة ولم يستمر مع ذلك فيها.
7156 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ
قُرَّةَ، حَدَّثَنِى حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِى مُوسَى أَنَّ النَّبِىَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَهُ
وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
زاد أبو ذر هو القطان (عن قرة) ولأبي ذر زيادة ابن خالد أي
السدوسي أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (حميد بن هلال) العدوي
البصري قال: (حدّثنا أبو بردة) بضم الموحدة عامر أو الحارث
(عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعثه) أرسله إلى اليمن قاضيًا
(وأتبعه بمعاذ) بهمزة قطع وسكون الفوقية ومعاذ هو ابن جبل.
وهذا قطعة من حديث سبق في باب حكم المرتد والمرتدة من
استتابة المرتدين بهذا السند وأوله عن أبي موسى قال: أقبلت
إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعي رجلان
من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري ورسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستاك فكلاهما سأل
فقال: يا أبا موسى أو قال يا عبد الله بن قيس قال: قلت
والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت
أنهما يطلبان العمل فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت
فقال: لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت
يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن ثم أتبعه
معاذ بن جبل، ثم ذكر قصة اليهودي الذي أسلم ثم ارتد وعليها
اقتصر هنا في الحديث التالي لهذا.
7157 - حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ،
حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ،
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ
أَبِى مُوسَى أَنَّ رَجُلاً أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ،
فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَهْوَ عِنْدَ أَبِى مُوسَى
فَقَالَ: مَا لِهَذَا؟ قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ
قَالَ: لاَ أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ قَضَاءُ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن الصباح) بفتح
المهملة والموحدة المشددة وبعد الألف مهملة العطاردي
البصري قال: (حدّثنا محبوب بن الحسن) القرشي البصري قيل
اسمه محمد ومحبوب لقبه قال: (حدّثنا خالد) الحذاء (عن حميد
بن هلال) العدوي (عن أبي بردة) عامر (عن أبي موسى) الأشعري
-رضي الله عنه- (أن رجلاً) أي أعرف اسمه (أسلم ثم تهوّد
فأتاه معاذ بن جبل وهو عند أبي موسى فقال) معاذ لأبي موسى:
(ما لهذا) الرجل الموثق؟ (قال: أسلم ثم تهود) وفي رواية
الباب المذكور في استتابة المرتدين ثم أتبعه معاذ بن جبل
فلما قدم عليه ألقى له وسادة. قال أنزل وإذا رجل عنده موثق
قال ما هذا قال كان يهوديًّا فأسلم ثم تهود فقال أجلس
(قال: لا أجلس حتى أقتله) هذا (قضاء الله و) قضاء (رسوله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في الاستتابة
فأمر به فقتل وبذلك يتم مراد الترجمة ويحصل الرد على من
زعم أن الحدود لا يقيمها عمال البلاد إلا بعد إذن الإمام
الذي ولاهم.
13 - باب هَلْ يَقْضِى الْحَاكِمُ أَوْ يُفْتِى وَهْوَ
غَضْبَانُ؟
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (هل يقضي الحاكم) ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي القاضي أي بين الناس (أو يفتي وهو
غضبان)؟
7158 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أَبُو
بَكْرَةَ إِلَى ابْنِهِ وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ بِأَنْ لاَ
تَقْضِىَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ فَإِنِّى
سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهْوَ
غَضْبَانُ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (حدّثنا عبد الملك بن عمير) بضم العين وفتح
الميم الكوفي قال: (سمعت عبد الرحمن بن أبي بكرة) نفيع
الثقفي (قال: كتب) أبي (أبو بكرة إلى ابنه) بالنون ولده
عبيد الله بالتصغير (وكان) عبيد الله قاضيًا (بسجستان)
بكسر المهملة والجيم على الصحيح غير منصرف للعلمية
والعجمية وفيه الزيادة والتأنيث إحدى مدن العجم وهي خلف
كرمان مسيرة مائة فرسخ منها أربعون مفازة ليس بها ماء وهي
إلى ناحية الهند (بأن لا تقضي بين اثنين).
وفي عمدة الأحكام: كتب أبي وكتبت له إلى ابنه عبيد الله
وهو موافق لرواية مسلم إلا أنه زاد لفظة ابنه، والضمير في
ابنه عائد إلى أبي بكرة، وصرح في بعض الروايات فقال وكتبت
له إلى ابنه عبيد الله بن أبي بكرة. والحاصل أن أبا بكرة
له ابن يسمى عبيد الله وهو المكتوب إليه وابن آخر يسمى عبد
الرحمن راوي الحديث الذي كتب إلى أخيه عبيد الله به، وهذا
التركيب يحتمل أن يكون أبو بكرة كتب بنفسه إلى ابن عبيد
الله، وكتب عبد الرحمن لأخيه عبيد الله بمثل ما كتب أبو
بكرة، ولكن عبد الرحمن إنما كتب لأجل أبيهما أي لأجل أمره
وطواعيته ونحو ذلك ففيه تنازع بين كتب وبين كتبت في
المفعول وهو أن لا يحكم بين اثنين وفي الجار والمجرور وهو
إلى ابنه، ويكون قد أعمل أحدهما وأضمر في الآخر ولكنه حذف
لكونه فضلة، وتعقبه في الفتح بأنه لا يتعين ذلك بل الذي
يظهر أن قوله كتب أبي أي أمر
(10/228)
بالكتابة وقوله وكتبت أي باشرت الكتابة
التي أمر بها والأصل عدم التعدد، وتعقبه العيني فقال:
الأصل عدم التعدد والأصل عدم ارتكاب المجاز والعدول عن
ظاهر الكلام لا لعلة وما المانع من التعدد اهـ.
أو يكون المراد كتب أبي إليّ أن أكتب لابنه، ولكن حذف
المفعول وهو المجرور بإلى ثم قال: وكتبت له إلى ابنه بذلك
أي لأجل أمره لي بأن أكتب وعلى هذا فلا تنازع في المجرور
بل في المفعول الذي هو المصدر المنسبك من أن لا تحكم الخ
وأعمل أحدهما وحذف الآخر لأنه غير عمدة على ما سبق، أو
يكون المراد أن كلاًّ من أبي بكرة وعبد الرحمن كتب إلى
عبيد الله وكتابة ثانيهما إليه تأكيد لكتابة الأوّل،
وكتابة عبد الرحمن إنما كانت لأجل أبي بكرة على معنى أنه
كتب ذلك عن أبيه لا من قبل نفسه أو يكون أبو بكرة أمر
بالكتابة فنسب إليه أنه كتب تجوّزًا بالسبب
عن المسبب وفيه نظر لرواية النسائي. قال عبد الرحمن بن أبي
بكرة كتب إليّ أبو بكرة يقول: ْسمعت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول الخ. وفي رواية مسلم أن
لا تحكم بين اثنين (وأنت غضبان) جملة في موضع الحال وغضبان
لا ينصرف والغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام وعند
الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا: ألا وإن الغضب جمرة في قلب
ابن آدم أما ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه (فإني
سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول)
الفاء في فإني سببية.
(لا يقضين) بتشديد النون تأكيد للنهي (حكم) بفتحتين أي
حاكم (بين اثنين وهو غضبان) لأن الغضب قد يتجاوز بالحاكم
إلى غير الحق، وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل
به التغير للفكر كجوع وشبع مفرطين ومرض مؤلم وخوف مزعج
وفرح شديد وغلبة نعاس وهمّ مضجر ومدافعة حدث وحرّ مزعج
وبرد منكر وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن
استيفاء النظر وعن أبي سعيد عند البيهقي بسند ضعيف
مرفوعًا: لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان، واقتصر على
ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره
نعم إن غضب لله ففي الكراهة وجهان. قال البلقيني: المعتمد
عدم الكراهة واستبعده غيره لمخالفته لظواهر الأحاديث
وللمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم حال الغضب، ولو خالف وحكم
وهو غضبان صحّ أن صادف الحق مع الكراهة، وعن بعض الحنابلة
لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهي عنه والنهي يقتضي
الفساد، وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن
استبان له الحكم فلا يؤثر وإلاّ فهو محل الخلاف.
والحديث أخرجه مسلم في الأحكام، وأبو داود في القضاء،
والترمذي في الأحكام، والنسائي في القضايا وابن ماجة في
الأحكام.
7159 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِى
خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ أَبِى
مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى وَاللَّهِ
لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ
مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَطُّ
أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ
قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ
مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ
فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ
وَذَا الْحَاجَةِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي المجاور قال:
(أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا إسماعيل بن أبي
خالد) الكوفي الحافظ (عن قيس بن أبي حازم) أبي عبد الله
البجلي التابعي الكبير فاتته الصحبة بليال (عن أبي مسعود)
عقبة بن عمرو بفتح العين وسكون الميم (الأنصاري) الخزرجي
البدري أنه (قال: جاء رجل) لم يسم أو هو سليم بن الحارث
(إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
ولأبي ذر إلى النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال: يا رسول الله إني والله لأتأخر عن صلاة الغداة)
الصبح فلا أصليها مع الإمام (من أجل فلان) هو معاذ بن جبل
أو أبي بن كعب كما في مسند أبي يعلى (مما يطيل بنا فيها)
في
صلاة الغداة ومن ابتدائية متعلقة بأتأخر (قال) أبو مسعود
(فما رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قطّ
أشد غضبًا في موعظة منه يومئذٍ) وفيه وعيد شديد على من
يسعى في تخلف الغير عن الجماعة (ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(يا أيها الناس) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أيها الناس
بإسقاط أداة النداء (إن منكم منفرين فأيكم ما صلّى بالناس
فليوجز) بسكون اللام وبالجيم المكسورة بعدها زاي وما صلة
مؤكدة لمعنى الإبهام في أيّ وصلى فعل شرط وفليوجز جوابه
كقوله تعالى: {أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}
[الإسراء: 110] (فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة).
والحديث
(10/229)
سبق في العلم في باب الغضب في الموعظة وفي
كتاب الصلاة في باب تخفيف الإمام في القيام.
7160 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِى يَعْقُوبَ
الْكِرْمَانِىُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنِى سَالِمٌ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْىَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ
لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ
لْيُمْسِكْهَا، حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ
فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن أبي يعقوب) إسحاق (الكرماني)
بفتح الكاف عند المحدّثين وأهلها يكسرونها قال: (حدّثنا
حسان بن إبراهيم) بفتح الحاء المهملة المشددة الكرماني
العنزي قاضي كرمان قال: (حدّثنا يونس) بن يزيد الأيلي (قال
محمد): ولأبي ذر: حدّثنا محمد هو الزهري قال: (أخبرني)
بالإفراد (سالم أن) أباه (عبد الله بن عمر) -رضي الله
عنهما- (أخبره أنه طلّق امرأته) آمنة بمدّ الهمزة وكسر
الميم بنت غفار بالغين المعجمة المكسورة والفاء (وهي حائض)
الواو للحال من امرأته أو من ضمير الفاعل (فذكر عمر) ذلك
(للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتغيظ) أي غضب
(فيه) أي في الفعل المذكور وهو الطلاق وتغيظ مطاوع غظته
فتغيظ ولأبي ذر عن الكشميهني عليه أي على ابن عمر (رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم قال): يحتمل
أن يكون ثم هنا بمعنى الواو لأن قوله مقارن تغيظه، ويحتمل
أن تكون على بابها وإن قوله بعد زوال الغيظ واللام في
قوله:
(ليراجعها) لام الأمر والفعل مجزوم وكذا قوله (ثم يمسكها)
ويجوز في المعطوف الرفع على الاستئناف أي ثم هو يمسكها
والأمر للندب في قول إمامنا الشافعي وأبي حنيفة وأحمد
وفقهاء المحدّثنين وللوجوب عند مالك وأصحابه والصارف له عن
الوجوب قوله تعالى: {فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف}
[الطلاق: 2] وغيره من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك
بالرجعة أو الفراق بتركها ولمسلم ثم ليدعها (حتى تطهر ثم
تحيض) حيضة أخرى (فتطهر) منها (فإن بدا له) بعد طهرها من
الحيض الثاني (أن يطلقها فليطلقها) قبل أن يجامعها. قال
البيضاوي: وفي الحديث فوائد حرمة الطلاق في الحيض لتغيظه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه وهو لا يتغيظ إلا
في حرام والتنبيه على أن علة التحريم تطويل العدة عليها
وإن العدة بالإطهار لا بالحيض.
والحديث سبق في الطلاق.
14 - باب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِى أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ
فِى أَمْرِ النَّاسِ
إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ كَمَا قَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِهِنْدَ:
«خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» وَذَلِكَ
إِذَا كَانَ أَمْرٌ مَشْهُورٌ.
(باب من رأى) من الفقهاء (للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر
الناس) دون حقوق الله كالحدود (إذا لم يخف) القاضي (الظنون
والتهمة) بفتح الهاء أي يحكم بشرطين عدم التهمة ووجود
الشهرة (كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لهند): حين قضى لها على زوجها أبي سفيان بن حرب
(خذي) من ماله (ما يكفيك وولدك بالمعروف. وذلك إذا كان أمر
مشهور) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: إذا كان
أمرًا مشهورًا بالنصب خير كان أي إذا كان مشهورًا كقصة هند
في زوجيتها لأبي سفيان ووجوب النفقة عليه. وقال المالكية:
لا يحكم بعلمه في أمر من الأمور إلا في التعديل والتجريح
لأن القاضي يشارك غيره فيهما فلا تهمة وإنه لو لم يحكم
بعلمه في العدالة لافتقر إلى معدلين آخرين وهكذا فيتسلسل.
7161 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ
عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ
بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ
خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ
خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ
الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَعِزُّوا
مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَىَّ مِنْ حَرَجٍ
أَنْ أُطْعِمَ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا: «لاَ
حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم قال:
(حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: قال أخبرني بالإفراد أيضًا
(عروة) بن الزبير (أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت
هند) بالصرف وعدمه لسكون وسطه (بنت عتبة بن ربيعة) بن عبد
شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية والدة معاوية وسقط لأبي
ذر: ابن ربيعة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فقالت: يا رسول الله والله ما كان على ظهر
الأرض أهل خباء) بكسر الخاء المعجمة والمد (أحب إليّ)
بتشديد الياء (أن يذلوا) بفتح التحتية وكسر المعجمة (من
أهل خبائك) أرادت بيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فكنت عنه بأهل الخباء إجلالاً له أو أرادت أهل
بيته أو صحابته فهو من المجاز والاستعارة (وما أصبح اليوم
على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا) بفتح التحتية
وكسر العين المهملة وتشديد الزاي (من أهل خبائك. ثم قالت):
يا رسول الله (إن أبا سفيان) صخر بن حرب زوجي (رجل مسّيك)
بكسر الميم والسين المهملة المشددة بصيغة المبالغة من مسك
اليد يعني بخيل جدًّا ويجوز فتح الميم وكسر السين مخففة
بوزن أمير وهو أصح عند أهل العربية والأوّل
(10/230)
هو
الأشهر في رواية المحدّثين ورجل خبر إن، ولو قالت: إن أبا
سفيان مسيك صح وحصلت الفائدة إلا أن ذكر الموصوف مع صفته
يكون لتعظيمه نحو: رأيت رجلاً صالحًا أو لتحقيره نحو رأيت
رجلاً فاسقًا، ولما كان البخل مذمومًا قالت رجل. وفي
رواية: شحيح بدل مسيك وهو أشد البخل، وقيل الشح الحرص على
ما ليس عنده والبخل بما عنده. وقال رجل لابن عمر: إني
شحيح. فقال له: إن كان شحّك لا يحملك على أن تأخذ ما ليس
لك فليس بشحّك بأس. وعن ابن مسعود: الشحّ منع الزكاة. وقال
القرطبي: المراد أنه شحيح بالنسبة إلى امرأته وولده لا
مطلقًا لأن الإنسان قد يفعل هذا مع أهل بيته لأنه يرى أن
غيرهم أحوج وأولى وإلا فأبو سفيان لم يكن معروفًا بالبخل
فلا يستدل بهذا الحديث على أنه بخيل مطلقًا. (فهل عليّ)
بتشديد الياء (من حرج) إثم (أن أطعم الذي) ولأبي ذر عن
المستملي من الذي (له عيالنا) وهمزة أطعم مضمومة (قال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لها):
(لا حرج) لا إثم (عليك أن تطعميهم من معروف) أي الإطعام
الذي هو المعروف بأن لا يكون فيه إسراف ونحوه. وفي هذا أن
للقاضي أن يقضي بعلمه، لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان يعلم أنها زوجة أبي سفيان ولم يكلفها
البيّنة لأن علمه أقوى من الشهادة لتيقن ما علمه والشهادة
قد تكون كذبًا، ويأتي إن شاء الله تعالى عند المؤلّف في
باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء عن آخرين من
أهل العراق أنه يقضي بعلمه لأنه مؤتمن، وإنما يراد من
الشهادة معرفة الحق فعلمه أكثر من الشهادة، واستدلّ
المانعون من القضاء بالعلم بقوله في حديث أم سلمة إنما
أقضي له بما أسمع ولم يقل بما أعلم، وقال للحضرمي: شاهداك
أو يمينه ليس لك إلا ذلك ويخشى من قضاة السوء أن يحكم
أحدهم بما شاء ويحيل على علمه، وتعقب ابن المنير البخاري
بأنه لا دلالة في الحديث للترجمة لأنه خرج مخرج الفتيا
قال: وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة إنهاء المستفتي
فكأنه قال: إن ثبت أنه يمنعك حقك جاز لك أخذه، وأجاب
بعضهم: بأن الأغلب من أحوال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحكم والإلزام فيجب تنزيل لفظه عليه
وبأنه لو كانت فتيا لقال مثلاً لك أن تأخذي فلما أتى بصيغة
الأمر بقوله: خذي كما في الرواية الأخرى دلّ على الحكم.
ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى بعون الله وقوته في باب
القضاء على الغائب وفي باب الشهادة تكون عند الحاكم في
ولاية القضاء.
تنبيه:
لو شهدت البيّنة مثلاً بخلاف ما يعلمه علمًا حسيًّا
لمشاهدة أو سماع يقينًا أو ظنًّا راجحًا لم يجز له أن يحكم
بما قامت به البيّنة ونقل بعضهم فيه الاتفاق، وإن وقع
الاختلاف في القضاء بالعلم.
والحديث سبق في النفقات.
15 - باب الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ الْمَخْتُومِ وَمَا
يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَضِيقُ عَلَيْهِمْ وَكِتَابِ
الْحَاكِمِ إِلَى عَامِلِهِ وَالْقَاضِى إِلَى الْقَاضِى
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ
إِلاَّ فِى الْحُدُودِ ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ
خَطَأً فَهْوَ جَائِزٌ لأَنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ
وَإِنَّمَا صَارَ مَالاً بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ
فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ، وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ
إِلَى عَامِلِهِ فِى الْجَارُودِ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ فِى سِنٍّ كُسِرَتْ، وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِى إِلَى الْقَاضِى جَائِزٌ،
إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ، وَكَانَ
الشَّعْبِىُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ
مِنَ الْقَاضِى وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ،
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفِىُّ:
شَهِدْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى قَاضِىَ
الْبَصْرَةِ، وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَالْحَسَنَ
وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَبِلاَلَ
بْنَ أَبِى بُرْدَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ
الأَسْلَمِىَّ وَعَامِرَ بْنَ عَبِيدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ
مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ
مِنَ الشُّهُودِ فَإِنْ قَالَ: الَّذِى جِىءَ عَلَيْهِ
بِالْكِتَابِ إِنَّهُ زُورٌ قِيلَ لَهُ اذْهَبْ
فَالْتَمِسِ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوَّلُ مَنْ
سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِى الْبَيِّنَةَ ابْنُ أَبِى
لَيْلَى وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ
أَنَسٍ قَاضِى الْبَصْرَةِ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ
الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِى عِنْدَ فُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا
وَهْوَ بِالْكُوفَةِ وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ فَأَجَازَهُ وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو
قِلاَبَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ
مَا فِيهَا لأَنَّهُ لاَ يَدْرِى لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا
وَقَدْ كَتَبَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ «إِمَّا أَنْ تَدُوا
صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ».
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: فِى شَهَادَةٍ عَلَى الْمَرْأَةِ
مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ
وَإِلاَّ فَلاَ تَشْهَدْ.
(باب) حكم (الشهادة على الخط المختوم) أنه خط فلان وقال
المختوم لأنه أقرب إلى عدم تزوير الخط وفي رواية أبي ذر عن
الكشميهني المحكوم بالحاء المهملة بدل المعجمة والكاف بدل
الفوقية أي المحكوم به (وما يجوز من ذلك) أي من الشهادة
على الخط (وما يضيق عليهم) وللأصيلي زيادة فيه فلا يجوز
لهم الشهادة به، ولأبي ذر عليه أي الشاهد فالقول بذلك ليس
على التعميم إثباتًا ونفيًا بل لا يمنع مطلقًا لما فيه من
تضييع الحقوق ولا يعمل به مطلقًا إذ لا يؤمن فيه التزوير
(و) حكم (كتاب الحاكم إلى عماله) بضم العين وتشديد الميم
وفي الفرع كأصله إلى عامله بلفظ الإفراد (و) كتاب (القاضي
إلى القاضي. وقال بعض الناس): أبو حنيفة وأصحابه (كتاب
الحاكم جائز إلا في الحدود ثم) ناقض بعض الناس حيث (قال:
إن كان القتل خطأ فهو) أي كتاب الحاكم (جائز لأن هذا) أي
قتل الخطأ في نفس الأمر (مال بزعمه) بضم الزاي وفتحها
وإنما كان عنده مالاً لعدم القصاص فيه فيلحق بسائر الأموال
في هذا الحكم ثم ذكر المؤلّف وجه
المناقضة فقال (وإنما صار) قتل الخطأ (مالاً بعد أن ثبت)
ولأبي ذر أن يثبت (القتل) عند الحاكم (فالخطأ والعمد) في
أول الأمر حكمهما (واحد) لا تفاوت في كونهما حدًّا.
(وقد كتب عمر)
(10/231)
بن الخطاب -رضي الله عنه- (إلى عامله في
الحدود) بالحاء والدالين المهملات والعامل المذكور هو يعلى
بن أمية عامله على اليمن كتب إليه في قصة رجل زنى بامرأة
مضيفه: إن كان عالمًا بالتحريم فحدّه، وللأصيلي وأبي ذر عن
المستملي والكشميهني في الجارود بالجيم بعدها ألف فراء
فواو فدال مهملة ابن المعلى أبي المنذر العبدي، وله قصة مع
قدامة بن مظعون عامل عمر على البحرين ذكرها عبد الرزاق
بسند صحيح من طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: استعمل
عمر قدامة بن مظعون فقدم الجارود بسبب عبد القيس على عمر
فقال: إن قدامة شرب فسكر فكتب عمر إلى قدامة في ذلك فذكر
القصة بطولها في قدوم قدامة وشهادة الجارود وأبي هريرة
عليه، وفي احتجاج قدامة بآية المائدة، وفي رد عمر عليه
وجلده الحد.
(وكتب عمر بن عبد العزيز) -رحمه الله- إلى عامله زريق بن
حكيم (في) شأن (سنّ كسرت) بضم الكاف وكسر السين وهذا وصله
أبو بكر الخلال في كتاب القصاص والديات من طريق عبد الله
بن المبارك عن حكيم بن زريق بن حكيم عن أبيه بلفظ كتب إليّ
عمر بن عبد العزيز كتابًا أجاز فيه شهادة رجل على سن كسرت.
(وقال إبراهيم) النخعي مما وصله ابن أبي شيبة عن عيسى بن
يونس عن عبيدة عنه (كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عرف)
القاضي المكتوب إليه (الكتاب والخاتم) الذي يختم به عليه
بحيث لا يلتبسان بغيرهما.
(وكان الشعبي) عامر بن شراحيل مما وصله ابن أبي شيبة من
طريق عيسى بن أبي عزة (يجيز الكتاب المختوم بما فيه من
القاضي ويروى عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (نحوه):
أي نحو ما روي عن الشعبي. قال في فتح الباري: ولم يقع لي
هذا الأثر عن ابن عمر إلى الآن.
(وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي): المعروف بالضال بضاد
معجمة ولام مشددة سمي به لأنه ضل في طريق مكة (شهدت) أي
حضرت (عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة) الليثي التابعي ولاه
عليها يزيد بن هبيرة لما ولي إمارتها من قبل يزيد بن عبد
الملك بن مروان كما ذكره عمر بن شبة في أخبار البصرة (و)
شهدت (إياس بن معاوية) بكسر الهمزة وتخفيف التحتية المزني
وكان ولي قضاء البصرة في خلافة عمر بن عبد العزيز من قبل
عدي بن أرطأة عامل عمر بن عبد العزيز عليها (والحسن)
البصري، وكان قد وليس القضاء بالبصرة مدة قليلة ولاّه عدي
بن أرطأة عاملها (وثمامة بن عبد الله بن أنس) أي ابن مالك
وكان قاضي البصرة في أوائل خلافة هشام بن عبد الملك ولاه
خالد القسري (وبلال بن أبي بردة) بضم الموحدة عامر أو
الحارث بن أبي موسى
الأشعري ولاه خالد القسري قضاء البصرة (وعبد الله بن
بريدة) بضم الموحدة (الأسلمي) التابعي المشهور ولي قضاء
مرو (وعامر بن عبيدة) بفتح العين وكسر الموحدة بعدها تحتية
مصحح عليه في الفرع وأصله وزاد في فتح الباري عبدة بفتح
العين وسكون الموحدة وفتحها وقال ذكره ابن ماكولا بالوجهين
وعامر هو أبو إياس البجلي الكوفي (وعباد بن منصور) بفتح
العين والموحدة المشددة الناجي بالنون والجيم يكنى أبا
سلمة الثمانية حال كونهم (يجيزون كتب القضاة بغير محضر من
الشهود) بضم الشين ولأبي ذر من المشهود بزيادة ميم وسكون
الشين (فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب) بكسر الجيم وسكون
التحتية بعدها همزة (أنه) أي الكتاب (زور قيل له اذهب
فالتمس المخرج من ذلك) بفتح الميم والراء بينهما، معجمة
ساكنة أي اطلب الخروج من عهدة ذلك إما بالقدح في البيّنة
بما يقبل فتبطل الشهادة، وإما بما يدل على البراءة من
المشهود به. وقال المالكية: إذا جاء كتاب من قاض إلى قاض
آخر مع شاهدين فإنه يعتمد على ما شهد به الشاهدان ولو
خالفا ما في الكتاب، وقيد ذلك في الجواهر بما إذا طابقت
شهادتهما الدعوى قال: ولو شهدا بما فيه وهو مفتوح جاز وندب
ختمه ولم يفد وحده فلا بد من شهود بأن هذا الكتاب كتاب
فلان القاضي، وزاد أشهب ويشهدون أنه أشهدهم بما فيه اهـ.
واحتج من لم يشترط الإشهاد بأنه
(10/232)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتب
إلى الملوك ولم ينقل أنه أشهد أحدًا على كتابه. وأجيب:
بأنه لما حصل في الناس الفساد احتيط للدماء والأموال.
قال البخاري: (وأول من سأل على كتاب القاضي البيّنة ابن
أبي ليلى) محمد بن عبد الرحمن قاضي الكوفة، وأول ما وليها
في زمن يوسف بن عمر الثقفي في خلافة الوليد بن يزيد وهو
صدوق لكنه اتفق على ضعف حديثه لسوء حفظه (وسوار بن عبد
الله) بفتح السين المهملة والواو المشددة وبعد الألف راء
العنبري قاضي البصرة من قبل المنصور.
قال البخاري بالسند إليه: (وقال لنا أبو نعيم) الفضل بن
دكين مذاكرة (حدّثنا عبيد الله) بضم العين (ابن محرز) بضم
الميم وسكون المهملة وكسر الراء بعدها زاي الكوفي قال:
(جئت بكتاب من موسى بن أنس) أي ابن مالك التابعي (قاضي
البصرة و) كنت (أقمت عنده البيّنة أن لي عند فلان كذا وكذا
وهو) أي فلان (بالكوفة، وجئت به) بالواو وللأصيلي وأبي ذر
فجئت به أي بالكتاب (القاسم بن عبد الرحمن) بن أبي عبد
الله بن مسعود المسعودي التابعي قاضي الكوفة زمن عمر بن
عبد العزيز (فأجازه) بجيم وزاي أمضاه وعمل به.
(وكره الحسن) البصري (وأبو قلابة) الجرمي بفتح الجيم وسكون
الراء وكسر الميم (أن يشهد) بفتح أوله الشاهد (على وصية
حتى يعلم ما فيها لأنه لا يدري لعل فيها جورًا) أي باطلاً.
وقال الداودي من المالكية: وهذا هو الصواب، وتعقبه ابن
التين بأنها إذا كان فيها جور لم يمنع التحمل لأن الحاكم
قادر على ردّه إذا أوجب حكم الشرع ردّه وما عداه يعمل به
فليس خشية الجور فيها مانعًا من التحمل، وإنما المانع
الجهل بما يشهد به، ومذهب مالك -رحمه الله- جواز الشهادة
على
الوصية وإن لم يعلم الشاهد ما فيها وكذا الكتاب المطويّ
ويقول الشاهد: إن للحاكم نشهد على إقراره بما في الكتاب
لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتب إلى عماله
من غير أن يقرأها على من حملها وهي مشتملة على الأحكام
والسنن، وأثر الحسن وصله الدارمي بلفظ: لا تشهد على وصية
حتى تقرأ عليك ولا تشهد على من لا تعرف، وأثر أبي قلابة
وصله ابن أبي شيبة ويعقوب بن سفيان بلفظ قال أبو قلابة في
الرجل يقول: اشهدوا على ما في هذه الصحيفة. قال: لا حتى لا
نعلم ما فيها. زاد يعقوب وقال لعل فيها جور أو في هذه
الزيادة بيان السبب في المنع المذكور.
(وقد كتب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى
أهل خيبر) في قصة حويصة ومحيصة (إما) بكسر الهمزة وتشديد
الميم (أن تدوا) بالفوقية والتحتية (صاحبكم) عبد الله بن
سهل أي تعطوا ديته وأضافه إليهم لكونه وجد قتيلاً بين
اليهود بخيبر والإضافة تكون بأدنى ملابسة وهذا وإن كان
تدوا بتاء الخطاب وإن كان بالتحتية فظاهر (وإما أن تؤذنوا
بحرب) أي تعلموا به.
وهذا طرف من حديث سبق في باب القسامة من الدّيات.
(وقال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب فيما وصله أبو بكر بن
أبي شيبة (في شهادة) ولأبي ذر في الشهادة (على المرأة من
وراء الستر) بكسر السين المهملة (إن عرفتها فاشهد) عليها
(وإلاّ) أي وإن لم تعرفها (فلا تشهد) ومقتضاه أنه لا يشترط
أن يراها حالة الإشهاد بل تكفي معرفته لها بأي طريق كان.
وقال الشافعية: لا تصح شهادة على متنقبة اعتمادًا على
صوتها فإن الأصوات تتشابه فإن عرفها بعينها أو باسم ونسب
وأمسكها حتى شهد عليها جاز التحمل عليها متنقبة وأدى بما
علم من ذلك فيشهد في العلم بعينها عند حضورها وفي العلم
بالاسم والنسب عند غيبتها لا بتعريف عدل أو عدلين أنها
فلانة بنت فلان. أي فلا يجوز التحمل عليها بذلك وهذا ما
عليه الأكثر والعمل بخلافه وهو العمل عليها بذلك.
وقال المالكية: لا يشهد على متنقبة حتى يكشف وجهها ليعينها
عند الأداء ويميزها عن غيرها وإن أخبره عنها رجل يثق به أو
امرأة جاز له أن يشهد، وكذا لفيف النساء إذا شهدن عنده
أنها فلانة إذا وقع عنده العلم بشهادتين وجوّز مالك شهادة
الأعمى في الأقوال كأن يقر بشيء لأن الصحابة رووا عن أمهات
المؤمنين من وراء الحجاب وميّزوهن بأصواتهن.
وقال
(10/233)
الشافعية: ولا تقبل شهادة أعمى يقول كعقد
وفسخ وإقرار لجواز اشتباه الأصوات، وقد يحكي الإنسان صوت
غيره فيشتبه به إلا أن يقر شخص في أذنه بنحو طلاق أو عتق
أو مال لرجل معروف الاسم والنسب فيمسكه حتى يشهد عليه عند
قاض أو يكون عماه بعد تحمله والمشهود له والمشهود عليه
معروفي الاسم والنسب فيقبل لحصول العلم بأنه المشهود عليه.
7162 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ
يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قَالُوا: إِنَّهُمْ لاَ
يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ
مَخْتُومًا فَاتَّخَذَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ كَأَنِّى
أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ وَنَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر بالجمع (محمد بن
بشار) بالموحدة والمعجمة المشدّدة بندار قال: (حدّثنا
غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال:
سمعت قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك) -رضي الله عنه-
(قال: لما أراد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أن يكتب إلى) أهل (الروم) في سنة ست (قالوا: إنهم) أي قال
الصحابة له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن الروم
(لا يقرؤون كتابًا مختومًا) ولم أعرف القائل بعينه (فاتخذ
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاتمًا) بفتح
التاء وكسرها (من فضة كأني أنظر إلى وبيصه) بفتح الواو
وكسر الموحدة وبعد التحتية الساكنة صاد مهملة إلى لمعانه
وبريقه (ونقشه محمد رسول الله). ويستفاد منه أن الكتاب إذا
لم يكن مختومًا فالحجة بما فيه قائمة لكونه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد أن يكتب إليهم وإنما
اتخذ الخاتم لقولهم إنهم لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان
مختومًا، فدل على أن كتاب القاضي حجة مختومًا كان أو غير
مختوم، وفي الباب العمل بالشهادة على الخط وقد أجازها مالك
وخالفه ابن وهب فيه، وقال الطحاوي: خالف مالكًا جميع
الفقهاء في ذلك لأن الخط قد يشبه الخط، وقال محمد بن عبد
الله بن عبد الحكم: لا يقضى في دهرنا بالشهادة على الخط
لأن الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور، وقد قال مالك: تحدث
للناس أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور، وقد كان الناس
فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم القاضي ثم رأى مالك أن
ذلك لا يجوز.
16 - باب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ
لاَ يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلاَ يَخْشَوُا النَّاسَ وَلاَ
تَشْتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَنًا قَلِيلاً ثُمَّ قَرَأَ: {يَا
دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] وَقَرَأَ
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ
بِمَا اسْتُحْفِظُوا - اسْتُودِعُوا - مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَنًا
قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] بٍِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ.
وَقَرَأَ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى
الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ
وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]
فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ وَلَوْلاَ مَا
ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ
الْقُضَاةَ هَلَكُوا فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا
بِعِلْمِهِ وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ.
وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ: قَالَ: لَنَا عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِى
مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ أَنْ يَكُونَ
فَهِمًا حَلِيمًا عَفِيفًا صَلِيبًا عَالِمًا سَؤُولاً
عَنِ الْعِلْمِ.
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (متى يستوجب الرجل القضاء)؟
أي متى يستحق أن يكون قاضيًا. وقال في الكواكب أي متى يكون
أهلاً للقضاء اهـ.
وقد اشترط الشافعية كونه أهلاً للشهادات بأن يكون مسلمًا
مكلفًا حرًّا ذكرًا عدلاً سميعًا بصيرًا ناطقًا كافيًا
لأمر القضاء فلا يولاه كافر وصبي ومجنون ومن به رقّ وأنثى
وخنثى وفاسق ومن لم يسمع وأعمى وأخرس وإن فهمت إشارته
ومغفل ومختل النظر بكبر أو مرض لنقصهم، وأن يكون مجتهدًا
وهو العارف بأحكام القرآن والسُّنَّة وبالقياس وأنواعها،
فمن أنواع القرآن والسُّنَّة: العام والخاص والمجمل
والمبين والمطلق والمقيد والنص والظاهر والناسخ والمنسوخ.
ومن أنواع السُّنَّة المتواتر والآحاد والمتصل وغيره.
ومن أنواع، القياس الأولى والمساوي والأدون كقياس الضرب
للوالدين على التأفيف لهما، وقياس إحراق مال اليتيم على
أكله في التحريم فيهما، وقياس التفاح على البر في الربا
بجامع الطعم، وحال الرواة قوّة وضعفًا فيقدم عند التعارض
الخاص على العام والمقيد على المطلق والنص على الظاهر،
والمحكم على المتشابه، والناسخ والمتصل والقوي على
مقابلها، ولسان العرب لغةً ونحوًا وصرفًا، وأقوال العلماء
إجماعًا واختلافًا فلا يخالفهم في اجتهادهم فإن فقد الشرط
المذكور بأن لم يوجد رجل متصف به فولى سلطان ذو شوكة
مسلمًا غير أهل كفاسق ومقلد وصبي وامرأة نفذ قضاؤه للضرورة
لئلا تتعطل مصالح الناس والقضاء بالمد مصدر قضى يقضي لأن
لام الفعل ياء إذ أصله قضي بفتح الياء فقلبت ألفًا لتحركها
وانفتاح ما قبلها، ومصدره بالتحريك كطلب طلبًا فتحركت
الياء فيه أيضًا وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا فاجتمع ألفان
فأبدلت الثانية همزة فصار قضاءً ممدودًا، وجمع القضاء
أقضية كغطاء وأغطية وهو في الأصل إحكام الشيء وإمضاؤه
والفراغ منه ويكون أيضًا بمعنى الأمر قال تعالى: {وقضى ربك
ألاَّ تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] وبمعنى العلم تقول
قضيت لك بكذا أعلمتك به والإتمام قال تعالى: {فإذا قضيتم
الصلاة} [النساء: 103] والفعل فاقض ما أنت قاض والإرادة
قال تعالى: {فإذا قضى أمرًا} [غافر: 68] والموت. قال
(10/234)
تعالى: {ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77]
والكتابة قال تعالى: {وكان أمرًا مقضيًّا} [مريم: 21] أي
مكتوبًا في اللوح المحفوظ والفصل قال تعالى: {وَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ} [يونس: 54] والخلق قال تعالى: {فقضاهن سبع
سماوات في يومين} [فصّلت: 12].
(وقال الحسن) البصري: (أخذ الله على الحكام) بضم الحاء
المهملة وتشديد الكاف جمع حاكم (أن لا يتبعوا الهوى) أي
هوى النفس في قضائهم (ولا يخشوا الناس) كخشية سلطان ظالم
أو خيفة أذية أحد (ولا يشتروا بآياتي) ولأبي ذر بآياته
(ثمنًا قليلاً) وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس (ثم
قرأ) الحسن: ({يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض}) تدبر
أمر الناس ({فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى}) ما
تهوى النفس ({فيضلك}) الهوى ({عن سبيل الله}) أي عن
الدلائل الدالة على توحيد الله ({إن الذين يضلون عن سبيل
الله}) عن الإيمان بالله ({لهم عذاب شديد
بما نسوا}) بسبب نسيانهم ({يوم الحساب} [ص: 26]) المرتب
عليه تركهم الإيمان ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في
الدنيا قال ابن كثير هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور
أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى
ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله وقد توعد سبحانه من ضل عن
سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد.
(وقرأ) الحسن أيضًا ({إنَّا أنزلنا التوراة فيها هدى})
يهدي إلى الحق ({ونور}) يكشف ما استبهم من الأحكام ({يحكم
بها النبيون الذين أسلموا}) انقادوا لحكم الله وهو صفة
أجريت للتبيين على سبيل المدح ({للذين هادوا}) تابوا من
الكفر ({والرَّبانيون والأحبار}) الزهاد والعلماء معطوفان
على النبيون ({بما استحفظوا}) أي استودعوا ({من كتاب
الله}) من للتبيين والضمير في استحفظوا للأنبياء
والربانيين والأحبار والاستحفاظ من الله أي كلفهم الله
حفظه ({وكانوا عليه شهداء}) رقباء لئلا يبدل ({فلا تخشوا
الناس واخشونِ}) نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم
ويداهنوا فيها خشية ظالم أو كبير ({ولا تشتروا بآياتي})
ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها ({ثمنًا قليلاً ومن لم
يحكم بما أنزل الله}) مستهينًا به ({فأولئك هم الكافرون}
[المائدة: 44]) قال ابن عباس: من لم يحكم جاحدًا فهو كافر
وإن لم يكن جاحدًا فهو فاسق ظالم (بما استحفظوا): أي
(استودعوا من كتاب الله) وهذا ثابت في رواية المستملي وسقط
لأبي ذر قوله يحكم بها النبيون الخ.
(وقرأ) الحسن أيضًا ({وداود وسليمان}) أي واذكرهما ({إذ
يحكمان في الحرث}) الزرع أو الكرم ({إذ نفشت فيه غنم
القوم}) أي رعته ليلاً بلا راعٍ بأن انفلتت فأكلته وأفسدته
({وكنا لحكمهم}) أرادهما والمتحاكمين إليهما أو استعمل
ضمير الجمع لاثنين ({شاهدين}) أي بعلمنا ومرأى منّا وكان
داود عليه السلام قد حكم بالغنم لأهل الحرث وكانت قيمة
الغنم على قدر النقصان في الحرث فقال سليمان عليه السلام
وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أرفق بالفريقين فعزم عليه
لتحكمن فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون
بألبانها وأولادها وأصوافها والحرث إلى رب الغنم حتى يصلح
الحرث ويعود لهيئته يوم أفسد ثم يترادّان فقال القضاء ما
قضيت وأمضى الحكم بذلك ({ففهمناها}) أي الحكومة ({سليمان
وكلاًّ}) منهما ({آتينا حكمًا}) نبوّة ({وعلمًا})
[الأنبياء: 78، 79] معرفة بموجب الحكم. قال الحسن: (فحمد)
الله تعالى (سليمان) لموافقته الأرجح (ولم يلم داود) بفتح
التحتية وضم اللام من اللوم لموافقته الراجح. وقال العيني:
وفي نسخة ولم يذم بالذال المعجمة من الذم وتعقب بأن قول
الحسن هذا لا يليق بمقام داود، فقد جمعهما الله تعالى في
الحكم والعلم وميز سليمان بالفهم وهو علم خاص زاد على
العام، والأصح أن داود أصاب الحكم وسليمان أرشد إلى الصلح.
قال الحسن: (ولولا ما ذكر الله من أمر هذين) النبيين
(لرأيت) بفتح الراء والهمزة جواب لو واللام فيه للتأكيد،
ولأبي ذر عن الكشميهني: لرئيت بضم الراء وكسر الهمزة مشددة
بعدها تحتية ساكنة مبنيًّا للمفعول، وسقط لأبي ذر أمر (أن
القضاة) أي قضاة زمنه (هلكوا) لما تضمنه قوله تعالى: {ومن
لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك
(10/235)
هم الكافرون} [المائدة: 44] الشامل للعامد
والمخطئ (فإنه) تعالى (أثنى على هذا) سليمان (بعلمه وعذر
هذا) داود (باجتهاده) وفيه جواز الاجتهاد للأنبياء وإذ
قلنا بجواز الاجتهاد لهم فهل يجوز عليهم الخطأ فيه واتفق
الفريقان على أنه لو أخطأ في اجتهاده لم يقرّ على الخطأ.
(وقال مزاحم بن زفر): بضم الميم وفتح الزاي المخففة وبعد
الألف حاء مهملة وزفر بضم الزاي وفتح الفاء الكوفي (قال
لنا عمر بن عبد العزيز) بن مروان الأموي أمير المؤمنين
المعدود من الخلفاء الراشدين (خمس) من الخصال (إذا أخطأ
القاضي منهن خصلة) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي خطة بخاء
معجمة مضمومة وطاء مهملة مفتوحة مشددة (كانت) ولأبي ذر
أيضًا عن الكشميهني خصلة كان (فيه وصمة). بفتح الواو وسكون
الصاد المهملة بوزن تمرة أي عيب (أن يكون فهمًا) بكسر
الهاء وللمستملي فقهًا والأولى أولى (حليمًا) يغضي على ما
يؤذيه ولا يبادر بانتقامه (عفيفًا) يكف عن الحرام (صليبًا)
بفتح المهملة وكسر اللام مخففة وبعد التحتية الساكنة موحدة
بوزن عظيم من الصلابة أي قومًا شديدًا وقافًا عند الحق لا
يميل إلى الهوى ويستخلص الحق من المبطل ولا يحابيه ولا
ينافي هذا قوله حليمًا لأن ذاك في حق نفسه وهذا في حق غيره
(عالمًا) بالحكم الشرعي ويدخل فيه قوله فقيهًا ففهمًا أولى
من فقيهًا كما مرّ (سؤولاً) على وزن فعول أي كثير السؤال
(عن العلم)، وهذا وصله سعيد بن منصور في سننه وابن سعد في
طبقاته، وقوله سؤولاً من تتمة الخامس لأن كمال العلم لا
يحصل إلا بالسؤال لأنه قد يظهر له ما هوى أقوى مما عنده.
17 - باب رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينِ عَلَيْهَا
وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ
أَجْرًا وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَأْكُلُ الْوَصِىُّ
بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
(باب رزق الحكام) جمع حاكم من إضافة المصدر إلى المفعول
(و) رزق (العاملين عليها) على الحكومات أو العاملين على
الصدقات، وصوّب بقرينة ذكر الرزق والعاملين والرزق ما
يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين. وقال
في المغرب: الفرق بين الرزق والعطاء أن الرزق ما يخرج
للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين والعطاء ما
يخرج له كل شهر.
(وكان شريح) بضم الشين المعجمة آخره حاء مهملة ابن الحارث
بن قيس النخعي الكوفي (القاضي) بالكوفة عن عمر بن الخطاب
وهو من المخضرمين، بل قيل إن له صحبة روى ابن السكن أنه
قال: أتيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقلت: يا رسول الله إن لي أهل بيت ذوي عدد باليمن. قال:
جيء بهم. قال: فجاء بهم والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قد قبض، وعنه أنه قال: وليت القضاء لعمر وعثمان
وعليّ فمن بعدهم إلى أن استعفيت من الحجاج وكان له يوم
استعفى مائة وعشرون سنة وعاش بعد ذلك
سنة. وقال ابن معين: كان في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يسمع منه (يأخذ على القضاء أجرًا)
بفتح الهمزة وسكون الجيم.
وهذا وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور وإلى جواز أخذ القاضي
الأجرة على الحكم ذهب الجمهور من أهل العلم من الصحابة
وغيرهم لأنه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه وكره طائفة
كراهة تنزيه منهم مسروق ورخص فيه الشافعي وأكثر أهل العلم،
وقال صاحب الهداية من الحنفية: وإذا كان القاضي فقيرًا
فالأفضل بل الواجب أخذ كفايته، وإن كان غنيًّا فالأفضل
الامتناع عن أخذ الرزق من بيت المال رفقًا ببيت المال،
وقيل الأخذ هو الأصح صيانة للقضاء عن الهوان ونظرًا لمن
يأتي بعده من المحتاجين ويأخذ بقدر الكفاية له ولعياله،
وعن الإمام أحمد لا يعجبني وإن كان فبقدر عمله مثل وليّ
اليتيم.
(وقالت عائشة) -رضي الله عنها-: (يأكل الوصي) من اليتيم
(بقدر عمالته) بضم العين وتخفيف الميم أجرة عمله بالمعروف
بقدر حاجته وصله ابن أبي شيبة عنها في قوله تعالى: {ومن
كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} [النساء: 6] قالت: أنزل ذلك
في مال اليتيم يقوم عليه بما يصلحه إن كان محتاجًا يأكل
منه.
(وأكل أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- لما استخلف بعد أن
قال كما أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة قد علم قومي أن حرفتي
لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وقد شغلت بأمر المسلمين وأسنده
البخاري في البيوع وبقيته فيأكل آل أبي بكر من هذا المال
(و) كذا أكل
(10/236)
(عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- هو وأهله
لما وليها، وقال فيما رواه ابن أبي شيبة وابن سعد: إني
أنزلت نفسي من مال الله منزلة قيم اليتيم إن استغنيت عنه
تركت وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف وسنده صحيح.
7163 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى السَّائِبُ بْنُ
يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ نَمِرٍ أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ
الْعُزَّى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
السَّعْدِىِّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِى
خِلاَفَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ
أَنَّكَ تَلِى مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالاً فَإِذَا
أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ عُمَرُ: مَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ
لِى أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا وَأَنَا بِخَيْرٍ وَأَرِيدُ
أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِى صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ
قَالَ عُمَرُ: لاَ تَفْعَلْ فَإِنِّى كُنْتُ أَرَدْتُ
الَّذِى أَرَدْتَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْطِينِى الْعَطَاءَ فَأَقُولُ:
أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى حَتَّى أَعْطَانِى
مَرَّةً مَالاً فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ
مِنِّى فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ،
فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ
مُشْرِفٍ، وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَإِلاَّ فَلاَ
تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) بضم الشين المعجمة وفتح العين مصغرًا ابن أبي حمزة
الحافظ أبو بشر الحمصي مولى بني أمية (عن الزهري) محمد بن
مسلم أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (السائب بن يزيد) من
الزيادة ابن سعيد بن ثمامة الكندي أو
الأزدي الصحابي ابن الصحابي (ابن أخت نمر) بفتح النون وكسر
الميم بعدها راء (ابن حويطب) بضم الحاء المهملة وفتح الواو
وبعد التحتية الساكنة طاء مهملة مكسورة فموحدة (ابن عبد
العزى) بضم العين المهملة وفتح الزاي المشددة الصنم
المشهور العامري من مسلمة الفتح المتوفى بالمدينة سنة أربع
وخمسين من الهجرة وله من العمر مائة وعشرون سنة (أخبره أن
عبد الله) بن عبد شمس أو اسم أبيه عمرو (بن السعدي) واسمه
وقدان وقيل له السعدي لأنه استرضع في بني سعد (أخبره أنه
قدم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أحدّث) بضم الهمزة
وفتح الحاء والدال المشددة المهملتين آخره مثلثة (إنك تلي
من أعمال الناس أعمالاً) بفتح الهمزة ولايات كإمرة وقضاء
(فإذا أعطيت العمالة) بضم العين أجرة العمل وبفتحها نفس
العمل (كرهتها فقلت) له: (بلى) وفي الجزء الثالث من فوائد
أبي بكر النيسابوري من طريق الخراساني عن عبد الله بن
السعدي قال: قدمت على عمر فأرسل إليّ بألف دينار فرددتها
وقلت أنا عنها غني (فقال عمر) لي: (ما) ولأبي ذر فما (تريد
إلى ذلك) أي ما غاية قصدك بهذا الرد؟ (قلت) ولأبي الوقت
فقلت (إن لي أفراسًا وأعبدًا) بالموحدة المضمومة جمع عبد
ولأبي ذر عن الكشميهني وأعتدا بالفوقية بدل الموحدة جمع
عتيد مالاً مدّخرًا (وأنا بخير وأريد أن تكون عمالتي صدقة
على المسلمين) تفسير لقوله فما تريد (قال) لي (عمر: لا
تفعل) ذلك الرد (فإني كنت أردت) بالضم (الذي أردت) بالفتح
من الردّ (وكان) وفي اليونينية فكان (رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعطيني العطاء) من المال الذي
يقسمه في المصالح (فأقول) يا رسول الله (أعطه) بقطع الهمزة
المفتوحة (أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة مالاً فقلت أعطه
أفقر إليه مني) وضبب في اليونينية على قوله حتى أعطاني مرة
مالاً الخ (فقال النبي) ولأبي ذر له النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(خذه فتموّله وتصدّق به) أمر إرشاد على الصحيح وهو يدل على
أن التصدق به إنما يكون بعد القبض لأنه إذا ملك المال
وتصدق به طيبة به نفسه كان أفضل من التصدق به قبل قبضه
لأنه الذي يحصل بيده هو أحرص مما لم يدخل في يده (فما جاءك
من هذا المال وأنت غير مشرف) بضم الميم وسكون المعجمة
بعدها راء مكسورة ففاء غير طامع ولا ناظر إليه (ولا سائل)
ولا طالب له (فخذه) ولا تردّه (وإلاّ فلا تتبعه نفسك) بضم
الفوقية الأولى وسكون الثانية وكسر الموحدة وسكون العين أي
إن لم يجئ إليك فلا تطلبه بل اتركه إلا لضرورة، والأصح
تحريم الطلب على القادر على الكسب، وقيل يباح بشرط أن لا
يذل نفسه ولا يلح في الطلب ولا يؤذي المسؤول، فإن فقد شرط
من هذه الثلاثة حرم اتفاقًا.
وهذا الحديث فيه أربعة من الصحابة، وأخرجه مسلم والنسائي
وأبو داود في الزكاة.
7164 - وَعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: حَدَّثَنِى سَالِمُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْطِينِى الْعَطَاءَ
فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى، حَتَّى
أَعْطَانِى مَرَّةً مَالاً
فَقُلْتُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّى
فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ
مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ
سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».
(وعن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب بالسند السابق أنه
(قال: حدّثني) بالإفراد (سالم بن عبد الله أن) أباه (عبد
الله بن عمر قال: سمعت عمر) -رضي الله عنه- زاد أبو ذر ابن
الخطاب (يقول: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يعطيني العطاء فأقول أعطه) بقطع الهمزة (أفقر
إليه مني حتى أعطاني مرة مالاً فقلت) له يا رسول الله
(أعطه من) أي الذي (هو أفقر إليه مني). قال في الكواكب:
فصل بين أفعل وبين كلمة من لأن الفاصل ليس أجنبيًّا بل هو
ألصق به من الصلة لأنه محتاج إليه بحسب جوهر اللفظ والصلة
محتاج إليها بحسب الصيغة (فقال النبي
(10/237)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(خذه فتموّله وتصدق به) على مستحقه. قال ابن بطال: أشار
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على عمر بالأفضل لأنه
وإن كان مأجورًا بإيثاره لعطائه على نفسه من هو أفقر إليه
فإن أخذه للعطاء ومباشرته الصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا
يدل على عظم فضل الصدقة بعد التموّل لما في النفوس من الشح
على المال (فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف) ناظر
إليه (ولا سائل) له (فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك) وزاد
سالم في رواية مسلم فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدًا
شيئًا ولا يرد شيئًا أُعطيه.
قال في الفتح: وهذا بعمومه ظاهر في أنه كان لا يرد ما فيه
شبهة، وقد ثبت أنه كان يقبل هدايا المختار بن أبي عبيد
الثقفي، وكان المختار غلب على الكوفة وطرد عمال عبد الله
بن الزبير وأقام أميرًا عليها مدة في غير طاعة خليفة وتصرف
فيما يتحصل منها من المال على ما يراه، ومع ذلك فكان ابن
عمر يقبل هداياه وكان مستنده أن له حقًّا في بيت المال فلا
يضره على أي كيفية يصل إليه أو كان يرى أن التَّبِعَة على
الآخذ الأول وأن للمعطي المذكور مالاً أخر في الجملة
وحقًّا في المال المذكور، فلما لم يتميز وأعطاه له عن طيب
نفس دخل في عموم قوله ما أتاك من هذا المال من غير سؤال
ولا استشراف فخذه فرأى أنه لا يستثنى من ذلك إلا ما كان
حرامًا محضًا اهـ.
18 - باب مَنْ قَضَى وَلاَعَنَ فِى الْمَسْجِدِ
وَلاَعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَضَى شُرَيْحٌ
وَالشَّعْبِىُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الْمَسْجِدِ،
وَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ
عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ
أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِى الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنَ
الْمَسْجِدِ.
(باب من قضى) في المسجد (ولاعن) حكم بإيقاع التلاعن بين
الزوجين (في المسجد) والظرف يتعلق بالقضاء والتلاعن فهو من
باب تنازع الفعلين أو يتعلق بقضى لدخول لاعن فيه فإنه من
عطف الخاص على العام.
(ولاعن) أي: وقضى بالتلاعن بين الزوجين (عمر) في المسجد
(عند منبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
مبالغة في التغليظ.
(وقضى شريح) القاضي فيما وصله ابن أبي شيبة (و) كذا قضى
(الشعبي) عامر بن شراحيل فيما وصله سعيد بن عبد الرحمن
المخزومي في جامع سفيان (ويحيى بن يعمر) بفتح التحتية
والميم فيما وصله ابن أبي شيبة الثلاثة (في المسجد) وكان
قضاء الشعبي جلد يهودي.
(وقض مروان) بن الحكم (على زيد بن ثابت باليمين عند
المنبر) ولأبي ذر عن الكشميهني على المنبر.
وهذا طرف من أثر سبق في الشهادات.
(وكان الحسن) البصري (وزرارة) بضم الزاي بعدها راءان
بينهما ألف (ابن أوفى) بفتح الهمزة والفاء بينهما واو
ساكنة العامري قاضي البصرة فيما أخرجه ابن أبي شيبة من
طريق المثنى بن سعيد قال رأيتهما (يقضيان في الرحبة)
الساحة والمكان يكون (خارجًا من المسجد) ولفظ ابن أبي شيبة
يقضيان في المسجد، والراجح أن للرحبة حكم المسجد فيصح فيها
الاعتكاف وهي في الفرع بسكون الحاء وفي غيره بفتحها فالتي
بسكونها مدينة مشهورة. قال في الفتح: والذي يظهر من مجموع
هذه الآثار أن المراد بالرحبة هنا الرحبة المنسوبة للمسجد.
7165 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِىُّ: عَنْ سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ قَالَ: شَهِدْتُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَأَنَا
ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
وبه قال: (حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال الزهري) محمد بن مسلم: (عن سهل بن
سعد) بسكون الهاء والعين فيهما الساعدي الأنصاري -رضي الله
عنه- أنه (قال: شهدت) حضرت (المتلاعنين) بفتح النون
عويمرًا وخولة بنت قيس (وأنا ابن خمس عشرة فرق بينهما) بضم
الفاء وكسر الراء مشددة ولأبي ذر عن الكشميهني خمس عشرة
سنة وفرق بينهما.
والحديث أخرجه في اللعان مطوّلاً.
7166 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِى
ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلٍ أَخِى بَنِى سَاعِدَةَ أَنَّ
رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً
وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ؟
فَتَلاَعَنَا فِى الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى) بن جعفر بن أعين البيكندي أو هو
يحيى بن موسى بن عبد ربه المشهور بخت قال: (حدّثنا عبد
الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد
العزيز أبو الوليد وأبو خالد القرشي مولاهم المكي الفقيه
أحد الأعلام قال: (أخبرني) بالإفراد
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن سهل) أي ابن سعد (أخي
بني ساعدة) أي واحد منهم وساعة ينسب إلى ساعة بن كعب بن
الخزرج (أن رجلاً من الأنصار) اسمه عويمر (جاء إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال): يا رسول الله
(أرأيت رجلاً) الهمزة للاستفهام ورأيت العلمية
(10/238)
بمعنى أخبرني ولذلك يجوز في الهمزة من رأيت
التسهيل قال:
أريت إن جاءت به أملودا ... مرجلاً ويلبس البرودا
قال في المجيد: ونص سيبويه والأخفش والفراء والفارسي وابن
كيسان وغيرهم على أن أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني وهو تفسير
معنوي قالوا: فتقول العرب أرأيت زيدًا ما صنع فيلزم
المفعول الأوّل النصب، ولا يرفع على تعليق أرأيت لأنها
بمعنى أخبرني وأخبرني لا تعلق، والجملة الاستفهامية في
موضع المفعول الثاني بخلافها إذا كانت بمعنى علمت فيجوز
تعليقها أي: أخبرني عن رجل (وجد مع امرأته رجلاً أيقتله
فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد) فيه جواز اللعان في المسجد
وإن كان الأولى صيانة المسجد، وقد استحب القضاء في المسجد
طائفة. وقال مالك هو الأمر القديم لأنه يصل إلى القاضي فيه
المرأة والضعيف وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس
لإمكان الاحتجاب وكرهت ذلك طائفة. وقال إمامنا الشافعي:
أحب إليّ أن يقضى في غير المسجد.
والحديث سبق مطوّلاً.
19 - باب مَنْ حَكَمَ فِى الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى
عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ
فَيُقَامَ
وَقَالَ عُمَرُ: أَخْرِجَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَضَرَبَهُ
وَيُذْكَرُ، عَنْ عَلِىٍّ نَحْوُهُ.
(باب من حكم في المسجد) من غير أن يكره ذلك (حتى إذا أتى
على حدّ) من الحدود (أمر أن يخرج) من استحق الحد (من
المسجد) إلى خارجه (فيقام) عليه الحدّ ثَمَّ خوف تأذي مَن
بالمسجد وتعظيمًا للمسجد.
(وقال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- فيما وصله ابن أبي
شيبة وعبد الرزاق بسند على شرط الشيخين (أخرجاه) أي الذي
وجب عليه الحد (من المسجد) زاد أبو ذر وضربه أي أمر بضربه.
(ويذكر) بضم أوّله وفتح الكاف بصيغة التمريض (عن علي) هو
ابن أبي طالب (نحوه) أي نحو ما ذكر عن عمر وصله ابن أبي
شيبة بسند فيه مقال عن معقل بالعين والقاف بلفظ: إن رجلاً
جاء إلى علي فسارّه فقال: يا قنبر أخرجه من المسجد فأقم
عليه الحد.
7167 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِى
اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِى
سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ فِى الْمَسْجِدِ
فَنَادَاهُ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ
عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا قَالَ:
«أَبِكَ جُنُونٌ»؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ
فَارْجُمُوهُ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِى مَنْ
سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ
رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى.
رَوَاهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ
الزُّهْرِىِّ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى
الرَّجْمِ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير بضم الموحدة وفتح الكاف المصري قال: (حدّثني)
بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (الليث) بن سعد الإمام (عن
عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب)
محمد بن مسلم الزهري (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف
(وسعيد بن المسيب) بن حزن الإمام أبي محمد المخزومي سيد
التابعين (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال أتى رجل)
اسمه ماعز (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وهو في المسجد) حال من رسول الله وجملة (فناداه) عطف على
أتى وفاعل فنادى ضمير الرجل وضمير المفعول يعود على النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال: يا رسول الله
إني زنيت) مقول للقول واسم المزني بها فاطمة وقيل منيرة
وقيل مهيرة (فأعرض عنه) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كراهية سماع ذلك وسترًا له إذ لم يحضر مَن يشهد
عليه (فلما شهد) أي أقر (على نفسه أربعًا قال) له:
(أبك جنون)؟ بهمزة الاستفهام وجنون مبتدأ والمجرور متعلق
بالخبر والمسوّغ للابتداء بالنكرة تقدم الخبر في الظرف
وهمزة الاستفهام (قال: لا) ليس بي جنون (قال) صلوات الله
وسلامه عليه (اذهبوا به) من المسجد (فارجموه). لأنه كان
محصنًا. وفي رواية أخرى في الحدود قال: "فهل أحصنت"؟ قال:
نعم والباء في به للتعدية أو الحال أي اذهبوا به مصاحبين
له، وإنما أمر بإخراجه من المسجد لأن الرجم فيه يحتاج إلى
قدر زائد من حفر وغيره مما لا يناسب المسجد فلا يلزم من
تركه فيه ترك إقامة غيره من الحدود فليتأمل مع الترجمة.
وقد ذهب إلى المنع من إقامة الحدود في المسجد الكوفيون
والشافعي وأحمد وعند ابن ماجة من حديث واثلة: جنّبوا
مساجدكم إقامة حدودكم الحديث. وربما يخرج من المحدود دم
فيتلوّث المسجد وقال مالك: لا بأس بالضرب بالسياط اليسيرة
فإذا كثرت الحدود فخارج المسجد.
(قال ابن شهاب) محمد بن مسلم بالسند المذكور (فأخبرني)
بالإفراد (من سمع جابر بن عبد الله) الأنصاري والذي أخبر
ابن شهاب أبو سلمة بن عبد الرحمن كما وقع التنبيه عليه في
الحدود
(10/239)
أنه (قال: كنت فيمن رجمه بالمصلّى) مكان
صلاة العيد والجنائز (رواه) أي الحديث (يونس) بن يزيد
(ومعمر) هو ابن راشد فيما وصله عنهما المؤلّف في الحدود
(وابن جريج) عبد الملك مما وصله أيضًا فيه الثلاثة (عن
الزهري عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن جابر عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الرجم) فخالفوا
عقيلاً في الصحابي فإنه جعل أصل الحديث من رواية أبي سلمة
عن أبي هريرة وهؤلاء جعلوه من رواية جابر.
20 - باب مَوْعِظَةِ الإِمَامِ لِلْخُصُومِ
(باب موعظة الإمام للخصوم) عند الدعوى.
7169 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ
مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ
ابْنَةِ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله
عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ
أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِى نَحْوَ مَا
أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا
فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ
النَّارِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب أبو عبد
الرحمن الحارثي القعنبي (عن مالك) الإمام الأعظم (عن هشام
عن أبيه) عروة بن الزبير (عن زينب ابنة) ولأبي ذر بنت (أبي
سلمة عن أم سلمة) هند أم المؤمنين (-رضي الله عنها- أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(انما أنا) بالنسبة إلى الاطّلاع على بواطن الخصوم (بشر)
لا بالنسبة إلى كل شيء فإن له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أوصافًا أُخر والحصر مجازي لأنه حصر خاص أي
باعتبار علم البواطن ومعلوم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بشر وإنما قال ذلك توطئة لقوله (وإنكم تختصمون
إليّ) بتشديد الياء فلا أعلم بواطن أموركم كما هو مقتضى
أصل الخلقة البشرية (ولعل بعضكم أن يكون ألحن) بالحاء
المهملة أبلغ في الإتيان (بحجته من بعض) وهو كاذب (فأقضي)
أي له بسبب كونه ألحن بحجته (نحو ما أسمع) منه، ولأبي ذر
عن الحموي على نحو ما أسمع (فمن قضيت له بحق أخيه) أي
المسلم وكذا الذمي ومن في قوله فمن قضيت شرطية، ولأبي ذر
عن الحموي والمستملي: من حق أخيه (شيئًا فلا يأخذه فإنما
أقطع له قطعة من النار). أي فإنما أقضي له بشيء حرام يؤول
إلى النار كما قال تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم نارًا}
[النساء: 10] وفيه أنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم بواطن
الأمور إلا أن يطلعه الله على ذلك وأنه يحكم بالظاهر، ولم
يطلعه الله تعالى على حقيقة الأمر في ذلك حتى لا يحتاج إلى
بيّنة ويمين تعليمًا لتقتدي به أمته فإنه لو حكم في
القضايا بيقينه الحاصل من الغيب لما أمكن الحكم لأمته من
بعده، ولما كان الحكم بعده مما لا بدّ منه أجرى أحكامه على
الظاهر وأمر أمته بالاقتداء به فإذا حكم بما يخالف الباطن
لا يجوز للمقضي له أخذ ما قضي له به وفيه دلالة على صحة
مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير علماء الأمصار أن حكم
الحاكم إنما ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، وأنه لا يحل حرامًا
ولا يحرّم حلالاً بخلاف أبي حنيفة حيث قال: إن حكمه ينفذ
ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ وسيكون لنا عودة إلى
مباحث ذلك إن شاء الله تعالى في باب من قضي له بحق أخيه
فلا يأخذه بعون الله سبحانه.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة فينبغي للحاكم أن يعظ
الخصمين ويحذرهما من الظلم وطلب الباطل اقتداء به -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قال في الفتح: وفي الحديث أن التعمق في البلاغة بحيث يحصل
اقتدار صاحبها على تزيين
الباطل في صورة الحق وعكسه مذموم ولو كان ذلك في التوصل
إلى الحق لم يذم، وإنما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطل
في صورة الحق فالبلاغة إذًا لا تذم لذاتها وإنما تذم بحسب
المتعلق الذي قد يمدح بسببه وهي في حدّ ذاتها ممدوحة، وهذا
كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب وتحقير غيره
ممن لم يصل إلى درجته ولا سيما إن كان الغير من أهل الصلاح
فإن البلاغة إنما تذم من هذه الحيثية بحسب ما ينشأ عنها من
الأمور الخارجية عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها،
بل كل فطنة توصل إلى المطلوب محمودة في حد ذاتها وقد تذم
أو تمدح بحسب متعلقها. واختلف في تعريف البلاغة فقيل: أن
يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وقيل إيصال المعنى إلى
الغير بأحسن لفظ أو هي الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير
إضمار، أو هي قليل لا يبهم وكثير لا يسأم، أو هي إجمال
اللفظ واتساع المعنى، وقيل هي النطق في موضعه والسكوت في
موضعه، وهذا كله عن المتقدمين. وعرّف أهل المعاني والبيان
البلاغة بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع الفصاحة
(10/240)
وهي خلوّه من التعقيد.
21 - باب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِى
وِلاَيَتِهِ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى: وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ
الشَّهَادَةَ فَقَالَ: ائْتِ الأَمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ
لَكَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً عَلَى
حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ فَقَالَ:
شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ:
صَدَقْتَ قَالَ عُمَرُ: لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ
زَادَ عُمَرُ فِى كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ
الرَّجْمِ بِيَدِى وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالزِّنَا أَرْبَعًا
فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِىَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشْهَدَ مَنْ
حَضَرَهُ وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ
الْحَاكِمِ رُجِمَ وَقَالَ الْحَكَمُ: أَرْبَعًا.
(باب) حكم (الشهادة) التي (تكون عند الحاكم في) زمان
(ولايته القضاء) ولأبي ذر في ولاية القضاء (أو قبل ذلك) أي
قبل ولايته القضاء (للخصم) متعلق بالشهادة أي للخصم الذي
هو أحد الخصمين فهل يقضي له على خصمه لعلمه بذلك أو يشهد
له عند قاض آخر.
(وقال شريح القاضي وسأله إنسان الشهادة) على شيء كان أشهده
عليه ثم جاء فخاصم إليه (فقال) له شريح ولأبي ذر قال: (ائت
الأمير حتى أشهد لك) عليه عنده ولم يحكم فيها بعلمه. وهذا
وصله سفيان الثوري في جامعه عن عبد الله بن شبرمة عن
الشعبي عنه ولم يسم الأمير.
(وقال عكرمة) مولى ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما وصله
الثوري أيضًا وابن أبي شيبة عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة
(قال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (لعبد الرحمن بن عوف)
-رضي الله عنه- وكان عند عمر شهادة في آية الرجم وهي الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من الله أنها من القرآن
فلم يلحقها في المصحف بشهادته وحده (لو رأيت رجلاً) بفتح
التاء (على
حدّ زنًا أو سرقة وأنت أمير) أكنت تقيمه عليه؟ قال: لا حتى
يشهد معي غيري (فقال) عمر لعبد الرحمن (شهادتك شهادة رجل)
واحد (من المسلمين. قال: صدقت. قال عمر) -رضي الله عنه-
مفصحًا بالعلة لكونه لم يلحق آية الرجم بالمصحف بمجرّد
علمه وحده (لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت
آية الرجم بيدي) في المصحف، فأشار إلى أن ذلك من قطع
الذرائع لئلا يجد حكام السوء سبيلاً إلى أن يدّعوا العلم
لمن أحبواه الحكم بشيء. وقوله قال عمر هو طرف من حديث
أخرجه مالك في موطئه وعكرمة لم يدرك عبد الرحمن بن عوف
فضلاً عن عمر فهو منقطع.
(وأقرّ ماعز عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بالزنا أربعًا) أي أقر أربع مرات (فأمر برجمه)
بإقراره (ولم يذكر) بضم التحتية وفتح الكاف (أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشهد) على ماعز (من
حضره) وقد سبق موصولاً في غير ما موضع وأشار به إلى الردّ
على من قال لا يقضي بإقرار الخصم حتى يدعو شاهدين يحضران
إقراره.
(وقال حماد) هو ابن أبي سليمان فقيه الكوفة (إذا أقر) زان
(مرة) واحدة (عند الحاكم رجم) بغير بيّنة ولا إقرار
أربعًا. (وقال الحكم) بفتحتين ابن عتيبة فقيه الكوفة أيضًا
لا يرجم حتى يقر (أربعًا) وصل القولين ابن أبي شيبة من
طريق شعبة.
7170 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ
يَحْيَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِى مُحَمَّدٍ
مَوْلَى أَبِى قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى
قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ» فَقُمْتُ لأَلْتَمِسَ
بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ
لِى، فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِى فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلاَحُ
هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِى يَذْكُرُ عِنْدِى قَالَ:
فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَلاَّ لاَ
يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ
أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ:
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَدَّاهُ إِلَىَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ
خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ قَالَ لِى
عَبْدُ اللَّهِ: عَنِ اللَّيْثِ فَقَامَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَدَّاهُ إِلَىَّ
وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْحَاكِمُ لاَ يَقْضِى
بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ فِى وِلاَيَتِهِ أَوْ
قَبْلَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لآخَرَ بِحَقٍّ
فِى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِى عَلَيْهِ
فِى قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ،
فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ
الْعِرَاقِ: مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِى مَجْلِسِ
الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ وَمَا كَانَ فِى غَيْرِهِ لَمْ
يَقْضِ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ:
بَلْ يَقْضِى بِهِ لأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ، وَإِنَّمَا
يُرَادُ مِنَ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ فَعِلْمُهُ
أَكْثَرُ مِنَ الشَّهَادَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِى
بِعِلْمِهِ فِى الأَمْوَالِ وَلاَ يَقْضِى فِى غَيْرِهَا
وَقَالَ الْقَاسِمُ: لاَ يَنْبَغِى لِلْحَاكِمِ أَنْ
يُمْضِىَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ
أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ
وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِى الظُّنُونِ وَقَدْ
كَرِهَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الظَّنَّ فَقَالَ: «إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا الليث) إمام
أهل مصر ولأبي ذر الليث بن سعد (عن يحيى) بن سعيد الأنصاري
(عن عمر) بضم العين (ابن كثير) بالمثلثة مولى أبي أيوب
الأنصاري (عن أبي محمد) نافع (مولى أبي قتادة أن أبا
قتادة) الحارث الأنصاري الخزرجي -رضي الله عنه- (قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم حنين)
بضم الحاء المهملة ونونين أولاهما مفتوحة بينهما تحتية
ساكنة:
(من له بينة على قتيل قتله فله سلبه) بفتح السين المهملة
واللام بعدها موحدة ما معه من المال من الثياب والأسلحة
وغيرهما قال أبو قتادة (فقمت لألتمس) لأطلب (بينة على
قتيل) قتلته ولأبي ذر على قتيلي بتحتية ساكنة بعد اللام
(فلم أر أحدًا يشهد لي) على قتله (فجلست ثم بدا لي فذكرت
أمره إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال رجل من جلسائه): لم يسم أو هو أسود بن خزاعي الأسلمي
كما عند الواقدي (سلاح هذا القتيل الذي يذكر) أبو قتادة
(عندي) وفي الخمس من الجهاد فقال رجل صدق يا رسول الله
وسلبه عندي (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
للرجل (فأرضه منه) بقطع الهمزة وكسر الهاء ولأبي ذر عن
الكشميهني مني (فقال أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه-:
(كلا) كلمة ردع (لا يعطه) بضم التحتية وكسر الطاء المهملة
والهاء أبو قتادة (أصيبغ من قريش) بضم الهمزة وفتح الصاد
المهملة وبعد التحتية الساكنة موحدة مكسورة فغين معجمة
منصوب مفعول ثان ليعطه نوع من الطير ونبات ضعيف كالثمام،
ولأبي ذر أضيبع بالضاد المعجمة والعين المهملة المنصوبة
المنوّنة في اليونينية تصغير الضبع
(10/241)
(ويدع أسدًا من أُسد الله) بضم الهمزة
وسكون السين المهملة وكأنه لما عظم أبًا قتادة بأنه أسد من
أسد الله صغر ذاك القرشي وشبهه بالأضيبع لضعف افتراسه
بالنسبة إلى الأسد (يقاتل عن الله ورسوله) في موضع نصب صفة
أسدًا (قال) أبو قتادة (فأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الرجل الذي عنده السلب ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني فحكم رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي أن السلب لي
(فأدّاه إليّ) بتشديد الياء فأخذته فبعته من حاطب بن أبي
بلتعة بسبع أواق (فاشتريت منه خرافًا) بكسر الخاء المعجمة
وفتح الراء مخففة وبعد الألف فاء بستانًا (فكان) هو (أول
مال تأثلته) بمثلثة مشددة اتخذته أصل المال واقتنيته وإنما
حكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك مع طلبه
أولاً البيّنة لأن الخصم اعترف مع أنه المال لرسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعطيه من يشاء.
والحديث سبق في البيوع والخمس.
قال المؤلّف: (قال عبد الله) بن صالح كاتب الليث بن سعد
وللكشميهني قال لي عبد الله (عن الليث) بن سعد الإمام
(فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأدّاه)
أي السلب (إليّ) بتشديد الياء وفيه تنبيه على أن رواية
قتيبة لو كانت فقام لم يكن لذكر رواية عبد الله بن صالح
معنى قال بعضهم: وليس في إقرار ماعز عنده -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا حكمه بالرجم دون أن يشهد من حضره
ولا في إعطائه السلب لأبي قتادة حجة للقضاء بالعلم لأن
ماعزًا إنما أقرّ بحضرة الصحابة، إذ من المعلوم أنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقعد
وحده فلم يحتج -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
يشهدهم على إقراره لسماعهم منه ذلك وكذلك قصة أبي قتادة.
(وقال أهل الحجاز): مالك ومن تبعه في ذلك (الحاكم لا يقضي
بعلمه شهد بذلك في) وقت (ولايته أو قبلها) لوجود التهمة
ولو فتح هذا الباب لوجد قاضي السوء سبيلاً إلى قتل عدوّه
وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحبه ومن ثم قال الشافعي
لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه (ولو أقرّ
خصم عنده) عند الحاكم (لآخر بحق في مجلس القضاء فإنه لا
يقضي عليه) بفتح التحتية وكسر الضاد المعجمة (في قول بعضهم
حتى يدعو) الحاكم (بشاهدين فيحضرهما إقراره) أي إقرار
الخصم وهذا قول ابن القاسم وأشهب.
(وقال بعض أهل العراق): أبو حنيفة ومن تبعه (ما سمع)
القاضي (أو رآه في مجلس القضاء قضى به وما كان غيره) غير
مجلس القضاء (لم يقض) فيه (إلا بشاهدين) يحضرهما إقراره
ووافقهم مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون من المالكية.
(وقال آخرون منهم) من أهل العراق أبو يوسف ومن تبعه (بل
يقضي به) بدون شاهدين (لأنه مؤتمن) بفتح الميم الثانية
(وإنما) ولأبي ذر عن الكشميهني وأنه (يراد من الشهادة
معرفة الحق فعلمه أكثر من الشهادة) أكثر بالمثلثة (وقال
بعضهم) أي بعض أهل العراق (يقضي) القاضي (بعلمه في الأموال
ولا يقضي) بعلمه (في غيرها) فلو رأى رجلاً يزني مثلاً لم
يقض بعلمه حتى تكون بيّنة تشهد بذلك عنده وهو منقول عن أبي
حنيفة وأبي يوسف.
(وقال القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم-
لأنه إذا أطلق يكون المراد، لكن رأيت في هامش فرع
اليونينية وأصلها أنه ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود
فيما قاله أبو ذر الحافظ. وقال في الفتح: كنت أظنه ابن
محمد بن أبي بكر لأنه إذا أطلق في الفروع الفقهيه انصرف
الذهن إليه، لكن رأيت في رواية عن أبي ذر أنه ابن عبد
الرحمن بن عبد الله بن مسعود فإن كان كذلك فقد خالف أصحابه
الكوفيين ووافق أهل المدينة في هذا الحكم وتعقبه العيني
فقال: الكلام في صحة رواية أبي ذر على أن هذه المسألة
فقهية وحيثما أطلق فالمراد به ابن محمد بن أبي بكر، ولئن
سلمنا صحة رواية أبي ذر فإطباق الفقهاء على أنه إذا أطلق
يراد به ابن محمد بن أبي بكر أرجح من كلام غيرهم كذا قال
فليتأمل. ومقول قول القاسم (لا ينبغي للحاكم أن يمضي) بضم
التحتية وسكون الميم، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: أن
يقضي
(10/242)
بفتح التحتية وبالقاف بدل الميم (قضاء
بعلمه دون علم غيره مع أن علمه أكثر) بالمثلثة (من شهادة
غيره ولكنّ) بتشديد النون (فيه) أي في القضاء بعلمه دون
بيّنة (تعرضًا لتهمة نفسه عند المسلمين وإيقاعًا لهم في
الظنون) الفاسدة به وإيقاعًا نصب عطفًا على تعرضًا، ولأبي
الوقت: ولكن بالتخفيف فيه تعرض بالرفع مبتدأ خبره قوله فيه
مقدمًا وإيقاع عطف على تعرض أو نصب على أنه مفعول معه
والعامل فيه متعلق الظرف. (وقد كره النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظن فقال) في الحديث اللاحق: (إنما
هذه صفية).
7171 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الأوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَتْهُ
صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ، فَلَمَّا رَجَعَتِ انْطَلَقَ
مَعَهَا فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ
فَدَعَاهُمَا فَقَالَ: «إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ» قَالاَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى
مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ». رَوَاهُ شُعَيْبٌ
وَابْنُ مُسَافِرٍ، وَابْنُ أَبِى عَتِيقٍ وَإِسْحَاقُ
بْنُ يَحْيَى عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ عَلِىٍّ - يَعْنِى
ابْنَ حُسَيْنٍ -، عَنْ صَفِيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عد العزيز بن عبد الله الأويسي) وسقط
الأويسي لغير أبي ذر قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون
العين بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وسقط ابن سعد لغير
أبي ذر (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عليّ بن
حسين) بضم الحاء ابن علي بن أبي طالب الملقب بزين العابدين
التابعي (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أتته صفية بنت حيي) -رضي الله عنها- وهو معتكف في المسجد
تزوره (فلما رجعت انطلق معها) عليه الصلاة والسلام (فمرّ
به رجلان من الأنصار) لم يسميا (فدعاهما) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال) لهما:
(إنما هي صفية. قالا: سبحان الله) تعجبًا (قال) عليه
السلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) يوسوس
فخفت أن يوقع في قلوبكما شيئًا من الظن الفاسد فتأثمان
فقلته دفعًا لذلك، وعن الشافعي أنه قال: أشفق عليهما من
الكفر لو ظنًّا به ظن التهمة.
وهذا الحديث مرسل لأن عليًّا تابعي ولذا عقبه المؤلّف
بقوله (رواه شعيب) بضم الشين ابن أبي حمزة مما رواه
المؤلّف في الاعتكاف والأدب (وابن مسافر) هو عبد الرحمن بن
خالد بن مسافر الفهمي مولى الليث بن سعد مما وصله في الصوم
وفرض الخمس (وابن أبي عتيق) هو محمد بن عتيق الله بن محمد
بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق مما وصله في الاعتكاف
(وإسحاق بن يحيى) الحمصي فيما وصله الذهلي في الزهريات
أربعتهم (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن علي يعني ابن حسين)
وسقط لأبي ذر يعني ابن حسين (عن صفية عن النبي-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). ورواه عن الزهري أيضًا معمر
فاختلف عليه في وصله وإرساله فسبق موصولاً في صفة إبليس
ومرسلاً في الخمس.
فإن قلت: ما وجه الاستدلال بحديث صفية على منع الحكم
بالعلم؟ أجيب: من كونه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كره أن يقع في قلب الأنصاريين من وسوسة الشيطان
شيء فمراعاة نفي التهمة عنه مع عصمته تقتضي مراعاة نفي
التهمة عمن هو دونه.
22 - باب أَمْرِ الْوَالِى إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ
إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلاَ يَتَعَاصَيَا
(باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع أن يتطاوعا ولا
يتعاصيا) بعين وصاد مهملتين وتحتية. قال في الفتح: ولبعضهم
بمعجمتين وموحدة.
7172 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
الْعَقَدِىُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
أَبِى بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِى قَالَ: بَعَثَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبِى
وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «يَسِّرَا
وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا،
وَتَطَاوَعَا» فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: إِنَّهُ
يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا الْبِتْعُ فَقَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ
حَرَامٌ».
وَقَالَ النَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ وَيَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ وَوَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة
بندار العبدي قال: (حدّثنا العقدي) بفتح العين والقاف عبد
الملك بن عمرو بن قيس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن
سعيد بن أبي بردة) بكسر العين في الأول وضم الموحدة وسكون
الراء (قال: سمعت أبي) أبا بردة عامر بن عبد الله أبي موسى
الأشعري التابعي (قال: بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أبي) أبا موسى الأشعري (ومعاذ بن جبل) -رضي
الله عنهما- قاضيين (إلى اليمن) قبل حجة الوداع زاد في بعث
أبي موسى ومعاذ أواخر المغازي وبعث كل واحد منهما على
مخلاف قال: واليمن مخلافان (فقال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهما:
(يسرا) خذا بما فيه اليسر (ولا تعسرا) والأخذ باليسر عين
ترك العسر (وبشرا) بما فيه تطييب النفوس (ولا تنفرا) وهذا
من باب المقابلة المعنوية إذ الحقيقة أن يقال: بشرا ولا
تنذرا وآنسا ولا تنفرا فجمع بينهما ليعم البشارة والنذارة
والتأنيس والتنفير فهو من باب المقابلة المعنوية قاله في
شرح المشكاة. وسبق في المغازي مزيد لذلك (وتطاوعا) يعني
كونا متفقين في الحكم ولا تختلفا فإن اختلافكما يؤدي إلى
اختلاف أتباعكما وحينئذ تقع العداوة والمحاربة بينهم وفيه
عدم الحرج والتضييق في أمور الملة الحنيفية السمحة كما قال
تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من
(10/243)
حرج} [الحج: 78] (فقال له) أي للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أبو موسى) -رضي الله
عنه-: يا رسول الله (إنه يصنع بأرضنا) باليمن (البتع) بكسر
الموحدة وسكون الفوقية بعدها عين مهملة نبيذ العسل (فقال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كل مسكر حرام).
والحديث مرسل لأن أبا بردة تابعي كما مرّ. والحديث سبق في
أواخر المغازي ولكونه مرسلاً عقبه المؤلّف بقوله:
(وقال النضر): بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن شميل
المازني (وأبو داود) سليمان بن داود الطيالسي (ويزيد بن
هارون) الواسطي (ووكيع) بكسر الكاف ابن الجراح الأربعة (عن
شعبة) بن الحجاج (عن سعيد) ولأبي ذر زيادة ابن أبي بردة
(عن أبيه عن جده) جد أبي سعيد أبي موسى الأشعري -رضي الله
عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
ورواية الأولين والأخير في أواخر المغازي ورواية يزيد
وصلها أبو عوانة في صحيحه.
23 - باب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ
وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ
شُعْبَةَ
(باب إجابة الحاكم الدعوة) بفتح الدال إلى الوليمة وهي
الطعام الذي يعمل في العرس.
(وقد أجاب عثمان بن عفان) -رضي الله عنه- (عبدًا) لم يسم
(للمغيرة بن شعبة) دعاه وهو صائم وقال: أردت أن أجيب
الداعي وأدعو بالبركة كذا وصله أبو محمد بن صاعد في زوائد
البر والصلة لابن المبارك بسند صحيح وسقط ابن عفان لغير
أبي ذر.
7173 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِى مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِى
وَائِلٍ، عَنْ أَبِى مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فُكُّوا الْعَانِىَ
وَأَجِيبُوا الدَّاعِىَ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى بن
سعيد) القطان (عن سفيان) الثوري أنه قال: (حدّثني)
بالإفراد (منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق بن
مسلمة (عن أبي موسى) الأشعري -رضي الله عنه- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(فكوا العاني) وهو الأسير في أيدي الكفار (وأجيبوا الداعي)
إلى الطعام وظاهره العموم في العرس وغيره. وفي أبي داود من
حديث ابن عمر: إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسًا كان أو
غيره، وبه قال بعض الشافعية وهل الإجابة لوليمة العرس
سُنّة أو واجبة؟ الصحيح عند الشافعية أنها سُنّة، وقيل
واجبة. فإن قلنا بالوجوب فهل هو عين أو كفاية؟ لكن قال
العلماء: لا يجيب الحاكم دعوة شخص بعينه دون غيره من
الرعية لما فيه من كسر قلب من لم يجبه إلا إن كان له عذر
في ترك الإجابة كرؤية منكر لا يقدر على إزالته فلو كثرت
بحيث يشغله ذلك عن الحكم الذي تعين عليه ساغ له أن لا
يجيب. ونقل ابن بطال عن مالك أنه لا ينبغي للقاضي أن يجيب
الدعوة إلا في الوليمة خاصة وكره مالك لأهل الفضل أن
يجيبوا كلَّ مَن دعاهم.
24 - باب هَدَايَا الْعُمَّالِ
(باب) حكم (هدايا العمال) بضم العين وتشديد الميم.
7174 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ
عُرْوَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ قَالَ:
اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رَجُلاً مِنْ بَنِى أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ
الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ: فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ:
هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى فَقَامَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ
قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ
الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِى يَقُولُ: هَذَا لَكَ
وَهَذَا لِى، فَهَلاَّ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ
وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ. وَالَّذِى
نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَأْتِى بِشَىْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ
رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً
تَيْعَرُ» ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا
عُفْرَتَىْ إِبْطَيْهِ «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» ثَلاَثًا.
قَالَ سُفْيَانُ: قَصَّهُ عَلَيْنَا الزُّهْرِىُّ وَزَادَ
هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعَ
أُذُنَاىَ وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنِى وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ فَإِنَّهُ سَمِعَهُ مَعِى، وَلَمْ يَقُلِ
الزُّهْرِىُّ سَمِعَ أُذُنِى. خُوَارٌ: صَوْتٌ
وَالْجُؤَارُ مِنْ تَجْأَرُونَ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن الزهري) محمد بن مسلم (أنه سمع عروة)
بن الزبير يقول (أخبرنا أبو حميد) بضم الحاء المهملة وفتح
الميم عبد الرحمن أو المنذر (الساعدي) -رضي الله عنه- أنه
(قال: استعمل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رجلاً من بني أسد) وللأصيلي من بني الأسد بالألف واللام
وفتح السين فيهما في الفرع والذي في الأصل السكون فيهما.
وقال في الفتح: قوله رجلاً من أسد بفتح الهمزة وسكون السين
المهملة وكذا وقع هنا وهو يوهم أنه بفتح السين نسبة إلى
بني أسد بن خزيمة القبيلة المشهورة أو إلى بني أسد بن عبد
العزى بطن من قريش وليس كذلك قال: وإنما قلت إنه يوهمه لأن
الأزد ملازمة الألف واللام في الاستعمال اسمًا وانتسابًا
بخلاف بني أسد فبغير ألف ولام في الاسم وللأصيلي هنا
بزيادة الألف واللام، ولا إشكال فيها مع سكون السين. وفي
الهبة استعمل رجلاً من الأزد أي بالزاي، وذكر أن أصحاب
الأنساب ذكروا أن في الأزد بطنًا يقال لهم بنو الأسد
بالتحريك ينسبون إلى أسد بن شريك بالمعجمة مصغرًا ابن مالك
بن عمرو بن مالك بن فهم وبنو فهم بطن شهير من الأزد،
فيحتمل أن يكون ابن الأتبية كان منهم فيصح أن يقال فيه
الأزدي بسكون الزاي والأسدي بسكون السين وفتحها من بني أسد
بفتح السين ومن بني الأزد والأسد بالسكون فيهما لا غير
اهـ.
والرجل (يقال له ابن الأتبية) بضم الهمزة وفتح الفوقية
وسكونها وكسر الموحدة وتشديد التحتية قيل هو اسم أمه واسمه
عبد الله فيما ذكره ابن سعد وغيره
(10/244)
(على صدقة) أي صدقات بني سليم كما سبق في
الزكاة. وقال العسكري: إنه بعث على صدقات بني ذبيان فلعله
كان على القبيلتين (فلما قدم) أي جاء إلى المدينة من عمله
حاسبه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال:
هذا لكم وهذا أهدي لي) بضم الهمزة (فقام النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المنبر قال سفيان) بن
عيينة (أيضًا فصعد) بكسر العين بدل قوله الأول فقام
(المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال):
(ما بال العامل نبعثه) على العمل (فيأتي يقول) ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي فيقول (هذا لك) بلفظ الإفراد (وهذا لي
فهلا جلس في بيت أبيه وأمه) وفي الهبة أو بيت أمه (فينظر)
برفع الراء ولأبي ذر بنصبها (أيهدى له) بفتح الهمزة وضم
التحتية وفتح الدال (أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء)
من مال الصدقة يحوزه لنفسه وفي الهبة لا يأخذ أحد منه
شيئًا (إلا جاء به يوم
القيامة) حال كونه (يحمله على رقبته وإن كان بعيرًا له
رغاء) بضم الراء وفتح الغين المعجمة مهموز له صوت (أو) كان
المأخوذ (بقرة لها جؤار) بجيم مضمومة فهمزة وفي رواية
بالخاء المعجمة بعدها واو صوت (أو) كان (شاة تيعر) بمثناة
فوقية مفتوحة فتحتية ساكنة فعين مهملة مفتوحة تصوّت شديدًا
(ثم رفع) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يديه حتى
رأينا عفرتي إبطيه) بضم العين المهملة وسكون الفاء وفتح
الراء وإبطيه وكسر الموحدة وفتح الطاء المهملة بالتثنية
فيهما بياضهما المشبوب بالسمرة يقول: (ألا) بفتح الهمزة
وتخفيف اللام (هل بلغت) بتشديد اللام أي قد بلغت حكم الله
إليكم أو هل للاستفهام التقريري للتأكيد ليبلغ الشاهد
الغائب قال: ألا هل بلغت (ثلاثًا. قال سفيان) بن عيينة
بالسند السابق (قصه) أي الحديث (علينا الزهري) محمد بن
مسلم (وزاد هشام عن أبيه) عروة بن الزبير وهو من مقول
سفيان أيضًا (عن أبي حميد) الساعدي أنه (قال: سمع أذناي)
بالتثنية (وأبصرته عيني بالإفراد) أي أعلمه علمًا يقينًا
لا أشك فيه (وسلوا) بفتح المهملة وضم اللام وبسكون المهملة
بعدها همزة (زيد بن ثابت فإنه سمعه) ولأبي ذر سمع (معي)
بفتح السين وكسر الميم على الروايتين قال سفيان أيضًا (ولم
يقل الزهري) محمد بن مسلم (وسمع أذني) فقال المؤلّف:
(خوار) بالخاء المعجمة المضمومة (صوت والجؤار) بضم الجيم
وهمزة مفتوحة آخره راء (من تجأرون كصوت البقرة) وفي رواية
البقر بحذف التاء. {بالعذاب إذا هم يجأرون} [المؤمنون: 64]
أي يرفعون أصواتهم كما يجأر الثور، والحاصل أنه بالجيم
للبقر والناس وبالخاء للبقر وغيرها من الحيوان، وهذا ثابت
في رواية الكشميهني دون غيره.
وفي الحديث أن ما يهدى للعمال وخدمة السلطان بسبب السلطنة
يكون لبيت المال إلا إن أباح له الإمام قبول الهدية لنفسه
كما في قصة معاذ السابق التنبيه عليها في الهبة.
25 - باب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِى وَاسْتِعْمَالِهِمْ
(باب استقضاء الموالي) أي توليتهم القضاء (واستعمالهم) على
البلاد.
7175 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى ابْنُ
جُرَيْجٍ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -
رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى
أَبِى حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ
وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِى مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ
رَبِيعَةَ.
وبه قال: (حدّثنا عثمان بن صالح) السهمي المصري قال:
(حدّثنا عبد الله بن وهب) المصري (قال: أخبرني) بالإفراد
(ابن جريج) عبد الملك (أن نافعًا) مولى ابن عمر (أخبره أن)
مولاه (ابن عمر) عبد الله (-رضي الله عنهما- أخبره قال:
كان سالم) هو ابن عبيد أو ابن معقل (مولى أبي حذيفة) بن
عتبة بن ربيعة القرشي. قال البخاري في تاريخه يعرف به
ومولاته امرأة من الأنصار (يؤم المهاجرين الأولين) الذين
سبقوا بالهجرة إلى المدينة (وأصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مسجد قباء)
بالصرف (فيهم أبو بكر) الصديق (وعمر) بن الخطاب (وأبو
سلمة) بن عبد الأسد المخزومي زوج أم سلمة أم المؤمنين قبل
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وزيد) أي ابن
حارثة قاله في الفتح. وقال في الكواكب: هو زيد بن الخطاب
العدوي من المهاجرين الأولين. وقال في عمدة القارئ:
والظاهر أنه الصواب (وعامر بن ربيعة) العنزي بفتح المهملة
والنون بعدها زاي مولى عمر -رضي الله عنهم-، وكان زيد
أكثرهم قرآنًا. وفي البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن
عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه:
(10/245)
"خذو القرآن من أربعة من ابن مسعود وسالم
مولى أبي حذيفة وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل".
ومن طريق ابن المبارك في كتاب الجهاد له عن حنظلة بن أبي
سفيان عن ابن سابط أن عائشة -رضي الله عنها- احتبست عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "ما
حبسك" قالت: سمعت قارئًا يقرأ فذكرت من حسن قراءته فأخذ
رداءه وخرج فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة فقال: "الحمد لله
الذي جعل في أمتي مثلك". وأخرجه أحمد والحاكم في مستدركه
فكان سبب تقديمه في إمامة الصلاة مع كونه من الموالي على
من ذكر القراءة ومن كان رضًا في أمر الدين فهو رضًا في
أمور الدنيا، فيجوز أن يولى القضاء والإمرة على الحرب
وجباية الخراج لا الإمامة العظمى إذ شرطها كون الإمام
قرشيًّا.
والحديث من أفراده وسبق ما فيه في إمامة الموالي من الصلاة
ولم يقل هناك فيهم أبو بكر الخ. فاستشكل لتصريحه هناك بأن
ذلك كان قبل مقدمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
المدينة، وكان أبو بكر رفيقه عليه السلام فكيف ذكره فيهم.
وأجاب البيهقي باحتمال أن يكون سالم استمر على الصلاة بعد
أن تحوّل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى
المدينة، ونزل بدار أبي أيوب قبل بناء مسجده بها فيحتمل أن
يقال كان أبو بكر يصلّي خلفه إذا جاء إلى قباء، قال في
الفتح: ولا يخفى ما فيه.
26 - باب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ
(باب العرفاء للناس) بضم العين وفتح الراء بعدها فاء جمع
عريف الذي يتولى أمر سياستهم وحفظ أمورهم وسمي به لأنه
يتعرّف أمورهم حتى يعرف بها من قومه عند الحاجة لذلك.
7176 - 7177 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِى
أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:
حَدَّثَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَرْوَانَ
بْنَ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ حِينَ أَذِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِى
عِتْقِ سَبْىِ هَوَازِنَ فَقَالَ: «إِنِّى لاَ أَدْرِى
مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا
حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ»،
فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ فَرَجَعُوا
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا
وَأَذِنُوا.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس) بضم الهمزة وفتح
الواو قال: (حدّثني) بالإفراد (إسماعيل بن إبراهيم) بن
عقبة بن أبي عياش (عن عمه موسى بن عقبة) أنه قال: (قال ابن
شهاب) محمد بن مسلم الزهري (حدّثني عروة بن الزبير) بن
العوّام (أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه)
كلاهما (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال حين أذن لهم المسلمون) أي حين أذن المسلمون له -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن معه أو من أقامه (في عتق
سبي هوازن) وكانوا جاؤوه مسلمين وسألوه أن يردّ إليهم
أموالهم وسبيهم فقال لأصحابه: "إني قد رأيت أن أردّ إليهم
سبيهم فمن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول
ما يفيء الله علينا فليفعل". فقال الناس: قد طيبنا ذلك
(فقال):
(إني لا أدري من أذن منكم) في ذلك ولأبي ذر عن الكشميهني
فيكم (ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم،
فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم فرجعوا إلى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي العرفاء (فأخبروه أن
الناس قد طيبوا) ذلك (وأذنوا). له -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يعتق السبي، وطيبوا بتشديد التحتية
أي حملوا أنفسهم على ترك السبايا حتى طابت بذلك وفيه كما
قاله ابن بطال مشروعية إقامة العرفاء لأن الإمام لا يمكنه
أن يباشر جمع الأمور بنفسه فيحتاج إلى إقامة من يعاونه
ليكفيه ما يقيمه فيه.
والحديث سبق في المغازي.
27 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ ثَنَاءِ السُّلْطَانِ وَإِذَا
خَرَجَ قَالَ: غَيْرَ ذَلِكَ
(باب ما يكره من ثناء) أحد من الناس على (السلطان) بحضرته
(وإذا خرج) ذلك المثني من عنده (قال غير ذلك) من الهجو
والمساوئ.
7178 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ أُنَاسٌ لاِبْنِ عُمَرَ:
إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ
خِلاَفَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ
قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه) محمد بن
زيد أنه قال (قال الناس) منهم عروة بن الزبير كما في جزء
أبي مسعود بن الفرات وأبو إسحاق الشيباني وأبو الشعثاء كما
عند الطبراني في الأوسط (لابن عمر: إنا ندخل على سلطاننا)
بالإفراد هو الحجاج بن يوسف كما في الغيلانيات وللطيالسي
عن عاصم على سلاطيننا بالجمع (فنقول لهم) من الثناء عليهم
(خلاف ما) ولأبي ذر بخلاف ما (نتكلم) به فيهم من الذم (إذا
خرجنا من عندهم) وعند ابن أبي شيبة من طريق أبي الشعثاء
قال: دخل قوم على ابن عمر فوقعوا في يزيد بن معاوية فقال:
أتقولون هذا في وجوههم؟ قالوا: بل نمدحهم ونثني عليهم، وفي
رواية عروة بن الزبير عند الحارث بن أبي أسامة والبيهقي
قال: أتيت
ابن عمر فقلت: إنّا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون بشيء
نعلم أن الحق غيره فنصدقهم (قال: كنا نعدها) بضم العين
(10/246)
أي الفعلة ولأبي ذر عن الكشميهني نعد هذا
أي الفعل (نفاقًا) على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه إبطان أمر وإظهار آخر ولا يراد
به أنه كفر، ولا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام للذي
استأذن عليه: بئس أخو العشيرة ثم تلقاه بوجه طلق وترحيب إذ
لم يقل له خلاف ما قاله عنه بل أبقاه على القول الأول عند
السامع قصدًا للإعلام بحاله ثم تفضل عليه بحسن اللقاء
للاستئلاف.
7179 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنْ شَرَّ
النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاَءِ
بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا الليث) بن
سعد الإمام (عن يزيد بن أبي حبيب) بفتح الحاء المهملة
المصري من صغار التابعين (عن عراك) بكسر العين المهملة
وتخفيف الراء ابن مالك الغفاري المدني (عن أبي هريرة) رضي
الله (أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء) القوم (بوجه
وهؤلاء) القوم (بوجه) وفي الترمذي من طريق أبي معاوية: إن
من شر الناس، ولمسلم من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب
عن أبي هريرة: تجدون من شر الناس ذا الوجهين فرواية إن شر
الناس محمولة على التي فيها من شر الناس ووصفه بكونه شر
الناس أو من شر الناس مبالغة في ذلك. قال القرطبي: إنما
كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق إذ هو متملق
بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس، وقال النووي هو
الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف
لضدها وصنيعه نفاق محض وخداع وتحيل على الاطّلاع على أسرار
الطائفتين وهي مداهنة محرمة قال: فأما من يقصد بذلك
الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود اهـ.
وقوله: ذو الوجهين ليس المراد به الحقيقة بل هو مجاز عن
الجهتين مثل المدحة والمذمة. قال تعالى: {وإذا لقوا الذين
آمنوا قالوا آمنا وإذ خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم
إنما نحن مستهزئون} [البقرة: 14] أي إذا لقي هؤلاء
المنافقون المؤمنين أظهروا لهم الإيمان والموالاة
والمصافاة غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقًا وتقية وإذا
انصرفوا إلى شياطينهم سادتهم وكبرائهم ورؤسائهم من أحبار
اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين {قالوا إنّا معكم إنما
نحن مستهزئون} ساخرون بالقوم.
والحديث أخرجه مسلم.
28 - باب الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ
(باب القضاء على الغائب) في حقوق الآدميين دون حقوق الله
اتفاقًا.
7180 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ -
رضى الله عنها - أَنَّ هِنْدَ قَالَتْ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ
رَجُلٌ شَحِيحٌ فَأَحْتَاجُ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ قَالَ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خُذِى مَا
يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري
قال: (أخبرنا) ولأبي ذر حدّثنا (سفيان) بن عيينة (عن هشام
عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن
هند) بغير صرف للتأنيث والعلمية ولأبي ذر بالصرف لسكون
الوسط بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (قالت للنبي-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يا رسول الله (إن أبا سفيان)
صخر بن حرب زوجها (رجل شحيح) بخيل مع حرص وهو أعم من البخل
لأن البخل يختص بمنع المال والشح بكل شيء (وأحتاج) بفتح
الهمزة (أن آخذ من ماله) ما يكفيني وولدي (قال-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لها:
(خذي) من ماله (ما يكفيك وولدك بالمعروف) من غير إسراف في
الإطعام، وقد استدل جمع من العلماء من أصحاب الشافعي
وغيرهم بهذا الحديث على القضاء على الغائب. قال النووي:
ولا يصح هذا الاستدلال لأن هذه القصة كانت بمكة وأبو سفيان
حاضر، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبًا عن البلد أو
مستترًا لا يقدر عليه أو متعذرًا، ولم يكن هذا الشرط في
أبي سفيان موجودًا فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء
وفي طبقات ابن سعد بسند رجاله رجال الصحيح من مرسل الشعبي
أن هند لما بايعت وجاء قوله ولا يسرقن قالت: قد كنت أصبت
من مال أبي سفيان فقال أبو سفيان: فما أصبت من مالي فهو
حلال لك، ففيه أن أبا سفيان كان حاضرًا معها في المجلس،
لكن قال في الفتح: ويمكن تعدد القصة وإن هذا وقع لما بايعت
ثم جاءت مرة أخرى فسألت عن الحكم وتكون فهمت من الأول
إحلال أبي سفيان لها ما مضى فسألت عما يستقبل لكن يعكر
عليه ما في المعرفة لابن منده قالت هند لأبي سفيان: إني
أريد أن أبايع الحديث. وفيه فلما فرغت قالت: يا رسول الله
إن أبا سفيان
(10/247)
رجل بخيل إلى أن قال أي النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما تقول يا أبا سفيان"؟
قال: أما يابسًا فلا وأما رطبًا فأحله، قال في الفتح:
والظاهر أن المؤلّف لم يرد أن قصة هند كانت قضاء على أبي
سفيان وهو غائب بل استدلّ بها على صحة القضاء على الغائب
ولو لم يكن ذلك قضاء على الغائب بشرطه بل لما كان أبو
سفيان غير حاضر معها في المجلس وأذن لها أن تأخذ من ماله
بغير إذنه قدر كفايتها كان في ذلك نوع قضاء على الغائب
فيحتاج من منعه أن يجيب عن هذا التعبير بقوله: خذي يرجح
أنه كان قضاء لا فتيا لكن تفويض تقدير الاستحقاق إليها في
قوله: ما يكفيك يرجح أنه كان فتوى ولو كان قضاء لم يفوّضه
إلى المدعي، وقد أجاز مالك والشافعي وجماعة الحكم على
الغائب، وقال أبو حنيفة: لا يقضي عليه مطلقًا.
والحديث سبق قريبًا.
29 - باب مَنْ قُضِىَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلاَ
يَأْخُذْهُ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لاَ يُحِلُّ
حَرَامًا وَلاَ يُحَرِّمُ حَلاَلاً
(باب من قضي له) بضم القاف وكسر المعجمة (بحق أخيه) أي
خصمه مسلمًا كان أو ذميًّا أو معاهدًا أو مرتدًّا فالأخوة
باعتبار البشرية (فلا يأخذه فإن قضاء الحاكم لا يحل حرامًا
ولا يحرم حلالاً).
7181 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِى سَلَمَةَ
أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهَا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ
يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ
أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ
فَأَقْضِى لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ
مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ
فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) العامري الأويسي
الفقيه قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن صالح) أي ابن كيسان (عن
ابن شهاب) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة
بن الزبير) بن العوّام (أن زينب ابنة) ولأبي ذر بنت (أبي
سلمة أخبرته أن أم سلمة) هند (زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرتها عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه سمع خصومة بباب حجرته) منزل أم
سلمة، وعند أبي داود من طريق عبد الله بن رافع عن أم سلمة
أتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلان
يختصمان في مواريث لهما لم يكن لهما بيّنة إلا دعواهما.
وفي رواية له قال: يختصمان في مواريث وأشياء قد درست وعند
عبد الرزاق في مصنفه أنها كانت في أرض هلك أهلها وذهب من
يعلمها ولم يسم المختصمين (فخرج إليهم) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال):
(إنما أنا بشر) أي إنسان وسمي به لظهور بشرته دون ما عداه
من الحيوان أي إنما أنا بشر مشارك لكم في البشرية بالنسبة
لعلم الغيب الذي لم يطلعني الله عليه وقال ذلك توطئة لقوله
(وإنه يأتيني الخصم) فلا أعلم باطن أمره (فلعل) بالفاء
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ولعل (بعضكم أن يكون أبلغ)
أفصح في كلامه وأقدر على إظهار حجته (من بعض فأحسب) بكسر
السين وتفتح (أنه صادق) وهو في الباطن كاذب (فأقضي) فأحكم
(له بذلك) الذي ادّعاه لظني صدقه (فمن قضيت له بحق مسلم)
ذكر المسلم ليكون أهول على المحكوم له لأن وعيد غيره معلوم
عند كل أحد فذكر المسلم تنبيهًا على أنه في حقه أشد (فإنما
هي) أي الحكومة أو الحالة (قطعة من النار) تمثيل يفهم منه
شدة التعذيب على من يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه (فليأخذها
أو ليتركها) أمر تهديد لا تخيير فهو كقوله: {فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29] كذا قرره النووي
وغيره. وتعقب بأنه إن أريد به أن كلاًّ من الصيغتين
للتهديد فممنوع فإن قوله: أو ليتركها
للوجوب في كلام طويل سبق في كتاب المظالم فليراجع، فحكم
الحاكم ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، فلو قضى بشيء رتب على أصل
كاذب بأن كان باطن الأمر فيه بخلاف ظاهره نفذ ظاهرًا لا
باطنًا، فلو حكم بشهادة زور بظاهري العدالة لم يحصل بحكمه
الحل باطنًا سواء المال والنكاح وغيرهما. أما المرتب على
أصل صادق فينفذ القضاء فيه باطنًا أيضًا قطعًا إن كان في
محل اتفاق المجتهدين، وعلى الأصح عند البغوي وغيره إن كان
في محل اختلافهم وإن كان الحكم لمن لا يعتقده لتتفق الكلمة
ويتم الانتفاع، فلو قضى حنفي لشافعي بشفعة الجوار أو
بالإرث بالرحم حل له الأخذ به وليس للقاضي منعه من الأخذ
بذلك ولا من الدعوى به إذا أرادها اعتبارًا بعقيدة الحاكم
ولأن ذلك مجتهد فيه والاجتهاد إلى القاضي لا إلى غيره،
ولهذا أجاز للشافعي أن يشهد بذلك عند من يرى جوازه وإن كان
خلاف اعتقاده، ولو حكم القاضي بشيء وأقام المحكوم عليه
بيّنة تنافي دعوى المحكوم له سمعت وبطل الحكم. وفي الحديث
(10/248)
حجة على الحنفية حيث ذهبوا إلى أنه ينفذ
ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ حتى لو قضى بنكاح امرأة
بشاهدي زور حلّ وطؤها.
وأجاب بعض شرّاح المشارق منهم عن الحديث بأن قوله في
الرواية الأخرى فأقضي له بنحو ما أسمع منه ظاهرًا يدل على
أن ذلك فيما كان بسماع الخصم من غير أن يكون هناك بيّنة أو
يمين وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في القضاء بشهادة
الزور بأن قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فمن
قضيت له بحق مسلم" الخ. شرطية وهي لا تقتضي صدق المقدّم
فيكون من باب فرض المحال نظرًا إلى عدم جواز إقراره على
الخطأ، ويجوز ذلك إذا تعلق به غرض كما في قوله تعالى: {قل
إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81] والغرض
فيما نحن فيه التهديد والتقريع على اللسن والإقدام على
تلحين الحجج في أخذ أموال الناس، وبأن الاحتجاج به يستلزم
أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقر على الخطأ
لأنه لا يكون ما قضى به قطعة من النار إلا إذا استمر الخطأ
وإلاّ فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم
ويرد الحق لمستحقه وظاهر الحديث يخالف ذلك فإما أن يسقط
الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم وإما أن يستلزم التقرير على
الخطأ وهو باطل اهـ.
وأجيب عن الأول: بأنه خلاف الظاهر وكذا الثاني وأما الثالث
فإن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده
فيما لم يوح إليه فيه وليس النزاع فيه، وإنما النزاع في
الحكم الصادر منه بناء على شهادة زور أو يمين فاجرة فلا
يسمى خطأ للاتفاق على وجوب العمل بالشهادة وبالإيمان وإلاّ
لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك.
وفي الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا
الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فحكم بإسلام
من تلفظ بالشهادتين ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك
وحديث إني لم أومر بالتنقيب على قلوب الناس، وحينئذ فالحجة
من الحديث ظاهرة في شمول الخبر الأموال والعقود والفسوخ،
ومن ثم قال الشافعي: إنه لا فرق في دعوى حلّ الزوجة لمن
أقام بتزويجها شاهدي زور وهو يعلم بكذبهما وبين من ادّعى
على حر أنه ملكه وأقام بذلك
شاهدي زور وهو يعلم حريته فإذا حكم له حاكم بأنه ملكه لم
يحل له أن يسترقه بالإجماع. وقال القرطبي: شنعوا على
القائل بذلك قديمًا وحديثًا لمخالفته للحديث الصحيح ولأن
فيه صيانة المال وابتذال الفروج وهي أحق أن يحتاط لها
وتصان اهـ.
والحديث سبق في المظالم والشهادات والأحكام.
7182 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِى
مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ
عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ
بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ
مِنِّى فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ
الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ ابْنُ أَخِى: قَدْ
كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ
زَمْعَةَ فَقَالَ أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى وُلِدَ
عَلَى فِرَاشِهِ فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ سَعْدٌ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِى كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ
أَبِى وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هُوَ لَكَ يَا
عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ثُمَّ قَالَ
لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: «احْتَجِبِى مِنْهُ» لِمَا
رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى
لَقِىَ اللَّهَ تَعَالَى.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الإمام الأعظم (عن ابن شهاب)
محمد بن مسلم الزهري (عن عروة بن الزبير) بن العوّام (عن
عائشة) -رضي الله عنها- (زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها قالت: كان عتبة بن أبي وقاص) بضم
العين وسكون المثناة الفوقية بعدها موحدة ووقاص بتشديد
القاف آخره مهملة وعتبة هو الذي كسر ثنية النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وقعة أُحُد ومات كافرًا
(عهد) أي أوصى (إلى أخيه سعد بن أبي وقاص) أحد العشرة (أن
ابن وليدة زمعة) بن عليّ بفتح الزاي وسكون الميم وتفتح
بعدها عين مهملة مفتوحة أي جاريته ولم تسم واسم ولدها عبد
الرحمن بن زمعة (مني فاقبضه إليك) بهمزة وصل وكسر الموحدة
قالت عائشة (فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال): هو (ابن
أخي) عتبة (قد كان عهد إليّ فيه) أن أستلحقه به (فقام
إليه) إلى سعد (عبد بن زمعة فقال): هو (أخي وابن وليدة
أبي) أي وابن جاريته (ولد على فراشه فتساوقا) من التساوق
وهو مجيء واحد بعد واحد (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال سعد: يا رسول الله) هذا (ابن
أخي) عتبة (كان عهد إليّ فيه) أن أستلحقه به (وقال عبد بن
زمعة) هو (أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(هو) أي الولد (لك) أي أخوك (يا عبد بن زمعة) بضم عيد اسم
علم منادى وابن زمعة نعت واجب النصب لأنه مضاف وعبد يجوز
فتحه لأنه منعوت بابن مضاف إلى علم (ثم قال رسول
(10/249)
الله: الولد للفراش) أي لصاحب الفراش زوجًا
كان أو سيدًا حرة كانت أو أمة لكن الحنفية يخصونه بالحرة
ويقولون إن ولد الأمة المستفرشة لا يلحق سيدها ما لم يقر
به (وللعاهر) أي الزاني (الحجر) أي الخيبة ولا حق له في
الولد أو الرجم بالحجارة وضعف بأنه لا يرجم بالحجر إلا إذا
كان محصنًا (ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(لسودة بنت زمعة) أم المؤمنين -رضي الله عنها-: (احتجبي
منه) أي من ابن زمعة المتنازع فيه ندبًا للاحتياط وقد ثبت
نسبه وأخوته لها في ظاهر الشرع (لما) بالتخفيف (رأى) عليه
السلام (من شبهه بعتبه فما رآها) عبد الرحمن (حتى لقي الله
تعالى).
ومناسبة الحديث لسابقه أن الحكم بحسب الظاهر حيث حكم
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالولد لعبد بن زمعة
وألحقه بزمعة، ثم لما رأى شبهه بعتبة أمر سودة أن تحتجب
منه احتياطًا، فأشار البخاري إلى أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكم في ابن وليدة زمعة بالظاهر، ولو
كان في نفس الأمر ليس من زمعة ولا يسمى ذلك خطأ في
الاجتهاد ولا هو من نوادر الاختلاف.
والحديث سبق في البيوع والمحاربين والفرائض.
30 - باب الْحُكْمِ فِى الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا
(باب الحكم في البئر ونحوها) كالحوض والدار.
7183 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ عَنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ: قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ يَحْلِفُ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ
يَقْتَطِعُ مَالاً، وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ إِلاَّ لَقِىَ
اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا
قَلِيلاً} [آل عمران: 77] الآيَةَ. فَجَاءَ الأَشْعَثُ
وَعَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ: فِىَّ نَزَلَتْ
وَفِى رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِى بِئْرٍ فَقَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ»؟
قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «فَلْيَحْلِفْ» قُلْتُ: إِذًا
يَحْلِفُ فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ
بِعَهْدِ اللَّهِ} الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن نصر) هو إسحاق بن إبراهيم بن
نصر بالصاد المهملة المروزي وقيل البخاري قال: (حدّثنا عبد
الرزاق) بن همام الصنعاني قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن
منصور) هو ابن المعتمر (والأعمش) سليمان بن مهران كلاهما
(عن أبي وائل) شقيق بن سلمة أنه (قال: قال عبد الله) بن
مسعود -رضي الله عنه- (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لا يحلف) أحد (على) موجب (يمين صبر) بغير تنوين يمين على
الإضافة لتاليها كذا في الفرع كأصله مصححًا عليه لما
بينهما من الملابسة السابقة وينوّن فصبر صفة له على النسب
أي ذات صبر ويمين الصبر هى التي يلزم الحاكم الخصم بها
وجملة {يقتطع مالاً) في موضع صفة ثانية ليمين وفي رواية
أخرى يقتطع بها مال امرئ مسلم (وهو فيها فاجر) كاذب
والجملة في موضع الحال من فاعل يحلف أو من ضمير يقتطع أو
صفة ليمين لأن فيها ضميرين أحدهما للحالف والآخر لليمين
فبذلك صلحت أن تكون حالاً لكل واحد منهما (إلا لقي الله)
عز وجل يوم القيامة (وهو عليه غضبان) بدون صرف للصفة
وزيادة الألف والنون والشرط هنا موجود وهو انتفاء فعلانة
ووجود فعلى وذلك في صفات المخلوقين وغضبه تعالى يراد به ما
أراده من العقوبة أعوذ بوجه الله
تعالى من عقابه وغضبه (فأنزل الله) تعالى زاد في الأيمان
تصديقه {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا
قليلاً}) [آل عمران: 77] (الآية). وسقط لغير أبي ذر قوله:
{وأيمانهم} الخ.
(فجاء الأشعث) بن قيس الكندي (وعبد الله) بن مسعود
(يحدّثهم) زاد في الإيمان فقال: ما يحدّثكم عبد الله؟
قالوا له: أي كان يحدّثنا بكذا وكذا (فقال) الأشعث: (فيّ)
بتشديد الياء (نزلت) هذه الآية (وفي رجل) اسمه الجفشيش
بالجيم والحاء والخاء وبالشينين المعجمتين بينهما تحتية
ساكنة الحضرمي أو الكندي وقيل اسمه جرير (خاصمته في بئر)
كانت بيننا فجحدني (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) لي: (ألك بيّنة؟ قلت: لا) يا رسول الله (قال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فليحلف) بالجزم
ولأبي ذر عن الكشميهني فيحلف بإسقاط اللام والرفع (قلت) يا
رسول الله: (إذًا يحلف) إذًا حرف جواب وهي تنصب الفعل
المضارع بشرط أي تكون أولاً فلا يعتمد ما بعدها على ما
قبلها ولذا رفعت نحو قولك: أنا إذا أكرمك وأن يكون
مستقبلاً فلو كان حالاً وجب الرفع نحو قولك لمن قال: جاء
الحاج إذًا أفرح تريد الحالة التي أنت فيها وأن لا يفصل
بينها وبين الفعل بفاصل ما عدا القسم والنداء ولا فإن دخل
عليها حرف عطف جاز في الفعل وجهان الرفع والنصب والرفع
أكثر نحو قوله تعالى: {وإذًا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً}
[الإسراء: 76] والفعل هنا في الحديث إن أريد به الحال فهو
مرفوع وإن أريد به الاستقبال فهو منصوب والوجهان في الفرع
مصحح عليهما. وزاد في رواية أخرى ولا يبالي (فنزلت {إن
الذين يشترون بعهد الله} الآية).
(10/250)
وفي الحديث كما قال ابن بطال: إن حكم
الحاكم في الظاهر لا يحل الحرام ولا يبيح المحظور لأنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حذر أمته عقوبة من
اقتطع من حق أخيه شيئًا بيمين فاجرة، والآية المذكورة من
أشد وعيد جاء في القرآن.
والحديث سبق في الشرب.
31 - باب الْقَضَاءِ فِى كَثِيرِ الْمَالِ وَقَلِيلِهِ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ
الْقَضَاءُ فِى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ.
(باب القضاء) بإضافة باب للاحقه (في كثير المال وقليله)
ولأبي ذر باب بالتنوين القضاء في كثير المال وقليله سواء
بإثبات الخبر المحذوف في غير روايته.
(وقال ابن عيينة) سفيان (عن ابن شبرمة) بضم المعجمة والراء
بينهما موحدة ساكنة عبد الله قاضي الكوفة: (القضاء في قليل
المال وكثيره سواء) قال العيني: وهذا ذكره سفيان في جامعه
عن ابن شبرمة. وقال الحافظ ابن حجر: ولم يقع لي هذا الأثر
موصولاً.
7185 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ
أَخْبَرَتْهُ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:
سَمِعَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ
فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ
يَأْتِينِى الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ
أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ أَقْضِى لَهُ بِذَلِكَ وَأَحْسِبُ
أَنَّهُ صَادِقٌ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ
فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا
أَوْ لِيَدَعْهَا».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال
(أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (أن زينب
بنت أبي سلمة أخبرته عن أمها أم سلمة) هند -رضي الله عنها-
أنها (قالت: سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- جلبة خصام) بفتح الجيم واللام والموحدة اختلاط
الأصوات ولمسلم جلبة خصم (عند بابه) منزل أم سلمة (فخرج
عليهم) ولأبي ذر عن الكشميهني إليهم فقال (لهم):
(إنما أنا بشر) البشر الخلق يطلق على الجماعة والواحد
والمعنى أنه منهم وإن زاد عليهم بالمنزلة الرفيعة وهو ردّ
على من زعم أن من كان رسولاً فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى
عليه المظلوم من الظالم (وإنه يأتيني الخصم) وفي ترك الحيل
من رواية سفيان الثوري وإنكم تختصمون إليّ (فلعلّ بعضًا)
منكم (أن يكون أبلغ) أي أقدر على الحجة (من بعض أقضي له
بذلك) ولأبي داود على نحو ما أسمع منه (وأحسب أنه صادق فمن
قضيت له بحق مسلم) وكذا ذمي (فإنما هي) أي الحكومة (قطعة
من النار) وللطحاوي والدارقطني فإنما نقطع له بها قطعة من
النار إسطامًا يأتي بها في عنقه يوم القيامة والإسطام بكسر
الهمزة وسكون السين وفتح الطاء المهملتين القطعة فكأنها
للتأكيد ولأبي ذر عن الحموي والمستملي من نار (فليأخذها أو
ليدعها) أمر تهديد.
ومطابقته للترجمة في قوله فمن قضيت له إذ هو يتناول القليل
والكثير. والحديث مرّ قريبًا.
32 - باب بَيْعِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ
وَضِيَاعَهُمْ وَقَدْ بَاعَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُدَبَّرًا مِنْ نُعَيْمِ بْنِ
النَّحَّامِ
(باب) حكم (بيع الإمام على الناس) من السفيه والغائب
لتوفية دينه أو الممتنع منه (أموالهم وضياعهم) عقارهم وغير
ذلك وهو من عطف الخاص على العام.
(وقد باع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مدبرًا) بتشديد الموحدة المفتوحة (من نعيم بن النحام) بفتح
النون والحاء المهملة المشدّدة، وهو نعيم بن عبد الله بن
أسيد بن عبيد بن عوف بن عويج بن عدي بن كعب القرشي العدوي
المعروف بالنحام قيل له ذلك لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له دخلت الجنة، فسمعت نحمة من
نعيم والنحمة السعلة أو النحنحة الممدود آخرها، وسقط قوله
مدبرًا للحموي والمستملي قال العيني: ولفظ الابن زائد،
وقال أبو عمر بن عبد البر نعيم بن عبد الله النحام القرشي
العدوي.
7186 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا
سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ
قَالَ: بَلَغَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ
غُلاَمًا عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ
فَبَاعَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَرْسَلَ
بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ.
وبه قال: (حدّثنا ابن نمير) هو محمد بن عبد الله بن نمير
بضم النون مصغرًا قال: (حدّثنا محمد بن بشر) بكسر الموحدة
وسكون الشين المعجمة العبدي الكوفي الحافظ قال: (حدّثنا
إسماعيل) بن أبي خالد الكوفي الحافظ قال: (حدّثنا سلمة بن
كهيل) بضم الكاف وفتح الهاء أبو يجيئ الحضرمي من علماء
الكوفة (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن جابر بن عبد الله)
-رضي الله عنهما- وسقط ابن عبد الله لغير أبي ذر أنه (قال:
بلغ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن رجلاً
من أصحابه) هو أبو مذكور (أعتق غلامًا) اسمه يعقوب كما في
مسلم (عن) ولأبي ذر والوقت له عن (دبر) بضم الدال والموحدة
أي علق عتقه بعد موته ولأبي ذر عن الكشميهني عن دين بفتح
الدال وسكون التحتية بعدها نون وهي تصحيف والمشهور الأولى
(لم يكن له مال غيره فباعه) النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نعيم النحام (بثمانمائة درهم ثم
أرسل) عليه الصلاة والسلام (بثمنه إليه) إلى الذي علق عتقه
وإنما باعه عليه لأنه لم يكن
(10/251)
له مال غيره فلما رآه أنفق جميع ماله وأنه
تعرض بذلك للتهلكة نقض عليه فعله ولو كان لم ينفق جميع
ماله لم ينقض فكأنه كان في حكم السفيه فلذا باع عليه ماله.
والحديث سبق في البيوع، وأخرجه أبو داود والنسائي في الفتن
وابن ماجة.
33 - باب مَنْ لَمْ يَكْتَرِثْ بِطَعْنِ مَنْ لاَ يَعْلَمُ
فِى الأُمَرَاءِ حَدِيثًا
(باب من لم يكترث) بالمثناة الفوقية ثم المثلثة بينهما راء
مكسورة من لم يبال ولم يلتفت (بطعن من) ولأبي الوقت لطعن
من (لا يعلم) بفتح التحتية (في الأمراء حديثًا) يعبأ به
فلو طعن بعلم اعتدّ به وإن كان بأمر محتمل رجع إلى رأي
الإمام وسقط قوله حديثًا لأبوي الوقت وذر والأصيلي.
7187 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ - رضى
الله عنهما - يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَطُعِنَ فِى إِمَارَتِهِ وَقَالَ:
«إِنْ تَطْعَنُوا فِى إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ
تَطْعَنُونَ فِى إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ
اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمْرَةِ وَإِنْ كَانَ
لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ
أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) أبو سلمة التبوذكي
الحافظ قال: (حدّثنا عبد العزيز بن مسلم) القسملي البصري
قال: (حدّثنا عبد الله بن دينار) المدني مولى ابن عمر
(قال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول): ولأبي ذر قال:
(بعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بعثًا) أي جيشًا إلى أبنى لغزو الروم مكان قتل زيد بن
حارثة وكان في ذلك البعث رؤوس المهاجرين والأنصار منهم
العمران (وأمر عليهم أسامة بن زيد) أي ابن حارثة وكان ذلك
في بدء مرضه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي
توفي فيه (فطعن) بضم الطاء المهملة (في إمارته) بكسر
الهمزة وقالوا: يستعمل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- هذا الغلام على المهاجرين والأنصار (وقال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما بلغه ذلك ولأبي
ذر فقال بالفاء بدل الواو:
(إن تطعنوا) بضم العين في الفرع وزاد في اليونينية فتحها
قال الزركشي رجح بعضهم هنا ضم العين (في إمارته) أي في
إمارة أسامة (فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه) زيد (من
قبله). واستشكل بأن النحاة قالوا الشرط سبب للجزاء متقدم
عليه وهاهنا ليس كذلك. وأجاب في
الكواكب بأن مثله يؤول بالأخبار عندهم أي إن طعنتم فيه
فأخبركم بأنكم طعنتم من قبل في أبيه ويلازمه عند البيانيين
أي إن طعنتم فيه تأثمتم بذلك لأنه لم يكن حقًّا (واْيم
الله) بهمزة وصل (إن كان) زيد (لخليقًا) بالخاء المعجمة
والقاف لجديرًا ومستحقًا (للإمرة) بكسر الهمزة وسكون الميم
ولأبي ذر عن الكشميهني للإمارة بفتح الميم وألف بعدها فلم
يكن لطعنكم مستند فكذا لا اعتبار بطعنكم في إمارة ولده
(وإن كان) زيد (لمن أحب الناس إلي) بتشديد التحتية (وإن)
ابنه أسامة (هذا لمن أحب الناس إليّ بعده).
واستشكل كون عمر بن الخطاب عزل سعدًا حين قذفه أهل الكوفة
بما هو منه بريء ولم يعزل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أسامة وأباه بل بيّن فضلهما. وأجيب: بأن عمر لم
يعلم من مغيب سعد ما علمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من زيد وأسامة فكان سبب عزله قيام الاحتمال أو
رأى عمر أن عزل سعد أسهل من فتنة يثيرها من قام عليه من
أهل الكوفة.
والحديث سبق في باب بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أسامة بن زيد أواخر المغازي.
34 - باب الأَلَدِّ الْخَصِمِ وَهْوَ الدَّائِمُ فِى
الْخُصُومَةِ
لُدًّا: عُوجًا.
(باب الألدّ) بفتح الهمزة واللام وتشديد الدال المهملة
(الخصم) بفتح المعجمة وكسر المهملة وفسره المؤلّف بقوله
(وهو الدائم في الخصومة) أو المراد الشديد الخصومة فإن
الخصم من صيغ المبالغة فيحتمل الشدة والكثرة. وقال تعالى:
{وهو ألدّ الخصام} [البقرة: 204] أي شديد الجدال والعداوة
للمسلمين والخصام المخاصمة والإضافة بمعنى في لأن أفعل
يضاف إلى ما هو بعضه تقول: زيد أفضل القوم ولا يكون الشخص
بعض الحدث فتقديره ألدّ في الخصومة أو الخصام جمع خصم كصعب
وصعاب والتقدير وهو ألدّ الخصوم خصومة (لدًّا: عوجًا) بضم
اللام وتشديد الدال عوجًا بضم العين وسكون الواو بعدها جيم
ولأبي ذر عن الكشميهني ألدّ بهمزة قبل اللام المفتوحة أعوج
بهمزة مفتوحة وسكون العين يريد تفسير قوله تعالى في سورة
مريم: {وتنذر به قومًا لدًّا} [مريم: 97] قال ابن كثير
الحافظ: أي عوجًا عن الحق مائلون إلى الباطل. وقال ابن أبي
نجيح عن مجاهد: لا يستقيمون. وقال الضحاك، الألدّ: الخصم.
وقال القرطبي الألدّ: الكذاب. وقال الحسن صمًّا. قال في
الفتح: وكأنه تفسير باللازم لأن من اعوجّ عن الحق كان كأنه
لم يسمع وعن ابن عباس فجارًا وقيل جدلاء بالباطل.
7188 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِى
مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ
الْخَصِمُ».
وبه قال: (حدّثنا
(10/252)
مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى بن
سعيد) القطان (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز أنه
قال: (سمعت ابن أبي مليكة) عبد الله (يحدّث عن عائشة -رضي
الله عنها-) أنها (قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أبغض الرجال) الكفار (إلى الله) الكافر (الألد الخصم)
بفتح المعجمة وكسر المهملة المعائذ أو أبغض الرجال
المخاصمين أعم من أن يكون كافرًا أو مسلمًا فإن كان الأول
فأفعل التفضيل على حقيقته في العموم وإن كان مسلمًا فسبب
البغض كثرة المخاصمة لأنها تفضي غالبًا إلى ما يذم صاحبه.
والحديث سبق في المظالم والتفسير.
35 - باب إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلاَفِ
أَهْلِ الْعِلْمِ فَهْوَ رَدٌّ
هذا (باب) بالتنوين (إذا قضى الحاكم بجور) أي بظلم (أو
خلاف أهل العلم فهو) أي قضاؤه (ردّ) أي مردود.
7189 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ،
عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَعَثَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالِدًا ح.
وَحَدَّثَنِى نُعَيْمٌ بن حماد، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ
سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ
إِلَى بَنِى جَذِيمَةَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا:
أَسْلَمْنَا فَقَالُوا صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ
خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٌ
مِنَّا أَسِيرَهُ فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ
يَقْتُلَ أَسِيرَهُ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ
أَسِيرِى وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِى
أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّى
أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ»
مَرَّتَيْنِ.
وبه قل: (حدّثنا محمود) هو ابن غيلان بالغين المعجمة
المفتوحة أبو أحمد المروزي الحافظ قال: (حدّثنا عبد
الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) بفتح الميمين ابن خالد
(عن الزهري) محمد بن مسلم (عن سالم عن ابن عمر) -رضي الله
عنهما- أنه قال: (بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خالدًا) وسقط لأبي ذر قوله عن الزهري الخ (ح)
لتحويل السند قال البخاري:
(وحدّثني) بالإفراد (نعيم بن حماد) بضم النون وفتح العين
الرفاء بالراء والفاء المشددة المروزي الأعور ولأبي ذر
وحدّثني أبو عبد الله نعيم بن حماد ولغير أبي ذر قال أبو
عبد الله البخاري حدّثني نعيم قال: (أخبرنا) ولأبي ذر:
حدّثنا (عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا معمر) أي ابن
خالد (عن الزهري عن سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر -رضي
الله عنهما- أنه (قال: بعث
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خالد بن
الوليد) -رضي الله عنه- (إلى بني جذيمة) بفتح الجيم وكسر
الذال المعجمة وفتح الميم قبيلة من عبد قيس داعيًا لهم إلى
الإسلام لا مقاتلاً فدعاهم إلى الإسلام (فلم يحسنوا أن
يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا صبأنا) بهمزة ساكنة فيهما أي
خرجنا من الشرك إلى دين الإسلام فلم يكتف خالد إلا
بالتصريح بذكر الإسلام وفهم عنهم أنهم عدلوا عن التصريح
أنفة منهم ولم ينقادوا (فجعل خالد يقتل) منهم (ويأسر) بكسر
السين (ودفع إلى كل رجل منّا أسيره فأمر كل رجل منا أن
يقتل أسيره) قال ابن عمر (فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا
يقتل رجل من أصحابي) من المهاجرين والأنصار (أسيره) فقدمنا
(فذكرنا ذلك للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال):
(اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد) من قتله
الذين قالوا صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك قال
عليه الصلاة والسلام اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد
(مرتين). وإنما لم يعاقبه لأنه كان مجتهدًا واتفقوا على أن
القاضي إذا قضى بجور أو بخلاف ما عليه أهل العلم فحكمه
مردود فإن كان على وجه الاجتهاد وأخطأ كما صنع خالد فالإثم
ساقط والضمان لازم فإن كان الحكم في قتل فالدّية في بيت
المال عند أبي حنيفة وأحمد وعلى عاقلته عند الشافعي وأبي
يوسف ومحمد.
والحديث سبق في المغازي.
36 - باب الإِمَامِ يَأْتِى قَوْمًا فَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ
(باب الإمام يأتي قومًا فيصلح) ولأبي ذر عن الكشميهني:
ليصلح باللام بدل الفاء أي لإجل الإصلاح (بينهم).
7190 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ الْمَدِينِىُّ، عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ قَالَ: كَانَ قِتَالٌ
بَيْنَ بَنِى عَمْرٍو فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ
أَتَاهُمْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلاَةُ
الْعَصْرِ فَأَذَّنَ بِلاَلٌ وَأَقَامَ وَأَمَرَ أَبَا
بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ وَجَاءَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ فِى الصَّلاَةِ
فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَامَ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ،
فَتَقَدَّمَ فِى الصَّفِّ الَّذِى يَلِيهِ قَالَ:
وَصَفَّحَ الْقَوْمُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا دَخَلَ
فِى الصَّلاَةِ لَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْرُغَ فَلَمَّا
رَأَى التَّصْفِيحَ لاَ يُمْسَكُ عَلَيْهِ الْتَفَتَ
فَرَأَى النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خَلْفَهُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِ امْضِهْ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ
هَكَذَا وَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ هُنَيَّةً يَحْمَدُ اللَّهَ
عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، ثُمَّ مَشَى الْقَهْقَرَى فَلَمَّا رَأَى
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ
تَقَدَّمَ فَصَلَّى النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِالنَّاسِ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ:
«يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ إِذْ أَوْمَأْتُ إِلَيْكَ
أَنْ لاَ تَكُونَ مَضَيْتَ» قَالَ: لَمْ يَكُنْ لاِبْنِ
أَبِى قُحَافَةَ أَنْ يَؤُمَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ لِلْقَوْمِ: «إِذَا نَابَكُمْ
أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ، وَلْيُصَفِّحِ
النِّسَاءُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل قال: (حدّثنا
حماد) هو ابن زيد قال: (حدّثنا أبو حازم) بالحاء المهملة
والزاي سلمة (المديني) بالتحتية بعد الدال ولأبي ذر المدني
بإسقاطها وفتح الدال (عن سهل بن سعد الساعدي) -رضي الله
عنه- أنه (قال: كان قتال) بالتنوين (بين بني عمرو) بفتح
العين ابن عوف بالفاء قبيلة (فبلغ ذلك النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصلّى الظهر ثم أتاهم يصلح
بينهم فلما حضرت صلاة العصر فأذّن بلال) سقط لفظ بلال لأبي
ذر، واستشكل الإتيان بالفاء في قوله فأذّن لأنه ليس موضعها
سواء كانت لما شرطية أو ظرفية. وأجيب: بأن الجزاء محذوف
وهو جاء المؤذن والفاء للعطف عليه وعند أبي داود عن عمرو
بن عوف عن حماد أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال لبلال: إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فأمر أبا بكر
فليصلّ بالناس فلما حضرت العصر أذّن بلال (وأقام) الصلاة
(وأمر أبا بكر)
(10/253)
-رضي الله عنه- أن يصلّي بالناس كما أمره
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فتقدم) أبو
بكر وصلى بهم. (وجاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وأبو بكر في الصلاة فشق الناس حتى قام خلف أبي
بكر فتقدّم في الصف الذي يليه) وليس هو من المنهي عنه لأن
الإمام مستثنى من ذلك لا سيما الشارع إذ ليس لأحد التقدّم
عليه ولأنه ليس حركة من حركاته إلا ولنا فيها مصلحة وسُنّة
نقتدي بها (قال) سهل (وصفح القوم) بفتح الصاد المهملة
والفاء المشددة بعدها حاء مهملة أي صفقوا تنبيهًا لأبي بكر
على حضوره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وكان أبو
بكر إذا دخل في الصلاة لم يلتفت حتى يفرغ) منها (فلما رأى
التصفيح لا يمسك عليه) بضم التحتية وسكون الميم مبنيًّا
للمفعول (التفت) -رضي الله عنه- (فرأى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خلفه) فأراد أن يتأخر (فأومأ
إليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد أبو
ذر بيده أي أشار إليه بها (أن امضه) أمر بالمضي والهاء
للسكت أي امض في صلاتك (وأومأ بيده هكذا) أي أشار إليه
بالمكث في مكانه (ولبث أبو بكر) في مكانه (هنية) بضم الهاء
وفتح النون والتحتية المشددة زمانًا يسيرًا حال كونه (يحمد
الله) ولأبي ذر عن الكشميهني فحمد الله (على قول النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم مشى القهقرى) رجع
إلى خلف (فلما- رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ذلك) الذي فعله أبو بكر (تقدم) إلى موضع
الإمامة (فصلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بالناس فلما قضى صلاته قال):
(يا أبا بكر ما منعك إذ) بسكون الذال (أومأت) أشرت (إليك)
أن تمكث في مكانك (أن لا تكون مضيت) في صلاتك فيه (قال)
أبو بكر -رضي الله عنه- (لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤمّ
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولم يقل لم
يكن لي أو لأبي بكر هضمًا لنفسه وتواضعًا وأبو قحافة كنية
والد أبي بكر -رضي الله عنهما- (وقال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (للقوم: إذا نابكم) أي أصابكم ولأبوي
ذر والوقت والأصيلي: ربكم أي حدث لكم (أمر فليسبح الرجال)
أي يقولوا سبحان الله (وليصفح النساء) أي يصفقن بأن يضربن
بأيديهن على ظهر الأخرى.
وفي الحديث جواز مباشرة الحاكم الصلح بين الخصوم وجواز
ذهاب الحاكم إلى موضع الخصوم للفصل بينهم إذا اضطر الأمر
لذلك.
والحديث سبق في الصلاة في باب من دخل ليؤم الناس.
37 - باب يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا
عَاقِلاً
(باب) بالتنوين (يستحب للكاتب) للحكم (أن يكون أمينًا) في
كتابته بعيدًا من الطمع مقتصرًا على أجرة المثل (عاقلاً)
غير مغفل لئلا يخدع.
7191 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو
ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: بَعَثَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ
لِمَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى فَقَالَ:
إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ
بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ
الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِى الْمَوَاطِنِ
كُلِّهَا، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّى أَرَى
أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ: كَيْفَ
أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ
وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِى فِى
ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ
لَهُ صَدْرَ عُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَى
عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنَّكَ رَجُلٌ
شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ
الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ قَالَ
زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِى نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ
الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَىَّ مِمَّا
كَلَّفَنِى مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ
تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُرَاجَعَتِى
حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ اللَّهُ
لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ
الَّذِى رَأَيَا فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ
الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ
الرِّجَالِ، فَوَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ {لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] إِلَى
آخِرِهَا مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِى خُزَيْمَةَ
فَأَلْحَقْتُهَا فِى سُورَتِهَا وَكَانَتِ الصُّحُفُ
عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ حَتَّى
تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ اللِّخَافُ:
يَعْنِى الْخَزَفَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبيد الله) بضم العين ابن محمد
بن زيد (أبو ثابت) مولى عثمان بن عفان القرشي المدني
الفقيه قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري (عن عبيد بن السباق) بضم العين في الأوّل وفتح
المهملة والموحدة المشددة وبعد الألف قاف الثقفي (عن زيد
بن ثابت) الأنصاري الخزرجي كاتب الوحي رضي الله تعالى عنه
أنه (قال: بعث إلي) بتشديد الياء (أبو بكر) الصديق -رضي
الله عنه- (لمقتل) ولأبي ذر عن الحموي مقتل بإسقاط اللام
والنصب (أهل اليمامة) من اليمن وبها قتل مسيلمة ومن القراء
سبعون أو سبعمائة (وعنده عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه-
(فقال) لي (أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد
استحرّ) بالسين المهملة الساكنة بعدها فوقية فحاء مهملة
فراء مشددة اشتدّ وكثر (يوم اليمامة بقرّاء القرآن) وسقط
للكشميهني قد من قوله قد استحر (وإني أخشى أن يستحر) يشتد
(القتل بقرّاء القرآن في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير
وإني أرى أن
تأمر بجمع القرآن) قال أبو بكر لزيد (قلت) لعمر (كيف أفعل
شيئًا لم يفعله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال) لي (عمر: هو) أي جمعه (والله خير).
واستشكل التعبير بخير الذي هو أفعل التفضيل لأنه يلزم من
فعلهم هذا أن يكون خيرًا من تركه في الزمن النبوي وأجيب:
بأنه خير بالنسبة لزمانهم والترك كان خيرًا في الزمن
النبوي لعدم تمام النزول واحتمال النسخ إذ لو جمع بين
الدفتين وسارت به
(10/254)
الركبان إلى البلدان ثم نسخ لأدّى ذلك إلى
اختلاف عظيم قال أبو بكر: (فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى
شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر ورأيت في ذلك الي رأى
عمر قال زيد قال) لي (أبو بكر) -رضي الله عنه-: (وإنك) يا
زيد وللكشميهني إنك (رجل) بإسقاط الواو وأشار بقوله (شاب)
إلى حدّه ونظره وقوّة ضبطهِ (عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب
الوحي لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
ذكر له أربع صفات مقتضية لخصوصيته بذلك. كونه شابًّا فيكون
أنشط لذلك، وكونه عاقلاً فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم
فتركن النفس إليه، وكونه كان كاتب الوحي فيكون أكثر ممارسة
له. وقول ابن بطال عن المهلب إنه يدل على أن العقل أجلّ
الخصال المحمودة لأنه لم يوصف زيد بأكثر من العقل وجعله
سببًا لائتمانه ورفع التهمة عنه، تعقبه في الفتح بأن أبا
بكر ذكر عقب الوصف المذكور قد كنت تكتب الوحي، فمن ثم
اكتفى بوصفه بالعقل لأنه لو لم تثبت أمانته وكفايته وعقله
لما استكتبه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الوحي، وإنما وصفه بالعقل وعدم الاتهام دون ما عداهما
إشارة إلى استمرار ذلك له وإلاّ فمجرد قوله لا نتهمك مع
قوله عاقل لا يكفي في ثبوت الأمانة والكفاية فكم من بارع
في العقل والمعرفة وجدت منه الخيانة (فتتبع القرآن فاجمعه)
بالفاء ولأبي ذر واجمعه (قال زيد: فوالله لو كلفني) أبو
بكر (نقل جبل من الجبال ما كان) نقله (بأثقل عليّ) بتشديد
الياء (مما كلفني به) أبو بكر (من جمع القرآن. قلت): أي
للعمرين (كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال أبو بكر) -رضي الله
عنه-: (هو والله خير فلم يزل يحث) بالمثلثة بعد المهملة
المضمومة ولأبي ذر يحب (مراجعتي) بالموحدة بدل المثلثة وضم
أوله (حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر
وعمر ورأيت في ذلك الذي رأيا فتتبعت القرآن) حال كوني
(أجمعه من العسب) بضم العين والسين المهملتين آخره موحدة
جريد النخل العريض المكشوط عنه الخوص المكتوب فيه
(والرقاع) بالراء المكسورة والقاف وبعد الألف عين مهملة
جمع رقعة من جلد أو ورق وفي رواية أخرى وقطع الأديم
(واللخاف) باللام المشدّدة المكسورة والمعجمة وبعد الألف
فاء الحجارة الرقيقة أو الخزف كما في هذا الباب (وصدور
الرجال) الذين حفظوه وجمعوه في صدورهم فى حياته -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كاملاً كأُبي بن كعب ومعاذ بن
جبل (فوجدت آخر سورة التوبة {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}
[التوبة: 128، 129] إلى آخرها مع خزيمة) بن ثابت بن الفاكه
بالفاء والكاف المكسورة الأنصاري الأوسي الذي جعل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهادته شهادة رجلين
(أو أبي خزيمة) بن أوس بن يزيد وهو مشهور بكنيته الأنصاري
النجاري بالشك. وعند أحمد والترمذي من رواية عبد الرحمن بن
مهدي عن إبراهيم بن سعد مع خزيمة بن ثابت، وفي رواية شعيب
في آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري، وفي مسند الشاميين
من طريق أبي اليمان عند الطبراني
خزيمة بن ثابت الأنصاري، لكن قول من قال مع أبي خزيمة أصح،
وقد اختلف فيه على الزهري فمن قائل مع أبي خزيمة ومن قائل
مع خزيمة ومن شاكّ فيه يقول خزيمة أو أبي خزيمة، والأرجح
أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة بالكنية والذي
معه آية الأحزاب خزيمة. وعند أبي داود في كتاب المصاحف من
طريق ابن إسحاق حدّثني يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد
الله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزمة إلى عمر بهاتين
الآيتين {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [التوبة: 128 - 129]
إلى آخر السورة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووعيتهما فقال عمر:
وأنا أشهد لقد سمعتهما. وخزمة قال في الإصابة: بفتح
المعجمة والزاي ابن عدي بن أبي غنم بن سالم الخزرجي
الأنصاري (فألحقتها في سورتها. وكانت الصحف) التي كتبوا
فيها القرآن ولأبي ذر عن الكشميهني فكانت بالفاء بدل الواو
(عند أبي بكر) -رضي الله عنه- (حياته حتى توفاه الله عز
وجل، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت
عمر) -رضي الله عنهما-.
(قال محمد بن
(10/255)
عبيد الله) بضم العين ابن محمد بن زيد مولى
عثمان بن عفان شيخ البخاري المذكور أول هذا الباب (اللخاف)
المذكور في الحديث (يعني) به: (الخزف) بالخاء والزاي
المعجمتين ثم فاء وفي الحديث اتخاذ الحاكم الكاتب وأن يكون
الكاتب عاقلاً فطنًا مقبول الشهادة، ومراجعة الكاتب للحاكم
في الرأي ومشاركته له فيه.
والحديث سبق في براءة وغيرها.
38 - باب كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ وَالْقَاضِى
إِلَى أُمَنَائِهِ
(باب كتاب الحاكم إلى عماله) بضم العين وتشديد الميم جمع
عامل وهو من يوليه على بلد يجمع خراجها أو زكاتها ونحو ذلك
(و) كتاب (القاضي إلى أمنائه) بضم الهمزة جمع أمين وهو من
يوليه في ضبط أموال الناس كالجباة.
7192 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِى لَيْلَى ح حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ أَبِى لَيْلَى
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ،
عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ
وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ
جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِى فَقِيرٍ -أَوْ عَيْنٍ-
فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ
قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا: مَا قَتَلْنَاهُ وَاللَّهِ، ثُمَّ
أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ
وَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ، وَهْوَ أَكْبَرُ
مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ
لِيَتَكَلَّمَ وَهْوَ الَّذِى كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَالَ
النَّبِىُّ لِمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» يُرِيدُ
السِّنَّ. فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ
مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ،
وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ» فَكَتَبَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ
بِهِ فَكُتِبَ مَا قَتَلْنَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحُوَيِّصَةَ
وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ
وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» قَالُوا: لاَ قَالَ:
«أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ
يَهُودُ»؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ
عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتِ الدَّارَ.
قَالَ سَهْلٌ: فَرَكَضَتْنِى مِنْهَا نَاقَةٌ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) الدمشقي ثم التنيسي
الكلاعي الحافظ قال: (أخبرنا مالك) هو ابن أنس الإمام (عن
أبي ليلى) بفتح اللامين بينهما تحتية ساكنة (ح) للتحويل
قال المؤلّف:
(حدّثنا) ولأبي ذر والأصيلي وحدّثنا بواو العطف (إسماعيل)
بن أبي أويس قال: (حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن أبي
ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل) بسكون الهاء بعد
فتح السين الأنصاري المدني ويقال اسمه عبد الله (عن سهل بن
أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة ابن ساعدة بن
عامر الأنصاري الخزرجي المدني صحابي صغير (أنه أخبره هو
ورجال من كبراء قومه) أي عظمائهم (أن عبد الله بن سهل) أي
ابن زيد بن كعب الحارثي (ومحيصة) بضم الميم وفتح الحاء
المهملة وتشديد التحتية المكسورة وفتح الصاد المهملة ابن
مسعود بن كعب الحارثي (خرجا إلى خيبر من جهد) فقر شديد
(أصابهم) ليمتارا تمرًا (فأخبر) بضم الهمزة وكسر الموحدة
(محيصة أن عبد الله) بن سهل (قتل وطرح) بضم أولهما (في
فقير) بفتح الفاء وكسر القاف أي في حفيرة. قال في الصحاح:
والفقير حفير يحفر حول الفسيلة إذا غرست تقول منه فقرت
للودية تفقيرًا (أو) قال: طرح في (عين) بالشك من الراوي.
وعند محمد بن إسحاق فوجد في عين قد كسرت عنقه وطرح فيها
(فأتى) محيصة (يهود فقال) لهم: (أنتم والله قتلتموه) قاله
لقرائن قامت عنده أو نقل إليه بخبر يوجب العلم (قالوا):
مقابلة لليمين باليمين (ما قتلناه والله ثم أقبل) محيصة
(حتى قدم على قومه فذكر لهم) ذلك (وأقبل) ولأبي ذرّ فأقبل
بالفاء بدل الواو محيصة (هو وأخوه حويصة) بضم الحاء
المهملة وفتح الواو وتشديد التحتية مكسورة بعدها صاد مهملة
على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وهو)
أي حويصة (أكبر منه) أي من أخيه محيصة (عبد الرحمن بن سهل)
أخو المقتول (فذهب) أي محيصة (ليتكلم وهو الذي كان بخيبر
فقال لمحيصة): ولغير أبي ذر فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمحيصة في رواية أخرى فذهب عبد الرحمن
يتكلم فيجوز أن يكون كل من عبد الرحمن ومحيصة أراد أن تكلم
فقال عليه الصلاة والسلام: (كبر كبر) أي قدم الأكبر (يريد
السن فتكلم حويصة) الذي هو أسن (ثم تكلم محيصة) أخوه وفي
القسامة فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا
أحدنا قتيلاً (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(إما أن يدوا صاحبكم) بفتح التحتية وتخفيف الدال المهملة
أي إما أن يعطي اليهود دية صاحبكم (وإما أن يؤذنوا بحرب،
فكتب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليهم
به) أي إلى أهل خيبر بالخبر الذي نقل إليه (فكتب) بضم
الكاف في الفرع كأصله وفي غيرهما بفتحها. قال في الكواكب:
أي كتب الحيّ المسمى باليهود قال وفيه تكلف. وقال في
الفتح. أي الكاتب عنهم لأن الذي يباشر الكتابة واحد. قال
العيني: وفيه تكلف وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني فكتبوا
أي اليهود (ما قتلناه).
وهذه الرواية أوجه وعلى رواية كتب بالضم يكون ما قتلناه في
موضع رفع وزاد في رواية ولا علمنا قاتله (فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحويصة ومحيصة وعبد
الرحمن) أخي المقتول (أتحلفون) بهمزة الاستفهام (وتستحقون
دم صاحبكم) أي بدل دم صاحبكم فحذف المضاف أو صاحبكم معناه
غريمكم فلا يحتاج إلى تقدير والجملة فيها
(10/256)
معنى التعليل لأن المعنى أتحلفون لتستحقوا
وقد جاءت الواو بمعنى التعليل في قوله تعالى: {أو يوبقهن
بما كسبوا ويعف عن كثير} [الشورى: 34] المعنى ليعفو.
واستشكل عرض اليمين على الثلاثة وإنما هي لأخي المقتول
خاصة. وأجاب في الكواكب: بأنه كان معلومًا عندهم الاختصاص
به وإنما أطلق الخطاب لهم لأنه كان لا يعمل شيئًا إلا
بمشورتهما إذ هو كالولد لهما.
(قالوا) ولأبي ذر فقالوا (لا) نحلف (قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم (أفتحلف لكم يهود) أنهم ما قتلوه
(قالوا) يا رسول الله (ليسوا بمسلمين) وفي الأحكام قالوا
لا نرضى بأيمان اليهود وفي رواية أبي قلابة ما يبالون أن
يقتلونا أجمعين ثم يحلفون (فوداه) بتخفيف الدال المهملة من
غير همز فأعطى ديته (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من عنده مائة ناقة حتى أدخلت) النوق (الدار.
قال سهل) أي ابن أبي حثمة (فركضتني منها ناقة). وفي رواية
محمد بن إسحاق فوالله ما أنسى ناقة بكرة منها حمراء ضربتني
وأنا أحوزها. وفي القسامة فوداه مائة من إبل الصدقة ولا
تنافي بينهما لاحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة
والمال الذي اشترى به من عنده أو من مال بيت المال المرصد
للمصالح لما في ذلك من مصلحة قطع النزاع وإصلاح ذات البين
وجبرًا لخاطرهم وإلا فاستحقاقهم لم يثبت، وقد حكى القاضي
عياض عن بعضهم تجويز صرف الزكاة في المصالح العامة وتأوّل
الحديث عليه.
واستشكل وجه المطابقة بين الحديث والترجمة لأنه ليس في
الحديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتب إلى
نائبه ولا أمينه وإنما كتب إلى الخصوم أنفسهم. وأجاب ابن
المنير: بأنه يؤخذ من مشروعية مكاتبة الخصوم جواز مكاتبة
النوّاب في حق غيرهم بطريق الأولى، والحديث سبق في
القسامة.
39 - باب هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلاً
وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِى الأُمُورِ؟
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (هل يجوز للحاكم أن يبعث
رجلاً حال كونه وحده للنظر) أي لأجل النظر ولأبي ذر عن
المستملي والكشميهني ينظر (في الأمور)؟ المتعلقة بالمسلمين
وجواب الاستفهام في الحديث.
7193 - 7194 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى
ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ قَالاَ: جَاءَ أَعْرَابِىٌّ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ
بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ:
صَدَقَ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ
الأَعْرَابِىُّ: إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا
فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَقَالُوا لِى: عَلَى ابْنِكَ
الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِى مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ
الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ
فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ
وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ
اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ
عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ
عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ» لِرَجُلٍ «فَاغْدُ
عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا» فَغَدَا عَلَيْهَا
أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا.
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا ابن أبي
ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب
واسمه هشام قال: (حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم (عن عبيد
الله) بضم العين (ابن عبد الله) بن عتبة بن مسعود أحد
الفقهاء السبعة (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (وزيد بن
خالد الجهني) -رضي الله عنهما- أنهما (قالا: جاء أعرابي)
واحد الأعراب وهم سكان البوادي (فقال: يا رسول الله اقضِ
بيننا بكتاب الله) أي بما تضمنه أو بحكم الله المكتوب على
المكلفين (فقام خصمه) هو في الأصل مصدر خصمه يخصمه إذا
نازعه وغالبه ثم أطلق على المخاصم وصار اسمًا له فلذا يطلق
على المفرد والمذكر وفروعهما ولم يسم الخصم وزاد في رواية
وكان أفقه منه (فقال: صدق) يا رسول الله وفي رواية نعم
(فاقض بيننا بكتاب الله). قال البيضاوي: إنما تواردا على
سؤال الحكم بكتاب الله مع أنهما يعلمان أنه لا يحكم إلا
بحكم الله ليفصل بينهما بالحق الصرف لا بالمصالحة والأخذ
بالأرفق لأن للحاكم أن يفعل ذلك برضا الخصمين (فقال
الأعرابي: إن ابني كان عسيفًا) فعيل بمعنى مفعول كأسير
بمعنى مأسور وقيل بمعنى فاعل كعليم بمعنى عالم أي أجيرًا
(على) خدمة (هذا) أو على بمعنى عند أي عنده أو بمعنى اللام
أي أجيرًا لهذا (فزنى بامرأته) معطوف على كان عسيفًا ولم
تسم المرأة (فقالوا لي: على ابنك الرجم) بالرفع ولأبي ذر
عن الحموي والمستملي أن على ابنك الرجم بزيادة ونصب الرجم
اسمها (ففديت ابني منه) من الرجم (بمائة من الغنم ووليدة)
فعيلة بمعنى مفعولة أمة (ثم سألت أهل العلم فقالوا) لي
(إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لأقضين بينكما بكتاب الله) أي بحكم الله وهو أولى من
التفسير بما تضمنه القرآن لأن الحكم فيه التغريب والتغريب
ليس مذكورًا فيه. نعم يحتمل أن يكون أراد ما كان متلوًّا
فيه، ونسخت تلاوته وبقي حكمه وهو: الشيخ والشيخة إذا زنيا
(10/257)
فارجموهما البتّة نكالاً من الله لكن يبقى
التغريب (أما الوليدة والغنم فردّ) أي مردودة (عليك) فأطلق
المصدر على المفعول كقوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان:
11] أي مخلوقه (وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام). مصدر غرب
مضاف إلى ظرفه لأن التقدير أن يجلد مائة وأن يغرب عامًّا
وليس هو ظرفًا على ظاهره مقدّرًا بفي لأنه ليس المراد
التغريب فيه حتى يقع في جزء منه بل المراد أن يخرج فيلبث
عامًا فيقدّر يغرب بيغيب أي يغيب عامًا وهذا يتضمن أن ابنه
كان غير محصن واعترف بالزنا فإن إقرار الأب عليه غير مقبول
نعم إن كان من باب الفتوى فيكون معناه إن كان ابنك زنى وهو
بكر فحده ذلك (وأما
أنت يا أنيس) بضم الهمزة وفتح النون مصغرًا (لرجل) من أسلم
وهو ابن الضحاك (فاغد) بالغين المعجمة (على امرأة هذا) أي
ائتها غدوة أو امش إليها (فارجمها) إذا اعترفت (فغدا عليها
أنيس) فاعترفت (فرجمها). وفي رواية الليث: فاعترفت فأمر
بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرجمت،
وظاهره كما في الفتح أن ابن أبي ذئب اختصره فقال: فغدا
عليها أنيس فرجمها أو فرجمها أنيس لأنه كان حاكمًا في ذلك،
وعلى رواية الليث يكون رسولاً ليسمع إقرارها وتفيذ الحكم
منه عليه الصلاة والسلام.
واستشكل من حيث كونه اكتفى في ذلك بشاهد واحد. وأجيب: بأنه
ليس في الحديث نص بانفراده بالشهادة فيحتمل أن غيره شهد
عليها، واستدلّ به على وجوب الأعذار والاكتفاء فيه بشاهد
واحد، وأجاب القاضي عياض باحتمال أن يكون ذلك ثبت عند
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشهادة هذين
الرجلين.
قال في الفتح: والذي تقبل شهادته من الثلاثة والد العسيف
فقط، وأما العسيف والزوج فلا. قال: وغفل بعض من تبع القاضي
عياضًا فقال: لا بدّ من هذا الحمل وإلاّ لزم الاكتفاء
بشهادة واحد في الإقرار بالزنا ولا قائل به، ويمكن
الانفصال عن هذا بأن أنيسًا بعث حاكمًا فاستوفى شروط الحكم
ثم استأذن في رجمها فأذن له في رجمها وكيف يتصوّر من
الصورة المذكورة إقامة الشهادة عليها من غير تقدم دعوى
عليها ولا على وكيلها مع حضورها في البلد غير متوارية إلا
أن يقال إنها شهادة حسيّة؟ فيجاب: بأنه لم يقع هناك صيغة
الشهادة المشروطة في ذلك. وقال المهلب: فيه حجة لمالك في
جواز إنفاذ الحاكم رجلاً واحدًا في الأعذار وفي أن يتخذ
واحدًا يثق به يكشف له عن حال الشهود في السر كما يجوز له
قبول الفرد فيما طريقه الخبر لا الشهادة، والحكمة في إيراد
البخاري الترجمة بصيغة الاستفهام كما نبه عليه في فتح
الباري الإشارة إلى خلاف محمد بن الحسن مما نقله ابن بطال
عنه حيث قال: لا يجوز للقاضي أن يقول: أقر عندي فلان بكذا
الشيء يقضي به عليه من قتل أو مال أو عتق أو طلاق حتى يشهد
معه على ذلك غيره، وادّعى أن مثل هذا الحكم الذي في حديث
الباب خاص بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: وينبغي أن يكون في مجلس القاضي أبدًا عدلان يسمعان من
يقر ويشهدان على ذلك فينفذ الحكم بشهادتهما.
والحديث سبق في الصلح والأيمان والنذور والمحاربين
والوكالة.
40 - باب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ
تُرْجُمَانٌ وَاحِدٌ؟
(باب ترجمة الحكام) بصيغة الجمع ولأبي ذر عن الكشميهني
الحاكم والترجمة تفسير الكلام بلسان غير لسانه يقال ترجم
كلامه إذا فسره بلسان آخر (وهل يجوز ترجمان واحد)؟ بفتح
الفوقية وضمها قال أبو حنيفة وأحمد يكفي واختاره البخاري
وآخرون وقال الشافعي وأحمد في رواية عنه إذا لم يعرف
الحاكم لسان الخصم لا يقبل فيه إلا عدلان كالشهادة وقال
أشهب وابن نافع عن مالك يترجم له ثقة مسلم مأمون واثنان
أحب إليّ.
7195 - وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: عَنْ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ
الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ
إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَقَالَ عُمَرُ: وَعِنْدَهُ
عَلِىٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعُثْمَانُ مَاذَا تَقُولُ
هَذِهِ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ فَقُلْتُ:
تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهِمَا الَّذِى صَنَعَ بِهِمَا وَقَالَ
أَبُو جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَبَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ بُدَّ
لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ.
(وقال خارجة بن زيد بن ثابت) فيما وصله البخاري في تاريخه
(عن) أبيه (زيد بن ثابت) -رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره أن يتعلم كتاب اليهود)
أي كتابتهم يعني خطهم ولأبي ذر عن الكشميهني كتاب اليهودية
بياء النسبة (حتى كتبت للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كتبه) إليهم (وأقرأته كتبهم) أي التي يكتبونها
(إذا كتبوا إليه)
(10/258)
وقد وصله مطوّلاً في الذبائح بلفظ قال: أتى
بي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقدمه
المدينة فأعجب بي فقيل له: هذا غلام من بني النجار قد قرأ
مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فاستقرأني فقرأت ق فقال
لي: تعلم كتاب اليهود فإني لا آمن يهود على كتابي فتعلمته
في نصف شهر حتى كتبت له إلى يهود وأقرأ له إذا كتبوا إليه.
(وقال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (و) الحال أن (عنده
عليّ) أي ابن أبي طالب (وعبد الرحمن) بن عوف (وعثمان) بن
عفان -رضي الله عنهم- (ماذا تقول هذه)؟ المرأة وكانت حاضرة
عندهم (قال عبد الرحمن بن حاطب) بالحاء والطاء المهملتين
بينهما ألف آخره موحدة ابن أبي بلتعة مترجمًا عنها لعمر عن
قولها إنها حملت من زنا من عبد اسمه برغوس بالراء والغين
المعجمة والسين المهملة لأنها كانت نوبية بضم النون وكسر
الموحدة وتشديد التحتية أعجمية من جملة عتقاء حاطب (فقلت)
يا أمير المؤمنين (تخبرك بصاحبهما الذي صنع بهما) وصله عبد
الرزاق وسعيد بن منصور نحوه ولأبي ذر بصاحبها الذي صنع
بها.
(وقال أبو جمرة): بالجيم المفتوحة وسكون الميم نصر بن
عمران الضبعي البصري (كنت أترجم بين ابن عباس) -رضي الله
عنهما- (وبين الناس) زاد النسائي فيما وصله عنه فأتته
امرأة فسألته عن نبيذ الجرّ فنهى عنه الحديث. وسبق في كتاب
العلم عند المؤلّف.
(وقال بعض الناس): محمد بن الحسن وكذا الشافعي (لا بدّ
للحاكم من مترجمين) بكسر الميم بصيغة الجمع قال ابن قرقول
لأنه لا بد له عمن يتكلم بغير لسانه وذلك يتكرر فيتكرر
المترجمون وروي بفتح الميم بصيغة التثنية وهو المعتمد كما
في الفتح.
7196 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ
أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ
قُرَيْشٍ
ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّى سَائِلٌ
هَذَا فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ إِنْ كَانَ مَا
تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ
هَاتَيْنِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن
عبد الله) بن عتبة بن مسعود (أن عبد الله بن عباس) -رضي
الله عنهما- (أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل)
قيصر ملك الروم (أرسل إليه) حال كونه (في) أي مع (ركب من
قريش) ثلاثين رجلاً (ثم قال) هرقل (لترجمانه: قل لهم إني
سائل هذا) أي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فإن كذبني) بالتخفيف أي نقل إليّ كذبًا
(فكذبوه) بالتشديد (فذكر الحديث. فقال) هرقل (للترجمان: قل
له) أي لأبي سفيان (إن كان ما تقول) من أوصافه الشريفة
(حقًّا فسيملك) بضم اللام في اليونينية مع كشط تحت اللام
(موضع قدمي هاتين). أرض بيت المقدس أو أرض ملكه.
واستشكل دخول هذا الحديث هنا من جهة أن فعل هرقل الكافر لا
يحتجّ به. وأجيب: بأنه يؤخذ من صحة استدلاله فيما يتعلق
بالنبوّة والرسالة أنه كان مطّلعًا على شرائع الأنبياء
فتحمل تصرفاته على وقف الشريعة التي كان متمسكًا بها،
وأيضًا تقرير ابن عباس وهو من الأئمة الذين يقتدى بهم على
ذلك، ومن ثم احتج باكتفائه بترجمة أبي جمرة له فالأمران
راجعان لابن عباس أحدهما من تصرفه والآخر من تقريره، فإذا
انضم إلى ذلك نقل عمر ومن معه من الصحابة ولم ينقل عن غيره
خلافه قويت الحجة. واختلف هل يكفي ترجمان واحد؟ قال محمد
بن الحسن: لا بدّ من رجلين أو رجل وامرأتين. وقال الشافعي:
هو كالبيّنة. وعن مالك روايتان، ونقل الكرابيسي عن مالك
والشافعي الاكتفاء بترجمان واحد فيرجع الخلاف إلى أنها
أخبار أو شهادة قاله في فتح الباري.
41 - باب مُحَاسَبَةِ الإِمَامِ عُمَّالَهُ
(باب محاسبة الإمام عماله) بضم العين جمع عامل ولأبي ذر مع
عماله.
7197 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ،
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِى حُمَيْدٍ السَّاعِدِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَعْمَلَ ابْنَ
الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، فَلَمَّا
جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَحَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا الَّذِى لَكُمْ
وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَهَلاَّ
جَلَسْتَ فِى بَيْتِ أَبِيكَ وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى
تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا» ثُمَّ قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ
ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَسْتَعْمِلُ
رِجَالاً مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلاَّنِى اللَّهُ
فَيَأْتِى أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ
هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى فَهَلاَّ جَلَسَ فِى بَيْتِ
أَبِيهِ وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ
إِنْ كَانَ صَادِقًا فَوَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ
مِنْهَا شَيْئًا» قَالَ هِشَامٌ: «بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ
جَاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ فَلأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ
اللَّهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بِبَقَرَةٍ
لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ» ثُمَّ رَفَعَ
يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ «أَلاَ هَلْ
بَلَّغْتُ»؟
وبه قال: (حدّثنا محمد) هو ابن سلام قال: (أخبرنا عبدة) بن
سليمان قال: (حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير
(عن أبي حميد) بضم الحاء المهملة وفتح الميم (الساعدي)
-رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- استعمل ابن الأتبية) بضم الهمزة بعدها مثناة
فوقية مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية مشددة. وفي رواية
اللتبية باللام المضمومة بدل الهمزة وفتح المثناة الفوقية.
قال القاضي عياض: وضبطه الأصيلي بخطه في باب هدايا العمال
بضم اللام وسكون المثناة وكذا قيده ابن السكن وقال: إنه
الصواب
(10/259)
واسمه عبد الله واللتبية أمه (على صدقات
بني سليم) بضم السين وفتح اللام (فلما جاء إلى رسول الله)
ولأبي ذر إلى النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حاسبه) على ما قبض وصرف (قال) لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (هذا الذي لكم وهذه) وللكشميهني وهذا
(هدية أهديت لي فقال رسول الله) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) له:
(فهلا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ألا بفتح الهمزة
وتشديد اللام وهما بمعنى (جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى
تأتيك هديتك إن كنت صادقًا) في دعواك (ثم قام رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخطب الناس وحمد
الله) ولأبي ذر فحمد الله بالفاء بدل الواو (وأثنى عليه ثم
قال: أما بعد) أي بعدما ذكر من حمد الله والثناء عليه
(فإني أستعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاَّني الله فيأتي
أحدكم) ولأبي ذر أحدهم (فيقول هذا لكم وهذه هدية أهديت لي
فهلا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي إلا (جلس في بيت أبيه
وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا فوالله لا يأخذ
أحدكم منها) من الصدقة التي قبضها (شيئًا، قال هشام) أي
ابن عروة (بغير حقه إلا جاء الله يحمله) أي الذي أخذه (يوم
القيامة) ولم يقع قوله قال هشام عند مسلم في رواية ابن
نمير عن هشام بدون قوله بغير حقه. قال في الفتح: وهو مشعر
بإدراجها (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام (فلأعرفن) اللام
جواب القسم ولأبي ذر عن المستملي فلا أعرفن بألف بعد فلا
بلفظ النفي (ما جاء الله رجل) يحتمل أن تكون ما موصولة
بمعنى من أطلقت على صفة من يعقل وهو الجائي ورجل فاعل مقدر
أي جاءه رجل ويحتمل أن تكون مصدرية أي فلأعرفن مجيء رجل
إلى الله (ببعير له رغاء) بضم الراء وتخفيف المعجمة ممدود
صوت (أو بقرة لها خوار) بضم الخاء المعجمة وتخفيف الواو
صوت (أو شاة تيعر) بفتح الفوقية وسكون التحتية وفتح العين
المهملة بعدها راء تصوّت (ثم رفع) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يديه) بالتثنية (حتى رأيت بياض
إبطيه) وفي باب هدايا العمال حتى رأينا عفرتي إبطيه
والعفرة بضم المهملة وسكون الفاء بياض ليس بالمناصع قائلاً
(ألا) بالتخفيف (هل بلغت). حكم الله إليكم وأعادها في
الباب المذكور ثلاثًا.
وفيه مشروعية محاسبة العمال ومنعهم من قبول الهدية ممن لهم
عليه حكم وسبق الحديث في باب هدايا العمال وغيره.
42 - باب بِطَانَةِ الإِمَامِ وَأَهْلِ مَشُورَتِهِ
الْبِطَانَةُ: الدُّخَلاَءُ.
(باب بطانة الإمام وأهل مشورته) بفتح الميم وضم الشين
المعجمة وفتح الراء اسم من شاورت فلانًا في كذا والمعنى
عرضت عليه أمري حتى يدلني على الصواب منه وهو من عطف الخاص
على العام قال البخاري مما نقله عن أبي عبيد:
(البطانة) بكسر الموحدة في قوله تعالى: ({لا تتخذوا بطانة
من دونكم} [آل عمران: 118] (الدخلاء) بضم الدال المهملة
وفتح الخاء المعجمة ممدود جمع دخيل وهو الذي يدخل على
الرئيس في مكان خلوته ويفضي إليه سره ويصدقه فيما يخبره به
مما يخفى عليه من أمور رعيته ويعمل بمقتضاه. وقال الزمخشري
في قوله تعالى: {لا تتخذوا بطانة من دونكم} الآية. بطانة
الرجل ووليجته خصيصه الذي يفضي إليه بحوائجه ثقة به شبه
ببطانة الثوب كما يقال فلان شعاري.
7198 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ
قَالَ: أَخْبَرَنِى يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِىٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ
خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ
تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ
وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ،
فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى». وَقَالَ
سُلَيْمَانُ: عَنْ يَحْيَى، أَخْبَرَنِى ابْنُ شِهَابٍ
بِهَذَا وَعَنِ ابْنِ أَبِى عَتِيقٍ وَمُوسَى عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ مِثْلَهُ وَقَالَ شُعَيْبٌ: عَنِ الزُّهْرِىِّ
حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَوْلَهُ:
وَقَالَ الأَوْزَاعِىُّ: وَمُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ
حَدَّثَنِى الزُّهْرِىُّ حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ ابْنُ أَبِى حُسَيْنٍ،
وَسَعِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى
سَعِيدٍ قَوْلَهُ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى
جَعْفَرٍ حَدَّثَنِى صَفْوَانُ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ
أَبِى أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا أصبغ) بالمهملة والموحدة المفتوحة ثم
المعجمة ابن الفرج المصري قال: (أخبرنا) ولأبي ذر: حدّثنا
(ابن وهب) عبد الله المصري قال: (أخبرني) بالإفراد (يونس)
بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن أبي
سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي سعيد) سعد بن مالك
(الخدري) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما بعث الله من نبي ولا استخلف) بعده (من خليفة إلا كانت
له بطانتان) والبطانة مصدر وضع موضع الاسم يسمى به الواحد
والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث (بطانة تأمره بالمعروف)
وفي رواية سليمان بن بلال بالخير بدل قوله بالمعروف (وتحضه
عليه) بحاء مهملة مضمومة وضاد معجمة مشدّدة ترغبه فيه
وتحثه عليه (وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه). وهذا متصوّر
في بعض الخلفاء لا في الأنبياء، فلا يلزم من وجود من يشير
عليهم
(10/260)
بالشر قبولهم منه للعصمة كما قال:
(فالمعصوم) بالفاء (من عصم الله تعالى) أي من عصمه الله من
نزغات الشيطان فلا يقبل بطانة الشر
أبدًا، وهذا هو منصب النبوّة الذي لا يجوز عليهم غيره وقد
يكون لغيرهم بتوفيقه تعالى، وفي الولاة من لا يقبل إلا من
بطانة الشر وهو الكثير في زماننا هذا فلا حول ولا قوّة إلا
بالله، والمراد بالبطانتين الوزيران.
وفي حديث عائشة مرفوعًا: "من ولي منكم عملاً فأراد الله به
خيرًا جعل له وزيرًا صالحًا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه".
ويحتمل أن يكون المراد بالبطانتين الملك والشيطان، ويحتمل
كما قال الكرماني أن يراد بالبطانتين النفس الأمارة بالسوء
والنفس المطمئنة المحرّضة على الخير والمعصوم مَن أعطاه
الله نفسًا مطمئنة أو لكلٍّ منهما قوّة ملكية وقوّة
حيوانية اهـ.
وقيل المراد بالبطانتين في حق النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الملك والشيطان إليه الإشارة بقوله
عليه الصلاة والسلام "ولكن الله أعانني عليه فأسلم" اهـ.
فيجب على الوالي أن لا يبادر بما يلقى إليه من ذلك حتى
يعرضه على كتاب الله وسُنّة نبيه فما وافقهما اتبعه وما
خالفهما تركه، وينبغي أن يسأل الله تعالى العصمة من بطانة
الشر وأهله ويحرص على بطانة الخير وأهله. قال سفيان
الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة.
والحديث سبق في القدر، وأخرجه النسائي في البيعة والسير.
(وقال سليمان) بن بلال فيما وصله الإسماعيلي (عن يحيى) بن
سعيد الأنصاري أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (ابن شهاب) محمد
بن مسلم الزهري (بهذا) الحديث السابق (وعن ابن أبي عتيق)
هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (وموسى) بن عقبة
فيما وصله عنهما البيهقي كليهما (عن ابن شهاب) الزهري محمد
بن مسلم (مثله) أي مثل الحديث السابق. قال في الكواكب: روى
سليمان عن الثلاثة، لكن الفرق بينهما أن المروي في الطريق
الأولى هو المذكور بعينه وفي الثانية هو مثله اهـ.
وتعقبه في الفتح فقال لا يظهر بينهما فرق، والظاهر أن سر
الإفراد أن سليمان ساق لفظ يحيى ثم عطف عليه رواية الآخرين
وأحال بلفظهما عليه، فأورده البخاري على وفقه، وتعقبه
العيني فقال: كيف ينفى الفرق ومثل الشيء غير عينه.
(وقال شعيب) هو ابن أبي حمزة فيما وصله الذهلي في الزهريات
(عن الزهري) محمد بن مسلم (حدّثني) بالإفراد (أبو سلمة) بن
عبد الرحمن (عن أبي سعيد) الخدري (قوله) نصب بنزع الخافض
أي من قوله لم يرفعه إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
(وقال الأوزاعي): عبد الرحمن بن عمرو فيما وصله الإمام
أحمد (ومعاوية بن سلام) بتشديد اللام الدمشقي فيما وصله
النسائي (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: بالجمع (الزهري)
قال: (حدّثني)
بالإفراد (أبو سلمة) بن عبد الرحمن (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
فجعلاه من حديث أبي هريرة وهو عند شعيب عن أبي سعيد وجعلاه
مرفوعًا وهو عنده موقوفًا.
(وقال ابن أبي حسين) بضم الحاء وهو عبد الله بن عبد الرحمن
بن أبي حسين النوفلي المكي (وسعيد بن زياد) بكسر العين
وكسر زاي زياد وتخفيف التحتية الأنصاري المدني التابعي
الصغير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن أبي سعيد) الخدري
(قوله) أي من قوله لا مرفوعًا.
(وقال عبد الله) بفتح العين في الفرع وصوابه بضمها (ابن
أبي جعفر) يسار المصري بالميم من صغار التابعين مما وصله
النسائي (حدّثني) بالإفراد (صفوان) بن سليم بضم السين مولى
آل عوف (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن أبي أيوب) خالد بن
زيد الأنصاري أنه (قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). فالحديث بحسب الصورة الواقعة مرفوع
من رواية ثلاثة من الصحابة أبي سعيد وأبي هريرة وأبي أيوب،
لكنه على طريقة المحدّثين حديث واحد اختلف على التابعي في
صحابيه فجزم صفوان بأنه عن أبي أيوب، واختلف على الزهري
فيه هل هو أبو سعيد أو أبو هريرة؟ وأما الاختلاف في وقفه
ورفعه فلا يقدح لأن مثله لا يقال من قبل الرأي فسبيله
الرفع، وتقديم البخاري
(10/261)
لرواية أبي سعيد الخدري الموصولة المرفوعة
يؤذن بترجيحها عنده لا سيما مع موافقة ابن أبي حسين وسعيد
بن زياد لمن قال عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد وإذا
لم يبق إلا الزهري وصفوان، فالزهري أحفظ من صفوان بدرجات
قاله في الفتح.
43 - باب كَيْفَ يُبَايِعُ الإِمَامُ النَّاسَ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (كيف يبايع الإمام الناس)؟
بالنصب على المفعولية والإمام فاعل، ولأبي ذر: بنصب الإمام
مفعول مقدّم ورفع الناس على الفاعلية والمراد بالكيفية هنا
الصيغ القولية لا الفعلية كما ستراه إن شاء الله تعالى في
الأحاديث المسوقة في الباب.
7199 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى عُبَادَةُ بْنُ
الْوَلِيدِ قَالَ: أَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
فِى الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ.
وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ
أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِى
اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) إمام الأئمة ودار الهجرة ابن أنس الأصبحي
(عن يحيى بن سعيد) الأنصاري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد
(عبادة بن الوليد) بضم العين وتخفيف الموحدة (قال: أخبرني)
بالإفراد أيضًا (أبي) الوليد (عن) أبيه (عبادة بن
الصامت) -رضي الله عنه- أنه (قال: بايعنا) بفتح التحتية
وسكون العين عاهدنا (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ليلة العقبة بمنى (على السمع والطاعة) له (في
المنشط) بفتح الميم والشين المعجمة بينهما نون ساكنة آخره
طاء مهملة مصدر ميمي من النشاط (والمكره) بفتح الميم
والراء بينهما كاف ساكنة مصدر ميمي أيضًا أي في حال نشاطنا
وحال عجزنا عن العمل بما نؤمر به. وقال السفاقسي: الظاهر
أن المراد في وقت الكسل والمشقّة في الخروج ليطابق قوله في
المنشط، ويؤيده ما عند أحمد من رواية إسماعيل بن عبيد بن
رفاعة عن عبادة في النشاط والكسل. وقال في شرح المشكاة: أي
عاهدناه بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء
وتارتي الضراء والسراء وإنما عبر عنه بصيغة المفاعلة
للمبالغة والإيذان بأنه التزم لهم أيضًا بالأجر والثواب
والشفاعة يوم الحساب على القيام بما التزموا.
(وأن لا ننازع الأمر) أي أمر الملك والولاية (أهله) فلا
نقاتلهم (وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا) والشك هل هي
بالميم أو اللام من الراوي (لا نخاف في) نصرة دين (الله
لومة لائم) من الناس واللومة المرة من اللوم. قال في
الكشاف: وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قال لا نخاف
شيئًا قط من لوم أحد من اللوّام ولومة مصدر مضاف لفاعله في
المعنى، وفيه وجوب السمع والطاعة للحاكم سواء حكم بما
يوافق الطبع أو يخالفه وعدي بايعنا بعلى لتضمنه معنى عاهد
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل زمان ومكان الكبار
والصغار ولا نداهن فيه أحدًا ولا نخافه ولا نلتفت إلى
الأئمة ونحوهم قاله النووي.
والحديث أخرجه مسلم في المغازي.
7201 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِىٍّ، حَدَّثَنَا
خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ
أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ
وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ
فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَهْ ...
فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَأَجَابُوا:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى
الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم
الصيرفي البصري قال: (حدّثنا خالد بن الحارث) الهجيمي قال:
(حدّثنا حميد) الطويل (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال:
خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غداة
باردة والمهاجرون والأنصار يحفرون الخندق) بكسر الفاء وكان
ذلك في غزوته سنة خمس (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- متمثلاً بقول ابن رواحة:
(اللهم إن الخير خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة.
فأجابوا) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأبي
ذر فأجابوه (نحن الذين بايعوا محمدًا).
صفة للذين لا صفة نحن. وهذا موضع الترجمة (على الجهاد ما
بقينا أبدًا). بالتنوين في محمدًا وأبدًا في اليونينية.
والحديث سبق بأتم من هذا في غزوة الخندق.
7202 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما -
قَالَ: كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
يَقُولُ لَنَا: «فِيمَا اسْتَطَعْتَ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي أبو محمد
الكلاعي الدمشقي الأصل قال: (أخبرنا مالك) الإمام بن أنس
المدني (عن عبد الله بن دينار) العدوي مولاهم أبي عبد
الرحمن المدني مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر -رضي الله
عنهما-) أنه (قال: كنا إذا بايعنا) بسكون العين (رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على السمع) للأوامر
والنواهي (والطاعة) للحاكم يقول لنا أي للمبايع منا (فيما
استطعت) وهذا من شفقته ورحمته بنا جزاه الله عنا أفضل ما
جازى نبيًّا عن أمته وللكشميهني فيما استطعتم بالجمع.
7203 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ
سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ
قَالَ: شَهِدْتُ ابْنَ عُمَرَ حَيْثُ اجْتَمَعَ النَّاسُ
عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: كَتَبَ إِنِّى أُقِرُّ
بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ، مَا اسْتَطَعْتُ وَإِنَّ بَنِىَّ قَدْ
أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ. [الحديث 7203 - طرفاه في:
7205، 7272].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن سفيان)
(10/262)
الثوري قال: (حدّثنا عبد الله بن دينار)
مولى ابن عمر (قال: شهدت ابن عمر) -رضي الله عنهما- (حيث
اجتمع الناس على عبد الملك) بن مروان بن الحكم الأموي
يبايعونه بالخلافة وكانت الكلمة قبل ذلك متفرقة إذ كان في
الأرض قبل اثنان يدعى لكل منهما بالخلافة وهما عبد الملك
بن مروان وعبد الله بن الزبير، وكان أي ابن الزبير امتنع
من مبايعة يزيد بن معاوية، فلما مات ادّعى ابن الزبير
الخلافة فبايعه الناس بها بالحجاز، وبايع أهل الآفاق
معاوية بن يزيد بن معاوية فلم يعش إلا نحو أربعين يومًا
ومات فبايع الناس ابن الزبير إلا بني أمية ومن يهوى هواهم
فبايعوا مروان بن الحكم ثم مات بعد ستة أشهر وعهد إلى ابنه
عبد الملك بن مروان فقام مقامه وجهز الحجاج لقتال ابن
الزبير فحاصره إلى أن قتل -رضي الله عنه- فلما انتظم الملك
لعبد الملك وبايعه ابن عمر (قال) حين (كتب) له المبايعة
(إني أقر) بضم الهمزة وكسر القاف (بالسمع والطاعة لعبد
الله عبد الملك أمير المؤمنين على سُنّة الله وسُنّة
رسوله) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ما استطعت)
أي قدر استطاعتي (وإن بنيّ) بفتح الموحدة وكسر النون
وتشديد التحتية عبد الله وأبو بكر وأبو عبيدة وبلال وعمر
أمهم صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفي، وعبد الرحمن أمه
أم علقمة بنت نافس بن وهب، وسالم وعبيد الله
وحمزة أمهم أم وليد وزيد أمه أم ولد (قد أقروا بمثل ذلك)
الذي أقررت به من السمع والطاعة.
زاد الإسماعيلي والسلام. والحديث من أفراده.
7204 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، عَنِ
الشَّعْبِىِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
بَايَعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَلَقَّنَنِى فِيمَا
اسْتَطَعْتُ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
وبه قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) بن كثير بن أفلح
العبدي مولاهم أبو يوسف الدورقي قال: (حدّثنا هشيم) بضم
الهاء وفتح الشين المعجمة ابن بشير بفتح الموحدة وكسر
المعجمة بوزن عظيم أبو معاوية بن خازم بمعجمتين الواسطي
قال: (أخبرنا سيار) بفتح المهملة والتحتية المشددة ابن
وردان أبو الحكم العنزي (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن
جرير بن عبد الله) بفتح الجيم البجلي -رضي الله عنه- أنه
(قال: بايعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
على السمع) لولي الأمر في أمره ونهيه (والطاعة) له
(فلقنني) أي زاد على سبيل التلقين أن أقول (فيما استطعت)
شفقة منه ورأفة (و) على (النصح لكل مسلم). وذمي بأمره
بالإسلام وتعلقاته.
7205 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِىٍّ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ دِينَارٍ قَالَ: لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ عَبْدَ
الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ إِنِّى أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فِيمَا
اسْتَطَعْتُ وَإِنَّ بَنِىَّ قَدْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ.
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) أبو حفص الفلاس الصيرفي أحد
الأعلام قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن سفيان)
الثوري أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن دينار)
العدوي مولاهم (قال: لما بايع الناس عبد الملك) بن مروان
(كتب إليه عبد الله بن عمر) -رضي الله عنهما- من ابن عمر
(إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إني أقر بالسمع
والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سُنّة الله
وسُنّة رسوله فيما استطعت وأن بنيّ قد أقروا) لك (وبذلك).
وهذا إخبار عن إقرارهم لا إقرار عنهم، وعند الإسماعيلي من
وجه آخر عن سفيان بلفظ: رأيت ابن عمر يكتب وكان إذا كتب
يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني أقر بالسمع
والطاعة لعبد الله عبد الملك، وقال في آخره أيضًا والسلام.
والحديث من أفراده.
7206 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ،
حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ
عَلَى أَىِّ شَىْءٍ بَايَعْتُمُ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟
قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب القعنبي قال:
(حدّثنا حاتم) هو ابن إسماعيل الكوفي سكن في المدينة (عن
يزيد) من الزيادة وهو ابن أبي عبيد كما في رواية أبي ذر
مولى سلمة بن الأكوع أنه (قال: قلت لسلمة) بن الأكوع -رضي
الله عنه- (على أيّ شيء بايعتم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الحديبية)؟ بالتخفيف تحت الشجرة
(قال) بايعناه (على الموت) أي نقاتل بين يديه ونصبر ولا
نفر وإن قتلنا.
وسبق الحديث بأتم من هذا في باب البيعة على الحرب أن لا
يفروا من كتاب الجهاد.
7207 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَسْمَاءَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ عَنِ
الزُّهْرِىِّ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ
أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلاَّهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا
فَتَشَاوَرُوا قَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ
بِالَّذِى أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ
وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ
فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا
وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ فَمَالَ النَّاسُ
عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ
النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلاَ يَطَأُ
عَقِبَهُ وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ
يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِىَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ
اللَّيْلَةُ الَّتِى أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا
عُثْمَانَ قَالَ الْمِسْوَرُ: طَرَقَنِى عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ
الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا
فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ
نَوْمٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا
فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ: فَشَاوَرَهُمَا ثُمَّ دَعَانِى
فَقَالَ: ادْعُ لِى عَلِيًّا فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ
حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ ثُمَّ قَامَ عَلِىٌّ مِنْ
عِنْدِهِ، وَهْوَ عَلَى طَمَعٍ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِىٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ:
ادْعُ لِى عُثْمَانَ فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ، حَتَّى
فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ فَلَمَّا
صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ
الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ
كَانَ حَاضِرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ وَكَانُوا
وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا
اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِىُّ إِنِّى قَدْ نَظَرْتُ فِى
أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ،
فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً فَقَالَ:
أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ
وَالأَنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد بن أسماء) الضبعي قال:
(حدّثنا جويرية) بن أسماء عم السابق (عن مالك) الإمام (عن
الزهري) محمد بن مسلم (أن حميد بن عبد الرحمن) بن عوف
(أخبره أن المسور بن مخرمة) ابن أخت عبد الرحمن بن عوف
-رضي الله عنه- (أخبره أن الرهط) وهو ما دون العشرة وقيل
إلى ثلاثة
(10/263)
(الذين ولاّهم عمر) بن الخطاب -رضي الله
عنه- أي عيّنهم للتشاور فيمن يعقد له الخلافة فيهم وهم ما
سبق في باب قصة البيعة من المناقب علي وعثمان والزبير
وطلحة وسعد وعبد الرحمن (اجتمعوا فتشاوروا) فيمن يولونه
الخلافة (قال) ولأبي ذر فقال (لهم عبد الرحمن) بن عوف:
(لست بالذي أنافسكم) بضم الهمزة وفتح النون وبعد الألف فاء
مكسورة فسين مهملة أنازعكم (على هذا الأمر) أي الخلافة إذ
ليس لي فيها رغبة ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي عن والأولى أوجه، (ولكنكم إن شئتم اخترت لكم
منكم) أي ممن سماهم عمر دونه (فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن
فلما ولّوا عبد الرحمن أمرهم) في الاختيار منهم (فمال
الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحدًا من الناس يتبع)
بسكون الفوقية وفتح الموحدة (أولئك الرهط ولا يطأ عقبه)
بفتح العين وكسر القاف أي ولا يمشون خلفه وهو كناية عن
الإعراض (ومال الناس على عبد الرحمن) كرّر هذه لبيان سبب
الميل وهو قوله (يشاورونه) في أمر الخلافة (تلك الليالي)
زاد الزبيدي في روايته عن الدارقطني في غرائب مالك عن
الزهري لا يخلو به رجل ذو رأي فيعدل بعثمان أحدًا وكرر
قوله (حتى إذا كانت الليلة) وللكشميهني تلك الليلة (التي
أصبحنا منها فبايعنا) بسكون العين (عثمان) بن عفان
بالخلافة (قال المسور) بن مخرمة (طرقني عبد الرحمن) بن عوف
(بعد هجع من الليل) بفتح الهاء وسكون الجيم بعدها عين
مهملة. قال في المصابيح: أي بعد طائفة منه هذا الذي يفهم
من كلام القاضي واقتصر عليه الزركشي، وقال الحافظ مغلطاي:
يريد بالهجوع النوم بالليل خاصة ذكره أبو عبيد. قال
العلامة البدر الدماميني وهذا يستدعي أن يكون قوله من
الليل صفة كاشفة بخلاف الأوّل فإنها فيه مخصصة وهو أولى
اهـ.
قال في الفتح: وقد أخرجه البخاري في التاريخ الصغير من
طريق يونس عن الزهري بلفظ بعد هجيع بوزن عظيم (فضرب الباب
حتى استيقظت) من النوم (فقال) لي: (أراك نائمًا فوالله ما
اكتحلت) ما دخل النوم جفن عيني كما يدخله الكحل (هذه
الليلة) ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني هذه الثلاث (بكبير
نوم) في رواية سعيد بن عامر عند الدارقطني في غرائب مالك
والله ما حملت فيهما غمضًا منذ ثلاث ولأبي ذر بكثير نوم
بالمثلثة بدل الموحدة (انطلق فادع الزبير) بن العوّام
(وسعدًا) أي ابن أبي وقاص (فدعوهما له فشاورهما) بالشين
المعجمة من المشاورة ولأبي ذر عن المستملي فسارّهما بالسين
المهملة وتشديد الراء (ثم دعاني فقال ادع لي عليًّا
فدعوته) له فجاء (فناجاه حتى ابهارّ الليل) بتسكين الموحدة
وتشديد الراء انتصف، وفي رواية سعيد بن عامر المذكورة فجعل
يناجيه حتى ترتفع أصواتهما أحيانًا فلا يخفى عليّ شيء مما
يقولان ويخفيان أحيانًا (ثم قام عليّ) هو ابن أبي طالب (من
عنده وهو) أي علي (على طمع) أن يوليه (وقد كان عبد الرحمن
يخشى من علي شيئًا) من المخالفة الموجبة للفتنة. وقال ابن
هبيرة: أظنه أشار إلى الدعابة التي كانت في علي أو نحوها،
ولا يجوز أن يحمل على أن عبد الرحمن خاف من علي على نفسه
(ثم قال: ادع لي عثمان فدعونه) فجاء (فناجاه حتى فرّق
بينهما المؤذن بالصبح فلما صلّى للناس الصبح) ولأبي ذر:
صلّى الناس الصبح.
(واجتمع أولئك الرهط) الذين عينهم عمر للمشورة (عند
المنبر) في المسجد النبوي (فأرسل) عبد الرحمن (إلى من كان
حاضرًا من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد)
معاوية أمير الشام وعمير بن سعيد أمير حمص، والمغيرة بن
شعبة أمير الكوفة، ولأي موسى الأشعري أمير البصرة، وعمرو
بن العاص أمير مصر ليجمع أهل الحل والعقد (وكانوا وافوا
تلك الحجة) قدموا مكلة فحجوا (مع عمر) ورافقوه إلى المدينة
(فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن) وفي رواية
عبد الرحمن بن طهمان جلس عبد الرحمن على المنبر (ثم قال:
أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون
بعثمان) أي لا يجعلون له مساويًا بل يرجحونه على غيره
(10/264)
(فلا تجعلن على نفسك) من اختياري لعثمان
(سبيلاً) ملامة إذا لم يوافق الجماعة (فقال) عبد الرحمن
مخاطبًا لعثمان: (أبايعك على سُنّة الله ورسوله) ولأبي ذر
عن الكشميهني وسُنّة رسوله (والخليفتين) أبي بكر وعمر (من
بعده) فقال عثمان نعم (فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس
المهاجرون) ولأبي ذر والمهاجرون بواو العطف وهو من عطف
الخاص على العام (والأنصار وأمراء الأجناد) المذكورون
(والمسلمون). وفي الحديث إن الجماعة الموثوق بديانتهم إذا
عقدوا عقد الخلافة لشخص بعد المشاورة والاجتهاد لم يكن
لغيرهم أن يحل ذلك العقد إذ لو كان العقد لا يصح إلا
باجتماع الجميع لكان لا معنى لتخصيص هؤلاء الستة، فلما لم
يعترض منهم معترض بل رضوا دل ذلك على صحته، وفيه أن على من
أسند إليه ذلك أن يبذل وسعه في الاختيار ويهجر أهله وليله
اهتمامًا بما هو فيه حتى يكمله.
44 - باب مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ
(باب من بايع مرتين) في حالة واحدة للتأكيد.
7208 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى
عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: بَايَعْنَا النَّبِىَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَقَالَ لِى: «يَا سَلَمَةُ أَلاَ تُبَايِعُ»؟ قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُ فِى الأَوَّلِ قَالَ:
«وَفِى الثَّانِى».
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل (عن
يزيد بن أبي عبيد) بضم العين مولى سلمة (عن سلمة) بن
الأكوع -رضي الله عنه- أنه (قال: بايعنا) بسكون العين
(النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بيعة الرضوان
(تحت الشجرة) التي بالحديبية (فقال) عليه الصلاة والسلام
(لي):
(يا سلمة ألا) بالتخفيف (تبايع؟ قلت: يا رسول الله قد
بايعت في) الزمن (الأول) بفتح الهمزة وتشديد الواو (قال)
عليه الصلاة والسلام (وفي الثاني) أي وفي الزمن الثاني
تبايع أيضًا ولأبي ذر عن الكشميهني في الأولى أي في الساعة
أو الطائفة قال: وفي الثانية. وأراد كما قال الداودي أن
يؤكد بيعة سلمة لعلمه بشجاعته وعنائه في الإسلام وشهرته
بالثبات فلذلك أمره بتكرير المبايعة ليكون له في ذلك
فضيلة.
وتقدم في باب البيعة في الحرب من كتاب الجهاد من رواية
المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة الحديث بأتم
من هذا السياق، وفيه: بايعت النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم عدلت إلى ظل شجرة فلما خف الناس
قال: يا ابن الأكوع ألا تبايع؟ وقال في آخره فقلت له: يا
أبا مسلم على أي شيء كنتم تبايعون يومئذٍ؟ قال: على الموت.
وهذا الحديث هو الحادي والعشرون من الثلاثيات.
45 - باب بَيْعَةِ الأَعْرَابِ
(باب بيعة الأعراب) على الإسلام والجهاد.
7209 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ
مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ
أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَصَابَهُ وَعْكٌ
فَقَالَ: أَقِلْنِى بَيْعَتِى فَأَبَى ثُمَّ جَاءَهُ
فَقَالَ: أَقِلْنِى بَيْعَتِى فَأَبَى، فَخَرَجَ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ
طِيبُهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك)
الإمام (عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله المدني الحافظ
(عن جابر بن عبد الله) السلمي بفتحتين الأنصاري (-رضي الله
عنهما- أن أعرابيّا) لم يسم وعند الزمخشري في ربيع الأبرار
أنه قيس بن أبي حازم. قال الحافظ ابن حجر في المقدمة: وفيه
نظر. قال في الشرح: لأنه تابعي كبير مشهور صرحوا بأنه هاجر
فوجد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد مات
فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه وفي الذيل
لأبي موسى في الصحابة قيس بن أبي حازم المنقري ويحتمل أن
يكون هو هذا (بايع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على الإسلام فأصابه وعك) بفتح الواو وسكون
العين حمى أو ألمها أو رعدتها (فقال) يا رسول الله (أقلني
بيعتي فأبى) فامتنع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أن يقيله لأنه لا يعين على معصية وظاهره طلب
الإقالة من نفس الإسلام، ويحتمل أن يكون من شيء من عوارضه
كالهجرة وكانت إذ ذاك واجبة فمن خرج من المدينة كراهية
فيها أو رغبة عنها كما فعل هذا الأعرابي فهو مذموم (ثم
جاءه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأعرابي المرة
الثانية (فقال: أقلني بيعتي فأبى) وفي رواية الثوري عن ابن
المنكدر أنه أعاد ذلك ثلاثًا (فخرج) الأعرابي من المدينة
راجعًا إلى البدو (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(المدينة كالكير) بكسر الكاف بعدها تحتية ساكنة فراء ما
ينفخ الحداد فيه (تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وكسر
الفاء (خبثها) بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة رديئها الذي
لا خير فيه (وينصع) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد
بعدها عين مهملتين ويظهر (طيبها) بكسر الطاء المهملة وسكون
التحتية مرفوع فاعل ينصع، ولأبي ذر عن الكشميهني: وتنصع
بالفوقية بدل التحتية
(10/265)
طيبها بكسر الطاء وتسكين التحتية منصوب على
المفعولية.
والحديث يأتي في الاعتصام إن شاء الله تعالى بعون الله،
وأخرجه مسلم في المناسك والترمذي في المناقب والنسائي في
البيعة والسِّيَر.
46 - باب بَيْعَةِ الصَّغِيرِ
(باب) حكم (بيعة الصغير).
7210 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا
سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِى
أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِى أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ
مَعْبَدٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ،
وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ
ابْنَةُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
بَايِعْهُ فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «هُوَ صَغِيرٌ» فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا
لَهُ وَكَانَ يُضَحِّى بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، عَنْ
جَمِيعِ أَهْلِهِ.
وبه- قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) بن المديني قال:
(حدّثنا عبد الله بن يزيد) أبو عبد الرحمن مولى آل عمر بن
الخطاب قال: (حدّثنا سعيد) بكسر العين (هو ابن أبي أيوب)
مقلاص الخزاعي البصري (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو عقيل)
بفتح العين وكسر القاف (زهرة بن معبد) بفتح الميم والموحدة
بينهما عين مهملة (عن جده عبد الله بن هشام) الصحابي (وكان
قد أدرك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذهبت
به أمه زينب ابنة) ولأبي ذر بنت (حميد) بضم الحاء المهملة
وفتح الميم ابن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي
(إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقالت: يا رسول الله بايعه) بكسر التحتية وسكون العين
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(هو صغير) أي لا تلزمه البيعة (فمسح) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (رأسه) أي رأس زهرة (ودعا له) فعاش
ببركة دعائه-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زمانًا
كثيرًا بعد الزمن النبوي (وكان) عبد الله بن هشام (يضحي
بالشاة الواحدة عن جميع أهله) قال في الفتح: وهذا الأثر
الموقوف صحيح بالسند المذكور إلى عبد الله، وإنما ذكره
البخاري مع أن من عادته أن يحذف الموقوفات غالبًا لأن
المتن يسير.
والحديث طرف من حديث سبق في كتاب الشركة.
47 - باب مَنْ بَايَعَ ثُمَّ اسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ
(باب من بايع ثم استقال البيعة) أي طلب الإقالة منها.
7211 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا
بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى الإِسْلاَمِ، فَأَصَابَ الأَعْرَابِىَّ
وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى الأَعْرَابِىُّ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِى بَيْعَتِى،
فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِى بَيْعَتِى
فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِى بَيْعَتِى
فَأَبَى، فَخَرَجَ الأَعْرَابِىُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّمَا
الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ
طِيبُهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن محمد بن المنكدر) الحافظ (عن جابر بن عبد
الله) الأنصاري -رضي الله عنهما- (أن أعرابيًّا بايع رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الإسلام
فأصاب الأعرابي وعك) بسكون العين حمى (بالمدينة فأتى
الأعرابي إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله أقلني بيعتي) لم يرد
الارتداد عن الإسلام إذ لو أراده لقتله وحمله بعضهم على
الإقامة بالمدينة (فأبى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أن يقيله لأنه لا يحلّ للمهاجر أن
يرجع إلى وطنه (ثم جاء) ثانيًا (فقال) يا رسول الله (أقلني
بيعتي فأبى) عليه الصلاة والسلام أن يقيله (ثم جاءه) بهاء
الضمير
في هذه الثالثة (فقال: أقلني بيعتي فأبى) عليه الصلاة
والسلام أن يقيله (فخرج الأعرابي) من المدينة (فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إنما المدينة) بزيادة إنما الساقطة في الرواية السابقة
قريبًا في باب بيعة الأعراب (كالكير تنفي خبثها) رديئها
(وينصع) بالتحتية (طيبها) بكسر الطاء وسكون التحتية، ولأبي
ذر وتنصع بالفوقية فتاليها نصب كما سبق. والمعنى إذا نفت
الخبث تميز الطيب واستقر فيها وروي تنصع بضم الفوقية من
أنصع إذا أظهر ما في نفسه وتاليه مفعوله قاله العيني.
وقال في الفتح: وطيبها للجميع بالتشديد وضبطه القزاز بكسر
أوله والتخفيف، ثم استشكله فقال: لم أر للنصوع في الطيب
ذكرًا، وإنما الكلام يتضوّع بالضاد المعجمة وزيادة الواو
الثقيلة قال: ويروى ينضخ بمعجمتين، وأغرب الزمخشري في
الفائق فضبطه بموحدة وضاد معجمة وقال: هو من أبضعه بضاعة
إذا دفعها إليه بمعنى أن المدينة تعطي طيبها لمن سكنها،
وتعقبه الصغاني بأنه خالف جميع الرواة في ذلك. وقال ابن
الأثير: المشهور بالنون والصاد المهملة.
والحديث سبق قريبًا.
48 - باب مَنْ بَايَعَ رَجُلاً لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ
لِلدُّنْيَا
(باب من بايع رجلاً) أي إمامًا (لا يبايعه إلا للدنيا) ولا
يقصد طاعة الله في مبايعته.
7212 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِى حَمْزَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ
مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ
يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَاهُ إِنْ أَعْطَاهُ مَا
يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ
يُبَايِعُ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ
بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِىَ بِهَا كَذَا وَكَذَا
فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة
المروزي (عن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن
ميمون السكري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي صالح)
ذكوان السمان (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ثلاثة) من الناس (لا يكلمهم الله يوم القيامة) كلامًا
يسرّهم ولكن بنحو قوله {اخسؤوا فيها} [المؤمنون: 108] أو
لا يكلمهم بشيء أصلاً. والظاهر أنه كناية عن غضبه عليهم
(ولا يزكيهم) ولا يثني عليهم (ولهم عذاب أليم) على ما
فعلوه. أحدهم
(10/266)
(رجل) كان (على فضل ماء) زائد عن حاجته
(بالطريق) وفي رواية أبي معاوية بالفلاة وهي المراد
بالطريق هنا (يمنع منه) أي من الزائد (ابن السبيل) أي
المسافر، وفي باب إثم من منع ابن السبيل من الماء من طريق
عبد الواحد بن زياد رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من
ابن السبيل، والمقصود واحد وإن
تغاير المفهومان لتلازمهما لأنه إذا منعه من الماء فقد منع
الماء منه قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله. وقال ابن بطال:
فيه دلالة على أن صاحب البئر أولى من ابن السبيل عند
الحاجة فإذا أخذ حاجته لم يجز له منع ابن السبيل. (و)
الثاني (رجل بايع إمامًا) أي عاقده (لا يبايعه) لا يعاقده
(إلا لدنياه) ولأبي ذر لدنيا بغير ضمير ولا تنوين وللأصيلي
للدنيا بلامين (إن أعطاه) منها (ما يريد وفى) بتخفيف الفاء
(له) ما عاقده عليه (وإلا) أي وإن لم يعطه ما يريد (لم يفِ
له) فوفاؤه بالبيعة لنفسه لا لله، وإنما استحق هذا الوعيد
الشديد لكونه غش إمام المسلمين ومن لازم غش الإمام غش
الرعية لما فيه من السبب إلى إثارة الفتنة، ولا سيما إن
كان ممن يتبع على ذلك. وقال الخطابي: الأصل في مبايعة
الإمام أن يبايع على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر فمن جعل مبايعته لما يعطاه دون
ملاحظة المقصود في الأصل فقد خسر خسرانًا مبينًا ودخل في
الوعيد المذكور وحاق به إن لم يتجاوز الله عنه. (و) الثالث
(رجل يبايع) بكسر التحتية بعد الألف ولأبي ذر عن الكشميهني
بايع (رجلاً) بلفظ الماضي (بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد
أعطي) بضم الهمزة وكسر الطاء (بها) أي بسبب السلعة أو في
مقابلتها. وفي اليونينية الرفع والكسر ثم الفتح فيهما وفي
هامشها ما نصه في نسختي الحافظين أبي ذر وأبي محمد الأصيلي
من أول الأحاديث التي تكررت في حلف المشتري لقد أعطي بضم
الهمزة وكسر الطاء وضم مضارعه كذلك وجدته مضبوطًا حيث تكرر
(كذا وكذا) ثمنًا عنها (فصدقه) المشتري (فأخدها) منه بما
حلف عليه كاذبًا اعتمادًا على قوله (و) الحال أنه (لم يعط)
الحالف (بها) ذلك القدر المحلوف عليه، وخص بعد العصر
بالذكر لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار فيه وهو
وقت ختام الأعمال والأمور بخواتيمها. وعند مسلم: وشيخ زانٍ
وملك كذاب وعائل مستكبر، وعنده أيضًا من حديث أبي ذر
المنان الذي لا يعطي شيئًا إلا منه والمسبل إزاره، وفي
الشرب من البخاري ويأتي إن شاء الله تعالى بعون الله في
التوحيد ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال
رجل مسلم فتحصل تسع خصال، ويحتمل أن تبلغ عشرًا لما في
حديث أبي ذر المذكور والمنفق سلعته بالحلف الفاجر لأنه
مغاير للذي حلف لقد أعطي بها كذا وكذا لأن هذا خاص بمن
يكذب في أخبار المشتري، والذي قبله أعم منه فيكون خصلة
أخرى قاله في الفتح.
والحديث سبق في الشرب.
49 - باب بَيْعَةِ النِّسَاءِ
رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(باب بيعة النساء. رواه) أي ذكر بيعة النساء (ابن عباس)
-رضي الله عنهما- فيما سبق في العيدين (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) {يا أيها النبي إذا جاءك
المؤمنات يبايعنك} [الممتحنة: 12] الآية. ثم قال حين فرغ
منها أنتن على ذلك.
7213 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ وَقَالَ اللَّيْثُ:
حَدَّثَنِى يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى أَبُو
إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ
الصَّامِتِ يَقُولُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ فِى مَجْلِسٍ:
«تُبَايِعُونِى عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ
شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ
تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ
تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ
تَعْصُوا فِى مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
فَعُوقِبَ فِى الدُّنْيَا فَهْوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ
أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ
فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ
شَاءَ عَفَا عَنْهُ» فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة الحافظ (عن الزهري) محمد بن مسلم.
(وقال الليث) بن سعد الإمام فيما وصله الذهلي في الزهريات
كما في المقدمة (حدّثني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي
(عن ابن شهاب) الزهري (أخبرني) بالإفراد (أبو إدريس) عائذ
الله بن عبد الله (الخولاني) بفتح الخاء المعجمة وبعد
اللام ألف نون الدمشقي قاضيها (أنه سمع عبادة بن الصامت)
-رضي الله عنه- (يقول: قال لنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط لفظ لنا لأبي ذر (ونحن في مجلس)
ولأبي ذر في المجلس.
(تبايعوني) تعاقدوني (على) التوحيد (أن لا تشركوا بالله
شيئًا) أي على ترك الإشراك وهو عام لأنه نكرة في سياق
النهي كالنفي (ولا تسرقوا) بحذف المفعول ليدل على العموم
(ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم) نهي عما كانوا يفعلونه من
وأدهم
(10/267)
بناتهم خشية الفاقة وهو أشنع القتل لأنه
قتل وقطيعة رحم (ولا تأتوا ببهتان) بكذب يبهت سامعه أي
يدهشه لفظاعته كالرمي بالزنا (تفترونه) تختلقونه (بين
أيديكم وأرجلكم) خصهما بالافتراء لأن معظم الأفعال يقع
بهما إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي وقد
يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال هذا بما كسبت يداك. وقال
في الكواكب: المراد الأيدي وذكر الأرجل تأكيدًا، وقيل
المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب لأنه الذي يترجم
اللسان عنه فلذلك نسب إليه الافتراء كأن المعنى لا ترموا
أحدًا بكذب تزوّرونه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبكم بألسنتكم
(ولا تعصوا في معروف) عرف من الشارع حسنه نهيًا وأمرًا
(فمن وفى) بالتخفيف ويشدد (منكم) بأن ثبت على العهد (فأجره
على الله) فضلاً (ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب) به (في
الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئًا) غير الشرك
(فستره الله) عليه في الدنيا (فأمره إلى الله إن شاء
عاقبه) بعدله (وإن شاء عفا عنه) بفضله (فبايعناه على ذلك).
قال ابن المنير فيما نقله عنه في فتح الباري: أدخل البخاري
حديث عبادة بن الصامت في ترجمة بيعة النساء لأنها وردت في
القرآن في حق النساء فعرفت بهن ثم استعملت في الرجال اهـ.
ووقع في بعض طرقه عن عبادة قال: أخذ علينا رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أخذ على النساء
أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نسرق ولا نزني الحديث. وحديث
الباب سبق في الإيمان أوائل الكتاب.
7214 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ،
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ:
كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلاَمِ بِهَذِهِ الآيَةِ {لاَ
يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12]. قَالَتْ:
وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَ امْرَأَةٍ إِلاَّ امْرَأَةً
يَمْلِكُهَا.
وبه قال: (حدّثنا محمود) هو ابن غيلان أبو أحمد العدوي
مولاهم المروزي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) هو ابن همام
الحافظ أبو بكر الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد
الأزدي مولاهم عالم اليمن (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن
عروة) بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت:
كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبايع
النساء بالكلام) من غير مصافحة باليد كما جرت العادة
بمصافحة الرجال عند المبايعة (بهذه الآية) هي قوله تعالى:
{ولا يشركن بالله شيئًا} [الممتحنة: 12]. قالت) عائشة (وما
مست يد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يد
امرأة) زاد في رواية أخرى قطّ (إلا امرأة يملكها) بنكاح أو
ملك يمين، وروى النسائي والطبري من طريق محمد بن المنكدر
أن أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرًا أخبرته أنها دخلت في
نسوة تبايع فقلن يا رسول الله ابسط يدك نصافحك. فقال: "إني
لا أصافح النساء ولكن سآخذ عليكن" فأخذ علينا حتى بلغ {ولا
يعصينك في معروف} [الممتحنة: 12] فقال: "فيما أطقتن
واستطعتن" فقلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. قال في
الفتح: وقد جاءت أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند
المبايعة من فوق ثوب أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن
الشعبي.
وحديث الباب أخرجه الترمذي.
7215 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ
عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَايَعْنَا النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَرَأَ عَلَىَّ {أَنْ لاَ
يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] وَنَهَانَا
عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا
فَقَالَتْ فُلاَنَةُ أَسْعَدَتْنِى وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ
أَجْزِيَهَا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ رَجَعَتْ فَمَا
وَفَتِ امْرَأَةٌ إِلاَّ أُمُّ سُلَيْمٍ وَأُمُّ
الْعَلاَءِ وَابْنَةُ أَبِى سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ
أَوِ ابْنَةُ أَبِى سَبْرَةَ وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد بن مسربل الأسدي
البصري الحافظ أبو الحسن قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد
التميمي مولاهم البصري التنوري (عن أيوب) بن أبي تميمة
السختياني (عن حفصة) بنت سيرين أم الهذيل البصرية الفقيهة
(عن أم عطية) نسيبة بنون مضمومة وسين مهملة وبعد التحتية
الساكنة موحدة مصغرًا بنت الحارث الأنصارية أنها (قالت
بايعنا) بسكون العين (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقرأ عليّ) بتشديد الياء ولأبي ذر عن الكشميهني
علينا بلفظ الجمع قوله تعالى في سورة الممتحنة ({أن لا
يشركن بالله شيئًا} [الممتحنة: 12] ونهانا عن النياحة) على
الميت (فقبضت امرأة) لم تسم أو هي أم عطية أبهمت نفسها
(منا) من المبايعات (يدها) عن المبايعة فيه إشعار بأنهن كن
يبايعن بأيديهن لكن لا يلزم من مد اليد المصافحة فيحتمل أن
يكون بحائل من ثوب ونحوه كما مرّ والمراد بقبض اليد التأخر
عن القبول (فقالت) يا رسول الله (فلانة) أي تسم (أسعدتني)
أي
أقامت معي في نياحة على ميت لي تراسلني (وأنا أريد أن
أجزيها) بفتح الهمزة وسكون الجيم بعدها أن أكافئها على
إسعادها (فلم يقل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها
شيئًا) بل سكت (فذهبت ثم رجعت) قيل: إنما سكت
(10/268)
عليه الصلاة والسلام لأنه عرف أنه ليس من
جنس النياحة المحرمة، أو ما التفت إلى كلامها حيث بيّن حكم
النياحة لهن، أو كان جوازها من خصائصها. وعند النسائي في
رواية أيوب فأذهب فأسعدها ثم أجيئك فأبايعك. قال: اذهبي
فأسعديها قالت فذهبت فساعدتها ثم جئت فبايعته. قال النووي:
وهذا محمول على الترخيص لأم عطية خاصة وللشارع أن يخص من
العموم ما شاء اهـ.
وأورد عليه غير أم عطي كما سبق في تفسير سورة الممتحنة فلا
خصوصية لأم عطية، واستدلّ به بعض المالكية على أن النياحة
ليست حرامًا وإنما المحرم ما كان معه شيء من أفعال
الجاهلية من نحو شق جيب وخمش وجه. وفي المسألة أقوال: منها
أنه كان قبل التحريم، ومنها أن قوله في الرواية الأخرى إلا
آل فلان فليس فيه نص على أنها تساعدهم بالنياحة فيمكن أن
تساعدهم بنحو البكاء الذي لا نياحة معه، وأقرب الأجوبة
أنها كانت مباحة ثم كرهت كراهة تنزيه ثم كراهة تحريم.
قالت أم عطية: (فما وفت امرأة) بتخفيف الفاء بترك النوح
ممن بايع معي (إلا أم سليم) بنت ملحان والدة أنس (وأم
العلاء) امرأة من الأنصار المبايعات قاله ابن عبد البر
ونسبها غيره فقال بنت الحارث بن ثابت بن خارجة بن ثعلبة
(وابنة أبي سبرة) بفتح السين المهملة وسكون الموحدة (امرأة
معاذ) أي ابن جبل (أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ) بواو
العطف، وفي باب ما ينهى من النوح والبكاء في كتاب الجنائز
فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة أم سليم وأم العلاء وابنة
أبي سبرة امرأة معاذ وامرأتين أو بنت أبي سبرة وامرأة معاذ
وامرأة أخرى والشك من الراوي هل ابنة أبي سبرة هي امرأة
معاذ أو هي غيرها. قال في الفتح: والذي يظهر لي أن الرواية
بواو العطف أصح لأن امرأة معاذ هي أم عمرو بنت خلاد بن عمر
السلمية ذكرها ابن سعد، فعلى هذا فابنة أبي سبرة غيرها.
وفي الدلائل لأبي موسى من طريق حفصة عن أم عطية وأم معاذ
بنت أبي سبرة، وفي رواية ابن عون عن ابن سيرين عن أم عطية
فما وفت غير أم سليم وأم كلثوم وامرأة معاذ بن أبي سبرة
كذا فيه والصواب ما في الصحيح امرأة معاذ بنت أبي سبرة
ولعل بنت أبي سبرة يقال لها أم كلثوم وإن كانت الرواية
التي فيها أم معاذ محفوظة فلعلها أم معاذ بن جبل وهي هند
بنت سهل الجهنية ذكرها ابن سعد أيضًا وعرف بمجموع هذا
النسوة الخمس المذكورات في الجنائز وهن أم سليم وأم العلاء
وأم كلثوم وأم عمرو وهند إن كانت الرواية محفوظة وإلا
فالخامسة أم عطية كما في الطبراني من طريق عاصم عن حفصة عن
أم عطية فما وفت غيري وغير أم سليم، لكن أخرج إسحاق بن
راهويه في مسنده من طريق هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية
قالت: كان فيما أخذ علينا أن لا ننوح الحديث. وفي آخره
وكانت لا تعد نفسها لأنه لما كان يوم الحرة لم تزل النساء
بها حتى قامت معهن فكانت لا تعد نفسها لذلك ففيه ردّ
للسابق ويجمع بأنها تركت عدّ نفسها من يوم الحرة.
50 - باب مَنْ نَكَثَ بَيْعَةً
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ
إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى
نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
(باب من نكث بيعة) بالمثلثة أي نقضها ولأبي ذر عن
الكشميهني بيعته بزيادة الضمير (وقوله تعالى: {إن الذين
يبايعونك إنما يبايعون الله}) قال في الكشاف لما قال إنما
يبايعون الله أكده توكيدًا على طريقة التخييل فقال: ({يد
الله فوق أيديهم}) يريد أن يد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي تعلو يدي المبايعين هي يد الله
والله سبحانه وتعالى منزّه عن الجوارح وعن صفات الأجسام
وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع
الله من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد
أطاع الله} [النساء: 180] اهـ.
وفي اختصاص الفوقية تتميم معنى الظهور وقال أبو البقاء
إنما يبايعون خبر إن ويد الله مبتدأ وما بعده الخبر
والجملة خبر لإن أو حال من ضمير الفاعل في يبايعون أو
مستأنف ({فمن نكث}) نقض العهد ولم يف بالبيعة ({فإنما ينكث
على نفسه}) فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه ({ومن أوفى بما
عاهد الله عليه}) يقال وفيت بالعهد وأوفيت به أي وفى في
مبايعته ({فسيؤتيه أجرًا عظيمًا}) [الفتح: 10] أي الجنة
(10/269)
وسقط لأبى ذر من قوله يد الله إلى آخرها.
7216 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ
جَابِرًا قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: بَايِعْنِى
عَلَى الإِسْلاَمِ فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ ثُمَّ
جَاءَ الْغَدَ مَحْمُومًا فَقَالَ: أَقِلْنِى فَأَبَى،
فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى
خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن محمد بن المنكدر) أنه قال: (سمعت
جابرًا) هو ابن عبد الله الأنصاري السلمي بفتح السين
واللام له ولأبيه صحبة -رضي الله عنهما- أنه (قال: جاء
أعرابي) لم يسم وقيل قيس بن أبي حازم ورد بما سبق في باب
بيعة الأعراب قريبًا (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال): يا رسول الله (بايعني على الإسلام
فبايعه) عليه الصلاة والسلام (على الإسلام ثم جاء الغد)
ولأبى ذر عن الكشميهني من الغد (محمومًا فقال أقلني) بيعتي
على الإقامة بالمدينة ولم يرد الارتداد عن الإسلام إذ لو
أراده لقتله كما مر قريبًا (فأبى) فامتنع -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقيله لأن الخروج من المدينة كراهة
له حرام (فلما ولّى) الأعرابي (قال) النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(المدينة كالكير) الذي يتخذه الحداد مبنيًّا من الطين أو
الكير الزق والكور ما بني من الطين (تنفي خبثها) بفتح
المعجمة والموحدة وهو ما تبرزه النار من الجواهر المعدنية
فيخلصها بما يميزه عنها من ذلك وأنث ضمير الخبث لأنه نزل
المدينة منزلة الكير فأعاد الضمير إليها (وينصع) بفتح
التحتية (طيبها) بكسر الطاء والرفع، ولأبي ذر: وتنصع
بالفوقية فطيبها منصوب. قال في شرح
المشكاة: ويروى بفتح الطاء وكسر الياء المشددة وهي الرواية
الصحيحة وهي أقوم معنى لأنه ذكر في مقابلة الخبث وأية
مناسبة بين الكير والطيب، وقد شبه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة وما يصيب ساكنيها من الجهد
والبلاء بالكير وما يوقد عليه في النار فيميز به الخبيث من
الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب فيه أزكى ما كان وأخلص،
وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والوصب والجوع وتطهر
خيارها وتزكيهم.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وعند الطبراني بسند جيد عن
ابن عمر مرفوعًا مَن أعطى بيعة ثم نكثها لقي الله وليست
معه يمينه. وعند أحمد من حديث أبي هريرة رفعه الصلاة كفارة
إلا من ثلاث الشرك بالله ونكث الصفقة الحديث، وفيه تفسير
نكث الصفقة أن تعطي رجلاً بيعتك ثم تقاتله.
51 - باب الاِسْتِخْلاَفِ
(باب الاستخلاف) أي تعيين الخليفة عند موته خليفة بعده أو
يعين جماعة ليتخيروا منهم واحدًا.
7217 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَتْ
عَائِشَةُ - رضى الله عنها -: وَارَأْسَاهْ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَىٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ
وَأَدْعُو لَكِ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلِيَاهْ
وَاللَّهِ إِنِّى لأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِى وَلَوْ كَانَ
ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ
أَزْوَاجِكَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ
أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ وَابْنِهِ
فَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى
الْمُتَمَنُّونَ»، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ
وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ
وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى) بن أبي بكر أبو زكريا الحنظلي قال:
(أخبرنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد) الأنصاري أنه
قال: (سمعت القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق (قال:
قالت عائشة -رضي الله عنها-) في أول ما بدا برسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعه الذي توفي فيه
متفجعة من وجع رأسها وارأساه (فقال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لها (ذاك) بكسر الكاف أي
موتك كما يدل عليه السياق (لو كان وأنا حي) الواو للحال
(فأستغفر لك وأدعو لك) بكسر الكاف فيهما (فقالت عائشة)
مجيبة له عليه الصلاة والسلام (واثكلياه) بضم المثلثة
وسكون الكاف وكسر اللام مصححًا عليها في الفرع كأصله ولأبي
ذر عن الكشميهني واثكلاه بإسقاط الياء بعد اللام (والله
إني لأظنك تحب موتي) فهمت ذلك من قوله لها لو كان وأنا حي
(ولو كان ذلك لظللت) بكسرِ اللام بعد المعجمة وسكون اللام
بعدها أي لدنوت وقربت (آخر يومك) حال كونك (معرسًا) بكسر
الراء مشددة بانيًا (ببعض أزواجك فقال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بل أنا وارأساه) إضراب عن
كلامها أي اشتغلي بوجع رأسي إذ لا بأس بك فأنت تعيشين بعدي
عرف ذلك بالوحي ثم قال عليه الصلاة
والسلام: (لقد هممت أو) قال: (أردت) بالشك من الراوي (أن
أرسل إلى أبي بكر) الصديق (وابنه فأعهد) بفتح الهمزة
وبالنصب عطفًا على أرسل أي أوصي بالخلافة لأبي بكر كراهية
(أن يقول القائلون) الخلافة لنا أو لفلان (أو يتمنى
المتمنون) أن تكون الخلافة لهم فأعينه قطعًا للنزاع
والأطماع وقد أراد الله أن لا يعهد ليؤجر المسلمون على
الاجتهاد (ثم قلت: يأبى الله) إلا أن تكون الخلافة لأبي
بكر (ويدفع المؤمنون) خلافة غيره (أو يدفع الله) خلافة
غيره (ويأبى المؤمنون) إلاّ خلافته. فالشك من
(10/270)
الراوي في التقديم والتأخير، وفي رواية
لمسلم: أدعو إلى أبا بكر أكتب كتابًا فإني أخاف أن يتمنى
متمنٍّ ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، وفي رواية
للبزار معاذ الله أن يختلف الناس على أبي بكر ففيه إشارة
إلى أن المراد الخلافة وهو الذي فهمه البخاري من حديث
الباب وترجم به.
والحديث سيق في الطب.
7218 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ:
قِيلَ لِعُمَرَ أَلاَ تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: إِنْ
أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى
أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ
خَيْرٌ مِنِّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: رَاغِبٌ
رَاهِبٌ وَدِدْتُ أَنِّى نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا لاَ
لِى وَلاَ عَلَىَّ لاَ أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (أخبرنا
سفيان) الثوري (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير
(عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنهما- أنه
(قال: قيل لعمر) لما أصيب (ألا) بالتخفيف (تستخلف)؟ خليفة
بعدك على الناس (قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني
أبو بكر) أي حيث استخلفه (وإن أترك) أي الاستخلاف (فقد
ترك) التصريح بالتعيين فيه (من هو خير مني رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فأخذ عمر -رضي الله
عنه- وسطًا من الأمرين فلم يترك التعيين بمرة ولا فعله
منصوصًا فيه على الشخص المستخلف وجعل الأمر في ذلك شورى
بين من قطع لهم بالجنة وأبقى النظر للمسلمين في تعيين من
اتفق عليه رأي الجماعة الذين جعلت الشورى فيهم (فأثنوا) أي
الحاضرون من الصحابة (عليه) على عمر خيرًا (فقال) عمر
(راغب) في حسن رأي فيه (وراهب) بإثبات الواو وسقطت من
اليونينية أي راهب من إظهار ما يضمره من كراهيته، أو
المعنى راغب فيما عندي وراهب مني، أو المراد الناس راغب في
الخلافة وراهب منها فإن وليت الراغب فيها خشيت أن لا يُعان
عليها، وإن وليت الراهب منها خشيت أن لا يقوم بها. وقال
عياض: هما وصفان لعمر أي راغب فيما عند الله وراهب من
عقابه فلا أعول على ثنائكم وذلك يشغلني عن العناية
بالاستخلاف عليكم (وددت أني نجوت منها) أي من الخلافة
(كفافًا) بفتح الكاف وتخفيف الفاء (لا لى) خيرها (ولا
عليّ) شرها (لا أتحملها) أي الخلافة (حيًّا وميتًا) ولأبي
ذر ولا ميتًا فلا أعين لها شخصًا بعينه فأتحملها في حال
الحياة والممات.
وفي الحديث جواز عقد الخلافة من الإمام المتولي لغيره بعده
وإن أمره في ذلك جائز على عامة المسلمين لإطباق الصحابة
ومن بعدهم معهم على العمل بما عهده أبو بكر لعمر، وكذا لم
يختلفوا في قبول عهد عمر إلى الستة وهو شبيه بإيصاء الرجل
على ولده ليكون نظره فيما يصلح أتم من غيره فكذلك الإمام،
وقال النووي وغيره أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف
وعلى انعقادها بأهل الحل والعقد لإنسان حيث لا يكون هناك
استخلاف غيره وعلى جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين عدد
مخصوص أو غيره.
7219 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، أَخْبَرَنِى
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ
خُطْبَةَ عُمَرَ الآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَذَلِكَ الْغَدُ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَشَهَّدَ وَأَبُو
بَكْرٍ صَامِتٌ لاَ يَتَكَلَّمُ قَالَ: كُنْتُ أَرْجُو
أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حَتَّى يَدْبُرَنَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ آخِرَهُمْ فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ مَاتَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ
بِمَا هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَانِى اثْنَيْنِ،
فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ فَقُومُوا
فَبَايِعُوهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ
بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ،
وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ
الزُّهْرِىُّ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سَمِعْتُ عُمَرَ
يَقُولُ لأَبِى بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ: اصْعَدِ الْمِنْبَرَ
فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ
النَّاسُ عَامَّةً. [الحديث 7219 -
طرفه في: 7269].
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) بن يزيد الفراء الصغير
أبو إسحاق الرازي قال: (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني
(عن معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال:
(أخبرني) بالإفراد (أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه سمع
خطبة عمر الآخرة) نصب صفة خطبة (حين جلس على المنبر) وكانت
كالاعتذار عن قوله في الخطبة الأولى الصادرة منه يوم مات
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن محمدًا لم
يمت وأنه سيرجع وكانت خطبته الآخرة بعد عقد البيعة لأبي
بكر في سقيفة بني ساعة (وذلك الغد) نصب على الظرفية أي
إتيانه بالخطبة في الغد (من يوم) بالتنوين (توفي النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فشهد) عمر (وأبو بكر)
أي والحال أن أبا بكر (صامت لا يتكلم. قال) عمر: (كنت أرجو
أن يعيش رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حتى يدبرنا) بفتح التحتية وضم الموحدة بينهما دال مهملة
ساكنة (يريد) عمر (بذلك أن يكون) النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (آخرهم) موتًا وفي رواية عقيل عن ابن
شهاب عند الإسماعيلي حتى يدبر أمرنا بتشديد الموحدة ثم قال
عمر (فإن يك محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد
مات فإن الله تعالى قد جعل) ولأبي ذر فإن الله جعل (بين
أظهركم نورًا) أي قرآنًا (تهتدون به هدى الله محمدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي به كذا في غير ما
فرع من فروع اليونينية، وفي بعض الأصول وعليه شرح العيني
كابن حجر رحمهما الله تعالى تهتدون به بما هدى الله محمدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي كتاب الاعتصام
(10/271)
وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا
به تهتدوا لما هدى الله به رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (وإن أبا بكر صاحب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قدم الصحبة لشرفها ولما شاركه فيها
غيره عطف عليها ما انفرد به وهو كونه {ثاني اثنين
إذ هما في الغار} [التوبة: 40] وهي أعظم فضيلة استحق بها
الخلافة كما قاله السفاقسي قال ومن ثم قال عمر (فإنه)
بالفاء في اليونينية وفي غيرها وأنه (أولى المسلمين
بأموركم فقوموا) أيها الحاضرون (فبايعوه) بكسر التحتية
(وكان طائفة منهم قد بايعوه) بفتح التحتية (قبل ذلك في
سقيفة بني ساعدة) بن كعب بن الخزرج والسقيفة الساباط مكان
اجتماعهم للحكومات وفيه إشارة إلى أن السبب في هذه
المبايعة مَن لم يحضر في السقيفة (وكانت بيعة العامة على
المنبر) في اليوم المذكور صبيحة اليوم الذي بويع فيه في
السقيفة.
(قال الزهري): محمد بن مسلم بالسند السابق (عن أنس بن مالك
سمعت عمر يقول لأبي بكر) -رضي الله عنهم- (يومئذ: اْصعد
المنبر) بفتح العين (فلم يزل به حتى صعد المنبر) بكسر
العين وللكشميهني حتى أصعده بزيادة همزة مفتوحة وسكون
الصاد (فبايعه الناس) مبايعة (عامة) وهي أشهر من البيعة
الأولى.
ومناسبة الحديث للترجمة في قوله: وإنه أولى المسلمين
بأموركم.
7220 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: أَتَتِ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فِى شَىْءٍ
فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ
كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ قَالَ: «إِنْ لَمْ
تَجِدِينِى فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ».
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي المدني
الأعرج قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين (عن
أبيه) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري (عن
محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه) جبير بن مطعم بن عدي
النوفلي -رضي الله عنه- أنه (قال: أتت النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امرأة) لم تسم (فكلمته في
شيء) يعطيها (فأمرها أن ترجع إليه قالت) ولأبوي ذر والوقت
فقالت (يا رسول الله أرأيت) أي أخبرني (إن جئت ولم أجدك)
قال جبير بن مطعم (كأنها تريد الموت) تعني إن جئت فوجدتك
قد متّ ماذا أعمل (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-:
(إن لم تجديني فائتي أبا بكر) وفيه إشارة إلى أن أبا بكر
هو الخليفة بعده عليه الصلاة والسلام في معجم الإسماعيلي
من حديث سهل بن أبي حثمة قال: بايع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعرابيًّا فسأله إن أتى عليه أجله مَن
يقضيه؟ فقال: أبو بكر ثم سأله مَن يقضيه بعده؟ قال: عمر
الحديث. وأخرجه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مختصرًا
وحديث الباب سبق في فضل أبي بكر -رضي الله عنه-.
7221 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
سُفْيَانَ، حَدَّثَنِى قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ
بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنه - قَالَ
لِوَفْدِ بُزَاخَةَ: تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الإِبِلِ
حَتَّى يُرِىَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا
يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن سفيان)
الثوري أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (قيس بن مسلم) الجدلي
بضم الجيم أبو عمرو الكوفي العابد (عن طارق بن شهاب)
البجلي الأحمسي أبي عبد الله الكوفي قال أبو داود: رأى
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يسمع منه
(عن أبي بكر) الصديق (رضي الله عنه) أنه (قال لوفد بزاخة)
بضم الموحدة بعدها زاي مخففة فألف معجمة مفتوحة فهاء تأنيث
وهم من طيئ وأسد وغطفان قبائل كثيرة وكان هؤلاء القبائل
ارتدّوا بعد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
واتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي، وكان ادّعى النبوّة بعد
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقاتلهم خالد
بن الوليد بعد فراغه من مسيلمة فلما غلب عليهم تابوا
وبعثوا وفدهم إلى أبي بكر يعتذرون فأحب أبو بكر أن لا يقضي
فيهم إلا بعد المشاورة في أمرهم فقال لهم: (تتبعون) بسكون
الفوقية الثانية (أذناب الإبل) في الصحارى (حتى يُري الله
خليفة نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به).
وهذا مختصر ساقه الحميدي في الجمع بين الصحيحين بلفظ: جاء
وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح
فخيّرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية فقالوا: هذه
المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال: تنزع منكم الحلقة
والكراع ونقسم ما أصبنا منكم وتردّون علينا ما أصبتم منّا
وتدّون لنا قتلانا ويكون قتلاكم في النار، وتتركون أقوامًا
يتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة رسوله والمهاجرين
أمرًا يعذرونكم به فعرض أبو بكر ما قاله على القوم فقام
عمر فقال: قد رأيت رأيًا
(10/272)
وسنشير عليك أما ذكرت من أن ينزع منهم
الكراع والحلقة فنعم ما رأيت، وأما تدّون قتلانا ويكون
قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت على أمر الله وأجورها
على الله ليست لها ديّات قال: فتتابع الناس على قول عمر،
والمجلية بالجيم وضم الميم من الجلاء أي الخروج من جميع
المال. والمخزية بالخاء المعجمة والزاي من الخزي أي القرار
على الذل والصغار وفائدة نزع ذلك منهم أن لا تبقى لهم شوكة
ليأمن الناس من جهتهم وقوله: وتتبعون أذناب الإبل أي في
رعايتها، لأنهم إذا نزعت منهم آلة الحرب رجعوا عرايا في
البوادي لا عيش لهم إلا ما يعود عليهم من منافع إبلهم.
وهذا الحديث من أفراد البخاري.
باب
هذا (باب) بالتنوين بغير ترجمة وهو ثابت في رواية المستملي
ساقط لغيره.
7222 - 7223 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
«يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا» فَقَالَ: كَلِمَةً لَمْ
أَسْمَعْهَا فَقَالَ أَبِى: إِنَّهُ قَالَ: «كُلُّهُمْ
مِنْ قُرَيْشٍ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر بالجمع (محمد بن
المثنى) أبو موسى العنزي البصري قال: (حدّثنا غندر) محمد
بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد الملك) بن
عمير أنه
قال: (سمعت جابر بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم -رضي
الله عنه- (قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(يكون اثنا عشر أميرًا) وعند مسلم من رواية سفيان بن عيينة
عن عبد الملك بن عمير لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وليهم
اثنا عشر رجلاً (فقال) عليه الصلاة والسلام (كلمة لم
أسمعها فقال أبي) سمرة (إنه قال: كلهم من قريش) وفي رواية
سفيان فسألت أبي ماذا قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فقال: كلهم من قريش. وعند أبي داود
من طريق الشعبي عن جابر بن سمرة: لا يزال هذا الدين عزيزًا
إلى اثني عشر خليفة. قال: فكبّر الناس وضجّوا فلعل هذا هو
سبب خفاء الكلمة المذكورة على جابر، وفيه ذكر الصفة التي
تختص بولايتهم وهي كون الإسلام عزيزًا. وعند أبي داود
أيضًا من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه عن جابر بن
سمرة: لا يزال هذا الدّين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر
خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة، فيحتمل أن يكون المراد أن
تكون الاثنا عشر في مدة عزّة الخلافة وقوة الإسلام
واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة كما في
رواية أبي داود كلهم تجتمع عليه الأمة، وهذا قد وجد فيمن
اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم
الفتنة زمن الوليد بن يزيد فاتصلت بينهم إلى أن قامت
الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم وتغيرت الأحوال عما كانت
عليه تغيرًا بيّنًا.
وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر، وقيل يكونون في زمن واحد
كلهم يدّعي الإمارة تفترق الناس عليهم، وقد وقع في المائة
الخامسة في الأندلس وحدها ستة أنفس كلهم تسمي بالخلافة
ومعهم صاحب مصر والعباسي ببغداد إلى من كان يدّعي الخلافة
في أقطار الأرض من العلوية والخوارج، ويحتمل أن تكون
الاثنا عشر خليفة بعد الزمن النبوي فإن جميع من ولي
الخلافة من الصديق إلى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفسًا
منهم اثنان لم تصح ولايتهما ولم تطل مدتهما وهما: معاوية
بن يزيد ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفسًا على
الولاء كما أخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة
وتغيرت الأحوال بعده، وانقضى القرن الأول الذي هو خير
القرون ولا يقدح في ذلك قوله في الحديث الآخر: يجتمع عليهم
الناس لأنه يحمل على أكثر الأغلب لأن هذه الصفة لم تفقد
منهم إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير وكانت
الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الاثني عشر منتظمة وإن وجد في
بعض مدتهم خلاف ذلك فهو بالنسبة إلى الاستقامة نادر والله
أعلم اهـ. ملخصًا من فتح الباري.
52 - باب إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنَ
الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ
أُخْتَ أَبِى بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ
(باب إخراج الخصوم) أي أهل المخاصمات (وأهل الريب) بكسر
الراء وفتح التحتية التهم (من البيوت بعد المعرفة) أي بعد
الشهر بذلك لتأذي الجيران بهم ولمجاهرتهم بالمعاصي. (وقد
أخرج عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (أخت أبي بكر) أم فروة
بنت أبي قحافة (حين ناحت). عل أخيها أبي بكر
(10/273)
-رضي الله عنه- لما مات، ووصله إسحاق بن
راهويه في مسنده من طريق سعيد بن المسيب قال: لما مات أبو
بكر بكى عليه قال عمر لهشام بن الوليد: قم فأخرج النساء
الحديث، وفيه فجعل يخرجهن امرأة امرأة حتى خرجت أم فروة.
7224 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
- رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ
لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ
آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً
فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ
فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِى نَفْسِى
بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا
سَمِينًا أَوْ مَرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ
الْعِشَاءَ».
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: قَالَ يُونُسُ: قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مِرْمَاةٌ: مَا بَيْنَ ظِلْفِ الشَّاةِ مِنَ اللَّحْمِ،
مِثْلُ مِنْسَاةٍ وَمِيضَاةٍ الْمِيمُ مَخْفُوضَةٌ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(و) الله (الذي نفسي بيده) أي بتقديره (لقد هممت) أي عزمت
(أن آمر بحطب يحتطب) ولأبي الوقت: فيحتطب أي يكسر ليسهل
اشتغال النار به (ثم أمر بالصلاة فيؤذن لها) بفتح الذال
المعجمة المشددة (ثم أمر رجلاً فيؤمّ الناس ثم أخالف إلى
رجال) أي آتيهم من خلفهم. وقال الجوهري خالف إلى فلان أتاه
إذا غاب عنه، والمعنى أخالف الفعل الذي ظهر مني وهو إقامة
الصلاة فأتركه وأسير إليهم (فأحرق عليهم بيوتهم) بتشديد
راء فأحرق، والمراد به التكثير يقال حرقه إذا بالغ في
تحريقه وفيه إشعار بأن العقوبة ليست قاصرة على المال بل
المراد تحريق المقصودين والبيوت تبع للقاطنين بها (والذي
نفسي بيده لو يعلم أحدكم) ولأبي ذر أحدهم بالهاء بدل الكاف
وفيه إعادة اليمين للتأكيد (أنه يجد عرقًا سمينًا) بفتح
العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف عظمًا بلا لحم (أو
مرماتين حسنتين لشهد العشاء) بكسر الميم الأولى تثنية
مرماة ما بين ظلفي الشاة من اللحم أي لو علم أنه إن حضر
صلاة العشاء وجد نفعًا دنيويًّا وإن كان خسيسًا حقيرًا
لحضرها لقصور همته ولا يحضرها لما لها من الثواب.
(قال محمد بن يوسف) الفربري (قال يونس) قال العيني: لم أقف
عليه وبيّض له في فتح الباري في النسخة التي عندي منه (قال
محمد بن سليمان) أبو أحمد الفارسي راوي التاريخ الكبير عن
البخاري (قال أبو عبد الله) البخاري: (مرماة ما بين ظلف
الشاة من اللحم مثل منساة وميضاة) الميم مخفوضة في كلٍّ من
المنساة والميضاة، وقد نزل الفربري في هذا التفسير درجتين
فإنه أدخل بينه وبين شيخه البخاري رجلين أحدهما عن الآخر
وثبت هذا التفسير في رواية أبي ذر عن المستملي وحده وسقط
لغيره.
وفي الحديث أن من طلب بحق فاختفى أو تمنع في بيته مطلاً
أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها كما أراد النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إخراج المتخلفين عن الصلاة
بإلقاء النار عليهم في بيوتهم.
والحديث سبق في الجماعة والأشخاص.
53 - باب هَلْ لِلإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ
وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَهُ
وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (هل) يجوز (للإمام أن يمنع
المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة) له (ونحوه)
أي ونحو ذلك وعطف وأهل المعصية على السابق من عطف العام
على الخاص.
7225 - حَدَّثَنِى يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِىَ قَالَ:
سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا تَخَلَّفَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ فَذَكَرَ حَدِيثَهُ وَنَهَى رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ
خَمْسِينَ لَيْلَةً وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَوْبَةِ اللَّهِ
عَلَيْنَا.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (يحيى بن
بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي مولاهم المصري
قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام المصري (عن عقيل) بضم
العين هو ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري (عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد
الله بن كعب بن مالك) ولأبي ذر عن عبد الله بن كعب بن مالك
(وكان) عبد الله (قائد كعب من بنيه) بفتح الموحدة وكسر
النون بعدها تحتية ساكنة (حين عمي) وفي رواية معقل عن ابن
شهاب عند مسلم وكان قائد كعب حين أصيب بصره وكان أعلم قومه
وأوعاهم لأحاديث أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه (قال: سمعت) أبي (كعب بن مالك قال: لما
تخلف عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
غزوة تبوك) بغير صرف للأكثر زاد أحمد من رواية معمر وهي
آخر غزوة غزاها (فذكر حديثه) بطوله السابق في أواخر
المغازي إلى أن قال: (ونهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسلمين عن كلامنا) أيها الثلاثة
المتخلفين وهم كعب وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع (فلبثنا
على ذلك خمسين ليلة وآذن) بالمد أعلم (رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتوبة الله علينا) أيها
الثلاثة.
ومطابقة الحديث للجزء
(10/274)
الأخير من الترجمة واضحة وفيه جوازًا الهجر أكثر من ثلاث
وأما النهي عنه فوق ثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه
شرعيًّا.
وسبق الحديث مطوّلاً ومختصرًا مرات والله الموفق والمعين.
وهذا آخر كتاب الأحكام فرغت منه مستهل سنة ست عشرة
وتسعمائة أحسن الله فيها وفيما بعدها عاقبتنا وكفانا جميع
المهمات وأفاض علينا من فواضل العميم، وهدانا إلى الصراط
المستقيم، وأعانني على إكمال هذا الشرح كتابةً وتحريرًا
ونفع به وجعله خالصًا لوجهه الكريم. استودعه تعالى ذلك
وجميع ما أنعم به عليّ، وأسأله أن يطيل عمري في طاعته
ويلبسني أثواب عافيته، ويجعل وفاتي في طيبة الطيبة مع
الرضا والإسلام، والحمد لله وصلّى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا. |