شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
97 - كتاب التوحيد
ثبتت البسملة لأبي ذر وسقطت لغيره.
(كتاب التوحيد) هو مصدر وحّد يوحّد ومعنى وحّدت الله
اعتقدته منفردًا بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه. وقال
الجنيد، التوحيد إفراد القدم من الحدث وهو بمعنى الحدوث
والحدوث يقال للحدوث الذاتي وهو كون الشيء مسبوقًا بغيره،
والزماني وهو كونه مسبوقًا بالعدم، والإضافي وهو ما يكون
وجوده أقل من وجود آخر فيما مضى، وهو تعالى منزّه عنه
بالمعاني الثلاثة وهو من الاعتبارات العقلية التي لا وجود
لها في الخارج، وفي رواية المستملي كما: في الفرع كتاب
الردّ على الجهمية بفتح الجيم وسكون الهاء وبعد الميم
تحتية مشدّدة وهم طوائف ينسبون إلى جهم بن صفوان من أهل
الكوفة والرد على غيرهم أي القدرية، وأما الخوارج فسبق ما
يتعلق بهم في كتاب الفتن وكذا الرافضة في كتاب الأحكام
وهؤلاء الفرق الأربعة رؤوس المبتدعة وقال الحافظ ابن حجر
وتبعه العيني بعد قوله كتاب التوحيد وزاد المستملي الرد
على الجهمية.
1 - باب مَا جَاءَ فِى دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى
(باب ما جاء في دعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى) وفي نسخة عز
وجل وهو الشهادة بأن الله واحد ومعنى أنه تعالى واحد كما
قاله بعضهم نفي التقسيم لذاته ونفي التشبيه عن حقه وصفاته
ونفي الشريك معه في أفعاله ومصنوعاته فلا تشبه ذاته الذوات
ولا صفته الصفات ولا فعل لغيره حتى يكون شريكًا له في فعله
أو عديلاً له، وهذا هو الذي تضمنته سورة الإخلاص من كونه
واحدًا صمدًا إلى آخرها فالحق سبحانه مخالف لمخلوقاته كلها
مخالفة مطلقة.
7371 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ
بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
صَيْفِىٍّ، عَنْ أَبِى مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى
الله عنهما أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك النبيل قال: (حدّثنا
زكريا بن إسحاق) المكي (عن يحيى بن عبد الله) ولأبي ذر عن
يحيى بن محمد بن عبد الله (بن صيفي) بالصاد المهملة مولى
عمرو بن عثمان بن عفان المكي ونسبه في الأولى لجده (عن أبي
معبد) بفتح الميم والموحدة بينهما عين مهملة ساكنة نافذ
بالنون والفاء والمعجمة (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث معاذًا إلى
اليمن). قال البخاري.
7372 - وَحَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى
الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَلاَءِ،
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِىٍّ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا بَعَثَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعَاذًا
نَحْوَ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى
قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا
تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى
فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ
فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِهِمْ
وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلُّوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ
اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِى أَمْوَالِهِمْ
تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ،
فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ
كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ».
(وحدّثني) بالإفراد (عبد الله بن أبي الأسود) هو عبد الله
بن معاذ بن محمد بن أبي الأسود واسمه حميد البصري قال:
(حدّثنا الفضل بن العلاء) بفتح العين ممدودًا الكوفي قال:
(حدّثنا إسماعيل بن أمية) الأموي (عن يحيى بن عبد الله)
ولأبي ذر وأبي الوقت والأصيلي عن يحيى بن محمد بن عبد الله
(بن صيفي أنه سمع أبا معبد) نافذًا (مولى ابن عباس) -رضي
الله عنهما- (يقول: سمعت ابن عباس يقول) ولأبي ذر قال (لما
بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معاذًا نحو
اليمن) ولأبي ذر معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن أي إلى جهة
أهل اليمن وهو من إطلاق الكل وإرادة البعض لأن بعثه كان
إلى بعضهم لا إلى جميعهم قال له:
(إنك تقدم) بفتح الدال (على قوم من أهل الكتاب) هم اليهود
(فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى) أي
(10/357)
إلى توحيده وما مصدرية (فإذا عرفوا ذلك) أي
التوحيد (فأخبرهم أن الله فرض) ولأبي ذر إن الله قد فرض
(عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا صلوا فأخبرهم أن
الله افترض عليهم زكاة أموالهم) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي زكاة في أموالهم (تؤخذ من غنيهم) بالإفراد (فترد
على فقيرهم) بالإفراد أيضًا (فإذا أقروا بذلك) صدقوا به
وآمنوا (فخذ منهم) زكاة أموالهم (وتوق) اجتنب (كرائم أموال
الناس) خيار مواشيهم أن تأخذها في الزكاة والكريمة الشاة
الغزيرة اللبن.
وفي الحديث دليل لمن قال أول واجب المعرفة كإمام الحرمين
واستدلّ بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد
الامتثال ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد
الإنزجار إلا بعد معرفة الآمر الناهي، واعترض عليه بأن
المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال وهي مقدمة الواجب
فتجب فيكون أول واجب النظر وقال الزركشي اختلف في التقليد
في ذلك على مذاهب.
أحدها: وهو قول الجمهور المنع لجماع على وجوب المعرفة
وبقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله فأمر بالعلم
بالوحدانية والتقليد لا يفيد العلم وقد ذم الله تعالى
التقليد في الأصول وحث عليه في الفروع فقال في الأصول:
{إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون}
[الزخرف: 22] وحث على السؤال في الفروع بقوله تعالى:
{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7].
والثاني: الجواز لإجماع السلف على قبول كلمتي الشهادة من
الناطق بهما ولم يقل أحد له هل نظرت أو تبصرت بدليل.
والثالث: يجب التقليد وإن النظر والبحث فيه حرام والقائل
بهذا المذهب طائفتان طائفة ينفون النظر ويقولون إذا كان
المطلوب في هذا العلم والنظر لا يفضي إليه فالاشتغال به
حرام وطائفة يعترفون بالنظر لكن يقولون: ربما أوقع النظر
في هذا في الشبه فيكون ذلك سبب الضلال لنهيهم عن علم
الكلام والاشتغال به ولا شك أن منعهم منه ليس هو لأنه
ممنوع مطلقًا كيف وقد قطع أصحابه بأنه من فروض الكفايات
وإنما منعوا منه لمن لا يكون له قدم في مسالك التحقيق
فيؤدي إلى الارتياب والشك نحو الكفر وذكر البيهقي في شعب
الإيمان هذا قال: وكيف يكون العلم الذي يتوصل به إلى معرفة
الله وعلم صفاته ومعرفة رسله والفرق بين النبي الصادق
والمتنبي مذمومًا أو مرغوبًا عنه، ولكنهم لإشفاقهم على
الضعفة أن لا يبلغوا ما يريدون منه فيضلوا نهوا عن
الاشتغال به. ونقل عن الأشعري أن إيمان المقلد لا يصح وأنه
يقول بتكفير العوام وأنكره الأستاذ أبو القاسم القشيري
وقال: هذا كذب وزور من تلبيسات الكرامية على العوام والظن
بجميع عوام المسلمين أنهم مصدقون بالله تعالى. وقال أبو
منصور في المقنع: أجمع أصحابنا على أن العوام مؤمنون
عارفون بالله تعالى وأنهم حشو الجنة للإخبار والإجماع فيه،
لكن منهم من قال: لا بد من نظر عقلي في العقائد وقد حصل
لهم منه القدر الكافي فإن فطرهم جبلت على توحيد الصانع
وقدمه وحدوث الموجودات وإن عجزوا عن التعبير عنه على
اصطلاح المتكلمين فالعلم بالعبارة علم زائد لا يلزمهم وقد
كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكتفي من
الأعرابي بالتصديق مع العلم بقصورهم عن معرفة النظر
بالأدلة.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وسبق أول الزكاة.
7373 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِى حَصِينٍ
وَالأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ سَمِعَا الأَسْوَدَ بْنَ
هِلاَلٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا
مُعَاذُ أَتَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ»؟
قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «أَنْ
يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِى مَا
حَقُّهُمْ عَلَيْهِ» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: «أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة
المشدّدة بندار قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي حصين) بفتح الحاء وكسر
الصاد المهملتين
عثمان بن عاصم الأسدي (والأشعث بن سليم) بضم السين المهملة
هو الأشعث بن أبي الشعثاء المحارب أنهما (سمعا الأسود بن
هلال) المحاربي الكوفي (عن معاذ بن جبل) رضى الله عنه أنه
(قال: قال النبي) ولأبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال) معاذ: قلت:
(الله ورسوله أعلم. قال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أن يعبدوهُ) بأن يطيعوه ويجتنبوا
معاصيه (ولا يشركوا به
(10/358)
شيئًا) عطف على السابق لأنه تمام التوحيد
والجملة حالية أي يعبدوه في حال عدم الإشراك به ثم قال
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أتدري) يا معاذ (ما
حقهم عليه) ما حق العباد على الله وهو من باب المشاكلة
كقوله تعالى: {ومكروا ومكر الله} [آل عمران: 54] أو المراد
الحق الثابت أو الواجب الشرعي بإخباره تعالى عنه أو
كالواجب في تحقق وجوبه (قال) معاذ: (الله ورسوله أعلم.
قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أن لا يعذبهم)
إذا اجتنبوا الكبائر والمناهي وأتوا بالمأمورات.
والحديث سبق في الرقاق وغيره، وأخرجه مسلم في الإيمان.
7374 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً
يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الصمد: 1]
يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ لَهُ
ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ
الْقُرْآنِ».
زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ
أَخْبَرَنِى أَخِى قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام بن أنس الأصبحي (عن عبد الرحمن بن
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه) عبد الله
(عن أبي سعيد الخدري) -رضي الله عنه- (أن رجلاً سمع رجلاً
يقرأ {قل هو الله أحد} يرددها) يكررها ويعيدها واسم الرجل
القارئ قتادة بن النعمان رواه ابن وهب عن ابن لهيعة عن
الحارث بن يزيد عن أبي الهيثم عن أبي سعيد (فلما أصبح جاء
إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر له
ذلك) ولأبي ذر فذكر ذلك له (وكأن) بالواو والهمزة وتشديد
النون ولأبي ذر عن الكشميهني فكأن بالفاء (الرجل) الذي سمع
(يتقالها) بالقاف وتشديد اللام يعدّها قليلة (فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(والذي نفسي بيده إنها) أي {قل هو الله أحد} ولأبي ذر
فإنها (لتعدل ثلث القرآن) لأن القرآن على ثلاثة أنحاء قصص
وأحكام وصفات لله عز وجل، و {قل هو الله أحد} متمحضة
للتوحيد والصفات فهي ثلثه وفيه دليل على شرف علم التوحيد،
وكيف لا والعلم يشرف بشرف المعلوم ومعلوم هذا العلم هو
الله وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه فما ظنك بشرف
منزلته وجلالة محله (زاد إسماعيل بن جعفر) الأنصاري (عن
مالك) الإمام (عن عبد الرحمن عن أبيه) عبد الله بن
عبد الرحمن بن أبي صعصعة (عن أبي سعيد) الخدري -رضي الله
عنه- أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (أخي) لأمي (قتادة بن
النعمان عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
وهذا سبق في فضل {قل هو الله أحد} من فضائل القرآن.
7375 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو،
عَنِ ابْنِ أَبِى هِلاَلٍ أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ
عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَتْ فِى حَجْرِ
عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ رَجُلاً عَلَى
سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِى صَلاَتِهِ
فَيَخْتِمُ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فَلَمَّا
رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «سَلُوهُ لأَىِّ شَىْءٍ
يَصْنَعُ ذَلِكَ»؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ
الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ».
وبه قال: (حدّثنا محمد) كذا غير منسوب في الفرع كأصله قال
خلف في الأطراف أحسبه محمد بن يحيى الذهلي قال: (حدّثنا
أحمد بن صالح) أبو جعفر بن الطبراني الحافظ المصري قال:
(حدّثنا ابن وهب) عبد الله المصري قال: (حدّثنا عمرو) بفتح
العين ابن الحارث المصري (عن ابن أبي هلال) سعيد (أن أبا
الرجال) بكسر الراء وتخفيف الجيم (محمد بن عبد الرحمن)
الأنصاري مشهور بكنيته وكان له عشرة أولاد رجال (حدّثه عن
أمه عمرة) بفتح العين المهملة وسكون الميم (بنت عبد
الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية (وكانت في حجر
عائشة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن
عائشة) -رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بعث رجلاً على سرية) أميرًا عليها وهو متعلق
ببعث، ولا يصح أن يتعلق بصفة لرجل لفساد المعنى ولا بحال
لأن رجلاً نكرة ولم يقل في سرية لأن على تفيد معنى
الاستعلاء والرجل قيل هو كلثوم بن الهدم. قال الحافظ ابن
حجر: وفيه نظر لأنهم ذكروا أنه مات في أول الهجرة قبل نزول
القتال قال: ورأيت بخط الرشيد العطار كلثوم بن زهدم وعزاه
لصفوة الصفوة لابن طاهر، ويقال قتادة بن النعمان وهو غلط
وانتقال من الذي قبله إلى هذا (وكان يقرأ لأصحابه في
صلاته) ولأبي ذر في صلاتهم أي التي يصلّيها بهم (فيختم)
قراءته (بـ {قل هو الله أحد}) السورة إلى آخرها. وهذا
يُشعِر بأنه كان يقرأ بغيرها معها في ركعة واحدة فيكون
دليلاً على جواز الجمع بين السورتين غير الفاتحة في ركعة
أو المراد أنه كان من عادته أن يقرأها بعد الفاتحة (فلما
رجعوا) من السرية (ذكروا ذلك للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك فسألوه)
لِمَ تختم بقل هو الله أحد؟ (فقال) الرجل: أختم بها (لأنها
صفة الرحمن) لأن فيها أسماءه وصفاته وأسماؤه مشتقة
(10/359)
من صفاته (وأنا أحب أن أقرأ بها) فجاؤوا
فأخبروا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أخبروه أن الله) تعالى (يحبه) لمحبته قراءتها ومحبة الله
تعالى لعباده إرادة الإثابة لهم.
والحديث سبق في باب الجمع بين السورتين في الركعة من كتاب
الصلاة، وأخرجه مسلم في الصلاة والنسائي فيه وفي اليوم
والليلة.
2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلِ
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا
تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]
(باب قول الله تبارك وتعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا
الرحمن}) أي سموا بهذا الاسم أو بهذا قال البيضاوي المراد
بالتسوية بين اللفظتين هو أنهما يطلقان على ذات واحدة وإن
اختلف اعتبار إطلاقهما، والتوحيد إنما هو للذات الذي هو
المعبود هذا إذا كان ردًا لقول المشركين أي حين سمعوه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: يا الله يا
رحمن فقالوا إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهًا آخر،
وعلى أن يكون ردًّا لليهود أي حيث قالوا لما سمعوه أيضًا
يقول يا الله يا رحمن إنك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثره الله
تعالى في التوراة، فالمعنى أنهما سيان في حسن الإطلاق
والإفضاء إلى المقصود وهو أجوب لقوله: ({أيًّا ما تدعوا
فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]) وأو للتخيير والتنوين
في أيًّا عوض عن المضاف إليه وما صلة لتأكيد ما في أيٍّ من
الإبهام والضمير في قوله له للمسمى لأن التسمية له لا
للاسم، وكان أصل الكلام أيًّا ما تدعوا فهو حسن فوضع موضعه
فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل
عليه، وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام اهـ.
قال الطيبي: إنما كان أجوب لأن اعتراض اليهود كان تعيير
للمسلمين على ترجيح أحد الاسمين على الآخر واعتراض
المشركين كان تعييبرًا على الجمع بين اللفظين فقوله: أيًّا
ما تدعوا مطابق للردّ على اليهود لأن المعنى أيّ الاسمين
دعوتموه فهو حسن وهو لا ينطبق على اعتراض المشركين،
والجواب هذا مسلم إذا كان أو للتخيير فلم يمنع أن تكون
للإباحة كما في قوله: جالس الحسن أو ابن سيرين، فحينئذ
يكون أجوب وتقريبه قل سموا ذاته المقدسة بالله أو بالرحمن
فهما سيان في استصواب التسمية بهما فبأيهما سميته فأنت
مصيب وإن سميته بهما فأنت أصوب لأن له الأسماء الحسنى وقد
أمرنا أن ندعو بها في قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى
فادعوه بها} [الأعراف: 180] فجواب الشرط الأول قوله فأنت
مصيب، ودل على الشرط الثاني وجوابه قوله: {فله الأسماء
الحسنى} وحينئذ فالآية فن من فنون الإيجاز الذي هو حلية
التنزيل وقوله: {فله الأسماء الحسنى} هو من باب الإطناب
فظهر بهذا أن الإباحة أنسب من التخيير لأن أبا جهل حضر
الجمع بين الاسمين فردّ بإباحة أن يجمع بين أسماء تعني
فكيف يمنع من الجمع بين الاسمين وقد أبيح الجمع بين
الأسماء المتكاثرة على أن الجواب بالتخيير في الردّ على
أهل الكتاب غير مطابق لأنهم اعترضوا بالترجيح، وأجيب
بالتسوية لأن أو تقتضيها وكان الجواب العتيد أن يقال إنما
رجحنا الله على الرحمن في الذكر لأنه جامع لجميع صفات
الكمال بخلاف الرحمن ويساعد ما ذكرنا من أن الكلام مع
المشركين قوله تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا
ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذل}
[الإسراء: 111] لأنه مناسب أن يكون تسجيلاً للردّ على
المشركين.
7376 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ
وَأَبِى ظَبْيَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ
النَّاسَ».
وبه قال: (حدّثنا محمد) ولأبي ذر محمد بن سلام بتخفيف
اللام وتشديدها قال: (أخبرنا) ولأبي ذر: حدّثنا (أبو
معاوية) محمد بن خازم بالخاء المعجمة والزاي (عن الأعمش)
سليمان بن مهران الكوفي (عن زيد بن وهب) الهمداني الكوفي
(وأبي ظبيان) بفتح الظاء المعجمة وسكون الموحدة حصين بضم
الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن جندب الكوفي كلاهما (عن
جرير بن عبد الله) البجلي -رضي الله عنه- أنه (قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا يرحم الله) في الآخرة (من لا يرحم الناس) من مؤمن
وكافر ويرحم بفتح أوله في الموضعين.
ومطابقته للترجمة ظاهرة، وسبق الحديث في الأدب وأخرجه مسلم
في الفضائل.
7377 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ
أَبِى عُثْمَانَ النَّهْدِىِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ
يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِى الْمَوْتِ فَقَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ارْجِعْ
فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا
أَعْطَى وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى،
فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ»، فَأَعَادَتِ
الرَّسُولَ أَنَّهَا أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا فَقَامَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَامَ
مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
فَدُفِعَ الصَّبِىُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ
كَأَنَّهَا فِى شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ
سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ قَالَ: «هَذِهِ
رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ
وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ
الرُّحَمَاءَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل قال: (حدّثنا
حماد بن زيد) بفتح الحاء والميم المشددة ابن
(10/360)
درهم الأزدي أحد الأعلام (عن عاصم الأحول)
بن سليمان (عن أبي عثمان) عبد الرحمن بن ملّ (النهدي) بفتح
النون وسكون الهاء (عن أسامة بن زيد) الحبّ ابن الحِب -رضي
الله عنه- أنه (قال: كنا عند النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ جاءه رسول إحدى بناته) زينب
(يدعوه) أي الرسول ولأبي ذر: تدعوه بالفوقية بدل التحتية
أي تدعوه زينب على لسان رسولها (إلى ابنها) وهو (في) حالة
(الموت) من معالجة الروح (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ارجع) زاد أبو ذر إليها وسقط له لفظ النبي والتصلية
(فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى) أي الذي أراد أن
يأخذه هو الذي أعطاه فإن أخذه أخذ ما هو له ولفظ ما فيهما
مصدرية أي أن لله الأخذ والإعطاء أو موصولة والعائد محذوف
وكذا الصلة (وكل شيء) من الأخذ والإعطاء وغيرهما (عنده) في
علمه (بأجل مسمى) مقدّر (فمرها فلتصبر ولتحتسب) أي تنوي
بصبرها طلب الثواب منه تعالى ليحسب ذلك من عملها الصالح
(فأعادت الرسول) إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(أنها أقسمت) ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي قد أقسمت أي عليه (ليأتينها، فقام
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقام سعد بن
عبادة ومعاذ بن جبل) زاد في الجنائز وأبيّ بن كعب وزيد بن
ثابت ورجال (فدفع الصبي إليه) بالفاء والدال المهملة
المضمومة، وللكشميهني فرفع بالراء بدل الدال، وللحموي
والمستملي ورفع بالواو بدل الفاء (ونفسه تقعقع) بحذف إحدى
التاءين تخفيفًا أي تضطرب وتتحرك والقعقعة حكاية حركة لشيء
يسمع له صوت كالسلاح (كأنها) أي نفسه (في شنّ) بفتح الشين
المعجمة وتشديد النون قربة خلقة يابسة (ففاضت) بالبكاء
(عيناه) في (فقال له سعد) أي ابن عبادة المذكور (يا رسول
الله ما هذا) البكاء وأنت تنهى عنه؟ وثبت ما هذا لأبي ذر
(قال): (هل له رحمة) أي الدمعة التي نراها من حزن القلب
بغير تعمد ولا استدعاء لا مؤاخذة فيها فهي أثر الرحمة التي
(جعلها الله) تعالى (في قلوب عباده وإنما يرحم الله من
عباده الرحماء) وليس من باب الجزع وقلة الصبر. والرحماء
جمع رحيم من صيغ المبالغة وهو أحد الأمثلة الخمسة فعول
وفعال ومفعال وفعل وفعيل وزاد بعضهم فيها فعيلاً كسكير
وجاء فعيل بمعنى مفعول. قال المتلمس:
فأما إذا عضت بك الحرب عضّة ... فإنك عطوف عليك رحيم
والرحمة لغة الرقة والانعطاف ومنه اشتقاق الرحم وهي البطن
لانعطافها على الجنين، فعلى هذا يكون وصفه تعالى بالرحمة
مجازًا عن إنعامه تعالى على عباده كالملك إذا عطف على
رعيته أصابهم خيره وتكون على هذا التقدير صفة فعل لا صفة
ذات، وقيل: الرحمة إرادة الخير لمن أراد الله به ذلك ووصفه
بها على هذا القول حقيقة وحينئذ صفة ذات، وهذا القول هو
الظاهر. وقيل: الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد
تستعمل تارة في الرقة المجردة وتارة في الإحسان المجرد،
وإذا وصف بها الباري تعالى فليس يراد بها إلا الإحسان
المجرد دون الرقة، وعلى هذا روي الرحمة من الله إنعام
وإفضال، ومن الآدميين رقة وتعطف، وأما ما روي عن ابن عباس
-رضي الله عنهما- أنه قال: الرحمن الرحيم اسمان رقيقان
أحدهما أرفق من الآخر فلا يثبت لأنه من رواية الكلبي عن
أبي صالح عنه والكلبي متروك الحديث.
ونقل البيهقي عن الحسين بن الفضل البجلي أنه نسب راوي حديث
ابن عباس إلى التصحيف وقال: إنما هو الرفيق بالفاء أي فهما
اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر وقوّاه البيهقي بالحديث
المروي في مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: إن الله
رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف، واختلف
هل الرحمن الرحيم بمعنى واحد؟ فقيل بمعنى واحد كندمان
ونديم فيكون الجمع بينهما تأكيدًا، وقيل لكل واحد منهما
فائدة غير فائدة الآخر وذلك بالنسبة إلى تغاير تعلقهما إذ
يقال: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة
(10/361)
لأن رحمته في الدنيا تعم المؤمن والكافر
وفي الآخرة تخص المؤمن، وقيل: الرحمن أبلغ إذ لا يطلق إلا
على الله سبحانه، وعلى هذا فالقياس أن يترقى إلى الأبلغ
فيقول رحيم رحمن.
قال صاحب التقريب: إنما قدم أعلى الوصفين والقياس تقديم
أدناهما كجواد فياض لأن
ذلك القياس فيما كان الثاني من جنس الأول وفيه زيادة
الرحمن يتناول جلائل النعم وأصولها، والرحيم دقائقها
وفروعها فلم يكن في الثاني زيادة على الأول فكأنه جنس آخر
فيقال لما ثبت أن الرحمن أبلغ من الرحيم في تأدية معنى
الرحمة المترقي من الرحيم إليه لأن معنى الترقي هو أن يذكر
معنى ثم يردف بما هو أبلغ منه.
وقال صاحب الإيجاز والانتصاف: الرحمن أبلغ لأنه كالعلم إذ
كان لا يوصف به غير الله فكأنه الموصوف وهو أقدم، إذ الأصل
في نعم الله أن تكون عظيمة فالبداءة بما يدل على عظمها
أولى هذا أحسن الأقوال يعني أن هذا الأسلوب ليس من باب
الترقي بل هو من باب التتميم وهو تقييد الكلام بتابع يفيد
مبالغة، وذلك أنه تعالى لما ذكر ما دلّ على جلائل النعم
وعظائمها أراد المبالغة والاستيعاب فتمم بما دل على
دقائقها وروادفها ليدل به على أنه مولى النعم كلها ظواهرها
وبواطنها جلائلها ودقائقها فلو قصد الترقي لفاتت المبالغة
المذكورة، ومن شرط التتميم الأخذ بما هو أعلى في الشيء ثم
بما هو أحط منه ليستوعب جميع ما يدخل تحت ذلك الشيء لأنهم
لا يعدلون عن الأصل والقياس إلا لتوخي نكتة، وقيل: إنه من
باب التكميل وهو أن يؤتى بكلام في فن فيرى أنه ناقص فيه
فيكمل بآخر فإنه تعالى لما قال الرحمن توهم أن جلائل النعم
منه وأن الدقائق لا يجوز أن تنسب إليه لحقارتها فكمل
بالرحيم، ويؤيده ما في حديث الترمذي عن أنس مرفوعًا:
"ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع"
وزاد حتى يسأل الملح.
وحديث الباب سبق في الجنائز.
3 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]
(باب قول الله تعالى:) أنا الرزاق ولأبوي الوقت وذر
والأصيلي ({وإن الله هو الرزاق}) أي الذي يرزق كل ما يفتقر
إلى الرزق وفيه إيماء باستغنائه عنه وقرئ: إني أنا الرزاق
وهو موافق للرواية الأولى ({ذو القوة المتين} [الذاريات:
58]) الشديد القوّة والمتين بالرفع صفة لذو وقرأ الأعمش
بالجر صفة للقوّة على تأويل الاقتدار.
7378 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِى حَمْزَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِىِّ، عَنْ أَبِى مُوسَى
الأَشْعَرِىِّ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى
سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ
يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان بن جبلة
المروزي (عن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن
ميمون السكري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن سعيد بن
جبير) ولأبي ذر هو ابن جبير (عن أبي عبد الرحمن) بن حبيب
بفتح الموحدة وتشديد التحتية (السلمي)
الكوني المقرئ ولأبيه صحبة (عن أبي موسى الأشعري) -رضي
الله عنه- (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(ما أحد أصبر) ولأبي ذر بالرفع أفعل تفضيل من الصبر وهو
حبس النفس على المكروه والله تعالى منزه عن ذلك فالمراد
لازمه وهو ترك المعاجلة والعقوبة (على أذى سمعه من الله
يدّعون) بتشديد الدال (له) أي ينسبون إليه (الولد) واستشكل
بأن الله تعالى منزه عن الأذى. وأجيب: بأن المراد أذى يلحق
أنبياءه إذ في إثبات الولد إيذاء للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه تكذيب له وإنكار لمقالته (ثم
يعافيهم) من العلل والبليات والمكروهات (ويرزقهم) ما
ينتفعون به من الأقوات وغيرها مقابلة للسيئات بالحسنات
والرزاق خالق الأرزاق والأسباب التي يتمتع بها، والرزق هو
المنتفع به وكل ما ينتفع به فهو رزقه سواء كان مباحًا أو
محظورًا والرزق نوعان محسوس ومعقول، ولذا قال بعض
المحققين: الرزاق من رزق الأشباح فوائد لطفه والأرواح
عوائد كشفه. وقال القرطبي: الرزق في ألسنة المحدّثين
السماع يقال: رزق يعنون به سماع الحديث قال: وهو صحيح
انتهى.
وحظ العارف منه أن يتحقق معناه ليتيقن أنه لا يستحقه إلا
الله فلا ينتظر الرزق ولا يتوقعه إلا منه فيكل أمره إليه
ولا يتوكل فيه إلا عليه، ويجعل يده خزانة ربه ولسانه وصلة
بين الله وبين الناس في وصول الأرزاق الروحانية والجسمانية
إليهم
(10/362)
بالإرشاد والتعليم وصرف المال ودعاء الخير
وغير ذلك لينال حظًّا من هذه الصفة. قال القشيري أبو
القاسم: من عرف أن الله هو الرزاق أفرده بالقصد إليه وتقرب
إليه بدوام التوكل عليه أرسل الشبلي إلى غني أن ابعث إلينا
شيئًا من دنياك فكتب إليه سل دنياك من مولاك، فكتب إليه
الشبلي الدنيا حقيرة وأنت حقير وإنما أطلب الحقير من
الحقير ولا أطلب من مولاي غير مولاي، فسمت همته العلية أن
لا يطلب من الله تعالى الأشياء الخسيسة.
ومناسبة الآية للحديث اشتماله على صفتي الرزق والقوة
الدالة على القدرة، أما الرزق فمن قوله ويرزقهم، وأما
القوة فمن قوله اصبر فإن فيه إشارة إلى القدرة على الإحسان
إليهم مع إساءتهم بخلاف طبع البشر فإنه لا يقدر على
الإحسان إلى المسيء إلا من جهة تكليفه ذلك شرعًا قاله ابن
المنير.
وسبق الحديث في الأدب في باب الصبر على الأذى.
4 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَدًا} [الجن: 26] وَ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ} [لقمان: 34] وَ {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}
[النساء: 166] وَ {مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ
إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ
السَّاعَةِ} [فصلت: 47].
قَالَ يَحْيَى الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا
وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا.
(باب قول الله تعالى: {عالم الغيب}) خبر مبتدأ محذوف أي هو
عالم الغيب ({فلا يظهر}) فلا يطلع ({على غيبه أحدًا}
[الجن: 26]) من خلقه إلا من ارتضى من رسول أي إلا رسولاً
قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ليكون إخباره عن الغيب معجزة له
فإنه يطلعه على غيبه ما شاء ومن رسول بيان لمن ارتضى. قال
في الكشاف: وفي هذه الآية إبطال الكرامات لأن الذين تضاف
إليهم الكرامات وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد
خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب اهـ.
وأجيب: بأن قوله على غيبه لفظ مفرد ليس فيه صيغة العموم
فيكفي أن يقال: إن الله لا يظهر على غيب واحد من غيوبه
أحدًا إلا الرسل فيحمل على وقت وقوع القيامة فكيف وقد
ذكرها عقب قوله أقريب أم بعيد ما توعدون؟ وتعقب بأنه ضعيف
لأن الرسل أيضًا لم يظهروا على ذلك.
وقال البيضاوي: جوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما
يكون من غير واسطة وكرامات الأولياء على المغيبات إنما
تكون تلقيًا عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط
الأنبياء.
وقال الطيبي: الأقرب تخصيص الاطلاع بالضعف والخفاء فإن
اطلاع الله الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم على الغيب
أمكن وأقوى من إطلاعه الأولياء يدل على حرف الاستعلاء في
قوله: على غيبه فضمن يظهر معنى يطلع أي فلا يظهر الله على
غيبه إظهارًا تامًّا وكشفًا جليًّا إلا من ارتضى من رسول،
فإن الله تعالى إذا أراد أن يطلع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغيب يوحي إليه أو يرسل إليه الملك.
وأما كرامات الأولياء فهي من قبيل التلويحات واللمحات أو
من جنس إجابة دعوة وصدق فراسة فإن كشف الأولياء غير تام
كالأنبياء.
(و) باب قول الله تعالى: ({إن الله عنده علم الساعة}
[لقمان: 34]) أي وقت قيامها (و) قوله تعالى: ({أنزله
بعلمه} [النساء: 166]) أي أنزله وهو عالم بأنك أهل بإنزاله
إليك وأنك مبلغه أو أنزله بما علم من مصالح العباد وفيه
نفي قول المعتزلة في إنكار الصفات فإنه أثبت لنفسه العلم
وقوله تعالى: ({وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه}
[فاطر: 11]) هو في موضع الحال أي إلا معلومة له، وقوله
تعالى: ({إليه يردّ علم الساعة} [فصلت: 47]) أي علم قيامها
يردّ إليه أي يجب على المسؤول أن يقول الله أعلم بذلك.
(قال يحيى بن زياد): الفراء المشهور في كتاب معاني القرآن
له (الظاهر على كل شيء علمًا والباطن على كل شيء علمًا)
وقال غيره: الظاهر الجلي وجوده بآياته الباهرة في أرضه
وسمائه والباطن المحتجب كنه ذاته عن نظر العقل بحجب
كبريائه، وقيل الظاهر بالقدرة والباطن عن الفكرة، وقيل
الظاهر بلا اقتراب والباطن بلا احتجاب. وقال الشيخ أبو
حامد: اعلم أنه إنما خفي مع ظهوره لشدة ظهوره وظهوره سبب
بطونه ونوره هو حجاب نوره، وقيل: الظاهر بنعمته
والباطن برحمته. وقيل: الظاهر بما يفيض عليك من العطاء
والنعماء، والباطن بما يدفع عنك من البلاء. وقيل: الظاهر
لقوم فلذلك وحّدوه والباطن عن قوم فلذلك جحدوه.
7379 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ
اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ
اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ،
وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِى الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ
اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ
إِلاَّ اللَّهُ».
وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) القطواني الكوفي قال:
(حدّثنا سليمان بن بلال) أبو محمد مولى الصديق قال:
(حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن دينار) المدني مولى ابن
عمر (عن ابن عمر
(10/363)
-رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله) أي أنه تعالى يعلم
ما غاب عن العباد من الثواب والعقاب والآجال والأحوال جعل
للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها
إلى ما في المخازن المستوثق منها بالإغلاق والإقفال، ومن
علم مفاتيحها وكيفية فتحها توصل إليها فأراد أنه المتوصل
إلى المغيبات المحيط علمه بها لا يتوصل إليها غيره فيعلم
أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما
اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته، وفيه دليل على أنه تعالى
يعلم الأشياء قبل وقوعها والحكمة في كونها خمسًا الإشارة
إلى حصر العوالم فيها فأشار إلى ما يزيد في النفس وينقص
بقوله: (لا يعلم ما تغيض الأرحام إلاَّ الله) أي ما تنقصه
يقال غاض الماء وغضته أنا وما تزداد أي ما تحمله من الولد
على أي حال هو من ذكورة وأنوثة وعدد فإنها تشتمل على واحد
واثنين وثلاثة وأربعة، أو جسد الولد فإنه يكون تامًّا
ومخدجًا أو مدة الولادة فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد
عليها إلى أربع عند الشافعي، وإلى سنتين عند الحنفية، وإلى
خمس عند مالك، وخص الرحم بالذكر لكون أكثر يعرفونها
بالعادة، ومع ذلك نفى أن يعرف أحد حقيقتها نعم إذا أمر
بكونه ذكرًا أو أنثى أشقيًا أو سعيدًا علم به الملائكة
الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه.
وأشار إلى أنواع الزمان وما فيها من الحوادث بقوله: (ولا
يعلم ما في غد) من خير وشر وغيرهما (إلاّ الله) وعبّر بلفظ
غد لأن حقيقته أقرب الأزمنة وإذا كان مع قربه لا يعلم
حقيقة ما يقع فيه فما بعده أحرى.
وأشار إلى العالم العلوي بقوله: (ولا يعلم متى يأتي المطر)
ليلاً أو نهارًا (أحد إلا الله) نعم إذا أمر به علمته
الملائكة الموكلون به ومن شاء الله من خلقه.
وأشار إلى العالم السفلي بقوله: (ولا تدري نفس بأيّ أرض
تموت إلا الله) أي أين تموت، وربما أقامت بأرض وضربت
أوتادها. وقالت: لا أبرح منها فترمي بها مرامي القدر حتى
تموت
في مكان لم يخطر ببالها كما روي أن ملك الموت مرّ على
سليمان بن داود عليهما السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه
يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت.
فقال: كأنه يريدني فمرّ الريح أن تحملني وتلقيني بالهند
ففعل فقال ملك الموت: كان دوام نظري تعجبًا منه إذ أمرت أن
أقبض روحه بالهند وهو عندك.
وفي الطبراني الكبير عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما جعل الله منية
عبد بأرض إلا جعل له فيها حاجة وإنما جعل العلم لله
والدراية للعبد" لأن في الدراية معنى الحيلة، والمعنى أنها
أي النفس لا تعرف وإن أعملت حيلتها ما يختص بها ولا شيء
أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فإذا لم يكن له طريق إلى
معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد، وأما المنجم الذي
يخبر بوقت الغيب والموت فإنه يقول بالقياس والنظر في
المطالع وما يدرك بالدليل لا يكون غيبًا على أنه مجرد الظن
والظن غير العلم والله تعالى أعلم.
وأشار إلى علوم الآخرة بقوله: (ولا يعلم متى تقوم الساعة
إلا الله) فلا يعلم ذلك نبي مرسل ولا ملك مقرّب.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، والحديث سبق في آخر
الاستسقاء.
7380 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِىِّ، عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ:
مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ وَهْوَ يَقُولُ:
{لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَمَنْ
حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ،
وَهْوَ يَقُولُ: (لاَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ).
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) بن واقد الفريابي الضبي
مولاهم محدّث قيسارية قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن
إسماعيل) بن أبي خالد البجلي (عن الشعبي) عامر بن شراحيل
أحد الأعلام قال: أدركت خمسمائة من الصحابة وما كتبت سوداء
في بيضاء ولا حدّثت بحديث إلا حفظته (عن مسروق) أي ابن
الأجدع (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: من حدّثك
أن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى ربه)
ليلة المعراج (فقد كذب) قالته رأيًا باجتهادها لقوله:
(وهو) أي الله تعالى (يقول) في سورة الأنعام: ({لا تدركه
الأبصار} [الأنعام: 103]) وأجاب المثبتون بأن معنى الآية
لا تحيط به الأبصار أو لا تدركه الأبصار وإنما يدركه
المبصرون أو لا تدركه في الدنيا لضعف تركيبها في الدنيا
فإذا كان في الآخرة خلق الله تعالى فيهم قوة يقدرون بها
على الرؤية،
(10/364)
وفي كتابي المواهب من مباحث ذلك ما يكفي.
(ومن حدّثك أنه يعلم الغيب فقد كذب) والضمير في أنه يعلم
للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعطفه على
قوله: من حدثك أن محمدًا وصرح به فيما أخرجه ابن خزيمة
وابن حبان من طريق عبد ربه بن سعد عن داود عن أبي هند عن
الشعبي بلفظ: أعظم الفرية على الله من قال إن محمدًا رأى
ربه وأن
محمدًا كتم شيئًا من الوحي وأن محمدًا يعلم ما في غد (وهو)
تعالى (يقول: (لا يعلم الغيب إلا الله)) والآية {قل لا
يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65]
وجاز مثل ذلك لأنه ليس الغرض القراءة ولا نقلها وقول
الداودي ما أظن قوله في هذا الطريق من حدّثك أن محمدًا
يعلم الغيب محفوظًا وما أحد يدعي أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يعلم من الغيب إلا ما
علمه الله متعقب بأن بعض من لم يرسخ في الإيمان كان يظن
ذلك حتى كان يرى أن صحة النبوة تستلزم اطلاع النبي جميع
المغيبات، ففي مغازي ابن إسحاق أن ناقته -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضلت فقال ابن الصليت بالصاد المهملة
آخره مثناة بوزن عظيم: يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء
وهو لا يدري أين ناقته فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن رجلاً يقول كذا وكذا وإني والله
لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في شعب
كذا قد حبستها شجرة فذهبوا فجاؤوا بها فأعلم -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لا يعلم من الغيب إلا ما
علمه الله، والغرض من الباب إثبات صفة العلم وفيه ردّ على
المعتزلة حيث قالوا: إنه عالم بلا علم.
قال العبري: وكتبهم شاهدة بتعليل عالمية الله تعالى بالعلم
كما يقول به أهل السُّنَّة لكن النزاع في أن ذلك العلم
المعلل به هل هو عين الذات كما يقول المعتزلة أو لا كما
يقول أهل السُّنّة ثم إن علمه تعالى شامل لكل معلوم جزئيات
وكليات قال تعالى: {أحاط بكل شيء علمًا} [الطلاق: 12] أي
علمه أحاط بالمعلومات كلها. وقال تعالى: {عالم الغيب لا
يعزب عنه مثقال ذرة} [سبأ: 3] الآية. وأطبق المسلمون على
أنه تعالى يعلم دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء في
الليلة الظلماء، وأن معلوماته لا تدخل تحت العلة والإحصاء
وعلمه محيط بها جملة وتفصيلاً، وكيف لا وهو خالقها ألا
يعلم من خلق، وضلت الفلاسفة حيث زعموا أنه يعلم الجزئيات
على الوجه الكلي لا الجزئي.
وحديث الباب سبق في التفسير.
5 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {السَّلاَمُ
الْمُؤْمِنُ} [الحشر: 23]
(باب قول الله تعالى: {السلام}) سقط لفظ باب لغير أبي ذر،
والسلام هو مصدر نعت به. والمعنى ذو السلامة من النقائص
والبراءة من العيوب والفرق بينه وبين القدوس أن القدوس يدل
على براءة الشيء من نقص تقتضيه ذاته فإن القدس طهارة الشيء
في نفسه، والسلام يدل على نزاهته عن نقص يعتريه لعروض آفة
أو صدور فعل، وقيل معنى السلام مالك تسليم العباد من
المخاوف والمهالك فيرجع إلى القدرة فيكون من صفات الذات،
وقيل ذو السلام على المؤمنين في الجنان كما قال تعالى:
{سلام قولاً من رب رحيم} [يس: 58] فيكون مرجعه إلى الكلام
القديم ووظيفة العارف أن يتخلق به بحيث يسلم قبله عن الحقد
والحسد وإرادة الشر وقصد الخيانة وجوارحه عن ارتكاب
المحظورات واقتراف الآثام ({المؤمن} [الحشر: 23]) هو الذي
آمن أولياءه عذابه يقال آمنه يؤمنه فهو مؤمن وقيل المصدق
لرسله بإظهار معجزته عليهم ومصدق المؤمنين ما
وعدهم من الثواب ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب، وقال
مجاهد: المؤمن الذي وجد نفسه بقوله: شهد الله أنه لا إله
إلا الله.
7381 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ
سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا نُصَلِّى
خَلْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَنَقُولُ: السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ
السَّلاَمُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ
وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ
أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ،
السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ
الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن
يونس الكوفي قال: (حدّثنا زهير) بضم الزاي مصغرًا ابن
معاوية الجعفي قال: (حدّثنا مغيرة) بن المقسم بكسر الميم
قال: (حدّثنا شقيق بن سلمة) أبو وائل الأسدي الكوفي
المخضرم (قال: قال عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- (كنا
نصلي خلف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فنقول) في التشهد (السلام على الله) أي من عباده كما في
الرواية الأخرى (فقال) لنا (النبى -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما فرغ من الصلاة:
(إن الله هو السلام) فأنكر التسليم على الله، وبين أن ذلك
عكس ما يجب أن يقال فإن كل سلام ورحمة له ومنه فهو
(10/365)
مالكها ومعطيها. وقال ابن الأنباري: أمرهم
أن يصرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وغناه سبحانه
وتعالى عنها (ولكن قولوا التحيات لله) جمع تحية وهي تفعلة
من الحياة بمعنى الإحياء والتبقية واللام في لله للاختصاص
أو المراد كل ما تعظّم به الملوك له فاللام للاستحقاق
(والصلوات) المعهودات في الشرع واجبة (والطيبات) ما طاب من
الكلام وحسن أن يثنى به على الله أو ذكر الله مستحق لله
(السلام عليك) مبتدأ حذف خبره أي السلام عليك موجود (أيها
النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين) إنما أعاد حرف الجر ليصح العطف على الضمير
المجرور والصالحين نعت لعباد، والصالح هو القائم بحقوق
الله تعالى وحقوق العباد (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد
أن محمدًا عبده ورسوله) معطوف على سابقه ورسوله فعول بمعنى
مرسل وفعول بمعنى مفعل قليل. قال ابن عطية: العرب تجري
رسول مجرى المصدر فتصف به الجمع والواحد والمؤنث، ومنه
قوله تعالى: {أنا رسول ربك} [مريم: 19].
والحديث سبق في الصلاة بأتم من هذا.
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ}
[الناس: 2]
فِيهِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(باب قول الله تعالى) وسقط لغير أبي ذر لفظ باب ({ملك
الناس} [الناس: 2]) الملك معناه ذو الملك، وهو إذا كان
عبارة عن التصرف في الأشياء بالخلق والإبداع والإماتة
والأحياء كان من
أسماء الأفعال كالخالق، وعن بعض المحققين الملك الحق هو
الغني مطلقًا في ذاته وفي صفاته عن كل ما سواه ويحتاج إليه
كل ما سواه إما بواسطة أو بغير واسطة فهو بتقدير منفرد
وبتدبير متوحد ليس لأمره مردّ ولا لحكمه ردّ، أما العبد
فإنه محتاج في الوجود إلى الغير والاحتياج مما ينافي
الملك، فلا يمكن أن يكون له ملك مطلق والملك يختص عرفًا
بمن يسوس ذوي العقول ويدبر أمورهم فلذلك تقول ملك الناس،
ولا يقال ملك الأشياء ووظيفة العارف من هذا الاسم أن يعلم
أنه هو المستغني على الإطلاق عن كل شيء وما عداه مفتقر
إليه في وجوده وبقائه مسخر لحكمه وقضائه فيستغني عن الناس
رأسًا ولا يرجو ولا يخاف إلا إياه ويتخلق به بالاستغناء عن
الغير.
قال في الكشاف، فإن قلت: هلا اكتفى بإظهار المضاف إليه مرة
واحدة؟ قلت: لأن عطف البيان للبيان فكان مظنّة للإظهار
فلهذا كرر لفظ الناس، لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد
الإظهار ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس وأنهم أشرف
المخلوقات. وقال الإمام فخر الدين: وإنما بدأ بذكر الرب
وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل نعمه وإلى أن
رباه وأعطاه العقل فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك وهو
مالك فثنّى بذكر الملك، ولما علم أن العبادة لازمة له وعرف
أنه معبود مستحق لتلك العبادة عرفه بأنه إله فلهذا ختم به.
(فيه) أي في هذا الباب (ابن عمر) أي حديثه (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). مما وصله في باب
قول الله تعالى: {لما خلقت بيدي} [ص: 75] الآتي إن شاء
الله تعالى بعد اثني عشر بابًا بلفظ: إن الله يقبض يوم
القيامة الأرض وتكون السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك.
7382 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِى السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ
ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ»؟
وَقَالَ شُعَيْبٌ وَالزُّبَيْدِىُّ وَابْنُ مُسَافِرٍ
وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ أَبِى
سَلَمَةَ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) أبو جعفر الطبري المصري
الحافظ قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله المصري قال:
(أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلى (عن ابن شهاب)
محمد بن مسلم الزهري (عن سعيد) زاد أبو ذر هو ابن المسيب
(عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي أنه (قال):
(يقبض الله الأرض) بأن يجمعها حتى تصير شيئًا واحدًا
ويبيدها (يوم القيامة ويطوي السماء) يفنيها (بيمينه)
بقدرته (ثم يقول) جلّ جلاله (أنا الملك) أي ذو الملك على
الإطلاق فلا ملك لغيره في الدارين (أي ملوك الأرض). وفي
الحديث إثباث اليمين صفة لله تعالى من صفات ذاته وليست
جارحة خلافًا للمجسمة.
وسبق في باب يقبض الله الأرض من الرقاق.
(وقال شعيب) هو ابن أبي حمزة فيما وصله الدارمي (والزبيدي)
بضم الزاي وفتح الموحدة محمد بن الوليد مما وصله ابن خزيمة
(وابن مسافر) عبد الرحمن بن عوف مما سبق موصولاً في تفسير
سورة الزمر (وإسحاق بن يحيى) الكلبي فيما وصله الذهلي في
الزهريات أربعتهم
(10/366)
(عن الزهري عن أبي سلمة). وفيه أنه اختلف
على ابن شهاب الزهري في شيخه فقال يونس بن سعيد بن المسيب،
وقال الآخرون أبو سلمة. وكلٌّ منهما يرويه عن أبي هريرة.
ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي أن الطريقين
محفوظان. قال في الفتح: وصنيع البخاري يقتضي ذلك وإن كان
الذي تقتضيه القواعد ترجيح رواية شعيب لكثرة من تابعه، لكن
يونس كان من خواص الزهري الملازمين له، وزاد أبو ذر بعد
قوله عن أبي سلمة مثله أي مثل الحديث السابق.
7 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 42] {سُبْحَانَ
رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:
180] {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون:
8]. وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ.
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تَقُولُ جَهَنَّمُ قَطْ قَطْ
وَعِزَّتِكَ».
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ،
فَيَقُولُ: رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ لاَ
وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا». قَالَ أَبُو
سَعِيدٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ
ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ». وَقَالَ أَيُّوبُ:
«وَعِزَّتِكَ لاَ غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ».
(باب قول الله تعالى: {وهو العزيز}) الغالب من قولهم عزّ
إذا غلب ومرجعه إلى القدرة المتعالية عن المعارضة فمعناه
مركب من وصف حقيقي ونعت تنزيهي وقيل القوي الشديد من قولهم
عز يعز إذا قوي واشتد منه قوله تعالى: {فعززنا بثالث} [يس:
14] وقيل عديم المثل فيكون من أسماء التنزيه، وقيل هو الذي
تتعذر الإحاطة بوصفه ويعسر الوصول إليه، وقيل العزيز من
ضلت العقول في بحار عظمته وحارت الألباب دون إدراك نعته
وكلّت الألسن عن استيفاء مدح جلاله ووصف جماله وحظ العارف
منه أن يعز نفسه فلا يستهينها بالمطامع الدنيئة ولا يدنسها
بالسؤال من الناس والافتقار إليهم ({الحكيم} [العنكبوت:
42]) ذو العلم القديم المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق
إليها خفاء ولا شبهة وأنه أتقن الأشياء كلها فالحكمة صفة
من صفات الذات يظهرها الفعل وتعبر عنها المحكمات وتشهد لها
العقول بما شاهدته في الموجودات كغيرها من صفات الحق،
فتأمل ذلك في مسالك أفعاله ومجاري تدبيره وترتيب ملكه
وملكوته وقيام الأمر كله به، وتطلب آثار ذلك في خلقه في
السماوات والأرض وما فيهن ما بينهن من أفلاك ونجوم وشمس
وقمر وتدبير ذلك وتقديره بأمر محكم مع دؤوب اختلاف الليل
والنهار وتقلبهما وإيلاج كل واحد منهما
في قرينه وتكويرهما بعضهما على بعض وما يحدثه عن ذلك من
العجائب المبدعات والآيات البينات بإحكام متناسق وحكم
مستمرة الوجود إلى غير ذلك من سائر أفعاله المتقنة وبدائعه
المحكمة، ممّا يكلّ دونه النظر وينحسر دونه البصر ويزيد
على القول ويربو على الوصف ولا يدرك كنهه العقول ولا يحيط
به سوى اللوح المحفوظ، وأول موضع وقع فيه وهو العزيز
الحكيم في سورة إبراهيم. وأما مطلق العزيز الحكيم فأول ما
وقع في البقرة في دعاء إبراهيم لأهل مكة.
قال في اللباب: والعزيز هو الغالب الذي لا يغلب والحكيم هو
العليم الذي لا يجهل شيئًا وهما بهذين التفسيرين صفة للذات
وإن أريد بالعزيز أفعال العزة وهو الامتناع من استيلاء
الغير عليه، وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكونا من صفات
الذات بل من صفات الفعل والفرق بينهما أن صفات الذات أزلية
وصفات الفعل ليست كذلك.
وقوله تعالى: ({سبحان ربك رب العزة عما يصفون}) [الصافات:
18] من الولد والصاحبة والشريك وثبت لأبي ذر والأصيلي عما
يصفون، وأضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل ذو
العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق ويجوز أن يراد
أنه ما من عزة لأحد إلا وهو ربها ومالكها كقوله: {تعز من
تشاء} [آل عمران: 26] وقوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله}
[المنافقون: 8]) أي ولله المنعة والقوة ولمن أعز من رسوله
والمؤمنين، وعزة كل واحد بقدر علو مرتبته فعزة الرسول بما
خصّه الله به من الخصائص التي لا تحصى، والبراهين التي لا
تستقصى، وعزة المؤمنين بما ورثوه من العلم النبوي وهم في
ذلك متفاوتون بقدر ميراثهم من ذلك العلم والهداية للخلق
إلى الحق، والعزيز من لا تناله أيدي الشياطين ولا تبلغه
رعونات الشهوات فتذلل هداك الله لعزته وتضاءل لعظمته،
وتضرّع إليه في خلواتك عساه يهب لك عزًّا لا ذلّ يصحبه
وشرفًا لا ضعة تتخلله ثم تذلل لأوليائه وأهل طاعته وتعزّز
على كل جبار عنيد (ومن حلف بعزة الله وصفاته). والعزة
تحتمل كما قال ابن بطال: أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة
والعظمة فيحنث وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته فلا
يحنث. نعم إذا أطلق الحالف انصرف إلى صفة الذات وانعقدت
اليمين وللمستملي
(10/367)
وسلطانه بدل قوله وصفاته.
(وقال أنس) -رضي الله عنه- في حديث موصول سبق في تفسير
سورة ق (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
تقول جهنم) تنطق كإنطاق الجوارح (قط قط) بفتح القاف وكسر
الطاء أو سكونها فيهما أي حسب (وعزتك) مجرور بواو القسم.
(وقال أبو هريرة) في حديث سبق موصولاً في الرقاق (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال (يبقى رجل)
اسمه جهينة (بين الجنة والنار وهو آخر أهل النار دخولاً
الجنة فيقول: رب) ولأبي ذر يا رب (اصرف وجهي عن النار) زاد
في أواخر الرقاق فيقول لعلك إن أعطيتك أن تسأل غيره فيقول
(لا وعزتك لا أسألك غيرها) أي غير هذه المسألة.
(قال أبو سعيد) الخدري (إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: قال الله عز وجل لك ذلك وعشرة
أمثاله)
فيه أن أبا سعيد وافق أبا هريرة على رواية الحديث المذكور
إلا في قوله عشرة أمثاله فإن في حديث أبي هريرة كما في
الرقاق فيقول الله هذا لك ومثله معه، وسبق مبحثه والله
الموفق.
(وقال أيوب) صلوات الله وسلامه عليه فيما سبق موصولاً في
الغسل من كتاب الطهارة وغيره لما خرّ عليه جراد من ذهب
فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك
عما ترى؟ قال: بلى (وعزتك لا غنى بي عن بركتك) بكسر الغين
المعجمة وفتح النون مقصورًا ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
لا غناء بالهمز ممدودًا الكفاية، وفي اليونينية عناء بغير
نقطة على العين مع المدّ وفي الفرع التنكزي عناء بزيادة
عين تحتها علامة الإهمال، وفي آخر غناء بالمعجمة فليحرر.
7383 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، حَدَّثَنِى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: «أَعُوذُ
بِعِزَّتِكَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الَّذِى لاَ
يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو المقعد
المنقري البصري قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان
التميمي مولاهم البصري التنوري الحافظ قال: (حدّثنا حسين
المعلم) بن ذكوان البصري قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله
بن بريدة) بضم الموحدة ابن الحصيب الأسلمي أبو سهل المروزي
قاضيها (عن يحيى بن يعمر) بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه
البصري نزيل مرو وقاضيها (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما-
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول):
(أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت) بلفظ
الغائب وفي رواية اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن
تضلني أنت الحيّ الذي لا يموت (والجن والإنس يموتون) وكلمة
تضلني الزائدة في هذه الرواية متعلقة بأعوذ أي من أن تضلني
وكلمة التوحيد معترضة لتأكيد العزة واستغنى عن ذكر عائد
الموصول لأن نقش المخاطب هو المرجوع إليه وبه يحصل
الارتباط وكذلك المتكلم نحو:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
ولا يقال إن مفهوم قوله والجن والإنس يموتون لأنه مفهوم
لقب ولا اعتبار به.
والحديث أخرجه مسلم في الدعاء والنسائي في النعوت.
7384 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا
حَرَمِىٌّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُلْقَى فِى النَّارِ».
وَقَالَ لِى خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ،
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ
مُعْتَمِرٍ سَمِعْتُ أَبِى عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «لاَ يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ
فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِى
بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تَقُولُ: قَدْ قَدْ
بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلاَ تَزَالُ الْجَنَّةُ
تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا
فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ».
وبه قال: (حدّثنا ابن أبي الأسود) هو عبد الله بن محمد بن
الأسود أبو بكر البصري الحافظ قال: (حدّثنا حرمي) بفتح
الحاء المهملة والراء وكسر الميم بعدها ياء النسبة ابن
عمارة بضم العين وتخفيف الميم ابن أبي حفصة نابت بنون
وموحدة ثم مثناة العتكي مولاهم قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس) -رضي الله عنه- (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(يلقى) بضم أوله وفتح ثالثه بينهما لام ساكنة ولأبي ذر لا
يزال يلقى (في النار).
قال المؤلف: (وقال خليفة) بن خياط (حدّثنا يزيد بن زريع)
أبو معاوية البصري قال: (حدّثنا سعيد) بكسر العين ابن أبي
عروبة (عن قتادة عن أنس) -رضي الله عنه- (وعن معتمر) بضم
الميم الأولى وكسر الثانية ابن سليمان التيمي وهو معطوف
على قوله حدّثنا يزيد بن زريع فهو موصول أي، وقال لي خليفة
أيضًا عن معتمر وبهذا جزم أصحاب الأطراف أنه قال: (سمعت
أبي) سليمان (عن قتادة عن أنس) -رضي الله عنه- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يزال يلقى فيها) أي العصاة في النار (و) هي (تقول هل
من مزيد) مصدر كالمجيد أي أنها تقول بعد امتلائها هل من
مزيد أي هل بقي فيّ موضع لم يمتلئ يعني قد امتلأت أو أنها
تستزيد
(10/368)
وفيها موضع للمزيد وإسناد القول إليها
حقيقة بأن يخلق الله فيها القول أو مجاز (حتى يضع فيها رب
العالمين قدمه) أي من قدمه لها من أهل العذاب أو ثمة مخلوق
اسمه القدم أو المراد تذليلها كتذليل من يوضع تحت الرجل
والعرب تضع الأمثال بالأعضاء ولا تريد أعيانها (فينزوي)
بالنون والزاي فيجتمع وينقبض (بعضها إلى بعض ثم تقول: قد
قد) بفتح القاف وسكون الدال وتكسر فيهما أي حسبي حسبي قد
اكتفيت (بعزتك وكرمك ولا تزال الجنة تفضل) عن الداخلين
فيها ولأبي ذر عن المستملي بفضل بموحدة بدل الفوقية وفتح
الفاء وسكون الضاد (حتى ينشئ الله لها خلقًا فيسكنهم فضل
الجنة) الذي بقي منها.
وقد ساق المؤلف هذا الحديث هنا من ثلاثة طرق عن قتادة وسبق
لفظ شعبة في تفسير سورة ق وساقه هنا على لفظ خليفة ويستنبط
منه مشروعية الحلف بكرم الله كما في الحلف بعزة الله.
ومطابقة الحديث ظاهرة.
8 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
بِالْحَقِّ} [الأنعام: 73]
(باب قول الله تعالى): وسقط باب لغير أبي ذر ({وهو الذي
خلق السماوات والأرض
بالحق} [الأنعام: 73]) أي بكلمة الحق وهي قول كن وقال ابن
عادل في لبابه قيل الباء بمعنى اللام أي إظهارًا للحق لأنه
جعل صنعه دليلاً على وحدانيته فهو نظير قوله تعالى: {ما
خلقت هذا باطلاً} [آل عمران: 191] اهـ.
وهذا نقله السفاقسي عن الداودي، وتعقب بأن النحاة ذكروا
للباء أربعة عشر معنى ليس منها أنها تأتي بمعنى اللام
والحق في الأسماء الحسنى معناه كما قاله أبو الحكم عبد
السلام بن برجان الواجب الوجود بالبقاء الدائم والدوام
المتوالي الجامع للخير والمجد والمحامد كلها والثناء الحسن
والأسماء الحسنى والصفات العلى. قال: ومعنى قولنا واجب
الوجود أنه اضطر جميع الموجودات إلى معرفة وجوده وألزمها
إيجاده إياها قال تعالى: وقد ذكر دلائله واستشهاده ببيناته
ذلك بأن الله هو الحق، وإنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء
قدير، فأوجب عن واجب وجوده أنه يحيي الموتى وأنه على كل
شيء قدير وأن وجود كل ذي وجود عن وجوده ثم قال: {وأن ما
يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] أي لا وجود له إذ ليس
له في الوجود وجود البتة فاستحال لذلك وجوده، فالموجودات
من حيث إنها ممكنة لا وجود لها في حد ذاتها ولا ثبوت لها
من قبل أنفسها وإياه عنى الشاعر بقوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
ولما أظهر جملة المخلوقات التي خلقها بالحق وللحق. قال:
خلق الله السماوات والأرض بالحق فظهر الحق بعضه لبعض، ودل
عليه به فالله تعالى هو الحق المبين وجوده الحق، وقوله
الحق وقدرته الحق وعلمه الحق وإرادته الحق وصفاته العلى
الحق وأسماؤه كلها الحق، وأوجد فعله الحق بكلمته الحق،
فالحق بوجوب وجوده وعموم حقيقته قد ملأ أركان الوجود كلها
وشمل نواحي العلم وأطبق على أقطار التفكير فلم يكن للباطل
من الوجود نصيب.
7385 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ طَاوُسٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: كَانَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو
مِنَ اللَّيْلِ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الْحَمْدُ
أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَوْلُكَ الْحَقُّ،
وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ
حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ
لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ
حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ
وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِى لاَ إِلَهَ لِى
غَيْرُكَ».
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بفتح القاف ابن عقبة السوائي قال:
(حدّثنا سفيان) الثوري عن ابن جريج) عبد الملك (عن سليمان)
بن مسلم الأحول (عن طاوس) الإمام أبي عبد الرحمن بن كيسان
وقيل اسمه ذكوان (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال:
كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو من
الليل) أي إذا تهجد من الليل.
(اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ولك الحمد أنت قيم
السماوات والأرض ومن فيهن). وفي رواية قيام وفي أخرى قيوم
وهي من أبنية المبالغة والقيم معناه القائم بأمور الخلق
ومدبرهم ومدبر العالم في جميع أحواله والقيوم هو القائم
بنفسه مطلقًا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور
وجود الشيء ولا دوام وجوده إلا به. وقال التوربشتي: معناه
أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطتا به واشتملتا عليه
وقال ومن تغليبًا للعقلاء على غيرهم، ولأبي ذر: وما فيهن
(لك الحمد أنت نور السماوات والأرض) أي ذو نور السماوات
ونور الأرض وأضاف النور إليهما للدلالة على سعة إشراقه
(10/369)
وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض
وجاز أن يراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيؤون به (قولك
الحق) أي مدلوله ثابت (ووعدك الحق) الثابت المتحقق وجوده
فلا يدخله خلف ولا شك وعطف الوعد على القول وهو قول فهو من
عطف الخاص على العام (ولقاؤك حق) أي رؤيتك في الدار الآخرة
حيث لا مانع (والجنة حق والنار حق) كلٌّ منهما موجود
(والساعة حق) قيامها (اللهم لك أسلمت) انقدت لأمرك ونهيك
(وبك آمنت) صدقت بك وبما أنزلت (وعليك توكلت) أي فوّضت
أموري كلها (وإليك أنبت) رجعت مقبلاً بقلبي عليك (ولك) أي
بما آتيتني من البراهين والحجج (خاصمت) من خاصمني من
الكفار (وإليك حاكمت) كل من أبى قبول ما أرسلتني به (فاغفر
لي ما قدمت وما أخرت) وسقط لفظ ما الثانية في رواية أبي ذر
(وأسررت وأعلنت) بغير ما فيهما وقاله تواضعًا أو تعليقًا
لنا (أنت إلهي لا إله لي غيرك).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله أنت رب السماوات والأرض أي
أنت مالكهما وخالقهما.
والحديث سبق في صلاة الليل وفي الدعوات.
0000 - حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ بِهَذَا وَقَالَ: أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ
الْحَقُّ.
وبه قال: (حدّثنا ثابت بن محمد) العابد الكوفي قال:
(حدّثنا سفيان) الثوري (بهذا) السند والمتن المذكورين
(وقال: أنت الحق) أي المتحقق وجوده (وقولك الحق) وهذا يأتي
إن شاء الله تعالى في قوله باب قوله تعالى: {وجوه يومئذٍ
ناضرة} [القيامة: 22].
9 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ
سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]
وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ تَمِيمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} [المجادلة: 1].
(باب) بالتنوين ({وكان الله سميعًا بصيرا} [النساء: 134])
ولغير أبي ذر قول الله تعالى بالرفع {وكان الله سميعًا
بصيرًا} وقد علم بالضرورة من الدين، وثبت في الكتاب
والسُّنّة بحيث
لا يمكن إنكاره ولا تأويله أن الباري تعالى حي سميع بصير
وانعقد إجماع أهل الأديان بل جميع العقلاء على ذلك، وقد
يستدل على الحياة بأنه عالم قادر وكل عالم قادر حي
بالضرورة وعلى السمع والبصر بأن كل حي يصح كونه سميعًا
بصيرًا وكل ما يصح للواجب من الكمالات يثبت بالعقل لبراءته
عن أن يكون له ذلك بالقوة والإمكان وعلى الكل بأنها صفات
كمال قطعًا، والخلو عن صفات الكمال في حق من يصح اتصافه
بها نقص وهو على الله تعالى مُحال. قال تعالى: {وتلك حجتنا
آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] وقد ألزم عليه
السلام أباه الحجة بقوله: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر}
[مريم: 42] فأفاد أن عدمهما نقص لا يليق بالمعبود ولا يلزم
من قدمهما قدم المسموعات والمبصرات كما لا يلزم من قدم
العلم قدم المعلومات لأنها صفات قديمة يحدث لها تعلقات
بالحوادث، ولا يقال إن معنى سميع وبصير عليم لأنه يلزم منه
كما قال ابن بطال التسوية بين الأعمى الذي يعلم أن السماء
خضراء ولا يراها والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتًا ولا
يسمعها، فقد صح أن كونه سميعًا بصيرًا يفيد قدرًا زائدًا
على كونه عليمًا وكونه سميعًا بصيرًا يتضمن أنه يسمع بسمع
ويبصر ببصر كما تضمن كونه عليمًا أنه يعلم بعلم، وقد أطلق
تعالى على نفسه الكريمة هذه الأسماء خطابًا لمن هو من أهل
اللغة، والمفهوم في اللغة من عليم ذات له علم بل يستحيل
عندهم عليم بلا علم كاستحالته بلا معلوم فلا يجوز صرفه عنه
إلا لقاطع عقلي يوجب نفيه.
وقد أجيب عن قول المعتزلي بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء
المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصماخ والله منزّه عن
الجوارح بأن ذلك عادة أجراها الله تعالى فيمن يكون حيًّا
فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور، والله
تعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط، وكذا يرى المرئيات
بدون المقابلة وخروج الشعاع فذاته تعالى مع كونه حيًّا
موجودًا لا تشبه الذوات فكذلك صفات ذاته لا تشبه الصفات
فيسمع ويبصر بلا جارحة حدقة وأذن بمرأى منه خفاء الهواجس
وبمسمع منه صوت أرجل النمل على الصخرة الملساء وحظ العبد
من هذين الاسمين أن يتحقق أنه بمسمع من الله ومرأى منه فلا
يستهين باطّلاعه عليه ونظره إليه ويراقب مجامع أحواله من
مقاله وأفعاله قيل إذا عصيت مولاك فاعص في موضع لا يراك.
(وقال الأعمش) سليمان بن مهران فيما وصله أحمد والنسائي
(عن تميم) أي ابن
(10/370)
سلمة الكوفي (عن عروة) بن الزبير (عن
عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: الحمد لله الذي وسع
سمعه الأصوات) أي أدرك سمعه الأصوات وليس المراد من الوسع
ما يفهم من ظاهره لأن الوصف بذلك يؤدي إلى القول بالتجسيم
فيجب صرفه عن ظاهره إلى ما يقتضي الدليل صحته (فأنزل الله
تعالى على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {قد
سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1]) كذا
اختصره، وتمامه كما عند أحمد بعد قوله الأصوات: لقد جاءت
المجادلة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- تكلمه في جانب البيت ما أسمع ما تقول فأنزل
الله الآية.
وعند ابن ماجة وابن أبي حاتم أن عائشة قالت: تبارك الذي
أوعى سمعه كل شيء إني أسمع كلام خولة ويخفى عليّ بعضه وهي
تشتكي زوجها إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهي تقول له: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له
بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني
أشكو إليك. قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية.
7386 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِى
عُثْمَانَ، عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى
سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا فَقَالَ:
«ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ
أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا
قَرِيبًا». ثُمَّ أَتَى عَلَىَّ وَأَنَا أَقُولُ فِى
نَفْسِى لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ
فَقَالَ لِى: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ: لاَ
حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ
مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ -أَوْ قَالَ- أَلاَ أَدُلُّكَ
بِهِ».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
حماد بن زيد) أي ابن درهم (عن أيوب) السختياني (عن أبي
عثمان) عبد الرحمن بن ملّ النهدي (عن أبي موسى) عبد الله
بن قيس الأشعري أنه (قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف
على تعيينه (فكنا إذا علونا) شرفًا (كبرنا) الله تعالى
نقول الله أكبر نرفع أصواتنا بذلك (فقال) النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنا:
(اْربعوا) بوصل الهمزة وفتح الموحدة وقال السفاقسي رويناه
بكسرها (على أنفسكم) أي ارفقوا بها لا تبالغوا في رفع
أصواتكم أو لا تعجلوا (فإنكم لا تدعون) بسكون الدال (أصم
ولا غائبًا) ولم يقل ولا أعمى حتى يناسب أصم لأن الأعمى
غائب عن الإحساس بالمبصر والغائب كالأعمى في عدم رؤيته ذلك
المبصر فنفى لازمه ليكون أبلغ وأعم قاله في الكواكب
(تدعون) وفي الدعوات لكن تدعون (سميعًا بصيرًا قريبًا)
وهذا كالتعليل لقوله لا تدعون أصم قال أبو موسى (ثم أتى)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عليَّ) بالتشديد
(وأنا أقول في نفسي لا حول ولا قوّة إلا بالله فقال لي يا
عبد الله بن قيس قل: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز
من كنوز الجنة). أي كالكنز في نفساته (أو قال: ألا أدلك
به). أي ببقية الخبر والشك من الراوي.
والحديث سبق في باب الدعاء إذا علا عقبة من كتاب الدعوات
بهذا الإسناد والمتن.
7387 - 7388 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ،
حَدَّثَنِى ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى عَمْرٌو، عَنْ
يَزِيدَ عَنْ أَبِى الْخَيْرِ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَمْرٍو أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رضى الله عنه -
قَالَ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى
صَلاَتِى قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى
ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ
أَنْتَ فَاغْفِرْ لِى مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) بن يحيى بن سعيد الجعفي
أبو سعيد الكوفي نزيل مصر قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي
ذر: بالجمع (ابن وهب) عبد الله قال: (أخبرني) بالإفراد
(عمرو) بفتح العين ابن الحارث البصري (عن يزيد) من الزيادة
ابن أبي حبيب سوي (عن أبي الخير) مرثد بن عبد الله بفتح
الميم والمثلثة أنه (سمع عبد الله بن عمرو) بفتح العين ابن
العاصي (أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا رسول الله علمني
دعاء أدعو به في صلاتي قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-:
(اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا) بالمثلثة على المشهور
من الرواية ووقع بالموحدة للقابسي أي بملابستها ما يوجب
عقوبتها (ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي من عندك مغفرة)
عظيمة وفائدة قوله من عندك الدلالة على التعظيم أيضًا لأن
عظمة المعطي تستلزم عظمة العطاء (إنك أنت الغفور الرحيم).
ومناسبة الحديث للترجمة كما أشار إليه ابن بطال أن دعاء
أبي بكر بما علمه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقتضي أن الله تعالى يسمع لدعائه ويجازيه عليه،
وقال آخر: حديث أبي بكر -رضي الله عنه- ليس مطابقًا
للترجمة إذ ليس فيه ذكر صفتي السمع والبصر لكنه ذكر لازمها
من جهة أن فائدة الدعاء إجابة الداعي لمطلوبه والدعاء في
الصلاة يطلب فيه الإسرار، فلولا أن سمعه تعالى يتعلق بالسر
كما يتعلق بالجهر لما حصلت فائدة الدعاء. وقال في الكواكب:
لما كان بعض الذنوب مما يسمع وبعضها مما يبصر لم يقع مغفرة
إلا بعد الإسماع والإبصار حكاه في فتح الباري.
والحديث سبق في باب الدعاء قبل السلام من كتاب الصلاة، وفي
كتاب الدعوات.
(10/371)
7389 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى يُونُسُ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ
- رضى الله عنها - حَدَّثَتْهُ قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلاَمُ نَادَانِى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ
قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ».
وبه قال: (حدّثني عبد الله بن يوسف) التنسي قال: (أخبرنا
ابن وهب) عبد الله قال: (أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد
الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (حدّثني)
بالإفراد (عروة) بن الزبير (أن عائشة -رضي الله عنها-
حدّثته) فقالت (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(إن جبريل عليه السلام ناداني) لما رجعت من الطائف ولم
يقبل قومي ما دعوتهم إليه من التوحيد (قال إن الله قد سمع
قول قومك وما ردوا عليك) أي جوابهم لك وردهم عليك وعدم
قبولهم الإسلام.
والحديث سبق بأتم من هذا في بدء الخلق.
10 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ}
[الأنعام: 65]
(باب قول الله تعالى: {قل هو القادر} [الأنعام: 65])
بالذات والمقتدر على جميع الممكنات وما عداه فإنما يقدر
بإقداره على بعض الأشياء في بعض الأحوال فحقيق به أنه لا
يقال إنه قادر
إلا مقيدًا أو على قصد التقييد قال الشيخ أبو القاسم
القشيري ومن عرف أنه قادر على الكمال خشي سطوات عقوبته عند
ارتكاب مخالفته وأمّل لطائف رحمته وزوائد نعمته عند سؤال
حاجته لا بوسيلة طاعته لكن بكرمه ومنته، ولأبي ذر باب
قوله: {قل هو القادر} وفي نسخة سقوط الباب فالتالي رفع.
7390 - حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِى عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى الْمَوَالِى قَالَ: سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ السَّلَمِىُّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُ
أَصْحَابَهُ الاِسْتِخَارَةَ فِى الأُمُورِ كُلِّهَا،
كَمَا يُعَلِّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ:
«إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ
رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ:
اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ
وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ
فَضْلِكَ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ
وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ
فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ، ثُمَّ تُسَمِّيهِ
بِعَيْنِهِ خَيْرًا لِى فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ،
قَالَ -أَوْ فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى-
فَاقْدُرْهُ لِى وَيَسِّرْهُ لِى ثُمَّ بَارِكْ لِى فِيهِ،
اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِى فِى
دِينِى وَمَعَاشِى، وَعَاقِبَةِ أَمْرِى -أَوْ قَالَ فِى
عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْنِى عَنْهُ وَاقْدُرْ
لِىَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِى بِهِ».
وبه قال: (حدّثني) ولأبي ذر: بالجمع (إبراهيم بن المنذر)
الحزامي المدني قال: (حدّثنا معن بن عيسى) بفتح الميم
وسكون العين المهملة المدني القزاز الإمام أبو يحيى قال:
(حدّثني) بالإفراد (عبد الرحمن بن أبي الموالي) واسمه زيد
وقيل أبو الموالي جده مولى آل عليّ (قال: سمعت محمد بن
المنكدر) بن عبد الله بن الهدير بالتصغير التيمي المدني
الحافظ (يحدّث عبد الله بن الحسن) بن الحسن بفتح الحاء
فيهما ابن علي بن أبي طالب وليس له ذكر في البخاري إلا في
هذا الموضع (يقول: أخبرني) بالإفراد (جابر بن عبد الله
السلمي) بفتح السين واللام الأنصاري -رضي الله عنه- (قال:
كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم
أصحابه الاستخارة في الأمور كلها) أي في المباحات
والمستحبات أو في وقت فعل الواجب الموسع (كما يعلم) ولأبي
ذر كما يعلمهم (السورة من القرآن يقول) صلوات الله وسلامه
عليه:
(إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة) في
غير وقت الكراهة وقال الطيبي قوله من غير الفريضة بعد قوله
كما يعلمنا السورة من القرآن يدل على الاعتناء التام
البالغ حده بالصلاة والدعاء وأنهما تلوان للفريضة والقرآن
(ثم ليقل) بعد الصلاة أو في أثنائها في السجود أو بعد
التشهد (اللهم إني أستخيرك بعلمك) استفعال من الخير ضد
الشر أي أطلب منك الخيرة (وأستقدرك بقدرتك) أطلب منك أن
تجعل لي عليه قدرة والباء فيهما للاستعانة أي إني أطلب
خيرك مستعينًا بعلمك فإني لا أعلم فيمَ خيرتي وأطلب منك
القدرة فإني لا حول لي ولا قوّة إلا بك أو للاستعطاف أي
اللهم إني أطلب منك الخير بعلمك الشامل للخيرات وأطلب منك
القدرة
بحق تقديرك المقدورات أن تيسرهما عليّ فيكون كقوله تعالى:
{قال رب بما أنعمت عليّ} [القصص: 17] (وأسألك من فضلك) وفي
الدعوات زيادة العظيم (فإنك تقدر ولا أقدر) إلا بك (وتعلم)
ما فيه الخيرة لي (ولا أعلم) ذلك (وأنت علام الغيوب اللهم
فإن كنت تعلم) بالفاء في فإن كنت تعلم (هذا الأمر) وفي
الدعوات أن هذا الأمر (ثم يسميه) بالتحتية والفوقية
(بعينه) أي بأن ينطق به أو يستحضره بقلبه (خيرًا لي) نصب
مفعول ثاني لتعلم (في عاجل أمري وآجله قال) الراوي: (أو)
قال (في ديني ومعاشي) حياتي أو ما يعاش فيه (وعاقبة أمري
فاقدره لي) بضم الدال أي أنجزه لي (ويسره لي ثم بارك لي
فيه. اللهم إن) ولأبي ذر عن الكشميهني وإن (كنت تعلم أنه
شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري
وآجله فاصرفني عنه) حتى لا يبقى لي تعلق به (واقدر لي
الخير حيث كان ثم رضني به) بتشديد الضاد المعجمة أي اجعلني
بذلك راضيًا فلا أندم على طلبه ولا على وقوعه والشك في
الموضعين من الراوي.
وسبق الحديث في باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى من كتاب
التهجد وفي كتاب الدعوات، والله الموفق وبه المستعان.
11 - باب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: 110].
(باب مقلب القلوب. وقول الله تعالى) ولغير أبي ذر
(10/372)
بإسقاط الباب فما بعده مرفوع وكذا قوله
وقول الله تعالى: ({ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} [الأنعام:
110]) فأما مقلب فخبر مبتدأ محذوف أي الله مقلب القلوب وما
بعده معطوف عليه، والمعنى أنه تعالى مبدل الخواطر وناقض
العزائم فإن قلوب العباد بيد قدرته يقلبها كيف يشاء،
والأفئدة جمع فؤاد وهو القلب.
وقال الراغب: الفؤاد كالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر
فيه معنى التفاؤد أي التوقد يقال: فأدت اللحم شويته ومنه
لحم فئيد أي مشوي وظاهر هذا أن الفؤاد غير القلب، ويقال
فيه فواد بالواو بدلاً عن الهمزة، وقدم ذكر تقليب الأفئدة
على الأبصار لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت
الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى، وإذا حصلت
الصوارف في القلب انصرف عنه وهو وإن كان يبصره بحسب الظاهر
إلا أنه لا يصير ذلك الإبصار سببًا للوقوف على الفوائد
المطلوبة فلما كان المعدول هو القلب، وأما السمع والبصر
فهما آلتان للقلب كانا لا محالة تابعين للقلب فلذا وقع
الابتداء بذكر تقليب القلوب ثم أتبعه بذكر البصر.
7391 - حَدَّثَنِى سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ
الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْلِفُ «لاَ
وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ».
وبه قال: (حدّثني) ولأبي ذر بالجمع (سعيد بن سليمان) اللقب
بسعدويه الواسطى نزيل
بغداد (عن ابن المبارك) عبد الله (عن موسى بن عقبة) صاحب
المغازي (عن سالم عن) أبيه (عبد الله) بن عمر بن الخطاب
-رضي الله عنهما- أنه (قال: أكثر ما كان النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحلف لا ومقلب القلوب) أي لا
أفعل أو لا أقول وحق مقلب القلوب، وفي نسبة مقلب القلوب
إلى الله تعالى إشعار بأنه يتولى قلوب عباده ولا يكلها إلى
أحد من خلقه، وفي دعائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" إشارة إلى
شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء ودفع توهم من يتوهم أنهم
يستثنون من ذلك قاله البيضاوي.
وفي الحديث أن أعراض القلوب من إرادة وغيرها تقع بخلق الله
وجواز تسمية الله بما ثبت في الحديث وإن لم يتواتر وجواز
اشتقاق الاسم له من الفعل الثابت، والحديث مرّ في القدر.
12 - باب إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلاَّ وَاحِدًا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذُو الْجَلاَلِ: الْعَظَمَةِ
الْبَرُّ اللَّطِيفُ
(باب) بالتنوين يذكر فيه (إن لله مائة اسم إلا واحدًا)
ولفظ الباب ثابت لأبي ذر وفي روايته عن الحموي والمستملي
إلا واحدة بلفظ التأنيث باعتبار معنى التسمية.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما-: (ذو الجلال) أي (العظمة)
وعند ابن كثير في تفسيره. وقال ابن عباس ذو الجلال
والإكرام ذو العظمة والكبرياء اهـ. فهو تعالى ذو الجلال
الذي لا جلال ولا كمال إلا وهما له مطلقان عم جلاله جميع
الأكوان فلم تطق الأكوان رؤيته في الدنيا لهيبة الجلال،
فإذا كان في اليوم الموعود فإنه تعالى يبرز لعباده
المؤمنين في الجمال والجلال والأنس فينظرون إليه فتعود
أنوار النظر عليهم فيتجدد لهم قوّة يقدرون بها على النظر
إليه لا أحرمنا الله ذلك بمنّه وفضله ولأبي ذر عن
الكشميهني العظيم.
وقال ابن عباس أيضًا فيما وصله الطبري: (البر) معناه
(اللطيف). وقال غيره البر المحسن فما من برٍّ وإحسان إلا
وهو موليه قال القشيري من كان الله تعالى بارًّا به عصم عن
المخالفات نفسه وأدام بفنون اللطائف أنسه وطيب فؤاده وحصل
مراده وجعل التقوى زاده. قال: ومن آداب من عرف أنه تعالى
البر أن يكون بارًّا بكل أحد لا سيما بأبويه.
7392 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ
تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا،
مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ». أَحْصَيْنَاهُ:
حَفِظْنَاهُ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة)
-رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا) ولأبي ذر: إلا
واحدة بالتأنيث، وفائدة قوله مائة إلا واحدًا التأكيد
والفذلكة لئلا يزاد على ما ورد كقوله: {تلك عشرة كاملة}
[البقرة: 196] ورفع التصحيف فإن تسعة تصحف بسبعة وتسعين
بسبعين بالموحدة فيهما. وفي الاستثناء إشارة إلى أن الوتر
أفضل من الشفع إن الله وتر يحب الوتر.
فإن قيل: إذا قلنا بأن الاسم عين المسمى على ما هو الصحيح
لزم من قوله إن لله تسعة وتسعين اسمًا الحكم بتعدد الإله؟
والجواب: من وجهين
(10/373)
أحدهما: أن المراد من الاسم هنا اللفظ ولا
خلاف في ورود الاسم بهذا المعنى إنما النزاع في أنه هل
يطلق، ويراد به المسمى عينه ولا يلزم من تعدد الأسماء تعدد
المسمى، والثاني: أن كل واحد من الألفاظ المطلقة على الله
تعالى يدل على ذاته باعتبار صفة حقيقية أو غير حقيقية،
وذلك يستدعي التعدد في الاعتبارات والصفات دون الذات ولا
استحالة في ذلك، وفيه كما قال الخطابي دليل على أن أشهر
أسمائه تعالى الله لإضافة هذه الأسماء إليه وقد روي أنه
الاسم الأعظم.
وقال ابن مالك: ولكون الله اسمًا علمًا وليس بصفة قيل في
كل اسم من أسمائه تعالى سواه اسم من أسماء الله وهو من قول
الطبري على ما رواه النووي إلى الله ينسب كل اسم له فيقال
الكريم من أسماء الله ولا يقال من أسماء الكريم الله (من
أحصاها) أي حفظها كما فسره به البخاري كما يأتي قريبًا إن
شاء الله تعالى والأكثرون ويؤيده ما سبق في الدعوات لا
يحفظها أحد إلا (دخل الجنة) أو المعنى ضبطها حصرًا
وتعدادًا وعلمًا وإيمانًا وذكر الجزاء بلفظ الماضي تحقيقًا
أو بمعنى الإطاقة أي أطاق القيام بحقها والعمل بمقتضاها
وذلك بأن يعتبر معانيها فيطالب نفسه بما تتضمنه من صفات
الربوبية وأحكام العبودية فيتخلق بها.
وقال الطيبي: إنما أكد الإعداد دفعًا للتجوّز واحتمال
الزيادة والنقصان وقد أرشد الله تعالى بقوله ولله الأسماء
الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه إلى عظم
الخطب في الإحصاء بأن لا يتجاوز المسموع والأعداد المذكورة
وأن لا يلحد فيها إلى الباطل اهـ.
ثم إن مفهوم الاسم قد يكون نفس الذات والحقيقة، وقد يكون
مأخوذًا باعتبار الأجزاء، وقد يكون مأخوذًا باعتبار الصفات
والأفعال والسلوب والإضافات ولا خفاء في تكثر أسماء الله
تعالى بهذا الاعتبار وامتناع ما يكون باعتبار الجزء لتنزهه
تعالى عن التركيب.
فإن قلت: اعتبار السلوب والإضافة يقتضي تكثر أسماء الله
تعالى جدًّا فما وجه التخصيص بالتسعة والتسعين على ما نطق
به الحديث على أنه قد دل الدعاء المشهور عنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن لله تسعة أسماء لم يعلمها
أحدًا من خلقه واستأثر بها في علم الغيب عنده. وورد في
الكتاب والسُّنّة أسامٍ خارجة عن التسعة والتسعين كالكافي
والدائم والصادق وذي المعارج وذي الفضل والغالب إلى غير
ذلك؟ أجيب: بوجوه منها أن التنصيص على العدد لا لنفي
الزيادة بل لغرض آخر كزيادة الفضيلة
مثلاً. ومنها: أن قوله من أحصاها دخل الجنة في موضع الوصف
كقوله للأمير عشرة غلمان يكفونه مهماته بمعنى أن لهم زيادة
قرب واشتغال بالمهمات.
فإن قلت: إن كان اسمه الأعظم خارجًا عن هذه الجملة فكيف
يختص ما سواه بهذا الشرف وإن كان داخلاً فكيف يصح أنه مما
اختص بمعرفة نبي أو وليّ وأنه سبب كرامات عظيمة لمن عرفه
حتى قيل إن آصف بن برخيا إنما جاء بعرض بلقيس لأنه قد أوتي
الاسم الأعظم؟ أجيب: باحتمال أن يكون خارجًا وتكون زيادة
شرف تسعة وتسعين وجلالتها بالإضافة إلى ما عداه وأن يكون
داخلاً مبهمًا لا يعرفه بعينه إلا نبي أو ولي، ومنها أن
الأسماء منحصرة في تسعة وتسعين والرواية المشتملة على
تفصيلها غير مذكورة في الصحيح ولا خالية عن الاضطراب
والتغيير، وقد ذكر كثير من المحدّثين أن في إسنادها ضعفًا
قاله في شرح المقاصد.
قال البخاري: (أحصيناه) أي (حفظناه). وأشار به إلى أن معنى
أحصاها حفظها، لكن قال الأصيلي: الإحصاء للأسماء العمل بها
لا عدّها ولا حفظها لأن ذلك قد يقع للكافر والمنافق كما في
حديث الخوارج يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وقال في
الكواكب: أي حفظها وعرفها لأن العارف بها لا يكون إلا
مؤمنًا والمؤمن يدخل الجنة لا محالة، وهذا أعني قوله
أحصيناه حفظناه ثبت في رواية أبي ذر عن الحموي.
والحديث سبق في الشروط متنًا وإسنادًا.
13 - باب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالاِسْتِعَاذَةِ بِهَا
(باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها) ولفظ باب
ثابت في رواية أبي ذر.
7393 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِىِّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا جَاءَ
أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَلْيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ
جَنْبِى وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى
فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا
تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ». تَابَعَهُ
يَحْيَى وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَزَادَ زُهَيْرٌ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ
زَكَرِيَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلاَنَ،
عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله)
(10/374)
الأويسي المدني قال: (حدّثني) بالإفراد
ولأبي ذر بالجمع (مالك) الإمام ابن أنس الأصبحي (عن سعيد
بن أبي سعيد) كيسان (المقبري) بضم الموحدة نسبة إلى مقبرة
المدينة (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إذا جاء أحدكم إلى فراشه) لينام عليه (فلينفضه) بضم الفاء
قبل أن يدخل فيه (بصنفة ثوبه) بباء الجر بعدها صاد مهملة
مفتوحة فنون مكسورة ففاء فهاء تأنيث أي بطرف ثوبه أو
حاشيته أو طرته وهو جانبه الذي لا هدب له (ثلاث مرات)
حذرًا من وجود مؤذية كعقرب أو حيّة وهو لا يشعر ويده
مستورة بحاشية الثوب لئلا يحصل بها مكروه إن كان ثم شيء
(وليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه) الباء للاستعانة أي
بك أستعين على وضع جنبي ورفعه (إن أمسكت نفسي) توفيتها
(فاغفر لها وإن أرسلتها) رددتها (فاحفظها بما تحفظ به
عبادك الصالحين) ذكر المغفرة عند الإمساك لأن المغفرة
تناسب الميت والحفظ عند الإرسال لمناسبته له، والباء في
بما تحفظ كهي في كتبت بالقلم، وما موصولة مبهمة وبيانها ما
دل عليه صلتها لأنه تعالى إنما يحفظ عباده الصالحين من
المعاصي وأن لا يهنوا في طاعته بتوفيقه ولطفه. (تابعه) أي
تابع عبد العزيز الأويسي في روايته عن مالك (يحيى) بن سعيد
القطان فيما رواه النسائي (وبشر بن المفضل) بالضاد المعجمة
المشددة فيما رواه ضاد المعجمة المشددة فيما رواه مسدد
كلاهما (عن عبيد الله) بضم العين ابن عمر العمري (عن سعيد)
أي ابن أبي سعيد (عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وزاد زهير) بضم الزاي وفتح الهاء ابن
معاوية فيما سبق في الدعوات (وأبو ضمرة) بالضاد المعجمة
المفتوحة بعدها ميم ساكنة أنس بن عياض فيما رواه مسلم
(وإسماعيل بن زكريا) فيما رواه الحارث بن أبي أسامة في
مسنده (عن عبيد الله) العمري (عن سعيد عن أبيه) أبي سعيد
كيسان المقبري (عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). والمراد بالزيادة لفظة عن أبيه.
(ورواه) أي الحديث المذكور (ابن عجلان) بفتح العين المهملة
وسكون الجيم محمد الفقيه المدني فيما رواه أحمد (عن سعيد)
أي ابن أبي سعيد المقبري (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه-
(عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. تابعه) أي
تابع محمد بن عجلان (محمد بن عبد الرحمن) الطفاوي البصري
(والدراوردي) عبد العزيز بن محمد فيما رواه محمد بن يحيى
بن أبي عمر العدني عنه (وأسامة بن حفص). والمراد بهذه
التعاليق بيان الاختلاف على سعيد المقبري هل روى الحديث عن
أبي هريرة بلا واسطة أو بواسطة أبيه؟ ومتابعة محمد بن عبد
الرحمن هذه سقطت لأبي ذر.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: باسمك ربي وضعت جنبي وبك
أرفعه. قال ابن بطال: مقصود البخاري بهذه الترجمة تصحيح
الدليل بأن الاسم هو المسمى، ولذلك صحّت الاستعاذة به
والاستعانة يظهر ذلك في قوله: باسمك ربي وضعت جنبي وبك
أرفعه، فأضاف الوضع إلى الاسم والرفع إلى الذات، فدلّ على
أن الاسم هو الذات وقد أستعان وضعًا ورفعًا بها لا باللفظ
اهـ.
قال في شرح المقاصد: المتأخرون اقتصروا على ما اختلفوا فيه
من مغايرة الاسم المسمى، ثم قال: والاسم هو اللفظ المفرد
الموضوع للمعنى على ما يعم أنواع الكلمة وقد يقيد
بالاستقلال والتجرد عن الزمان فيقابل الفعل والحرف على ما
هو مصطلح النحاة، والمسمى هو المعنى الذي وضع الاسم بإزائه
والتسمية هي وضع الاسم للمعنى، وقد يراد بها ذكر الشيء
باسمه كما يقال:
سمى زيدًا ولم يسم عمرًا فلا خفاء في تغاير الأمور
الثلاثة، وإنما الخفاء فيما ذهب إليه بعض أصحابنا من أن
الاسم نفس المسمى، وفيما ذكره الشيخ الأشعري من أن أسماء
الله تعالى ثلاثة أقسام: ما هو نفس المسمى مثل الله الدال
على الوجود أي الذات الكريمة وما هو غيره كالخالق والرازق
ونحو ذلك مما يدل على فعل وما لا يقال إنه هو ولا غيره
كالعالم والقادر، وكل ما دل على الصفات القديمة. وأما
التسمية فغير الاسم والمسمى وتوضيحه أنهم يريدون بالتسمية
(10/375)
اللفظ وبالاسم مدلوله، كما يريدون بالوصف
قول الواصف وبالصفة مدلوله، وكما يقولون: إن القراءة حادثة
والمقروء قديم فالأصحاب اعتبروا المدلول المطابقي فأطلقوا
القول بأن الاسم نفس المسمى للقطع بأن مدلول الخالق شيء
ناله الخلق لا نفس الخلق، ومدلول العالم شيء ناله العلم لا
نفس العلم، والشيخ أخذ المدلول أعم واعتبر في أسماء الصفات
المعاني المقصودة، فزعم أن مدلول الخالق الخلق وهو غير
الذات ومدلول العالم العلم وهو لا عين ولا غير وتمسكوا في
ذلك بالعقل والنقل.
أما العقل؛ فلأنه لو كانت الأسماء غير الذات لكانت حادثة
فلم يكن الباري تعالى في الأزل إلهًا وعالِمًا وقادرًا
ونحو ذلك وهو مُحال بخلاف الخالقية فإنه يلزم من قدمها قدم
المخلوق إذا أريد الخالق بالفعل كالقاطع في قولنا السيف
قاطع عند الوقوع بخلاف قولنا السيف قاطع في الغمد بمعنى أن
من شأنه ذلك فإن الخالق حينئذٍ معناه له الاقتدار على ذلك.
وأما النقل؛ فلقوله تعالى: {سبح اسم ربك} [الأعلى: 1]
والتسبيح إنما يكون للذات دون اللفظ، وقوله تعالى: {ما
تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} [يوسف: 40] وعبادتهم
إنما هي للأصنام التي هي المسميات دون الأسامي، وأما
التمسك بأن الاسم لو كان غير المسمى لما كان قولنا محمد
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكمًا
بثبوت الرسالة له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل
لغيره فشبهة واهية فإن الاسم وإن لم يكن نفس المسمى لكنه
دالٌّ عليه ووضع الكلام على أن تذكر الألفاظ وترجع الأحكام
إلى المدلولات كقولنا: زيد كاتب أي مدلول زيد متصف بمعنى
الكتابة، وقد ترجع بمعونة القرينة إلى نفس اللفظ كما في
قولنا: زيد مكتوب وثلاثي ومعرب ونحو ذلك.
وأجيب: عن الأول: بأن الثابت في الأزل معنى الإلهية والعلم
ولا يلزم من انتفاء اسم بمعنى اللفظ انتفاء ذلك المعنى،
وعن الثاني بأن معنى تسبيح الاسم تقديسه وتنزيهه عن أن
يسمى به الغير أو عن أن يفسر بما لا يليق به أو عن أن يذكر
على غير وجه التعظيم أو هو كناية عن تسبيح الذات كما في
قولهم: سلام على المجلس الشريف والجناب المنيف، وفيه من
التعظيم والإجلال ما لا يخفى أو لفظ الاسم مقحم كما في قول
الشاعر:
ثم اسم السلام عليكما
ومعنى عبادة الأسماء أنهم يعبدون الأصنام التي ليس فيها من
الإلهية إلا مجرد الاسم كمن
سمى نفسه بالسلطان وليس عنده آلات السلطنة وأسبابها فيقال:
إنه فرح من السلطنة بالاسم على أن تقرير الاستدلال
اعترافًا بالمغايرة حيث يقال: التسبيح لذات الرب دون اسمه
والعبادة لذوات الأصنام دون أساميها، بل ربما يدعي أن في
الآيتين دلالة على المغايرة حيث أضيف الاسم إلى الرب عز
وجل وجعل الأسماء بتسميتهم وفعلهم مع القطع بأن أشخاص
الأصنام ليست كذلك ثم عورض الوجهان بوجهين.
الأول: أن الاسم لفظ وهو عرض غير باق ولا قائم بنفسه متصف
بأنه متركب من الحروف، وبأنه أعجمي أو عربي ثلاثي أو
رباعي، والمسمى معنى لا يتصف بذلك فربما يكون جسمًا قائمًا
بنفسه متّصفًا بالألوان متمكنًا في المكان إلى غير ذلك من
الخواص فكيف يتحدان.
الثاني: قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}
[الأعراف: 180] وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن لله تسعة
وتسعين اسمًا" مع القطع بأن المسمى واحد لا تعدد فيه.
وأجيب: بأن النزاع ليس في نفس اللفظ بل مدلوله ونحن إنما
نعبر عن اللفظ بالتسمية وإن كانت في اللغة فعل الواضع أو
الذاكر، ثم لا ننكر إطلاق الاسم على التسمية كما في الآية
والحديث على أن الحق أن المسميات أيضًا كثيرة للقطع بأن
مفهوم العالم غير مفهوم القادر وكذا البواقي، وإنما الواحد
هو الذات المتصف بالمسميات.
فإن قيل: تمسك الفريقين بالآيات والحديث مما لا يكاد يصح
لأن النزاع ليس في اس م بل في أفراد مدلوله من مثل السماء
والأرض والعالم والقادر والاسم والفعل وغير ذلك على ما
يشهد به كلامهم. ألا ترى أنه لو أريد الأول لما كان للقول
بتعدد أسماء الله تعالى وانقسامها إلى ما هو عين أو غير أو
لا عين ولا غير معنى، وبهذا يسقط ما ذكره الإمام الرازي
(10/376)
من أن لفظ الاسم مسمى بالاسم لا الفعل أو
الحرف، فهاهنا الاسم والمسمى واحد ولا يحتاج إلى الجواب
بأن لفظ الاسم من حيث إنه دالّ وموضوع والمسمى هو من حيث
إنه مدلول وموضوع له بل فرد من أفراد الموضوع له فتغايرا.
قلنا: نعم إلا أن وجه تمسك الأوّلين إن في مثل {سبح اسم
ربك} أريد بلفظ الاسم الذي هو من جملة الأسماء مسماه الذي
هو اسم من أسماء الله تعالى، ثم أريد به مسماه الذي هو
الذات إلا أنه يرد إشكال الإضافة ووجه تمسك الآخرين إن في
قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} أريد بلفظ الأسماء مثل
لفظ الرحمن والرحيم والعليم والقدير وغير ذلك مما هو غير
لفظ أسماء، ثم إنها متعددة فتكون غير المسمى الذي هو ذات
الواحد الحقيقي الذي لا تعدد فيه أصلاً.
فإن قيل: قد ظهر أن ليس الخلاف في لفظ الاسم وأنه في اللغة
موضوع للفظ الشيء أو لمعناه، بل في الأسماء التي من جملتها
لفظ الاسم ولا خلاف في أنها أصوات وحروف مغايرة لمدلولاتها
ومفهوماتها، وإن أريد بالاسم المدلول فلا خفاء في أن
المدلول اسم الشيء ومفهومه نفس مسماه من غير احتياج إلى
استدلال بل هو لغو من الكلام بمنزلة قولنا ذات الشيء ذاته
فما وجه
هذا الاختلاف المستمر بين كثير من العقلاء؟ قلنا: الاسم
إذا وقع في الكلام قد يراد به معناه كقولنا زيد كاتب، وقد
يراد نفس لفظه كقولنا: زيد اسم معرب حتى إن كل كلمة فإنه
اسم موضوع بإزاء لفظ يعبر عنه كقولنا: ضرب فعل ماض ومن حرف
جر ثم إذا أريد المعنى فقد يراد نفس ماهية المسمى كقولنا
الحيوان جنس والإنسان نوع، وقد يراد بعض أفرادها لقولنا
جاءني إنسان ورأيت حيوانًا وقد يراد جزؤها كالناطق أو عارض
لها كالضاحك فلا يبعد أن يقع بهذا الاعتبار اختلاف واشتباه
في أن اسم الشيء نفس مسماه أو وغيره اهـ بحروفه وإنما أطلت
به لأمر اقتضاء والله الموفق والمعين.
وحديث الباب سبق في الدعوات.
7394 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِىٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:
كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: «اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ
أَحْيَا وَأَمُوتُ». وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ: «الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم) هو ابن إبراهيم أبو عمرو الفراهيدي
الأزدي مولاهم البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن
عبد الملك) بن عمير (عن ربعي) بكسر الراء والعين المهملة
بينهما موحدة ساكنة ابن حراش بالحاء المهملة المكسورة وبعد
الراء ألف فشين معجمة الغطفاني قيل إنه تكلم بعد الموت (عن
حذيفة) بن اليمان -رضي الله عنه- أنه (قال: كان النبى
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أوى) إلى فراشه
دخل فيه (قال):
(اللهم باسمك) بوصل الهمزة أي بذكر اسمك (أحيا) ما حييت
(و) عليه (أموت) أو باسمك المميت أموت وباسمك المحيي أحيا
لأن معاني الأسماء الحسنى ثابتة له تعالى فكل ما ظهر في
الوجود فهو صادر عن تلك المقتضيات (وإذا أصبح قال: الحمد
لله الذي أحيانا بعدما أماتنا) أطلق الموت على النوم لأنه
يزول معه العقل والحركة كالموت (وإليه النشور) الإحياء
للبعث أو المرجع في نيل الثواب مما نكتسبه في حياتنا هذه.
والحديث سبق في الدعوات أيضًا.
7395 - حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا
شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِىِّ بْنِ حِرَاشٍ،
عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ:
كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: «بِاسْمِكَ
نَمُوتُ وَنَحْيَا». فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا
أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».
وبه قال: (حدّثنا سعد بن حفص) بسكون العين الطلحي الكوفي
الضخم قال: (حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن أبو معاوية (عن
منصور) هو ابن المعتمر (عن ربعي بن حراش) الغطفاني (عن
خرشة) بفتح المعجمتين والراء (ابن الحر) بضم الحاء المهملة
وتشديد الراء الفزاري الكوفي
(عن أبي ذر) جندب بن جنادة -رضي الله عنه- أنه (قال: كان
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أخذ مضجعه)
بفتح الجيم (من الليل قال):
(باسمك) بذكر اسمك (نموت ونحيا. فإذا) بالفاء ولأبي ذر
وإذا (استيقظ) من نومه (قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما
أماتنا) ردّ أنفسنا بعد أن قبضها عن التصرف بالنوم أي
الحمد لله شكرًا لنيل نعمة التصرف في الطاعات بالانتباه من
النوم الذي هو أخو الموت وزوال المانع عن التقرب بالعبادات
(وإليه) تعالى (النشور) الإحياء بعد الموت والبعث يوم
القيامة.
7396 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِىَ
أَهْلَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا
الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا
فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِى ذَلِكَ
لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي مولاهم
البغلاني البلخي قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد
(10/377)
(عن منصور) هو ابن المعتمر (عن سالم) هو
ابن أبي الجعد (عن كريب) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي
الله عنهما-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لو أن أحدكم) بالكاف ولأبي ذر أحدهم (إذا أراد أن يأتي
أهله) يجامع امرأته أو سريته (فقال بسم الله اللهم جنبنا
الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) وجواب لو الشرطية محذوف
أي لسلم من الشيطان يدل له قوله (فإنه إن يقدَّر) بفتح
الدال المشددة (بينهما ولد في ذلك) الإتيان (لم يضره
شيطان) بإضلاله وإغوائه (أبدًا). بل يكون من جملة من لا
سبيل للشيطان عليه وشيطان في قوله لم يضره شيطان بدون ال.
وفي الكواكب فإن قلت: التقدير أزلي فما وجه أن يقدّر؟
وأجاب: بأن المراد به تعلقه. وقال في الفتح: أي إن كان
قدّر لأن التقدير أزلي لكن عبر بصيغة المضارعة بالنسبة
للتعلق.
والحديث سبق في باب التسمية على كل حال وعند الوقاع من
كتاب الوضوء وفي النكاح أيضًا.
7397 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ،
حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ،
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ:
أُرْسِلُ كِلاَبِى الْمُعَلَّمَةَ قَالَ: «إِذَا
أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ
اللَّهِ فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ، وَإِذَا رَمَيْتَ
بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بفتح الميم واللام
القعنبي قال: (حدّثنا فضيل) بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة
ابن عياض التميمي الزاهد الخراساني (عن منصور) هو ابن
المعتمر (عن إبراهيم) النخعي (عن همام) بفتح الهاء وتشديد
الميم بعدها ميم أخرى ابن الحارث النخعي (عن
عدي بن حاتم) الطائي ولد الجواد المشهور أسلم في سنة تسع
أو سنة عشر وكان قبل ذلك نصرانيًّا. قال خليفة عنه: إنه
قال ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء وقد أسن.
قال خليفة: بلغ مائة وعشرين سنة. وقال أبو حاتم السجستاني:
بلغ مائة وثمانين -رضي الله عنه- أنه (قال: سألت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلت) يا رسول الله
(أرسل كلابي المعلمة) بفتح اللام المشددة التي تنزجر
بالزجر وتسترسل بالإرسال ولا تأكل من الصيد وفي كتاب الصيد
في باب ما جاء في الصيد من وجه آخر قال: سألت رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت: إنّا قوم نتصيد
بهذه الكلاب (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله) عز وجل بأن قلت
بسم الله (فأمسكن) عليك (فكل) مما صادته (وإذا رميت
بالمعراض) بكسر الميم وسكون العين المهملة آخره ضاد معجمة
خشبة في رأيها كالزج يلقيها على الصيد (فخزق) بالخاء
المعجمة والزاي والقاف أي جرح الصيد بحدّه (فكل) فإنه حلال
وإن قتل بعرضه فهو وقيذ لا يحل لأن عرضه لا يسلك إلى
داخله.
وسبق الحديث في الصيد.
7398 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو
خَالِدٍ الأَحْمَرُ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ
يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالُوا
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثًا
عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ لاَ نَدْرِى
يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لاَ؟ قَالَ:
«اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا». تَابَعَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالدَّرَاوَرْدِىُّ،
وَأُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ.
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن موسى) بن راشد القطان الكوفي
نزيل بغداد قال: (حدّثنا أبو خالد) سليمان بن حيان
(الأحمر) الكوفي (قال: سمعت هشام بن عروة يحدّث عن أبيه)
عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت:
قالوا يا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إن هنا) ولأبي ذر عن الكشميهني هاهنا (أقوامًا حديثًا)
بالنصب منوّنًا، ولأبي ذر: حديث بالرفع والتنوين (عهدهم
بشرك) برفع عهدهم (يأتونا) ولأبي ذر يأتوننا بنونين والأول
على لغة من يحذف نون الجمع بدون ناصب وجازم (بلحمان) بضم
اللام جمع لحم (لا ندري يذكرون اسم الله عليها) عند الذبح
(أم لا. قال) عليه الصلاة والسلام:
(اذكروا أنتم اسم الله) عز وجل على الأكل (وكلوا). والحديث
سبق في الذبائح (تابعه) أي تابع أبا خالد الأحمر (محمد بن
عبد الرحمن) الطفاوي فيما أخرجه المؤلف موصولاً في البيوع
(والدراوردي) عبد العزيز بن محمد فيما وصله العدني عنه
(وأسامة بن حفص). فيما وصله المؤلف في باب ذبيحة الأعراب
من الصيد. قال في الفتح: وقع قوله تابعه الخ هنا عقب حديث
أبي هريرة المبدأ بذكره في هذا الباب عند كريمة والأصيلي
وغيرهما، والصواب ما وقع عند أبي ذر وغيره أن على ذلك عقب
حديث عائشة وهو سادس أحاديث الباب.
7399 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا
هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ضَحَّى
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِكَبْشَيْنِ يُسَمِّى وَيُكَبِّرُ.
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحارث بن سخبرة الأزدي
أبو عمر الحوضي قال: (حدّثنا هشام) هو ابن عبد الله
الدستوائي (عن قتادة)
(10/378)
بن دعامة (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه
(قال: ضحّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بكبشين) يتعلق بضحى حال كونه (يسمي) الله تعالى (ويكبر) ـه
فقال: "باسم الله والله أكبر".
والحديث أخرجه أبو داود.
7400 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدَبٍ
أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ صَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:
«مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ فَلْيَذْبَحْ
مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ
بِاسْمِ اللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) الحوضي قال: (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج (عن الأسود بن قيس) العبدي ويقال العجلي الكوفي
(عن جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها ابن عبد
الله البجلي -رضي الله عنه- (أنه شهد النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم النحر صلّى) صلاة العيد
(ثم خطب فقال) فى خطبته:
(من ذبح) أضحيته (قبل أن يصلّي) العيد (فليذبح مكانها) أي
مكان التي ذبحها ذبيحة (أخرى ومن لم يذبح فليذبح باسم
الله) بسُنّة الله أو تبركًا باسم الله.
والحديث سبق في باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد من
كتاب العيد.
7401 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -
رضى الله عنهما - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ،
وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
ورقاء) بفتح الواو وسكون الراء بعدها قاف ممدودًا ابن عمر
الخوارزمي (عن عبد الله بن دينار) العدوي مولاهم أبي عبد
الرحمن المدني مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-)
أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لا تحلفوا بآبائكم) لأن في الحلف تعظيم المحلوف به وحقيقة
العظمة لا تكون إلا لله عز وجل (ومن كان حالفًا فليحلف
بالله) أي من كان مريدًا فليحلف بالله لا بغيره من الآباء
وغيرهم، وخص الآباء لوروده على سبب، وهو أنهم كانوا في
الجاهلية يحلفون بآبائهم وآلهتهم.
وفي حديث الترمذي وصححه الحاكم عن ابن عمر لا تحلف بغير
الله فإني سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر" والمراد به
الزجر والتغليظ، وفيه مباحث سبقت مع الحديث في الإيمان.
14 - باب مَا يُذْكَرُ فِى الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ
وَأَسَامِى اللَّهِ
وَقَالَ خُبَيْبٌ: وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإِلَهِ فَذَكَرَ
الذَّاتَ بِاسْمِهِ تَعَالَى.
(باب ما يذكر) بضم أوّله وفتح ثالثه (في الذات) الإلهية
(والنعوت) أي والصفات القائمة بها (وأسامي الله) عز وجل.
قال القاضي عياض: ذات الشيء نفسه وحقيقته، وقد استعمل أهل
الكلام الذات بالألف واللام وهم النحاة وجوزه بعضهم لأنها
ترد بمعنى النفس وحقيقة الشيء وجاء في الشعر ولكنه شاذ،
واستعمال البخاري لها على ما تقدم من أنّ المراد بها نفس
الشيء على طريقة المتكلمين في حق الله تعالى ففرق بين
النعوت والذوات. وقال ابن برهان: إطلاق المتكلمين الذات في
حق الله من جهلهم لأن ذات تأنيث ذو، وهو جلّت عظمته لا يصح
له إلحاق تاء التأنيث قال وقولهم الصفات الذاتية جهل منهم
أيضًا لأن النسب إلى ذات ذويّ. وأجيب: بأن الممتنع
استعمالها بمعنى صاحبة أما إذا قطعت عن هذا المعنى
واستعملت بمعنى الاسمية فلا محذور، كقوله تعالى: {إنه عليم
بذات الصدور} [الأنفال: 43] أي بنفس الصدور.
(وقال خبيب) بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة ابن عدي
الأنصاري (وذلك في ذات الإله فذكر الذات) متلبسًا (باسمه
تعالى) أو ذكر حقيقة الله تعالى بلفظ الذات قال في الفتح:
ظاهر لفظه أن مراده أنه أضاف لفظ ذات إلى اسم الله تعالى
وسمعه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم
ينكره فكان جائزًا وقد ترجم البيهقي في الأسماء والصفات ما
جاء في الذات، وأورد حديث أبي هريرة المتفق عليه في ذكر
إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله،
وحديث ولا تفكروا في ذات الله، ومعنى ذلك من أجل أو بمعنى
حق، فالظاهر أن المراد جواز إطلاق لفظ ذات لا بالمعنى الذي
أحدثه المتكلمون ولكنه غير مردود إذ عرف أن المراد به
النفس لثبوت لفظ النفس في القرآن.
7402 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى عَمْرُو بْنُ
أَبِى سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِىُّ
- حَلِيفٌ لِبَنِى زُهْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِى
هُرَيْرَةَ - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَشْرَةً مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِىُّ فَأَخْبَرَنِى
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ ابْنَةَ الْحَارِثِ
أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ
مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ
الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ قَالَ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِىُّ:
وَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى
أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِى
وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ
عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ فَأَخْبَرَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ
خَبَرَهُمْ يَوْمَ أُصِيبُوا.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال:
(أخبرني) بالإفراد (عمرو بن أبي سفيان) بفتح العين (ابن
أسيد بن جارية) بفتح الهمزة وكسر السين وجارية بالجيم
(الثقفي) بالمثلثة (حليف) بالحاء المهملة (لبني زهرة) بضم
الزاي أي معاهد لهم (وكان من أصحاب أبي هريرة أن أبا
هريرة) -رضي الله عنه- (قال: بعث رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما قدم بعد أُحُد رهط من
عضل والقارة فقالوا
(10/379)
يا رسول الله إن فينا إسلامًا فابعث معنا
نفرًا من أصحابك يفقهوننا (عشرة منهم خبيب الأنصاري) فلما
كانوا بالهدأة ذكروا لبني لحيان فنفروا لهم قريبًا من
مائتي رجل، فلما رأوهم لجؤوا إلى فدفد أي رابية فأحاط بهم
القوم ورموهم بالنبل وقتلوا عاصمًا أميرهم في سبعة من
العشرة ونزل إليهم ثلاثة منهم خبيب وابن دثنة وعبد الله بن
طارق فأوثقوهم بأوتار قسيهم وباعوا خبيبًا وابن دثنة بمكة،
فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف،
فلبث خبيب عندهم أسيرًا. قال ابن شهاب الزهري (فأخبرني)
بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن عياض) بكسر العين
آخره ضاد معجمة القاريّ من القارة (أن ابنة الحارث) زينب
(أخبرته أنهم حين اجتمعوا) أي لقتله (استعار) ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي فاستعار (منها موسى يستحد بها) يحلق بها
شعر عانته لئلا يظهر عند قتله (فلما خرجوا) به (من المحرم
ليقتلوه) في الحل (قال خبيب الأنصاري):
(ولست أبالي) ولأبي الوقت والأصيلي ما أبالي (حين أقتل
مسلمًا على أيّ شق) بكسر المعجمة (كان لله مصرعي) أي مطرحي
على الأرض.
(وذلك في ذات الإله) في طلب ثوابه (وإن يشأ يبارك على
أوصال شلو) بكسر المعجمة وسكون اللام أي أوصال جسد (ممزع)
بضم الميم الأولى وفتح الثانية والزاي المشددة بعدها عين
مهملة أي مقطع مفرق (فقتله ابن الحارث) عقبة بالتنعيم
وصلبه ثم (فأخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أصحابه خبرهم يوم أصيبوا).
والحديث سبق في الجهاد بأتم من هذا في باب هل يستأسر
الرجل.
15 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى
وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} [المائدة: 116].
(باب قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28])
مفعول ثان ليحذر لأنه في الأصل متعدّ لواحد فازداد
بالتضعيف آخر وقدر بعضهم حذف مضاف أي عقاب نفسه، وصرح
بعضهم بعدم الاحتياج إليه كذا نقله أبو البقاء. قال في
الدر: وليس بشيء إذ لا بدّ من تقدير هذا المضاف لصحة
المعنى. ألا ترى إلى غير ما نحن فيه نحو قولك حذرتك نفس
زيد إنه لا بد من شي يحذر منه كالعقاب والسطوة لأن الذوات
لا يتصوّر الحذر منها نفسها إنما يتصور من أفعالها
وما يصدر عنها. وقال أبو مسلم: المعنى ويحذركم الله نفسه
أن تعصوه فتستحقوا عقابه وعبر هنا بالنفس عن الذات جريًا
على عادة العرب كما قال الأعشى:
يومًا بأجود نائلاً منه إذا ... نفس الجبان تحمدت سوالها
وقال بعضهم: الهاء في نفسه تعود على المصدر المفهوم من
قوله: لا تتخذوا أي ويحذركم الله نفس الاتخاذ والنفس عبارة
عن وجود الشيء وذاته. وقال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ
النفس في القرآن بمعنى العلم بالشيء والشهادة كقوله تعالى:
{ويحذركم الله نفسه} يعني علمه فيكم وشهادته عليكم وبمعنى
البدن قال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]
وبمعنى الهوى قال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} [يوسف:
53] يعني الهوى وبمعنى الروح قال تعالى: {أخرجوا أنفسكم}
[الأنفال: 53] أي أرواحكم اهـ.
والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال ويحذركم الله كان لا
يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله تعالى
أو من غيره، فلما ذكر النفس زال ذلك ومعلوم أن العقاب
الصادر عنه يكون أعظم العقاب لكونه قادرًا على ما لا نهاية
له.
(وقوله) ولأبي ذر وقول الله (جل ذكره: {تعلم ما في نفسي})
ذاتي ({ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116]) ذاتك فنفس
الشيء ذاته وهويته والمعنى تعلم معلومي ولا أعلم معلومك.
وقال في اللباب لا يجوز أن تكون تعلم عرفانية لأن العرفان
يستدعي سبق جهل أو يقتصر به على معرفة الذات دون أحوالها
فالمفعول الثاني محذوف أي تعلم ما في نفسي كائنًا وموجودًا
على حقيقته لا يخفى عليك منه شيء وقوله ولا أعلم، وإن كان
يجوز أن تكون عرفانية إلا أنها لما صارت مقابلة لما قبلها
كانت مثلها اهـ.
وقال البيهقي: النفس في كلام العرب على أوجه منها الحقيقة
كما يقولون في نفس الأمر وليس للأمر نفس منفوسة ومنها
الذات قال: وقد قيل في قوله تعالى: {تعلم ما في نفسي}
(10/380)
أن معناه ما أكنّه أسرّه ولا أعلم ما تسرّه
عني وقيل ذكر النفس هنا للمقابلة والمشاكلة، وعورض بالآية
التي في أوّل الباب إذ ليس فيها مقابلة.
7403 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ،
حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ
مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ
وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) النخعي قال: (حدّثنا
أبي) حفص بن غياث قاضي الكوفة قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان
بن مهران (عن شقيق) أبي وائل بن سلمة (عن عبد الله) بن
مسعود -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما من أحد أغير من الله) عز وجل (من أجل ذلك حرم الفواحش)
والمراد بالغيرة هنا والله أعلم لازمها وهو الغضب ولازم
الغضب إرادة إيصال العقوبة وقيل غيرة الله كراهة إتيان
الفواحش أي عدم رضاه بها لا التقدير (وما أحد أحب) بالنصب
ولأبي ذر بالرفع (إليه المدح من الله). عز وجل. وأحب
بالنصب والمدح بالرفع فاعله، وليس في الحديث ما يدل على
مطابقته للترجمة صريحًا. نعم في رواية تفسير سورة الأنعام
زيادة قوله ولذلك مدح نفسه، وساقه هنا على الاختصار بدون
هذه الزيادة تشحيذًا للأذهان على عادته ولما لم يستحضر
الكرماني هذه الزيادة عند شرحه ذلك قال: لعله أقام استعمال
أحد مقام النفس لتلازمهما في صحة استعمال كل واحد منهما
مقام الآخر.
والحديث سبق في تفسير الأنعام وفي باب الغيرة من النكاح.
7404 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِى حَمْزَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى
كِتَابِهِ هُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهْوَ وَضْعٌ
عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِى تَغْلِبُ
غَضَبِى».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان المروزي
وعبدان لقبه (عن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن
ميمون السكري (عن الأعمش) سليمان (عن أبي صالح) ذكوان
السمان (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لما خلق الله) عز وجل (الخلق كتب) أمر القلم أن يكتب (في
كتابه هو يكتب على نفسه) بيان لقوله كتب ولأبي ذر وهو يكتب
فالجملة حالية (وهو وضع) بفتح الواو وسكون الضاد المعجمة
أي موضوع وفي رواية أبي ذر على ما حكاه عياض وضع بفتح
الضاد فعل ماض مبني للفاعل وفي نسخة معتمدة وضع بكسر الضاد
مع التنوين (عنده) أي علم ذلك عنده (على العرش) مكنونًا عن
سائر الخلق مرفوعًا عن حيز الإدراك والله تعالى منزّه عن
الحلول في المكان لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا
يليق به تعالى وليس الكتب لئلا ينساه تعالى الله عن ذلك
علوًّا كبيرًا بل لأجل الملائكة الموكلين بالمكلفين. وفي
بدء الخلق فوق العرش وفيه تنبيه على تعظيم الأمر وجلالة
القدر فإن اللوح المحفوظ تحت العرش والكتاب المشتمل على
هذا الحكم فوق العرش، ولعل السبب في ذلك والعلم عند الله
تعالى أن ما تحت العرش عالم الأسباب والمسببات واللوح
يشتمل على تفاصيل ذلك ذكره في شرح المشكاة والمكتوب هو
قوله: (إن رحمتي تغلب غضبي). والمراد بالغضب لازمه وهو
إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب لأن السبق والغلبة
باعتبار التعلق أي تعلق الرحمة سابق على تعلق الغضب لأن
الرحمة مقتضى ذاته المقدسة وأما الغضب فإنه متوقف على
سابقة عمل من العبد الحادث.
والحديث سبق في أوائل بدء الخلق وأخرجه مسلم.
7405 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِى
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى، وَأَنَا
مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ
ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ
ذَكَرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ
إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ
تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا،
وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». [الحديث
7405 - طرفاه في: 7505، 7537].
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال: (حدّثنا أبي) حفص بن
غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان قال: (سمعت أبا صالح)
ذكوان (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي) إن ظن أني أعفو عنه
وأغفر فله ذلك وإن ظن أني أعاقبه وأؤاخذه فكذلك، وفيه
إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف وقيده بعض أهل
التحقيق بالمحتضر، وأما قبل ذلك فأقول ثالثها الاعتدال
فينبغي للمرء أن يجتهد بقيام وظائف العبادات موقنًا بأن
الله يقبله ويغفر له لأنه وعده بذلك وهو لا يخلف الميعاد،
فإن أعتقد أو ظن خلاف ذلك فهو آيس من رحمة الله وهو من
الكبائر ومن مات على ذلك وكل إلى ظنه وأما ظن المغفرة مع
الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغرة (وأنا معه)
بعلمي (إذا ذكرني) وهي معية خصوصية أي معه بالرحمة
والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة فهي غير المعية
(10/381)
المعلومة من قوله تعالى: {وهو معكم أينما
كنتم} [الحديد: 4] فإن معناها المعية بالعلم والإحاطة (فإن
ذكرني) بالتنزيه والتقديس سرًّا (في نفسه ذكرته) بالثواب
والرحمة سرًّا (في نفسي وإن ذكرني في ملأ) بفتح الميم
واللام مهموز في جماعة جهرًا (ذكرته) بالثواب (في ملأ خير
منهم) وهم الملأ الأعلى ولا يلزم منه تفضيل الملائكة على
بني آدم لاحتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من
ملأ الذاكرين الأنبياء والشهداء فلم ينحصر ذلك في
الملائكة، وأيضًا فإن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ
معًا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس
فيه بلا ارتياب، فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على
المجموع وهذا قاله الحافظ ابن حجر مبتكرًا، لكن قال إنه
سبقه إلى معناه الكمال بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في
الرفيق الأعلى (وإن تقرب إليّ) بتشديد الياء (بشبر) ولأبي
ذر عن الكشميهني شبرًا بإسقاط الخافض والنصب أي مقدار شبر
(تقربت إليه ذراعًا وإن تقرب إليّ ذرعًا) بكسر الذال
المعجمة أي بقدر ذراع (تقربت إليه) ولأبي ذر عن الحموي منه
(باعًا) أي بقدر باع وهو طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض
صدره (وإن) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ومن (أتاني يمشي
أتيته هرولة) إسراعًا يعني من تقرب إليّ بطاعة قليلة
جازيته بمنوبة كثيرة، وكلما زاد في الطاعة زدت في ثوابه
وإن كان كيفية إتيانه بالطاعة على التأني فإتياني بالثواب
له على السرعة والتقرب، والهرولة مجاز على سبيل المشاكلة
أو الاستعارة أو قصد إرادة لوازمها وإلاّ فهذه الإطلاقات
وأشباهها لا يجوز إطلاقها على الله تعالى إلا على المجاز
لاستحالتها عليه تعالى.
وفي الحديث جواز إطلاق النفس على الذات فإطلاقه في الكتاب
والسُّنّة إذن شرعي فيه أو يقال هو بطريق المشاكلة لكن
يعكر على هذا الثاني قوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} [آل
عمران: 28] والحديث من أفراده.
16 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ
إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]
(باب قول الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88])
أي إلا إياه فالوجه يعبر به عن الذات، وإنما جرى على عادة
العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة ومن جعل شيئًا يطلق
على الباري تعالى وهو الصحيح قال هذا استثناء متصل، ومن لم
يطلقه عليه جعله متصلاً أيضًا وجعل الوجه ما عمل لأجله أو
جعله منقطعًا أي لكن هو لم يهلك ويجوز رفع وجهه على الصفة،
وفسر الهلاك بالعدم أي إن الله تعالى يعدم كل شيء وفسر
أيضًا بإخراج الشيء عن كونه منتفعًا به إما بالإماتة أو
بتفريق الأجزاء وإن كانت باقية كما يقال هلك الثوب وقيل
معنى كونه هالكًا كونه قابلاً للهلاك في ذاته. وقال مجاهد:
كل شيء هالك إلا وجهه يعني علم العلماء إذا أريد به وجه
الله اهـ. وثبت لفظ باب لأبى ذر.
7406 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ
عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65]، قَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَعُوذُ
بِوَجْهِكَ». فَقَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}
[الأنعام: 65]، فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ». قَالَ: {أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65]، فَقَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَذَا أَيْسَرُ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي قال: (حدّثنا حماد
بن زيد) وسقط ابن زيد لغير أبي ذر (عن عمرو) بفتح العين
ابن دينار (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري -رضي الله
عنهما- أنه (قال: لما نزلت هذه الآية {قل هو القادر}) أي
الكامل القدرة ({على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم}
[الأنعام: 65]) أي كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل
الحجارة (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أعوذ بوجهك) أي بذاتك (فقال: {أو من تحت أرجلكم}
[الأنعام: 65]، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: أعوذ بوجهك. قال): ولأبي ذر فقال ({أو يلبسكم
شيعًا} [الأنعام: 65]) أو يخلطكم فرقًا مختلفين على أهواء
شتى (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هذا
أيسر) لأن الفتن بين المخلوقين أهون من عذاب الله. وفي
رواية ابن السكن مما ذكره في فتح الباري هذه أيسر قال وسقط
لفظ الإشارة من رواية الأصيلي. قال الزركشي: ورواية غيره
هي الصحيحة وبها يستقل الكلام. قال في المصابيح: وروايته
أيضًا صحيحة وقصارى ما فيها حذف المبتدأ الذي ثبت في
الروايتين وذلك جائز فكيف يحكم بعدم صحتها ولا شاهد يستند
إليه هذا الحكم اهـ.
والمراد منه قوله: أعوذ بوجهك. قال البيهقي: تكرر ذكر
الوجه في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة وهو في بعضها صفة ذات
كقوله: إلا برداء الكبرياء على وجهه، وفي بعضها من أجل
كقوله: {إنما نطعمكم
(10/382)
لوجه الله} [الإنسان: 9] وفي بعضها بمعنى
الرضا كقوله تعالى: {يريدون وجه الله} [الروم: 39] {إلا
ابتغاء وجه ربه} [الليل: 20] وليس المراد الجارحة جزمًا
والحديث سبق في تفسير سورة الأنعام وفي كتاب الاعتصام
بالكتاب والسُّنّة في قوله باب قول الله تعالى: {أو يلبسكم
شيعًا}.
17 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِى} [طه: 39]: تُغَذَّى وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:
{تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]
(باب قول الله تعالى: {ولتصنع على عيني} [طه: 39]: تغذى)
بضم الفوقية وفتح الغين والذال المشددة المعجمتين من
التغذية قاله قتادة، وفي نسخة الصغاني بالدال المهملة ولا
يفتح أوله على حذف إحدى التاءين فإنه تفسير تصنع. وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني اجعله في بيت الملك ينعم
ويترف غذاؤه عندهم، وقال أبو عمران الجوني قال تربى بعين
الله. وقال معمر بن المثنى: ولتصنع على عيني بحيث أرى،
وقيل لتربى بمرأى مني. قال الواحدي: قوله على عيني بمرأى
مني صحيح، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى عليه السلام
فإن جميع الأشياء بمرأى منه تعالى، والصحيح لتغذى على
محبتي وإرادتي. قال: وهذا قول قتادة واختيار أبي عبيدة
وابن الأنباري قال في فتوح الغيب: هذا الاختصاص للتشريف
كاختصاص عيسى بكلمة الله والكعبة ببيت الله فإن الكل موجود
بكن وكل البيوت بيت الله على أن خلاصة الكلام وزبدته تفيد
مزيد الاعتناء بشأنه وأنه من الملحوظين بسوابق إنعامه،
وقوله تغذى ثبت في رواية أبي ذر عن المستملي وسقط لفظ باب
لغير أبي ذر فاللاحق مرفوع استئنافًا. (وقوله جل ذكره)
بالرفع والجر عطفًا على سابقه ({تجري بأعيننا} [القمر:
14]) أي بمرأى منا أو بحفظنا أو بأعيننا حال من الضمير في
تجري أي محفوظة بنا ومن ذلك قوله تعالى: {واصنع الفلك
بأعيننا} [هود: 37] أي نحن نراك ونحفظك {وتجري بأعيننا} أي
بالمكان المحفوظ بالكلاءة والحفظ والرعاية يقال فلان بمرأى
من الملك ومسمع إذا كان بحيث تحوطه عنايته وتكتنفه رعايته
ونحو ذلك مما ورد به الشرع وامتنع حمله على معانيه
الحقيقية. وعند الأشعري إنها صفات زائدة وعند الجمهور هو
أحد وقولي الأشعري إنها مجازات فالمراد بالعين البصر.
7407 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى
عَلَيْكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ». وَأَشَارَ
بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ «وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ
أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ
طَافِيَةٌ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي الحافظ قال:
(حدّثنا جويرية) بن أسماء
(عن نافع عن) مولاه (عبد الله) بن عمر -رضي الله عنهما-
أنهُ (قال: ذكر الدجال) بضم المعجمة (عند النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(إن الله لا يخفى عليكم إن الله) عز وجل (ليس بأعور.
وأشار) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بيده)
المقدسة (إلى عينه) فيه إيماء إلى الرد على من يقول معنى
رؤيته تعالى ووصفه بأنه بصير العلم والقدرة، فالمراد
التمثيل والتقريب للفهم لا إثبات الجارحة ولا دلالة فيه
للمجسمة لأن الجسم حادث وهو قديم، فالمراد نفي النقص
والعور عنه وأنه ليس كمن لا يرى ولا يبصر بل مُنتَفٍ عنه
جميع النقائص والآفات. وسئل الحافظ ابن حجر هل لقارئ هذا
الحديث أن يشير بيده عند قراءة هذا الحديث إلى عينه كما
صنع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأجاب: بأنه إن
حضر عنده من يوافقه على معتقده وكان يعتقد تنزيه الله
تعالى عن صفة الحدوث وأراد الحدوث وأراد التأسي به محضًا
جاز والأولى به الترك خشية أن يدخل على من يراه شبهة
التشبيه تعالى الله عن ذلك (وإن المسيح الدجال) بكسر
الهمزة (أعور عين اليمنى) من إضافة الموصوف إلى صفته ولأبي
ذر أعور العين اليمنى (كأن عينه عنبة طافية) بالياء أي
ناتئة بارزة وهي غير الممسوحة وقد تهمز لكن أنكره بعضهم
وسبق ما فيه من الفتن في باب ذكر الدجال.
7408 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا
- رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ
نَبِىٍّ إِلاَّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ،
إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ،
مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ».
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحارث بن سخبرة الحوضي
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (أخبرنا قتادة) بن
دعامة (قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما بعث الله) عز وجل (من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب
إنه أعور وإن ربكم) ولأبي ذر عن الكشميهني وإن الله (ليس
بأعور) لتعاليه عن كل نقص واقتصر في وصف الدجال على العور
لكون كل أحد يدركه فدعواه الربوبية مع ذلك كاذبة (مكتوب
بين عينيه كافر). زاد أبو أمامة فيما رواه ابن ماجة يقرؤه
كل مؤمن كاتب وغير كاتب.
وسبق الحديث
(10/383)
في الفتن.
18 - باب قَوْلِ اللَّهِ: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ
الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]
(باب قول الله: {هو الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24])
كذا لأبي ذر ولغيره سقوط الباب وقال: {هو الله الخالق} كذا
في الفرع وسقط لأبي ذر لفظ هو وقال في الفتح الباري باب
قول الله تعالى هو الخالق كذا للأكثر والتلاوة هو الله
الخالق إلى آخره وثبت كذلك في بعض النسخ
من رواية كريمة والخالق هو المقدر والبارئ المنشئ المخترع،
وقدم ذكر الخالق على البارئ لأن الإرادة مقدمة على تأثير
القدرة وهو الإحداث على الوجه المقدر ثم التصوير فالتصوير
مرتب على الخلق والبراءة وتابع لهما لأن إيجاد الذوات
مقدّم على إيجاد الصفات والخالق من الخلق ويستعمل بمعنى
الإبداع وهو إيجاد الشيء من غير أصل كقوله تعالى: {خلق
السماوات والأرض} [الأنعام: 1 وغيرها] وبمعنى التكوين
كقوله تعالى: ({خلق الإنسان من نطفة} [النحل: 4] والخلاق
مبالغة في خالق والخلق فعله والخليقة جماعة المخلوقين وقد
يعبر عن المخلوقات بالخلق تجوّزًا فمن علم أنه الخالق
فعليه أن ينعم النظر في إتقان خلقه لتلوح له دلائل حكمته
في صنعه فيعلم أنه خلقه من تراب ثم من نطفة وركّب أعضاءه،
ورتب أجزاءه فقسم تلك القطرة فجعل بعضها مخًّا وبعضها
عظمًا وبعضها عروقًا وبعضها أنيابًا وبعضها شحمًا وبعضها
لحمًا وبعضها جلدًا وبعضها شعرًا، ثم رتّب كل عضو على
ترتيب يخالف مجاوره ثم مدّ من تلك القطرة معاني صفات
المخلوق وأسمائه وأخلاقه من علم وقدرة وإرادة وعقل وحلم
وكرم ونحو هذا وأضداد هذا فتبارك الله أحسن الخالقين، وأما
البارئ فقالوا معناه الخالق يقال برأ الله الخلق يبرؤهم
برءًا وبروءًا أي خلقهم والبرية الخلق بالهمز وبغيره قالوا
والبريئة من البر أو هو التراب؛ وقد جاء هذا الاسم بين
اسمي فعل، وقد جاءت الروايات بتعداد الأسماء وذكر الاسمين
معًا في العدد فلو كان مفهومها واحدًا لاستغنى بذكر أحدهما
عن الآخر فلا بدّ من فارق يفرق بينهما لأن تقاربت الأشباه
فالإيجاد والإبداع اسم عام لما تناوله معنى الإيجاد، ومعنى
الإيجاد إخراج ذات المكون من العدم إلى الوجود واسم الخلق
يتناول جميع المواد الظاهرة للمصنوع الظاهر، وهذا حدّ خاص
في الخلق واسم البرء يتناول إيجاد البواطن من باطن ما خلق
منه ذوات المقادير وهي الأجسام وجعل الذوات ذواتًا في
الكون محمولة في الأجسام محجوبة في الهياكل، وأما المصور
فهو مبدع صور المخلوقات على وجوه تتميز بها عن غيرها من
تقدير وتخطيط واختصاص بشكل ونحو هذا فالله تعالى خالق كل
شيء بمعنى أنه مقدره أو موجده من أصل ومن غير أصل وبارئه
حسبما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته من غير تفاوت واختلال
ومصوّره بصورة يترتب عليها خواصه ويتم بها كماله.
7409 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ،
حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى هُوَ ابْنُ
عُقْبَةَ، حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
حَبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ
الْخُدْرِىِّ فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ أَنَّهُمْ
أَصَابُوا سَبَايَا فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَمْتِعُوا
بِهِنَّ وَلاَ يَحْمِلْنَ فَسَأَلُوا النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ: «مَا
عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ
كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ قَزَعَةَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ
فَقَالَ قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلاَّ اللَّهُ
خَالِقُهَا».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن منصور أو ابن راهويه قال:
(حدّثنا عفان) قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو ابن خالد قال:
(حدّثنا موسى هو ابن عقبة) وسقط لأبي ذر هو ابن عقبة قال:
(حدّثني) بالإفراد (محمد بن يحيى بن حبان) بفتح الحاء
المهملة وتشديد الموحدة الأنصاري المدني
(عن ابن محيريز) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وسكون
التحتية بعدها راء فتحتية ساكنة فزاي الجمحي القرشي (عن
أبي سعيد الخدري) -رضي الله عنه- (في غزوة بني المصطلق)
بكسر اللام (أنهم أصابوا سبايا) جمع سبيئة بالهمز وهي
المرأة تسبى مثل خطيئة وخطايا أي جواري أخذن من الكفار
أسرًا (فأرادوا) لما طالت عليهم العزبة (أن يستمتعوا بهنّ)
في الجماع (ولا يحملن فسألوا النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن العزل) وهو نزع الذكر من الفرج وقت
الإنزال (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(ما عليكم أن لا تفعلوا) أي ليس عليكم ضرر في ترك العزل أو
ليس عدم العزل واجبًا عليكم أو لا زائدة كما قاله المبرد
(فإن الله) عز وجل (قد كتب) أي أمر من كتب (من هو خالق إلى
يوم القيامة) فلا فائدة في عزلكم فإنه تعالى إن كان قد
خلقها سبقكم الماء فلا ينفعكم الحرص.
(وقال مجاهد) هو ابن جبر المفسر فيما وصله (عن قزعة)
بالقاف والزاي المفتوحتين (سمعت)
(10/384)
ولأبي ذر قال: سألت (أبا سعيد) الخدري عن
العزل (فقال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: ليست نفس مخلوقة) مقدرة الخلق (إلا الله) عز
وجل (خالقها) أي مبرزها من العدم إلى الوجود.
19 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ
بِيَدَىَّ} [ص: 75]
(باب قول الله تعالى: {لما خلقت بيدي} [ص: 75]) يريد قوله
تعالى لإبليس لما لم يسجد لآدم: {ما منعك أن تسجد لما خلقت
بيدي} امتثالاً لأمري أي خلقته بنفسي من غير توسط كأب وأم
والتثنية لما في خلقه من مزيد القدرة واختلاف الفعل، وقيل:
المراد باليد القدرة، وتعقب بأنه لو كان اليد بمعنى القدرة
لم يكن بين آدم وإبليس فرق لتشاركهما فيما خلق كل منهما به
وهي قدرته في كلام المحققين من علماء البيان أن قولنا اليد
مجاز عن القدرة إنما هو لنفي وهم التشبيه والتجسيم بسرعة،
وإلا فهي تمثيلات وتصويرات للمعاني العقلية بإبرازها في
الصور الحسية ولأنه عهد أنه من اعتنى بشيء باشره بيديه
فيستفاد من ذلك أن العناية بخلق آدم أتم من العناية بخلق
غيره وثبت لفظ باب لأبي ذر.
7410 - حَدَّثَنِى مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا
هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَجْمَعُ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ،
فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى
يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ
فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَمَا تَرَى النَّاسَ خَلَقَكَ
اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ،
وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ شَفِّعْ لَنَا إِلَى
رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا
فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكَ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ
الَّتِى أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ
أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ،
فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ
وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ
إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ
لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِى أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا
مُوسَى عَبْدًا أَتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ
تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ
هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ،
وَلَكِنِ
ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ
وَرُوحَهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ
هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِى فَأَنْطَلِقُ
فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ
فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا،
فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى ثُمَّ
يُقَالُ لِى: ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ: يُسْمَعْ وَسَلْ
تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى
بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى
حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا
رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ
وَقُلْ: يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ
فَأَحْمَدُ رَبِّى بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا رَبِّى ثُمَّ
أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ
ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ
سَاجِدًا، فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى،
ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ قُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ
تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَحْمَدُ رَبِّى
بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى
حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ
فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِىَ فِى النَّارِ إِلاَّ مَنْ
حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ قَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَخْرُجُ
مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ، مَا يَزِنُ
شَعِيرَةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ
الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ
النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ
فِى قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنَ الْخَيْرِ ذَرَّةً».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (معاذ بن
فضالة) بفتح الفاء وتخفيف الضاد المعجمة أبو زيد البصري:
(حدّثنا هشام) الدستوائي (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس)
-رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(يجمع الله) عز وجل (المؤمنين) من الأمم الماضية والأمة
المحمدية ولأبوي الوقت وذر يجمع المؤمنون بضم التحتية
مبنيًّا للمفعول والمؤمنون مفعول ناب عن فاعله (يوم
القيامة كذلك) بالكاف في أوله للجميع. قال البرماوي
والعيني كالكرماني أي مثل الجمع الذي نحن عليه. وقال في
فتح الباري: وأظن أن أول هذه الكلمة لام والإشارة إلى يوم
القيامة أو لما يذكر بعد قال: وقد وقع عند مسلم من رواية
معاذ بن هشام عن أبيه يجمع إليه المؤمنين يوم القيامة
فيهتمون لذلك (فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا) أحدًا فيشفع
لنا (حتى يريحنا من مكاننا هذا) أي من الموقف لنحاسب ونخلص
من حرّ الشمس والغم الذي لا طاقة لنا به (فيأتون آدم
فيقولون يا آدم أما ترى الناس) فيما هم فيه من الكرب (خلقك
الله بيده) وهذا موضع الترجمة (وأسجد لك ملائكته وعلّمك
أسماء كل شيء) وضع شيء موضع أشياء أي المسميات لقوله
تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31] أي أسماء
المسميات إرادة للتقصي واحدًا فواحدًا حتى يستغرق المسميات
كلها (شفع) بفتح الشين المعجمة وكسر الفاء مشددة مجزوم على
الطلب قال في الكواكب من التشفيع وهو قبول الشفاعة وهو لا
يناسب المقام إلا أن يقال هو تفعيل للتكثير والمبالغة
ولأبي الوقت وأبي ذر عن الكشميهني اشفع (لنا إلى ربنا حتى
يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناك) أي ليست لي هذه
المرتبة بل لغيري (ويذكر لهم خطيئته التي أصابـ) ـها وهي
أكله من الشجرة (ولكن ائتوا نوحًا
فإنه أول رسول بعثه الله) عز وجل بالإنذار (إلى أهل الأرض)
الموجودين بعد هلاك الناس بالطوفان وليست أصل بعثته عامة
فإنه من خصوصيات نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وكانت رسالة آدم لنبيه بمنزلة التربية والإرشاد
(فيأتون نوحًا) فيسألونه (فيقول) لهم (لست هناكم) بالميم
بعد الكاف ولأبي ذر عن المستملي والكشميهني هناك بإسقاطها
(ويذكر خطيئته التي أصابـ) ـها وهي سؤاله نجاة ولده من
الغرق (ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم)
فيسألونه (فيقول لست هناكم) وللمستملي والكشميهني هناك
(ويذكر لهم خطاياه التي أصابها) وهي قوله: {إني سقيم}
[الصافات: 89] و {بل فعله كبيرهم} [الأنبياء: 63] وإنها
أختي. (ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة وكلمه
تكليمًا فيأتون موسى) فيسألونه (فيقول لست هناكم ويذكر لهم
خطيئته التي أصاب) ولأبي ذر أصابها وهي قتله النفس بغير حق
(ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله) نفي لقول النصارى ابن
الله (وكلمته) لأنه وجد بأمره تعالى من غير أب (وروحه)
المنفوخة في مريم (فيأتون عيسى) فيسألونه (فيقول
(10/385)
لست هناكم ولكن ائتوا محمدًا -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقطت الصلاة لأبي ذر (عبدًا
غفر له) بضم الغين وكسر الفاء ولأبوي الوقت وذر والأصيلي
غفر الله له (ما تقدم من ذنبه) عن سهو وتأويل (وما تأخر)
بالعصمة (فيأتون) ولأبي ذر فيأتونني (فأنطلق فأستأذن على
ربي) أي في الشفاعة للإراحة من هول الموقف (فيؤذن لي)
بالفاء ولأبي ذر عن الكشميهني ويؤذن لي (عليه فإذا رأيت
ربي وقعت له ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني) أي
فيتركني ما شاء أن يتركني (ثم يقال لي ارفع محمد) رأسك
(وقل) ولأبي ذر قل بإسقاط الواو (يسمع) بضم التحتية وسكون
السين المهملة وفتح الميم لك ولأبي ذر عن الحموي
والكشميهني تسمع بالفوقية بدل التحتية (وسل) بغير همزة
(تعطه) ولأبي ذر عن المستملي تعط بغير هاء (واشفع تشفع)
بضم الفوقية وفتح الفاء مشددة تقبل شفاعتك (فأحمد ربي)
تعالى (بمحامد علمنيها) زاد أبو ذر ربي وفي تفسير البقرة
يعلمنيها بلفظ المضارع (ثم اشفع فيحدّ لي) تعالى (حدًّا)
أي يعين لي قومًا مخصوصين (فأدخلهم الجنة ثم أرجع فإذا
رأيت ربي) تعالى (وقعت) له (ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن
يدعني ثم يقال: ارفع محمد) رأسك (وقل يسمع) لقولك ولأبي ذر
عن الحموي والكشميهني تسمع بالفوقية (وسل تعطه) وللمستملي
تعط بدون هاء (واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها) زاد
أبو ذر ربي (ثم أشفع فيهم) فيشفعني تعالى ثم أستأذنه تعالى
في الشفاعة لإخراج قوم من النار (فيحد لي حدًّا فأدخلهم
الجنة ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت) له (ساجدًا فيدعني ما
شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع محمد) رأسك (قل يسمع) لك
ولأبي ذر وقل بالواو تسمع بالفوقية (وسل تعطه) بالهاء
(واشفع تشقع فأحمد ربي بمحامد علمنيها) ولأبي ذر علمنيها
ربي (ثم اشفع فيحد لي حدًّا فأدخلهم الجنة ثم أرجع فأقول
يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن) فيها ممن أشرك
(ووجب عليه الخلود) بنحو قوله فيه خالدين فيها أبدًا (قال)
ولأبي ذر فقال (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله) مع
محمد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وكان
في قلبه من الخير) زيادة على أصل التوحيد (ما يزن شعيرة ثم
يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من
الخير ما يزن برة) حبة من الحنطة (ثم يخرج من النار من قال
لا إله إلا الله وكان
في قلبه ما يزن من الخير ذرة) بفتح الذال المعجمة وتشديد
الراء واحدة الذر وهو النمل الصغار أو الهباء الذي يظهر في
عين الشمس أو غير ذلك.
وفي الحديث الردّ على المعتزلة في نفيهم الشفاعة لأصحاب
الكبائر وبيان أفضلية نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على جميع الأنبياء، وأما ما نسب إلى الأنبياء
من الخطايا فمن باب التواضع، وأن حسنات الأبرار سيئات
المقربين وإلاّ فهم صلوات الله وسلامه عليهم معصومون
مطلقًا.
وسبق الحديث في تفسير سورة البقرة.
7411 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَدُ اللَّهِ مَلأَى
لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ». وَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ
مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ
يَغِضْ مَا فِى يَدِهِ». وَقَالَ: «عَرْشُهُ عَلَى
الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ
وَيَرْفَعُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا) ولأبى ذر أخبرنا (أبو
الزناد) ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(يد الله) عز وجل (ملأى) بفتح الميم وسكون اللام بعدها
همزة (لا يغيضها) بفتح التحتية وكسر الغين المعجمة وسكون
التحتية بعدها ضاد معجمة ولأبي ذر لا تغيضها بالفوقية بدل
التحتية أي لا ينقصها (نفقة) والمراد من قوله ملأى لازمه
وهو أنه في غاية الغنى وعنده من الرزق ما لا نهاية له هي
(سحاء الليل والنهار) بفتح السين والحاء المشددة المهملتين
وبالمد والرفع خبر مبتدأ مضمر كما مرّ وبالنصب منوّنًا على
المصدر أي تسح سحًّا والليل والنهار نصب على الظرفية،
والمعنى أنها دائمة الصب والهطل بالعطاء واليد هنا كناية
عن محل عطائه ووصفها بالامتلاء لكثرة منافعها وكمال
فوائدها فجعلها كالعين التي لا يغيضها الاستقاء (وقال:
أرأيتم ما أنفق) سبحانه وتعالى (منذ خلق السماوات والأرض)
أي ما أنفق في زمان خلق السماوات والأرض حين كان عرشه على
الماء إلى يومنا ولأبي ذر
(10/386)
منذ خلق السماوات والأرض (فإنه لم يغض)
بفتح التحتية وكسر المعجمة لم ينقص (ما في يده).
قال الطيبي: يجوز أن يكون أرأيتم استئنافًا فيه معنى
الترقي كأنه لما قيل ملأى أوهم جواز النقصان فأزيل بقوله
لا يغيضها نفقة وقد يمتلئ الشيء ولا يفيض، فقيل سحاء إشارة
إلى الفيض وقرنه بما يدل على الاستمرار من ذكر الليل
والنهار ثم أتبعه بما يدل على أن ذلك ظاهر غير خافٍ على ذي
بصر وبصيرة بعد أن اشتمل من ذكر الليل والنهار بقوله:
أرأيتم على تطاول المدة لأنه خطاب عامّ والهمزة فيه
للتقرير قال: وهذا الكلام إذا أخذته بجملته من غير نظر إلى
مفرداته أبان زيادة المعنى وكمال السعة والنهاية في الجود
والبسط في العطاء.
(وقال): وفي نسخة وكان (عرشه على الماء) أي قبل خلق
السماوات والأرض (وبيده الأخرى الميزان) العدل بين الخلق
(يخفض) من يشاء (ويرفع) من يشاء ويوسع الرزق على من يشاء
ويضيّقه على من يشاء والميزان كما قاله الخطابي مثل
والمراد القسمة بين الخلق أو المراد يخفض الميزان ويرفعه
فإن الذي يوزن بالميزان يخف ويرجح.
وفي حديث أبي موسى عند مسلم وابن حبان: إن الله لا ينام
ولا ينبغي أن ينام يخفض القسط ويرفعه، وظاهره أن المراد
بالقسط الميزان وهو مما يؤيد أن الضمير المحذوف في قوله
يخفض ويرفع الميزان، وأشار بقوله بيده الأخرى إلى أن عادة
المخاطبين تعاطي الأسباب باليدين معًا فعبر عن قدرته على
التصرف بذكر اليدين ليفهم المعنى المراد مما اعتادوه.
والحديث سبق بهذا الإسناد والمتن في تفسير سورة هود وفيه
زيادة في أوله وهي قال: قال الله عز وجل: أنفق أُنفق عليك.
7412 - حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِى عَمِّى الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما
- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الأَرْضَ، وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ
بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ».
وبه قال: (حدّثنا مقدم بن محمد) الهلالي الواسطي ولأبي ذر
زيادة ابن يحيى (قال: حدّثني) بالإفراد (عمي القاسم بن
يحيى) بن عطاء (عن عبيد الله) بضم العين العمري (عن نافع
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال):
(إن الله يقبض يوم القيامة الأرض) أي الأرضين السبع ولأبي
ذر عن الكشميهني الأرضين بالجمع (وتكون السماوات) السبع
(بيمينه) أي مطويات كما في قوله تعالى: {والأرض جميعًا
قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67]
فالمراد بهذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه
تصوير عظمته تعالى والتوقيف على حكم جلاله لا غير من غير
ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز يعني
أن الأرضين السبع مع عظمهن وبسطهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة
من قبضاته (ثم يقول: أنا الملك) ولمسلم من حديث ابن عمر:
أين الجبارون أين المتكبرون؟
والحديث سبق في تفسير سورة الزمر.
7413 - رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ
حَمْزَةَ: سَمِعْتُ سَالِمًا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا،
وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ
الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ».
(رواه) أي الحديث (سعيد) بكسر العين ابن داود بن أبي زنبر
بفتح الزاي والموحدة بينهما
نون ساكنة آخره راء المدني سكن بغداد وليس له في هذا
الكتاب إلا هذا الموضع (عن مالك) الإمام وصله الدارقطني في
غرائب مالك وأبو القاسم اللالكائي.
(وقال عمر بن حمزة) بن عبد الله بن عمر: (سمعت سالمًا) هو
ابن عبد الله بن عمر عم المذكور يقول: (سمعت ابن عمر) عبد
الله -رضي الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بهذا) الحديث ووصله مسلم وأبو داود (وقال أبو
اليمان) الحكم بن نافع: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن
الزهري) محمد بن مسلم أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (أبو
سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (أن أبا هريرة) -رضي الله عنه-
(قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
يقبض الله) عز وجل (الأرض). وهذا سبق قريبًا في باب قوله
تعالى: {ملك الناس} [الناس: 2].
7414 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، سَمِعَ يَحْيَى بْنَ
سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِى مَنْصُورٌ
وَسُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا
مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى
إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ
عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلاَئِقَ
عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91].
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَزَادَ فِيهِ فُضَيْلُ بْنُ
عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعَجُّبًا
وَتَصْدِيقًا لَهُ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد أنه (سمع يحيى بن
سعيد) القطان (عن سفيان) الثوري أنه قال: (حدّثني)
بالإفراد (منصور) هو ابن المعتمر (وسليمان) بن مهران
الأعمش كلاهما (عن إبراهيم) النخعي (عن عبيدة) بفتح العين
وكسر الموحدة ابن عمرو السلماني (عن عبد الله) بن مسعود
-رضي الله عنه- (أن يهوديًّا) أي يعرف اسمه، وفي مسلم من
رواية فضيل بن عياض جاء حبر وزاد في رواية شيبان من
الأحبار (جاء إلى النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال: يا محمد إن الله يمسك
(10/387)
السماوات) زاد فضيل يوم القيامة (على إصبع
والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع) زاد
في رواية شيبان الماء والثرى، وفي رواية فضيل بن عياض
الجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع (والخلائق)
ممن لم يتقدم له ذكر (على إصبع ثم يقول) تعالى: (أنا
الملك) وفي رواية أنا الملك بالتكرار مرتين (فضحك رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بدت) ظهرت
(نواجذه) بالجيم والذال المعجمة أنيابه التي تبدو عند
الضحك (ثم قرأ) عليه الصلاة والسلام: ({وما قدروا الله حق
قدره} [الأنعام: 91]) أي وما عظّموه حق تعظيمه.
(قال يحيى بن سعيد) القطان راوي الحديث عن الثوري بالسند
المذكور: (وزاد فيه فضيل بن عياض عن منصور) أي ابن المعتمر
(عن إبراهيم عن عبيدة) السلماني (عن عبد الله) بن مسعود
-رضي الله عنه- (فضحك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) حال كون ضحكه (تعجبًّا) من قول اليهودي
(وتصديقًا له)
ووصله مسلم عن أحمد بن يونس عن فضيل. وقد سبق في تفسير
سورة الزمر أن الخطابي ذكر الأصبع وقال: إنه لم يقع في
القرآن ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست جارحة
حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف أطلقه
الشارع فلا يكيف ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط
اليهود فإن اليهود مشبهة وقول من قال من الرواة وتصديقًا
له أي لليهود ظن وحسبان، وقد روى هذا الحديث غير واحد من
أصحاب عبد الله فلم يذكروا فيه تصديقًا له ثم قال: ولو صح
الخبر حملناه على تأويل قوله والسماوات مطويات بيمينه اهـ.
وتعقبه بعضهم بورود الأصابع في عدة أحاديث منها ما أخرجه
مسلم: إن قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن ولكن هذا
لا يرد عليه لأنه إنما نفى القطع، نعم ذهب الشيخ أبو عمرو
بن الصلاح إلى أن ما اتفق عليه الشيخان بمنزلة المتواتر
فلا ينبغي التجاسر على الطعن في ثقات الرواة وردّ الأخبار
الثابتة، ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي بالظن
للزم منه تقريره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على
الباطل وسكوته عن الإنكار وحاش الله من ذلك، وقد اشتد
إنكار ابن خزيمة على من ادّعى أن الضحك المذكور كان على
سبيل الإنكار فقال بعد أن أورد هذا الحديث في صحيحه في
كتاب التوحيد بطرقه قد أجلّ الله تعالى نبيه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يوصف ربه بحضرته بما ليس
هو من صفاته فيجعل بدل الإنكار والغضب على الوصف ضحكًا بل
لا يصف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذا
الوصف من يؤمن بنبوته اهـ.
7415 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ،
حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سَمِعْتُ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ يَقُولُ: قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى
إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ،
وَالْخَلاَئِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا
الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ
نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ} [الأنعام: 91].
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) سقط لأبي ذر بن غياث
قال: (حدّثنا أبي) حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان قال:
(سمعت إبراهيم) النخعي (قال: سمعت علقمة) بن قيس (يقول:
قال عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- (جاء رجل إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أهل الكتاب) من
اليهود (فقال: يا أبا القاسم إن الله يمسك السماوات على
إصبع والأرضين على إصبع والشجر والثرى على أصبع والخلائق)
أي الذين لم يذكروا فيما مرّ (على إصبع ثم يقول: أنا الملك
أنا الملك) قالها مرتين قال ابن مسعود (فرأيت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضحك) أي تعجبًا كما
مرّ (حتى بدت نواجذه) بالجيم والمعجمة (ثم قرأ: {وما قدروا
الله حق قدره} [الأنعام: 91]).
قال القرطبي في المفهم: ضحكه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إنما هو للتعجب من جهل اليهودي، ولهذا قرأ عند
ذلك {وما قدروا الله حق قدره} فهذه الرواية هي الصحيحة
المحققة وأما من زاد تصديقًا له
فليست بشيء فإنها من قول الراوي وهي باطلة لأنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يصدق المحال، وهذه الأوصاف
في حق الله تعالى محال إذ لو كان ذا يد أو أصابع وجوارح
لكان كواحد منا ولو كان كذلك لاستحال أن يكون إلهًا فقول
اليهودي محال وكذب، ولذلك أنزل الله في الرد عليه {وما
قدروا الله قدره} اهـ.
وهذا يرده ما سبق قريبًا والله الموفق والمعين لا رب سواه.
20 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا
شخص أغير من الله) لا الجنسية وأغير أفعل تفضيل مرفوع
خبرها وسقط لغير أبي ذر باب فالتالي
(10/388)
مرفوع.
7416 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ
التَّبُوذْكِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ،
عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ
لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ
بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
«تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لأَنَا
أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى وَمِنْ أَجْلِ
غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ
مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ
الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ
إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ».
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل التبوذكي) وثبت لفظ
التبوذكي لأبي ذر قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري
قال: (حدّثنا عبد الملك) بن عمير (عن وزاد) بفتح الواو
والراء المشدّدة (كاتب المغيرة) بن شعبة ومولاه (عن
المغيرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال سعد بن عبادة) سيد
الخزرج -رضي الله عنه- (لو رأيت رجلاً مع امرأتي) غير محرم
لها (لضربته بالسيف غير مصفح) بفتح الصاد والفاء المشدّدة
وبسكون الصاد وتخفيف الفاء وهو الذي في اليونينية أي غير
ضارب بعرضه بل بحدّه (فبلغ ذلك) الذي قاله سعد (رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(تعجبون) ولأبي ذر أتعجبون (من غيرة سعد والله) مجرور بواو
القسم (لأنا) مبتدأ دخلت عليه لام التأكيد المفتوحة خبره
(أغير منه والله أغير مني) مبتدأ وخبر. قال ابن دقيق
العيد: المنزهون لله إما ساكتون عن التأويل وإما مؤوّلون،
والثاني يقول المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية وهما
من لوازم الغيرة فأطلقت على سبيل المجاز كالملازمة وغيرها
من الأوجه الشائعة في لسان العرب، فالمراد الزجر عن
الفواحش والتحريم لها والمنع منها وقد بيّن ذلك بقوله (ومن
أجل غيرة الله) عز وجل (حرم الفواحش) جمع فاحشة وهي كل
خصلة قبيحة من الأقوال والأفعال (ما ظهر منها) كنكاح
الجاهلية الأمهات (وما بطن) كالزنا (ولا أحد أحب) بالرفع
خبر لا، ولأبي ذر
ولا أحد بالرفع منوّنًا أحب (إليه العذر من الله) برفع أحب
أيضًا في الفرع كأصله أو بالنصب خبر لا على الحجازية
والعذر رفع فاعل أحب والعذر الحجة (ومن أجل ذلك بعث
المبشرين والمنذرين) بكسر الشين والذال المعجمتين أي بعث
الرسل لخلقه قبل أخذهم بالعقوبة وفي غير رواية أبي ذر
تقديم المنذرين على المبشرين، وفي مسلم بعث المرسلين
مبشرين ومنذرين (ولا أحد أحب إليه المدحة) بكسر الميم
وسكون الدال المهملة مرفوع فاعل أحب والمدح الثناء بذكر
أوصاف الكمال والإفضال (من الله) عز وجل (ومن أجل ذلك وعد
الله الجنة) من أطاعه وحذف أحد مفعولي وعد وهو من أطاعه
للعلم به. قال القرطبي: ذكر المدح مقرونًا بالغيرة والعذر
بينهما لسعد على أن لا يعمل بمقتضى غيرته ولا يعجل بل
يتأنى ويترفق ويتثبت حتى يحصل على وجه الصواب فينال كمال
الثناء والمدح والثواب لإيثاره الحق وقمع نفسه وغلبتها عند
هيجانها وهو نحو قوله الشديد من يملك نفسه عند الغضب وهو
حديث صحيح متفق عليه.
(وقال عبيد الله) بضم العين (ابن عمرو) بفتحها ابن أبي
الوليد الأسدي مولاهم الرقي فيما وصله الدارمي عن زكريا بن
عدي عن عبيد الله بن عمرو (عن عبد الملك) بن عمير بن سويد
الكوفي عن وراد مولى المغيرة عن المغيرة قال: يبلغ به
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا شخص أغير
من الله).
قال الخطابي: إطلاق الشخص في صفات الله عز وجل غير جائز
لأن الشخص لا يكون إلا جسمًا مؤلفًا فخليق أن لا تكون هذه
اللفظة صحيحة وأن تكون تصحيفًا من الراوي ودليل أن أبا
عوانة روى هذا الحديث عن عبد الملك يعني في هذا الباب فلم
يذكرها فمن لم يمعن في الاستماع لم يأمن الوهم وليس كل
الرواة يراعي لفظ الحديث حتى لا يتعداه بل كثير منهم يحدّث
بالمعنى وليس كلهم فهمًا بل في كلام بعضهم جفاء وتعجرف،
فلعل لفظ شخص جرى على هذا السبيل إن لم يكن غلطًا من قبيل
التصحيف يعني السمعي قال: ثم إن عبد الله بن عمرو انفرد عن
عبد الملك ولم يتابع عليه واعتوره الفساد من هذه الوجوه
اهـ.
وقال ابن فورك: لفظ الشخص غير ثابت من طريق السند والإجماع
على المنع منه لأن معناه الجسم المركب، وكذا قال نحوه
الداودي والقرطبي وطعنهم في السند بنوه على تفرد عبيد الله
بن عمرو به وليس كذلك، فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عبيد
الله بن عمر القواريري وأبي كامل فضيل بن حسين الجحدري
ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ثلاثتهم عن أبي عوانة
الوضاح بالسند الذي أخرجه به البخاري
(10/389)
لكن قال في المواضع الثلاثة لا شخص بدل لا
أحد ثم ساقه من طريق زائدة بن قدامة عن عبد الملك كذلك
فكان هذه اللفظة لم تقع في رواية البخاري في حديث أبي
عوانة عن عبد الملك فلذلك علقها عن عبيد الله بن عمرو اهـ.
وقد أخرجه مسلم عن القواريري وأبي كامل كذلك ومن طريق
زائدة أيضًا فكأن الطاعنين لم يستحضروا إذ ذاك صحيح مسلم
ولا غيره من الكتب التي وقع فيها هذا اللفظ من غير رواية
عبيد الله بن عمرو وورود الروايات الصحيحة والطعن في أئمة
الحديث الضابطين مع إمكان توجيه
ما رووا من الأمور التي قدم عليها كثير من غير أهل الحديث
وهو يقتضي قصور فهم من فعل ذلك منهم، ومن ثم قال الكرماني:
لا حاجة لتخطئة الرواة الثقات بل حكم هذا حكم سائر
المتشابهات إما التفويض وإما التأويل اهـ من الفتح.
وقال في المصابيح: هذا ظاهر إذ ليس في هذا اللفظ ما يقتضي
إطلاق الشخص على الله وما هو إلا بمثابة قولك لا رجل أشجع
من الأسد، وهذا لا يدل على إطلاق الرجل على الأسد بوجه من
الوجوه فأي داعٍ بعد ذلك إلى توهيم الراوي في ذكر الشخص
أنه تصحيف من قوله لا شيء أغير من الله كما صنعه الخطابي.
21 - باب {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} وَسَمَّى
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الْقُرْآنَ شَيْئًا
{قُلِ اللَّهُ}، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ
شَيْئًا، وَهْوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَقَالَ:
{كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
(باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى: ({قل أي شيء أكبر
شهادة} [الأنعام: 19] وسمى الله تعالى نفسه شيئًا) إثباتًا
لوجوده ونفيًا لعدمه وتكذيبًا للزنادقة والدهرية في قول
الله عز وجل: ({قل الله}) ولأبي ذر {قل أي شيء أكبر شهادة
قل الله} فسمى الله تعالى نفسه شيئًا. قال في المدارك: أي
شيء مبتدأ وأكبر خبره وشهادة تمييز وأي كلمة يراد بها بعض
ما تضاف إليه فإذا كانت استفهامًا كان جوابها مسمى باسم ما
أضيفت إليه، وقوله قل الله جواب أي الله أكبر شهادة فالله
مبتدأ والخبر محذوف فيكون دليلاً على أنه يجوز إطلاق اسم
الشيء على الله تعالى وهذا لأن الشيء اسم للموجود ولا يطلق
على المعدوم والله تعالى موجود فيكون شيئًا ولذا تقول الله
تعالى شيء لا كالأشياء (وسمى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القرآن شيئًا) في الحديث الذي بعده
(وهو صفة من صفات الله) تعالى أي من صفات ذاته (وقال: {كل
شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88]) فيه أن الاستثناء متصل
فإنه يقتضي اندراج المستثنى في المستثنى منه وهو الراجح
فيدل على أن لفظ شيء يطلق عليه تعالى وقيل الاستثناء منقطع
والتقدير لكن هو سبحانه لا يهلك.
7417 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لِرَجُلٍ: «أَمَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ»؟
قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ
سَمَّاهَا.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن أبي حازم) سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد)
الساعدي -رضي الله عنه- أنه قال: (قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لرجل) لم يسم لما قال له في
المرأة الواهبة نفسها له ولم يردها عليه الصلاة والسلام:
يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوّجنيها؟ فقال: وهل
عندك من شيء؟ قال: لا. قال: انظر ولو خاتمًا من حديد.
فقال: ولا خاتمًا من حديد. فقال له:
(أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا السور
سماها) عيّن النسائي في روايته عن أبي هريرة البقرة والتي
تليها، وعند الدارقطني البقرة وسور من المفصل وقد أجمع على
أن لفظ شيء يقتضي إثبات موجود ولفظ لا شيء يقتضي نفي
موجود، وأما قولهم فلن ليس بشيء فإنه على طريق المبالغة في
الذم فوصف لذلك بصفة المعدوم.
وحديث الباب مختصر من حديث سبق في النكاح.
22 - باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]
{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}:
ارْتَفَعَ. {فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة: 29]: خَلَقَهُنَّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {اسْتَوَى} [الأعراف: 54]: عَلاَ عَلَى
الْعَرْشِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الْمَجِيدُ} [البروج:
15]: الْكَرِيمُ. وَ {الْوَدُودُ} [البروج: 14]:
الْحَبِيبُ. يُقَالُ: حَمِيدٌ مَجِيدٌ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ
مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِيدٍ.
(باب) قوله تعالى: ({وكان عرشه على الماء} [هود: 7]) أي
فوقه أي ما كان تحته خلق قبل خلق السماوات والأرض إلا
الماء وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق
السماوات والأرض، وروى الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة
في كتاب صفة العرش عن بعض السلف أن العرش مخلوق من ياقوتة
حمراء بُعد ما بين قطريه ألف سنة واتساعه خمسون ألف سنة
إنه أبعد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف
سنة وقيل مما ذكره في المدارك أن الله خلق ياقوتة خضراء
فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ثم خلق ريحًا فأقر الماء على
متنه ثم وضع عرشه على الماء وفي وقوف العرش على الماء أعظم
اعتبار لأهل الأفكار ({وهو رب العرش العظيم} [التوبة:
129]) روى
(10/390)
ابن مردويه في تفسيره مرفوعًا: إن السماوات
السبع والأرضين السبع عند الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة
وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة.
(قال أبو العالية) رفيع بن مهران الرياحي في قوله تعالى:
({استوى إلى السماء}) معناه (ارتفع) وهذا وصله الطبري،
وقال أبو العالية أيضًا في قوله تعالى: ({فسوّاهن}
[البقرة: 29]) أي (خلقهن) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
فسوّى أي خلق.
(وقال مجاهد) المفسر في قوله تعالى: ({استوى}) {على العرش}
[الأعراف: 54] أي (علا على العرش) وهذا وصله الفريابي عن
ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه. قال ابن بطال: وهذا صحيح وهو
المذهب الحق، وقول أهل السُّنّة لأن الله سبحانه وتعالى
وصف نفسه بالعلي، وقال سبحانه وتعالى: {عما يشركون} وهي
صفة من صفات الذات. قال في المصابيح: وما قاله مجاهد من
أنه بمعنى علا ارتضاه غير واحد من أئمة أهل السُّنَّة
ودفعوا اعتراض من قال علا بمعنى ارتفع من
غير فرق، وقد أبطلتموه لما في ظاهره من الانتقال من سفل
إلى علو وهو محال على الله فليكن علا كذلك، ووجه الدفع أن
الله تعالى وصف نفسه بالعلوّ ولم يصف نفسه بالارتفاع. وقال
المعتزلة: معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة وردّ بأنه تعالى
لم يزل قاهرًا غالبًا مستوليًا. وقوله: ثم استوى يقتضي
افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن ولازم تأويلهم أنه كان
مغالبًا فيه فاستولى عليه بقهر من غالبه وهذا مُنتَفٍ عن
الله. وقالت المجسمة: معناه الاستقرار ودفع بأن الاستقرار
من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول وهو مُحال في حقه تعالى.
وعند أبي القاسم اللالكائي في كتاب السُّنّة من طريق الحسن
البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول
والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر ومن
طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على
العرش؟ قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول وعلى
الله الرسالة وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله ابن أبي حاتم
في تفسير ({المجيد}) من قوله تعالى: {ذو العرش المجيد}
[البروج: 15] أي (الكريم) والمجد النهاية في الكرم
({والودود}) أي من قوله تعالى: ({الغفور الودود} [البروج:
14] أي (الحبيب) قال في اللباب والودود مبالغة في الودّ،
وقال ابن عباس: هو التودّد لعباده بالعفو، وقال في الفتح:
وقدم المصنف المجيد على الودود لأن غرضه تفسير لفظ المجيد
الواقع في قوله تعالى: {ذو العرش المجيد} فلما فسره استطرد
التفسير الاسم الذي قبله إشارة إلى أنه قرئ مرفوعًا
اتفاقًا وذو العرش بالرفع صفة له واختلف القراء في المجيد
فبالرفع يكون من صفات الله وبالجر من صفات العرش. (يقال
حميد مجيد كأنه فعيل) أي كأن مجيدًا على وزن فعيل أخذ (من
ماجد) و (محمود) أخذ (من حميد) وللكشميهني من حمد بغير ياء
فعلاً ماضيًا كذا في الفرع. وقال في الفتح: كذا لهم بغير
ياء ولغير أبي ذر عن الكشميهني محمود من حميد وأصل هذا قول
أبي عبيدة في المجاز في قوله تعالى: {عليكم أهل البيت}
[هود: 73] أنه حميد مجيد أي محمود ماجد. وقال الكرماني:
غرضه منه أن مجيدًا فعيل بمعنى فاعل كقدير بمعنى قادر
وحميدًا فعيل بمعنى مفعول فلذلك قال: مجيد من ماجد وحميد
من محمود. قال: وفي بعض النسخ محمود من حميد، وفي أخرى
محمود من حمد مبنيًّا للفاعل والمفعول أيضًا وإنما قال
كأنه لاحتمال أن يكون حميد بمعنى حامد ومجيد بمعنى ممجد ثم
قال وفي عبارة البخاري تعقيد، قال في الفتح التعقيد هو في
قوله محمود من حمد وقد اختلف الرواة فيه والأولى فيه ما
وجد في أصله وهو كلام أبي عبيدة اهـ.
قال العيني: قوله التعقيد في قوله محمود من حمد هو كلام من
لم يذق من علم التصريف شيئًا بل لفظ محمود مشتق من حمد
والتعقيد الذي ذكره الكرماني ونسبه إلى البخاري هو قوله،
ومحمود أخذ من حميد لا أن محمودًا من حمد وإنما كلاهما
أخذا من حمد الماضي اهـ.
7418 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِى حَمْزَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ
قَالَ: إِنِّى عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ
فَقَالَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِى تَمِيمٍ».
قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ
أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا
أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ.
قَالُوا: قَبِلْنَا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِى الدِّينِ
وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ؟
قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ قَبْلَهُ،
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ
شَىْءٍ». ثُمَّ أَتَانِى رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ
أَدْرِكْ نَاقَتَكَ، فَقَدْ ذَهَبَتْ فَانْطَلَقْتُ
أَطْلُبُهَا، فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا،
وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ
أَقُمْ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان بن جبلة بن
أبي روّاد العتكي المروزي (عن أبي حمزة) بالحاء المهملة
والزاي
(10/391)
محمد بن ميمون ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي أخبرنا أبو حمزة (عن الأعمش) سليمان بن مهران
الكوفي (عن جامع بن شداد) بفتح الشين المعجمة والدال
المهملة المشددة أبي صخرة المحاربي (عن صفوان بن محرز) بضم
الميم وسكون الحاء المهملة وبعد الراء زاي البصري (عن
عمران بن حصين) بالحاء والصاد المهملتين مصغرًا -رضي الله
عنه- أنه (قال: إني عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذ جاءه قوم من بني تميم فقال):
(اقبلوا البشرى يا بني تميم) قال في فتح الباري: المراد
بهذه البشارة أن من أسلم نجا من الخلود في النار ثم بعد
ذلك يترتب جزاؤه على وفق عمله إلا أن يعفو الله ولما كان
جلّ قصدهم الاهتمام بالدنيا والاستعطاء (قالوا: بشرتنا)
النجاة من النار وقد جئنا للاستعطاء من المال (فأعطنا) منه
زاد في بدء الخلق فتغير وجهه (فدخل ناس من أهل اليمن) وهم
الأشعريون قوم أبي موسى (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لهم: (أقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها
بنو تميم. قالوا: قبلنا) ذلك وزاد ابن حبان من رواية شيبان
بن عبد الرحمن عن جامع يا رسول الله (جئناك لنتفقه في
الدين ولنسألك عن هذا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي عن
أوّل هذا (الأمر) أي ابتداء خلق العالم (ما كان) قال
الحافظ ابن حجر: ولم أعرف اسم قائل ذلك من أهل اليمن (قال)
عليه الصلاة والسلام مجيبًا لهم (كان الله) في الأزل
منفردًا متوحدًا (ولم يكن شيء قبله) وفي رواية أبي معاوية
كان الله قبل كل شيء. وقال الطيبي: قوله ولم يكن شيء قبله
حال، وفي المذهب الكوفي خبر والمعنى يساعده إذ التقدير كان
الله منفردًا وقد جوّز الأخفش دخول الواو في خبر كان
وأخواتها نحو: كان زيد وأبوه قائم على جعل الجملة خبرًا مع
الواو تشبيهًا للخبر بالحال، ومال التوربشتي إلى أنهما
جملتان مستقلتان (وكان عرشه على الماء) قال الطيبي: كان في
الموضعين بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأول الأزلية والقدم
وبالثاني الحدوث بعد العدم، ثم قال: والحاصل أن عطف قوله
وكان عرشه على الماء على قوله كان الله من باب الإخبار عن
حصول الجملتين في الوجود وتفويض الترتيب إلى الذهن قالوا
وفيه بمنزلة ثم، وقال في الكواكب قوله وكان عرشه على الماء
معطوف على قوله كان الله ولا يلزم منه المعية إذ اللازم من
الواو العاطفة الاجتماع في أصل الثبوت وإن كان هناك تقديم
وتأخير. قال غيره: ومن ثم جاء قوله ولم يكن شيء غيره لنفي
توهم المعية ولذا ذكر المؤلف رحمه الله الآية الثانية في
أول الباب عقب الآية الأولى ليرد توهم من توهم من قوله كان
الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء أن العرش لم
يزل مع الله (ثم) بعد خلق العرش والماء (خلق السماوات
والأرض وكتب) أي قدّر (في) محل (الذكر) وهو اللوح المحفوظ
(كل شيء) من الكائنات. قال عمران بن حصين (ثم أتاني رجل)
لم يسم (فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت
أطلبها فإذا السراب) الذي يُرى في شدة القيظ كأنه ماء
(ينقطع دونها) أي يحول بيني وبين رؤيتها (وايم الله) وفي
بدء الخلق فوالله (لوددت) بكسر الدال الأولى وسكون الثانية
(أنها) أي ناقتي (قد ذهبت ولم أقم) قبل تمام الحديث تأسف
على ما فاته منه.
وسبق الحديث في بدء الوحي.
7419 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ هَمَّامٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلأَى، لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ
سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا
أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ
لَمْ يَنْقُصْ مَا فِى يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى
الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْفَيْضُ -أَوِ الْقَبْضُ-
يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) بن المديني قال:
(حدّثنا عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن
راشد (عن همام) بفتح الهاء والميم المشددة ابن منبه أنه
قال: (حدّثنا أبو هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إن يمين الله) عز وجل (ملأى) بفتح الميم وسكون اللام
بعدها همزة (لا يغيضها) بالتحتية ولأبي ذر بالفوقية لا
ينقصها (نفقة سحاء الليل والنهار) بالسين والحاء المهملتين
بالمد والرفع دائمة الصب والهطل بالعطاء (أرأيتم ما أنفق
منذ) ولأبي ذر ما أنفق الله منذ (خلق السماوات والأرض فإنه
لم ينقص) بالقاف والصاد المهملة (ما في يمينه)
(10/392)
وفي الرواية السابقة في باب قول الله
تعالى: {لما خلقت بيدي} [ص: 75] فإنه لم يغض بالعين والضاد
المعجمتين ما في يده وهما بمعنى (وعرشه على الماء) الذي
تحته لا ماء البحر (وبيده الأخرى الفيض) بالفاء والضاد
المعجمة أي فيض الإحسان بالعطاء (أو القبض) بالقاف
والموحدة والمعجمة أي قبض الأرواح بالموت وقد يكون الفيض
بالفاء بمعنى الموت يقال: فاضت نفسه إذا مات وأو للشك كما
في الفتح وقال الكرماني: ليست للترديد بل للتنويع ويحتمل
أن يكون شكًّا من الراوي قال والأول هو الأولى (يرفع)
أقوامًا (ويخفض) آخرين، وسبق قريبًا ومطابقة الحديث في
قوله وعرشه على الماء.
7420 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
أَبِى بَكْرٍ الْمُقَدَّمِىُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ
بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو فَجَعَلَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اتَّقِ اللَّهَ
وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ». قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ. قَالَ:
فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ
عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ
وَزَوَّجَنِى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ
سَمَوَاتٍ.
وَعَنْ ثَابِتٍ: {وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب: 37] نَزَلَتْ فِى
شَأْنِ زَيْنَبَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد) هو أحمد بن سيار المروزي فيما قاله
أبو نصر الكلاباذي أو أحمد بن النضر النيسابوري فيما قاله
الحكم قال: (حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي) بضم الميم
وفتح القاف والدال المهملة المفتوحة المشددة قال: (حدّثنا
حماد بن زيد) أي ابن درهم الإمام أبو إسماعيل الأزرق (عن
ثابت) البناني (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: جاء زيد
بن حارثة) مولى رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (يشكو) له من أخلاق زوجته زينب بنت جحش (فجعل
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما أراد زيد
طلاقها وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يحب أن يطلقها (يقول) له:
(اتق الله) يا زيد (وأمسك عليك زوجك) فلا تطلقها (قالت
عائشة) -رضي الله عنها- بالسند السابق ولأبي ذر قال أنس
بدل قالت عائشة (لو كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كاتمًا شيئًا لكتم هذه) الآية {وتخفي
في نفسك ما الله مبديوه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}
[الأحزاب: 37] (قال) أنس (فكانت زينب تفخر على أزواج النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر كانت
بالواو بدل الفاء تفخر بإسقاط زينب (تقول: زوجكن أهاليكن)
به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وزوجني الله
تعالى) به (من فوق سبع سماوات. وعن ثابت) البناني بالسند
السابق ({وتخفي في نفسك ما الله مبديه}) أي مظهره وهو ما
أعلمه الله بأن زيدًا سيطلقها ثم ينكحها ({وتخشى الناس})
أي مقالة الناس إنه نكح امرأة ابنه (نزلت في شأن زينب وزيد
بن حارثة) -رضي الله عنهما-.
7421 - حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ: نَزَلَتْ آيَةُ
الْحِجَابِ فِى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَأَطْعَمَ
عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَكَانَتْ
تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ
أَنْكَحَنِى فِى السَّمَاءِ.
وبه قال: (حدّثنا خلاد بن يحيى) بفتح الخاء المعجمة وتشديد
اللام السلمي بضم السين وفتح اللام الكوفي ثم المكي قال:
(حدّثنا عيسى بن طهمان) بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء
البصري (قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: نزلت
آية الحجاب) {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي}
[الأحزاب: 53] الآية. (في زينب بنت جحش) -رضي الله عنها-
(وأطعم عليها) أي على وليمتها (يومئذ) الناس (خبزًا
ولحمًا) كثيرًا (وكانت تفخر على نساء النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكانت تقول: إن الله) عز وجل
(أنكحني) به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في
السماء) حيث قال تعالى: {زوجناكها} [الأحزاب: 37] وذات
الله تعالى منزّهة عن المكان والجهة، فالمراد بقولها في
السماء الإشارة إلى علو الذات والصفات وليس ذلك باعتبار أن
محله تعالى في السماء تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا،
وعند ابن سعد عن أنس قالت زينب: يا رسول الله لست كأحد من
نسائك ليست
منهن امرأة إلا زوّجها أبوها أو أخوها أو أهلها. ومن حديث
أم سلمة قالت زينب: ما أنا كأحد من نساء النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنهن زُوّجهنّ بالمهور
وزوّجهن الآباء وأنا زوّجني الله ورسوله وأُنزل فيّ
القرآن، وفي مرسل الشعبي مما أخرجه الطبري وأبو القاسم
الطلحي في كتاب الحجة والبيان قال: كانت زينب تقول للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنا أعظم نسائك عليك
حقًّا أنا خيرهن منكحًا وأكرمهن سفيرًا وأقربهن رحمًا
زوّجنيك الرحمن من فوق عرشه، وكان جبريل هو السفير بذلك
وأنا ابنة عمتك وليس لك من نسائك قريبة غيري.
وهذا الحديث آخر ما وقع في البخاري من ثلاثياته وهو الثالث
والعشرون وأخرجه النسائي في عشرة النساء وفي النكاح
والنعوت.
7422 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى
الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، إِنَّ
رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن
(10/393)
بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إن الله) عز وجل (لما قضى الخلق) أتمه وأنفذه (كتب) أثبت
في كتاب (عنده فوق عرشه) صفة الكتاب (إن رحمتي سبقت غضبي)
قال في الكواكب فإن قلت: صفات الله تعالى قديمة والقدم هو
عدم المسبوقية بالغير فما وجه السبق؟ قلت: الرحمة والغضب
من صفات الفعل والسبق باعتبار التعلق والسر فيه أن الغضب
بعد صدور المعصية من العبد بخلاف تعلق الرحمة فإنها فائضة
على الكل دائمًا أبدًا. والحديث سبق قريبًا.
7423 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِى
أَبِى حَدَّثَنِى هِلاَلٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ،
كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ،
هَاجَرَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ
الَّتِى وُلِدَ فِيهَا». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَفَلاَ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: «إِنَّ فِى
الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ
لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا
بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا
سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ
أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ
عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ
الْجَنَّةِ».
وبه قال (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) الحزامي أحد الأعلام
المدني قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن فليح) بضم الفاء
آخره مهملة مصغرًا قال: (حدّثني) بالإفراد (أو) فليح بن
سليمان قال: (حدّثني) بالإفراد (هلال عن عطاء بن يسار)
بالتحتية والمهملة (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة) المكتوبة (وصام رمضان
كان) ولأبوي ذر والوقت فإن (حقًّا على الله) عز وجل بحسب
وعده الصادق وفضله العميم (أن يدخله الجنة هاجر في سبيل
الله) عز وجل (أو جلس في أرضه التي ولد فيها. قالوا: يا
رسول الله أفلا ننبئ) بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر
الموحدة المشددة بعدها همزة نخبر (الناس بذلك)؟ وفي
الجهاد: أفلا نبشر الناس (قال: إن في الجنة مائة درجة
أعدّها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما
بين السماء والأرض) وفي الترمذي أنه مائة عام، وفي
الطبراني خمسمائة عام، وعند ابن خزيمة في التوحيد من صحيحه
وابن أبي عاصم في كتاب السُّنَّة عن ابن مسعود بين السماء
الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء وسماء
خمسمائة عام، وفي رواية: وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام
وبين السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام وبين الكرسيّ وبين
الماء خمسمائة عام والكرسي فوق الماء والله فوق العرش ولا
يخفى عليه شيء من أعمالكم (فإذا سألتم الله) عز وجل (فسلوه
الفردوس) بكسر الفاء وفتح الدال (فإنه أوسط الجنة وأعلى
الجنة) والأسط الأفضل فلا منافاة بين قوله أوسط وأعلى
(وفوقه) أي فوق الفردوس (عرش الرحمن) بنصب فوقه على
الظرفية كذا في الفرع، وقال القاضي عياض: قيّده الأصيلي
بالضم وأنكره ابن قرقول، وقال: إنما قيده الأصيلي بالنصب
قال في المصابيح ولإنكار الضم وجه ظاهر وهو أن فوق من
الظروف العادمة للتصرف وذلك مما يأبى رفعه بالابتداء كما
وقع في هذه الرواية (ومنه) من الفردوس ولأبي ذر عن
الكشميهني ومنها من جنة الفردوس (تفجر أنهار الجنة) بفتح
الفوقية والجيم المشدّدة بحذف أحد المثلين.
والحديث سبق في باب درجات المجاهدين في سبيل الله من كتاب
الجنان.
7424 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
هُوَ التَّيْمِىُّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ:
دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ
قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَدْرِى أَيْنَ تَذْهَبُ
هَذِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ تَسْتَأْذِنُ فِى السُّجُودِ
فَيُؤْذَنُ لَهَا وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا ارْجِعِى
مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا ثُمَّ
قَرَأَ: {ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا} [يس: 38] فِى
قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن جعفر) أي ابن أعين البخاري
البيكندي قال: (حدّثنا أبو معاوية) محمد بن خازم بالخاء
والزاي المعجمتين بينهما ألف آخره ميم (عن الأعمش) سليمان
(عن إبراهيم هو التميمي عن أبيه) يزيد بن شريك (عن أبي ذر)
جندب بن جنادة -رضي الله عنه- أنه (قال: دخلت المسجد ورسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالس) فيه (فلما
غربت الشمس قال) لي:
(يا أبا ذر هل تدري أين تذهب هذه) الشمس (قال) أبو ذر
(قلت: الله ورسوله أعلم) بذلك (قال) عليه الصلاة والسلام:
(فإنها تذهب تستأذن) بأن يخلق الله تعالى فيها حياة يوجد
القول
عندها أو أسند الاستئذان إليها مجازًا أو المراد الملك
الموكل بها ولأبي ذر فتستأذن (في السجود فيؤذن لها) زاد
أبو ذر في السجود (وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت
فتطلع من مغربها. ثم قرأ) عليه الصلاة والسلام ({ذلك مستقر
لها} في قراءة عبد الله). ابن مسعود وفي بدء الخلق فإنها
تذهب حتى تسجد تحت العرش فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل
منها ويستأذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطل من
مغربها فذلك قوله تعالى: {والشمس
(10/394)
تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم}
[يس: 38].
7425 - حَدَّثَنَا مُوسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا
ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ
زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ
السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ قَالَ:
أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ،
حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِى
خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِىِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ
غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
[التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةٌ.
وبه قال: (حدّثنا موسى) بن إسماعيل التبوذكي (عن إبراهيم)
بن سعد سبط عبد الرحمن بن عوف قال: (حدّثنا ابن شهاب) محمد
بن مسلم الزهري (عن عبيد الله بن السباق) بضم العين من غير
إضافة لشيء والسباق بفتح المهملة والموحدة المشددة وبعد
الألف قال الثقفي (أن زيد بن ثابت) وسقط لأبي ذر أن زيد بن
ثابت (وقال الليث) بن سعد الإمام (حدّثني) بالإفراد (عبد
الرحمن بن خالد) الفهمي والي مصر (عن ابن شهاب) الزهري (عن
ابن السباق) عبيد (أن زيد بن ثابت حدّثه قال: أرسل إليّ)
بتشديد الياء (أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- أي فأمرني
أن أتتبع القرآن (فتتبعت القرآن) أجمعه من الرقاع والأكتاف
والعسب وصدور الرجال (حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي
خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره) بالجر ({لقد جاءكم
رسول من أنفسكم} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة). وهو {رب
العرش العظيم} إذ هو أعظم خلق الله خلق مطافًا لأهل السماء
وقبلة للدعاء.
وهذا التعليق وصله أبو القاسم البغوي في فضائل القرآن.
0000 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ بِهَذَا وَقَالَ مَعَ أَبِى
خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِىِّ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير المخزومي المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد المصري
(عن يونس) بن يزيد الأيلي (بهذا) الحديث السابق (وقال) فيه
(مع أي خزيمة الأنصاري) كما في الأولى ووقع في تفسير سورة
براءة من طريق أبي اليمان عن شعيب عن الزهري مع خزيمة
الأنصاري بإسقاط أبي وفي متابعة يعقوب بن إبراهيم لموسى بن
إسماعيل قي روايته عن إبراهيم بن سعد، وقال مع خزيمة أو
أبي خزيمة بالشك، لكن قال في فتح الباري: والتحقيق أن آية
التوبة مع أبي خزيمة بالكنية وآية الأحزاب مع خزيمة.
7426 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى
الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما -
قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ؛ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ».
وبه قال: (حدّثنا معلى بن أسد) بضم الميم وفتح العين
المهملة واللام المشددة العمي أبو الهيثم الحافظ قال:
(حدّثنا وهيب) بضم الواو ابن خالد (عن سعيد) بكسر العين
ابن أبي عروبة (عن قتادة) بن دعامة (عن أبي العالية) رفيع
(عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: كان النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول عند الكرب) أي
عند حلوله:
(لا إله إلا الله العليم) الشامل علمه لجميع المعلومات
المحيط بها لا تخفى عليه خافية ولا تعزب عنه قاصية ولا
دانية ولا يشغله علم عن علم (الحليم) الذي لا يستفزه غضب
ولا يحمله غيظ على استعجال العقوبة والمسارعة إلى الانتقام
(لا إله إلا الله) ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني إلا هو
(رب العرش العظيم لا إله إلا الله) ولأبي ذر عن الحموي
والكشميهني إلا هو (رب السماوات ورب الأرض ورب العرش
الكريم) والعرش أرفع المخلوقات وأعلاها وهو قوام كل شيء من
المخلوقات، والمحيط به وهو مكان العظمة ومن فوقه تبعث
الأحكام والحكمة التي بها كوّن كل شيء وبها يكون الإيجاد
والتدبير. قال الكرماني: ووصف العرش بالعظيم أي من جهة
الكم وبالكرم أي الحسن من جهة الكيف فهو ممدوح ذاتًا وصفة.
وقال غيره: وصفه بالكرم لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبته إلى
أكرم الأكرمين.
والحديث ذكر في كتاب الدعوات.
7427 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «النَّاسُ يَصْعَقُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ
بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن عمرو بن يحيى) بفتح العين (عن أبيه)
يحيى بن عمارة المازني الأنصاري (عن أبي سعيد) سعد بن مالك
(الخدري) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يصعقون) ولأبي ذر قال أي أبو سعيد الخدري الناس يصعقون
(يوم القيامة) أي يغشى عليهم وسقطت التصلية الثانية لأبي
ذر (فإذا أنا بموسى) عليه السلام (آخذ بقائمة من قوائم
العرش).
7428 - وَقَالَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْفَضْلِ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ
بِالْعَرْشِ».
(وقال الماجشون) بكسر الجيم في الفرع كأصله ويجوز الضم
والفتح بعدها شين معجمة مضمومة آخره نون مرفوع عبد العزيز
بن عبد الله بن أبي سلمة ميمون المدني (عن عبد الله بن
الفضل) بسكون الضاد المعجمة ابن العباس بن ربيعة بن الحارث
بن عبد المطلب الهاشمي (عن أبي سلمة)
(10/395)
بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(فأكون أول من بعث) وفي رواية أبي سعيد في أحاديث الأنبياء
أول من يفيق (فإذا موسى) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
فإذا بموسى (آخذ بالعرش).
والحديث سبق في أحاديث الأنبياء.
23 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:
4] وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ
لأَخِيهِ: اعْلَمْ لِى عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِى
يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ
الْكَلِمَ الطَّيِّبَ. يُقَالُ ذِى الْمَعَارِجِ:
الْمَلاَئِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ.
(باب قول الله تعالى: {تعرج الملائكة}) تصعد في المعارج
التي جعلها الله لهم ({والروح}) جبريل وخصه بالذكر بعد
العموم لفضله وشرفه أو خلق هم حفظة على الملائكة كما أن
الملائكة حفظة علينا أو أرواح المؤمنين عند الموت ({إليه}
[المعارج: 4]) أي إلى عرشه أو إلى المكان الذي هو محلهم
وهو في السماء لأنها محل بره وكرامته (وقوله جل ذكره:
{إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]) أي إلى محل القبول
والرضا وكل ما اتصف بالقبول وصف بالرفعة والصعود.
(وقال أبو جمرة): بالجيم والراء نصر بن عمران الضبعي مما
سبق موصولاً في باب إسلام أبي ذر (عن ابن عباس) -رضي الله
عنهما- (بلغ أبا ذر مبعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال لأخيه) أنيس: بضم الهمزة مصغرًا (اعلم لي
علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء) وهذا
موضع الترجمة كما لا يخفى.
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي (العمل الصالح يرفع الكلم
الطيب) وقد أخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس في تفسيرها الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء
فرائض الله فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه. وقال
الفراء معناه أن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إذا كان
معه عمل صالح وقال البيهقي صعود الكلام الطيب عبارة عن
القبول (يقال) معنى (ذي المعارج) هو (الملائكة) العارجات
(تعرج إلى الله) عز وجل، ولأبي ذر عن
الحموي والكشميهني إليه، وفي قوله إلى الله ما تقدم عن
السلف من التفويض وعن الخلف من التأويل وإضافة المعارج
إليه تعالى إضافة تشريف ومعنى الارتفاع إليه اعتلاؤه مع
تنزيهه عن المكان.
7429 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
- رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ
مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ،
وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاَةِ الْعَصْرِ وَصَلاَةِ
الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ
فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ بِكُمْ فَيَقُولُ: كَيْفَ
تَرَكْتُمْ عِبَادِى؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ
يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان
(عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(يتعاقبون) يتناوبون (فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)
تأتي جماعة بعد أخرى ثم تعود الأولى عقب الثانية وتنكير
ملائكة في الموضعين يفيد أن الثانية غير الأولى (ويجتمعون
في) وقت (صلاة العصر و) وقت (صلاة الفجر ثم يعرج) الملائكة
(الذين باتوا فيكم) أيها المصلون (فيسألهم) ربهم عز وجل
سؤال تعبد كما تعبدهم بكتب أعمالهم (وهو أعلم بهم) أي
بالمصلين من الملائكة ولغير الكشميهني بكم بالكاف بدل
الهاء (فيقول) عز وجل (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون تركناهم
وهم يصلون) وهذا آخر الجواب عن سؤالهم كيف تركتم ثم رادوا
في الجواب لإظهار فضيلة المصلين والحرص على ذكر ما يوجب
مغفرة ذنوبهم فقالوا (وأتيناهم وهم يصلون).
والحديث سبق في باب فضل صلاة العصر من أوائل كتاب الصلاة.
7430 - وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ،
عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ
وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ، فَإِنَّ
اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا
لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى
تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ».
وَرَوَاهُ وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَلاَ
يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ».
(وقال) ولأبي ذر قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري
قال: (خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون المعجمة القطواني
الكوفي شيخ البخاري فيما وصله أبو بكر الجوزقي في الجمع
بين الصحيحين (حدّثنا سليمان) بن بلال قال: (حدّثني)
بالإفراد (عبد الله بن دينار) المدني (عن أبي صالح) ذكوان
الزيات (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من تصدّق بعدل تمرة) بفتح العين وكسرها أي بمثلها أو
بالفتح ما عادل الشيء من جنسه وبالكسر ما ليس من جنسه (من
كسب طيب) أي حلال (ولا يصعد إلى الله) عز وجل (إلا الطيب)
جملة معترضة بين الشرط والجزاء تأكيدًا لتقرير المطلوب في
النفقة (فإن الله يتقبلها بيمينه) وعبّر باليمين لأنها في
العرف لما عزّ، والأخرى لما هان، ولأبي ذر عن الكشميهني
يقبلها بحذف الفوقية وسكون القاف وتخفيف الموحدة
(10/396)
(ثم يربيها لصاحبه) أي لصاحب العدل ولأبي
ذر عن المستملي لصاحبها أي لصاحب الصدقة بمضاعفة الأجر أو
بالمزيد في الكمية (كما يربي أحدكم فلوّه) بفتح الفاء وضم
اللام وتشديد الواو المهر حين فطامه (حتى تكون) الصدقة
التي عدل التمرة (مثل الجبل) لتثقل في ميزانه وضرب المثل
بالمهر لأنه يزيد زيادة بيّنة. (ورواه) أي الحديث (ورقاء)
بن عمر (عن عبد الله بن دينار عن سعيد بن يسار) بالمهملة
(عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ولا يصعد إلى الله) عز وجل (إلا
الطيب) ولأبي ذر إلاّ طيب.
وهذا وصله البيهقي لكنه قال في آخره مثل أُحُد بدل قوله في
الرواية المعلقة مثل الجبل، ومراد المؤلف أن رواية ورقاء
موافقة لرواية سليمان إلا في شيخ شيخهما فعند سليمان أنه
عن أبي صالح، وعند ورقاء أنه عن سعيد بن يسار.
7431 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ،
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ،
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِى الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ: «لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الأعلى بن حماد) أبو يحيى الباهلي
مولاهم قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) الخياط أبو معاوية
البصري قال: (حدّثنا سعيد) بكسر العين هو ابن أبي عروبة
(عن قتادة) بن دعامة (عن أبي العالية) رفيع (عن ابن عباس)
-رضي الله عنهما- (أن نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان يدعو بهن عند الكرب):
(لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش
العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب العرش الكريم).
قال النووي: فإن قيل: فهذا ذكر وليس فيه دعاء يزيل الكرب
فجوابه من وجهين.
أحدهما: أن هذا الذكر يستفتح به الدعاء ثم يدعو بما شاء.
والثاني: هو كما ورد من شغله ذكري مسألتي أعطيته أفضل ما
أعطي السائلين. قيل: وهذا الحديث ليس مطابقًا للترجمة
ومحله في الباب السابق ولعل الناسخ نقله إلى هنا وقد سبق
قريبًا.
7432 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِى نُعْمٍ أَوْ، أَبِى نُعْمٍ
شَكَّ قَبِيصَةُ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ: بُعِثَ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ.
وَحَدَّثَنِى إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
ابْنِ أَبِى نُعْمٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ
قَالَ: بَعَثَ عَلِىٌّ وَهْوَ بِالْيَمَنِ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِذُهَيْبَةٍ فِى تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ
الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِىِّ ثُمَّ أَحَدِ
بَنِى مُجَاشِعٍ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ
الْفَزَارِىِّ، وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ
الْعَامِرِىِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِى كِلاَبٍ وَبَيْنَ زَيْدِ
الْخَيْلِ الطَّائِىِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِى نَبْهَانَ
فَتَغَضَّبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ فَقَالُوا:
يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا قَالَ:
إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ
الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ،
مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ:
يَا مُحَمَّدُ اتَّقِ اللَّهَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ
إِذَا عَصَيْتُهُ فَيَأْمَنِّى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ
وَلاَ تَأْمَنُونِى». فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ
قَتْلَهُ أُرَاهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَمَنَعَهُ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا
وَلَّى قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا
يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ،
يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ
الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ
أَهْلَ الأَوْثَانِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ
لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ».
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بن عقبة أبو عامر السوائي قال:
(حدّثنا سفيان) الثوري (عن أبيه) سعيد بن مسروق (عن ابن
أبي نعم) بضم النون وسكون العين عبد الرحمن البجلي أبي
الحكم الكوفي العابد (أو أبي نعم) بدون ابن (شك قبيصة) بن
عقب المذكور (عن أبي سعيد) سعد بن مالك ولأبي ذر زيادة
الخدري -رضي الله عنه- أنه (قال: بعث) بضم الموحدة وكسر
العين (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بذهيبة) بضم الذال المعجمة والتأنيث على إرادة القطعة من
الذهب وقد يؤنث الذهب في بعض اللغات (فقسمها) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بين أربعة).
قال المؤلف: (وحدّثني) بالإفراد وواو العطف ولأبي ذر
حدّثنا (إسحاق بن نصر) هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي
قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام الصنعاني اليماني قال:
(أخبرنا سفيان) الثوري (عن أبيه) سعيد (عن ابن أبي نعم)
عبد الرحمن البجلي (عن أبي سعيد الخدري) -رضي الله عنه-
أنه (قال: بعث عليّ) أي ابن أبي طالب (وهو باليمن) ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي في اليمن (إلى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذهيبة في تربتها) أي مستقرة
فيها وأراد بالتربة تبر الذهب ولا يصير ذهبًا خالصًا إلا
بعد السبك (فقسمها) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(بين الأقرع بن حابس) بالحاء والسين المهملتين بينهما ألف
فموحدة (الحنظلي) بالحاء المهملة والظاء المعجمة نسبة إلى
حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم (ثم أحد بني مجاشع)
بميم مضمومة فجيم فألف فشين معجمة مكسورة فعين مهملة ابن
دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم (وبين
عيينة) بضم العين مصغرًا (ابن بدر الفزاري) بفتح الفاء
نسبة إلى فزارة بن ذبيان (وبين علقمة بن علاثة) بضم العين
المهملة وتخفيف اللام وبعد الألف مثلثة (العامري) نسبة إلى
عامر بن عوف (ثم أحد بني كلاب) نسبة إلى كلاب بن ربيعة
(وبين زيد الخيل) بالخاء المعجمة واللام ابن مهلهل
(الطائي) نسبة إلى طيئ (ثم أحد بني نبهان) أسود بن عمرو
وهؤلاء الأربعة من المؤلفة (فتغضبت قريش والأنصار)
بالفوقية والغين والضاد المشددة المعجمتين ثم موحدة من
(10/397)
الغضب، ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي
فتغيظت بالظاء المعجمة من الغيظ (فقالوا: يعطيه) أي يعطي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذهب (صناديد أهل
نجد) أي سادات أهل نجد (ويدعنا) فلا يعطينا منه شيئًا
(قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(إنما أتألفهم) ليثبتوا على الإسلام (فأقبل رجل) اسمه عبد
الله ذو الخويصرة بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وبعد الياء
الساكنة صاد مهملة (غائر العينين) داخلتين في رأسه لاصقتين
بقعر حدقته (ناتئ الجبين) مرتفعه (كثّ اللحية) بالمثلثة
المشدّدة كثير شعرها (مشرت الوجنتين) بضم الميم وسكون
الشين المعجمة وكسر الراء بعدها فاء غليظهما والوجنة ما
ارتفع من الخدّ (محلوق الرأس فقال: يا محمد اتق الله. فقال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فمن يطيع الله
إذا عصيته فيأمني) بفتح الميم وتشديد النون ولأبي ذر
فيأمنني (على أهل الأرض ولا تأمنون) أنتم ولأبي ذر ولا
تأمنونني بنونين كالسابقة (فسأل رجل من القوم) زاد أبو ذر
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قتله أراه)
بضم الهمزة أظنه (خالد بن الوليد) وقيل عمر بن الخطاب،
فيحتمل أن يكونا سألا (فمنعه النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من قتله استئلافًا لغيره (فلما ولّى)
الرجل (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
وسقط قوله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
الموضعين لأبي ذر (إن من ضئضيء هذا) بضادين معجمتين
مكسورتين بينهما همزة ساكنة وآخره همزة أخرى من نسله
(قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة منتهى
الحلقوم أي لا يرفع في الأعمال الصالحة (يمرقون) يخرجون
(من الإسلام مروق السهم) خروجه إذا نفذ من الجهة الأخرى
(من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وفتح التحتية مشددة
الصيد المرمي (يقتلون أهل الإسلام ويدعون) بفتح الدال
ويتركون (أهل الأوثان) بالمثلثة (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل
عاد) لأستأصلنهم بحيث لا أبقي منهم أحدًا كاستئصال عاد
والمراد لازمه وهو الهلاك.
ومطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله في رواية المغازي:
ألا تأمنوني وأنا أمين في السماء أي على العرش فوق السماء،
وهذه عادة البخاري في إدخال الحديث في الباب للفظة تكون في
بعض طرقه هي المناسبة لذلك الباب يشير إليها قاصدًا تشحيذ
الأذهان والحث على الاستحضار.
والحديث سبق في باب قول الله عز وجل: {وأما عاد فأهلكوا}
[الحاقة: 6] وفي المغازي في باب بعث عليّ وفي تفسير سورة
براءة.
7433 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِىَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَوْلِهِ:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 28]
قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ.
وبه قال: (حدّثنا عياش بن الوليد) بفتح العين المهملة
وتشديد التحتية الرقام قال: (حدّثنا وكيع) هو ابن الجراح
أحد الأعلام (عن الأعمش) سليمان (عن إبراهيم التيمي عن
أبيه) ولأبي ذر أراه بضم الهمزة أي أظنه عن أبيه يزيد بن
شريك التيمي الكوفي (عن أبي ذر) جندب بن جنادة
-رضي الله عنه- أنه (قال: سألت النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن قوله) عز وجل: ({والشمس تجري
لمستقر لها} [يس: 28] قال):
(مستقرها تحت العرش). شبهها بمستقر المسافر إذا قطع مسيره.
وسبق مزيد لذلك في محله والله الموفق. وسبق الحديث في بدء
الخلق وفي التفسير.
24 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]
(باب قول الله تعالى: {وجوه}) هي وجوه المؤمنين ({يومئذ})
يوم القيامة ({ناضرة}) حسنة ناعمة ({إلى ربها ناظرة}
[القيامة: 22]) بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة. وقال
القاضي: تراه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه
ولذلك قدم المفعول وليس فإذا في كل الأحوال حتى ينافيه
نظرها إلى غيره وحمل النظر على انتظارها لأمر ربها أو
لنوابه لا يصح لأنه يقال في نظرت فيه أي تفكرت ونظرته
انتظرته ولا يعدّى بإلى إلا بمعنى الرؤية مع أنه لا يليق
الانتظار في دار القرار.
7434 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا
خَالِدٌ، وَهُشَيْمٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ
جَرِيرٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ
رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لاَ تُضَامُّونَ
فِى رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا
عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاَةٍ قَبْلَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا».
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن عون) بفتح العين فيهما والأخير
بالنون ابن أوس السلمي الواسطي قال: (حدّثنا خالد) الطحان
بن عبد الله الواسطي (وهشيم) مصغر ابن بشير الواسطي
وللحموي والمستملي أو هشيم بالشك (عن إسماعيل) بن أبي خالد
سعد أو هرمز أو كثير الأحمسي الكوفي (عن قيس) هو ابن أبي
حازم بالزاي والحاء المهملة البجلي (عن جرير) هو ابن عبد
الله البجلي -رضي الله
(10/398)
عنه- أنه (قال: كنا جلوسًا عند النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ) بسكون المعجمة
(نظر إلى القمر ليلة اليدر قال):
(إنكم سترون ربكم) يوم القيامة (كما ترون هذا القمر لا
تضامون) بضم الفوقية بعدها ضاد معجمة وتشديد الميم أي لا
تتزاحمون ولا تختلفون (في رؤيته). وقال البيهقي: سمعت
الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي يقول في
إملائه في قوله: لا تضامون بالضم والتشديد معناه لا
تجتمعون لرؤيته في جهة ولا يضم بعضكم إلى بعض ومعناه بفتح
التاء كذلك، والأصل لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة
وبالتخفيف الضيم ومعناه لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض
فإنكم ترونه في جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة والتشبيه
برؤية القمر للرؤية دون
تشبيه المرئي تعالى الله عن ذلك (فإن استطعتم أن لا تغلبوا
على صلاة) بضم الفوقية وسكون الغين المعجمة وفتح اللام
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: عن صلاة (قبل طلوع الشمس
وصلاة قبل غروب الشمس) يعني الفجر والعصر كما في مسلم
(فافعلوا) عدم المغلوبية بقطع الأسباب المنافية للاستطاعة
كنوم ونحوه.
وسبق الحديث في باب فضل صلاة العصر من كتاب الصلاة.
7435 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا
عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ الْيَرْبُوعِىُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِى خَالِدٍ، عَنْ
قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا».
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن موسى) القطان الكوفي قال:
(حدّثنا عاصم بن يوسف اليربوعي) نسبة إلى يربوع بن حنظلة
من تميم قال: (حدّثنا أبو شهاب) عبد ربه بن نافع الحناط
بالحاء المهملة والنون المشددة (عن إسماعيل بن أبي خالد)
الكوفي الحافظ (عن قيس بن أبي حازم) أبي عبد الله البجلي
تابعي كبير فاتته الصحبة بليال (عن جرير بن عبد الله)
البجلي -رضي الله عنه- وسقط لأبي ذر ابن عبد الله أنه
(قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إنكم) ولأبي ذر عن المستملي قال خرج علينا رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة البدر فقال إنكم
(سترون ربكم عيانًا) بكسر العين من قولك عاينت الشيء
عيانًا إذا رأيته بعينك.
7436 - حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِىُّ، عَنْ زَائِدَةَ
حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى
حَازِمٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ
رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لاَ
تُضَامُّونَ فِى رُؤْيَتِهِ».
وبه قال: (حدّثنا عبده بن عبد الله) الصفار البصري قال:
(حدّثنا حسين الجعفي) بن علي بن الوليد ونسب إلى جعفة بن
سعد العشيرة بن مذحج (عن زائدة) بن قدامة أنه قال: (حدّثنا
بيان بن بشر) بموحدة مكسورة ومعجمة ساكنة بعدها راء
الأحمسي بالحاء والسين المهملتين (عن قيس بن أبي حازم)
البجلي قال: (حدّثنا جرير) البجلي -رضي الله عنه- (قال:
خرج علينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ليلة البدر فقال):
(إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا) البدر (لا
تضامون في رؤيته). بضم أوّله وتشديد الميم من الازدحام أي
لا ينضم بعضكم إلى بعض كما تنضمون في رؤية الهلال رأس
الشهر لخفائه ودقته بل ترونه رؤية محققة لا خفاء فيها.
7437 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِىِّ، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «هَلْ تُضَارُّونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ»؟ قَالُوا: لاَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
«فَهَلْ تُضَارُّونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا
سَحَابٌ»؟ قَالُوا: لاَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
«فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ
النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ
يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ
يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ
يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ
يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ
الأُمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا أَوْ مُنَافِقُوهَا». شَكَّ
إِبْرَاهِيمُ «فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا
رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى
يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا
عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِى صُورَتِهِ الَّتِى
يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ:
أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ
بَيْنَ ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِى
أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ
إِلاَّ الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ،
اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِى جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ
مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمُ
السَّعْدَانَ»؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: «فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ
أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظْمِهَا إِلاَّ
اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ
الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ أَوِ
الْمُجَازَى أَوْ نَحْوُهُ، ثُمَّ يَتَجَلَّى حَتَّى إِذَا
فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ
وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ
أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا
مِنَ النَّارِ، مَنْ كَانَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا
مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَعْرِفُونَهُمْ فِى
النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ
آدَمَ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى
النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ
مِنَ النَّارِ قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ
مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ
الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ
مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ
مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ
النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ
اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِى
رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللَّهَ
بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ هَلْ
عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِى
غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ
غَيْرَهُ، وَيُعْطِى رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ
مَا شَاءَ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ
فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَىْ رَبِّ
قَدِّمْنِى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ
لَهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ
أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ أَبَدًا؟
وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ: أَىْ
رَبِّ وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ: هَلْ عَسَيْتَ
إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ:
لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَيُعْطِى مَا
شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى
بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ
انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ
الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ
أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ: أَىْ رَبِّ أَدْخِلْنِى
الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ
عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ مَا
أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا
أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ لاَ أَكُونَنَّ أَشْقَى
خَلْقِكَ، فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ
مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ قَالَ لَهُ: ادْخُلِ
الْجَنَّةَ فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ:
تَمَنَّهْ فَسَأَلَ رَبَّهُ وَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ
اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ: كَذَا وَكَذَا حَتَّى
انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِىُّ قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكَ
وَمِثْلُهُ مَعَهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عطاء
بن يزيد الليثي) بالمثلثة ثم الجندعي (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- (أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا) عز
وجل (يوم القيامة؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(هل تضارون في القمر ليلة البدر) بضم حرف المضارعة وتشديد
الراء أصله تضاررون بالبناء للمفعول فسكنت الراء الأولى
وأدغمت في الثانية وفي نسخة بتخفيف الراء فالمشدّد بمعنى
لا تتخالفون ولا تتجادلون في صحة النظر إليه لوضوحه وظهوره
والمخفف من الضير ومعناه كالأوّل (قالوا: لا، يا رسول
الله. قال: فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب)؟ يحجبها
(قالوا: لا، يا رسول الله. قال: فإنكم ترونه) عز وجل إذا
تجلى لكم (كذلك) أي واضحًا جليًّا بلا شك ولا مشقة ولا
اختلاف (يجمع الله) عز وجل (الناس يوم القيامة فيقول: من
كان يعبد شيئًا فليتبعه) بسكون الفوقية وفتح الموحدة أو
بتشديد الفوقية وكسر الموحدة وكذا قوله (فيتبع من كان يعبد
الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان
يعبد الطواغيت الطواغيت) بالمثناة الفوقية فيهما جمع طاغوت
(10/399)
فعلوت من طغى أصله طيغوت ثم طيغوت ثم طاغوت
الشياطين والأصنام وفي الصحاح الكاهن وكل رأس في الضلال
(وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها) بالشين المعجمة والعين
المهملة أصله شافعون فسقطت النون للإضافة أي شافعو الأمة:
(أو) قال (منافقوها. شك إبراهيم) بن سعد الراوي قال الحافظ
ابن حجر والأول المعتمد (فيأتيهم الله) عز وجل إتيانًا لا
يكيف عاريًا عن الحرة والانتقال أو هو محمول على الإتيان
المعروف عندنا لكن على معنى أن الله تعالى يخلقهُ لملك من
ملائكتهِ فأضافه إلى نفسه على جهة الإسناد المجازي مثل قطع
الأمير اللص وزاد في الرقاق في غير الصورة التي يعرفونها
(فيقول) لهم (أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا) وزاد فيه أيضًا
فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا (حتى يأتينا ربنا فإذا
جاءنا) ولغير المستملي جاء (ربنا عرفناه فيأتيهم الله)
فيتجلى لهم بعد تمييز المنافقين (في صورته التي يعرفون) أي
التي هو عليها من التعالي عن صفات الحدوث بعد أن عرّفهم
بنفسه المقدسة ورفع عن أبصارهم الموانع، وقال في المصابيح:
في صورته التي يعرفون أي في علامة جعلها الله دليلاً على
معرفته والتفرقة بينه وبين مخلوقاته فسمى الدليل والعلامة
صورة مجازًا كما تقول العرب: صورة أمرك كذا وصورة حديثك
كذا، والأمر والحديث لا صورة لهما وإنما يريدون حقيقة أمرك
وحديثك وكثيرًا ما يجري على ألسنة الفقهاء صورة هذه
المسألة كذا (فيقول) لهم (أنا ربكم فيقولون أنت ربنا
فيتبعونه) بالتخفيف والتشديد أي فيتبعون أمره إياهم
بذهابهم إلى الجنة أو ملائكته التي تذهب بهم إليها (ويضرب
الصراط) بضم حرف المضارعة وفتح ثالثه والصراط الجسر (بين
ظهري جهنم) على وسطها (فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها) أي
يجوز بأمته على الصراط ويقطعه ولأبي ذر عن الأصيلي وابن
عساكر من يجيء (ولا يتكلم يومئذٍ) في حال الإجازة (إلا
الرسل) لشدة الأهوال (ودعوى الرسل يومئذٍ اللهم سلم سلم)
مرّتين (وفي جهنم كلاليب) بغير صرف معلقة مأمورة
بأخذ من أمرت به (مثل شوك السعدان) بفتح السين والدال
بينهما عين مهملات نبات ذو شوك (هل رأيتم السعدان)؟
استفهام تقرير لاستحضار الصورة المذكورة (قالوا: نعم يا
رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم
قدر عظمها) أي الشوكة وللكشميهني ما قدر عظمها (إلا الله)
تعالى. قال القرطبي: قيدنا قدر عن بعض مشايخنا بضم الراء
على أن ما استفهام وقدر مبتدأ وبنصبها على أن ما زائدة
وقدر مفعول يعلم (تخطف الناس بأعمالهم) بسبب أعمالهم
القبيحة (فمنهم الموبق) بفتح الموحدة الهالك (بعلمه) وهو
الكافر وللأصيلي وأبي ذر عن المستملي المؤمن بالميم والنون
بقي بعمله بالموحدة والقاف المكسورة من البقاء أو الموبق
بعمله بالشك وللحموي والكشميهني فمنهم الموبق بالموحدة
المفتوحة بقي بالموحدة وكسر القاف ولأبي ذر عن المستملي
يقي بالتحتية من الوقاية أي يستره عمله وللمستملي أو
الموثق بالمثلثة المفتوحة من الوثاق بعمله والفاء في قوله
فمنهم تفصيل للناس الذين تخطفهم الكلاليب بحسب أعمالهم
(ومنهم المخردل) بالخاء المعجمة والدال المهملة المنقطع
الذي تقطعه كلاليب الصراط حتى يهوي في النار وقيل المخردل
المصروع قال السقاقسي وهو أنسب بسياق الخبر (أو المجازى)
بضم الميم وفتح الجيم المخففة والزاي بينهما ألف من الجزاء
(أو نحوه) شك من الراوي ولمسلم المجازى بغير شك (ثم يتجلى)
بتحتية ففوقية فجيم فلام مشددة مفتوحات كذا في الفرع كأصله
مصححًا عليه أي يتبين. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون
بالخاء المعجمة أي يخلى عنه فيرجع إلى معنى ينجو.
وفي حديث أبي سعيد فناج مسلم ومخدوش ومكدوس في جهنم (حتى
إذا فرغ الله) عز وجل (من القضاء بين العباد) أتم. وقال
ابن المنير: الفراغ إذا أضيف إلى الله معناه القضاء وحلوله
بالمقضي عليه والمراد إخراج الموحدين وإدخالهم الجنة
واستقرار أهل النار في النار،
(10/400)
وحاصله أن معنى يفرغ الله أي من القضاء
بعذاب من يفرغ عذابه ومن لا يفرغ فيكون إطلاق الفراغ بطريق
المقابلة وإن لم يذكر لفظها (وأراد أن يخرج) بضم أوله وكسر
ثالثه (برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن
يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله) عز وجل (شيئًا ممن
أراد الله) عز وجل (أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله
فيعرفونهم في النار بأثر السجود) ولأبي ذر عن الكشميهني
بآثار السجود (تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم
الله) عز وجل (على النار أن تأكل أثر السجود) وهو موضعه من
الجبهة أو مواضع السجود السبعة، ورجحه النووي لكن في مسلم
إلا دارات الوجوه وهو كما قال عياض يدل على أن المراد بأثر
السجود الوجه خاصة. ويؤيده أن في بقية الحديث أن منهم من
غاب في النار إلى نصف ساقيه، وفي مسلم من حديث سمرة وإلى
ركبتيه، وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي سعيد وإلى
حقويه، لكن حمله النووي على قوم مخصوصين. ونقل بعضهم أن
علامتهم الغرّة ويضاف إليها التحجيل وهو في اليدين
والقدمين مما يصل إليه الوضوء، فيكون أشمل ممن قال أعضاء
السجود لدخول جميع اليدين والرجلين لا تخصيص الكفّين
والقدمين ولكن ينقص منه الركبتان، وما استدلّ به من بقية
الحديث لا يمنع سلامة هذه الأعضاء مع الانغمار لأن تلك
الأحوال الأخروية خارجة عن قياس أحوال أهل الدنيا
ودل التنصيص على دارات الوجوه أن الوجه كله لا يؤثر فيه
النار إكرامًا لمحل السجود، ويحتمل أن الاقتصار عليها على
التنويه بها لشرفها. (فيخرجون من النار) حال كونهم (قد
امتحشوا) بضم الفوقية والمعجمة بينهما حاء مهملة مكسورة أو
بفتح الفوقية احترق جلدهم وظهر عظمهم (فيصب عليهم) بضم
التحتية وفتح الصاد (ماء الحياة) ضد الموت (فينبتون تحته
كما تنبت الحبة) بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة من
بزور الصحراء (في حميل السيل) بفتح الحاء المهملة ما يحمله
من طين ونحوه وفي رواية يحيى بن عمارة إلى جانب السيل
والمراد أن الغثاء الذي يجيء به السيل تكون فيه الحبة فتقع
في جانب الوادي فتصبح من يومها نابتة فالتشبيه في سرعة
النبات وطراوته وحسنه (ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد
ويبقى رجل) زاد أبو ذر منهم (مقبل بوجهه على النار هو آخر
أهل النار دخولاً الجنة). وفي حديث حذيفة في أخبار بني
إسرائيل أنه كان نباشًا وعند الدارقطني في غرائب مالك أنه
رجل من جهينة عند السهيلي اسمه هناد (فيقول: أي) بسكون
الياء (رب اصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني) بالقاف
والمعجمة والموحدة مفتوحات آذاني (ريحها وأحرقني ذكاؤها)
بفتح الذال وبعد الكاف همزة ولأبي ذر ذكاها بغير همز شدة
حرها والتهابها (فيدعو الله) عز وجل (بما شاء أن يدعوه ثم
يقول الله) عز وجل له: (هل عسيت) بفتح السين وكسرها (إن
أعطيت ذلك) بضم الهمزة ولأبي ذر إن أعطيتك بفتحها وبالكاف
(أن تسألني غيره فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره ويعطي ربه)
ولأبي ذر عن الكشميهني ويعطي الله (من عهود ومواثيق ما شاء
فيصرف الله) عز وجل (وجهه عن النار فإذا أقبل على الجنة
ورآها سكت ما شاء الله) عز وجل (أن يسكت). حياء (ثم يقول:
أي رب قدمني) بسكون الميم بعد كسر الدال المشددة (إلى باب
الجنة فيقول الله) عز وجل (له: ألست قد أعطيت عهودك
ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أعطيت أبدًا) أي غير صرف
وجهك عن النار (ويلك يا ابن آدم ما أغدرك) فعل تعجب من
الغدر ونقض العهد وترك الوفاء (فيقول أي رب ويدعو الله) عز
وجل (حتى يقول) عز وجل له (هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل
غيره فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره ويعطي) الله (ما شاء
من عهود ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا قام إلى باب
الجنة انفهقت) بنون ساكنة ففاء فهاء فقاف مفتوحات ففوقية
انفتحت واتسعت (له الجنة فرأى ما فيها من الحبرة) بفتح
الحاء المهملة وسكون الموحدة من النعمة وسعة
(10/401)
العيش (والسرور فيسكت ما شاء الله) عز وجل
(أن يسكت ثم يقول: أي رب أدخلني الجنة فيقول الله) عز وجل
(ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت
فيقول): وفي الفرع كأصله ضبب على فيقول هذه (ويلك يا ابن
آدم ما أغدرك فيقول: أي رب لا أكونن) بنون التوكيد الثقيلة
ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني لا أكون بإسقاطها (أشقى
خلقك).
قال في الكواب فإن قلت: هذا ليس بأشقى لأنه خلص من العذاب
وزحزح عن النار وإن لم يدخل الجنة. قلت: يعني أشقى أهل
التوحيد الذي هم أبناء جنسه فيه، وقال الطيبي: فإن قلت:
كيف طابق هذا الجواب قوله أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك؟
قلت: كأنه قال يا رب
بلى أعطيت العهود والمواثيق ولكن تأملت كرمك وعفوك ورحمتك،
وقوله تعالى: {لا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح
الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87] فوقفت على أني لست من
الكفار الذين أيسوا من رحمتك وطمعت في كرمك وسعة رحمتك
فسألت ذلك وكأنه تعالى رضي بهذا القول فضحك كما قال:
(فلا يزال يدعو) الله تعالى (حتى يضحك الله) عز وجل (منه)
المراد لازم الضحك وهو الرضا (فإذا ضحك منه قال له ادخل
الجنة فإذا دخلها قال الله) عز وجل (له: تمنّه) بهاء السكت
(فسأل ربه) عز وجل (وتمنى حتى أن الله ليذكره) أي ليذكر
المتمني (يقول) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ويقول له
تمنّ (كذا وكذا) يسمي له أجناس ما يتمنى فضلاً منه ورحمة
(حتى انقطعت به الأماني) جمع أمنية (قال الله) عز وجل
(ذلك) الذي سألت (لك ومثله معه).
قال الدماميني في مصابيحه: فإن قلت: قد علم أن الدار
الآخرة ليست دار تكليف فما الحكمة في تكرير أخذ العهود
والمواثيق عليه أن لا يسأل غير ما أعطيه مع أن إخلافه
لقوله وما تقتضيه يمينه لا إثم عليه فيه؟ قلت: الحكمة فيه
ظاهرة وهي إظهار التمنّن والإحسان إليه مع تكريره لنقض
عهوده ومواثيقه ولا شك أن للمنّة في نفس العبد مع هذه
الحالة التي اتّصف بها وقعًا عظيمًا.
وقال الكلاباذي فيما نقله عنه في الفتح: سكوت هذا العبد
أولاً عن السؤال يعني في قوله في الحديث فيسكت ما شاء الله
حياء من ربه والله يحب أن يُسأل لأنه يحب صوت عبده المؤمن
فباسطه أولاً بقوله: لعلك إن أعطيت هذا تسأل غيره وهذه
حالة المقصر فكيف حالة المطيع وليس نقض هذا العبد عهده
وتركه ما أقسم عليه جهلاً منه، ولا قلة مبالاة بل علمًا
منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء به لأن سؤاله ربه
أولى من ترك السؤال، وقد قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "من حلف على يمين فرأى خيرًا منها فليكفّر عن
يمينه وليأت الذي هو خير" فعمل هذا العبد على وفق هذا
الخبر والتكفير قد ارتفع عنه في الآخرة.
7438 - قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: وَأَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِىُّ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ لاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ
مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو
هُرَيْرَةَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ:
«ذَلِكَ لَكَ، وَمِثْلُهُ مَعَهُ»، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِىُّ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إِلاَّ
قَوْلَهُ: «ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ». قَالَ أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ: أَشْهَدُ أَنِّى حَفِظْتُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَوْلَهُ: «ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ»، قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: فَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ
الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ.
(قال عطاء بن يزيد) الراوي (وأبو سعيد الخدري مع أبي
هريرة) جالس وهو يحدّث بهذا الحديث (لا يرد عليه من حديثه
شيئًا) ولا يغيره (حتى إذا حدّث أبو هريرة أن الله تبارك
وتعالى قال: ذلك لك ومثله معه. قال أبو سعيد الخدري: وعشرة
أمثاله معه يا أبا هريرة. قال أبو
هريرة: ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه. قال أبو سعيد
الخدري: أشهد أني حفظت من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قوله ذلك لك وعشرة أمثاله) وجمع
بينهما باحتمال أن يكون أبو هريرة سمع أوّلاً قوله ومثله
معه ثم تكرم الله فزاد ما في رواية أبي سعيد ولم يسمعه أبو
هريرة. (قال أبو هريرة) -رضي الله عنه-: (فذلك الرجل آخر
أهل الجنة دخولاً الجنة).
والحديث سبق في الرقاق.
7439 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِى هِلاَلٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ:
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُضَارُونَ فِى رُؤْيَةِ
الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا»؟ قُلْنَا:
لاَ. قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لاَ تُضَارُونَ فِى رُؤْيَةِ
رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ كَمَا تُضَارُونَ فِى
رُؤْيَتِهِمَا». ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِى مُنَادٍ
لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ،
فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ،
وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ
كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ
كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ
وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى
بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ فَيُقَالُ
لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا
نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ
لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ، فَمَا
تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا فَيُقَالُ:
اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِى جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ
لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ:
كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ:
كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ
فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا
فَيُقَالُ: اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ حَتَّى يَبْقَى
مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ
فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ
النَّاسُ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ
مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا
يُنَادِى لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا
يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا قَالَ:
فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ
فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَلاَ يُكَلِّمُهُ إِلاَّ
الأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ
آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ فَيَكْشِفُ
عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَيَبْقَى
مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً،
فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا
وَاحِدًا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ
ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
الْجَسْرُ؟ قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ
خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا
شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ، تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا:
السَّعْدَانُ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ
وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ
وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ
وَمَكْدُوسٌ فِى نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ
يُسْحَبُ سَحْبًا فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِى
مُنَاشَدَةً فِى الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ وَإِذَا رَأَوْا
أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِى إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ:
رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا
وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى
قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ،
وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِى النَّارِ
إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ،
فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ:
اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ
نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ
عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ
وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ
فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا». قَالَ أَبُو
سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِى فَاقْرَؤُوا: {إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40] فَيَشْفَعُ
النَّبِيُّونَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ
فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِى فَيَقْبِضُ
قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ
امْتُحِشُوا فَيُلْقَوْنَ فِى نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ
الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ
فِى حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ
السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ
إِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ
مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى
الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ
اللُّؤْلُؤُ فَيُجْعَلُ فِى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ
فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ
الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ
عَمِلُوهُ، وَلاَ خَيْرٍ قَدَّمُوهُ فَيُقَالُ لَهُمْ:
لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير بضم الموحدة وفتح الكاف قال: (حدّثنا الليث بن سعد)
الإمام وثبت ابن سعد لأبي ذر (عن خالد بن يزيد) الجمحي (عن
سعيد بن أبي هلال) الليثي مولاهم (عن زيد) هو ابن أسلم
مولى عمر بن الخطاب (عن عطاء بن يسار) بالتحتية والمهملة
المخففة (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري) -رضي الله
عنه- أنه (قال: قلنا يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم
القيامة)؟ قال عليه الصلاة
(10/402)
والسلام:
(هل تضارون) بضم أوّله وتشديد الراء (في رؤية الشمس
والقمر) وسقط قوله والقمر لأبي ذر ويروى تضارون بالتخفيف
(إذا كانت) أي السماء (صحوًا) أي ذات صحو أي انقشع عنها
الغيم (قلنا: لا. قال: فإنكم لا تضارون) لا تخالفون أحدًا
ولا تنازعونه (في رؤية ربكم يومئذٍ) يوم القيامة (إلا كما
تضارون في رؤيتهما) أي الشمس والقمر، ولأبي ذر: في رؤيتها
أي الشمس والتشبيه المذكور هنا إنما هو في الوضوح وزوال
الشك لا في المقابلة والجهة وسائر الأمور العادية عند رؤية
المحدثات. وقال في المصابيح: هذا من باب تأكيد المدح بما
يشبه الذم وهو من أفضل ضربيه وذلك أنه استثنى من صفة ذم
منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها فيها أي
إلا كما تضارون في رؤية الشمس في حال صحو السماء أي إن كان
ذلك ضيرًا فأثبت شيئًا من العيب على تقدير كون رؤية الشمس
في وقت الصحو من العيب، وهذا التقدير المفروض محال لأنه من
كمال التمكن بن الرؤية دون ضرر يلحق الرائي فهو في المعنى
تعليق بالمحال فالتأكيد فيه من جهة أنه كدعوى الشيء ببينة
لأنه علق نقيض المدعي وهو إثبات شيء من العيب بالمحال
والمعلق بالمحال محال فعدم العيب محقق، ومن جهة أن الأصل
في مطلق الاستثناء الاتصال أي كون المستثنى منه بحيث يدخل
فيه المستثنى على تقدير السكوت عنه وذلك لما تقرر في موضعه
من أن الاستثناء المنقطع مجاز، وإذا كان الأصل في
الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج
الشيء مما قبله فإذا وليها صفة مدح وتحوّل الاستثناء من
الاتصال إلى الانقطاع جاء
التأكيد لما فيه من المدح على المدح والإشعار بأنه لم يجد
صفة ذم يستثنيها فاضطر إلى استثناء صفة مدح وتحوّل
الاستثناء إلى الانقطاع.
(ثم قال ينادي مُنادٍ ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون
فيذهب أصحاب الصليب) النصارى (مع صليبهم وأصحاب الأوثان)
المشركون (مع أوثانهم) بالمثلثة فيهما (وأصحاب كل آلهة مع
آلهتهم) ولأبي ذر عن الكشميهني: مع إلههم بكسر الهمزة
وإسقاط الفوقية بلفظ الإفراد (حتى يبقى من كان يعبد الله)
عز وجل (من بر) بفتح الموحدة وتشديد الراء مطيع لربه (أو
فاجر) منهمك في المعاصي والفجور (وغبرات) بضم الغين
المعجمة وتشديد الموحدة بعدها راء فألف ففوقية والجر عطفًا
على المجرور أو مرفوع عطفًا على مرفوع يبقى أي بقايا (من
أهل الكتاب ثم يؤتى بجهنم تعرض) بضم الفوقية وفتح الراء
(كأنها سراب) بالسن المهملة وهو ما يتراءى وسط النهار في
الحر الشديد يلمع كالماء ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
السراب بالتعريف (فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا:
كنا نعبد عزير ابن الله) قال الجوهري منصرف لخفته وإن كان
أعجميًّا مثل نوح ولوط لأنه تصغير عزر (فيقال) لهم (كذبتم)
في كون عزير ابن الله (لم يكن لله صاحبة ولا ولد).
قال الكرماني، فإن قلت: إنهم كانوا صادقين في عبادة عزير
قلت: كونه ابن الله. فإن قلت؟ المرجع هو الحكم الموقع لا
الحكم المشار إليه فالصدق والكذب راجعان إلى الحكم
بالعبادة لا إلى الحكم بكونه ابنًا. قلت: إن الكذب راجع
إلى الحكم بالعبادة المقيدة وهي منتفية في الواقع باعتبار
انتفاء قيدها أو هو في حكم القضيتين كأنهم قالوا عزير هو
ابن الله ونحن كنا نعبده فكذبهم في القضية الأولى اهـ.
وقال البدر الدماميني: صرح أهل البيان بأن مورد الصدق
والكذب هو النسبة التي يتضمنها الخبر فإذا قلت: زيد بن
عمرو قائم فالصدق والكذب راجعان إلى القيام لا إلى بنوّة
زيد، وهذا الحديث يردّ عليهم، وحاول بعض المتأخرين الجواب
بأن قال: يراد كذبتم فى عبادتكم لعزير أو مسيح موصوف بهذه
الصفة.
(فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا. فيقال) لهم (اشربوا
فيتساقطون في جهنم) وفي تفسير سورة النساء. فماذا تبغون؟
فقالوا: عطشنا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى
النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا فيتساقطون في النار (ثم
يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون
(10/403)
فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله. فيقال:
كذبتم) في كون المسيح ابن الله (لم يكن لله صاحبة ولا ولد
فما تريددن؟ فيقولون نريد أن تسقينا فيقال: اشربوا
فيتساقطون) زاد أبو ذر في جهنم (حتى يبقى من كان يعبد
الله) عز جل (من بر أو فاجر. فيقال) لهم (ما يحبسكم) عن
الذهاب ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ما يجلسكم بالجيم
واللام (وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم) أي الناس الدين
زاغوا عن الطاعة في الدنيا (ونحن أحوج منا إليه اليوم).
قال البرماوي والعيني كالكرماني أي فارقنا الناس في الدنيا
وكنا في ذلك الوقت أحوج منا في هذا اليوم، فكل واحد هو
المفضل والمفضل عليه لكن باعتبار زمانين لم نحن فارقنا
أقاربنا وأصحابنا ممن كانوا يحتاج إليهم في المعاش لزومًا
لطاعتك ومقاطعة لأعدائك أعداء الدين وغرضهم فيه التضرع إلى
الله تعالى في كشف هذه الشدة خوفًا من المصاحبة في النار
يعني كما لم نكن مصاحبين لهم في الدنيا لا نكون مصاحبين
لهم في الآخرة.
(وإنا سمعنا مناديًا ينادي: ليلحق) بالجزم على الأمر (كل
قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا) زاد في النساء
الذي كنا نعبد (قال: فيأتيهم الجبار) تعالى إتيانًا
منزّهًا عن الحركة وسمات الحدوث (في صورة غير صورته التي
رأوه فيها أول مرة) وقوله في صورة أي علامة وضعها لهم
دليلاً على معرفته أو في صفة أو هي صورة الاعتقاد أو خرج
على وجه المشاكلة، وقوله غير صورته قيل يشير به إلى ما
عرفوه حي أخذ ذرية آدم من صلبه ثم أنساهم ذلك في الدنيا ثم
يذكرهم بها في الآخرة (فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا
فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول): ولأبي ذر فيقال (هل بينكم
وبينه آية) علامة (تعرفونه) بها؟ (فيقولون: الساق) بالسين
المهملة والقاف، ويحتمل أن الله عرفهم على ألسنة الرسل من
الأنبياء أو الملائكة أن الله جعل لهم علامة تجلية الساق
وهو كما قال ابن عباس في تفسير {يوم يكشف عن ساق} [القلم:
42] الشدّة من الأمر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا
اشتدّت أو هو النور العظيم كما روي عن أبي موسى الأشعري،
أو ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف كما قال ابن
فورك، أو رحمة للمؤمنين نقمة لغيرهم قاله المهلب. (فيكشف)
تعالى (عن ساقه) وقيل الساق يأتي بمعنى النفس أي تتجلى لهم
ذاته المقدسة (فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله
رياء) ليراه الناس (وسمعة) ليسمعهم (فيذهب كيما يسجد). قال
العيني: كي هنا بمنزلة لام التعليل في المعنى والعمل دخلت
على ما المصدرية بعدها أن مضمرة تقديره يذهب لأجل السجود.
قال النووي: وهذا السجود امتحان من الله تعالى لعباده
(فيعود ظهره طبقًا واحدًا) كالصحيفة فلا يقدر على السجود
(ثم يؤتى بالجسر) بكسر الجيم في الفرع وتفتح والفتح هو
الذي في اليونينية (فيجعل بين ظهري جهنم) بفتح الظاء
المعجمة وسكون الهاء (قلنا يا رسول الله وما الجسر)؟ بفتح
الجيم في الفرع كأصله (قال) عليه الصلاة والسلام: (مدحضة)
بفتح الميم وسكون الدال وفتح الحاء المهملتين والضاد
المعجمة المفتوحة (مزلة) بفتح الميم وكسر الزاي ويجوز
فتحها وتشديد اللام والدحض ما يكون عند الزلق والمزلة موضع
زلل الأقدام وفي رواية الكشميهني الدحض هو الزلق ليدحضوا
بضم التحتية أي ليزلقوا زلقًا لا يثبت فيه قدم (عليه
خطاطيف) جمع خطاف بضم الخاء المعجمة الحديدة المعوجة
كالكلوب يختطف بها الشيء (وكلاليب) جمع كلوب (وحسكة)
بالحاء والسين المهملتين وفتحات نبات مغروس في الأرض ذو
شرك ينشبك فيه كل من مرّ به وربما اتخذ مثله من حديد وهو
من آلات الحرب (مفلطحة) بضم الميم وفتح الفاء وسكون اللام
وفتح الطاء والحاء المهملتين فهاء تأنيث فيها عرض واتساع
وقال الأصمعي واسعة إلا على دقيقة الأسفل ولأبي ذر عن
الكشميهني مطحلفة
بتقديم الطاء والحاء على اللام وتأخير الفاء بعد اللام
(لها شوكة عقيفاء) بضم العين المهملة
(10/404)
وفتح القاف والفاء بينهما تحتية ساكنة
مهموز ممدود معوجة ولأبوي الوقت وذر عقيفة بفتح العين وكسر
القاف وسكون التحتية وفتح الفاء بعدها هاء تأنيث بوزن
كريمة (تكون بنجد يقال لها السعدان) يمرّ (المؤمن عليها
كالطرف) بفتح الطاء وسكون الراء أي كلمح البصر (وكالبرق
وكالريح وكأجاويد الخيل) جمع أجواد وأجواد جمع جواد وهي
الفرس السابق الجيد (والركاب) بكسر الراء الإبل واحدتها
الراحلة من غير لفظها (فناج مسلم) بفتح اللام المشدّدة
(وناج مخدوش) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة آخره شين
معجمة مخموش ممزق (ومكدوس) بميم مفتوحة فكاف ساكنة فدال
مهملة مضمومة بعدها واو ساكنة فسين مهملة مصروع (في نار
جهنم). والحاصل أنهم ثلاثة أقسام: قسم مسلم لا يناله شيء
أصلاً، وقسم يخدش ثم يسلم ويخلص، وقسم يسقط في جهنم (حتى
يمر آخرهم) أي آخر الناجين (يسحب) بضم أوّله وفتح ثالثه
(سحبًا فما أنتم بأشد) خبر ما والخطاب للمؤمنين (لي
مناشدة) نصب على التمييز أي مطالبة (في الحق) ظرف له (قد
نبين لكم) جملة حالية من أشدّ وقوله (من المؤمن) صلة أشد
(يومئذٍ للجبار) متعلق بمناشدة (وإذا) بالواو ولأبي ذر عن
الكشميهني فإذا (رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم) متعلق
أيضًا بمناشدة كالجبار.
قال في الكواكب: أي ليس طلبكم مني في الدنيا في شأن حق
يكون ظاهرًا لكم أشدّ من طلب المؤمنين من الله في الآخرة
من شأن نجاة إخوانهم من النار والغرض شدّة اعتناء المؤمنين
بالشفاعة لإخوانهم وجمع الضمير والمؤمن مفرد باعتبار الجمع
المراد من لفظ الجنس، ولأبي ذر عن الكشميهني: وبقي
إخوانهم. قال الكرماني: وظاهر السياق يقتضى أن يكون قوله
وإذا رأوا بدون الواو، ولكن قوله في إخوانهم مقدم عليه
حكمًا وهذا خبر مبتدأ محذوف أي وذلك إذا رأوا نجاة أنفسهم
وما بعده استئناف كلام وهو قوله:
(فيقولون). وقال العيني الذي يظهر من حل التركيب أن يقولون
جواب إذا أي إذا رأوا نجاة أنفسهم يقولون (ربنا إخواننا
الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا). وقال
الطيبي: هذا بيان لمناشدتهم في الآخرة (فيقول الله تعالى:
اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه)
بقطع الهمزة من النار (ويحرّم الله) عز وجل (صورهم على
النار) تكريمًا لها للسجود (فيأتونهم) سقطت فيأتونهم لأبي
ذر (وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه
فيخرجون) بضم التحتية وكسر الراء (من عرفوا) من النار (ثم
يعودون فيقول) الله تعالى (اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال
نصف دينار) فيه أن الإيمان يزيد وينقص (فأخرجوه) منها
(فيخرجون) منها (من عرفوا ثم يعودون فيقول) تعالى لهم:
(اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان) بفتح الذال
المعجمة وتشديد الراء قيل إن مائة نملة وزن حبة والذرة
واحدة منها وقيل الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى في
شعاع الشمس (فأخرجوه فيخرجون من عرفوا) منها.
(قال أبو سعيد) الخدري -رضي الله عنه- (فإن لم تصدقوا)
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فإذا
لم تصدقوني (فاقرؤوا: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك
حسنة يضاعفها} [النساء: 40]) يضاعف ثوابها وأنّث ضمير
المثقال لكونه مضافًا إلى مؤنث والتجزئ المذكور هنا شيء
زاد على مجرد الإيمان الذي هو التصديق الذي لا يتجزأ
فالزائد عليه يكون بعمل صالح كذكر خفي أو عمل من أعمال
القلوب من شفقة على مسكين أو خوف منه تعالى أو نيّة صالحة
أو غير ذلك (فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول
الجبار) تعالى. قال الحافظ ابن حجر: قرأت في تنقيح الزركشي
إن قوله فيقول الله زيادة ضعيفة لأنها غير متصلة قال، وهذا
غلط منه فإنها متصلة هنا ثم إن لفظ حديث أبي سعيد هنا ليس
كما ساقه الزركشي، وإنما فيه فيقول الجبار (بقيت شفاعتي
فيقبض
(10/405)
قبضة من النار فيخرج) تعالى (أقوامًا) وهم
الذين معهم مجرد الإيمان ولم يأذن فيهم بالشفاعة حال كونهم
(قد امتحشوا) بضم الفوقية وكسر المهملة بعدها معجمة
احترقوا (فيلقون) بضم التحتية وسكون اللام وفتح القاف (في
نهر بأفواه الجنة) جمع فوّهة بضم الفاء وتشديد الواو
المفتوحة سمع من العرب على غير قياس وأفواه الأزقة
والأنهار أوائلها والمراد هنا مفتتح مسالك قصور الجنة
(يقال له ماء الحياة) وسقط لأبي ذر لفظ ماء (فينبتون في
حافتيه) تثنية حافة بتخفيف الفاء أي جانبي النهر (كما تنبت
الحبة) بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة اسم جامع لحبوب
البقول (في حميل السيل) ما يحمله من نحو طين فإذا اتفقت
فيه الحبة واستقرت على شط مجرى السيل نبتت في يوم وليلة
فشبه به لسرعة نباته وحسنه (قد رأيتموها إلى جانب الصخرة
إلى) ولأبي ذر وإلى (جانب الشجرة فما كان إلى) جهة (الشمس
منها كان أخضر وما كان منها إلى) جهة (الظل كان أبيض
فيخرجون كأنهم اللؤلؤ) بياضًا ونضارة (فيجعل) بضم التحتية
وفتح العين (في رقابهم الخواتيم) شيء من ذهب أو غيره علامة
يعرفون بها (فيدخلون الجنة فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء
الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه) في الدنيا (ولا خير
قدموه) فيها بل برحمته تعالى ومجرد الإيمان دون أمر زائد
من عمل صالح (فيقال لهم) إذا نظروا في الجنة إلى أشياء
ينتهي إليها بصرهم (لكم ما رأيتم ومثله معه).
وفيه: أن جماعة من مذنبي هذه الأم يعذبون بالنار، ثم
يخرجون بالشفاعة والرحمة خلافًا لمن نفى ذلك عن هذه الأمة،
وتأول ما ورد بضروب متكلفة والنصوص الصريحة متضافرة
متظاهرة بثبوت ذلك وإن تعذيب الموحدين بخلاف تعذيب الكفار
لاختلاف مراتبهم من أخذ النار بعضهم إلى الساق، وأنها لا
تأكل أثر السجود وأنهم يموتون على ما ورد في حديث أبي سعيد
بلفظ: يموتون فيها إماتة فيكون عذابهم فيها إحراقهم وحبسهم
عن دخول الجنة سريعًا كالمسجونين بخلاف الكفار الذين لا
يموتون أصلاً ليذوقوا العذاب ولا يحيون حياة يستريحون بها
على أن بعض أهل العلم أول حديث أبي سعيد بأنه ليس المراد
أنه يحصل لهم الموت حقيقة، وإنما هو كناية عن غيبة إحساسهم
وذلك للرفق أو كنى عن النوم بالموت، وقد سمى الله النوم
وفاة.
والحديث سبق في تفسير سورة النساء، لكن باختصار في آخره
قال البخاري بالسند إليه.
7440 - وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: حَدَّثَنَا
هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ
- رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ
فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا
فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ
فَيَقُولُونَ أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ
اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ
مَلاَئِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ
لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ
مَكَانِنَا هَذَا قَالَ: فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ،
قَالَ: وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ أَكْلَهُ
مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِىَ عَنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا
نُوحًا أَوَّلَ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ
الأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ
وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ
بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ
الرَّحْمَنِ قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ:
إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ ثَلاَثَ كَلِمَاتٍ
كَذَبَهُنَّ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ
اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا
قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: إِنِّى لَسْتُ
هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ
قَتْلَهُ النَّفْسَ وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ
اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، قَالَ:
فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنِ
ائْتُوا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ
وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِى فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى
رَبِّى فِى دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ فَإِذَا
رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى فَيَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ
وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ:
فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأُثْنِى عَلَى رَبِّى بِثَنَاءٍ
وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى
حَدًّا، فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ». قَالَ
قَتَادَةُ: وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ: «فَأَخْرُجُ
فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ،
ثُمَّ أَعُودُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ
فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ
سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى
ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ
وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ: فَأَرْفَعُ
رَأْسِى فَأُثْنِى عَلَى رَبِّى بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ
يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ: ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى
حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ». قَالَ
قَتَادَةُ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «فَأَخْرُجُ
فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ،
ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى
فِى دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ
وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
يَدَعَنِى ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ
يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهْ قَالَ:
فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأُثْنِى عَلَى رَبِّى بِثَنَاءٍ
وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ: ثُمَّ أَشْفَعُ
فَيَحُدُّ لِى حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ». قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
«فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ حَتَّى مَا يَبْقَى فِى النَّارِ إِلاَّ مَنْ
حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَىْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ
قَالَ: ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قَالَ:
وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِى وُعِدَهُ
نَبِيُّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-».
(وقال حجاج بن منهال) بكسر الميم وهو أحد مشايخ المؤلف
ولعله سمعه منه في المذاكرة ونحوها (حدّثنا همام بن يحيى)
بفتح الهاء وتشديد الميم العوذي الحافظ قال: (حدّثنا
قتادة) بن دعامة السدوسي (عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا) بضم أوّله وكسر
الهاء ولأبي ذر بفتح الياء وضم
الهاء يحزنوا (بذلك) الحبس وقول الزركشي هذه الإشارة إلى
المذكور بعده وهو حديث الشفاعة، تعقبه في المصابيح فقال:
هو تكلف لا داعي له، والظاهر أن الإشارة راجعة إلى الحبس
المذكور بقوله يحبس المؤمنون حتى يهموا (فيقولون: لو
استشفعنا) لو طلبنا من يشفع لنا (إلى ربنا فيريحنا من
مكاننا) برفع فيريحنا في الفرع. وقال الدماميني بالنصب
لوقوعه في جواب التمني المدلول عليه بلو أي ليت لنا
استشفاعًا فإراحة فيخلصنا مما نحن فيه من الحبس والكرب
(فيأتون آدم) عليه السلام (فيقولون) له (أنت آدم) من باب
قوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري
وهو مبهم فيه معنى الكمال لا يعلم ما يراد منه ففسره
بقوله: (أبو الناس خلقك الله بيده) زيادة في الخصوصية
والله تعالى منزه عن الجارحة (وأسكنت جنته وأسجد لك
ملائكته وعلمك أسماء كل شيء) وضع شيء موضع أشياء أي
المسميات إرادة للتقصي واحدًا فواحدًا حتى يستغرق المسميات
كلها (لتشفع) بلام الطلب ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي
اشفع (لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا قال فيقول)
لهم: (لست
(10/406)
هناكم) أي لست في مقام الشفاعة (قال: ويذكر
خطيئته التي أصاب) والراجع إلى الموصول محذوف أي التي
أصابها (أكله من الشجرة) بنصب أكله بدلاً من خطيئته ويجوز
أن يكون بيانًا للضمير المبهم المحذوف نحو قوله تعالى:
{فقضاهن سبع سماوات} [فصّلت: 12] (وقد نهى عنها ولكن ائتوا
نوحًا أول نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض) الموجودين
بعد الطوفان (فيأتون نوحًا) فيسألونه (فيقول: لست هناكم
ويذكر خطيئته التي أصاب سؤاله ربه بغير علم) يشير إلى
قوله: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} [هود: 45] (ولكن
ائتوا إبراهيم خليل الرحمن قال: فيأتون إبراهيم) عليه
السلام (فيقول: إني لست هناكم ويذكر ثلاث كلمات) ولأبي ذر
عن الكشميهني كذبات بفتحات (كذبهن) إحداها قوله: {إني
سقيم} [الصافات: 89] والأخرى {بل فعله كبيرهم} ٌ
[الأنبياء: 63] والثالثة قوله لسارة: {هي أختي} والحق أنها
معاريض لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها ومن كان
أعرف فهو أخوف (ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة
وكلمه وقربه نجيًّا) مناجيًا (قال فيأتون موسى) عليه
السلام (فيقول: إني لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب قتله
النفس، ولكن ائتوا عيسى) عليه السلام (عبد الله ورسوله
وروح الله وكلمته) التي ألقاها إلى مريم (قال: فيأتون عيسى
فيقول: لست هناكم ولكن ائتوا محمدًا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عبدًا غفر الله ما تقدم من ذنبه وما
تأخر). وإنما لم يلهموا إتيان نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسؤاله في الابتداء إظهارًا لشرفه
وفضله فإنهم لو سألوه ابتداء لاحتمل أن غيره يقوم بذلك ففي
ذلك دلالة على تفضيله على جميع المخلوقين زاده الله
تشريفًا وتكريمًا قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (فيأتون) ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي
فيأتونني (فأستأذن) في الدخول (على ربي في داره) أي جنته
التي اتخذها لأوليائه والإضافة للتشريف وقال في المصابيح
أي أستأذن ربي في حال كوني فى جنته فأضاف الدار إليه
تشريفًا (فيؤذن لي عليه فإذا رأيته) تعالى (وقعت ساجدًا
فيدعني ما شاء الله أن يدعني) وفي مسند أحمد أن
هذه السجدة مقدار جمعة من جمع الدنيا (فيقول) تعالى: (ارفع
محمد) رأسك (وقل يسمع) لقولك (واشفع تشفع) أي تقبل شفاعتك
(وسل تعط) سؤالك (قال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فارفع رأسي) من السجود (فأثني على ربي بثناء
وتحميد يعلّمنيه) عز وجل. قال: (ثم أشفع فيحد لي حدًّا) أي
فيعين لي طائفة معينة (فأخرج) من داره (فأدخلهم الجنة).
بعد أن أخرجهم من النار.
(قال قتادة) بن دعامة بالسند السابق (و) قد (سمعته أيضًا)
أي أنسًا (يقول: فأخرج) من داره (فأخرجهم من النار وأدخلهم
الجنة) بضم الهمزة فيهما (ثم أعود فأستأذن) ولأبي ذر عن
الكشميهني والمستملي ثم أعود الثانية فأستأذن (على ربي في
داره) الجنة (فيؤذن لي عليه فإذا رأيته) تعالى (وقعت
ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول) تعالى (ارفع
محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه) بهاء السكت في هذه دون
الأولى لكن الذي في اليونينية بإسقاط الهاء فيهما (قال:
فأرفع رأسي على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه قال ثم أشفع فيحد
لي حدًّا فأخرج) بفتح الهمزة (فأدخلهم الجنة. قال قتادة)
بالسند (وسمعته) أي أنسًا، وللكشميهني: أيضًا (يقول: فأخرج
فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فأستأذن
على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدًا
فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع محمد وقل يسمع
واشفع تشفع وسل تعطه قال فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء
وتحميد يعلّمنيه قال ثم أشفع فيحد لي حدًّا فأخرج فأدخلهم
الجنة. قال قتادة: وقد سمعته) أي سمعت أنسًا زاد الكشميهني
أيضًا (يقول: فأخرج) بفتح الهمزة (فأخرجهم من النار
وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي
وجب عليه الخلود) بنص القرآن
(10/407)
وهم الكفار. (قال: ثم تلا الآية) ولأبي ذر
عن الكشميهني هذه الآية ({عسى أن يبعثك ربك مقامًا
محمودًا} [الإسراء: 79] قال: وهذا المقام المحمود الذي
وعده) بضم الواو وكسر العين (نبيكم -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
وهذا الحديث وقع هنا معلقًا ووصله الإسماعيلي من طريق
إسحاق بن إبراهيم وأبو نعيم من طريق محمد بن أسلم الطوسي
قالا: حدّثنا حجاج بن منهال فذكره بطوله، وساقوا الحديث
كله إلا أبا ذر فقال بعد قوله حتى يهموا بذلك، وذكر الحديث
بطوله وعنده يهموا بفتح التحتية وضم الهاء وساق النسفي منه
إلى قوله: خلقك الله بيده ثم قال: فذكر الحديث وثبت من
قوله فيقولون لو استشفعنا إلى آخر قوله: المحمود الذي وعده
نبيكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمستملي
والكشميهني.
7441 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِى عَمِّى حَدَّثَنَا أَبِى عَنْ
صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِى أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ
فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ وَقَالَ لَهُمُ: «اصْبِرُوا
حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّى عَلَى
الْحَوْضِ».
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله) بضم العين (ابن سعد بن
إبراهيم) بسكونها قال: (حدّثني) بالإفراد (عمي) يعقوب بن
إبراهيم بن سعد قال: (حدّثنا أبي) إبراهيم بن سعد بن عبد
الرحمن بن عوف (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب) محمد
بن مسلم الزهري أنه (قال: حدّثني)
بالإفراد (أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما أفاء الله عليه
ما أفاء من أموال هوازن طفق -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يعطي رجالاً من قريش وبلغه قول الأنصار يعطيهم
ويدعنا (أرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة وقال لهم: اصبروا
حتى تلقوا الله ورسوله) أي حتى تموتوا (فإني على الحوض)
وفيه ردّ على المعتزلة في إنكارهم الحوض وفي أوائل الفتن
من رواية أنس عن أسيد بن الحضير في قصة فيها فسترون بعدي
أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، والغرض من الحديث هنا
قوله حتى تلقوا الله فإنها زيادة لم تقع في بقية الطرق.
قاله الحافظ ابن حجر.
7442 - حَدَّثَنِى ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ
الأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله
عنهما - قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ:
«اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ
الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ
فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ،
وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ
وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ
آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ
وَبِكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا
أَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ
أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ». قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو
الزُّبَيْرِ عَنْ طَاوُسٍ قَيَّامٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
الْقَيُّومُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ، وَقَرَأَ
عُمَرُ الْقَيَّامُ وَكِلاَهُمَا مَدْحٌ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر، حدّثنا (ثابت بن
محمد) بالمثلثة والموحدة أبو إسماعيل العابد الكوفي قال:
(حدّثنا سفيان) الثوري (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد
العزيز (عن سليمان الأحول) بن أبي مسلم المكي (عن طاوس)
أبي عبد الرحمن بن كيسان (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-)
أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إذا تهجد من الليل قال):
(اللهم ربنا لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض) الذي يقوم
بحفظهما وحفظ من أحاطتا به واشتملتا عليه تؤتي كلامًا به
قوامه وتقوم على كل شيء من خلقك بما تراه من التدبير (ولك
الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن) فهو رب كل شيء
ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العوّاد عليه بنعمه (ولك
الحمد أنت نور السنوات والأرض ومن فيهن) أي منوّر ذلك.
والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان منه تسبب فهو بمعنى
اسمه الهادي لأنه يهدي بالنور الظاهر الأبصار إلى المبصرات
الظاهرة ويهدي بالنور الباطن البصائر الباطنة إلى المعارف
الباطنة فهو إذًا منوّر السماوات والأرض وهو النور الذي
أنار كل شيء ظاهرًا وباطنًا وإذا كان هو النور لأن منه
النور وبالنور نور البصائر وأنار الآفاق والأقطار فهو صفة
فعل (أنت الحق) المتحقق وجوده (وقولك الحق) أي مدلوله ثابت
(ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه (ولقاؤك الحق)
أي رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع (والجنة حق والنار حق)
كلٌّ منهما موجود (والساعة) أي قيامها (حق اللهم لك أسلمت)
أي انقدت لأمرك ونهيك (وبك آمنت) أي صدقت بك وبما
أنزلت (وعليك توكلت) أي فوّضت أمري إليك (وإليك خاصمت) من
خاصمني من الكفار (وبك) وبما آتيتني من البراهين والحجج
(حاكمت) من خاصمني من الكفار (فاغفر لي ما قدّمت وما أخّرت
وأسررت وأعلنت وما أنت أعلم به مني لا إله إلا أنت). قاله
تواضعًا وإجلالاً لله تعالى وتعليمًا لأمته.
(قال أبو عبد الله) محمد بن إسماعيل البخاري (قال قيس بن
سعد) وسقط لأبي ذر قال أبو عبد الله وأثبت الواو في قوله
وقال قيس بن سعد بسكون العين المكيّ الحنظليّ فيما وصله
مسلم وأبو داود (وأبو الزبير) محمد بن مسلم بن تدرس القرشي
الأسدي مما وصله مالك في موطئه (عن طاوس
(10/408)
قيام) بفتح التحتية المشددة فألف بوزن فعال
بالتشديد صيغة مبالغة.
(وقال مجاهد) المفسر فيما وصله الفريابي (القيوم) هو
(القائم على كل شيء) وقال في شرح المشكاة القيوم فيعول
للمبالغة كالديور والديوم ومعناه القائم بنفسه المقيم
لغيره وهو على الإطلاق والعموم لا يصح إلا لله، فإن قوامه
بذاته لا يتوقف بوجه ما على غيره وقوام كل شيء به إذ لا
يتصوّر للأشياء وجود ودوام إلا بوجوده فمن عرف أنه القيوم
بالأمور واستراح عن كدّ التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة
التفويض فلم يضنّ بكريمة، ولم يجعل في قلبه للدنيا كثرة
قيمة.
(وقرأ عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (القيام) من قوله:
{الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} [البقرة: 255] بوزن
فعال بالتشديد (وكلاهما) أي القيوم والقيام (مدح) لأنهما
من صيغ المبالغة ولا يستعملان في غير المدح بخلاف القيم
فإنه يستعمل في الذّم أيضًا.
7443 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ حَدَّثَنِى الأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ
عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلاَ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ».
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن موسى) بن راشد القطان الكوفي
قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (حدّثني)
بالإفراد (الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي (عن خيثمة) بخاء
معجمة مفتوحة وبعد التحتية الساكنة مثلثة ابن عبد الرحمن
الجعفي (عن عدي بن حاتم) بالحاء المهملة والفوقية الطائي
-رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما منكم) خطاب للصحابة والمراد العموم (من أحد إلا سيكلمه
ربه) عز وجل (ليس بينه وبينه ترجمان) بفتح الفوقية وضم
الجيم أو ضمهما يترجم عنه (ولا حجاب يحجبه) عن رؤية ربه
تعالى، والمراد بالحجاب نفي المانع من الرؤية لأن من شأن
الحجاب المنع من الوصول إلى المراد فاستعير نفيه لعدم
المنع، وكثير من أحاديث الصفات تخرّج على الاستعارة
التخييلية وهي أن يشترك شيئان في وصف، ثم يعتمد لوازم
أحدهما بحيث تكون جهة الاشتراك وصفًا فيثبت كماله في
المستعار بواسطة شيء آخر فيثبت ذلك للمستعار مبالغة في
إثبات المشترك وبالحمل على هذه الاستعارة التخييلية يحصل
التخلص من مهاوي التجيم، ويحتمل أن يراد بالحجاب استعارة
محسوس لمعقول لأن الحجاب حسي والمنع عقلي والله تعالى منزه
عما يحجبه فالمراد بالحجاب منعه أبصار خلقه وبصائرهم بما
شاء كيف شاء فإذا شاء كشف ذلك عنهم اهـ. ملخصًا مما حكاه
في الفتح عن الحافظ الصلاح العلائي.
والحديث سبق في الرقاق.
7444 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ
أَبِى عِمْرَانَ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ
آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ،
آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ
وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ
الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِى جَنَّةِ عَدْنٍ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
عبد العزيز بن عبد الصمد) العمي (عن أبي عمران) عبد الملك
بن حبيب الجونيّ من علماء البصرة (عن أبي بكر بن عبد الله
بن قيس عن أبيه) عبد الله بن قيس أبي موسى الأشعري -رضي
الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(جنتان) مبتدأ (من فضة) خبر قوله (آنيتهما) والجملة خبر
المبتد الأول ومتعلق من فضة محذوف أي آنيتهما كائنة من فضة
(وما فيهما) عطف على آنيتهما وكذا قوله (وجنتان من ذهب
آنيتهما وما فيهما). وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت
البناني عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال: قال حماد: لا
أعلمه إلا قد رفعه قال: جنتان من ذهب للمقربين ومن دونهما
جنتان من ورق لأصحاب اليمين. رواه الطبري وابن أبي حاتم
ورجاله ثقات.
واستشكل ظاهره إذ مقتضاه أن الجنتين من فضة لا ذهب فيهما،
وبالعكس بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قلنا: يا رسول
الله حدّثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: "لبنة من ذهب ولبنة
من فضة". رواه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان. وأجيب: بأن
"الأوّل" صفة ما في كل جنة من آنية وغيرها. "والثاني" صفة
حوائط الجنان كلها.
(وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر)
بكسر الكاف وسكون الموحدة وفي نسخة الكبرياء (على وجهه في
جنة عدن) أي جنة إقامة وهو ظرف للقوم لا لله تعالى إذ لا
تحويه الأمكنة. وقال القرطبي: متعلق بمحذوف في موضع الحال
من القوم مثل كائنين في جنة عدن وقال في شرح المشكاة على
وجهه حال من رداء الكبرياء والعامل معنى ليس، وقوله في
الجنة متعلق بمعنى
(10/409)
الاستقرار في الظرف فيفيد المفهوم انتفاء
هذا الحصر في غير الجنة، وإليه أشار الشيخ التوربشتي بقوله
يريد أن العبد المؤمن إذا تبوأ مقعده من الجنة تبوأ والحجب
مرتفعة والموانع التى
تحجبه عن النظر إلى ربه مضمحلة إلا ما يصدهم من هيبة
الجلال وسبحات الجمال وأبهة الكبرياء فلا يرتفع ذلك منهم
إلا برأفته ورحمته تفضلاً منه على عباده. قال الطيبي:
وأنشد في المعنى:
أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله
وأصد عنه تجلدًا ... وأروم طيف خياله
انتهى.
والحديث من المتشابه إذ لا وجه حقيقة ولا رداء فأما أن
يفوّض أو يؤوّل كأن يقال استعار لعظيم سلطان الله وكبريائه
وعظمته وجلاله المانع إدراك أبصار البشر مع ضعفها لذلك
رداء الكبرياء، فإذا شاء تقوية أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم
حجاب هيبته وموانع عظمته. وقال أبو العباس القرطبي: الرداء
استعارة كنى بها عن العظمة كما في الحديث الآخر "الكبرياء
ردائي والعظمة إزاري" وليس المراد الثياب المحسوسة لكن
المناسبة أن الرداء والإزار لما كانا ملازمين للمخاطب من
العرب عبر عن العظمة والكبرياء بهما اهـ.
واستشكل في الكواكب ظاهر الحديث بأنه يقتضي أن رؤية الله
غير واقعة وأجاب بأن مفهومه بيان قرب النظر إذ رداء
الكبرياء لا يكون مانعًا من الرؤبة فعبّر عن زوال المانع
عن الأبصار بإزالة الرداء. قال الحافظ ابن حجر: وحاصله أن
رداء الكبرياء مانع من الرؤية فكأن في الكلام حذفًا تقديره
بعد قوله إلا رداء الكبرياء فإنه يمنّ عليهم برفعه فيحصل
لهم الفوز بالنظر إليه فكان المراد أن المؤمنين إذا
تبوّؤوا مقاعدهم من الجنة لولا ما عندهم من هيبة الجلال
لما حال بينهم وبين الرؤية حائل، فإذا أراد إكرامهم حفّهم
برأفته وتفضل عليهم بتقويتهم على النظر إليه سبحانه وتعالى
اهـ.
وهو معنى قول التوربشتي السابق. والحاصل أن رؤية الله
تعالى واقعة يوم القيامة في الموقف لكل أحد من الرجال
والنساء، وقال قوم من أهل السُّنّة: تقع أيضًا للمنافقين،
وقال آخرون: وللكافرين أيضًا ثم يحجبون بعد ذلك لتكون
عليهم حسرة، وأما الرؤية في الجنة فأجمع أهل السُّنّة على
أنها حاصلة للأنبياء والرسل والصديقين من كل أمة ورجال
المؤمنين من البشر من هذه الأمة، واختلف في نساء هذه الأمة
فقيل لا يرين لأنهن مقصورات في الخيام، ولم يرد في أحاديث
الرؤية تصريح برؤيتهن، وقيل يرين أخذًا من عمومات النصوص
الواردة في الرؤية أو يرين في مثل أيام الأعياد لأهل الجنة
تجليًّا عامًّا فيرينه لحديث أنس عند الدارقطني مرفوعًا:
إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم عز وجل فأحدثهم
عهدًا بالنظر إليه في كل جمعة ويراه المؤمنات يوم الفطر
ويوم النحر، وذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام إلى أن
الملائكة لا يرون ربهم لأنهم لم يثبت لهم ذلك كما ثبت
للمؤمنين من البشر وقد قال تعالى: {لا تدركه الأبصار}
[الأنعام: 103] خرج منه مؤمنو البشر
بالأدلة الثابتة فبقي على عمومه في الملائكة، ولأن للبشر
طاعات لم يثبت مثلها للملائكة كالجهاد والصبر على البلايا
والمحن وتحمل المشاق في العبادات لأجل الله وقد ثبت أنهم
يرون ربهم ويسلم عليهم وبشرهم بإحلال رضوانه عليهم أبدًا
ولم يثبت مثل هذا للملائكة اهـ.
وقد نقله عنه جماعة ولم يتعقبوه بنكير منهم العز بن جماعة،
ولكن الأقوى أنهم يرونه كما نص عليه أبو الحسن الأشعري في
كتابه الإبانة فقال: أفضل لذات الجنة رؤية الله تعالى ثم
رؤية نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلذلك لم
يحرم الله أنبياءه المرسلين وملائكته المقربين وجماعة
المؤمنين والصديقين النظر إلى وجهه الكريم، ووافقه على ذلك
البيهقي وابن القيم والجلال البلقيني.
والحديث سبق في تفسير سورة الرحمن.
7445 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكُ بْنُ أَعْيَنَ وَجَامِعُ بْنُ
أَبِى رَاشِدٍ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -
رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ
امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، لَقِىَ اللَّهَ
وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ثُمَّ
قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ
ذِكْرُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ
لَهُمْ فِى الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [آل
عمران: 77] الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير
(10/410)
قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا
عبد الملك بن أعين) بفتح الهمزة والتحتية بينهما عين مهملة
ساكنة آخره نون الكوفي (وجامع بن أى راشد) الصيرفي الكوفي
كلاهما (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عبد الله) بن مسعود
(-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من اقتطع مال امرئ مسلم) أخذ منه قطعة لنفسه (بيمين
كاذبة) صفة ليمين (لقي الله) عز وجل (وهو عليه غضبان).
المراد به لازمه وهو العذاب (قال عبد الله) بن مسعود (ثم
قرأ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مصداقه) مفعال من الصدق أي ما يصدق هذا الحديث (من كتاب
الله جل ذكره: {إن الذين يشترون}) أي يستبدلون ({بعهد الله
وأيمانهم}) وبما حلفوا به ({ثمنًا قليلاً}) متاع الدنيا
({أولئك لا خلاق لهم في الآخرة}) لا نصيب لهم فيها ({ولا
يكلمهم الله} [آل عمران: 77]) بما يسرّهم (الآية). إلى
آخرها. ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب
أليم.
والحديث سبق في الإيمان في باب عهد الله. ومطابقته للترجمة
هنا في قوله لقي الله.
7446 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِى صَالِحٍ،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ
رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا
أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهْوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ
لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ
مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِى كَمَا
مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو) بفتح العين ابن دينار (عن أبي
صالح) ذكوان السمان (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ثلاثة لا يكلمهم الله) عز وجل (يوم القيامة) بما يسرّهم
(ولا ينظر إليهم) نظر رحمة (رجل حلف على سلعة) ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي على سلعته (لقد أعطى بها) بفتح الهمزة
والطاء دفع لبائعها (أكثر مما أعطى) بفتحهما أيضًا الذي
يريد شراءها (وهو كاذب، ورجل حلف على يمين) أي على محلوف
يمين (كاذبة بعد العصر) ليس قيد إبل خرج مخرج الغالب إذ
كان مثله يقع آخر النهار عند فراغهم من المعاملات أو خصه
لكونه وقت ارتفاع الأعمال (ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل
منع فضل ماء) زائدًا على حاجته من يحتاج إليه وفي الشرب
رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل (فيقول
الله) عز وجل (يوم القيامة اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل
ما لم تعمل يداك) أي ليس حصوله وطلوعه من منبعه بقدرتك بل
هو بإنعامي وفضلي.
والحديث سبق في الشرب في باب إثم من منع ابن السبيل من
الماء.
7447 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِى بَكْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ
اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ
شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثٌ
مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو الْقَعَدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ،
وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى
وَشَعْبَانَ أَىُّ شَهْرٍ هَذَا»؟ قُلْنَا: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ
يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: «أَلَيْسَ ذَا
الْحَجَّةِ»؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَىُّ بَلَدٍ
هَذَا»؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ
حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ
قَالَ: «أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ»؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ:
«فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا»؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ
بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ»؟
قُلْنَا بَلَى.
قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ». قَالَ
مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: «وَأَعْرَاضَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى
بَلَدِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ
رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلاَ فَلاَ
تَرْجِعُوا بَعْدِى ضُلاَّلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ
بَعْضٍ أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ،
فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى
مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ». فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا
ذَكَرَهُ قَالَ: صَدَقَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ
أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ»؟
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي الحافظ
قال: (حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي قال:
(حدّثنا أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن سيرين (عن ابن
أبي بكرة)
عبد الرحمن (عن) أبيه (أبي بكرة) نفيع بضم النون وفتح
الفاء -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال) يوم النحر بمنى:
(الزمان قد استدار) استدارة (كهيئته) مثل حالته (يوم خلق
الله) عز وجل (السماوات والأرض) أي عاد الحج إلى ذي الحجة
وبطل النسيء وذلك أنهم كانوا يحلون الشهر الحرام ويحرّمون
مكانه شهرًا آخر حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم، وكانوا
يحرّمون من شهور العام أربعة أشهر مطلقًا، وربما زادوا في
الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر أي رجعت الأشهر
إلى ما كانت عليه وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل تغييراتهم
وصار الحج مختصًّا بوقت معين واستقام حساب السنة ورجع إلى
الأصل الموضوع يوم خلق الله السماوات والأرض (السنة)
العربية الهلالية (اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم) لعظم
حرمتها وحرمة الذنب فيها (ثلاث) ولأبي ذر والأصيلي ثلاثة
(متواليات) أي ثلاث سرد (ذو القعدة وذو الحجة) بفتح القاف
والحاء كما في اليونينية والمشهور فتح القاف وكسر الحاء
وحكي كسر القاف (والمحرم ورجب مضر) القبيلة المشهورة وأضيف
إليها لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه (الذي بين جمادى) بضم
الجيم وفتح الدال (وشعبان أيّ شهر هذا)؟ استفهام تقريري
(قلنا: الله ورسوله أعلم) فيه مراعاة الأدب والتحرز عن
التقدم بين يدي الله ورسوله (فسكت) عليه السلام (حتى ظننا
أنه سيسميه بغير اسمه قال) عليه الصلاة والسلام: (أليس ذا
الحجة)؟ بنصب ذا خبر ليس أي ليس هو اليوم ذا الحجة (قلنا:
بلى. قال: أي
(10/411)
بلد هذا)؟ بالتذكير (قلنا: الله ورسوله
أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس
البلدة)؟ بالنصب خبر ليس زاد في الحج الحرام بتأنيث البلدة
وتذكير الحرام الذي هو صفتها وسبق أنه استشكل وأنه أجيب
بأنه اضمحل منه معنى الوصفية وصار اسمًا (قلنا: بلى. قال:
فأيّ يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه
سيسميه بغير اسمه قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى). وثبت
قوله قال: فأي يوم الخ للكشميهني والمستملي وسقط لغيرهما
(قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فإن دماءكم
وأموالكم. قال محمد) أي ابن سيرين (وأحسبه) أي أبا بكرة
نفيعًا (قال: وأعراضكم) جمع عرض بكسر العين موضع المدح
والذم من الإنسان أي انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضكم
(عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)
زاد في الحج إلى يوم تلقون ربكم (وستلقون ربكم) هذا موضع
الترجمة (فيسألكم عن أعمالكم ألا) بالتخفيف (فلا ترجعوا)
فلا تصيروا (بعدي) بعد فراقي من موقفي هذا أو بعد موتي
(ضلالاً) بضم الضاد المعجمة وتشديد اللام (يضرب بعضكم رقاب
بعض) برفع يضرب جملة مستأنفة مبينة لقوله لا ترجعوا وهو
الذي في الفرع ويجوز الجزم على تقدير شرط أي أن ترجعوا
بعدي (ألا) بالتخفيف (ليبلغ الشاهد) هذا المجلس (لغائب)
عنه بتشديد لام ليبلغ والذي في اليونينية تخفيفها (فلعل
بعض من يبلغه) بسكون الموحدة (أن يكون أوعى) أحفظ (له من
بعض من سمعه) وسقط لغير أبي ذر لفظ له (فكان محمد) هو ابن
سيرين (إذا ذكره) أي الحديث (قال: صدق النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال كثيرًا من السامعين أوعى
من شيوخهم (ثم
قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ألا هل بلغت
ألا هل بلغت)؟ مرتين واللام مخففة أي بلغت ما فرض عليّ
تبليغه من الرسالة.
والحديث سبق مطوّلاً ومختصرًا في غير ما موضع كالعلم والحج
والمغازي والفتن.
25 - باب مَا جَاءَ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ
رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:
56]
(باب ما جاء في قول الله تعالى: {إن رحمة الله قريب من
المحسنين} [الأعراف: 56]) ذكر قريب على تأويل الرحمة
بالرحم أو الترحم أو لأنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب أو
على تشبيهه بفعيل الذي بمعنى مفعول أو للإضافة إلى المذكر
والرحمة في اللغة رقة قلب وانعطاف تقتضي التفضيل والإنعام
على من رق له وأسماء الله تعالى وصفاته إنما تؤخذ باعتبار
الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي تكون انفعالات
فرحمة الله على العباد إما إرادة الإنعام عليهم ودفع الضرر
عنهم فتكون صفة ذات أو نفس الإنعام والدفع فتعود إلى صفة
الأفعال.
7448 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِى
عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ
بَنَاتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقْضِى فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا
فَأَرْسَلَ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى،
وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ
وَلْتَحْتَسِبْ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَأَقْسَمَتْ
عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُمْتُ مَعَهُ، وَمُعَاذُ بْنُ
جَبَلٍ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ
فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّبِىَّ وَنَفْسُهُ
تَقَلْقَلُ فِى صَدْرِهِ حَسِبْتُهُ قَالَ: كَأَنَّهَا
شَنَّةٌ فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَتَبْكِى
فَقَالَ: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ
الرُّحَمَاءَ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) أبو سلمة التبوذكي قال:
(حدّثنا عبد الواحد) بن زياد العبدي قال: (حدّثنا عاصم)
الأحول بن سليمان أبو عبد الرحمن البصري (عن أبي عثمان)
عبد الرحمن بن ملّ النهدي (عن أسامة) بن زيد بن حارثة أنه
(قال: كان ابن) وفي النذور بنت (لبعض بنات النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) هي زينب كما عند ابن أبي
شيبة وابن بشكوال (يقتضي) بفتح أوّله وسكون القاف بعدها
ضاد معجمة أي يموت والمراد أنه كان في النزع وللكشميهنى
يفضي بضم أوّله بعده فاء (فأرسلت إليه) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أن يأتيها فأرسل) عليه الصلاة
والسلام إليها (إن لله ما أخذ ولله ما أعطى) أي الذي أخذه
هو الذي كان أعطاه فإن أخذه أخذ ما هو له (وكل إلى أجل
مسمى) مقدر مؤجل (فلتصبر ولتحتسب) أي تنوي بصبرها طلب
الثواب ليحسب لها ذلك من عملها الصالح فرجع إليها الرسول
فأخبرها بذلك (فأرسلت إليه فأقسمت عليه) ليأتيها قال أسامة
(فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقمت
معه ومعاذ بن جبل) ولأبي ذر عن الكشميهني وقمت ومعه معاذ
بن جبل (وأبيّ بن كعب وعبادة بن الصامت) زاد في الجنائز
ورجال (فلما دخلنا ناولوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الصبي) أو الصبية (ونفسه) أو نفسها (تقلقل) بضم أوله وفتح
القافين تضطرب (في صدره) أو صدرها (حسبته قال كأنها) أي
نفسه (شنة) بفتح الشين المعجمة
(10/412)
والنون المشدّدة قربة يابسة (فبكى رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال سعد بن
عبادة: أتبكي) يا رسول الله وزاد أبو نعيم وتنهى عن البكاء
(فقال) عليه الصلاة والسلام:
(إنما يرحم الله) وفي الجنائز هذه جعلها الله في قلوب
عباده وإنما يرحم الله (من عباده الرحماء) جمع رحيم
كالكرماء جمع كريم وهو من صيغ المبالغة.
وسبق الحديث في الجنائز والطب والنذور.
7449 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِى،
عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «اخْتَصَمَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ
إِلَى رَبِّهِمَا فَقَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ مَا
لَهَا لاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ
وَسَقَطُهُمْ وَقَالَتِ النَّارُ يَعْنِى أُوثِرْتُ
بِالْمُتَكَبِّرِينَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى
لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِى، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ
عَذَابِى أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْكُمَا مِلْؤُهَا قَالَ: فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ
اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ
يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا
فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ ثَلاَثًا حَتَّى يَضَعَ
فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى
بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ».
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله) بضم العين (ابن سعد بن
إبراهيم) بسكون العين ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن
عوف الزهري القرشي المدني قال: (حدّثنا يعقوب) بن إبراهيم
بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: (حدّثنا أبي)
إبراهيم (عن صالح بن كيسان) مؤدّب ولد عمر بن عبد العزيز
(عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله
عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(اختصمت الجنة والنار إلى ربهما) تعالى مجازًا عن حالهما
المشابه للخصومة أو حقيقة بأن خلق الله تعالى فيهما الحياة
والنطق. وقال أبو العباس القرطبي: يجوز أن يخلق الله ذلك
القول فيما شاء من أجزاء الجنة والنار لأنه لا يشترط عقلاً
في الأصوات أن يكون محلها حيًّا على الراجح، ولو سلمنا
الشرط لجاز أن يخلق الله في بعض أجزائها الجمادية حياة لا
سيما، وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {إن الدار
الآخرة لهي الحيوان} [العنكبوت: 64] إن كل ما في الجنة حي،
ويحتمل أن يكون ذلك بلسان الحال والأوّل أولى واختصامهما
هو افتخار إحداهما على الأخرى بمن يسكنها فتظن النار أنها
بمن ألقي فيها من عظماء الدنيا آثر عند الله من الجنة وتظن
الجنة أنها بمن يسكنها من أولياء الله تعالى آثر عند الله
(فقالت الجنة: يا رب ما لها) مقتضى الظاهر أن تقول ما لي
ولكنه على طريق الالتفات (لا يدخلها إلا ضعفاء الناس
وسقطهم) بفتح السين والطاء الضعفاء الساقطون من أعين الناس
لتواضعهم لربهم تعالى وذلتهم له (وقالت النار يعني
أوثرت) بضم الهمزة وسكون الواو والراء بينهما مثلثة اختصصت
(بالمتكبرين) المتعظمين بما ليس فيهم (فقال الله تعالى)
مجيبًا لهما بأنه لا فضل لإحداكما على الأخرى من طريق من
يسكنكما وفي كلاهما شائبة شكاية إلى ربهما إذ لم تذكر كل
واحدة منهما إلا ما اختصت به وقد ردّ الله ذلك إلى مشيئته
فقال تعالى (للجنة أنت رحمتي) زاد في سورة ق: أرحم بك من
أشاء من عبادي وإنما سماها رحمة لأن بها تظهر رحمته تعالى
(وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء) وفي تفسير سورة
ق: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي (ولكل واحدة
منكما ملؤها) بكسر الميم وسكون اللام بعدها همزة (قال:
فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدًا وإنه ينشئ
للنار من يشاء) من خلقه (فيلقون فيها) لأن لله تعالى أن
يعذب من لم يكلفه بعبادته في الدنيا لأن كل شيء ملكه فلو
عذبهم لكان غير ظالم لهم لا يسأل عما يفعل (فتقول هل من
مزيد ثلاثًا حتى يضع) الرب تعالى (فيها قدمه) من قدمه لها
من أهل العذاب أو ثمة مخلوق اسمه القدم أو هو عبارة عن
زجرها وتسكينها كما يقال جعلته تحت رجلي ووضعته تحت قدمي
(فتمتلئ وبرد) بضم التحتية وفتح الراء (بعضها إلى بعض
وتقول قط قط قط). بالتكرار ثلاثًا للتأكيد مع فتح القاف
وسكون الطاء مخففة فيها أي حسبي.
وهذا الحديث قد سبق في تفسير سورة ق بخلاف هذه الرواية
التي هنا فإنه قال هناك، وأما النار فتمتلئ ولا يظلم الله
من خلقه أحدًا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقًا، وكذا
في صحيح مسلم. وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقًا فقال
جماعة إن الذي ورد هنا من المقلوب، وجزم ابن القيم بأنه
غلط محتجًّا بأن الله تعالى أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس
وأتباعه، وكذا أنكرها البلقيني واحتج بقوله: {ولا يظلم ربك
أحدًا} [الكهف: 49] وقال أبو الحسن القابسي المعروف أن
الله ينشئ للجنة خلقًا قال ولا أعلم في شيء من الأحاديث
أنه ينشئ للنار خلقًا إلا هذا اهـ.
واحتج بأن تعذيب الله غير العاصي لا يليق بكرمه بخلاف
الإنعام على غير المطيع، وقال
(10/413)
البلقيني: حمله على أحجار تلقى في النار
أقرب من حمله على ذي روح يعذب بغير ذنب. قال في الفتح:
ويمكن التزام أن يكونوا من ذوي الأرواح لكن لا يعذبون كما
في الخزنة، ويحتمل أن يراد بالإنشاء ابتداء إدخال الكفار
النار، وعبّر عن ابتداء الإدخال بالإنشاء فهو إنشاء
الإدخال لا الإنشاء الذي بمعنى ابتداء الخلق بدليل قوله
فيلقون فيها وتقول هل من مزيد. وقال في الكواكب: لا محذور
في تعذيب الله من لا ذنب له إذ القاعدة القائلة بالحسن
والقبح العقليين باطلة فلو عذبه لكان عدلاً والإنشاء للجنة
لا ينافي الإنشاء للنار والله يفعل ما يشاء فلا حاجة إلى
الحمل على الوهم والله أعلم.
7450 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا
هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه -
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ
بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ
اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ يُقَالُ لَهُمُ:
الْجَهَنَّمِيُّونَ».
وَقَالَ هَمَّامٌ: حَدَّثَنَا قَتَادَةٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بضم العين ابن الحارث بن
سخبرة الأزدي الحوضي قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي (عن
قتادة) بن دعامة السدوسي (عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي)
ولأبوي الوقت وذر أن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(ليصيبن أقوامًا) من العصاة واللام للتأكيد كالنون الثقيلة
وأقوامًا نصب مفعول (سفع) بفتح السين المهملة وسكون الفاء
بعدها عين مهملة أثر تغير البشرة ليبقى فيها بعض سواد (من
النار). وقال الكرماني اللفح واللهب. قال العيني: وهو
تفسير الشيء بما هو أخفى منه. قال: واللفح بفتح اللام
وسكون الفاء وبالحاء المهملة حرّ النار ووهجها، وفي
النهاية السفع علامة تغير ألوانهم من أثر النار (بذنوب)
بسبب ذنوب (أصابوها عقوبة) لهم (ثم يدخلهم الله) عز وجل
(الجنة بفضل رحمته) إياهم (يقال لهم الجهنميون. وقال همام)
بفتح الهاء وتشديد الميم ابن يحيى مما سبق موصولاً في كتاب
الرقاق (حدّثنا قتادة) بن دعامة قال: (حدّثنا أنس) -رضي
الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
سقط قوله عن النبي الخ لأبي ذر، ومراده بسياق هذا التعليق
أن العنعنة في الطريق السابق محمولة على السماع بدليل هذا
السياق والله الموفق وبه المستعان.
26 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ
يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ} [فاطر:
41]
(باب قول الله تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن
تزولا} [فاطر: 41]) أي يمنعهما من أن تزولا ولأن الإمساك
منع وسقط لفظ باب لغير أبي ذر فقول مرفوع على ما لا يخفى.
7451 - حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا
مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى
إِصْبَعٍ، وَالأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى
إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ وَالأَنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ،
وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَقُولُ
بِيَدِهِ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: «{وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]».
وبه قال: (حدّثنا موسى) بن إسماعيل التبوذكي قال: (حدّثنا
أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن الأعمش) سليمان بن مهران
(عن إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن قيس (عن عبد الله) بن
مسعود -رضي الله عنه- أنه (قال: جاء حبر) من أحبار يهود
(إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال:
يا محمد إن الله) يوم القيامة (يضع السماء على إصبع والأرض
على إصبع) وفي باب قول الله لما خلقت بيدي إن الله يمسك
السماوات على إصبع والأرضين على إصبع (والجبال على إصبع
والشجر والأنهار على إصبع وسائر الخلق) ممن لم يذكر هنا
(على إصبع) وفي حديث ابن عباس عند الترمذي مرّ يهودي
بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا
يهودي حدّثنا. كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله
السماوات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال
على ذه وسائر الخلق على ذه، وأشار أبو جعفر أحد رواته
أوّلاً ثم تابع حتى بلغ الإبهام. قال الترمذي: حسن غريب
صحيح وقد جرى في أمثالهم فلان يقول كذا بإصبعه ويعمله
بخنصره، (ثم يقول بيده أنا الملك فضحك رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) تعجبًا من قول الحبر زاد في
الباب المذكور حتى بدت نواجذه (وقال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
({وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91]) أي ما عرفوه حق
معرفته ولا عظموه حق تعظيمه. وقال المهلب فيما نقله عنه في
الفتح الآية تقتضي أن السماوات والأرض ممسكتان بغير آلة
يعتمد عليها، والحديث يقتضي أنهما ممسكتان بالأصبع،
والجواب أن الإمساك بالأصبع محال لأنه يفتقر إلى ممسك قال:
وأجاب غيره بأن الإمساك في الآية يتعلق بالدنيا وفي الحديث
بيوم القيامة.
ومطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله في الرواية السابقة
المنبّه عليها بلفظ يمسك وجرى المؤلف على عادته في الإشارة
عن الإفصاح بالعبارة فالله تعالى يرحمه.
27 - باب مَا جَاءَ فِى تَخْلِيقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَغَيْرِهَا مِنَ الْخَلاَئِقِ
وَهْوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمْرُهُ
فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَهْوَ
الْخَالِقُ هُوَ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا
كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ
فَهْوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ.
(باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما
(10/414)
من الخلائق). قال في الفتح: كذا في رواية
الأكثرين تخليق وفي رواية الكشميهني في خلق السماوات قال
وهو المطابق للآية (وهو) أي التخليق أو الخلق (فعل الرب
تبارك وتعالى وأمره) بقوله: "كن" (فالرب) تعالى (بصفاته)
كالقدرة (وفعله) أي خلقه (وأمره) ولأبي ذر زيادة وكلامه
فهو من عطف العام على الخاص لأن المراد بالأمر هنا قوله كن
وهو من جملة كلامه (وهو الخالق هو المكوّن غير مخلوق)
بتشديد الواو المكسورة من قوله المكوّن.
قال في الفتح: لم يرد في الأسماء الحسنى ولكن ورد معناه
وهو المصوّر واختلف في التكوين هل هو صفة فعل قديمة أو
حادثة، فقال أبو حنيفة وغيره من السلف قديمة، وقال الأشعري
في آخرين حادثة لئلا يلزم أن يكون المخلوق قديمًا. وأجاب
الأول بأنه يوجد في الأزل صفة الخلق ولا مخلوق وأجاب
الأشعري بأنه لا يكون خلق ولا مخلوق كما لا يكون ضارب ولا
مضروب فألزموه بحدوث صفات فيلزم حلول الحوادث بالله، فأجاب
بأن هذه الصفات لا تحدث في الذات شيئًا جديدًا فتعقبوه
بأنه يلزم أن لا يسمى في الأزل خالقًا ولا رازقًا وكلام
الله تعالى قديم، وقد ثبت فيه أنه الخالق الرازق فانفصل
بعض الأشعرية بأن إطلاق ذلك إنما هو بطريق المجاز وليس
المراد بعدم التسمية عدمها بطريق الحقيقة ولم يرتضِ بعضهم
هذا، بل قال وهو قول منقول عن الأشعري نفسه أن الأسامي
جارية مجرى الأعلام والعلم ليس بحقيقة ولا مجاز في
اللغة، وأما في الشرع فلفظ الخالق والرازق صادق عليه تعالى
بالحقيقة الشرعية والبحث إنما هو فيها لا في الحقيقة
اللغوية فألزموه بتجويز إطلاق اسم الفاعل على من لم يقم به
الفعل، فأجاب: بأن الإطلاق هنا شرعي لا لغوي. قال الحافظ
ابن حجر: وتصرف البخاري في هذا الموضع يقتضي موافقة الأول
والصائر إليه يسلم من الوقوع في مسألة وقوع حوادث لا أول
لها وبالله التوفيق. وسقط لأبي ذر قوله هو من قوله هو
المكوّن وسقط من بعض النسخ قوله وفعله. قال الكرماني: وهو
أولى ليصح لفظ غير مخلوق.
قال في فتح الباري: سياق المؤلف يقتضي التفرقة بين الفعل
وما ينشأ عن الفعل فالأول من صفات الفاعل والباري غير
مخلوق فصفاته غير مخلوقة وأما مفعوله وهو ما ينشأ عن فعله
فهو مخلوق ومن ثم عقبه بقوله: (وما كان بفعله وأمره
وتخليقه وتكوينه فهو مفعول ومخلوق ومكوّن) بفتح الواو
المشددة. وقال المصنف في كتابه خلق أفعال العباد: واختلف
الناس في الفاعل والمفعول فقالت القدرية الأفاعيل كلها من
البشر، وقالت الجبرية: كلها من الله، وقالت الجهمية: الفعل
والمفعول واحد، ولذلك قالوا كن مخلوق، وقال السلف: التخليق
فعل الله وأفاعيلنا مخلوقة ففعل الله صفة الله والمفعول من
سواه من المخلوقات.
7452 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِى شَرِيكُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِى بَيْتِ مَيْمُونَةَ
لَيْلَةً وَالنَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عِنْدَهَا لأَنْظُرَ كَيْفَ صَلاَةُ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَحَدَّثَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ
أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ
اللَّيْلِ الآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى
السَّمَاءِ فَقَرَأَ: {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ} -إِلَى قَوْلِهِ- {لأُولِى الأَلْبَابِ} [آل
عمران: 190] ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ ثُمَّ
صَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ
بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى
لِلنَّاسِ الصُّبْحَ.
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) الحكم بن محمد الحافظ
أبو محمد الجمحي مولاهم قال: (أخبرنا محمد بن جعفر) أي ابن
أبي كثير المدني قال: (أخبرني) بالإفراد (شريك بن عبد الله
بن أبي نمر) المدني (عن كريب) أبي رشدين مولى ابن عباس (عن
ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: بتّ في بيت ميمونة)
أم المؤمنين -رضي الله عنها- وهي خالته (ليلة والنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندها) في نوبتها
(لأنظر كيف صلاة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) زاد أبو ذر عن الكشميهني بالليل (فتحدّث رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أهله) زوجته
ميمونة (ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه)
ولأبي ذر عن الكشميهني أو نصفه (قعد) رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فنظر إلى السماء فقرأ ({إن
في خلق السماوات والأرض}) أي لأدلة واضحة على صانع قديم
عليم حكيم قادر (-إلى قوله- {لأولي الألباب} [آل عمران:
190]) أي لمن أخلص عقله من الهوى خلوص اللب عن القشر فيرى
أن العرض المحدث في الجواهر يدل على حدوث الجواهر لأن
جوهرًا ما لا ينفك عن عرض حادث وما لا
يخلو عن الحادث فهو حادث ثم حدوثها يدل على محدثها وذا
قديم، وإلاّ لاحتاج إلى محدث آخر إلى ما لا يتناهى وحسن
صنعه دل على علمه
(10/415)
وإتقانه يدل على حكمته وبقاؤه يدل على
قدرته (ثم قام) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(فتوضأ واستن) استاك (ثم صلّى إحدى عشرة ركعة) وفي آخر
سورة آل عمران فصلّى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين
ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر بواحدة، والحاصل أنها ثلاث
عشرة (ثم أذن بلال بالصلاة فصلى ركعتين ثم خرج فصلّى للناس
أصبح).
والحديث سبق بآل عمران.
28 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171]
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه ({ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا
المرسلين}) الكلمة قوله: إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم
الغالبون وسماها كلمة وهي كلمات لأنها لما انتظمت في معنى
واحد كانت في حكم كلمة مفردة، والمراد بها القضاء المتقدم
منه قبل أن يخلق خلقه في أم الكتاب الذي جرى به القلم بعلو
المرسلين على عدوّهم في مقادم الحجاج وملاحم القتال في
الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة، وعن الحسن ما غلب نبي في
حرب. والحاصل إن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه الظفر
والنصرة وإن وقع في تضعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة
والعبرة للغالب.
7453 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
- رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ
الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ
رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان
(عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة رضى الله
عنه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(لما قضى الله) عز وجل (الخلق) أي لما أتمه (كتب) أثبت في
كتاب (عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي).
قال في الكواكب فإن قلت: صفاته تعالى قديمة فكيف يتصوّر
السبق بينهما؟ قلت: هما من صفات الفعل لا من صفات الذات
فجاز سبق أحد الفعلين الآخر، وذلك لأن إيصال الخير من
مقتضيات صفته بخلاف غيره فإنه بسبب معصية العبد. وقال في
فتح الباري: أشار أي البخاري إلى ترجيح القول بأن الرحمة
من صفات الذات لكون الكلمة من صفات الذات، فمهما استشكل في
إطلاق السبق في صفة الرحمة جاء مثله في صفة الكلمة، ومهما
أجيب به عن قوله سبقت كلمتنا حصل به الجواب عن قوله: سبقت
رحمتي قال: وقد غفل عن مراده من قال دل وصف الرحمة بالسبق
على أنها من صفات الفعل.
والحديث أخرجه النسائي في النعوت.
7454 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ، سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - حَدَّثَنَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ
يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ،
ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ
الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ
رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ،
ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لاَ يَكُونُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ
فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا
وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ
فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي أياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان قال: (سمعت زيد بن
وهب) الجهني هاجر ففاتته رؤيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: (سمعت عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-
حدّثنا) ولأبي ذر عن الكشميهني قال وله عن الحموي
والمستملي يقول حدّثنا (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الصادق) في نفسه (المصدوق) فيما
وعده به ربه.
(إن خلق أحدكم) قال أبو البقاء لا يجوز في أن إلا الفتح
لأن ما قبله حدّثنا قال البدر الدماميني: بل يجوز الأمر إن
الفتح والكسر أما الفتح فلما قال وأما الكسر فإن بنينا على
مذهب الكوفيين في جواز الحكاية بما فيه معنى القول دون
حروفه فواضح وإن بنينا على مذهب البصريين وهو المنع نقدّر
قولاً محذوفًا يكون ما بعده محكيًّا به فتكسر همزة إن
حينئذٍ بالإجماع والتقدير حدّثنا فقال إن خلق أحدكم (يجمع)
بضم أوّله وفتح ثالثه أي ما يخلق منه وهو النطفة تقر وتخزن
(في بطن أمه أربعين يومًا وأربعين ليلة) ليتخمر فيها حتى
يتهيّأ للخلق (ثم يكون علقة) دمًا غليظًا جامدًا (مثله)
مثل ذلك الزمان وهو أربعون يومًا وأربعون ليلة (ثم يكون
مضغة) قطعة لحم قدر ما يمضغ (مثله ثم يبعث إليه الملك)
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ثم يبعث الله الملك الموكل
بالرحم في الطور الرابع حين يتكامل بنيانه وتتشكل أعضاؤه
(فيؤذن بأربع كلمات) يكتبها (فيكتب) من القضايا المقدرة في
الأزل (رزقه) كل ما يسوقه إليه مما ينتفع به كالعلم والرزق
حلالاً وحرامًا قليلاً وكثيرًا (وأجله) طويلاً أو قصيرًا
(وعمله) أصالح أم لا (وشقي أم سعيد) حسبما اقتضته حكمته
وسبقت كلمته وكان من حق الظاهر أن يقال سعادته وشقاوته
فعدل عنه إما حكاية لصورة ما يكتبه لأنه يكتب شقي أو سعيد،
أو التقدير أنه
(10/416)
شقي أو سعيد فعدل لأن الكلام مسوق إليهما،
والتفضيل وارد عليهما قاله في شرح المشكاة. وقال في
المصابيح: أم أي في قوله أم سعيد هي المتصلة فلا بد من
تقدير الهمزة محذوفة أي أشقيّ أم سعيد.
فإن قلت: كيف يصح تسليط فعل الكتابة على هذه الفعلية
الإنشائية التي هي من كلام الملك فإنه يسأل ربه عن الجنين
أشقي هو أم سعيد فما أخبره الله به من سعادته أو شقاوته
كتبه الملك
ومقتضى الظاهر أن يقال وشقاوته أو سعادته فما وجه ما وقع
هنا؟ قلت: ثم مضاف محذوف تقديره وجواب أشقي أم سعيد وجواب
هذا اللفظ هو شقي أو هو سعيد، فمضمون هذا الجواب هو الذي
يكتب وانتظم الكلام ولله الحمد وهو نظير قولهم علمت أزيد
قائم أي جواب هذا الكلام، ولولا ذلك لم يستقم ظاهره
لمنافاة الاستفهام لحصول العلم وتحققه.
(ثم ينفخ فيه الروح) بعد تمام صورته (فإن أحدكم ليعمل بعمل
أهل الجنة) من الطاعة (حتى لا) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي حتى ما (يكون بينها وبينه إلا ذراع) هو مثل يضرب
لمعنى المقاربة إلى الدخول (فيسبق عليه الكتاب) الذي كتبه
الملك وهو في بطن أمه عقب ذلك (فيعمل بعمل أهل النار) من
المعصية (فيدخل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى
ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل
أهل الجنة فيدخلها) فيه أن ظاهر الأعمال من الطاعات
والمعاصي أمارات وليست بموجبات فإن مصير الأمور في العاقبة
إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر في السابقة.
والحديث سبق في بدء الخلق وغيره والله الموفق والمعين.
7455 - حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، سَمِعْتُ أَبِى يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما -
عَنِ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا
أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا». فَنَزَلَتْ: {وَمَا
نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ
أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] إِلَى آخِرِ
الآيَةِ قَالَ: هَذَا كَانَ الْجَوَابَ لِمُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا خلاد بن يحيى) الكوفي قال: (حدّثنا عمر
بن ذر) بضم العين وذر بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء
الهمداني قال: (سمعت أبي) ذر بن عبد الله بن زرارة
الهمداني (يحدّث عن سعيد بن جبير) الوالبي مولاهم (عن ابن
عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال) لجبريل:
(يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا. فنزلت) آية
{وما نتنزل إلا بأمر ربك}) والتنزل على معنيين معنى النزول
على مهل ومعنى النزول على الإطلاق والأول أليق هنا يعني أن
نزولنا في الأحايين وقتًا غب وقت ليس إلا بأمر الله ({له
ما بين أيدينا وما خلفنا} [مريم: 64] عزو الآية إلى آخر
الآية) أي ما قدّامنا وما خلفنا من الأماكن فلا نملك أن
ننتقل من مكان إلى مكان إلا بأمر الله ومشيئته (قال: هذا
كان) وفي رواية أبي ذر كان هذا وفي رواية أبي ذر عن الحموي
والمستملي فإن هذا كان (الجواب لمحمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
7456 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى حَرْثٍ
بِالْمَدِينَةِ، وَهْوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ
بِقَوْمٍ مِنَ
الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ
الرُّوحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ عَنِ
الرُّوحِ فَسَأَلُوهُ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى
الْعَسِيبِ وَأَنَا خَلْفَهُ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى
إِلَيْهِ فَقَالَ: «{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}» [الإسراء: 85] فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ قَدْ قُلْنَا لَكُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى) قال الحافظ ابن حجر: هو ابن جعفر
أي الأزدي البيكندي الحافظ وقال الكرماني هو ابن موسى
الختي أو ابن جعفر قال: (حدّثنا وكيع) هو ابن الجراح (عن
الأعمش) سليمان بن مهران (عن إبراهيم) النخعي (عن علقمة)
بن قيس (عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- أنه (قال:
كنت أمشي مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في حرث) بالحاء الله المفتوحة وسكون الراء
بعدها مثلثة وللكشميهني في خرب بفتح الخاء المعجمة وكسر
الراء بعدها موحدة أو بكسر ثم فتح (بالمدينة) طيبة (وهو
متكئ على عسيب) بالمهملتين بفتح الأول وكسر الثاني آخره
موحدة بعد تحتية ساكنة عصًا من جريد النخل (فمرّ بقوم من
اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح) الذي يحيا به بدن
الإنسان ويدبره عن مسلكه وامتزاجه به أو ماهيتها أو عن
جبريل أو القرآن أو الوحي أو غير ذلك (وقال بعضهم: لا
تسألوه) عنه (فسألوه عن الروح) الذي في اليونينية لا
تسألوه عن الروح فسألوه (فقام) عليه الصلاة والسلام
(متوكئًا على العسيب وأنا خلفه فظننت) فتحققت (أنه يوحى
إليه فقال: ({ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي}) أي
مما استأثر بعلمه وعجزت الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق
الأعمار الطويلة على الخوض فيه إشارة إلى تعجيز العقل عن
إدراك معرفة مخلوق
(10/417)
مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز
({وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85]) والخطاب
عام أو هو خطاب لليهود خاصة (فقال بعضهم: لبعض: قد قلنا
لكم لا تسألوه) أي لا يستقبلكم بشيء تكرهونه وذلك أنهم
قالوا إن فسره فليس بنبي وذلك أن في التوراة إن الروح مما
انفرد الله بعلمه ولا يطلع عليه أحدًا من عباده فإذا لم
يفسره دل على نبوّته وهم يكرهونها.
وقد سبق في تفسير الإسراء.
7457 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى
سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِى
سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ
الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِى
خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ
غَنِيمَةٍ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان
(عن الأعرج) عبد الرحمن (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(تكفل الله) عز وجل (لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا
الجهاد في سبيله وتصديق كلماته)
الواردة في القرآن (بأن يدخله الجنة) بفضله (أو يرجعه إلى
مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر) بلا غنيمة إن لم
يغنموا (أو) من أجر مع (غنيمة) إن غنموا وقوله تكفل الله.
قال في الكواكب: هو من باب التشبيه أي هو كالكفيل أي كأنه
التزم بملابسة الشهادة إدخال الجنة وبملابسة السلامة الرجع
بالأجر والغنيمة أي أوجب تفضلاً على ذاته يعني لا يخلو من
الشهادة أو السلامة، فعلى الأول يدخل الجنة بعد الشهادة في
الحال، وعلى الثاني لا ينفك عن أجر أو غنيمة مع جواز
الاجتماع بينهما إذ هي قضية مانعة الخلوّ لا مانعة الجمع.
والحديث سبق في الخمس.
7458 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ
أَبِى مُوسَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ الرَّجُلُ:
يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ
رِيَاءً، فَأَىُّ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ:
«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا
فَهْوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي
وائل) بالهمزة شقيق بن سلمة (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس
الأشعري -رضي الله عنه- أنه (قال: جاء رجل) اسمه لاحق بن
ضميرة كما مر في الجهاد (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال): يا رسول الله (الرجل يقاتل
حمية) بفتح الحاء المهملة وكسر الميم وتشديد التحتية أنفة
ومحافظة على ناموسه (ويقاتل شجاعة ويقاتل رياء فأيّ ذلك في
سبيل الله؟ قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(من قاتل لتكون كلمة الله) أي كلمة التوحيد (هي العليا)
بضم العين (فهو) أي المقاتل (في سبيل الله) عز وجل لا
المقاتل حمية ولا للشجاعة ولا للرياء.
والحديث سبق في الجهاد والخمس.
29 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إَذَا أَرَدْنَاهُ أَن
نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]
(باب قول الله تعالى: {وإنما قولنا لشيء إذا أردناه أن
نقول له كن فيكون) أي فهو يكون أي إذا أردنا وجود شيء فليس
إلا أن نقول له أحدث فهو يحدث بلا توقف وهو عبارة عن سرعة
الإيجاد يبين أن مراده لا يمتنع عليه، وأن وجوده عند
إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر المطاع إذا ورد
على المأمور المطيع الممتثل ولا قول ثم، والمعنى أن إيجاد
كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة فكيف يمتنع عليه
البعث الذي هو من بعض المقدورات.
فإن قلت: قوله كن إن كان خطابًا مع المعدوم فهو محال وإن
كان خطابًا مع الموجود كان أمرًا بتحصيل الحاصل وهو محال.
أجيب: بأن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع الخلق
بما يعقلون ليس هو خطاب المعدوم لأن ما أراد فهو كائن على
كل حال أو على ما أراده من الإسراع ولو أراد خلق الدنيا
والآخرة بما فيهما من السماوات والأرض في قدر لمح البصر
لقدر على ذلك ولكن خاطب العباد بما يعقلون وسقط لأبي ذر
قوله أن نقول الخ.
7459 - حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ
قَيْسٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
«لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى قَوْمٌ ظَاهِرِينَ عَلَى
النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا شهاب بن عباد) بتشديد الموحدة بعد فتح
سابقها الكوفي قال: (حدّثنا إبراهيم بن حميد) بضم الحاء
المهملة وفتح الميم ابن عبد الرحمن الرؤاسي الكوفي (عن
إسماعيل) بن أبي خالد البجلي الكوفي (عن قيس) أي ابن أبي
حازم (عن المغيرة بن شعبة) -رضي الله عنه- أنه (قال: سمعت
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(لا يزال من أمتي قوم ظاهرين) غالبين أو عالين (على الناس)
بالبرهان (حتى يأتيهم أمر الله) بقيام الساعة وأمره تعالى
بقيامها هو حكمه وقضاؤه، وهو الغرض المناسب للترجمة. وزاد
في الاعتصام وهم ظاهرون أي غالبون على من خالفهم.
7460 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ حَدَّثَنِى
عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ
بِأَمْرِ اللَّهِ، مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَلاَ
مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ
عَلَى ذَلِكَ». فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: سَمِعْتُ
مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ
مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي)
(10/418)
عبد الله بن الزبير قال: (حدّثنا الوليد بن
مسلم) الأموي الدمشقي قال: (حدّثنا ابن جابر) هو عبد
الرحمن بن زيد بن جابر الأسدي الشامي قال: (حدّثني)
بالإفراد (عمير بن هانئ) بضم العين وفتح الميم وهانئ
بالهمز آخره الشامي (أنه سمع معاوية) بن أبي سفيان -رضي
الله عنهما- (قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(لا يزال من أمتي أمّةٌ قائمة بأمر الله) عز وجل بحكمه
الحق (ما) ولأبي ذر عن الكشميهني لا (يضرهم من كذبهم ولا
من خالفهم) ولأبي ذر عن الكشميهني ولا من خذلهم (حتى يأتي
أمر الله) بإقامة الساعة (وهم على ذلك). الواو للحال (فقال
مالك بن يخامر): بضم التحتية وفتح المعجمة وبعد الألف ميم
مكسورة فراء (سمعت معاذًا) يعني ابن جبل (يقول وهم) أي
الأمة القائمة بأمر الله (بالشام فقال معاوية) بن أبي
سفيان (وهذا مالك) يعني ابن يخامر (يزعم أنه سمع معاذًا
يقول وهم بالشام).
7461 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى حُسَيْنٍ،
حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: وَقَفَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِى أَصْحَابِهِ فَقَالَ:
«لَوْ سَأَلْتَنِى هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا
وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ
لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن عبد الله بن أبي حسين) بضم
الحاء هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي القرشي
النوفلي قال: (حدّثنا نافع بن جبير) بضم الجيم ابن مطعم
(عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: وقف النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على مسيلمة) الكذاب
(في أصحابه فقال) لما قال إن جعل لي محمد من بعده تبعته
وكان يد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قطعة جريد:
(لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك)
أي لن تجاوز حكمه وثبتت الواو مفتوحة في تعدو على القاعدة
مثل أن تغزو وفي بعض النسخ بحذف الواو ويتخرج على الجزم
بلن مثل لمن ترع (ولئن أدبرت) عن الإسلام (ليعقرنك الله).
ليهلكنك ومطابقته للترجمة في قوله: ولن تعدو أمر الله فيك.
وسبق الحديث في أواخر المغازي.
7462 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ
الْوَاحِدِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا
أَمْشِى مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ حَرْثِ الْمَدِينَةِ وَهْوَ
يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ فَمَرَرْنَا عَلَى
نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ
تَسْأَلُوهُ أَنْ يَجِىءَ فِيهِ بِشَىْءٍ تَكْرَهُونَهُ
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ فَقَامَ إِلَيْهِ
رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا
الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ
فَقَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلاً} [الإسراء: 85]». قَالَ الأَعْمَشُ: هَكَذَا فِى
قِرِاءَتِنَا.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي (عن عبد
الواحد) بن زياد (عن الأعمش) سليمان (عن إبراهيم) النخعي
(عن علقمة) بن قيس (عن ابن مسعود) عبد الله -رضي الله عنه-
أنه (قال: بينا) بغير ميم (أنا أمشي مع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض حرث المدينة) بالحاء
المهملة والمثلثة ولأبي ذر حرث بالتنوين بالمدينة بزيادة
حرف الجر وللمستملي خرب بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء
والتنوين بالمدينة (وهو يتوكأ على عسيب) من جريد النخل
(معه فمررنا على نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن
الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه أن يجيء فيه بشيء تكرهونه)
وهو إبهمامه إذ هو مبهم في التوراة وأنه مما استأثر الله
بعلمه فإن أبهمه دل على نبوّته وهمزة أن مفتوحة (فقال
بعضهم: لنسألنه) عنه (فقام إليه رجل منهم فقال: يا أبا
القاسم ما الروح فسكت عنه
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعلمت أنه يوحى
إليه فقال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي})
الجمهور على أنه الروح الذي في الحيوان سألوه عن حقيقته
فأخبر أنه من أمر الله أي مما استأثر الله بعلمه وقيل
سألوه عن خلق الروح أهو مخلوق أم لا وقوله من أمر ربي دليل
على خلق الروح فكان هذا جوابًا ({وما أوتيتم}) بواو بعد
الفوقية ({من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85]. قال
الأعمش): سليمان (هكذا في قراءتنا) وهو خطاب لليهود لأنهم
قالوا قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة. {ومن يؤت الحكمة
فقد أوتي خيرًا كثيرًا} [البقرة: 269] فقيل لهم إن علم
التوراة قليل في جنب علم الله فالقلة والكثرة من الأمور
الإضافية فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا
أنها إذا أضيفت إلى علم الله تعالى فهي قليلة. قال في
الفتح: ووقع في رواية الكشميهني وما أوتيتم وفق القراءة
المشهورة.
والحديث سبق قريبًا.
30 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى
لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى
وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
{وَلَوْ أَنَّ مَا فِى الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ
وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ
حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ
تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]
سَخَّرَ: ذَلَّلَ.
(باب قول الله تعالى: {قل لو كان البحر}) أي ماء البحر
({مدادًا لكلمات ربي}) أي لو كتبت كلمات علم الله وحكمته
وكان البحر مدادًا لها والمراد بالبحر الجنس ({لنفد البحر
قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله}) بمثل البحر
({مدادًا} [الكهف: 159]) لنفد أيضًا والكلمات غير نافدة
ومددًا
(10/419)
تمييز أو المراد مثل المداد وهو ما يمد به
ينفد ({ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من
بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} [لقمان: 27]) أي ولو
ثبت كون الأشجار أقلامًا وثبت البحر ممدودًا بسبعة أبحر.
وكان مقتضى الكلام أن يقال ولو أن الشجر أقلام والبحر مداد
لكن أغنى عن ذكر المداد قوله يمده لأنه من قولك مدّ الدواة
وأمدها جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة
مملوءة مدادًا فهي تصب في مدادها أبدًا صبًّا حتى لا
ينقطع، والمعنى ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود
بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله
لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد لقوله: {قل لو كان
البحر مدادًا لكلمات ربي}.
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره من طريق أبي الجوزاء قال: لو
كان كل شجرة في الأرض أقلامًا والبحر مدادًا لنفد الماء
وتكسرت الأقلام قبل أن تنفد كلمات الله. وقال ابن أبي
حاتم: حدّثني أبي سمعت بعض أهل العلم يقول قول الله: {إنّا
كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] وقوله: {قل لو كان البحر
مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر} الآية يدل على أن البحر غير
مخلوق لأنه لو كان مخلوقًا لكان له قدر وكانت له غاية
ولنفد كنفاد المخلوقين وتلا قوله تعالى: {قل لو كان البحر
مدادًا لكلمات ربي} إلى آخر الآية. ({إن ربكم الله الذي
خلق السماوات والأرض في ستة أيام}) أراد السماوات والأرض
وما بينهما أي من الأحد إلى الجمعة لاعتبار الملائكة شيئًا
فشيئًا وللإعلام بالتأني في الأمور وإن لكل عمل يومًا لأن
إنشاء شيء بعد شيء أدل على عالم مدبر مريد يصرفه على
اختياره ويجريه على مشيئته ({ثم استوى}) استولى ({على
العرش}) أضاف الاستيلاء إلى العرش وإن كان سبحانه مستوليًا
على جميع المخلوقات لأن العرش أعظمها وأعلاها وتفسير العرش
بالسرير والاستواء بالاستقرار كما يقوله المشبهة باطل لأنه
تعالى كان قبل العرش ولا مكان وهو الآن كما كان لأن التغير
من صفات الأكوان ({يغشي الليل النهار}) أي يلحق الليل
بالنهار والنهار بالليل ({يطلبه حثيثًا}) حال من الليل أي
سريعًا والطالب هو الليل كأنه لسرعة مضيه يطلب النهار
({والشمس والقمر والنجوم}) أي وخلقها ({مسخرات}) حال أي
مذللات ({بأمره}) هو أمر تكوين ({ألا له الخلق والأمر}) أي
هو الذي خلق الأشياء وله الأمر ({تبارك الله رب العالمين}
[الأعراف: 54]) كثر خيره أو دام برّه من البركة والنماء
(سخر: ذلل). باللام وسقط لأبي ذر من قوله: {يغشي الليل
النهار} الخ وقال بعد قوله: {النهار} الآية.
7463 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَكَفَّلَ
اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ مِنْ
بَيْتِهِ، إِلاَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ
كَلِمَتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ
إِلَى مَسْكَنِهِ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ
غَنِيمَةٍ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن
الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه-
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(تكفل الله) فضلاً منه تعالى (لمن جاهد في سبيله لا يخرجه
من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته) بالإفراد ولأبي
ذر عن الكشميهني والمستملي وتصديق كلماته (أن يدخله الجنة
أو يردّه إلى مسكنه) الذي خرج منه (بما نال من أجر) بغير
غنيمة إن لم يغنموا (أو) من أجر مع (غنيمة) إن غنموا.
والحديث سبق قريبًا.
31 - باب فِى الْمَشِيئَةِ وَالإِرَادَةِ
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}
[آل عمران: 26] {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ
ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23،
24]
{إنك لا تَهدي مَن أحببت وَلكِن الله يَهدي مَن يَشاءُ}
[القصص: 56] قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: عَنْ
أَبِيهِ نَزَلَتْ فِى أَبِى طَالِبٍ: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
هذا (باب) بالتنوين (في المشيئة والإرادة) فلا فرق بين
المشيئة والإرادة إلا عند الكرامية حيث جعلوا المشيئة صفة
واحدة أزلية تتناول ما يشاء الله تعالى بها من حيث يحدث
والإرادة حادية متعددة بعدد المرادات ويدل لأهل السنة قوله
تعالى: ({وما تشاؤون إلا أن يشاء الله}) قال إمامنا
الشافعي: فيما رواه البيهقي عن الربيع بن سليمان عنه
المشيئة إرادة الله وقد أعلم الله خلقه أن المشيئة له
دونهم فقال وما تشاؤون إلا أن يشاء الله فليست للخلق مشيئة
إلا أن يشاء الله تعالى اهـ.
وقد دلت الآية على أنه تعالى خالق أفعال العباد وأنهم لا
يفعلون إلا ما يشاء وقال تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتلوا}
[البقرة: 253] ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {ولكن الله يفعل ما
يريد} فدل على أنه فعل اقتتالهم الواقع بينهم لكونه مريدًا
له وإذا كان هو الفاعل لاقتتالهم فهو المريد لمشيئتهم
والفاعل فثبت بذلك أن كسب العباد
(10/420)
إنما هو بمشيئة الله وإرادته ولو لم يرد
وقوعه ما وقع.
وقسم بعضهم الإرادة إلى قسمين إرادة أمر وتشريع، وإرادة
قضاء وتقدير، فالأولى تتعلق بالطاعة والمعصية سواء وقعت أم
لا، والثانية شاملة لجميع الكائنات محيطة بجميع الحادثات
طاعة ومعصية وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: {يريد الله
بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وإلى الثاني
بقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا} [الأنعام: 125].
(وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على المجرور السابق وسقط
الباب وتاليه لغير أبي ذر فقوله وقول الله تعالى رفع
({تؤتي الملك من تشاء} [آل عمران: 26]) وقوله تعالى: ({ولا
تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا * إلا أن يشاء الله} [الكهف:
23، 24]) وقوله تعالى: ({إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله
يهدي من يشاء} [القصص: 56]) يخلق فعل الاهتداء فيما يشاء
فدلت هذه الآيات على إثبات الإرادة والمشيئة لله تعالى وأن
العباد لا يريدون شيئًا إلا وقد سبقت إرادة الله تعالى له
وأنه الخالق لأعمالهم طاعة أو معصية.
(قال سعيد بن المسيب عن أبيه نزلت) آية {إنك لا تهدي من
أحببت} (في أبي طالب) وقد أجمع المفسرون على أنها نزلت فيه
كما قاله الزجاج، وهذا التعليق وصله في تفسر سورة القصص.
وقوله: ({يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر})
[البقرة: 185] تمسك به المعتزلة بأنه لا يريد المعصية.
وأجيب بأن معنى إرادة اليسر التخيير بين الصوم في السفر
ومع المرض والإفطار بشرطه وإرادة العسر المنفية الإلزام
بالصوم في السفر في جميع الحالات فالإلزام هو الذي لا يقع
لأنه لا يريده وقد تكرر ذكر الإرادة في القرآن، واتفق أهل
السُّنّة على أنه لا يقع إلا ما يريده الله تعالى وأنه
مريد لجميع الكائنات وإن لم يكن آمرًا بها. وقالت
المعتزلة: لا يريد الشر لأنه لو أراده لطلبه وشنعوا على
أنه يلزمهم أن يقولوا وإن الفحشاء مرادة لله تعالى وينبغي
أن ينزه عنها. وأجاب أهل السُّنَّة: بأن الله تعالى قد
يريد الشيء ولا يرضاه ليعاقب عليه ولثبوت أنه خلق الجنة
والنار وخلق لكلٍّ أهلاً وألزموا المعتزلة بأنهم جعلوا أنه
يقع في ملكه ما لا يريده.
7464 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِى
الدُّعَاءِ، وَلاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنْ شِئْتَ
فَأَعْطِنِى فَإِنَّ اللَّهَ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا عبد
الوارث) بن سعيد (عن عبد العزيز) بن صهيب (عن أنس) -رضي
الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا دعوتم الله) عز وجل (فاعزموا) بهمزة وصل (في الدعاء)
وفي الدعوات فليعزم المسألة فليقطع بالسؤال ويجزم به حسن
ظن بكرم ربه تعالى (ولا يقولن أحدكم إن شئت فأعطني) بهمزة
قطع أي لا يشترط المشيئة لعطائه لأنه أمر متيقن أنه لا
يعطي إلا أن يشاء فلا معنى لاشتراط المشيئة لأنها إنما
تشترط فيما يصح أن يفعل بدونها من إكراه أو غيره ولذا أشار
عليه السلام بقوله (فإن الله لا مستكره له). بكسر الراء
وأيضًا ففي قوله إن شئت نوع من الاستغناء عن عطائه قول
القائل إن شئت أن تعطيني كذا فافعل ولا يستعمل هذا غالبًا
إلا في مقام يشعر بالغنى وأما مقام الاضطرار فإنما فيه عزم
المسألة وبتّ الطلب.
والحديث سبق في الدعوات ومطابقته لما ترجم به هنا في قوله:
إن شئت.
7465 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ ح وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ
حَدَّثَنِى أَخِى عَبْدُ الْحَمِيدِ، عَنْ سُلَيْمَانَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِىٍّ
-عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِىَّ بْنَ
أَبِى طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لَيْلَةً فَقَالَ لَهُمْ: «أَلاَ تُصَلُّونَ»؟ قَالَ
عَلِىٌّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا
أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ
يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ
وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهْوَ
مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ: «{وَكَانَ
الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلاً}»
[الكهف: 54].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم (ح)
للتحويل قال المؤلف.
(وحدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثنا أخي عبد
الحميد) أبو بكر بن أبي أويس الأصبحي (عن سليمان) بن بلال
(عن محمد بن أبي عتيق) عبد الرحمن الصديقي التيمي (عن ابن
شهاب) الزهري (عن علي بن حسين) بضم الحاء (أن) أباه (حسين
بن علي عليهما السلام أخبره أن) أباه (علي بن أبي طالب)
-رضي الله عنه- (أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طرقه وفاطمة بنت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة) أي أتاهما في ليلة ونصب
فاطمة عطفًا على الضمير المنصوب في طرقه (فقال لهم) لعلي
وفاطمة ومن عندهما يحضهم.
(ألا) بالتخفيف (تصلون. قال علي) -رضي الله عنه- (فقلت: يا
رسول الله وإنما أنفسنا بيد الله) استعارة لقدرته عز وجل
(فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا) أن
(10/421)
يوقظنا للصلاة أيقظنا (فانصرف رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مدبرًا (حين قلت) له
(ذلك ولم يرجع) بفتح أوله وكسر ثالثه (إلي) بالتشديد
(شيئًا) لم يجبني بشيء (ثم سمعته وهو مدبر) حال كونه (يضرب
فخذه) بالمعجمتين تعجبًا من سرعة الجواب (ويقول) والحال
أنه يقول ({وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54]) نصب
على التمييز يعني أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء،
وقراءته الآية كما قال في الكواكب إشارة إلى أن الشخص يجب
عليه متابعة أحكام الشريعة لا ملاحظة الحقيقة ولذا جعل
جوابه من باب الجدل.
ومطابقة الحديث في قوله إذا شاء، وسبق في باب قوله: {وكان
الإنسان أكثر شيء جدلاً} من الاعتصام.
7466 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِىٍّ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه -
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ
الزَّرْعِ، يَفِىءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا
الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا، فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ،
وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلاَءِ، وَمَثَلُ
الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً
حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سنان) العوقي أبو بكر قال:
(حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام وبعد التحتية الساكنة
حاء مهملة ابن سليمان العدوي مولاهم المدني قال: (حدّثنا
هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(مثل المؤمن كمثل خامة الزرع) بالخاء المعجمة وتخفيف الميم
الطاقة الغضة الرطبة أول ما تنبت على ساقه (يفيء) بالتحتية
المفتوحة والفاء المكسورة بعدها همزة ممدودًا يتحوّل ويرجع
(ورقه من حيث أتتها الريح) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
من حيث انتهى الريح بالنون (تكفئها) بضم الفوقية وفتح
الكاف وكسر الفاء مشددة بعدها همزة تقلبها وتحوّلها من جهة
إلى جهة أخرى (فإذا سكنت) الريح (اعتدلت وكذلك المؤمن يكفأ
بالبلاء) بضم التحتية وفتح الكاف والفاء المشددة
ضربه مثلاً للمؤمن فإنه يسر مرة ويبتلى مرة وكذلك خامة
الزرع تعتدل مرة عند سكون الريح وتضطرب أخرى عند هبوبها
(ومثل الكافر كمثل الأرزة) بفتح الهمزة والزاي بينهما راء
ساكنة آخرها هاء تأنيث شجر الصنوبر كما قاله أبو عبيدة.
وقال الداودي: الأرزة من أعظم الشجر لا يميل الريح أكبرها
ولا تهتز من أسفلها ورواها أصحاب الحديث بإسكان الراء وروي
كمثل الأرزة على وزن فاعلة أي كمثل الشجرة الثابتة ورويت
بتحريك الراء والذي رويناه بإسكانها (صماء معتدلة حتى
يقصمها الله) عز وجل (إذا شاء) فيكون الموت أشد عذابًا
عليه.
ومطابقة الحديث في قوله إذا شاء أيضًا. والحديث سبق في
أوائل الطب.
7467 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى
الله عنهما - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ قَائِمٌ عَلَى
الْمِنْبَرِ: «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ
قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ
إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أُعْطِىَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ
التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ
النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا
قِيرَاطًا، ثُمَّ أُعْطِىَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ
فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا
فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُعْطِيتُمُ
الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ،
فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالَ أَهْلُ
التَّوْرَاةِ: رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَقَلُّ عَمَلاً
وَأَكْثَرُ أَجْرًا قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ
أَجْرِكُمْ مِنْ شَىْءٍ»؟ قَالُوا: لاَ، فَقَالَ:
«فَذَلِكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».
وبه قال: (حدّثنا الحكم بن نافع) أبو اليمان قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال:
(أخبرني) بالإفراد (سالم بن عبد الله أن) أباه (عبد الله
بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو قائم على المنبر) زاد أبو
ذر عن الكشميهني يقول:
(إنما بقاؤكم فيما) ولأبي ذر عن الكشميهني فيمن أي إنما
بقاؤكم بالنسبة إلى ما أومن (سلف قبلكم من الأمم كلما بين)
أجزاء وقت (صلاة العصر) المنتهية (إلى غروب الشمس أعطى أهل
التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا) عن
استيفاء عمل النهار كله (فأعطوا قيراطًا)، الأول مفعول
أعطي وقيراطًا الثاني تأكيد والمراد بالقيراط هنا النصيب
وكرر ليدل على تقسيم القراريط على جميعهم (ثم أعطي أهل
الإنجيل الإنجيل فعملوا به) من نصف النهار (حتى صلاة العصر
ثم عجزوا) عن الحمل (فأعطوا قيراطًا قيراطًا ثم أعطيتم
القرآن فعملتم به) من العصر (حتى غروب الشمس فأعطيتم
قيراطين قيراطين) بالتثنية (قال أهل التوراة ربنا هؤلاء
أقل عملاً) بالإفراد ولأبي ذر أعمالاً (وأكثر أجرًا) ولأبي
ذر عن الكشميهني جزاء (قال) الله تعالى (هل ظلمتكم) أي هل
نقصتكم (من أجركم) بالإفراد (من شيء)؟ ولأبي ذر عن
الكشميهني من أجوركم شيئًا (قالوا: لا. فقال: فذلك) في فكل
ما أعطيته من الأجر (فضلي أوتيه من أشاء).
هذا موضع الترجمة من الحديث وسبق في باب من أدرك ركعة من
العصر قبل الغروب من كتاب الصلاة.
7468 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْمُسْنَدِىُّ
حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِىِّ، عَنْ أَبِى إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى رَهْطٍ فَقَالَ:
«أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ
شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ
تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ
تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ
تَعْصُونِى فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ
شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِى الدُّنْيَا فَهْوَ لَهُ
كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ
إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ
لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله) بن محمد (المسندي) بضم الميم
وسكون المهملة وفتح
(10/422)
النون قال: (حدّثنا هشام) هو ابن يوسف
الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) بفتح اليمين بينهما مهملة
ساكنة ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن أبي إدريس)
عائذ الله بالمعجمة الخولاني (عن عبادة بن الصامت) -رضي
الله عنه- أنه (قال: بايعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في رهط) هم النقباء الذين بايعوا ليلة
العقبة بمنى قبل الهجرة (فقال):
(أبايعكم على) التوحيد (أن لا تشركوا بالله شيئًا و) على
أن (لا تسرقوا) بحذف المفعول ليدل على العموم (ولا تزنوا
ولا تقتلوا أولادكم) وإنما خصهم بالذكر لأنهم كانوا غالبًا
يقتلونهم خشية الإملاق (ولا تأتوا ببهتان) بكذب يبهت سامعه
كالرمي بالزنا (تفقرونه) تختلقونه (بين أيديكم وأرجلكم)
وكنّى باليد والرجل عن الذات إذ معظم الأفعال بهما (ولا
تعصوني) ولأبي ذر عن الكشميهني ولا تعصوا (في معروف) وهو
ما عرف من الشارع حسنه نهيًا وأمرًا (فمن وفى منكم) بتخفيف
الفاء وتشدد ثبت على العهد (فأجره على الله) فضلاً ووعدًا
بالجنة (ومن أصاب) منكم أيها المؤمنون (من ذلك شيئًا) غير
الكفر (فأخذ) بضم الهمزة وكسر الخاء المعجمة وفي الإيمان
فعوقب (به في الدنيا) بأن أقيم عليه الحدّ مثلاً (فهو) أي
العقاب (له كفارة وطهور) بفتح الطاء أي مطهرة لذنوبه فلا
يعاقب عليها في الآخرة (ومن ستره الله فذلك) أي فأمره (إلى
الله) عز وجل (إن شاء عذبه) لعدله (وإن شاء غفر له) بفضله
والغرض منه هنا قوله إن شاء غفر له على ما لا يخفى.
وسبق في كتاب الإيمان بعد قوله باب علامة الإيمان.
7469 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ
السَّلاَمُ - كَانَ لَهُ سِتُّونَ امْرَأَةً فَقَالَ:
لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِى فَلْتَحْمِلْنَ
كُلُّ امْرَأَةٍ وَلْتَلِدْنَ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِى
سَبِيلِ اللَّهِ، فَطَافَ عَلَى نِسَائِهِ فَمَا وَلَدَتْ
مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلاَمٍ قَالَ:
نَبِىُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«لَوْ كَانَ سُلَيْمَانُ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ
امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِى
سَبِيلِ اللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا معلى بن أسد) العمي أبو الهيثم الحافظ
قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو وفتح الهاء ابن خالد البصري
(عن أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن سيرين (عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- (أن نبي الله سليمان عليه الصلاة
والسلام كان له ستون امرأة فقال: لأطوفن الليلة على نسائي)
أي لأجامعن (فلتحملن) بسكون اللامين وتخفيف النون وقد
يفتحان وتشدّد النون (كل امرأة) منهن (ولتلدن) بسكون
وتخفيف أو فتح وتثسديد وفي الملكية أو لتلدنّ (فارسًا
يقاتل في سبيل الله) عز وجل (فطاف على نسائه) أي جامعهن
(فما ولدت منهن إلا امرأة) واحدة (ولدت شق غلام) بكسر
الشين المعجمة ولأبي ذر عن الكشميهني جاءت بشق غلام وحكى
النقاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي ألقي على
كرسيه (قال نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لو كان سليمان استثنى) قال إن شاء الله (لحملت كل امرأة
منهن فولدت فارسًا يقاتل في سبيل الله). عز وجل. ولفظ ستون
لا ينافي سبعين وتسعين إذ مفهوم العدد لا اعتبار له، وواقع
في الجهاد مائة امرأة أو تسع وتسعون بالشك، وجمع بأن
الستين حرائر وما سواهن سراري، وفي أحاديث الأنبياء زيادة
فوائد تراجع والله الموفق.
والمطابقة بين الحديث والترجمة ظاهرة.
7470 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ الثَّقَفِىُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ
الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى
الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِىٍّ يَعُودُهُ
فَقَالَ: «لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ». قَالَ: قَالَ الأَعْرَابِىُّ: طَهُورٌ بَلْ هِىَ
حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ
الْقُبُورَ. قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «فَنَعَمْ إِذًا».
وبه قال: (حدّثنا محمد) هو ابن سلام كما قاله ابن السكن أو
هو ابن المثنى قال: (حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد
(الثقفي) قال: (حدّثنا خالد الحداء) بالحاء المهملة والذال
المعجمة المشددة ممدودًا (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن
عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل على أعرابي يعوده) بالدال المهملة
من عاد المريض إذا زاره والأعرابي قال الزمخشري في ربيعه
هو قيس بن أبي حازم (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- له:
(لا بأس عليك طهور) أي مرضك مطهر لذنوبك (إن شاء الله.
قال) ابن عباس: (قال الأعرابي) استبعادًا لقوله عليه
الصلاة والسلام طهور وفهم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترجى حياته فلم يوافق على ذلك لما
وجده من المرض المؤذن بموته فقال: (بل حمى) ولأبي ذر عن
الكشميهني بل هي حمى (تفور) بالفاء تغلى بالغين المعجمة
(على شيخ كبير تزيرُهُ القبور) بضم الفوقية وكسر الزاي من
أزاره إذا حمله على الزيارة والضمير المرفوع للحمى
والمنصوب للأعرابي والقبور مفعول أي ليس كما رجوت لي من
تأخير الوفاة بل الموت من هذا المرض هو الواقع، ولا بد لما
أحسّه
(10/423)
من نفسه (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فنعم إذًا) فيه دليل على أن قوله لا
بأس عليك إنما كان على طريق الترجي لا على
طريق الإخبار عن الغيب كذا في المصابيح، وذكر المؤلف
الحديث في علامات النبوّة وذكرت، ثم إن الطبراني زاد فيه
أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال للأعرابي: إذ
أبيت فهي كما تقول وقضاء الله كائن فما أمسى من الغد إلا
ميتًا، وأن الحافظ ابن حجر قال: إن بهذه الزيادة يظهر دخول
الحديث في علامات النبوّة.
7471 - حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ
عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ،
عَنْ أَبِيهِ حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلاَةِ قَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ
اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ وَرَدَّهَا
حِينَ شَاءَ»، فَقَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَتَوَضَّؤُوا
إِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَضَّتْ فَقَامَ
فَصَلَّى.
وبه قال: (حدّثنا ابن سلام) هو محمد قال: (أخبرنا هشيم)
بضم الهاء مصغرًا ابن بشير (عن حصين) بضم الحاء وفتح الصاد
المهملتين ابن عبد الرحمن السلمي أبي الهذيل الكوفي ابن عم
منصور (عن عبد الله بن قتادة) أبي إبراهيم السلمي (عن
أبيه) أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري أنهم (حين ناموا
عن الصلاة) كذا أورده هنا مختصرًا بحذف من أوله وساقه في
باب حكم الأذان بعد ذهاب الوقت بلفظ: سرنا مع النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة فقال بعض القوم:
لو عرست بنا يا رسول الله. فقال: "أخاف أن تناموا عن
الصلاة". قال بلال: أنا أوقظكم فاضطجعوا وأسند بلال ظهره
إلى راحلته فغلبته عيناه فنام فاستيقظ النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد طلع حاجب الشمس فقال: "يا
بلال أين ما قلت"؟ قال: ما أُلقيت عليّ نومة مثلها قطّ
(قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن الله قبض أرواحكم) أي أنفسكم قال تعالى: {الله يتوفى
الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]
وقبضها هنا بقطع تعلقها عن الأبدان وتصرفها ظاهرًا لا
باطنًا (حين شاء وردّها) عليكم عند اليقظة (حين شاء فقضوا
حوائجهم وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضت) بتشديد الضاد
من غير ألف أي صفت (فقام) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فصلّى) بالناس الصبح الفائتة قضاء، والمطابقة
ظاهرة.
7472 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ،
وَالأَعْرَجِ وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِى أَخِى
عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى عَتِيقٍ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِى
اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ فِى قَسَمٍ
يُقْسِمُ بِهِ فَقَالَ الْيَهُودِىُّ: وَالَّذِى اصْطَفَى
مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ
عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ الْيَهُودِىَّ فَذَهَبَ
الْيَهُودِىُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِى كَانَ مِنْ
أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تُخَيِّرُونِى عَلَى
مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ
بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلاَ أَدْرِى أَكَانَ فِيمَنْ
صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِى أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى
اللَّهُ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن قزعة) بفتح القاف والزاي والعين
المهملة المكي المؤذن قال: (حدّثنا إبراهيم) بن سعد بن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (والأعرج) عبد
الرحمن بن هرمز قال البخاري: (وحدّثنا إسماعيل) بن أبي
أويس قال: (حدّثني) بالإفراد (أخي) عبد الحميد (عن سليمان)
بن بلال (عن محمد بن أبي عتيق) هو محمد بن عبد الله بن أبي
عتيق واسم أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
(عن ابن شهاب) الزهري (عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن
المسيب) بن حزن المخزومي أحد الأعلام وسيد التابعين (أن
أبا هريرة) -رضي الله عنه- (قال: استب رجل من المسلمين) هو
أبو بكر الصديق كما في جامع سفيان بن عيينة والبعث لابن
أبي الدنيا لكن في تفسير الأعراف بالتصريح بأنه من الأنصار
فيحتمل تعدّد القصة (ورجل من اليهود) قيل إنه فنحاص وفيه
نظر سبق في الخصومات (فقال المسلم: و) الله (الذي اصطفى
محمدًا على العالمين) من جن وإنس وملائكة (في قسم يقسم به،
فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلم
يده عند ذلك فلطم اليهودي) عقوبة له على كذبه لما فهمه من
عموم لفظ العالمين الشامل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، والمقرر أنه أفضل (فذهب اليهودي إلى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبره بالذي كان من
أمره وأمر المسلم فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): (لا تخيروني على موسى) تخييرًا يؤدي إلى
تنقيصه أو يفضي بكم إلى الخصومة أو قاله تواضعًا أو قبل أن
يعلم سؤدده عليهم (فإن الناس يصعقون) يغشى عليهم من الفزع
عند النفخ في الصور (يوم القيامة) فأصعق معهم (فأكون أول
من يفيق فإذا موسى باطش) آخذ بقوة (بجانب العرش فلا أدري
أكان) بهمزة الاستفهام (فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن
استثنى الله) عز وجل في قوله: {فصعق مَن في السماوات ومن
في الأرض إلا من شاء الله} [الزمر: 68].
ومطابقة الحديث ظاهرة وسبق في الخصومات.
7473 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِى عِيسَى،
أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ،
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه -
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ
فَيَجِدُ الْمَلاَئِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلاَ
يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ وَلاَ الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن أبي عيسى) جبريل وليس له إلا
هذه الرواية قال: (أخبرنا يزيد بن هارون) أبو خالد السلمي
الواسطي أحد الأعلام قال:
(10/424)
(أخبرنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن
دعامة (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(المدينة) طابة (يأتيها الدجال) الأعور الكذاب ليدخلها
(فيجد الملائكة) على أنقابها (يحرسونها فلا يقربها الدجال
ولا الطاعون إن شاء الله) تعالى. وهذا الاستثناء للتبرّك
والتأدّب وليس للشك والغرض منه التحريض على سكنى المدينة
ليحترسوا بها من الفتنة والحديث سبق في الفتن.
7474 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ فَأُرِيدُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِىَ دَعْوَتِى شَفَاعَةً
لأُمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة ابن أبي حمزة
بالحاء المهملة والزاي الحافظ أبو بشر الحمصي مولى بني
أمية (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال: (حدّثني) بالإفراد
(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (أن أبا هريرة) -رضي الله
عنه- (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لكل نبي دعوة) مقطوع باستجابتها (فأريد إن شاء الله) عز
وجل (أن أختبئ) أن أدّخر (دعوتي) المحقّقة الإجابة (شفاعة
لأمتي يوم القيامة). جزاه الله عنّا أفضل ما جزى نبيًّا عن
أمته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
7475 - حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ
اللَّخْمِىُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ
الزُّهْرِىِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِى
عَلَى قَلِيبٍ، فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
أَنْزِعَ ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِى قُحَافَةَ فَنَزَعَ
ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ
وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا عُمَرُ
فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ
النَّاسِ يَفْرِى فَرِيَّهُ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ
حَوْلَهُ بِعَطَنٍ».
وبه قال: (حدّثنا يسرة بن صفوان) بفتح التحتية والسين
المهملة (ابن جميل) بالجيم المفتوحة (اللخمي) قال: (حدّثنا
إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن
عوف (عن الزهري محمد) بن مسلم (عن سعيد بن المسيب)
المخزومي (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبوي
الوقت وذر قال النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(بينا) بغير ميم (أنا نائم رأيتني) بضم الفوقية رأيت نفسي
(على قليب) بفتح القاف وكسر اللام وبعد التحتية الساكنة
موحدة بئر (فنزعت) من مائها (ما شاء الله) عز وجل (أن أنزع
ثم أخذها) مني (ابن أبي قحافة) أبو بكر الصديق -رضي الله
عنهما- (فنزع) من البئر (ذنوبًا أو ذنوبين) دلوًا أو دلوين
(وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها عمر) بن الخطاب
-رضي الله عنه- (فاستحالت) أي الدلو في يده (غربًا) بفتح
الغين المعجمة وسكون الراء من الصغر إلى الكبر (فلم أرَ
عبقريًّا) بسكون الموحدة وفتح القاف سيدًا (من الناس يفري)
بفتح أوّله وسكون الفاء (فريه) بفتح الفاء والتحتية أي لم
أرَ سيدًا يعمل عمله في غاية الإجادة ونهاية الإصلاح (حتى
ضرب الناس حوله بعطن). وهو الموضع الذي تساق إليه الإبل
بعد السقي للاستراحة وهذا مثال لما جرى للعمريين -رضي الله
عنهما- في خلافتهما وانتفاع الناس بهما بعده -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان عليه السلام هو صاحب
الأمر قام به أكمل قيام وقرر قواعد الإسلام ومهد أساسه
وأوضح أصوله وفروعه، فخلفه
أبو بكر -رضي الله عنه- وقطع دابر أهل الردّة، فخلفه عمر
فاتسع الإسلام في زمانه فشبه أمر المسلمين بالقليب لما
فيها من الماء الذي به حياتهم وأميرهم بالمستقي لهم، وليس
في قوله وفي نزعه ضعف حط من مرتبة أبي بكر وترجيح لعمر
عليه إنما هو إخبار عن قصر مدة ولايته وطول مدة عمر وكثرة
انتفاع الناس به لاتساع بلاد الإسلام، وأما قوله: والله
يغفر له فهي كلمة يدعم بها المتكلم كلامه ونعمت الدعامة
وليس فيها تنقيص ولا إشارة إلى ذنب قاله في الكواكب. وسبق
ذلك غيره في المناقب مع غيره وذكرته هنا لطول العهد به.
7476 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِى بُرْدَةَ،
عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ
وَرُبَّمَا قَالَ: جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ
الْحَاجَةِ قَالَ: «اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا». وَيَقْضِى
اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) أبو كريب الهمداني
الحافظ قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن بريد)
بضم الموحدة وفتح الراء ابن عبد الله (عن) جده (أبي بردة)
بضم الموحدة وسكون الراء عامر أو الحارث (عن) أبيه (أبي
موسى) عبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنه- أنه (قال:
كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أتاه
السائل وربما قال جاءه السائل أو صاحب الحاجة قال): لمن
عنده من أصحابه:
(اشفعوا) في حاجته لديّ (فلتؤجروا) بسبب شفاعتكم. قال في
المصابيح: لم أتحرّ الرواية في لام فلتؤجروا هل هي ساكنة
أو محركة فإن كانت ساكنة تعيّن كونها لام الطلب وإن كانت
مكسورة احتمل كونها للطلب، وكونها حرف جر وعلى الأول ففيه
دخول الأمر على الفاعل المخاطب
(10/425)
وهو قليل، وعلى الثاني فيحتمل كون الفاء
زائدة واللام متعلقة بالفعل المتقدم، ويحتمل أن تكون الفاء
زائدة واللام متعلقة بفعل محذوف أي اشفعوا فلأجل أن تؤجروا
أمرتكم بذلك اهـ.
قلت: والذي في فرع اليونينية ورويته بسكون اللام (ويقضي
الله على لسان رسوله ما شاء). ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي ما يشاء أي يظهر الله على لسان رسوله بالوحي أو
الإلهام ما قدره في علمه أنه سيكون.
والحديث سبق في باب قول الله تعالى من يشفع شفاعة حسنة من
كتاب الأدب.
7477 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِى إِنْ شِئْتَ ارْحَمْنِى إِنْ شِئْتَ
ارْزُقْنِى إِنْ شِئْتَ وَلْيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ إِنَّهُ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى) هو ابن موسى الجعفي أو أبو جعفر
البلخي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام بن نافع الحافظ
الصنعاني (عن معمر) هو ابن راشد (عن همام) هو ابن منبه أنه
(سمع أبا هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت) اللهم (ارحمني إن
شئت) اللهم (ارزقني إن شئت) ونحو ذلك فلا يشك في القبول بل
يستيقن وقوع مطلوب به ولا يعلق ذلك بمشيئة الله (وليعزم
مسألته) وليجزم بها حُسْن ظن بكرم أكرم الكرماء (إنه)
تعالى (يفعل ما يشاء لا مكروه له) بكسر الراء تعالى الله.
نعم لو قال: إن شاء الله للتبرك لا للاستثناء لم يكره.
والحديث سبق قريبًا ومطابقته ظاهرة.
7478 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ، عَمْرٌو، حَدَّثَنَا
الأَوْزَاعِىُّ، حَدَّثَنِى ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ
مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما -
أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ
الْفَزَارِىُّ فِى صَاحِبِ مُوسَى أَهُوَ خَضِرٌ؟ فَمَرَّ
بِهِمَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِىُّ فَدَعَاهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّى تَمَارَيْتُ أَنَا
وَصَاحِبِى هَذَا فِى صَاحِبِ مُوسَى الَّذِى سَأَلَ
السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟
قَالَ: نَعَمْ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «بَيْنَا مُوسَى فِى
مَلإِ بَنِى إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ:
هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ فَقَالَ مُوسَى:
لاَ فَأُوحِىَ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ
فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ
اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ
الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى
يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِى الْبَحْرِ فَقَالَ فَتَى
مُوسَى لِمُوسَى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ
إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}؟ [الكهف: 63] قَالَ
مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِى فَارْتَدَّا عَلَى
آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا} [الكهف: 64] خَضِرًا
وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
أبو حفص عمرو) بفتح العين ابن أبي سلمة التنيسي بكسر
الفوقية والنون المشدّدة قال: (حدّثنا الأوزاعي) عبد
الرحمن قال: (حدّثني) بالإفراد (ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله بن عتبة بن
مسعود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه) أي ابن عباس
(تمارى) تنازع وتجادل (هو والحر) بضم الحاء المهملة وتشديد
الراء (ابن قيس بن حصن الفزاري) بفتح الفاء والزاي (في
صاحب موسى) عليه السلام (أهو خضر فمرّ بهما أُبيّ بن كعب
الأنصاري فدعاه ابن عباس فقال) له: (إني تماريت) تجادلت
(أنا وصاحبي هذا) الحر بن قيس (في صاحب موسى الذي سأل)
موسى (السبيل إلى لقيه هل سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر شأنه؟ قال) أبي (نعم إني سمعت
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(بينا) بغير ميم (موسى في ملأ بني) ولأبي ذر في مل (من بني
(إسرائيل) أي من أشرافهم أو في جماعة منهم (إذ جاءه رجل
فقال) يا موسى (هل تعلم أحدًا أعلم منكم؟ فقال موسى: لا)
أعلم أحدًا أعلم مني (فأوحى) بضم الهمزة ولأبي ذر عن
الكشميهني فأوحى الله (إلى موسى) عليه السلام (بلى) بفتح
اللام كعلى (عبدنا خضر) أعلم منك بما أعلمته من الغيوب
وحوادث القدرة مما لا يعلم الأنبياء منه إلا ما أعلموا به
(فسأل موسى السبيل) الطريق (إلى لقيه فجعل الله) عز وجل
(له الحوت) المملوح الميت (آية) علامة على مكان الخضر
ولقيه (وقيل له) يا موسى (إذا فقدت الحوت) بفتح القاف
(فارجع فإنك ستلقاه فكان موسى يتبع) بسكون القافية (أثر
الحوت في البحر، فقال فتى موسى) يوشع بن نون (لموسى:
{أرأيت}) ما دهاني ({إذ}) أي حين ({أوينا إلى الصخرة}) أي
الصخرة التي رقد عندها موسى أو التي دون نهر الزيت وذلك أن
الحوت اضطرب ووقع في البحر ({فإني نسيت الحوت وما إنسانيه
إلا الشيطان أن أذكره})؟ قال موسى: ({ذلك}) أي فَقْد الحوت
({ما كنا نبغ}) أي الذي نطلبه علامة على وجدان الخضر
({فارتدا على آثارهما}) يقصّان ({قصصًا فوجدا} خضرًا) عليه
السلام (فكان من شأنهما) الخضر وموسى (ما قصّ الله) عز وجل
في سورة الكهف.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله بقية الآية ستجدني إن شاء
الله صابرًا وقوله فأراد ربك.
والحديث سبق في باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى
الخضر من كتاب العلم.
7479 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ
صَالِحٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى يُونُسُ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نَنْزِلُ
غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ
تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ». يُرِيدُ الْمُحَصَّبَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم. قال
البخاري بالسند إليه: (وقال أحمد بن
(10/426)
صالح) أبو جعفر بن الطبري المصري الحافظ
فيما رواه عنه مذاكرة (حدّثنا ابن وهب) عبد الله قال:
(أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد (عن ابن شهاب) الزهري
(عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- (عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال) في حجة الوداع:
(ننزل غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا) أي
تحالف قريش (على الكفر) أي من أنهم لا يناكحوا بني هاشم
وبني المطلب ولا يبايعوهم ولا يساكنوهم بمكة حتى يسلموا
إليهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكتبوا
بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة قال البخاري: (يريد) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بخيف بني كنانة (المحصب) بضم
الميم وفتح الحاء والصاد المشدّدة المهملتين آخره موحدة
موضع بين مكة ومنى، والخيف في الأصل ما انحدر من غلظ الجبل
وارتفع من مسيل الماء.
والحديث سبق في الحج في باب نزول النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة من كتاب الحج.
ومطابقته لا خفاء بها.
7480 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِى
الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
حَاصَرَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَفْتَحْهَا فَقَالَ: «إِنَّا
قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ».
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَقْفُلُ وَلَمْ نَفْتَحْ قَالَ:
فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا فَأَصَابَتْهُمْ
جِرَاحَاتٌ قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ». فَكَأَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبَهُمْ فَتَبَسَّمَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
ابن عيينة) سفيان (عن عمرو) بفتح العين ابن دينار (عن أبي
العباس) السائب بن فرّوخ الشاعر المكي الأعمى (عن عبد الله
بن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- وفي رواية أبي ذر عن غير
الحموي والمستملي عن عبد الله بن عمرو بفتح العين وسكون
الميم أي ابن العاصي وصوّب الأول الدارقطني وغيره أنه
(قال: حاصر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهل
الطائف) ثمانية عشر يومًا (فلم يفتحها) وفي المغازي فلم
ينل منهم شيئًا (فقال: إنا قافلون) أي راجعون إلى المدينة
(إن شاء الله. فقال المسلمون: نقفل) بضم الفاء بعد سكون
القاف أي نرجع (ولم نفتح) حصنهم (قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فاغدوا على القتال) بالغين المعجمة
أي سيروا أوّل النهار لأجل القتال (فغدوا فأصابتهم جراحات)
لأن أهل الطائف رموهم من أعلى السور فكانوا ينالون منهم
بسهامهم ولا تصل السهام إليهم لكونهم أعلى السور ولم يفتح
لهم فلما رأوا ذلك ظهر لهم تصويب الرجوع (قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنا قافلون غدًا إن
شاء الله. فكأن) بتشديد النون (ذلك أعجبهم فتبسم رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). والحديث سبق في
المغازي.
32 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ
أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا
خَلَقَ رَبُّكُمْ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {مَنْ ذَا
الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:
255].
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِذَا تَكَلَّمَ
اللَّهُ بِالْوَحْىِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا
فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ
عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ وَنَادَوْا مَاذَا قَالَ:
رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ.
وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أُنَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «يَحْشُرُ اللَّهُ
الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ
بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ
أَنَا الدَّيَّانُ».
(باب قول الله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن
له}) أي أذن الله تعالى يعني إلا مَن وقع الإذن للشفيع
لأجله وهي اللام الثانية في قولك لزيد لعمرو أي لأجله
({حتى إذا فزع عن قلوبهم}) أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين
والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن
والتفزيع إزالة الفزع، وحتى غاية لا فهم من أن ثم انتظارًا
للإذن وتوقفًا وفرغًا من الراجين للشفاعة هل يؤذن لهم أو
لا يؤذن لهم كأنه قيل يتربصون ويتوقفون مليًّا فزعين حتى
إذا فزع عن قلوبهم ({قالوا}) سأل بعضهم بعضًا ({ماذا قال
ربكم قالوا}) قال ({الحق}) أي القول الحق وهو الإذن
بالشفاعة لمن ارتضى ({وهو العلي الكبير} [سبأ: 23]) ذو
العلو والكبرياء ليس
لملك ولا نبي أن يتكلم في ذلك اليوم إلا بإذنه وأن يشفع
إلا لمن ارتضى. وقال في الفتح: وأظن البخاري أشار بهذا إلى
ترجيح قول من قال إن الضمير في قوله عن قلوبهم للملائكة
وأن فاعل الشفاعة في قوله: ولا تنفع الشفاعة هم الملائكة
بدليل قوله بعد وصف الملائكة {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28] بخلاف قول من زعم أن
الضمير للكفار المذكورين في قوله تعالى: {ولقد صدّق عليهم
إبليس ظنه فاتبعوه} [سبأ: 20] كما نقله بعض المفسرين، وزعم
أن المراد بالتفزيع حالة مفارقة الحياة ويكون اتباعهم إياه
مستصحبًا إلى يوم القيامة على طريق المجاز والجملة من
قوله: قل أدعو الخ معترضة وحمل هذا القائل على هذا الزعم
أن قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم غاية لا بدّ لها من مغيًا
فادّعى أنه ما ذكره، وقال بعض المفسّرين من المعتزلة:
المراد بالزعم الكفر في قوله زعمتم أي تماديتم في الكفر
إلى غاية التفزيع، ثم تركتم زعمكم وقلتم قال الحق، وفيه
التفات من الخطاب إلى الغيبة.
(10/427)
ويفهم من سياق الكلام أن هناك فرعًا ممن
يرجو الشفاعة هل يؤذن له في الشفاعة أم لا فكأنه قال:
يتربصون زمانًا فزعين حتى إذا كشف الفزع عن الجميع بكلام
يقوله الله في إطلاق الإذن تباشروا بذلك، وسأل بعضهم
بعضًا: {ماذا قال ربكم قالوا الحق} أي القول الحق وهو
الإذن في الشفاعة لمن ارتضى.
قال الحافظ ابن حجر: وجميع ذلك مخالف لهذا الحديث الصحيح
ولأحاديث كثيرة تؤيده، والصحيح في إعرابها ما قاله ابن
عطية وهو أن المغيا محدود كأنه قيل ولا هم شفعاء كما
تزعمون بل هم عنده ممسكون لأمره إلى أن يزول الفزع عن
قلوبهم والمراد بهم الملائكة، وهو المطابق للأحاديث
الواردة في ذلك فهو المعتمد وغرض المؤلف من ذكر هذه الآية
بل من الباب كله إثبات كلام الله القائم بذاته تعالى،
ودليله أنه قال: ماذا قال ربكم (ولم يقل ماذا خلق ربكم)؟
وهذا أول باب ذكره المؤلف في مسألة الكلام وهي مسألة طويلة
وقد تواتر بأنه تعالى متكلم عن الأنبياء، ولم يختلف في ذلك
أحد من أرباب المِلَل والمذاهب وإنما الخلاف في معنى كلامه
وقدمه وحدوثه، فعند أهل الحديث أن كلامه ليس من جنس
الأصوات والحروف بل صفة أزلية قائمة بذاته تعالى منافية
للسكوت الذي هو ترك التكلم مع القدرة عليه والآفة التي هي
عدم مطاوعة الآلة إما بحسب الفطرة كما في الخرس أو بحسب
صفتها وعدم بلوغها حدّ القوّة كما في الطفولية هو بها آمر
ناهٍ مخبر وغير ذلك يدل عليها بالعبارة أو الكتابة أو
الإشارة، فإذا عبّر عنها بالعربية فقرآن وبالسريانية
فإنجيل، وبالعبرانية فتوراة، والاختلاف على العبارات دون
المسمى كما إذا ذكر الله بالسنة متعددة ولغات مختلفة.
والحاصل أنه صفة واحدة تتكثر باختلاف التعلقات كالعلم
والقدرة وسائر الصفات فإن كلاًّ منها واحدة قديمة، والتكثر
والحدوث إنما هو في التعلقات والإضافات لما أن ذلك أليق
بكمال التوحيد ولأنه لا دليل على تكثّر كلٍّ منها في
نفسها، وقد خالف جميع الفرق وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا
المنتظم من الحروف المسموعة الدالة على المعاني المقصودة
وأن الكلام النفسي غير معقول، ثم قالت الحنابلة والحشوية
إن تلك الأصوات والحروف مع تواليها وترتّب بعضها على بعض،
وكون الحرف الثاني من كل كلمة مسبوقًا بالحرف المتقدّم
عليه كانت
ثابتة في الأزل قائمة بذات الباري تعالى وتقدس، وإن
المسموع من أصوات القراء، والمرئي من أسطر الكتاب نفس كلام
الله في كلام طويل.
وتحقيق الكلام بينهم وبين أهل السُّنَّة يرجع إلى إثبات
الكلام النفسي ونفيه وإلاّ فأهل السُّنَّة لا يقولون
بقِدَم الألفاظ والحروف وهم لا يقولون بحدوث كلام نفسي،
واستدلّ أهل السُّنّة على قِدَم كلامه تعالى وكونه نفسيًّا
لا حسيًّا بأن المتكلم مَن قام به الكلام لا مَن أوجد
الكلام ولو في محل آخر للقطع بأن موجد الحركة في جسم آخر
لا يسمى متحركًا، وأن الله تعالى لا يسمى بخلق الأصوات
مصوتًا. وأما إذا سمعنا قائلاً يقول أنا قائم فنسميه
متكلمًا وإن لم نعلم أنه الموجد لهذا الكلام، بل وإن علمنا
أن موجده هو الله تعالى كما هو رأي أهل الحق، وحينئذٍ
فالكلام القائم بذات الباري تعالى لا يجوز أن يكون هو
الحسيّ أعني المنتظم من الحروف المسموعة لأنه حادث ضرورة
أن له ابتداء وانتهاء وإن الحرف الثاني من كل كلمة مسبوق
بالأول ومشروط بانقضائه، وأنه يمتنع اجتماع أجزائه في
الوجود وبقاء شيء منها بعد الحصول والحادث يمتنع قيامه
بذات الباري تعالى فتعين النفسي القديم.
وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد: القرآن كلام الله وكلام
الله صفة من صفات ذاته وليس شيء من صفات ذاته مخلوقًا ولا
محدثًا ولا حادثًا قال تعالى: {الرحمن علّم القرآن خلق
الإنسان} [الرحمن: 1 - 3] فخص القرآن بالتعليم لأنه كلامه
وصفته وخصّ الإنسان بالتخليق لأنه خلقه ومصنوعه ولولا ذلك
لقال خلق القرآن والإنسان في آيات أوردها دالّة على ذلك لا
نطيل بها.
(وقال) الله (جل ذكره: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}
[البقرة: 255]) أي ليس لأحد أن يشفع عنده لأحد إلا بإذنه
ومن وإن
(10/428)
كان لفظها استفهامًا فمعناها النفي ولذا
دخلت إلا في قوله إلا بإذنه وعنده متعلق بيشفع أو بمحذوف
لكونه حالاً من الضمير في يشفع أي يشفع مستقرًّا عنده وقوي
هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريب منه
فشفاعة غيره أبعد وهذا بيان لملكوته وكبريائه وأن أحدًا لا
يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام
وفيه ردّ لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم.
(وقال مسروق) هو ابن الأجدع مما وصله البيهقي في الأسماء
والصفات من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح وهو
أبو الضحى عن مسروق (عن ابن مسعود) عبد الله -رضي الله
عنه- (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئًا) ولفظ
البيهقي وهو عند أحمد سمع أهل السماء صلصلة كجرّ السلسلة
على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا
جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم (فإذا فزع عن قلوبهم وسكن
الصوت) بالنون بعد الكاف الخفيفة الصوت المخلوق لا سماع
أهل السماوات والأدلة ناطقة بتنزيه الباري جل وعلا عن
الصوت المستلزم للحدوث، ولأبي ذر عن الكشميهني: وثبت الصوت
بمثلثة فموحدة ففوقية (عرفوا أنه الحق من ربكم) بالكاف
وسقطت لغير أبي ذر (ونادوا ماذا قال ربكم)؟ لأنهم سمعوا
قولاً ولم
يفهموا معناه كما ينبغي لفزعهم (قالوا) قال (الحق) وفي
رواية أحمد ويقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول
الحق. قال: فينادون الحق الحق. قال البيهقي: ورواه أحمد بن
أبي شريح الرازي وعلي بن إشكاب وعلي بن مسلم ثلاثتهم عن
أبي معاوية مرفوعًا أخرجه أبو داود في السُّنن عنهم ولفظه
مثله إلا أنه قال فيقولون ماذا قال ربك.
(ويذكر) بضم أوله بصيغة التمريض وفي كتاب العلم بصيغة
الجزم (عن جابر) أي ابن عبد الله الأنصاري (عن عبد الله بن
أنيس) بضم الهمزة وفتح النون الأنصاري أنه (قال: سمعت
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(يحشر الله) عز وجل (للعباد) يوم القيامة (فيناديهم) يقول
لهم (بصوت) مخلوق غير قائم بذاته ويأمر تعالى من ينادي
ففيه مجاز الحذف.
وقال البيهقي: الكلام ما ينطق به المتكلم وهو مستقر في
نفسه ومنه قول عمر في حديث السقيفة وكنت هيأت في نفسي
كلامًا فسماه كلامًا قبل التكلم به فان كان المتكلم ذا
مخارج سمع كلامه ذا حروف وأصوات وإن كان غير ذي مخارج فهو
بخلاف ذلك والباري تعالى ليس بذي مخارج فلا يكون كلامه
بحروف وأصوات. فإذا فهمه السامع تلاه بحروف وأصوات.
وأما حديث ابن أنيس فاختلف الحفّاظ في الاحتجاج بروايات
ابن عقيل لسوء حفظه ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح مرفوع
غير حديثه فإن ثبت رجع إلى حديث ابن مسعود يعني أن
الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتًا فيحتمل أن يكون صوت
السماء أو الملك الآتي بالوحي أو صوت أجنحة الملائكة، وإذا
احتمل ذلك لم يكن نصًّا في المسألة وأن الراوي أراد فينادي
نداء فعبّر عنه بقوله بصوت. قال في الفتح: وهذا يلزم منه
أن الله لم يسمع أحدًا من ملائكته ولا رسله كلامه بل
ألهمهم إياه، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على
أصوات المخلوقين لأنها التي عهد أنها ذات مخارج ولا يخفى
ما فيه إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد
تكون من غير اتصال أشعة كما تقرر. سلمنا لكن نمنع القياس
المذكور وصفة الخالق لا تقاس على صفة المخلوقين فإذا ثبت
ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به ثم
التفويض وأما التأويل وقوله:
(يسمعه) أي الصوت (من بعد كما يسمعه من قرب) فيه خرق
العادة إذ في سائر الأصوات التفاوت ظاهر بين القريب
والبعيد وليعلم أن السموع كلام الله كما أن موسى لما كلمه
الله كان يسمعه من جميع الجهات ومقول قوله تعالى (أنا
الملك) ذو الملك (أنا الديان) لا مالك إلا أنا ولا مجازي
إلا أنا، وهو من حصر المبتدأ في الخبر، وقال الحليمي: هو
مأخوذ من قوله ملك يوم الدين وهو المحاسب المجازي لا يضيع
عمل عامل. وقال في الكواكب: واختار هذا اللفظ لأن فيه
إشارة إلى
(10/429)
الصفات السبعة الحياة والعلم والإرادة
والقدرة والسمع والبصر والكلام ليمكن المجازاة على الكليات
والجزئيات قولاً وفعلاً.
7481 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ
الأَمْرَ فِى السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ
بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا». لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ
سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ قَالَ عَلِىٌّ: وَقَالَ
غَيْرُهُ صَفَوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَـ {إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ
قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:
23].
قَالَ عَلِىٌّ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا
عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ بِهَذَا.
قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ،
حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ عَلِىٌّ: قُلْتُ
لِسُفْيَانَ: قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ: قَالَ سَمِعْتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ: قَالَ نَعَمْ. قُلْتُ لِسُفْيَانَ:
إِنَّ إِنْسَانًا رَوَى عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَرَأَ فُزِّعَ
قَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو فَلاَ أَدْرِى
سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لاَ. قَالَ سُفْيَانُ: وَهْىَ
قِرَاءَتُنَا.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو) بفتح العين ابن دينار (عن عكرمة
عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (يبلغ به النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إذا قضى الله الأمر في السماء) وعند الطبراني من حديث
النوّاس بن سمعان مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي (ضربت
الملائكة بأجنحتها) حال كونها (خضعانًا) بضم الخاء وسكون
الضاد المعجمتين خاضعين طائعين (لقوله) جل وعلا: (كأنه) أي
القول السموع (سلسلة) صوت سلسلة (على صفوان) حجر أملس (قال
علي): هو ابن المديني (وقال غيره) أي غير سفيان بن عيينة:
(صفوان) بفتح الفاء مصححًا عليه في الفرع كأصله كالسكون في
الأول (ينفذهم) بفتح أوله وضم ثالثه بينهما نون ساكنة
والذال المعجمة (ذلك) فالاختلاف في فتح فاء صفوان وسكونها،
وأما ينفذهم فغير مختص بالغير بل مشترك بين سفيان وغيره
فقد أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن عبد الله بن يزيد عن
سفيان بن عيينة بهذه الزيادة وسقط لغير أبي ذر عن الحموي
والمستملي ينفذهم (فـ (إذا فزع}) كشف ({عن قلوبهم قالوا
ماذا قال ربكم قالوا}) قال: ({الحق}) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي قالوا: للذي وللكشميهني الذي قال: الحق ({وهو
العلي الكبير}) ذو العلو والكبرياء.
(قال علي): هو ابن عبد الله المديني (وحدّثنا سفيان) بن
عيينة قال: (حدّثنا عمرو) هو ابن دينار (عن عكرمة عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- (بهذا) الحديث أي أن سفيان حدّثه عن
عمرو بلفظ التحديث لا بالعنعنة كما في الطريق الأولى (قال
سفيان) بن عيينة أيضًا: (قال عمرو) أي ابن دينار أيضًا:
(سمعت عكرمة) يقول: (حدّثنا أبو هريرة) -رضي الله عنه-
(قال علي) بن المديني أيضًا: (قلت لسفيان) بن عيينة: (قال:
سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة؟ قال: نعم) ومراده أن ابن
عيينة كان يسوق السند مرة بالعنعنة ومرة بالتحديث والسماع
فاستثبته علي بن المديني عن
ذلك فقال: نعم قال علي (قلت لسفيان) بن عيينة (إن إنسانًا
روى عن عمرو) أي ابن دينار (عن عكرمة عن أبي هريرة يرفعه)
إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أنه قرأ
فزع) بالزاي والعين المهملة في الفرع وأصله، وقال ابن حجر:
فرغ بالراء المهملة والغين المعجمة بوزن القراءة المشهورة
قال: ووقع للأكثر هنا كالقراءة المشهورة قال والسياق يدل
للأولى (قال سفيان) بن عيينة (هكذا قرأ عمرو) أي ابن دينار
(فلا أدري سمعه هكذا) من عكرمة (أم لا). أي قرأها كذلك من
قبل نفسه بناء على أنها قراءته (قال سفيان) بن عيينة (وهي
قراءتنا) يريد نفسه ومن تابعه وظاهره أنه أراد قراءة الزاي
والعين المهملة، وحكي عن الحافظ أبي ذر أنها الصواب هنا.
قلت: وهي قراءة الحسن والقائم مقام الفاعل الجار بعده وفعل
بالتشديد معناها السلب هنا نحو قرّدت البعير أي أزلت قراده
كذا هنا أي أزيل الفزع عنها، وقراءة ابن عامر بفتح الفاء
والزاي مبنيًّا للفاعل.
7482 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا أَذِنَ اللَّهُ
لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ». وَقَالَ صَاحِبٌ
لَهُ يُرِيدُ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة نسبه لجده
واسم أبيه عبد الله المخزومي مولاهم المصري قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي
(عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه قال: (أخبرني)
بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (عن أبي هريرة)
-رضي الله عنه- (أنه كان يقول: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما أذن الله) عز وجل (لشيء ما أذن) بكسر المعجمة المخففة
فيهما ما استمع لشيء ما استمع (للنبي) ولأبي ذر عن
الكشميهني لنبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يتغنى بالقرآن) واستماع الله تعالى مجاز عن تقريب القارئ
وإجزال ثوابه أو قبول قراءته (وقال صاحب له) أي لأبي هريرة
(يريد) بالتغني (أن يجهر به) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
يريد يجهر به وله عن الكشميهني يريد أن يجهر بالقرآن. قال
في المصابيح، قال ابن نباتة في كتاب مطلع الفوائد ومجمع
الفرائد: وجدت في كتاب الزاهر يقال تغنى
(10/430)
الرجل إذا جهر صوته فقط قال: وهذا نقل غريب
لم أجده في أكثر الكتب في اللغة. وقال الكرماني: فهم
البخاري من الإذن القول لا الاستماع بدليل أنه أدخل هذا
الحديث في هذا الباب كذا قال.
وسبق الحديث في فضائل القرآن.
7483 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ
حَدَّثَنَا أَبِى، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا
أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى
الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَقُولُ: اللَّهُ يَا آدَمُ
فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَيُنَادَى بِصَوْتٍ
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ
بَعْثًا إِلَى النَّارِ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) قال: (حدّثنا أبي)
حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي قال:
(حدّثنا أبو صالح) ذكوان الزيّات (عن أبي سعيد) سعد بن
مالك (الخدري -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يقول الله) عز وجل يوم القيامة (يا آدم فيقول) يا ربنا
(لبّيك وسعديك فينادي) بفتح الدال مصححًا عليها بالفرع
وأصله (بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى
النار) بفتح الموحدة وسكون العين أي مبعوثًا أي طائفة
شأنهم أن يبعثوا إليها فابعثهم.
والحديث سبق في تفسير سورة الحج بأتمّ من سياقه هنا.
7484 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى
امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ
رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ.
وبه قال: (حدّثنا عبيد بن إسماعيل) بضم العين من غير إضافة
وكان اسمه عبيد الله أبو محمد القرشي الكوفي قال: (حدّثنا
أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام) ولأبي ذر عن هشام بن
عروة (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي
الله عنها-) أنها (قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على
خديجة) -رضي الله عنها- (ولقد أمره) أي أمر النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ربه) تبارك وتعالى ولأبي ذر
عن الكشميهني ولقد أمره الله (أن يبشرها ببيت في الجنة).
وللحموي والمستملي من الجنة والحديث مرّ في المناقب.
33 - باب كَلاَمِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ وَنِدَاءِ
اللَّهِ الْمَلاَئِكَةَ
وَقَالَ مَعْمَرٌ {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ}
[النمل: 6] أَىْ يُلْقَى عَلَيْكَ، وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ
أَىْ تَأْخُذُهُ عَنْهُمْ وَمِثْلُهُ فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ.
(باب كلام الرب) عز وجل (مع جبربل) عليه السلام (ونداء
الله) عز وجل (الملائكة) عليهم السلام.
(وقال معمر): هو ابن المثنى أبو عبيدة لا معمر بن راشد في
قوله تعالى: ({وإنك لتُلَقَّى القرآن} أي يلقى عليك) مبني
للمجهول (وتلقاه) بفتح الفوقية واللام والقاف المشددة (أنت
أي تأخذه عنه) من لدن حكيم عليم قالوا: إن جبريل يتلقى أي
يأخذ من الله تلقيًا روحانيًّا ويلقي على محمد -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلقيًا جسمانيًّا (ومثله)
قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات} [البقرة: 37] وتلقى
تفعل قال القفال: أصل التلقي هو التعرّض للقاء ثم وضع في
موضع الاستقبال للمتلقي ثم موضع القبول والأخذ، وكان النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتلقى الوحي أي
يستقبله ويأخذه.
7485 - حَدَّثَنِى إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى
صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا
أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ
أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ،
ثُمَّ يُنَادِى جِبْرِيلُ فِى السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ
قَدْ أَحَبَّ فُلاَنًا، فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ
السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ
الأَرْضِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر بالجمع (إسحاق) هو
ابن منصور بن بهرام الكوسج، قال الحافظ ابن حجر: وتردّد
أبو علي الجياني بينه وبين إسحاق بن راهويه وإنما جزمت
بأنه ابن منصور لأن ابن راهويه لا يقول إلا أخبرنا وهنا
قال: حدّثنا اهـ. ورأيت في حاشية الفرع وأصله ما نصه: هو
ابن راهويه وفوقه حاء ممدودة فالله أعلم. قال: (حدّثنا عبد
الصمد) بن عبد الوارث قال: (حدثنا عبد الرحمن هو ابن عبد
الله بن دينار عن أبيه) عبد الله (عن أبي صالح) ذكوان
الزيات (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا نادى جبريل) نصب على
المفعولية (إن الله) تعالى (قد أحب فلانًا فأحبه) بفتح
الهمزة وكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة مشددة (فيحبه
جبريل ثم ينادي) بكسر الدال (جبريل) رفع على الفاعلية (في
السماء) وفي الأدب في أهل السماء (إن الله) عز وجل (قد أحب
فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في) قلوب
(أهل الأرض) فيحبونه فمحبة الناس علامة على محبة الله ووجه
المطابقة ظاهر.
والحديث سبق في باب ذكر الملائكة من كتاب بدء الخلق وباب
المقت من الله تعالى من كتاب الأدب.
7486 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ
عَنْ أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ
مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ،
وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاَةِ الْعَصْرِ وَصَلاَةِ
الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ
فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ كَيْفَ تَرَكْتُمْ
عِبَادِى؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ
وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البلخي (عن
مالك) الإمام الأعظم (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان
(عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله
عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(يتعاقبون) يتناوبون في الصعود والنزول (فيكم ملائكة) لرفع
أعمالكم (بالليل وملائكة) لرفع أعمالكم (بالنهار) وقوله
يتعاقبون على لغة أكلوني البراغيث (ويجتمعون في) وقت (صلاة
العصر و) وقت (صلاة الفجر ثم يعرج) الملائكة
(10/431)
(الذين باتوا فيكم فيسألهم) ربهم تعبدًا
لهم كما
تعبدهم بكتب أعمالهم (وهو أعلم) زاد أبو ذر بهم من
الملائكة (كيف تركتم عبادي، فيقولون تركناهم وهم يصلون
وأتيناهم وهم يصلون).
والحديث سبق في الصلاة مع ما فيه من المباحث ومطابقته
ظاهرة.
7487 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنِ
الْمَعْرُورِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَتَانِى
جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ
بِاللَّهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ: وَإِنْ
سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة
قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن واصل) الأحدب بن حيان بالحاء المهملة وتشديد
التحتية (عن المعرور) بالمهملات بوزن مفعول ابن سويد
الكوفي أنه (قال: سمعت أبا ذر) جندب بن جنادة -رضي الله
عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(أتاني جبريل) عليه السلام وفي الرقاق عرض لي في جانب
الحرة (فبشرني أنه من مات) من أمتي (لا يشرك بالله شيئًا)
وجواب الشرط قوله (دخل الجنة. قلت) يا جبريل (وإن سرق وإن
زنى) يدخل الجنة ولغير الكشميهني وإن زنى بالياء خطَّا بدل
الألف (قال) جبريل (وإن سرق وإن زنى) ولأبي ذر عن
الكشميهني وزنى أي يدخل الجنة.
وسبق الحديث بزيادة ونقصان في الاستقراض والاستئذان
والرقاق. قال في الفتح: وفي مناسبته للترجمة هنا غموض
وكأنه من جهة أن جبريل إنما يبشر النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأمر يتلقاه عن ربه تعالى فكأن الله
تعالى قال له: بشر محمدًا بأن من مات من أمته لا يشرك
بالله شيئًا دخل الجنة فبشّره بذلك.
34 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166]
قَالَ مُجَاهِدٌ: {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}
بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأَرْضِ السَّابِعَةِ.
(باب قول الله تعالى: {أنزله بعلمه}) أي أنزله وهو عالم
بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه أو أنزله بما علم من
مصالح العباد وفيه نفي قول المعتزلة في إنكار الصفات فإنه
أثبت لنفسه العلم ({والملائكة يشهدون} [النساء: 166]) لك
بالنبوّة. قال ابن بطال: المراد بالإنزال إفهام العباد
معاني الفروض وليس إنزاله نزال الأجسام المخلوقة لأن
القرآن ليس بجسم ولا مخلوق.
(وقال مجاهد): هو ابن جبر المفسر في قوله تعالى: ({يتنزل
الأمر بينهن} بين السماء السابعة والأرض السابعة) ولأبي ذر
عن المستملي والكشميهني من السماء وهذا وصله الفريابي.
7488 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو
الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِىُّ،
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا
فُلاَنُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلِ:
اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ
وَجْهِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ،
وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً
إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ
إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ
وَبِنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ
فِى لَيْلَتِكَ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ وَإِنْ أَصْبَحْتَ
أَصَبْتَ أَجْرًا».
وبه قال: (حدّثنا مسدّد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا أبو
الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين سلام بتشديد اللام ابن
سليم الكوفي قال: (حدّثنا أبو إسحاق) عمرو السبيعي
(الهمداني) بسكون الميم بعدها مهملة (عن البراء بن عازب)
-رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يا فلان) يريد البراء بن عازب (إذا أويت) بالقصر (إلى
فراشك) أي مضجعك لتنام (فقل) بعد أن تنام على شقك الأيمن
(اللهم أسلمت نفسي) ذاتي (إليك ووجهت وجهي) أي قصدي (إليك
وفوّضت أمري) أي رددته (إليك) إذ لا قدرة لي ولا تدبير على
جلب نفع ولا دفع ضرّ فأمري مفوّض إليك (وألجأت ظهري) أي
أسندته (إليك) كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده إليه
(رغبة) في ثوابك (ورهبة إليك) خوفًا من عقابك (لا ملجأ)
بالهمز واللام (ولا منجى) بالنون من غير همز (منك إلا
إليك) أي لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك ولا منجى إلا إليك
(آمنت) صدقت (بكتابك) القرآن (الذي أنزلت) أي أنزلته على
رسولك -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإيمان
بالقرآن يتضمن الإيمان بجميع كتب الله (وبنبيك الذي أرسلت)
بحذف ضمير المفعول أي الذي أرسلته (فإنك إن متّ في) ولأبي
ذر من (ليلتك متّ على الفطرة) الإسلامية أو الدين القويم
ملة إبراهيم (وإن أصبحت أصبت أجرًا) بالجيم الساكنة بعد
الهمزة أي أجرًا عظيمًا فالتنكير للتعظيم ولأبي ذر عن
الكشميهني خيرًا بالخاء المعجمة بعدها تحتية ساكنة بدل
أجرًا.
والحديث سبق آخر الوضوء وفي الدعوات في باب استحباب النوم
على الشق الأيمن.
7489 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِى خَالِدٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ
الأَحْزَابِ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ
الْحِسَابِ اهْزِمِ الأَحْزَابَ وَزَلْزِلْ بِهِمْ».
زَادَ الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِى خَالِدٍ. سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ سَمِعْتُ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن إسماعيل بن أبي خالد) الكوفي الحافظ
(عن عبد الله بن أبي أوفى) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم
الأحزاب) يوم اجتمع قبائل العرب على مقاتلته -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو عليهم:
(اللهم) يا (منزل الكتاب) القرآن (يا سريع) زمان (الحساب)
أو سريعًا في
(10/432)
الحساب (اهزم
الأحزاب وزلزل بهم) ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي
وزلزلهم فلا يثبتون عند اللقاء بل تطيش عقولهم (زاد
الحميدي) عبد الله بن الزبير فقال: (حدّثنا سفيان) بن
عيينة قال: (حدّثنا خالد بن أي خالد) إسماعيل قال: (سمعت
عبد الله) بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: (سمعت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وغرضه بسياق هذه
الزيادة التصريح في رواية سفيان بالتحديث والتصريح بالسماع
وفي رواية ابن أبي خالد وبالسماع في رواية ابن أبي أوفى
بخلاف رواية قتيبة فإنها بالعنعنة.
والحديث سبق في باب الدعاء على المشركين بالهزيمة من كتاب
الجهاد.
7490 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِى
بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -
رضى الله عنهما -: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ
تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، قَالَ: أُنْزِلَتْ
وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ فَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ سَمِعَ
الْمُشْرِكُونَ فَسَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ،
وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ
تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} لاَ تَجْهَرْ
بِصَلاَتِكَ حَتَّى يَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ {وَلاَ
تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلاَ تُسْمِعُهُمْ
{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أَسْمِعْهُمْ وَلاَ
تَجْهَرْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد بن مسربل الأسدي
البصري الحافظ أبو الحسن (عن هشيم) بضم الهاء وفتح المعجمة
ابن بشير مصغرًا كأبيه أبو معاوية السلمي حافظ بغداد (عن
أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة جعفر بن أبي وحشية
واسمه إياس البصري (عن سعيد بن جبير) بضم الجيم وفتح
الموحدة الوالبي مولاهم أحد الأعلام (عن ابن عباس -رضي
الله عنهما-) في قوله تعالى: ({ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت
بها} [الإسراء: 110]، قال: أنزلت ورسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متوارٍ) وفي سورة الإسراء
متخفٍّ (بمكة) أي في أول الإسلام (فكان إذا) صلّى بأصحابه
(رفع صوته) بالقرآن و (سمع المشركون) قراءته (فسبوا القرآن
ومَن أنزله) جبريل (ومَن جاء به) صلوات الله وسلامه عليه
(وقال تعالى: {ولا تجهر}) ولأبي ذر والأصيلي فقال الله:
({ولا تجهر بصلاتك} فيه حذف مضاف أي بقراءة صلاتك ({ولا
تخافت}) لا تخفض صوتك ({بها}) أي (لا تجهر بصلاتك)
بقراءتها وسقط لأبي ذر والأصيلي ولا تخافت بها، ولأبي ذر
وحده لا تجهر بصلاتك (حتى يسمع المشركون) فيسبوا واستشكل
بأن القياس أن يقال حتى لا يسمع المشركون. وأجاب في
الكواكب بأنه غاية للمنهي لا للنهي ({ولا تخافت بها} عن
أصحابك فلا تسمعهم) برفع العين ({وابتغ}) اطلب ({بين ذلك
سبيلاً}) وسطًا بين الأمرين لا الإفراط ولا التفريط.
(أسمعهم ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن).
قال الحافظ أبو ذر: فيه تقديم وتأخير تقديره أسمعهم حتى
يأخذوا عنك القرآن ولا تجهر، والمراد من الحديث قوله:
أنزلت والآيات المصرحة بلفظ الإنزال والتنزيل في القرآن
كثيرة والفرق بينهما في وصف القرآن والملائكة كما قال
الراغب: إن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إلى
إنزاله متفرقًا مرة بعد أخرى والإنزال أعمّ من ذلك ومنه
قوله تعالى: (إنّا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1]
فعبّر بالإنزال دون التنزيل لأن القرآن نزل دفعة واحدة إلى
سماء الدنيا ثم نزل بعد ذلك شيئًا فشيئًا ومن الثاني قوله
تعالى: ({وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث
ونزّلناه تنزيلاً} [الإسراء: 106] ويؤيد التفصيل قوله
تعالى: ({يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب
الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} [النساء:
136] فإن المراد بالكتاب الأول القرآن وبالثاني ما عداه،
والقرآن نزل نجومًا إلى الأرض بحسب الوقائع بخلاف غيره من
الكتب، لكن يرد على التفصيل المذكور قوله تعالى: {وقال
الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان:
32] وأجيب: بأنه أطلق نزل موضع أنزل قال: ولولا هذا
التأويل لكان متدافعًا لقوله جملة واحدة وهذا بناه على
القول بأن نزل المشدد يقتضي التفريق فاحتاج إلى ادّعاء ما
ذكر وإلاّ فقد قال غيره إن التضعيف لا يستلزم حقيقة
التكثير بل يرد للتعظيم وهو في حكم التكثير يعني فبهذا
يندفع الإشكال اهـ. من كتاب فتح الباري وسقط لأبي ذر
والأصيلي من قوله: {ولا تخافت بها} إلى قوله: {ولا تجهر
بصلاتك}.
وسبق الحديث آخر سورة الإسراء.
35 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ} [الفتح: 15] {لَقَوْلٌ
فَصْلٌ} حَقٌّ {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13 و14]
بِاللَّعِبِ
(باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}
[الفتح: 15]) قال المفسرون: واللفظ للمدارك أي يريدون أن
يغيروا مواعد الله لأهل الحديبية، وذلك أنهم وعدهم أنه
يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا
يصيبون منهم شيئًا. وقال ابن بطال: أراد البخاري بهذه
الترجمة وأحاديثها ما أراد
(10/433)
في الأبواب قبلها أن كلام الله صفة قائمة
به وبأنه لم يزل متكلمًا ولا يزال. قال الحافظ ابن حجر:
والذي يظهر لي أن غرضه أن كلام الله لا يختص بالقرآن فإنه
ليس نوعًا واحدًا وأنه وإن كان غير مخلوق وهو صفة قائمة به
فإنه يلقيه على من يشاء من عباده بحسب حاجتهم في الأحكام
الشرعية وغيرها من مصالحهم قال: وأحاديث الباب كالمصرّحة
بهذا المراد.
وقوله تعالى: ({لقول}) ولأبي ذر: إنه لقول ({فصل}) أي (حق
{وما هو بالهزل} [الطارق: 13 و14]) أي (باللعب) وهذا مأخوذ
من قول أبي عبيدة في كتابه المجاز ومن حق القرآن وقد وصفه
الله تعالى بهذا أن يكون مهيبًا في الصدور معظمًا في
القلوب يترفع به قارئه وسامعه أن يلمّ بهزل أو يتفكّه
بمزاح.
7491 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
يُؤْذِينِى ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا
الدَّهْرُ بِيَدِى الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ».
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا الزهري) محمد بن
مسلم (عن سعيد بن المسيب) سيد التابعين (عن أبي هريرة)
-رضي الله عنه- أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم) أي بأن ينسب إليّ ما لا
يليق بجلالي وهذا من المتشابهات والله تعالى منزّه عن أن
يلحقه أذى إذ هو محال عليه فهو من التوسّع في الكلام
والمراد أن من وقع ذلك منه تعرّض لسخط الله تعالى (يسب
الدهر) الليل والنهار فيقول إذا أصابه مكروه بؤسًا للدهر
وتبًّا له ونحو ذلك (وأنا الدهر) أي خالقه (بيدي الأمر)
الذي ينسبونه إلى الدهر (أقلّب الليل والنهار) فإذا سبّ
ابن آدم الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبّه إليّ
لأني فاعلها وإنما الدهر زمان جعلته ظرفًا لمواقع الأمور.
ومطابقته لما ترجم في إثبات إسناد القول إلى الله تعالى
وهو من الأحاديث القدسية.
وسبق في تفسير سورة الجاثية.
7492 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ،
عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِى وَأَنَا
أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ
مِنْ أَجْلِى، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَلِلصَّائِمِ
فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ
يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ
عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
الأعمش) سليمان كذا للجميع أبو نعيم عن الأعمش إلا لأبي
علي بن السكن فقال: حدّثنا أبو نعيم حدّثنا الأعمش فزاد
فيه الثوري لكن قال أبو علي الجياني: الصواب قول من خالفه
من سائر الرواة (عن أبي صالح) ذكوان الزيات (عن أبي هريرة)
-رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه قال:
(يقول الله عز وجل الصوم لي) خصّه تعالى به لأنه لم يعبد
به أحد غيره بخلاف السجود وغيره (وأنا أجزي) صاحبه (به).
وقد علم أن الكريم إذا تولى الإعطاء بنفسه كان في ذلك
إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء ففيه مضاعفة الجزاء من غير عدد
ولا حساب (يدع) يترك الصائم (شهوته) الجماع (و) يدع (أكله
وشربه من أجلي) أي خالصًا (والصوم جنة) بضم الجيم وتشديد
النون وقاية من النار أو المعاصي لأنه يكسر الشهوة ويضعف
القوة (وللصائم فرحتان) يفرحهما (فرحة حين يفطر) حين
انتهاء صومه في الدنيا (وفرحة حين يلقى ربه) يوم القيامة
(ولخلوف) بفتح اللام وضم الخاء المعجمة رائحة (فم الصائم)
المتغير لخلاء معدته من الطعام (أطيب عند الله من ريح
المسك) أي أذكى عند الله منه إذ إنه تعالى لا يوصف بالشم
نعم هو عالم به كبقية المدركات المحسوسات ألا يعلم من خلق.
والحديث سبق في الحج بمباحثه وما فيه ومطابقته لما ترجم به
في قوله يقول الله.
7493 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَيْنَمَا
أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ
جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِى فِى ثَوْبِهِ
فَنَادَى رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ
أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ،
وَلَكِنْ لاَ غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
عبد الرزاق) بن همام بن نافع الحافظ أبو بكر الصنعاني قال:
(أخبرنا معمر) بفتح الميمين وسكون العين المهملة ابن راشد
(عن همام) بفتح الهاء والميم المشددة ابن منبه (عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(بينما) بالميم (أيوب) عليه السلام (يغتسل) حال كونه
(عريانًا خرّ عليه رجل جراد) بكسر الراء وسكون الجيم جماعة
كثيرة منه (من ذهب) وسمي جرادًا لأنه يجرد الأرض فيأكل ما
عليها (فجعل) أيوب (يحثي) بفتح أوله وسكون الحاء المهملة
بعدها مثلثة يأخذ بيده ويرمي (في ثوبه فناداه) فقال له
(ربه) تعالى (يا أيوب) كلمه كموسى أو بواسطة الملك (ألم
أكن أغنيتك) بفتح الهمزة وبعد التحتية الساكنة فوقية ولأبي
ذر عن الكشميهني أغنك بضم الهمزة وبعد المعجمة الساكنة نون
مكسورة فكاف (عما ترى) من جراد
(10/434)
الذهب (قال: بلى يا رب) أغنيتني (ولكن لا
غنى لي عن بركتك) أي عن خيرك وغنى بكسر الغين المعجمة
مقصور من غير تنوين ولا نافية للجنس.
وسبق الحديث في باب من اغتسل عريانًا من الطهارة.
7494 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِى عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا
تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ
فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ
يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ
لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) هو ابن أنس إمام دار الهجرة الأصبحي (عن
ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن أبي عبد الله الأغر)
بالغين المعجمة المفتوحة والراء المشدّدة واسمه سلمان
الجهني المدني (عن أبي هريرة) رضى الله عنه (أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(يتنزل) بتحتية ففوقية وتشديد الزاي في باب التفعل ولأبي
ذر عن الكشميهني ينزل (ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى
السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) أي ينزل ملك
بأمره وتأوله ابن حزم بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا
كالفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظانّ الإجابة وهذا
معهود في اللغة يقال فلان نزل لي عن حقه بمعنى وهبه لي،
لكن في حديث أبي
هريرة عند النسائي وابن خزيمة في صحيحه إذا ذهب ثلث الليل
فذكر الحديث وزاد فيه: فلا يزال بها حتى يطلع الفجر فيقول
هل من داع فيستجاب له، وهو من رواية محمد بن إسحاق، واختلف
فيه، وفي حديث ابن مسعود عند ابن خزيمة: فإذا طلع الفجر
صعد إلى العرش وهو من رواية إبراهيم الهجري وفيه مقال، وفي
أحاديث أُخر محصلها ذكر الصعود بعد النزول وكما يؤوّل
النزول فلا مانع من تأويل الصعود بما يليق كما مرّ
والتسليم أسلم والغرض من الحديث هنا قوله (فيقول من يدعوني
فأستجيب) بالنصب على جواب الاستفهام وليست السين للطلب بل
أستجيب بمعنى أجيب (له من يسألني فأعطيه) سؤله (من)
وللأصيلي ومن (يستغفرني فأغفر له) ذنوبه.
وسبق الحديث مع مباحثه بالتهجد من أواخر الصلاة وكذا في
الدعوات.
7495 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ الأَعْرَجَ
حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) بضم الشين المعجمة ابن أبي حمزة الحافظ أبو بشر
الحمصي مولى بني أمية قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (أن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (حدّثه أنه سمع
أبا هريرة) -رضي الله عنه- (أنه سمع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(نحن الآخرون) في الدنيا (السابقون يوم القيامة).
7496 - وَبِهَذَا الإِسْنَادِ قَالَ اللَّهُ: «أَنْفِقْ
أُنْفِقْ عَلَيْكَ».
(وبهذا الإسناد) المذكور وهو: حدّثنا أبو اليمان إلى آخره
(قال الله) عز وجل (أنفق) على عباد الله وأنفق بفتح الهمزة
وكسر الفاء مجزوم على الأمر (أُنفق عليك) بضم الهمزة مجزوم
جوابًا أي أعطك خلفه بل أكثر منه أضعافًا مضاعفة. ويحكى
مما ذكره في الكواكب عن بعض الصوفية أنه قد تصدّق برغيفين
محتاجًا إليهما فبعث بعض أصحابه إليه سفرة فيها أدام
وثمانية عشر رغيفًا فقال لحاملها: أين الرغيفان الآخران؟
قال: كنت محتاجًا فأخذتهما في الطريق منها فقيل له: بم
عرفت أنها كانت عشرين؟ قال من قوله تعالى: {من جاء بالحسنة
فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] وقوله: "نحن الآخرون
السابقون يوم القيامة" ذكره في الدّيات. وقوله: "أنفق أنفق
عليك" طرف من حديث أورده تامًّا في تفسير سورة هود،
والمراد منه هنا نسبة القول إلى الله تعالى في قوله أنفق.
7497 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ
فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِى زُرْعَةَ، عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ: هَذِهِ خَدِيجَةُ أَتَتْكَ
بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ
فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلاَمَ وَبَشِّرْهَا
بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ.
وبه قال: (حدّثنا زهير بن حرب) بضم الزاي مصغرًا وحرب
بالحاء المهملة وبعد الراء الساكنة موحدة النسائي الحافظ
قال: (حدّثنا ابن فضيل) بضم الفاء وفتح المعجمة محمد الضبي
مولاهم الحافظ أبو عبد الرحمن (عن عمارة) بن القعقاع (عن
أبي زرعة) بضم الزاي وسكون الراء هرم البجلي (عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- (فقال: هذه خديجة أتتك) ولأبي ذر عن
المستملي تأتيك، وسبق في باب تزويج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خديجة وفضلها من طريق قتيبة بن سعيد
عن محمد بن فضيل إلى أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله
هذه خديجة قد أتت (بإناء فيه طعام أو إناء فيه شراب)
بالشك، وللأصيلي أو شراب ولأبي ذر أو إناء أو شراب كذا
بالرفع في الفرع وأصله شك هل قال فيه طعام
(10/435)
أو قال إناء فقط لم يذكر ما فيه ويجوز
الرفع والجر في قوله أو شرب (فأقرئها) بهمزة مفتوحة بعد
الفاء وأخرى ساكنة بعد الراء (من ربها السلام وبشرها ببيت)
في الجنة (من قصب) لؤلؤة مجوّفة كما في معجم الكبير
للطبراني (لا صخب) بالصاد المهملة والخاء المعجمة والموحدة
المفتوحات لا صياح (فيه ولا نصب) ولا تعب جزاءً وفاقًا،
لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما دعا الناس
إلى الإسلام أجابت من غير منازعة ولا تعب، بل أزالت عنه كل
تعب وآنسته من كل وحشة فناسب أن يكون بيتها في الجنة
بالصفة المقابلة لفعلها قاله السهيلي.
وسبق الحديث فى الباب المذكور.
7498 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ
مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا
لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ
عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ».
وبه قال: (حدّثنا معاذ بن أسد) أبو عبد الله المروزي نزل
البصرة قال: (أخبرنا) وللأصيلي حدّثنا (عبد الله) بن
المبارك المروزي قال: (أخبرنا) وللأصيلي حدّثنا (معمر) هو
ابن راشد (عن همام بن منبه) بكسر الموحدة المشددة (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(قال الله) عز وجل (أعددت لعبادي الصالحين) والإضافة
للتشريف أي هيّأت لهم في الجنة (ما لا عين رأت) أي ما رأت
العيون كلهن ولا عين واحدة فالعين في سياق النفي فتفيد
الاستغراق ومثله قولها (ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر).
وسبق الحديث في سورة السجدة.
7499 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِى
سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ
اللَّيْلِ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ
وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ
الْحَقُّ،
وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ
حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ
وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ
أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ
لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا
أَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ».
وبه قال: (حدّثنا محمود) هو ابن غيلان قال: (حدّثنا عبد
الرزاق) بن همام قال: أخبرنا (ابن جريج) عبد الملك بن عبد
العزيز قال: (أخبرني) بالإفراد (سليمان) بن أبي مسلم
(الأحول) المكي (أن طاوسًا) اليماني (أخبره أنه سمع ابن
عباس) -رضي الله عنهما- (يقول: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا تهجد من الليل قال):
(اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض) منوّرهما (ولك
الحمد أنت قيّم السماوات والأرض) الذي يقوم بحفظهما (ولك
الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن أنت الحق) المتحقق
وجوده (ووعدك الحق) الذي لا يدخله خلف (وقولك الحق) الثابت
مدلوله اللازم (ولقاؤك الحق) وللأصيلي حق بلا ألف ولام أي
رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع (والجنة حق والنار حق) أي كل
منهما موجود (والنبيون حق والساعة حق) أي قيامها (اللهمّ
لك أسلمت) أي انقدت لأمرك ونهيك (وبك آمنت) أي صدقت بك
وبما أنزلت (وعليك توكلت) أي فوّضت أمري إليك (وإليك أنبت)
رجعت (وبك خاصمت) أي بما آتيتني من البراهين خاصمت من
خاصمني من الكفار (وإليك حاكمت) كل من أبى القبول ما
أرسلتني به (فاغفر لي ما قدّمت وما أخّرت وما أسررت وما
أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت).
ومطابقته للترجمة في قوله: وقولك الحق، وسبق في التهجد
وغيره.
7500 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِىُّ، حَدَّثَنَا
يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِىُّ، قَالَ: سَمِعْتُ
الزُّهْرِىَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ
وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ
وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا
فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا، وَكُلٌّ حَدَّثَنِى
طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِى حَدَّثَنِى عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ
أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِى بَرَاءَتِى وَحْيًا يُتْلَى
وَلَشَأْنِى فِى نَفْسِى كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ
يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِىَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّى
كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى النَّوْمِ رُؤْيَا
يُبَرِّئُنِى اللَّهُ بِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور: 11]
الْعَشْرَ الآيَاتِ.
وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم قال: (حدّثنا
عبد الله بن عمر) بضم العين (النميري) بضم النون وفتح
الميم قال: (حدّثنا يونس بن يزيد الأيلي) بفتح الهمزة
وسكون التحتية وكسر اللام (قال: سمعت الزهري) محمد بن مسلم
(قال: سمعت عروة بن الزبير) بن العوّام (وسعيد بن المسيب
وعلقمة بن وقاص) الليثي (وعبيد الله) بضم العين (ابن عبد
الله) بن عتبة بن
مسعود أربعتهم (عن حديث عائشة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال لها أهل الإفك ما قالوا
فبرأها الله) عز وجل (مما قالوا) بما أنزل في القرآن
(وكلٌّ) من الأربعة (حدّثني) بالإفراد (طائفة) قطعة (من
الحديث الذي حدّثني) به منه (عن) حديث (عائشة) -رضي الله
عنها- (قالت) بعد أن ذكرت سفرها معه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة غزاها الحديث بطوله في قصة
الإفك السابقة في غير ما موضع وقولها: والله يعلم أني
حينئذ بريئة وأن الله مبرئي ببرائتي (ولكن) ولأبي ذر عن
الكشميهني ولكن (والله ما كنت أظن أن الله) تبارك وتعالى
(ينزل) بضم الياء من أنزل (في براءتي) مما نسبه لي أهل
الإفك (وحيًا يُتلى) يقرأ (ولشأني في نفسي كان أحقر من أن
يتكلم الله) عز وجل (فيّ) بتشديد
(10/436)
الياء (بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النوم
رؤيا يبرئني الله بها فأنزل الله تعالى: {وإن الذين جاؤوا
بالإفك} [النور: 11] العشر الأيات) في براءتي.
ومطابقته للترجمة في قوله من أن يتكلم الله فيّ بأمر
يُتلى، وسبق الحديث في غير مرة.
7501 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِى
الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «يَقُولُ: اللَّهُ إِذَا أَرَادَ عَبْدِى أَنْ
يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى
يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا
وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِى فَاكْتُبُوهَا لَهُ
حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ
يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ
عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى
سَبْعِمِائَةٍ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء قال: (حدّثنا
المغيرة بن عبد الرحمن) المدني (عن أبي الزناد) عبد الله
بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة)
-رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(يقول الله) عز وجل (إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا
تكتبوها عليه حتى يعملها) بفتح الميم (فإن عملها) بكسرها
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فإذا عملها (فاكتبوها) عليه
(بمثلها) من غير تضعيف (وإن تركها من أجلي) أي خوفًا مني
(فاكتبوها له حسنة) واحدة غير مضاعفة وزاد في رواية ابن
عباس في الرقاق كاملة (وإذا أراد) عبدي (أن يعمل حسنة فلم
يعملها فاكتبوها له حسنة) زاد ابن عباس كاملة أي لا نقص
فيها (فإن عملها) بكسر الميم (فاكتبوها له بعشر أمثالها
إلى سبعمائة) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي إلى سبعمائة
ضعف زاد في الرواية المذكورة إلى أضعاف كثيرة أي بحسب
الزيادة في الاخلاص.
والغرض من الحديث قوله يقول الله. وسبق نحوه في باب: مَن
همّ بحسنة من حديث ابن عباس.
7502 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنِى سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ
بْنِ أَبِى مُزَرِّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «خَلَقَ
اللَّهُ
الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ
فَقَالَ: مَهْ قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ
مِنَ الْقَطِيعَةِ فَقَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ
مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى
يَا رَبِّ قَالَ: فَذَلِكِ لَكِ». ثُمَّ قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
[محمد: 22].
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) الأويسي قال:
(حدّثني) بالإفراد (سليمان بن بلال) وسقط ابن بلال لأبي ذر
(عن معاوية بن أبي مزرد) بضم الميم وفتح الزاي وكسر الراء
المشددة والذي في اليونينية فتحها بعدها دال مهملة واسمه
عبد الرحمن بن يسار بالتحتية والمهملة المخففة (عن) عمه
(سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(خلق الله) عز وجل (الخلق فلما فرغ منه) أي أتمّه وقضاه
(قامت الرحم) حقيقة بأن تجسمت زاد في تفسير سورة القتال
قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن وهو استعارة إذ من عادة
المستجير أن يأخذ بذيل المُستَجار به أو بطرف ردائه وربما
أخذ بحقو إزاره مبالغة في الاستجارة (فقال) تعالى لها (مه)
بفتح الميم وسكون الهاء أي اكففي (قالت) بلسان الحال أو
بلسان المقال وفي حديث عبد الله بن عمرو وعند أحمد أنها
تكلم بلسان طلق ذلق وللأصيلي فقالت (هذا مقام العائد) أي
قيامي هذا قيام المستجير (بك من القطيعة فقال) جلّ وعلا
ولأبي ذر عن الكشميهني قال (ألا) بالتخفيف (ترضين أن أصل
من وصلك) بأن أتعطف عليه (وأقطع من قطعك) فلا أتعطف عليه
(قالت: بلى) رضيت (يا رب. قال) تعالى (فذلك لك) بكسر الكاف
فيهما (ثم قال أبو هريرة) {فهل عسيتم} وفي الأدب قال رسول
الله: فاقرؤوا إن شئتم ({فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في
الأرض وتقطعوا أرحامكم} [محمد: 22]).
وهذا الحديث سبق في تفسير سورة القتال وفي كتاب الأدب.
7503 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
صَالِحٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
قَالَ: مُطِرَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «قَالَ اللَّهُ أَصْبَحَ مِنْ
عِبَادِى كَافِرٌ بِى وَمُؤْمِنٌ بِى».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا سفيان)
بن عيينة (عن صالح) هو ابن كيسان (عن عبيد الله) بضم العين
ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود (عن زيد بن خالد) الجهني
-رضي الله عنه- أنه (قال: مطر النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الميم وكسر الطاء أي حصل المطر
بدعائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال) عليه
الصلاة والسلام.
(قال الله) عز وجل (أصبح من عبادي كافر بي) وهو من قال
مطرنا بنوء كذا (ومؤمن بي) وهو من قال: مطرنا بفضل الله
ورحمته كما وقع مبيِّنًا في الحديث الآخر السابق في
الاستسقاء ومطابقته هنا ظاهرة.
7504 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَالَ اللَّهُ إِذَا أَحَبَّ عَبْدِى
لِقَائِى أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِى
كَرِهْتُ لِقَاءَهُ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله (عن
الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه-
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(قال الله) عز وجل (إذا أحب عبدي لقائي) أي الموت. وقال
ابن الأثير: المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب
ما عند الله وليس المراد به الموت لأن كلاًّ
(10/437)
يكرهه فمَن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء
الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله (أحببت لقاءه) أي
أردت الخير له والإنعام عليه (وإذا كره) عبدي (لقائي كرهت
لقاءه) فيه أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمني
الموت لأنها ممكنة مع عدم تمنِّيه لأن النهي محمول على حال
الحياة المستمرة أما عند المعاينة والاحتضار فلا تدخل تحت
النهي بل هي مستحبة.
وسبقت مباحث الحديث في باب من أحب لقاء الله من كتاب
الرقاق.
7505 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَالَ اللَّهُ أَنَا
عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) أي ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن (عن أبي هريرة) -رضي الله
عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(قال الله) عز وجل (أنا) ولأبي ذر عن المستملي لأنا (عند
ظن عبدي) إن ظن خيرًا فله أو غيره فله.
وسبق في باب {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28] من كتاب
التوحيد.
7506 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا
قَطُّ، فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِى
الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِى الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ
قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ
يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ
الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ
مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ
خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ فَغَفَرَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله (عن
الأعرج) عبد الرحمن (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(قال رجل) كان نبّاشًا في بني إسرائيل (لم يعمل خيرًا قط)
لأهله أو لبنيه (فإذا) ولأبي ذر إذا (مات) كان مقتضى
السياق أن يقول إذا متّ لكنه على طريق الالتفات (فحرقوه
واذروا) بالذال المعجمة (نصفه في البر ونصفه في البحر
فوالله لئن قدر الله) بتخفيف الدال أي ضيق الله (عليه)
كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7] أي ضيّق
عليه وليس شكًّا في القدرة على إحيائه (ليعذبنّه عذابًا لا
يعذبه أحدًا من العالمين) زاد في بني إسرائيل فلما مات فعل
به ذلك (فأمر الله) عز وجل (البحر فجمع) بالفاء ولأبي ذر
عن الحموي ليجمع (ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه) وزاد
أيضًا فإذا هو قائم أي بين يدي الله تعالى (ثم قال) تعالى
له (لِمَ فعلت) هذا؟ (قال: من خشيتك) يا رب (وأنت أعلم)
جملة حالية أو معترضة (فغفر له).
وسبق الحديث في ذكر بني إسرائيل.
7507 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى عَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ
ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ: أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ:
رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ
فَاغْفِرْ فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ
رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ
لِعَبْدِى ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ
ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ
أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ: أَعَلِمَ
عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ
بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِى ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ
ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ
ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ أَوْ قَالَ: أَذْنَبْتُ
آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِى فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ
لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ
لِعَبْدِى ثَلاَثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن إسحاق) بن الحصين بن جابر
السرماري بفتح السين المهملة وكسرها وسكون الراء الأولى
نسبة إلى سرمارة قرية من قرى بخارى قال: (حدّثنا عمرو بن
عاصم) بفتح العين وسكون الميم أبو عثمان الكلاباذي البصري
حدّث عنه البخاري بلا واسطة في كتاب الصلاة وغيره قال:
(حدّثنا همام) هو ابن يحيى قال: (حدّثنا إسحاق بن عبد
الله) بن أبي طلحة الأنصاري التابعي المشهور قال: (سمعت
عبد الرحمن بن أبي عمرة) بفتح العين وسكون الميم التابعي
الجليل المدني واسم أبيه كنيته وهو أنصاري صحابي وقيل إن
لعبد الرحمن رؤية (قال: سمعت أبا هريرة) -رضي الله عنه-
(قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(إن عبدًا أصاب ذنبًا وربما قال: أذنب ذنبًا) بالشك (فقال)
يا (رب أذنبت ذنبًا وربما قال أصبت) أي ذنبًا (فاغفر) ذنبي
ولأبي ذر فاغفره وللكشميهني فاغفر لي (فقال ربه أعلم عبدي)
بهمزة الاستفهام والفعل الماضي وللأصيلي علم بحذف الهمزة
(إن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به) أي يعاقب عليه وللأصيلي
يغفر الذنوب ويأخذ بها (غفرت لعبدي) ذنبه أو قال ذنوبه (ثم
مكث ما شاء الله) من الزمان (ثم أصاب ذنبًا) آخر وفي رواية
حماد عند مسلم ثم عاد فأذنب (أو) قال
(أذنب ذنبًا فقال) يا (رب أذنبت أو) قال (أصبت) ذنبًا (آخر
فاغفره}) لي وللأصيليّ فاغفر لي (فقال) ربه (أعلم)
وللأصيلي علم (عبدي أن له ربّا يغفر الذنب ويأخذ به)
ويعاقب فاعله عليه (غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله) من
الزمان (ثم أذنب ذنبًا) آخر (وربما قال أصاب ذنبًا فقال)
يا (رب أصبت أو قال) سقط لفظ قال لغير أبي ذر (أذنبت)
ذنبًا (آخر فاغفره لي) كذا بالشك في هذه المواضع المذكورة
كلها في هذا الحديث من هذا الوجه ورواه حماد بن سلمة عن
إسحاق عند مسلم بلفظ عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فيما يروي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبدي ذنبًا
ولم يشك وكذا في بقية المواضع. (فقال) ربه (أعلم عبدي أن
له ربًّا يغفر الذنب
(10/438)
ويأخذ به غفرت لعبدي ثلاثًا) أي الذنوب
الثلاثة وسقط لفظ ثلاثًا لأبي ذر كقوله (فليعمل ما شاء)
إذا كان هذا دأبه يذنب الذنب فيتوب منه ويستغفر لا أنه
يذنب الذنب ثم يعود إليه فإن هذه توبة الكذّابين؛ ويدل له
قوله: أصاب ذنبًا آخر كذا قرّره المنذري.
وقال أبو العباس في المفهم: هذا الحديث يدل على عظم فائدة
الاستغفار وكثرة فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكن هذا
الاستغفار هو الذي يثبت معناه في القلب مقارنًا للسان
لتنحل به عقدة الإصرار ويحصل مع الندم، ويشهد له حديث:
خياركم كل مفتن توّاب أي الذي يتكرر منه الذنب والتوبة،
فكلما وقع في ذنب عاد إلى التوبة لا من قال: أستغفر الله
بلسانه وقلبه مصرّ على تلك المعصية فهذا الذي استغفاره
يحتاج إلى استغفار. وفي حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا
مرفوعًا: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". والمستغفر من
الذنب وهو مقيم عليه المستهزئ بربه، لكن الراجح أن قوله
والمستغفر إلى آخره موقوف.
وقال ابن بطال في هذا الحديث إن المصرّ على المعصية في
مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبًا لحسنته التي
جاء بها وهي اعتقاد أن له ربًّا خالقًا يعذبهُ ويغفر له
واستغفاره إياه على ذلك يدل عليه قوله تعالى: {من جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] ولا حسنة أعظم من
التوحيد. فإن قيل إن استغفاره ربه توبة منه قلنا ليس
الاستغفار أكثر من طلب المغفرة وقد يطلبها المصرّ والتائب
ولا دلالة في الحديث على أنه تاب مما سأل الغفران عنه لأن
حدّ التوبة الرجوع عن الذنب والعزم أن لا يعود إليه
والإقلاع عنه والاستغفار بمجرده لا يفهم منه ذلك.
وقال السبكي في الحلبيات: الاستغفار طلب المغفرة إما
باللسان أو بالقلب أو بهما، فالأول فيه نفع لأنه خير من
السكوت ولأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جدًّا،
والثالث أبلغ منه لكن لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة منه
فإن العاصي المصر يطلب المغفرة ولا يستلزم ذلك وجود التوبة
إلى أن قال: والذي ذكرته من أن معنى الاستغفار غير معنى
التوبة هو بحسب وضع اللفظ لكنه غلب عند كثيرٍ من الناس أن
لفظ أستغفر الله معناه التوبة فمن كان ذلك معتقده فهو يريد
التوبة لا محالة، ثم قال: وذكر بعضهم أن التوبة لا تتم إلا
بالاستغفار لقوله تعالى: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا
إليه} [هود: 3] والمشهور أنه لا يشترط. وقال بعضهم: يكفي
في التوبة
تحقق الندم على وقوعه منه فإنه يستلزم الإقلاع عنه والعزم
على عدم العود فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه، ومن ثم
جاء الحديث "الندم توبة" وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود
أخرجه ابن ماجة وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان من حديث أنس
وصححه اهـ ملخصًا من فتح الباري.
وسقط للأصيلي فقال أعلم عبدي أن له ربًّا الثالثة إلى آخر
الحديث ومطابقته للترجمة في قوله فقال له ربه وفي قوله
فقال أعلم عبدي، وأخرجه مسلم في التوبة والنسائي في اليوم
والليلة.
7508 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى الأَسْوَدِ،
حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِى حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ
أَبِى سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً فِيمَنْ سَلَفَ أَوْ
فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالَ كَلِمَةً يَعْنِى
«أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالاً وَوَلَدًا، فَلَمَّا حَضَرَتِ
الْوَفَاةُ قَالَ لِبَنِيهِ: أَىَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ
قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ
أَوْ لَمْ يَبْتَئِزْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، وَإِنْ
يَقْدِرِ اللَّهُ عَلَيْهِ يُعَذِّبْهُ فَانْظُرُوا إِذَا
مُتُّ فَأَحْرِقُونِى حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا
فَاسْحَقُونِى -أَوْ قَالَ فَاسْحَكُونِى- فَإِذَا كَانَ
يَوْمُ رِيحٍ عَاصِفٍ فَأَذْرُونِى فِيهَا». فَقَالَ
نَبِىُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّى
فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَذْرَوْهُ فِى يَوْمٍ عَاصِفٍ فَقَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُنْ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ قَائِمٌ،
قَالَ اللَّهُ: أَىْ عَبْدِى مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ
فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ أَوْ فَرَقٌ
مِنْكَ، قَالَ: فَمَا تَلاَفَاهُ أَنْ رَحِمَهُ
عِنْدَهَا». وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: فَمَا تَلاَفَاهُ
غَيْرُهَا فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا عُثْمَانَ فَقَالَ:
سَمِعْتُ هَذَا مِنْ سَلْمَانَ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ فِيهِ
أَذْرُونِى فِى الْبَحْرِ أَوْ كَمَا حَدَّثَ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود) البصري قال:
(حدّثنا معتمر) قال: (سمعت أبي) سليمان بن طرخان التيمي
البصري قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن عقبة بن عبد
الغافر) الأزدي (عن أبي سعيد) سعد بن مالك الخدري -رضي
الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أنه ذكر رجلاً) لم يسم (فيمن سلف) في جملتهم (أو فيمن كان
قبلكم) أي في بني إسرائيل والشك من الراوي وللأصيلي قبلهم
بالهاء بدل الكاف (قال) عليه الصلاة والسلام (كلمة يعني)
معنى الكلمة.
(أعطاه الله) عز وجل وسبق في بني إسرائيل رغسه الله وهو
معنى أعطاه الله (مالاً وولدًا فلما حضرت الوفاة) أي حضرته
الوفاة ولأبي ذر فلما حضره الوفاة (قال لبنيه أيّ أب كنت
لكم؟ قالوا: خير أب). قال أبو البقاء هو بنصب أي على أنه
خبر كنت وجاز تقديمه لكونه استفهامًا ويجوز الرفع. قلت:
وهو الذي في الفرع وصحح عليه وخير أب قال أبو البقاء
الأجود فيه النصب على تقدير كنت خير أب فيوافق ما هو جواب
عنه ويجوز الرفع بتقدير أنت خير أب (قال: فإنه لم يبتئر)
(10/439)
بفتح التحتية وسكون الموحدة وفتح الفوقية
بعدها همزة مكسورة فراء مهملة قال في المصابيح وهو المعروف
في اللغة (أو) قال (لم يبتئز) بالزاي المعجمة بدل الراء
المهملة وقال في المطالع وقع للبخاري في كتاب التوحيد على
الشك في الراء والزاي وفي بعضها يأتبر أي لم
يقدّم (عند الله خيرًا) ليس المراد نفي كل خير على العموم
بل نفي ما عدا التوحيد ولذلك غفر له وإلاّ فلو كان التوحيد
منتفيًا أيضًا لتحتّم عقابه سمعًا ولم يغفر له (وإن يقدّر
الله) يضيق الله (عليه يعذبه) بالجزم وسقط عليه لأبي ذر
والأصيلي (فانظروا إذا متّ فأحرقوني) بهمزة قطع (حتى إذا
صرت فحمًا فاسحقوني -أو قال فاسحكوني-) بالكاف بدل القاف
وهما بمعنى والشك من الراوي (فإذا كان يوم ريح عاصف
فاذروني فيها) بهمزة قطع وبإسقاطها في اليونينية وبمعجمة
يقال ذرى الريح الشيء وأذرته أطارته وأذهبته (فقال نبي
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فأخد مواثيقهم
على ذلك وربي) قسم من المخبر بذلك عنهم تأكيدًا لصدقه وإن
كان محقق الصدق صادقًا قطعًا (ففعلوا) ما قال لهم وأخذ
عليهم مواثيقهم بعد موته من الإحراق والسحق (ثم أذروه في
يوم عاصف) ريحه (فقال الله عز وجل كن فإذا هو رجل قائم)
زاد أبو عوانة في صحيحه في أسرع من طرفة العين (قال الله)
عز وجل له (أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال
مخافتك أو فرق) وللأصيلي مخافتك أو فرقًا بالنصب فيهما
(منك) بفتح الفاء والراي والشك من الراوي ومعناهما واحد
ومخافتك ومعطوفه رفع.
قال البدر الدماميني: خبر مبتدأ محذوف أي الحامل لي مخافتك
أو فرق منك فإن قلت: هلاّ جعلته فاعلاً بفعل مقدر أي حملني
على ذلك مخافتك أو فرق منك؟ قلت: يمتنع لوجهين. أحدهما أنه
إذا دار الأمر بين كون المحذوف فعلاً والباقي فاعلاً وكونه
مبتدأ والباقي خبرًا فالثاني أولى لأن المبتدأ عين الخبر
فالمحذوف عين الثابت فيكون حذفًا كلا حذف وأما الفعل فإنه
غير الفاعل. الوجه الثاني: أن التشاكل بين جملتي السؤال
والجواب مطلوب ولا خفاء بأن قوله ما حملك على أن فعلت ما
فعلت جملة اسمية فليكن جوابها كذلك لمكان المناسبة ولك على
هذا أن تجعل مخافتك مبتدأ والخبر محذوف أي حملتني اهـ.
(قال فما تلافاه) بالفاء (أن) بفتح الهمزة أي بأن (رحمه
عندها). قال في الكواكب: مفهومه عكس المقصود، ثم أجاب: بأن
ما موصولة أي الذي تلافاه هو الرحمة أو نافية وكلمة
الاستثناء محذوفة عند من جوّز حذفها. قال البدر الدماميني:
وهو رأي السهيلي والمعنى فما تلافاه إلا برحمته ويؤيد هذا
قوله: (وقال مرة أخرى فما تلافاه غيرها}) قال سليمان
التيمي (فحدّثت به) بهذا الحديث (أبا عثمان) عبد الرحمن
النهدي (فقال: سمعت هذا) الحديث (من سلمان) الفارسي
الصحابي كما رويته (غير أنه زاد فيه في البحر) أي ذروه في
يوم عاصف في البحر (أو كما حدّث).
0000 - حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ وَقَالَ:
لَمْ يَبْتَئِرْ وَقَالَ خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ
وَقَالَ: لَمْ يَبْتَئِزْ فَسَّرَهُ قَتَادَةُ لَمْ
يَدَّخِرْ.
وبه قال: (حدّثنا موسى) بن إسماعيل التبوذكي قال: (حدّثنا
معتمر) هو ابن سليمان (وقال) في روايته (لم يبتئر) بالراء
المهملة. (وقال خليفة) بن خياط شيخ المصنف (حدّثنا معتمر)
المذكور (وقال لم يبتئز) بالزاي المعجمة (فسره قتادة) بن
دعامة (لم يدّخر) خرّجه الإسماعيلي قال في
المصابيح، قال السفاقسي: وعند المعتزلة أن هذا الرجل إنما
غفر له من أجل توبته التي تابها لأن قبول التوبة واجب
عقلاً، والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوّز القبول سائر
الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب
على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والتفضيل
والإحسان.
لنا وجوه: الأوّل: الوجوب لا يتقرر معناه إلا إذا كان بحيث
لو لم يفعله الفاعل استحق الذم فلو وجب القبول على الله
تعالى لكان بحيث لو لم يقبل لصار مستحقًّا للذم وهو مُحال
لأن من كان كذلك فإنه يكون مستكملاً بفعل القبول والمستكمل
بالغير ناقص لذاته وذلك في حق الله تعالى مُحال.
الثاني: أن الذم إنما يمنع من الفعل من كان
(10/440)
يتأذّى بسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له
بسببه نقصان حال أما من كان متعاليًا عن الشهوة والنفرة
والزيادة والنقصان لم يعقل تحقّق الوجوب في حقه جهذا
المعنى.
الثالث: أنه تعالى تمدّح بقبول التوبة في قوله تعالى: {ألم
يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} [التوبة: 104]
ولو كان ذلك واجبًا لما تمدّح به لأن أداء الواجب لا يفيد
المدح والثناء والتعظيم. قال بعض المفسرين قبول التوبة من
الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا ولهذه نزلت هذه
الآية، وأما المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل التوبة
منها من طائفة من الأمة، واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما
إذا عيّن إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع به على
الله تعالى وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة
فقيل يقطع على الله بقبول توبته وعليه طائفة فيها الفقهاء
والمحدّثون لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه، وعلى هذا يلزم
أن يقبل توبة جميع التائبين. وذهب أبو المعالي وغيره إلى
أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوى في الرجاء والقول
الأوّل أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من
المعاصي بدليل أن الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما
قبلها اهـ.
والحديث سبق في ذكر بني إسرائيل وفي الرقاق.
36 - باب كَلاَمِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مَعَ الأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ
(باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم).
7509 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -
رضى الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ شُفِّعْتُ فَقُلْتُ: يَا رَبِّ أَدْخِلِ
الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ،
فَيَدْخُلُونَ ثُمَّ أَقُولُ: أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ
كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى شَىْءٍ». فَقَالَ أَنَسٌ:
كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن راشد) هو يوسف بن موسى بن راشد
القطان الكوفي نزيل بغداد قال: (حدّثنا أحمد بن عبد الله)
اليربوعي روى عنه المصنف بغير واسطة في الوضوء وغيره قال:
(حدّثنا أبو بكر بن عياش) بالتحتية المشددة والمعجمة
القارئ راوي عاصم أحد القرّاء (عن حميد) بضم الحاء وفتح
الميم الطويل أنه (قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- قال:
سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(إذا كان يوم القيامة شفعت) بضم المعجمة وكسر الفاء
المشددة من التشفيع وهو تفويض الشفاعة إليه والقبول منه
قاله في الكواكب، ولأبي ذر عن الكشميهني: شفعت بفتح
المعجمة والفاء مع التخفيف (فقلت يا رب أدخل الجنة) بفتح
الهمزة وكسر الخاء المعجمة من الإدخال (من كان في قلبه
خردلة) من إيمان وفي الرواية الآتية بعد هذه إن الله تعالى
هو الذي يقول له ذلك وهو المعروف في سائر الأخبار
(فيدخلون) الجنة (ثم أقول) بالهمز يا رب (أدخل الجنة من
كان في قلبه أدنى شيء) من إيمان وهو التصديق الذي لا بدّ
منه (فقال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حيث يقلّله عند قوله أدنى
شيء ويشير إلى رأس أصبعه بالقلة. وقال في الفتح: كأنه يضم
أصابعه ويشير بها. وقال الداودي قوله ثم أقول خلاف سائر
الروايات فإن فيها أن الله أمره أن يخرج، وتعقبه في الفتح
فقال فيه نظر والموجود عند أكثر الرواة ثم أقول بالهمز،
والذي أظن أن البخارى أشار إلى ما في بعض طرقه عادته، ففي
مستخرج أبي نعيم من طريق أبي عاصم أحمد بن جوّاس بفتح
الجيم وتشديد الواو آخره سين مهملة عن أبي بكر بن عياش
أشفع يوم القيامة فيقال لي لك من في قلبه شعيرة، ولك من في
قلبه خردلة، ولك من في قلبه شيء. فهذا من كلام الرب مع
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال: ويمكن
التوفيق بينهما بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يسأل ذلك أوّلاً فيجاب إلى ذلك ثانيًا فوقع في إحدى
الروايتين ذكر السؤال وفي البقية ذكر الإجابة.
7510 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلاَلٍ
الْعَنَزِىُّ قَالَ: اجْتَمَعْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ
الْبَصْرَةِ فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ لَنَا
عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: فَإِذَا هُوَ فِى قَصْرِهِ
فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّى الضُّحَى، فَاسْتَأْذَنَّا
فَأَذِنَ لَنَا وَهْوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَقُلْنَا
لِثَابِتٍ: لاَ تَسْأَلْهُ عَنْ شَىْءٍ أَوَّلَ مِنْ
حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ
هَؤُلاَءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ جَاءُوكَ
يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ؟ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ
بَعْضُهُمْ فِى بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ:
اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا،
وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ
الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: لَسْتُ
لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ
اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا
وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ
لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَأْتُونِى فَأَقُولُ أَنَا لَهَا
فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ لِى وَيُلْهِمُنِى
مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِى الآنَ
فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ
سَاجِدًا فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ
وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ
فَأَقُولُ يَا رَبِّ: أُمَّتِى أُمَّتِى فَيُقَالُ:
انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ
شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ
أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ
أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ
رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ
تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى
فَيُقَالُ، انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى
قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ
إِيمَانٍ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ
فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ
سَاجِدًا فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ
وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ،
فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى فَيَقُولُ:
انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى
أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ
إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ
فَأَفْعَلُ». فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ
قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ
وَهْوَ مُتَوَارٍ فِى مَنْزِلِ أَبِى خَلِيفَةَ
فَحَدَّثَنَا بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَنَا
فَقُلْنَا لَهُ يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ
أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا
حَدَّثَنَا فِى الشَّفَاعَةِ فَقَالَ: هِيهِ
فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَانْتَهَى إِلَى هَذَا
الْمَوْضِعِ فَقَالَ: هِيهِ، فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا
عَلَى هَذَا فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِى وَهْوَ جَمِيعٌ
مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلاَ أَدْرِى أَنَسِىَ أَمْ
كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا، قُلْنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ
فَحَدِّثْنَا فَضَحِكَ وَقَالَ: خُلِقَ الإِنْسَانُ
عَجُولاً مَا ذَكَرْتُهُ إِلاَّ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ
أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِى كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ، قَالَ
«ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ ثُمَّ
أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ
رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ
تُشَفَّعْ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِى فِيمَنْ
قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَقُولُ: وَعِزَّتِى
وَجَلاَلِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى لأُخْرِجَنَّ
مِنْهَا مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) بفتح الحاء المهملة وسكون
الراء الواشحي قال: (حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم
الإمام أبو إسماعيل قال: (حدّثنا معبد بن هلال) بفتح الميم
والموحدة بينهما عين مهملة ساكنة (العزي) بفتح العين
المهملة وكسر الزاي (قال: اجتمعنا ناس) بيان لقوله اجتمعنا
وهو مرفوع خبر مبتدأ محذوف أي اجتمعنا نحن ناس (من أهل
البصرة) أي ليس فيهم أحد من غير أهلها (فذهبنا إلى أنس بن
مالك) -رضي الله عنه- (وذهبنا معنا) بفتح العين (بثابت
إليه) إلى أنس (يسأله) وثابت بالمثلثة ولأبي ذر والأصيلي
بثابت البناني نسبة إلى بنانة بضم الموحدة وتخفيف النون
أمة لسعد بن لؤي كانت تحضنه أو زوجته ونسب
(10/441)
إليها أو لأنه كان ينزل سكة بنانة بالبصرة.
قال السفاقسي: فيه تقديم الرجل الذي هو من خاصة العالم
ليسأله ولأبي ذر عن الكشميهني فسأله أي ثابت (لنا عن حديث
الشفاعة فإذا هو في قصره) بالزاوية على نحو فرسخين من
البصرة (فوافقنا) بسكون القاف وحذف الضمير وللكشميهني
فوافقناه (يصلي) الضحى (فاستأذنا) في الدخول عليه (فأذن
لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول
من حديث الشفاعة). قال الكرماني أي أسبق وفيه إشعار بأنه
أفعل لا فوعل وفيه اختلاف بين علماء التصريف (فقال) ثابت:
(يا أبا حمزة) وهي كنية أنس (هؤلاء إخوانك) معبد وأصحابه
(من
أهل البصرة جاؤوك) وسقط الكاف من جاؤوك لأبي ذر والأصيلي
(يسألونك عن حديث الشفاعة فقال) أنس -رضي الله عنه-
(حدّثنا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا كان يوم القيامة ماج الناس) بالجيم (بعضهم في بعض) أي
اضطربوا من هول ذلك اليوم يقال ماج البحر إذا اضطربت
أمواجه (فيأتون آدم) عليه السلام (فيقولون اشفع لنا إلى
ربك) ليريحنا مما نحن فيه وسقط لنا لأبي ذر (فيقول لست
لها) أي ليست لي هذه المرتبة (ولكن عليكم بإبراهيم فإنه
خليل الرحمن فيأتون إبراهيم) عليه السلام وفي الأحاديث
السابقة فيقول آدم عليكم بنوح ولم يذكر هنا نوحًا (فيقول)
إبراهيم (لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله) ولأبي
ذر عن الكشميهني فإنه كلم الله بلفظ الماضي (فيأتون موسى)
عليه السلام (فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح
الله وكلمته فيأتون عيسى) عليه السلام (فيقول لست لها ولكن
عليكم بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيأتوني)
ولأبي ذر فيأتونني (فأقول أنا لها) أي للشفاعة (فأستأذن
على ربي فيؤذن لى) أي في الشفاعة الموعود بها في فصل
القضاء ففيه حذف وفي مسند البزار أنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول (يا رب عجل على الخلق الحساب)
اهـ ثم تذهب كل أمة مع من كانت تعبد ويؤتى بجهنم والموازين
والصراط وتتناثر الصحف وغير ذلك ثم من هنا ابتدأ ببيان
الشفاعة الأخرى الخاصة بأمته (ويلهمني) بالواو ولأبي ذر
فيلهمني أي الله (محامد) ولأبوي ذر والوقت بمحامد (أحمده
بها لا تحضرني الأن فأحمده بتلك المحامد وأخرّ له ساجدًا
فيقال) ولأبي ذر عن الكشميهني فيقول (يا محمد ارفع رأسك
وقل يسمع لك وصَل تُعْطَ) سؤالك ولأبى ذر والأصيلي تعطه
بهاء السكت (واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي) أي شفعني
في أمتي فيتعلق بمحذوف حذف لضيق المقام وشدة الاهتمام. قال
الداودي: قوله أمتي أمتي لا أراه محفوظًا لأن الخلائق
اجتمعوا واستشفعوا، ولو كان المراد هذه الأمة خاصة لم تذهب
إلى غير نبيها فدلّ على أن المراد الجمع إذا كانت الشفاعة
لهم في فصل القضاء فكيف يخصّها بقوله أمتي ثم قال: وأول
الحديث ليس متصلاً بآخره بل بقي بين طلبهم الشفاعة وبين
قوله فاشفع كثرة أمور اهـ.
وأجيب: بأنه وقع في حديث حذيفة المعروف بحديث أبي هريرة
بعد قوله فيأتون محمدًا فيقوم ويؤذن له في الشفاعة ويرسل
الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يمينًا وشمالاً فيمر
أوّلهم كالبرق الحديث فبهذا يتصل الكلام لأن الشفاعة التي
لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة من كرب الموقف ثم تجيء
الشفاعة في الإخراج فيقول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: يا رب أمتي.
(فيقال) ولأبي ذر عن الكشميهني فيقول (انطلق فأخرج منها)
أي من النار (من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق
فأفعل) ما أمرت به من الإخراج (ثم أعود فأحمده) تعالى
(بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدًا فيقال) ولأبي ذر عن
الكشميهني فيقول (يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسََل تعط
واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال) ولأبي ذر عن
الكشميهني فيقول: (انطلق فأخرج منها مَن كان في قلبه مثقال
ذرة) بالذال المعجمة والراء المشددة (أو خردلة من
إيمان)
(10/442)
ولأبي ذر فأخرجه بالجزم على الأمر (فأنطلق
فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدًا
فيقال) ولأبي ذر عن الكشميهني فيقول (يا محمد ارفع رأسك
وقل يسمع لك وَسَلْ تُعْطَ واشفع تشفع فأقول: يا رب أمتي
أمتي فيقول) وللأصيلي فيقال (انطلق فأخرج) منها (من كان في
قلبه أدنى أدنى) مرتين وللكشميهني أدنى مرة ثالثة وفائدة
التكرار التأكيد (مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من
النار). فهي ثلاث تأكيدات لفظية فهو بالغ أقصى المبالغة
باعتبار الأدنى البالغ هذا المبلغ في الإيمان الذي هو
التصديق ويحتمل أن يكون التكرار للتوزيع على الحبة
والخردلة أي أقل حبة من أقل خردلة من الإيمان ويستفاد منه
صحة القول بتجزئ الإيمان وزيادته ونقصانه ولأبي ذر من
النار من النار من النار بالتكرير ثلاثًا كقوله: أدنى أدنى
أدنى (فأنطلق فأفعل).
قال معبد (فلما خرجنا من عند أنس قلت لبعض أصحابنا)
البصريين (لو مررنا بالحسن) البصري (وهو متوارٍ) مختف (في
منزل أبي خليفة) الطائي البصري خوفًا من الحجاج بن يوسف
الثقفي (بما) وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي والمستملي
فحدّثنا وللكشميهني والأصيلي فحدّثناه بما (حدّثنا) بفتح
المثلثة (أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا
له: يا أبا سعيد) وهي كنية الحسن (جئناك من عند أخيك) في
الذين (أنس بن مالك فلم نرَ مثل ما حدّثنا) بفتح المثلثة
(في الشفاعة. فقال: هيه) بكسر الهاءين من غير تنوين وقد
تنوّن كلمة استرادة أي زيدوا من الحديث (فحدّثناه) بسكون
المثلثة (بالحديث) الذي حدّثنا به أن (فانتهى إلى هذا
الموضع فقال هيه) أي زيدوا (فقلنا: لم) وللأصيلي فقلنا له
لم (يزد لنا) أن (على هذا فقال: لقد حدّثني) بالإفراد أنس
(وهو جميع) أي وهو مجتمع أي حي كان شابًّا مجتمع العقل وهو
إشارة إلى أنه كان حينئذٍ لم يدخل في الكبر الذي هو مظنة
تفرق الذهن وحدوث اختلاط الحفظ (منذ) بالنون (عشرين سنة
فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا) على الشفاعة فتتركوا
العمل (قلنا) ولأبي ذر عن الكشميهني فقلنا (يا أبا سعيد
فحدّثنا) بسكون المثلثة (فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً ما
ذكرته) لحكم (إلا وأنا أريد أن أحدّثكم حدّثني) أنس (كما
حدّثتكم به قال) عليه الصلاة والسلام:
(ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك ثم) ولأبي ذر والأصيلي بتلك
المحامد ثم (أخرّ له ساجدًا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل
يسمع) لك (وسَلْ تُعْطَه) بهاء السكت (واشفع تشفع فأقول:
يا رب أئذن لي فيمن قال لا إله إلا الله فيقول) عز وجل
(وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجنّ) بضم الهمزة (منها
من قال: لا إله إلا الله). أي مع محمد رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي مسلم ائذن لي فيمن قال لا
إله إلا الله. قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وكبريائي
وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال: لا إله إلا الله أي ليس
هذا لك وإنما أفعل ذلك تعظيمًا لاسمي وإجلالاً لتوحيدي.
وفي الحديث الإشعار بالانتقال من التصديق القلبي إلى
اعتبار المقال من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله.
واستشكل لأنه إن اعتبر تصديق القلب اللسان فهو كمال
الإيمان فما وجه الترقي من الأدنى المؤكد وإن لم يعتبر
التصديق القلبي بل مجرد اللفظ فيدخل المنافق فهو موضع
إشكال على ما لا
يخفى. وأجيب: بأن يحمل هذا على من أوجد هذا اللفظ وأهمل
العمل بمقتضاه ولم يتخالج قلبه فيه بتصميم عليه ولا مُنافٍ
له فيخرج المنافق لوجود التصميم منه على الكفر بدليل قوله
في آخر الحديث كما في الرواية الأخرى فأقول: يا رب ما بقي
في النار إلا من حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود وهو
الكافر، وأجاب الطيبي: بأن ما يختص بالله تعالى هو التصديق
المجرد عن الثمرة وما يختص بالنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الإيمان مع الثمرة من ازدياد
اليقين أو العمل اهـ.
قال البيضاوي: وهذا الحديث مخصص لعموم قوله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث أبي هريرة أسعد الناس
بشفاعتي يوم القيامة ويحتمل أن يجري على عمومه ويحمل على
حال أو مقام اهـ.
(10/443)
لكن قال في شرح المشكاة: إذا قلنا إن
المختص بالله التصديق المجرد عن الثمرة وإن المختص بالنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإيمان معها فلا
اختلاف.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لا خفاء فيها. والحديث أخرجه
مسلم في الإيمان والنسائي في التفسير.
7511 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
دُخُولاً الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا
مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا فَيَقُولُ لَهُ
رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: رَبِّ الْجَنَّةُ
مَلأَى فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَكُلُّ
ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ مَلأَى فَيَقُولُ:
إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن خالد). هو محمد بن يحيى بن عبد
الله بن خالد الذهلي كما جزم به الحاكم والكلاباذي وقيل هو
محمد بن خالد بن جبلة الرافقي وجزم به أبو أحمد بن عدي
وخلف في أطرافه. قال الحافظ ابن حجر، وفي رواية الكشميهني
محمد بن مخلد والأوّل هو الصواب ولم يذكر أحد ممن صنّف في
رجال البخاري ولا في رجال الكتب الستة أحدًا اسمه محمد بن
مخلد والمعروف محمد بن خالد قال: (حدّثنا عبد الله) بضم
العين (ابن موسى) الكوفي (عن إسرائيل) بن موسى بن أبي
إسحاق السبيعي (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن إبراهيم)
النخعي (عن عبيده) بفتح العين وكسر الموحدة السلماني (عن
عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجًا من
النار رجل يخرج حبوًا) بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة
زحفًا (فيقول له ربه) تعالى (ادخل الجنة فيقول) وفي الرقاق
فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول (رب) وللأصيلي
أي رب (الجنة ملأى فيقول) (له ذلك ثلاث مرات فكل ذلك)
بالفاء وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي والمستملي كل ذلك
(يعيد) العبد (عليه)
تعالى (الجنة ملأى فيقول) عز وجل (إن لك مثل الدنيا عشر
مرار). وللكشميهني مرات. والحديث سبق في صفة الجنة والرقاق
مطوّلاً.
7512 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا
عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ،
عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْكُمْ
أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ
يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ
أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ
وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ
تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ
تَمْرَةٍ». قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ
مُرَّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ وَلَوْ
بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن حجر) بضم الحاء المهملة وسكون
الجيم السعدي المروزي حافظ مرو قال: (أخبرنا عيسى بن يونس)
بن أبي إسحاق السبيعي (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن
خيثمة) بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية وبالمثلثة ابن
عبد الرحمن الجعفي (عن عدي بن حاتم) الطائي الجواد ابن
الجواد -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ما منكم أحد) وللأصيلي من أحد (إلا سيكلمه ربه ليس بينه
وبينه ترجمان) بفتح الفوقية وتضم يترجم له (فينظر أيمن منه
فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر) ولأبي ذر عن الكشميهني
ثم ينظر (أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم) من عمله (وينظر بين
يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه) لأنها تكون في ممره
فلا يمكنه أن يحيد عنها إذ لا بد له من المرور على الصراط
(فاتقوا النار ولو بشق تمرة) بكسر المعجمة بنصفها أي:
فاحذروا النار فلا تظلموا أحدًا ولو بمقدار شق تمرة، أو
فاجعلوا الصدقة جنة بينكم وبين النار ولو بشق تمرة.
(قال الأعمش) سليمان بالسند السابق: (وحدّثني) بالإفراد
(عمرو بن مرة عن خيثمة) بن عبد الرحمن الجعفي عن عدي بن
حاتم (مثله) أي مثل السابق (وزاد فيه: ولو بكلمة طيبة)
كالدلالة على هدى والصلح بين اثنين أو بكلمة طيبة يردّ بها
السائل ويطيب قلبه ليكون ذلك سببًا لنجاته من النار.
والحديث سبق بزيادة ونقص في أوائل الزكاة وكذا في الرقاق.
7513 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه -
قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: إِنَّهُ
إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ
السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى
إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ
وَالْخَلاَئِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ
يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ فَلَقَدْ
رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَعَجُّبًا
وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ} -إِلَى قَوْلِهِ- {يُشْرِكُونَ} [الأنعام:
91].
وبه قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) أبو الحسن العبسي
مولاهم الكوفي الحافظ قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد
الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن إبراهيم) النخعي (عن
عبيدة) بفتح العين السلماني (عن عبد الله) بن مسعود (رضي
الله عنه) أنه (قال: جاء حبر من اليهود فقال) وللأصيلي إلى
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال (إنه إذا
كان يوم القيامة جعل الله) عز وجل (السماوات) السبع (على
أصبع والأرضين) السبع (على أصبع والماء والثرى) بالمثلثة
(على أصبع والخلائق على أصبع ثم يهزهنّ) أي يحركهن إشارة
إلى حقارتهن إذ لا يثقل عليه إمساكها ولا تحريكها (ثم
يقول: أنا الملك أنا الملك) مرتين (فلقد رأيت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يضحك حتى بدت) ظهرت
(نواجذه) بالذال المعجمة أنيابه التي تبدو عند الضحك
(تعجبًا) من قول الحبر (وتصديقًا لقوله
(10/444)
ثم قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
({وما قدروا الله حق قدره} -إلى قوله-: {يشركون} [الأنعام:
91]) والتعبير بالأصبع والضحك من المتشابهات كما سبق
فيتأوّل على نوع من المجاز وضرب من التمثيل مما جرت عادة
الكلام بين الناس في عُرْف تخاطبهم، فيكون المعنى إن قدرته
تعالى على طيها وسهولة الأمر في جمعها بمنزلة من جمع شيئًا
في كفه فاستخف حمله فلم يشتمل عليه بجميع كفه بل أقله ببعض
أصابعه، وقد يقول الإنسان في الأمر الشاق إذا أضيف إلى
القوي إنه يأتي عليه بأصبع أو إنه يقله بخنصره، والظاهر أن
هذا كما مرّ من تخليط اليهود وتحريفهم وأن ضحكه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما كان على وجه التعجب
والنكير له والعلم عند الله قاله الخطابي فيما نقله عنه في
الفتح.
ومطابقة الحديث في قوله ثم يقول: أنا الملك أنا الملك وسبق
في باب قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} [ص: 75].
7514 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّ
رَجُلاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِى
النَّجْوَى؟ قَالَ: «يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ
حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ
كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَقُولُ عَمِلْتَ
كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ
يَقُولُ: إِنِّى سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا وَأَنَا
أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ».
وَقَالَ آدَمُ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) أي ابن مسرهد قال: (حدّثنا أبو
عوانة) الوضاح اليشكري (عن قتادة) بن دعامة (عن صفوان بن
محرز) بضم الميم وسكون الحاء المهملة وبعد الراء المكسورة
زاي المازني (أن رجلاً) لم يسمّ (سأل ابن عمر) -رضي الله
عنهما- فقال له (كيف سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في النجوى) التي تقع بين الله
وبين عبده يوم القيامة (قال) ابن عمر سمعت رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول:
(يدنو أحدكم من ربه) أي يقرب منه تعالى قرب رحمة (حتى يضع)
الله تعالى (كنفه عليه) بفتح الكاف والنون أي يحفظه ويستره
عن أهل الموقف فضلاً منه حيث يذكر له معاصيه سرًّا
(فيقول) له (أعملت كذا وكذا فيقول) العبد (نعم) يا رب
(ويقول) له (عملت) وللأصيلي أعملت (كذا وكذا فيقول نعم) يا
رب (فيقرره) بذنوبه ليعرّفه منّته عليه في ستره في الدنيا
وعفوه في الآخرة (ثم يقول) تعالى (إني سترت) ذنوبك (عليك
في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم).
ومطابقته للترجمة في قوله فيقول في الموضعين وأخرجه في باب
قول الله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18]
من كتاب المظالم.
(وقال آدم) بن أبي إياس (حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن قال:
(حدّثنا قتادة) بن دعامة قال: (حدّثنا صفوان) بن محرز (عن
ابن عمر) أنه قال: (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) ذكره لتصريح قتادة بقوله حدّثنا صفوان، وليس
في أحاديث هذا الباب كلام الرب مع الأنبياء إلا في حديث
أنس وإذا ثبت كلامه مع غير الأنبياء فوقوعه معهم أولى
والله الموفّق.
37 - باب قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}
[النساء: 164]
(باب قوله) عز وجل: ({وكلم الله موسى تكليمًا} [النساء:
164]) الجمهور على رفع الجلالة الشريفة وتكليمًا مصدر رافع
للمجاز قال الفراء العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلامًا
بأيّ طريق وصل، ولكن لا تحققه بالمصدر فإذا تحقق بالمصدر
لم يكن إلا حقيقة الكلام، وقال القرطبي: تكليمًا مصدر
معناه التأكيد، وهذا يدل على بطلان قول من يقول خلق الله
لنفسه كلامًا في شجرة يسمعه موسى بل هو الكلام الحقيقي
الذي يكون به المتكلم متكلمًا قال النحّاس: وأجمع النحويون
على أنك إذا أكدت الفعل بالمصادر لم يكن مجازًا وأنه لا
يجوز في قول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني
أن يقول وقال قولاً، وكذا لما قال تكليمًا وجب أن يكون
كلامًا على الحقيقة. قال في المصابيح بعد أن ذكر نحو ما
ذكرته، واعترض هذا بقوله تعالى: {ومكروا مكرًا ومكرنا
مكرًا} [النمل: 50] وقوله تعالى: ({وأكيد كيدًا} [الطارق:
16] وقول الشاعر:
بكى الخز من روح وأنكر جلده ... وعجبت عجيجًا من جذام
المطارف
فإن ذلك كله مجاز مع وجود التأكيد بالمصدر، ولهذا قال
بعضهم: والتأكيد بالمصدر يرفع المجاز في الأمر العام يريد
الغالب قال: وكان الشيخ بهاء الدين بن عقيل يقول الجواب عن
هذا البيت يؤيد تحقيقًا سمعناه من شيخنا علاء الدين
القونوي فيقول لا تخلو الجملة التي أكد الفعل فيها بالمصدر
من أن تكون صالحة لأن تستعمل لكلٍّ من المعنيين يريد
الحقيقة والمجاز أو لا يصلح
(10/445)
استعمالها إلا في المعنى المجازي فقط فإن
كان الأول كان التأكيد بالمصدر يرفع المجاز وإن كان الثاني
لم يكن التأكيد رافعًا له فمثال الأول قولك ضربت زيدًا
ضربًا ومثال الثاني البيت المذكور لأن عجيج المطارف لا يقع
إلا مجازًا اهـ.
واختلف في سماع كلام الله تعالى فقال الأشعري: كلام الله
تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تالٍ وقراءة كل
قارئ. وقال الباقلاني: وإنما تسمع التلاوة دون المتلوّ
والقراءة دون المقروء ولم يذكر في هذه الآية المتكلم به
نعم في سورة الأعراف {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس
برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 14] أي وبتكليمي إياك ووقع في
رواية أبي ذر باب ما جاء في وكلم الله موسى. وقال في فتح
الباري في رواية أبي زيد المروزي باب ما جاء في قوله عز
وجل: ({وكلم الله} [النساء: 164].
7515 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ
مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِى أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ
مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ: آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِى
اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَكَلاَمِهِ، ثُمَّ
تَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ
أُخْلَقَ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى».
وبه قال: (حدّثنا يحيي بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام قال: (حدّثنا)
ولأبي ذر: حدّثني (عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن خالد
(عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه قال: (حدّثنا)
وللأصيلي أخبرني بالإفراد (حميد بن عبد الرحمن عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- (أن النبي) ولأبي ذر والأصيلي أن
رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(احتج آدم وموسى) أي تحاجّا (فقال موسى أنت آدم الذي أخرجت
ذريتك من الجنة قال أنت) ولغير أبي ذر والأصيلي قال آدم
أنت (موسى الذي اصطفاك الله تعالى برسالاته وبكلامه ثم
تلومني على أمر قد قدّر) بضم القاف وكسر الدال مشددة
(عليّ) بتشديد الياء (قبل أن أخلق) بضم الهمزة (فحج آدم
موسى) أي غلب عليه بالحجة في قوله أنت آدم الخ بأن ألزمه
أن ما صدر عنه لم يكن هو مستقلاًّ به متمكّنًا من تركه بل
كان أمرًا مقضيًّا وليس معنى قوله: تلومني على أمر قد قدّر
عليّ أنه لم يكن له فيه كسب واختيار، بل المعنى أن الله
أثبته في أم الكتاب قبل كوني وحكم بأن ذلك كائن لا محالة
بعلمه السابق فهل يمكن أن يصدر عني خلاف علم الله؟ فكيف
تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى
الأصل الذي هو القدر وأنت ممن اصطفاك الله من المصطفين
الذين يشاهدون سرّ الله من وراء الأستار قاله التوربشتي.
ومطابقته للترجمة في قوله اصطفاك الله برسالاته وبكلامه،
وسبق في القدر.
7516 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا
هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله
عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى
رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَأْتُونَ
آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ
خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ الْمَلاَئِكَةَ
وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى
رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ: لَسْتُ
هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِى
أَصَابَ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال: (حدّثنا
هشام) الدستوائي قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس
-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبوي الوقت وذر والأصيلي قال النبي
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يجمع المؤمنون) بضم الياء من يجمع والمؤمنون نائب الفاعل
(يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من
مكاننا هذا) لما ينالهم من الكرب (فيأتون آدم) عليه السلام
(فيقولون له أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده) أي بقدرته
وخصّه بالذكر إكرامًا وتشريفًا له أو أنه خلق إبداع من غير
واسطة رحم (وأسجد لك الملائكة) بأن أمرهم أن يخضعوا لك
والجمهور على أن المأمور به وضع الرجه على الأرض وكان تحية
له، إذ لو كان لله لما امتنع عنه إبليس وكان سجود التحية
جائزًا فيما مضى ثم نسخ بقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لسلمان حين أراد أن يسجد له: "لا ينبغي لمخلوق
أن يسجد لأحد إلا لله" (وعلمك أسماء كل شيء) أي أسماء
المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلومًا مدلولاً عليه
بذكر الأسماء إذ الاسم يدل على المسمى (فاشفع لنا إلى ربنا
حتى يريحنا) مما نحن فيه من الكرب (فيقول لهم لست هناكم)
بضم الهاء أي لست في المنزلة التي تحسبونني وهي مقام
الشفاعة (ويذكر لهم خطيئته التي أصاب) أي التي أصابها وهي
أكله من الشجرة التي نهى عنها قاله تواضعًا وإعلامًا بأنها
لم تكن له.
وهذا الحديث ذكره هنا مختصرًا ولم يذكر فيه ما ترجم له على
عادته في الإشارة.
وقد سبق في تفسير سورة البقرة عن مسلم بن إبراهيم شيخه هنا
بتمامه وفيه: ائتوا موسى عبدًا كلّمه الله تعالى وأعطاه
التوراة الحديث. وساقه أيضًا في كتاب التوحيد في باب قول
الله تعالى: {لما خلقت
(10/446)
بيديّ} [ص: 75] وفيه ائتوا موسى عبدًا آتاه
الله التوراة وكلمه تكليمًا.
7517 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنِى سُلَيْمَانُ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: لَيْلَةَ
أُسْرِىَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ «أَنَّهُ جَاءَهُ
ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهْوَ
نَائِمٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَوَّلُهُمْ:
أَيُّهُمْ هُوَ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ،
فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً
أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ
يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ
أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ
يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ
بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلاَّهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ،
فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ
حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ فَغَسَلَهُ مِنْ
مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ ثُمَّ
أُتِىَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ
مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ
وَلَغَادِيدَهُ. -يَعْنِى عُرُوقَ حَلْقِهِ- ثُمَّ
أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ
أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ.
قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مَعِى مُحَمَّدٌ. قَالَ:
وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا:
فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلاً فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ
السَّمَاءِ لاَ يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ
اللَّهُ بِهِ فِى الأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ، فَوَجَدَ
فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا
آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ
عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ
فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً بِابْنِى نِعْمَ الاِبْنُ
أَنْتَ، فَإِذَا هُوَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا
بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ فَقَالَ: مَا هَذَانِ
النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَانِ النِّيلُ
وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا، ثُمَّ مَضَى بِهِ فِى
السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ
مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ
مِسْكٌ، قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا
الْكَوْثَرُ الَّذِى خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ، ثُمَّ عَرَجَ
إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ
لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ الأُولَى مَنْ هَذَا؟ قَالَ
جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: وَقَدْ
بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ
وَأَهْلاً، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ
الثَّالِثَةِ وَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتِ الأُولَى
وَالثَّانِيَةُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ
فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ، عَرَجَ بِهِ إِلَى
السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ،
ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ
فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى
السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ،
كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ
فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِى الثَّانِيَةِ،
وَهَارُونَ فِى الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِى الْخَامِسَةِ
لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّادِسَةِ،
وَمُوسَى فِى السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلاَمِ اللَّهِ
فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَىَّ
أَحَدٌ، ثُمَّ عَلاَ بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لاَ
يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ
الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ
فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ
خَمْسِينَ صَلاَةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى
فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَاذَا
عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَىَّ خَمْسِينَ
صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ
لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ
رَبُّكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ
يَسْتَشِيرُهُ فِى ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ
أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلاَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ
فَقَالَ وَهْوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا،
فَإِنَّ أُمَّتِى لاَ تَسْتَطِيعُ هَذَا، فَوَضَعَ عَنْهُ
عَشْرَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ
فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى
صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى
عِنْدَ الْخَمْسِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ
رَاوَدْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ قَوْمِى عَلَى أَدْنَى مِنْ
هَذَا، فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ
أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا
وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ
كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ
وَلاَ يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ فَرَفَعَهُ عِنْدَ
الْخَامِسَةِ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِى ضُعَفَاءُ
أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ
وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا؟ فَقَالَ الْجَبَّارُ:
يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَالَ:
إِنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ كَمَا فَرَضْتُ
عَلَيْكَ فِى أُمِّ الْكِتَابِ قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ
بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهْىَ خَمْسُونَ فِى أُمِّ
الْكِتَابِ، وَهْىَ خَمْسٌ عَلَيْكَ، فَرَجَعَ إِلَى
مُوسَى فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: خَفَّفَ عَنَّا
أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا. قَالَ
مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ
عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَتَرَكُوهُ، ارْجِعْ إِلَى
رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا مُوسَى
قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى مِمَّا
اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ،
قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وَهْوَ فِى مَسْجِدِ الْحَرَامِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) بن يحيى الأويسي
قال: (حدّثني) بالإفراد (سليمان) بن بلال (عن شريك بن عبد
الله) بن أبي نمر بفتح النون وكسر الميم بعدها راء المدني
التابعي (أنه قال: سمعت ابن مالك) ولأبي ذر والأصيلي سمعت
أنس بن مالك -رضي الله عنه- (يقول: ليلة أسري) بضم الهمزة
(برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مسجد
الكعبة أنه جاءه) بكسر الهمزة ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي أنه بفتح الهمزة جاء بإسقاط الضمير (ثلاثة نفر)
كذا في الفرع كأصله. وقال في الفتح في رواية الكشميهني: إذ
جاءه بدل أنه قال والأول أولى والنفر الثلاثة لم أقف على
أسمائهم صريحًا لكنهم من الملائكة لكن في رواية ميمون بن
سياه عن أنس عند الطبري فأتاه جبريل وميكائيل (قبل أن يوحى
إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم: أيّهم هو)؟
محمد، وقد روي أنه كان نائمًا معه حينئذٍ عمه حمزة بن عبد
المطلب وابن عمه جعفر بن أبي طالب (فقال: أوسطهم هو خيرهم:
فقال آخرهم): ولأبي ذر عن الكشميهني فقال أحدهم أي أحد
النفر الثلاثة (خذوا خيرهم) للعروج به إلى السماء (فكانت
تلك الليلة) أي فكانت تلك القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر
هنا فالضمير المستتر في كانت لمحذوف وكذا خبر كان (فلم
يرهم) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك (حتى
أتوه ليلة أخرى) أي يعين المدة بين المجيئين فيحمل على أن
المجيء الثاني كان بعد أن أوحي إليه، وحينئذٍ وقع الإسراء
والمعراج إذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون
تلك المدة ليلة واحدة أو ليالي كثيرة أو عدة سنين، وبهذا
يحصل الجواب عما استشكله الخطابي وابن حزم وعبد الحق وعياض
والنووي من قوله قبل أن يوحى إليه، ونسبتهم رواية شريك إلى
الغلط لأن المجمع عليه أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء،
فكيف يكون قبل أن يوحى إليه وإن شريكًا تفرّد بذلك فارتفع
الإشكال. كذا قرره الحافظ ابن حجر رحمه الله. وقيل: المراد
قبل أن يوحى إليه في بيان الصلاة ومنهم مَن أجراه على
ظاهره ملتزمًا أن الإسراء كان مرتين قبل النبوّة وبعدها
كما حكاه في المصابيح، ونقلته عنه في كتابي المواهب
اللدنية. وأما دعواهم تفرّد شريك فقال الحافظ أيضًا: إنه
قد وافقه كثير بن خنيس بالخاء المعجمة ونون مصغرًا عن أنس
كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب المغازي من
طريقه وكان مجيء الملائكة له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكانت
الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) الثابت في الروايات
أنه كان في اليقظة فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلاّ
فيحمل هذا مع قوله آخر الحديث. واستيقظ وهو في المسجد
الحرام على أنه كان في طرفي القصة نائمًا وليس في ذلك ما
يدل على كونه نائمًا فيها كلها (فلم يكلموه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى احتملوه فوضعوه عند بئر
زمزم فتولاه منهم جبريل) عليه السلام (فشق جبريل ما بين
نحره إلى لبته) بفتح اللام والموحدة المشددة موضع القلادة
من الصدر ومن هنا تنحر الإبل (حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله
من ماء زمزم بيده) بيد جبريل (حتى أنقى جوفه) ليتهيأ
للترقي إلى الملأ الأعلى ويثبت في المقام الأسنى ويتقوّى
لاستجلاء الأسماء الحسنى وكذا وقع شق صدره الشريف في صغره
عند حليمة وعند النبوّة ولكلٍّ حكمة، بل ذكر الشق مرة أخرى
نبهت عليها مع غيرها في المواهب تبعًا للحافظ ابن حجر.
(ثم أتى) عليه الصلاة والسلام (بطست من ذهب) وكان إذ ذاك
لم يحرم اسعماله (فيه تور من ذهب) بالمثناة الفوقية من تور
وهو إناء يشرب فيه وهو يقتضي أن يكون غير الطست وأنه كان
داخل الطست (محشوًّا إيمانًا وحكمة). قال في الفتح قوله
محشوًّا حال من الضمير في الجار والمجرور والتقدير بطست
كائن من ذهب فنقل الضمير من اسم الفاعل إلى الجار والمجرور
وأما إيمانًا فعلى التمييز وتعقبه العيني فقال فيه نظر،
والذي يقال إن محشوًّا حال من التور الموصوف
(10/447)
بقوله من ذهب، وأما إيمانًا فمفعول قوله
محشوًّا لأن اسم المفعول يعمل عمل فعله وحكمة عطف عليه
ويحتمل أن يكون أحد الإناءين أعني الطست والتور فيه ماء
زمزم والآخر المحشوّ بالإيمان وأن يكون التور ظرف الماء
وغيره والطست لما يصب فيه عند الغسل صيانة له عن التبدّد
في الأرض والمراد أن الطست كان فيه شيء يحصل به كمال
الإيمان فالمراد سببهما مجازًا (فحشا به) بفتح الحاء
المهملة والشين المعجمة (صدره ولغاديده) بالغين المعجمة
والمهملتين بينهما تحتية ساكنة، ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي فحشي بضم الحاء وكسر الشين به صدره ولغاديده
برفعهما وفسر اللغاديد قوله (يعني عروق حلقه ثم أطبقه) ثم
أركبه البراق إلى بيت المقدس (ثم عرج به إلى السماء
الدنيا) بفتح العين والجيم (فضرب بابًا من أبوابها فناداه
أهل السماء مَن هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال:
معي محمد) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال)
قائلهم (وقد بعث إليه)؟ للإسراء وصعود السماوات وليس
المراد الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة فإن ذلك لا يخفى
عليه إلى هذه المدة ولأن أمر نبوته كان مشهورًا في الملكوت
الأعلى وهذا هو الصحيح (قال) جبريل: (نعم. قالوا: فمرحبًا
به وأهلاً فيستبشر به أهل السماء) وسقطت الفاء من فيستبشر
للأصيلي وزاد أي الأصيلي الدنيا (لا يعلم أهل السماء بما)
وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني ما (يريد الله) عز وجل (به
في الأرض حتى يعلمهم) أي على لسان من شاء كجبريل عليه
السلام (فوجد في السماء الدنيا أم) عليه السلام (فقال له
جبريل: هذا أبوك فسلّم) وللأصيلي أبوك آدم فسلم (عليه فسلم
عليه وردّ عليه آدم) السلام (فقال مرحبًا وأهلاً يا بني
نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين) بفتح
الهاء (يطّردان) بتشديد الطاء المهملة يجريان (فقال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لجبريل:
(ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذان النيل والفرات
عنصرهما) بضم العين والصاد المهملتين أي أصلهما (ثم مضى به
في السماء) أي الدنيا (فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ
وزبرجد فضرب يده) أي في النهر وللأصيلي بيده (فإذا هو مسك)
ولأبي ذر والأصيلي مسك أذفر بالذال المعجمة جيد الرائحة
(قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك) خبأ
بالخاء المعجمة والموحدة المفتوحتين مهمز أي ادّخر لك
(ربك) ولأبي ذر عن الكشميهني: حباك بفتح الحاء المهملة
والموحدة وبعد الألف كاف به ربك. هذا مما استشكل من رواية
شريك فإن الكوثر في الجنة والجنة في السماء السابعة،
ويحتمل أن يكون هنا حذف تقديره ثم مضى به في السماء الدنيا
إلى السابعة فإذا هو بنهر (ثم عرج إلى السماء) ولأبي ذر
والأصيلي ثم عرج به إلى السماء (الثانية فقالت الملائكة له
مثل ما قالت له الأولى من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن
معك؟ قال:
محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قالوا: وقد بعث
إليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبًا به وأهلاً. ثم عرج به)
جبريل (إلى السماء الثالثة وقالوا له مثل ما قالت الأولى
والثانية ثم عرج به) جبريل (إلى الرابعة فقالوا له مثل
ذلك، ثم عرج به) جبريل (إلى السماء الخامسة فقالوا له مثل
ذلك ثم عرج به) جبريل (إلى السادسة) ولأبي ذر إلى السماء
السادسة (فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به) جبريل (إلى السماء
السابعة فقالوا له مئل ذلك كل سماء فيها أنبياء قد سماهم
فأوعيت) بفتح الهمزة والعين ولأبي ذر عن الكشميهني فوعيت
(منهم إدريس) وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي والمستملي قد
سماهم منهم إدريس (في الثانية، وهارون في الرابعة وآخر في
الخامسة لم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في
السابعة بتفضيل كلام الله) عز وجل أي بسبب أن له فضل لام
الله إياه. وهذا موضع الترجمة من الحديث.
(فقال موسى رب لم أظن أن يرفع) بضم التحتية وفتح الفاء
(عليّ) بتشديد الياء (أحد) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
لم أظن أن ترفع عليّ أحدًا
(10/448)
(ثم علا به) جبريل (فوق ذلك بما لا يعلمه
إلا الله) عز وجل (حتى جاء سدرة المنتهى) إليها ينتهي علم
الملائكة ولم يجاوزها أحد إلا نبيّنا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ودنا الجبار ربّ العزة) دنوّ قرب
ومكانة لا دنو مكان ولا قرب زمان إظهارًا لعظيم منزلته
وحظوته عند ربه تعالى ولأبي ذر ودنا للجبار (فتدلى) طلب
زيادة القرب، وحكى مكي والماوردي عن ابن عباس هو الرب دنا
من محمد فتدلى إليه أي أمره وحكمه (حتى كان منه قاب قوسين)
قدر قوسين ما بين مقبض القوس والسية بكسر السين المهملة
والتحتية الخفيفة وهي ما عطف من طرفيها ولكل قوس قابان
وقاب قوسين بالنسبة له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عبارة عن نهاية القرب ولطف المحل وإيضاح
المعرفة وبالنسبة إلى الله إجابة ورفع درجة (أو أدنى) أي
أقرب (فأوحى الله) زاد أبو الوقت وأبو ذر عن الكشميهني
إليه (فيما أوحى) ولغير أبي ذر إليه ولأبي ذر والأصيلي
وأبي الوقت فيما يوحي بكسر الحاء (خمسين صلاة على أمتك كل
يوم وليلة، ثم هبط) صلوات الله وسلامه عليه (حتى بلغ موسى)
عليه السلام (فاحتبسه موسى فقال) له (يا محمد ماذا عهد
إليك ربك) أي ماذا أمرك أو أوصاك (قال: عهد إليّ) أن أصلي
(خمسين صلاة كل يوم وليلة) وآمر بها أمتي (قال) له موسى:
(إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع) إلى ربك (فليخفف عنك ربك
وعنهم) وعن أمتك (فالتفت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك) الذي قاله موسى
من الرجوع للتخفيف (فأشار إليه جبريل أن نعم) بفتح الهمزة
وتخفيف النون مفسرة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي أي نعم
بالتحتية بدل النون وهما بمعنى (إن شئت فعلاً به) جبريل
(إلى الجبار) تعالى (فقال) عليه الصلاة والسلام (وهو
مكانه) أي في مقامه الأوّل الذي قام فيه قبل هبوطه (يا رب
خفّف عنّا فإن أمتي لا تستطيع هذا) المأمور به من الخمسين
صلاة (فوضع) تعالى (عنه عشر صلوات) من الخمسين (ثم رجع إلى
موسى فاحتبسه فلم يزل يردّده موسى إلى ربه) تعالى (حتى
صارت إلى خمس صلوات ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا
محمد والله لقد راودت) أي راجعت (بني إسرائيل قومي على
أدنى) أي أقل (من هذا) القدر (فضعفوا فتركوه) ولأبي ذر عن
الكشميهني من هذه الصلوات
الخمس فضعفوا، وفي تفسير ابن مردويه من رواية يزيد بن أبي
مالك عن أنس فرض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما
(فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا)
والأجسام بالميم والأجساد بالدال سواء والجسم والجسد جميع
الشخص والأجسام أعم من الأبدان لأن البدن من الجسد ما سوى
الرأس والأطراف وقيل البدن أعالي الجسد دون أسافله (فارجع)
إلى ربك (فليخفف عنك ربك. كل ذلك) أي في كل ذلك (يلتفت)
بتحتية فلام ساكنة، وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي والمستملي
يتلفت بفوقية بعد التحتية وتشديد الفاء (النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى جبريل ليشير عليه ولا
يكره ذلك جبريل فرفعه عند) المرة (الخامسة فقال: يا رب إن
أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم) وللأصيلي
وأبي ذر عن الكشميهني وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم (فخفف
عنا. فقال الجبار: يا محمد. قال: لبيك) رب (وسعديك. قال:
إنه لا يبدل القول لديّ كما فرضت) ولأبي ذر فرضته (عليك)
أي وعلى أمتك (في أم الكتاب) وهو اللوح المحفوظ (قال: فكل
حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك)
أي وعلى أمتك (فرجع) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(إلى موسى فقال) له (كيف فعلت؟ فقال: خفف) ربنا (عنا
أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها. قال موسى: قد والله راودت)
راجعت (بني إسرائيل على أدنى) أقل (من ذلك فتركوه) وقوله
راودت متعلق بقد القسم بينهما مقحم لإرادة التأكيد (ارجع
إلى ربك فليخفف عنك أيضًا. قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا موسى قد والله استحييت
(10/449)
من ربي مما اختلفت إليه) بهمزة وصل وفتح
اللام وسكون الفاء بعدها فوقية ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي مما اختلف بهمزة قطع وكسر اللام وحذف الفوقية
(قال) له جبريل: (فاهبط بسم الله) وليس القائل اهبط موسى
وإن كان هو ظاهر السياق (قال: واستيقظ) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وهو في مسجد الحرام). بغير ألف ولام
في الأول أي استيقظ من نومة نامها بعد الإسراء أو أنه أفاق
مما كان فيه مما خامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى فلم
يرجع إلى حال بشريته إلا وهو نائم.
تنبيه:
قال الخطابي: هذه القصة كلها إنما هي حكاية يحكيها أنس من
تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ولا نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله، فحاصل
النقل أنها من جهة الراوي إما من أنس وإما من شريك فإنه
كثير التفرّد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر
الرواة انتهى.
وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن ما نفاه من أن أنسًا لم يسند
هذه القصة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لا تأثير له، فأدنى أمره أن يكون مرسل صحابي، وإما أن يكون
تلقاها عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو
عن صحابي تلقاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه هذه القصة لا
يقال بالرأي فله حكم الرفع، ولو كان لما ذكره تأثير لم
يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلاً، وهو خلاف عمل
المحدّثين قاطبة فالتعليل بذلك مردود.
وقال أبو الفضل بن طاهر: تعليل الحديث بتفرّد شريك ودعوى
ابن حزم أن الآفة منه شيء
لم يسبق إليه فإن شريكًا قبله أئمة الجرح والتعديل ووثقوه
ورووا عنه وأدخلوا حديثه في تصانيفهم واحتجوا به قال:
وحديثه هذا رواه عنه سليمان بن بلال وهو ثقة وعلى تقدير
تفرّده بقوله قبل أن يوحى إليه لا يقتضي طرح حديثه فوهم
الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث، ولا سيما
إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور ولو ترك حديث من وهم
في تاريخ لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين.
وقال الحافظ ابن حجر: ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره
من المشهورين عشرة أشياء بل تزيد على ذلك وهي أمكنة
الأنبياء في السماوات وقد أفصح بأنه لم يضبط منازلهم، وقد
وافقه الزهري في بعض ما ذكر كما في أول الصلاة، وكون
المعراج قبل البعثة وسبق الجواب عنه وكونه منامًا وسبق ما
فيه ومحل سدرة المنتهى وأنها فوق السابعة بما لا يعلمه إلا
الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة، ومخالفته في
النهرين النيل والفرات وأن عنصرهما في السماء الدنيا،
والمشهور أنهما في السابعة، وشق الصدر عند الإسراء، وذكر
نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور أنه في الجنة ونسبة
الدنوّ والتدلي إلى الله تعالى، والمشهور في الحديث أنه
جبريل وتصريحه بأن امتناعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف كان عند
الخامسة فخالف ثابتًا عن أنس وأنه وضع عنه في كل مرة خمسًا
وأن المراجعة كانت تسع مرات، وقوله فعلاً به إلى الجبار
فقال وهو مكانه وقد سبق ما فيه ورجوعه بعد الخمس، والمشهور
في الأحاديث أن موسى عليه السلام أمره بالرجوع بعد أن
انتهى التخفيف إلى الخمس فامتنع وزيادته ذكر التور في
الطست وسبق ما فيه اهـ.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله بتفضيل كلام الله كما نبهت
عليه.
38 - باب كَلاَمِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
ثم (باب كلام الرب) تعالى (مع أهل الجنة) فيها.
7518 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِى
ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ
الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ
يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ
فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ
وَالْخَيْرُ فِى يَدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ؟
فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ
أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ،
فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟
فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ
ذَلِكَ، فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِى فَلاَ
أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) أبو سعيد الجعفي الكوفي
نزيل مصر قال: (حدّثني) بالإفراد (ابن وهب) عبد الله قال:
(حدّثني) بالإفراد أيضًا (مالك) الإمام (عن زيد بن أسلم)
العدوي مولى عمر (عن عطاء بن يسار) الهلالي مولى ميمونة
(عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري -رضي الله عنه-) أنه
(قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن الله) تعالى (يقول لأهل الجنة) وهم فيها (يا أهل الجنة
فيقولون لبيك) يا (ربنا وسعديك والخير في يديك) خصّه رعاية
للأدب (فيقول) تعالى لهم (هل رضيتم فيقولون وما لنا لا
نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك فيقول) جل
(10/450)
جلاله (ألا) بالتخفيف (أعطيكم) بضم الهمزة
(أفضل من ذلك) الذي أعطيتكم من نعيم الجنة (فيقولون يا رب
وأي شيء أفضل من ذلك فيقول) جل وعز (أحلّ عليكم رضواني فلا
أسخط عليكم بعده أبدًا). ومفهومه أن لله أن يسخط على أهل
الجنة لأنه متفضل عليهم بالإنعامات كلها سواء كانت دنيوية
أو أخروية، وكيف لا والعمل المتناهي لا يقتضي الأجزاء
متناهيًا، وفي الجملة لا يجب على الله شيء أصلاً قاله
الكرماني، وهو مأخوذ من كلام ابن بطال، وظاهر الحديث أيضًا
أن الرضا أفضل من اللقاء. وأجيب: بأنه لم يقل أفضل من كل
شيء بل أفضل من الإعطاء واللقاء يستلزم الرضا فهو من باب
إطلاق اللازم وإرادة الملزوم كذا نقله في الكواكب. قال في
الفتح: ويحتمل أن يقال المراد حصول أنواع الرضوان ومن
جملتها اللقاء وحينئذٍ فلا إشكال.
والمطابقة ظاهرة وأخرجه في الرقاق في باب صفة الجنة
والنار.
7519 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلاَلٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: «أَنَّ رَجُلاً مِنْ
أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِى الزَّرْعِ
فَقَالَ أَوَ لَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى،
وَلَكِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ
فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ
وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ
فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ
فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَىْءٌ». فَقَالَ
الأَعْرَابِىُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَجِدُ هَذَا
إِلاَّ قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ
أَصْحَابُ زَرْعٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ
زَرْعٍ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سنان) بكسر السين المهملة وتخفيف
النون الأولى العوقي قال: (حدّثنا فليح) بضم الفاء مصغرًا
ابن سليمان قال: (حدّثنا هلال) هو ابن علي (عن عطاء بن
يسار) بالسين المهملة المخففة (عن أبي هريرة) -رضي الله
عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
ولأبى ذر أن رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان يومًا يحدّث) أصحابه (وعنده رجل من أهل
البادية) لم يسم.
(أن رجلاً من أهل الجنة استأذن) بصيغة الماضي ولأبي ذر عن
الحموي يستأذن (ربه في الزرع فقال: أولست) وللكشميهني فقال
له أولست (فيما شئت) من المشتهيات (قال: بلى) يا رب
(ولكني) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي ولكن (أحب أن أزرع)
فأذن له (فأسرع وبذر) بالذال المعجمة (فتبادر) ولأبي ذر عن
الكشميهني فبادر (الطرف) بفتح الطاء منصوب مفعول لقوله
(نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره) جمعه في البيدر (أمثال
الجبال) يعني نبت واستوى إلى آخره قبل
طرفة العين (فيقول الله تعالى دونك) خذه (يا ابن آدم فإنه
لا يشبعك شيء) أي لما طبع عليه لأنه لا يزال يطلب الازدياد
إلا من شاء الله، وقوله: لا يشبعك بضم التحتية وسكون الشين
المعجمة بعدها موحدة مكسورة.
واستشكل هذا بقوله تعالى: {إن لك أن لا تجوع فيها ولا
تعرى} [طه: 118] وأجيب: بأن نفي الشبع أعم من الجوع لثبوت
الواسطة وهي الكفاية وأكل أهل الجنة لا عن جوع فيها أصلاً
لنفي الله له عنهم، واختلف في الشبع والمختار أن لا شبع
لأنه لو كان فيها لمنع طول الأكل المستلذ وإنما أراد الله
تعالى بقوله: لا يشبعك شيء ذم ترك تلك القناعة بما كان
وطلب الزيادة عليه، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: لا يسعك
بفتح التحتية والسين المهملة من الوسع (فقال الأعرابي: يا
رسول الله لا تجد هذا) الذي زرع في الجنة (إلا قرشيًّا أو
أنصاريًّا فإنهم أصحاب زرع فأما نحن) أهل البادية (فلسنا
بأصحاب زرع فضحك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
ومطابقة الحديث ظاهرة. وسبق في كتاب المزارعة في باب مجرد
عقب باب كراء الأرض بالذهب.
39 - باب ذِكْرِ اللَّهِ بِالأَمْرِ وَذِكْرِ الْعِبَادِ
بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالإِبْلاَغِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ}
[البقرة: 152] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ
قَالَ: لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ
عَلَيْكُمْ مَقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ
غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ * فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ
أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71، 72] غُمَّةٌ: هَمٌّ
وَضِيقٌ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {اقْضُوا إِلَىَّ} [يونس: 71] {مَا فِى
أَنْفُسِكُمْ} يُقَالُ افْرُقِ: اقْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} [التوبة: 71]
إِنْسَانٌ يَأْتِيهِ فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ: وَمَا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَهْوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ
فَيَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ
حَيْثُ جَاءَهُ {النَّبَأُ الْعَظِيمُ} [النبأ: 2]
الْقُرْآنُ صَوَابًا حَقًّا فِى الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ.
(باب ذكر الله) تعالى لعباده يكون (بالأمر) لهم والإنعام
عليهم إذ أطاعوه أو بعذابه إذا عصوه (وذكر العباد) له
تعالى (بالدعاء والتضرع والرسالة والإبلاغ) ولأبي ذر عن
الكشميهني: والبلاغ لغيرهم من الخلق ما وصل إليهم من
العلوم (لقوله تعالى: {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152])
الذكر يكون بالقلب والجوارح فذكر اللسان الحمد والتسبيح
والتمجيد وقراءة القرآن وذكر القلب التفكّر في الدلائل
الدالة على ذاته وصفاته والتفكّر في الجواب عن الشبه
العارضة في تلك الدلائل والتفكر في الدلائل الدالة على
كيفية تكاليفه من أوامره ونواهيه ووعده
ووعيده، فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من
الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم والتفكّر في
أسرار مخلوقاته تعالى، وأما الذكر بالجوارح فهو عبارة عن
كون الجوارح مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها وخالية عن
الأعمال التي نهوا عنها فقوله تعالى: {فاذكروني} تضمن جميع
الطاعات ولهذا قال سعيد بن جبير: اذكروني
(10/451)
بطاعتي أذكركم بمغفرتي فأجمله حتى يدخل
الكل فيه. وقال ابن عباس فيما ذكره السفاقسي: ما من عبد
يذكر الله تعالى إلا ذكره الله تعالى لا يذكره مؤمن إلا
ذكره برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذابه، وقيل المراد
ذكره باللسان وذكره بالقلب عندما يهم العبد بالسيئة فيذكر
مقام ربه. وقال قوم: إن هذا الذكر أفضل وليس كذلك بل ذكره
بلسانه، وقوله لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه أعظم من
ذكره بالقلب دون اللسان.
وذكر البدر الدماميني أنه سمع شيخه ولي الدين بن خلدون
يذكر أنه كان بمجلس شيخه ابن عبد السلام شارح ابن الحاجب
الفرعي وهو يتكلم على آية وقع فيها الأمر بذكر الله ورجح
أن يكون المراد بالذكر اللساني لا القلبي، فقال له الشريف
التلمساني: قد علم أن الذكر ضد النسيان وتقرر في محله أن
الضد إذا تعلق بمحل وجب تعلق ذلك الضد الآخر بعين ذلك
المحل ولا نزاع في أن النسيان محله القلب فليكن الذكر كذلك
عملاً بهذه القاعدة، فقال له ابن عبد السلام على الفور:
يمكن أن يعارض هذا بمثله فيقال قد علم أن الذكر ضد الصمت
ومحل الصمت اللسان، فليكن الذكر كذلك عملاً بهذه القاعدة
انتهى.
وقوله تعالى: ({واتل عليهم نبأ نوح}) خبره مع قومه ({إذ
قال لقومه يا قوم إن كان كبر}) عظم ({عليكم مقامي}) مكاني
يعني نفسه أو قيامي مكاني بين أظهركم ألف سنة إلا خمسين
عامًا وهو من باب الإسناد المجازي كقولهم ثقل عليّ ظله
({وتذكيري بآيات الله}) لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة
قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم بيّنّا وكلامهم
مسموعًا ({فعلى الله توكلت}) جواب الشرط وتاليه عطف عليه
وهو قوله ({فأجمعوا أمركم وشركاءكم}) أي مع شركائكم ({ثم
لا يكن أمركم عليكم غمة}) فسر بالسترة من غمه إذا ستره،
والمعنى حينئذٍ ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورًا عليكم
وليكن مكشوفًا مشهورًا تجاهرونني به ({ثم اقضوا إليّ}) ذلك
الأمر الذي تريدون بي ({ولا تنظرون}) ولا تمهلون ({فإن
توليتم}) فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي ({فما سألتكم من
أجر}) فأوجب التولي ({إن أجري إلا على الله}) وهو الثواب
الذي يثيبني به في الآخرة أي ما فصحتكم إلا لله لا لغرض من
أغراض الدنيا ({وأمرت أن أكون من المسلمين} [يونس: 71،
72]) أي من المستسلمين لأوامره ونواهيه، وسقط لأبي ذر من
قوله: {وتذكيري بآيات الله} الخ وقال إلى قوله: {وأمرت أن
أكون من المسلمين} وقوله: {غمة} فسره بقوله: {همّ وضيق}
وقال في اللباب: يقال غم وغمة نحو كرب وكربة. قال أبو
الهيثم: غمّ علينا الهلال فهو مغموم إذا التمس فلم ير، قال
طرفة بن العبد:
لعمرك ما أمري عليّ بغمة ... نهاري ولا ليلي عليّ بسرمدي
وقال الليث: هو في غمة من أمره إذا لم يتبين له.
(قال مجاهد) المفسر فيما وصله الفريابي في تفسيره عن ورقاء
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: ({اقضوا إليّ}
[يونس: 71]) أي ({ما في أنفسكم}) وقال غير مجاهد (يقال
افرق) أي (اقض. وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي أيضًا
بالسند السابق ({وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى
يسمع كلام الله} [التوبة: 6] (إنسان) من المشركين (يأتيه)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فيستمع ما يقول) من
كلام الله (وما أنزل) بضم الهمزة وكسر الزاي ولأبي ذر ما
ينزل (عليه) بتحتية بدل الهمزة مضمومة مع فتح الزاي أو
مفتوحة مع كسرها (فهو آمن حتى يأتيه) عليه الصلاة والسلام
(فيسمع منه كلام الله) ولأبي ذر عن الكشميهني حين يأتيه
فيسمع كلام الله (وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء) يعني إن أراد
مشرك سماع كلام الله فأعرض عليه القرآن وبلغه إليه وأمنه
عند السماع، فإن أسلم فذاك وإلاّ فردّه إلى مأمنه من حيث
أتاك. وقال مجاهد أيضًا فيما وصله الفريابي أيضًا ({النبأ
العظيم} [النبأ: 2]) هو (القرآن) وقوله (صوابًا) أي قال
(حقًّا في الدنيا وعمل به) فإنه يؤذن له يوم القيامة
بالتكلم وللأصيلي وعملاً بدل قوله وعمل، واستطرد المصنف
بذكره هنا على
(10/452)
عادته في المناسبة والمقصود من ذكر هذه
الآية في هذا الباب أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مذكور بأنه أمر بالتلاوة على الأمة والتبليغ
إليهم وأن نوحًا كان يذكّرهم بآيات الله وأحكامه كما أن
المقصود بالباب في هذا الكتاب بيان كونه تعالى ذاكرًا
ومذكورًا بمعنى الأمر والدعاء، ولم يذكر المصنف في هذا
الباب حديثًا مرفوعًا، ولعله كان بيض له فأدمجه النساخ
كغيره مما بيضه.
40 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا
ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصّلت: 9] وَقَوْلِهِ:
{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}
[الفرقان: 68] {وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ
اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [ازمر: 65،
66]. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]،
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ وَمَنْ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ. فَذَلِكَ
إِيمَانُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَمَا ذُكِرَ
فِى خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَكْسَابِهِمْ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ إِلاَّ
بِالْحَقِّ بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ {لِيَسْأَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]
الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ مِنَ الرُّسُلِ وَإِنَّا
لَهُ حَافِظُونَ عِنْدَنَا وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ
الْقُرْآنُ وَصَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُ يَقُولُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ: هَذَا الَّذِى أَعْطَيْتَنِى عَمِلْتُ بِمَا
فِيهِ.
(باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادًا} [البقرة:
22]) أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له
أندادًا لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد وأن لا يجعل لله
ندّ ولا شريك والندّ المثل ولا يقال إلا للمثل المخالف
المناوئ (وقوله جلّ ذكره: {وتجعلون له أندادًا}) شركاء
وأشباهًا ({ذلك}) الذي خلق ما سبق ({رب العالمين} [فصلت:
9]) خالق جميع الموجودات لتكون منافع (وقوله) تعالى:
({والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} [الفرقان: 68]) أي
لا يشركون ({ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك}) من
الأنبياء عليهم السلام ({لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من
الخاسرين}) وحد أشركت والموحى إليهم جماعة لأن المعنى أوحى
إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله
واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب،
وهذا الجواب سادّ مسدّ الجوابين أعني جوابي القسم والشرط،
وإنما صح هذا الكلام مع علمه تعالى بأن رسله لا يشركون لأن
الخطاب للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمراد
به غيره أو لأنه على سبيل الفرض والمحالات يصح فرضها
والغرض تشديد الوعيد على من أشرك وأن للإنسان عملاً يُثاب
عليه إذا سلم من الشك ويبطل ثوابه إذا أشرك ({بل الله
فاعبد}) رد لما أمروه به من عبادة آلهتهم ({وكن من
الشاكرين} [الزمر: 65، 66]) على ما أنعم به عليك، وسقط
قوله: {ولتكونن} إلى آخره لأبي ذر وقال إلى قوله: {بل الله
فاعبد وكن من الشاكرين}.
(وقال عكرمة) مولى ابن عباس فيما وصله الطبري (وما يؤمن
أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ولئن سألتهم}) وللأصيلي لئن
تسألهم ولأبي ذر قال: لئن سألتهم ({من خلقهم ومن خلق
السماوات والأرض ليقولن الله}) بتشديد النون ولأبي ذر
والأصيلي فيقولون بالتخفيف وزيادة واو وفاء بدل اللام
(فذلك) القول (إيمانهم وهم يعبدون غيره) تعالى من الأصنام
ونحوها.
(و) باب (ما ذكر في خلق أفعال العباد) ولأبي ذر عن
الكشميهني أعمال العباد (واكتسابهم لقوله تعالى: {وخلق كل
شيء}) أي أحدث كل شيء وحده ({فقدره تقديرًا} [الفرقان: 2])
فهيأه لما يصلح له بلا خلل فيه وهو يدل على أنه تعالى خلق
الأعمال من وجهين أحدهما أن قوله كل شيء يتناول جميع
الأشياء ومن جملتها أفعال العباد، وثانيها أنه تعالى نفى
الشريك فكأن قائلاً قال: هنا أقوام معترفون بنفي الشركاء،
والأنداد ومع ذلك يقولون بخلق أفعال أنفسهم فذكر الله هذه
الآية ردًّا عليهم ولا شبهة فيها لمن لا يقول الله شيء ولا
لمن يقول بخلق القرآن لأن الفاعل بجميع صفاته لا يكون
مفعوله.
(وقال مجاهد) المفسر فيما وصله الفريابي في قوله تعالى:
({ما تنزل الملائكة إلا بالحق} [الحجر: 8]) أي (بالرسالة
والعذاب). وقال في الكواكب: ما ننزل الملائكة بالنون ونصب
الملائكة استشهاد لكون نزول الملائكة بخلق الله وبالتاء
المفتوحة والرفع لكون نزولهم بكسبهم ({ليسأل الصادقين عن
صدقهم} [الأحزاب: 8]) أي (المبلغين المؤدين) بكسر اللام
والدال المشدّدتين فيهما (من الرسل) أي الأنبياء المبلغين
المؤدين الرسالة عن تبليغهم والتفسير بهم إنما هو بقرينة
السابق عليهم وهو قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين
ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا}
[الأحزاب: 7] وهو لبيان الكسب حيث أسند الصدق إليهم
والميثاق ونحوه ({وإنا له حافظون}) ولأبوي الوقت وذر:
لحافظون ({عندنا}) هو أيضًا من قول مجاهد أخرجه الفريابي،
وقال مجاهد أيضًا مما وصله الطبري: ((والذي جاء بالصدق}
[الزمر: 33]) هو (القرآن وصدق به) هو (المؤمن يقول يوم
القيامة هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه) وهو أيضًا للكسب
إذا أضيف التصديق إلى المؤمن لا سيما وأضاف العمل أيضًا
إلى
(10/453)
نفسه حيث قال: عملت له جهتان فأثبتهما
بالآيات وقد اجتمعتا في كثير من الآيات نحو ويمدهم في
طغيانهم يعمهون قاله في الكواكب.
قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب نسبة الأفعال كلها
لله تعالى سواء كانت من المخلوقين خيرًا أو شرًّا فهي له
خلق وللعباد كسب ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله تعالى
فيكون شريكًا وندًّا ومساويًا له في نسبة الفعل إليه، وقد
نبّه الله تعالى عباده على ذلك بالآيات المذكورة وغيرها
المصرّحة بنفي الأنداد والآلهة المدعوّة معه، فتضمنت الرد
على من يزعم أنه يخلق أفعاله، وفيه الرد على الجهمية حيث
قالوا لا قدرة للعبد أصلاً، وعلى المعتزلة حيث قالوا لا
دخل لقدرة الله فيها إذ المذهب الحق لا جبر ولا قدر، ولكن
أمر بين أمرين أي بخلق الله وكسب العبد وهو قول الأشعرية
وللعبد قدرة فلا جبر، وبها يفرق بين النازل من المنارة
والساقط منها، ولكن لا تأثير لها بل الفعل واقع بقدرة الله
وتأثير قدرته فيه بعد تأثير قدرة العبد عليه وهذا هو
المسمى بالكسب.
7520 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
سَأَلْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ
تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ
ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ: ثُمَّ أَىّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ
تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ:
ثُمَّ أَىّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِىَ بِحَلِيلَةِ
جَارِكَ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء قال: (حدّثنا
جرير) هو ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن
أبي وائل) شقيق بن سلمة (عن عمرو بن شرحبيل) بفتح العين
وشرحبيل بضم المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة وكسر
الموحدة وبعد التحتية الساكنة لام منصرفًا وغير منصرف
الهمداني أبي ميسرة (عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه-
أنه (قال: سألت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أيّ الذنب أعظم عند الله؟ قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(أن تجعل لله ندًّا) بكسر النون وتشديد المهملة مثلاً
وشريكًا ولأبي ذر والحموي أن تجعل له ندًّا (وهو خلقك.
قلت: إن ذلك لعظيم. قلت: ثم أيّ) أي أيّ شيء من الذنوب
أعظم بعد الكفر (قال) عليه الصلاة والسلام (ثم أن تقتل
ولدك) بفتح الهمزة (تخاف) بالفوقية والمعجمة المفتوحتين
(أن يطعم معك) بفتح التحتية والعين (قلت: ثم أيّ) بسكون
أيّ مشددة في اليونينية
(قال: ثم أن تزاني بحليلة جارك) بالحاء المهملة أي بزوجته
قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما زال جبريل
يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" فالزنا بزوجة الجار
زنًا وإبطال حق الجار مع الخيانة فهو أقبح.
والغرض من الحديث هنا الإشارة إلى أن من زعم أنه يخلق فعل
نفسه يكون كمن جعل لله ندًّا، وقد ورد فيه الوعيد الشديد
فيكون اعتقاده حرامًا قاله في فتح الباري.
وأخرج الحديث في باب إثم الزناة من الحدود.
41 - باب
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ
أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ
وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ
يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصّلت: 22].
(باب قول الله تعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم
سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم}) أي أنكم كنتم تستترون
بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش وما كان استتاركم ذلك
خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين
بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين البعث والجزاء أصلاً ({ولكن
ظننتم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون} [فصّلت: 22])
ولكنكم إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيرًا مما
تعملون وهو الخفيات من أعمالكم وسقط لأبي ذر قوله: {ولا
أبصاركم} إلى آخر الآية وقال بعد قوله سمعكم الآية.
7521 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِى
مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ:
اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِىٌّ
-أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِىٌّ- كَثِيرَةٌ شَحْمُ
بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ
أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا
نَقُولُ؟ قَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلاَ
يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ كَانَ
يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا
أَخْفَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ
أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} [فصّلت: 22] الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا منصور) هو ابن
المعتمر (عن مجاهد) هو ابن جبر المفسر المكي (عن أبي معمر)
عبد الله بن سخبرة الأزدي (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي
الله عنه-) أنه (قال: اجتمع عند البيت) الحرام (ثقفيان)
بالمثلثة ثم القاف ثم الفاء (وقرشيّ أو قرشيان) هما صفوان
وربيعة ابنا أمية بن خلف (وثقفي) هو عبد يا ليل بن عمرو بن
عمير وقيل حبيب بن عمرو، وقيل الأخنس بن شريق والشك من
الراوي وعند ابن بشكوال القرشي الأسود بن عبد يغوث الزهري
والثقفيان الأخنس بن شريق والآخر لم يسم (كثيرة) بالتنوين
(شحم بطونهم) بإضافة شحم لتاليه وللأصيلي شحوم بلفظ الجمع
(قليلة) بالتنوين (فقه قلوبهم) بالإضافة أيضًا، وقوله:
كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم قال
الكرماني وغيره: بطونهم مبتدأ كثيرة شحم خبره إن كان
البطون مرفوعًا والكثيرة مضافة
(10/454)
إلى الشحم وإن كان بطونهم مجرورًا بالإضافة
فيكون الذي هو مضاف مرفوعًا بالابتداء وكثيرة خبره مقدمًا،
وهذا الثاني هو الذي في الفرع قالوا: وأنث الشحم والفقه
لإضافتهما إلى بطون والقلوب، والتأنيث يسري من المضاف إليه
إلى المضاف قال في المصابيح وهذا غلط لأن المسألة مشروطة
بصلاحية المضاف للاستغناء عنه فلا يجوز غلام هند ذهبت، ومن
ثم ردّ ابن مالك في التوضيح قول أبي الفتح في توجيه قراءة
أبي العالية: يوم لا تنفع نفسًا إيمانها بتأنيث الفعل إنه
من باب قطعت بعض أصابعه لأن المضاف هنا لو سقط لقيل نفسًا
لا تنفع بتقديم المفعول ليرجع إليه الضمير المستتر المرفوع
الذي ناب عن الإيمان في الفاعلية ويلزم من ذلك تعدّي فعل
المضمر المتصل إلى ظاهره نحو قولك: زيد أظلم تريد أنه ظلم
نفسه وذلك لا يجوز، وإنما الوجه في الحديث أن يكون أفرد
الشحم والفقه والمراد الشحوم والمفهوم لأمن اللّبس ضرورة
أنّ البطون لا تشترك في شحم واحد بل لكل بطن منها شحم يخصه
وكذلك الفقه بالنسبة إلى القلوب اهـ.
(فقال أحدهم) للآخرين: (أترون) بفتح الفوقية وتضم (إن الله
يسمع ما نقول. قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن
أخفينا. وقال الآخر) وهو أفطن أصحابه (إن كان يسمع إذا
جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا) ووجه الملازمة في قوله إن كان
يسمع أن جميع المسموعات نسبتها إلى الله تعالى على السواء
(فأنزل الله تعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم
ولا أبصاركم ولا جلودكم} [فصلت: 22] الآية).
قال ابن بطال فيما نقلوه عنه: غرض البخاري في هذا الباب
إثبات السمع لله وإثبات القياس الصحيح وإبطال القياس
الفاسد لأن الذي قال يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا قاس
قياسًا فاسدًا لأنه شبّه سمع الله تعالى بأسماع خلقه الذين
يسمعون الجهر ولا يسمعون السر، والذي قال إن كان يسمع إن
جهرنا فإنه يسمع إن أخفينا أصاب في قياسه حيث لم يشبه الله
تعالى بخلقه ونزّهه عن مماثلتهم وإنما وصف الجميع بقلة
الفقه لأن هذا الذي أصاب لم يعتقد حقيقة ما قال بل شك
بقوله إن كان والحديث سبق في سورة فصلت.
42 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} [الرحمن: 29] {وَمَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}
[الأنبياء: 2] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وَأَنَّ
حَدَثَهُ لاَ يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ
اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ
مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لاَ تَكَلَّمُوا فِى الصَّلاَةِ.
(باب قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29]) أي
كل وقت وحين يحدث أمورًا ويجدد أحوالاً كما روي مما سبق
معلقًا عن أبي الدرداء قال: كل يوم هو في شأن يغفر ذنبًا
ويكشف كربًا ويرفع قومًا ويضع آخرين، وعن ابن عيينة الدهر
عند الله يومان أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه
الأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع والآخر
يوم القيامة فشأنه فيه الحساب والجزاء واستشكل بأنه قد صح
أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وأجيب: بأنها
شؤون يبديها لا شؤون يبتديها.
({و}) قوله تعالى: ({ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}
[الأنبياء: 2]) ذكر الله تعالى ذلك بيانًا لكونهم معرضين
في قوله وهم في غفلة معرضون وذلك أن الله تعالى يجدد لهم
الذكر كل وقت ويظهر لهم الآية بعد الآية والسورة بعد
السورة ليكرر على أسماعهم الموعظة لعلهم يتعظون فما يزيدهم
ذلك إلا استخسارًا فمعنى محدث هو أن يحدث الله الأمر بعد
الأمر أو محدث في التنزيل فالإحداث بالنسبة للإنزال وأما
المنزل فقديم وتعلق القدرة حادث ونفس القدرة قديمة
فالمذكور وهو القرآن قديم والذكر حادث لانتظامه من الحروف
الحادثة فلا تمسك للمعتزلة بهذه الآية على حدوث القرآن،
ويحتمل أن يكون المراد بالذكر هنا هو وعظ الرسول -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتحذيره إياهم عن معاصي الله
فسمي وعظه ذكرًا وأضافه إليه تعالى لأنه فاعله في الحقيقة
ومقدر رسوله على اكتسابه.
(وقوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} [الطلاق: 1]
وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعالى: {ليس كمثله
شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]) لعل مراده أن المحدث
غير المخلوق كما هو رأي البلخي وأتباعه وقد تقرر أن صفات
الله تعالى إما سلبية وتسمى بالتنزيهات وإما وجودية حقيقة
كالعلم والإرادة والقدرة وأنها قديمة لا مُحالة وإما
إضافية كالخلق
(10/455)
والرزق وهي حادثة ولا يلزم من حدوثها تغير
في ذات الله وصفاته التي هي بالحقيقة صفات له كما أن تعلق
العلم وتعلق القدرة بالمعلومات والمقدورات حادثان وكذا كل
صفة فعلية له.
(وقال ابن مسعود) عبد الله -رضي الله عنه- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن الله عز وجل يحدث
من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة).
أخرجه أبو داود موصولاً مطوّلاً ومراد المؤلف من سياقه هنا
الإعلام بجواز الإطلاق على الله تعالى بأنه محدث بكسر
الدال لكن إحداثه لا يشبه إحداث المخلوقين تعالى الله.
7522 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما -
قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ
كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ
الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ تَقْرَؤُونَهُ مَحْضًا لَمْ
يُشَبْ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
حاتم بن وردان) بالحاء المهملة
وفتح واو وردان وسكون رائه المصري قال: (حدّثنا أيوب)
السختياني (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي
الله عنهما-) أنه (قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم
وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدًا بالله) عز وجل أي
أقربها نزولاً إليكم وإخبارًا عن الله تعالى، وفي اللفظ
الآخر أحدث الكتب وهو أليق بالمراد هنا من أقرب ولكنه على
عادة المؤلف في تشحيذ الأذهان (تقرؤونه محضًا لم يشب). بضم
التحتية وفتح المعجمة لم يخلط بغيره كما خلط اليهود
التوراة وحرّفوها.
7523 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ
أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ وَكِتَابُكُمُ الَّذِى
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّهِ
مَحْضًا لَمْ يُشَبْ؟ وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ
وَغَيَّرُوا، فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ قَالُوا: هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلاً
أَوَ لاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ، عَنْ
مَسْأَلَتِهِمْ فَلاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلاً
مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال:
(أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله)
بن عتبة بن مسعود (أن عبد الله بن عباس) -رضي الله عنهما-
(قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء
وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحدث الأخبار بالله) عز وجل لفظًا أو
نزولاً أو إخبارًا من الله تعالى (محضًا لم يشب) لم يخالطه
غيره (وقد حدّثكم الله) عز وجل في كتابه (أن أهل الكتاب قد
بدّلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم) زاد أبو ذر
الكتب يشير إلى قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب
بأيديهم} إلى {يكسبون} [البقرة: 79] (وقالوا: هو من عند
الله ليشتروا بذلك ثمنًا قليلاً) عوضًا يسيرًا (أو لا)
بفتح الواو (ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم) وإسناد
المجيء إلى العلم مجاز كإسناد النهي إليه (فلا والله ما
رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم) وللمستملي
إليكم فلم تسألون أنتم منهم مع علمكم أن كتابهم محرّف
والحديث وسابقه موقوفان.
43 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} وَفِعْلِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ يُنْزَلُ
عَلَيْهِ الْوَحْىُ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا مَعَ عَبْدِى حَيْثُ مَا
ذَكَرَنِى وَتَحَرَّكَتْ بِى شَفَتَاهُ».
(باب قول الله تعالى: {لا تحرك به}) بالقرآن ({لسانك} و})
باب (فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بكسر
الفاء وسكون العين المهملة (حيث) بفتح الحاء وبالمثلثة
ولأبي ذر حين (ينزل) بضم أوّله وفتح الزاي (عليه الوحي)
مما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في حديث الباب.
(وقال أبو هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال: (قال الله تعالى:
أنا مع عبدي حيث) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي إذا (ما
ذكرني) ولأبي ذر عن الكشميهني مع عبدي ما ذكرني (وتحركت به
شفتاه) هذا طرف من حديث أخرجه أحمد والمؤلف في خلق أفعال
العباد وكذا أخرجه غيرهما أي أنا معه بالحفظ والكلاءة
وقوله تحركت بي شفتاه أي باسمي لا أن شفته ولسانه يتحركان
بذاته تعالى.
7527524 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِى عَائِشَةَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِهِ
تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قَالَ: كَانَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَالِجُ
مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ
فَقَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ: أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يُحَرِّكُهُمَا فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا
أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ
فِى صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَؤُوهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا} أَنْ تَقْرَأَهُ قَالَ: فَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -
اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا
أَقْرَأَهُ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي قال: (حدّثنا أبو
عوانة) الوضاح اليشكري (عن موسى بن أبي عائشة) بالهمز
الهمداني الكوفي (عن سعيد بن جبير) الوالبي مولاهم (عن ابن
عباس) -رضي الله عنهما- (في قوله تعالى: ({لا تحرك به})
بالقرآن ({لسانك} قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يعالج من التنزيل) القرآني لثقله عليه (شدة،
وكان) عليه الصلاة والسلام (يحرك شفتيه). قال سعيد بن جبير
(فقال لي ابن عباس: أحركهما) ولأبي ذر فأنا أحركهما (لك
كما كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يحرّكهما فقال سعيد) أي ابن جبير (أنا أحركهما كما كان ابن
عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: ({لا تحرك به})
أي بالقرآن ({لسانك}) قبل أن يتم وحيه ({لتعجل به}) لتأخذه
على عجلة خوف أن يتفلت منك ({إن علينا جمعه وقرآنه}) أي
قراءته فهو مصدر مضاف
(10/456)
للمفعول.
(قال) ابن عباس مفسّرًا لقوله: {جمعه} أي (جمعه في صدرك)
بفتح الجيم وسكون الميم (ثم تقرؤوه (فإذا قرأناه}) بلسان
جبريل عليك ({فاتبع قرآنه قال}) ابن عباس أي (فاستمع له
وأنصت) بهمزة قطع مفتوحة وكسر الصاد أي لتكن حال قراءته
ساكتًا ({ثم إن علينا} أن تقرأه) وفي بدء الوحي ثم إن
علينا بيانه ثم إن علينا أن تقرأه. (قال) ابن عباس (فكان
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أتاه
جبريل عليه السلام استمع) قراءته (فإذا انطلق جبريل قرأه
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أقرأه)
ولأبي ذر كما أقرأه جبريل.
ففي هذا الحديث أن القرآن يطلق ويراد به القراءة، فإن
المراد بقوله قرآنه القراءة لا نفس القرآن وإن تحريك
اللسان والشفتين بقراءة القرآن عمل للقارئ يؤجر عليه وقوله
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فيه إضافة الفعل إلى الله تعالى
والفاعل له من يأمره بفعله فإن القارئ لكلامه تعالى على
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو جبريل، ففيه
بيان لكل ما أشكل من فعل ينسب إلى الله تعالى مما لا يليق
به فعله من المجيء والنزول ونحو ذلك قاله ابن بطال.
قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن مراد البخاري بهذين
الحديثين الموصول والمعلق الرد على من زعم أن قراءة القارئ
قديمة فأبان أنّ حركة لسان القارئ بالقرآن من فعل القارئ
بخلاف المقروء فإنه كلام الله القديم، كما أنّ حركة لسان
ذاكرًا لله حادثة من قعله والمذكور هو الله تعالى.
وهذا الحديث سبق في بدء الخلق.
44 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13]
يَتَخَافَتُونَ: يَتَسَارُّونَ.
(باب قول الله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به}) ظاهره
الأمر بأحد الأمرين الإسرار والإجهار ومعناه ليستو عندكم
إسراركم إجهاركم في علم الله بهما ({إنه عليم بذات الصدور}
[الملك: 13]) أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف
لا يعلم ما تكلم به ({ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}
[الملك: 14]) أي العالم بدقائق الأشياء والخبير العالم
بحقائق الأشياء وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلاً على
خلق أفعال العباد (يتخافتون): أي (يتسارون). بتشديد الراء
فيما بينهما بكلام خفي.
7525 - حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ،
أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فِى قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ
بِهَا} [الإسراء: 110] قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ
فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ
بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا
الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ
اللَّهُ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أَىْ بِقِرَاءَتِكَ،
فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلاَ
تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلاَ تُسْمِعُهُمْ
{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عمرو بن زرارة) بفتح العين
وزرارة بضم الزاي وتخفيف الراء الكلابي النيسابوري (عن
هشيم) بضم الهاء وفتح الشين المعجمة ابن بشير قال: (أخبرنا
أبو بشر) بموحدة فمعجمة ساكنة جعفر بن أبي وحشية واسمه
إياس (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
-رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك})
بقراءة صلاتك ({ولا تخافت}) لا تخفض صوتك ({بها} [الإسراء:
110]) زاد في الإسراء عن أصحابك فلا تسمعهم (قال) ابن عباس
(نزلت ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مختف بمكة) عن الكفار (فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته
بالقرآن). واستشكل بأنه إذا كان مختفيًا عن الكفار فكيف
يرفع صوته وهو ينافي الاختفاء؟ وأجاب في الكواكب: بأنه
لعله أراد الإتيان بشبه الجهر أو أنه ما كان يبقى له عند
الصلاة ومناجاة الرب اختيار لاستغراقه في ذلك. (فإذا سمعه
المشركون سبوا القرآن ومن أنزله) جبريل (ومن جاء به)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال الله) عز وجل
(لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {ولا تجهر
بصلاتك أي بقراءتك) فيه حذف كما مرّ (فيسمع المشركون) بنصب
فيسمع في الفرع وأصله ويجوز الرفع (فيسبوا القرآن {ولا
تخافت بها} عن أصحابك فلا تسمعهم) بالرفع ({وابتغ بين
ذلك}) الجهر والمخافتة ({سبيلاً} [الإسراء: 110]) وسطًا.
قال الكرماني: فأجاد هذه الملة الإسلامية الحنيفية البيضاء
أصولها وفروعها كلها واقعة في حاق الوسط لا إفراط ولا
تفريط كما في الإلهيات لا تشبيه ولا تعطيل وفي أفعال
العباد ولا جبر ولا قدر، بل أمر بين أمرين وفي أمر المعاد
لا يكون وعيديًّا ولا مرجيًّا بل بين الخوف والرجاء، وفي
الإمامة لا رفض ولا خروج، وفي الإنفاق لا إسراف ولا تقتير،
وفي الجراحات لا قصاص واجبًا كما في التوراة ولا عفوًا
واجبًا كما في الإنجيل، بل شرع القصاص والعفو كلاهما وهلم
جرًّا.
وسبق الحديث قريبًا وكذا
(10/457)
في سورة الإسراء من التفسير.
7526 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: نَزَلَتْ هَذِهِ
الآيَةُ: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ
بِهَا} [الإسراء: 110] فِى الدُّعَاءِ.
وبه قال: (حدّثنا عبيد بن إسماعيل) بضم العين مصغرًا وكان
اسمه عبد الله القرشي الكوفي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد
بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي
الله عنها-) أنها (قالت: نزلت هذه الآية: {ولا تجهر بصلاتك
ولا تخافت بها} [الإسراء: 110] في الدعاء). هذا وجه آخر في
سبب نزول هذه الآية أو هو من باب إطلاق الكل على الجزء إذ
الدعاء بعض أجزاء الصلاة. وسبق في الإسراء.
7527 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ،
أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ،
عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ -وَزَادَ
غَيْرُهُ- يَجْهَرُ بِهِ».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن منصور وقال الحاكم ابن نصر
ورجح الأول أبو علي الجياني قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك
النبيل شيخ المؤلف روي عنه كثيرًا بلا واسطة قال:
(أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز قال: (أخبرنا
ابن شهاب) محمد بن مسلم (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن
عوف (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ليس منا) أي ليس من أهل سُنّتنا (من لم يتغن بالقرآن) أي
يحسن صوته به كما قاله الشافعي وأكثر العلماء. وقال سفيان
بن عيينة يستغني به عن الناس (وزاد غيره) غير أبي هريرة
وفي فضل القرآن وقال صاحب له معنى يتغنى بالقرآن (يجهر
به). فهي جملة مبينة لقوله يتغن بالقرآن، فلن يكون المبين
على خلاف البيان، فكيف يحمل على غير تحسين الصوت. والصاحب
المذكور هو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب كما
سبق في فضل القرآن.
وقال في الفتح: وسيأتي قريبًا من طريق محمد بن إبراهيم
التيمي عن أبي سلمة بلفظ ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن
الصوت بالقرآن يجهر به فيستفاد منه أن الغير المبهم في
حديث الباب وهو الصاحب المبهم في رواية عقيل هو محمد بن
إبراهيم التيمي والحديث واحد إلا أن بعضهم رواه بلفظ: ما
أذن، وبعضهم بلفظ: ليس منا.
قال ابن بطال: مراد البخاري بهذا الباب إثبات العلم لله
تعالى صفة ذاتية لاستواء علمه بالجهر من القول والسر
وتعقبه ابن المنير فقال ما أظن أنه قصد بالترجمة إثبات
العلم وليس كما ظن وإلا لتقاطعت المقاصد مما اشتملت عليه
الترجمة لا سيما بين العلم وبين حديث ليس منا من لم يتغن
بالقرآن، وإنما قصد البخاري الإشارة إلى النكتة التي كانت
سبب محنته بمسألة اللفظ فأشار بالترجمة إلى أن تلاوات
الخلق تتّصف بالسر والجهر ويستلزم أن تكون مخلوقة وأنها
تسمى تغنيًا وهذا هو الحق اعتقادًا لا إطلاقًا حذرًا من
الإيهام وفرارًا من الابتداع لمخالفة السلف في الإطلاق وقد
ثبت عن البخاري أنه قال من نقل عني أني قلت لفظي بالقرآن
مخلوق فقد كذب، وإنما قلت إن أفعال العبادة مخلوقة.
45 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهْوَ
يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَرَجُلٌ
يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا فَعَلْتُ
كَمَا يَفْعَلُ فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ قِيَامَهُ
بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ». وَقَالَ: «{وَمِنْ آيَاتِهِ
خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ
أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] وَقَالَ
جَلَّ ذِكْرُهُ {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]».
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في
حديث الباب (رجل آتاه الله) عز وجل (القرآن فهو يقوم به
آناء الليل والنهار) ولأبي ذر عن الكشميهني آناء الليل
وآناء النهار (ورجل يقول لو أُوتيت مثل ما أُوتي هذا فعلت
كما يفعل) وقال البخاري (فبين الله أن قيامه) أي قيام
الرجل (بالكتاب هو فعله) حيث
أسند القيام إليه وسقط لأبي ذر والأصيلي لفظ الجلالة ولأبي
ذر عن الكشميهني فبين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أن قراءته الكتاب.
(وقال) تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف
ألسنتكم}) أي اللغات أو أجناس النطق وأشكاله وهو يشمل
الكلام فتدخل القراءة ({وألوانكم} [الروم: 22]) كالسواد
والبياض وغيرهما ولاختلاف ذلك وقع التعارف إلا فلو تشاكلت
الألسن والألوان واتفقت لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت
المصالح وفي ذلك آية بيّنة حيث ولدوا من أب واحد وهم على
الكثرة التي لا يعلمها إلا الله متفاوتون (وقال جل ذكره:
{وافعلوا الخير}) عام يتناول سائر الخيرات كقراءة القرآن
والذكر والدعاء أو أريد به صلة الأرحام ومكارم الأخلاق
({لعلكم تفلحون} [الحج: 77]) أي كي تفوزوا وافعلوا هذا كله
وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم.
7528 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ تَحَاسُدَ إِلاَّ فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ
آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهْوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَهْوَ يَقُولُ: لَوْ
أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا
يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهْوَ
يُنْفِقُهُ فِى حَقِّهِ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ
مَا أُوتِىَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا جرير) هو
ابن عبد الحميد (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي صالح)
(10/458)
ذكوان الزيات (عن أبي هريرة) رضى الله عنه
أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لا تحاسد) بفوقية مفتوحة قبل الحاء وضم السين المهملتين
جائز في شيء (إلا في اثنتين) بالتأنيث إحدى الاثنتين (رجل)
بالرفع أي خصلة رجل (آتاه الله) عز وجل (القرآن فهو يتلوه
آناء الليل وآناء النهار) أي ساعات الليل وساعات النهار
ولأبوي الوقت وذر من آناء الليل وآناء النهار (فهو) أي
الحاسد (يقول لو أوتيت) لو أعطيت (مثل ما أوتي) أعطي (هذا)
من القرآن (لفعلت كما يفعل) لقرأت كما يقرأ (ورجل) وخصلة
رجل (آتاه الله مالاً فهو ينفقه في حقه}) من الصدقة
الواجبة ووجوه الخير المشروعة لا في التبذير ووجوه المكاره
(فيقول) الحاسد (لو أوتيت مثل ما أوتي) هذا من المال (عملت
فيه مثل ما يعمل) من الإنفاق في حقه.
قال في شرح المشكاة أثبت الحسد في هذا الحديث لإرادة
المبالغة في تحصيل النعمتين الخطيرتين اللتين لو اجتمعتا
في امرئ بلغ من العلياء كل مكان.
7529 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِىُّ: عَنْ سَالِمٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِى اثْنَتَيْنِ:
رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهْوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ،
وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهْوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ». سَمِعْتُ سُفْيَانَ
مِرَارًا لَمْ أَسْمَعْهُ يَذْكُرُ الْخَبَرَ وَهْوَ مِنْ
صَحِيحِ حَدِيثِهِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال الزهري) محمد بن مسلم (عن سالم عن
أبيه) عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا حسد إلا في اثنتين) إحداهما (رجل آتاه الله) عز وجل
بمدّ همزة آتاه أي أعطاه الله (القرآن فهو يتلوه) ولأبي ذر
والأصيلي يقوم به (آناء الليل وآناء النهار) ساعاتهما
وواحد الآناء. قال الأخفش: إني مثل معي وقيل أنو يقال مضى
أنيان من الليل وأنوان (و) ثانيهما (رجل آتاه الله) عز وجل
(مالاً فهو ينفقه) في حقه (آناء الليل وآناء النهار).
قال البغوي: المراد من الحسد هنا الغبطة وهي أن يتمنى
الرجل مثل ما لأخيه من غير أن يتمنى زواله عنه والمذموم أن
يتمنى زواله وهو الحسد ومعنى الحديث الترغيب في التصدّق
بالمال وتعليم العلم اهـ.
قال علي بن عبد الله المديني (سمعت سفيان) ولأبوي الوقت
وذر: سمعت من سفيان (مرارًا لم أسمعه يذكر الخبر) أي لم
أسمعه بلفظ أخبرنا أو حدّثنا الزهري بل بلفظ قال (وهو) مع
ذلك (من صحيح حديثه) فلا قدح فيه إذ هو معلوم من الطرق
الصحيحة فعند الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي خيثمة قال:
حدّثنا سفيان هو ابن عيينة قال: حدّثنا الزهري عن سالم به،
وكذا هو في مسلم عن أبي خيثمة زهير بن حرب. وقال في
الكواكب: أورد البخاري الترجمة مخرومة إذ ذكر من صاحب
القرآن حال المحسود فقط ومن صاحب المال حال الحاسد فقط ولا
لبس في ذلك لأنه اقتصر على ذكر حامل القرآن حاسدًا
ومحسودًا وترك حال ذي المال.
وسبق الحديث في العلم وفضائل القرآن والتمني.
46 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالاَتِهِ}
[المائدة: 67] وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: مِنَ اللَّهِ
الرِّسَالَةُ وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ،
وَقَالَ: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ
رَبِّهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ
رَبِّى} [الأعراف: 62]، وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ
تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}
[التوبة: 94] وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ
حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلِ: «اعْمَلُوا فَسَيَرَى
اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»، وَلاَ
يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ وَقَالَ مَعْمَرٌ: {ذَلِكَ
الْكِتَابُ} هَذَا الْقُرْآنُ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}
[البقرة: 2] بَيَانٌ وَدِلاَلَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} [الممتحنة: 10] هَذَا
حُكْمُ اللَّهِ لاَ رَيْبَ لاَ شَكَّ تِلْكَ آيَاتُ
يَعْنِى هَذِهِ أَعْلاَمُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ {حَتَّى
إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:
22] يَعْنِى بِكُمْ، وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالَهُ حَرَامًا
إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِى أُبَلِّغُ
رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ.
(باب قول الله تعالى: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك
من ربك}) ناداه بأشرف الصفات البشرية وقوله بلغ وهو قد بلغ
فأجاب الكشاف بأن المعنى جميع ما أنزل إليك أي أيّ شيء
أنزل غير مراقب في تبليغه أحدًا ولا خائف أن ينالك مكروه
وقوله ما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ولا يجوز أن تكون نكرة
موصوفة لأنه مأمور بتبليغ الجميع كما مرَّ والنكرة لا تفي
بذلك فإن تقديرها بلغ شيئًا أنزل إليك وفي أنزل ضمير مرفوع
يعود على ما قام مقام الفاعل ({وإن لم تفعل فما بلغت
رسالاته} [المائدة: 67]) بلفظ الجمع وهي قراءة نافع وابن
عامر وأبي بكر أي إن لم تفعل التبليغ فحذف المفعول، ثم إن
الجواب لا بدّ وأن يكون مغايرًا للشرط لتحصل الفائدة ومتى
اتحدا اختل الكلام فلو قلت إن أتى زيد فقد جاء لم يجز
وظاهر قوله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت} اتحاد الشرط
والجزاء فإن المعنى يؤول ظاهرًا وإن لم تفعل لم تفعل.
وأجاب الناس عن ذلك بأجوبة، فقيل: هو أمر تبليغ الرسالة في
المستقبل أي بلغ ما أنزل إليك من ربك في المستقبل وإن لم
تفعل أي وإن لم تبلّع الرسالة في المستقبل فكأنك لم تبلّع
الرسالة أصلاً أو بلغ ما أنزل إليك من ربك الآن ولا تنتظر
به كثرة الشوكة والعدة فإن لم تبلغ كنت كمن لم يبلغ أصلاً
أو بلغ غير خائف أحدًا فإن لم تبلغ على هذا الوصف فكأنك لم
تبلغ الرسالة أصلاً ثم
(10/459)
قال مشجعًا له في التبليغ: {والله يعصمك من
الناس} [المائدة: 67] وقال البدر الدماميني في مصابيحه وجه
التغاير بين الشرط والجزاء أن الجزاء مما أقيم فيه السبب
مقام المسبب إذ عدم التبليغ سبب لتوجيه العتب وهذا السبب
في الحقيقة هو الجزاء، فالتغاير حاصل لكن نكتة العدول إلى
ذكر السبب إجلال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وترفيع محله عن أن يواجه بعتب أو بشيء مما
يتأثر منه ولو على سبيل الفرص فتأمله اهـ.
(وقال الزهري) محمد بن مسلم (من الله عز وجل الرسالة وعلى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وللأصيلي
وعلى رسوله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البلاغ
وعلينا التسليم) فلا بدّ في الرسالة من ثلاثة أمور: المرسل
والرسول والمرسل إليه ولكلٍّ منهم شأن، فللمرسل الإرسال
وللرسول التبليغ وللمرسل إليه القبول والتسليم وهذا وقع في
قصة أخرجها الحميدي في النوادر ومن طريقه الخطيب (وقال:
{ليعلم}) ولأبي ذر وقال الله تعالى ليعلم أي الله تعالى
({أن قد أبلغوا}) أي الرسل ({رسالات ربهم}) كاملة بلا
زيادة ولا نقصان إلى المرسل إليهم أي ليعلم الله ذلك
موجودًا حال وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنه يوجده
وقيل ليعلم محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
الرسل قبله قد بلغوا الرسالة. وقال القرطبي: فيه حذف يتعلق
به الكلام أي اخترنا لحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله
كانوا على حالته من التبليغ بالحق والصدق وقيل ليعلم إبليس
أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق
أصحابه (وقال تعالى: {أبلغكم رسالات ربي} [الأعراف: 62])
أي ما أوحي إليّ في الأوقات
المتطاولة أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي
والبشائر والنذائر والتبليغ فعل فإذا بلغ فقد فعل ما أمر
به.
(وقال كعب بن مالك) الأنصار (حين تخلف عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في غزوة تبوك مما سبق بطوله
في سورة التوبة ({وسيرى الله}) وللأبوين: فسير الله
({عملكم ورسوله} [التوبة: 94]) ولأبي ذر والأصيلي:
والمؤمنون يشير إلى قوله في القصة. قال الله تعالى:
{يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذورا لن نؤمن لكم
قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون} الآية. ومراد البخاري تسمية ذلك كله عملاً.
(وقالت عائشة) رضي الله، عنها (إذا أعجبك حسن عمل امرئ
فقل: اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ولا
يستخفنك أحد) بالخاء المعجمة وتشديد الفاء والنون أي لا
يستخفنك بعمله فتسارع إلى مدحه وظن الخير به لكن ثبت حتى
تراه عاملاً بما يرضاه الله ورسوله والمؤمنون وصله البخاري
في خلق أفعال العباد. مطوّلاً وفي ما كان شأن عثمان حين
نجم القراء الدين طعنوا فيه وقالوا قولاً لا يحسن مثله
وقرؤوا قراءة لا يحسن مثلها وصلّوا صلاة لا يصلّى مثلها
الحديث بطوله والمراد أنها سمت ذلك كله عملاً.
(وقال معمر): بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة هو أبو
عبيدة بن المثنى اللغوي في كتاب مجاز القرآن له ({ذلك
الكتاب}) أي (هذا القرآن) قال: وقد تخاطب العرب الشاهد
بمخاطبة الغائب. وقال في المصابيح: قوله ذلك الكتاب هذا
القرآن يعني أن الإشارة إلى الكتاب المراد به القرآن وليس
ببعيد فكان مقتضى الظاهر أن يشار إليه بهذا لكن أتى بذلك
الذي يشار به إلى البعيد لأن القصد فيه إلى تعظيم المشار
إليه وبعدد درجته قال وفي كلام الزركشي في التنقيح هنا خبط
وقال تعالى: {هدًى للمتقين} [البقرة: 2]) أي (بيان ودلالة
كقوله تعالى: {ذلكم حكم الله} [المتحتة: 10] هذا حكم الله)
يعني أن ذلك بمعنى هذا (لا ريب) زاد أبو ذر والوقت فيه أي
(لا شك تلك آيات الله يعني هذه أعلام القرآن) فاستعمل تلك
التي للبعيد في موضع هذه التي للقريب (ومثله) في الاستعمال
قوله تعالى: ({حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس:
22] يعني بكم) فلما شاع استعمال ما هو للبعيد للقريب جاز
استعمال ما هو للغائب للحاضر.
(وقال أنس) -رضي الله عنه- (بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاله) وفي نسخة خالي (حرامًا) أي ابن
ملحان أخا أم سليم إلى بني عامر (إلى قومه) بني عامر ولأبي
ذر إلى قوم (وقال) لهم حرام: (أتؤمنون) بسكون الهمزة
(10/460)
وكسر الميم أي أتجعلوني آمنًا (أبلغ رسالة
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فأمنوه
(فجعل يحدّثهم) عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إذ أومؤوا إلى رجل منهم فطعنه فقال فزت ورب
الكعبة.
وهذا وصله في الجهاد والمغازي.
7530 - حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّىُّ، حَدَّثَنَا
الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِىُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِىُّ وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ
حَيَّةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: الْمُغِيرَةُ،
أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا، أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ
مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وبه قال: (حدّثنا الفضل بن يعقوب) الرخامي البغدادي قال:
حدّثنا عبد الله بن جعفر الرقي) بفتح الراء وكسر القاف
المشددة قال: (حدّثنا المعتمر بن سليمان) التيمي وقيل إن
صوابه المعمر بتشديد الميم وفتحها وضم الميم الأولى لأن
عبد الله بن جعفر لا يروي عن المعتمر بن سليمان قاله في
المصابيح. وقال الكرماني: وفي بعضها معمر من التعمير
وصوابه معتمر من الاعتمار قال: (حدّثنا سعيد بن عبد الله
الثقفي) بالمثلثة ثم القاف ثم الفاء بفتح العين مكبرًا كذا
في الفرع مكتوبًا على كشط. قال الجياني: وذا كان في نسخة
الأصيلي إلا أنه أصلحه عبيد الله بالتصغير وقال هو سعيد بن
عبد الله بن جبير بن حية قال: (حدّثنا بكر بن عبد الله
المزني) بالزاي (وزياد بن جبير بن حية) بالحاء المهملة
والتحتية المشددة (عن) أبيه (جبير بن حية قال المغيرة) بن
شعبة -رضي الله عنه- لترجمان عامل كسرى بندار لما بعث عمر
الناس في أفناء الأمصار وخرج عليهم في أربعين ألفًا
(أخبرنا نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن
رسالة ربنا) تبارك وتعالى:
(إنه من قتل منا) في الجهاد (صار إلى الجنة) زاد في الجزية
في نعيم لم ير مثلها قط ومن بقي منا ملك رقابكم الحديث
بطوله.
7531 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِىِّ، عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ:
مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَتَمَ شَيْئًا؟ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا
أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِىُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِى خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِىِّ عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَمَ
شَيْئًا مِنَ الْوَحْىِ فَلاَ تُصَدِّقْهُ إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ
فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن إسماعيل) بن أبي خالد (عن الشعبي) عامر
بن شراحيل (عن مسروق) بالسين المهملة الساكنة ابن الأجدع
(عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت من حدّثك أن محمدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتم شيئًا؟ وقال
محمد) يحتمل أن يكون هو محمد بن يوسف الفريابي فيكون
الحديث موصولاً أو غيره فيكون معلمًا (حدّثنا أبو عامر)
عبد الملك (العقدي) بفتح العين والقاف قال: (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج (عن إسماعيل بن أبي خالد) واسمه سعد على خلاف
فيه (عن الشعبى) عامر (عن مسروق عن عائشة) -رضي الله عنها-
أنها (قالت: من حدّثك أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كتم شيئًا من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى
يقول: ({يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم
تفعل فما بلغت رسالته}) [المائدة: 67] ووجه
الاستدلال بالآية أن ما أنزل عام والأمر للوجوب فيجب عليه
تبليغ كل ما أنزل عليه. وقال في الفتح: كل ما أنزل على
الرسول فله بالنسبة إليه طرفان طرف الأخذ من جبريل عليه
السلام، وقد مضى في الباب السابق وطرف الأداء للأمة وهو
المسمى بالتبليغ وهو المراد هنا والله أعلم.
7532 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ
قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الذَّنْبِ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: «أَنْ تَدْعُوَ
لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ». قَالَ: ثُمَّ أَىّ؟
قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ أَنْ يَطْعَمَ
مَعَكَ». قَالَ: ثُمَّ أَىّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِىَ
حَلِيلَةَ جَارِكَ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا
{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ
إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ} [الفرقان: 69] الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء قال: (حدّثنا
جرير) هو ابن عبد الحميد (عن الأعمش) سليمان (عن أبي وائل)
شقيق بن سلمة (عن عمرو بن شرحبيل) أبي ميسرة الهمداني أنه
(قال: قال عبد الله) بن مسعود (قال رجل: يا رسول الله) وفي
باب قول الله: ({فلا تجعلوا لله أندادًا} عن عبد الله أي
ابن مسعود سألت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (أي الذنب أكبر عند الله تعالى؟ قال) عليه
الصلاة والسلام:
(أن تدعو لله ندًّا) شريكًا (وهو خلقك. قال: ثم أي)؟ أي
أيّ شيء من الذنوب أكبر من ذلك (قال: ثم أن تقتل ولدك أن)
ولأبي ذر مخافة أن (يطعم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن) ولأبوي
الوقت وذر ثم أن (تزاني حليلة جارك) أي زوجته (فأنزل الله)
تبارك وتعالى (تصديقها: {والدين لا يدعون مع الله إلهًا
آخر}) أي لا يشركون ({ولا يقتلون النفس التي حرّم الله})
قتلها ({إلا بالحق}) بقود أو رجم أو ردّة أو شِرك أو سعي
في الأرض بالفساد ({ولا يزنون ومن يفعل ذلك}) المذكور
({يلق أثامًا}) جزاء الإثم ({يضاعف له العذاب} [الفرقان:
69] الآية). أي يعذب على مرور الأيام في الآخرة عذابًا على
عذاب.
قال في الكواكب: كيف وجد الصديق يعني في قوله فأنزل الله
تصديقها؟ قلت: من جهة إعظام هذه الثلاثة حيث ضاعف لها
العذاب وأثبت لها الخلود، وقال في فتح الباري:
(10/461)
ومناسبة قوله فأنزل الله تصديقها الخ ...
للترجمة أن التبليغ على نوعين: أحدهما: هو الأصل أن يبلغه
بعينه وهو خاص بالقرآن. الثاني: أن يبلغ ما يستنبط من أصول
ما تقدم إنزاله فينزل عليه موافقته فيما استنبطه إما بنصه
وإما بما يدل على موافقته بطريق الأولى كهذه الآية فإنها
اشتملت على الوعيد الشديد في حق من أشرك وهي مطابقة بالنص،
وفي حق من قتل النفس بغير حق وهي مطابقة للحديث بطريق
الأولى لأن القتل بغير حق وإن كان عظيمًا لكن قتل الولد
أقبح من قتل من ليس بولد وكذا القول في الزنا فإن الزنا
بحليلة الجار أعظم قبحًا من مطلق الزنا، ويحتمل أن يكون
إنزال هذه الآية سابقًا على إخباره -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما أخبر به لكن لم يسمعه الصحابي إلا
بعد ذلك، ويحتمل أن يكون كلٌّ من الأمور الثلاثة نزل تعظيم
الإثم فيه سابقًا، ولكن اختصت هذه الآية بمجموع الثلاثة في
سياق واحد مع الاقتصار عليها فيكون المراد بالتصديق
الموافقة في الاقتصار عليها فعلى هذا فمطابقة الحديث
للترجمة ظاهرة جدًّا والله أعلم.
47 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران:
93] وَقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «أُعْطِىَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ،
فَعَمِلُوا بِهَا وَأُعْطِىَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ
الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ، وَأُعْطِيتُمُ الْقُرْآنَ
فَعَمِلْتُمْ بِهِ». وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ {يَتْلُونَهُ}
[البقرة: 121]: يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ
عَمَلِهِ، يُقَالُ يُتْلَى: يُقْرَأُ حَسَنُ التِّلاَوَةِ
حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ. {لاَ يَمَسُّهُ}
[الواقعة: 79]: لاَ يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلاَّ
مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ وَلاَ يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ
إِلاَّ الْمُوقِنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ
يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5] وَسَمَّى
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الإِسْلاَمَ وَالإِيمَانَ عَمَلاً، قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لِبِلاَلٍ: «أَخْبِرْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ
عَمِلْتَهُ فِى الإِسْلاَمِ»؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلاً
أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلاَّ صَلَّيْتُ
وَسُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ الْجِهَادُ ثُمَّ حَجٌّ
مَبْرُورٌ».
(باب قول الله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ
فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93]) فاقرؤوها فالتلاوة مفسرة
بالعمل والعمل من فعل العامل (و) باب (قول النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أعطي أهل التوراة التوراة
فعملوا بها وأعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به وأعطيتم
القرآن فعملتم به) وصله في آخر هذا الباب لكن بلفظ أوتي في
الموضعين وأوتيتم.
(وقال أبو رزين) براء ثم زاي بوزن عظيم مسعود بن مالك
الأسدي الكوفي التابعي الكبير في قوله تعالى: ({يتلونه}
[البقرة: 121]) أي حق تلاوته كما في رواية أبي ذر (يتبعونه
ويعملون به حق عمله) وصله سفيان الثوري في تفسيره (يقال:
يتلى) أي (يقرأ) قاله أبو عبيدة في المجاز في قوله تعالى:
{إنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 51] (حسن
التلاوة) أي (حسن القراءة للقرآن) وكذا يقال رديء التلاوة
أي القراءة ولا يقال حسن القرآن ولا رديء القرآن وإنما
يسند إلى العباد القراءة لا القرآن لأن القرآن كلام الله
والقراءة فعل العبد.
({لا يمسه}) من قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون}
[الواقعة: 79] أي (لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن)
أي المطهرون من الكفر (ولا يحمله بحقه إلا الموقن) ولأبي
ذر وابن عساكر إلا المؤمن بدل الموقن بالقاف أي بكونه من
عند الله المتطهر من الجهل والشك (لقوله تعالى: {مثل الذين
حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس
مثل القوم الذين
كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين} [لجمعة:
5] وسمى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الإسلام والإيمان) وزاد أبو ذر والصلاة (عملاً) في حديث
سؤال جبريل السابق مرارًا. وفي الحديث المعلق في الباب.
(قال أبو هريرة: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لبلال: أخبرني بأرجى عمل) بفتح الميم (عملته)
بكسرها (في الإسلام. (قال) يا رسول الله (ما عملت عملاً
أرجى عندي أني لم أتطهر) طهورًا في ساعة من ليل أو نهار
(إلا صليت) أي بذلك الطهور ركعتين كما في بعض الروايات
ودخول هذا الحديث هنا من جهة أن الصلاة لا بدّ فيها من
القراءة. والحديث سبق في غير مرة.
(وسئل) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أي
العمل أفضل)؟ أيّ أكثر ثوابًا عند الله (قال: إيمان بالله
ورسوله ثم الجهاد) في سبيل الله (ثم حج مبرور) مقبول لا
يخالطه إثم.
والحديث سبق موصولاً في الإيمان في باب من قال: إن الإيمان
هو العمل فجعل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الإيمان والجهاد والحج عملاً.
7533 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ،
أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى
سَالِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ
الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ، أُوتِىَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ
فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ
عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِىَ
أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى
صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا
قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيتُمُ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ
حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ
قِيرَاطَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: هَؤُلاَءِ
أَقَلُّ مِنَّا عَمَلاً وَأَكْثَرُ أَجْرًا قَالَ: اللَّهُ
هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ.
قَالَ: فَهْوَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان المروزي
قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا
يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (سالم) هو ابن عمر (عن ابن
عمر) أبيه -رضي الله عنهما- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم كما بين) أجزاء وقت (صلاة
العصر) المنتهية (إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة التوراة
فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا) عن استيفاء عمل
النهار كله بأن ماتوا قبل النسخ (فأعطوا قيراطًا قيراطًا)
بالتكرار مرتين
(10/462)
وفيه كلام سبق في الصلاة في باب من أدرك
ركعة من العصر قبل الغروب (ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل
فعملوا به) من نصف النهار (حتى صليت العصر ثم عجزوا) عن
العمل أي انقطعوا (فأعطوا قيراطًا قيراطًا ثم أوتيتم
القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس) ولأبي ذر عن الكشميهني
حتى غروب الشمس (فأعطيتم
قيراطين قيراطين) بالتثنية فيهما (فقال أهل الكتاب) اليهود
والنصارى (هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجْرًا قال الله) عز
وجل (هل ظلمتكم) نقصتكم (من حقكم) الذي شرطته لكم (شيئًا؟
قالوا: لا. قال: فهو) أي كل ما أعطيته من الثواب (فضلي
أوتيه من أشاء).
والحديث سبق في الصلاة. ومطابقته للترجمة هنا في قوله:
أوتي أهل التوراة.
48 - باب وَسَمَّى النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الصَّلاَةَ عَمَلاً وَقَالَ: «لاَ صَلاَةَ
لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
(باب) بالتنوين بغير ترجمة فهو كالفصل السابق ولذا عطف
عليه قوله (وسمى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الصلاة عملاً) في حديث الباب (وقال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة
الكتاب) كما سبق موصولاً من حديث عبادة بن الصامت في
الصلاة في باب وجوب القراءة للإمام والمأموم.
7534 - حَدَّثَنِى سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ
الْوَلِيدِ وَحَدَّثَنِى عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ
الأَسَدِىُّ أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنِ
الشَّيْبَانِىِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، عَنْ
أَبِى عَمْرٍو الشَّيْبَانِىِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضى
الله عنه - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَىُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ
ثُمَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (سليمان) بن
حرب الواشحي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الوليد) بن
العيزار قال البخاري (وحدّثني) بالواو والإفراد (عباد بن
يعقوب) بفتح العين والموحدة المشدّدة (الأسدي) قال:
(أخبرنا عباد بن العوّام) بتشديد الواو (عن الشيباني)
سليمان بن فيروز أبي إسحاق الكوفي (عن الوليد بن العيزار)
بفتح العين المهملة وبعد الياء التحتية الساكنة زاي فألف
فراء (عن أبي عمرو) بفتح العين سعد بن إياس (الشيباني عن
ابن مسعود) عبد الله -رضي الله عنه- (أن رجلاً) هو ابن
مسعود (سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي
الأعمال أفضل؟ قال):
(الصلاة لوقتها) أي على وقتها أو في وقتها وحروف الخفض
ينوب بعضها عن بعض عند الكوفيين (وبرّ الوالدين ثم الجهاد
في سبيل الله).
والحديث سبق بأطول من هذا في الصلاة وفي الأدب.
49 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} ضَجُورًا {إِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ
مَنُوعًا} ضَجُورًا [المعارج: 19، 20، 21].
(باب قول الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعًا} ضجورًا كذا
ثبت في هامش اليونينية بالحمرة من غير رقم مع إثباته بعد
قوله هلوعًا وعن ابن عباس يفسره ما بعده ({إذا مسّه الشر
جزوعًا وإذا مسه الخير منوعًا} [المعارج: 19] هلوعًا). قال
أبو عبيدة (ضجورًا) وقال غيره الهلع سرعة الجزع عند مسّ
المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير وسأل محمد بن عبد الله
بن طاهر ثعلبًا عن الهلع فقال: قد فسّره الله ولا يكون
تفسير أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة
الجزع إذا ناله خير بخل به ومنعه الناس وهذا طبعه وهو
مأمور بمخالفة طبعه وموافقة شرعه.
7535 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ
بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
تَغْلِبَ قَالَ: أَتَى النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ
آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا فَقَالَ: «إِنِّى
أُعْطِى الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ وَالَّذِى أَدَعُ
أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ الَّذِى أُعْطِى، أُعْطِى أَقْوَامًا
لِمَا فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ،
وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِى
قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو
بْنُ تَغْلِبَ». فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى
بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حُمْرَ النَّعَمِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن تغلب بفتح الفوقية
وسكون الغين المعجمة وكسر اللام العبد قال: (حدّثنا جرير
بن حازم) الأزدي (عن الحسن) البصر أنه قال (حدّثنا عمرو بن
تغلب) بفتح العين وسكون الميم وتغلب بفتح الفوقية وسكون
المعجمة وكسر اللام بعدها موحدة النمري بفتح النون والميم
مخففًا (قال: أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مال فأعطى قومًا ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا)
عليه (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(إني أعطي الرجل وأدع الرجل) أي أترك إعطاءه (والذي أدع)
أترك (أحبّ إليّ) بتشديد الياء (من الذي أعطي. أعطي قومًا
لما في قلوبهم من الجزع والهلع) وهذا موضع الترجمة (وكل
أقوامًا إلى ما جعل الله) عز وجل (في قلوبهم من الغنى
والخير) بكسر الغين والقصر من غير همز ضد الفقر، ولأبي ذر
عن الحموي والمستملي من الغناء بفتح الغين والهمزة والمد
من الكفاية (منهم عمرو بن تغلب فقال عمرو: وما أحب أن لي
بكلمة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
التي قالها (حمر النعم) بفتح النون.
قال ابن بطال: مراد البخاري في هذا الباب إثبات خلق الله
للإنسان بأخلاقه من الهلع والصبر والمنع والإعطاء، وفيه أن
المنع قد لا يكون مذمومًا ويكون أفضل للممنوع لقوله: وأكِل
أقوامًا وهذه المنزلة التي شهد لهم بها -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفضل من العطاء الذي هو عرض الدنيا،
ولذا اغتبط به عمرو -رضي الله عنه-.
(10/463)
والحديث سبق في الخمس في باب ما كان النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعطي المؤلفة قلوبهم.
50 - باب ذِكْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ
(باب ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وروايته عن ربه) عز وجل بدون واسطة جبريل عليه السلام.
وقال في الفتح: يحتمل أن تكون الجملة الأولى محذوفة
المفعول والتقدير ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ربه ويحتمل أن يكون ضمن الذكر معنى التحديث
فعداه بعن فيكون قوله عن ربه يتعلق بالذكر والرواية معًا.
7536 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ،
حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ
الْهَرَوِىُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: «إِذَا
تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَىَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ
ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ
مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِى مَشْيًا أَتَيْتُهُ
هَرْوَلَةً».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن
عبد الرحيم) الملقب بصاعقة قال: (حدّثنا أبو زيد سعيد بن
الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة (الهروي) قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس -رضي الله
عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرويه)
أي الحديث (عن ربه) تبارك وتعالى أنه (قال) جل وعلا:
(إذا تقرب العبد إليّ) بتشديد الياء (شبرًا تقربت إليه
ذراعًا وإذا تقرب مني) ولأبي الوقت إليّ (ذراعًا تقربت منه
باعًا وإذا أتاني مشيًا) وفي نسخة يمشي (أتيته هرولة) أي
مسرعًا أي من تقرب بطاعة قليلة جازيته بثواب كثير ولفظ
التقرب والهرولة إنما هو على طريق المشاكلة أو الاستعارة
أو المراد لازمهما.
7537 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى عَنِ
التَّيْمِىِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ قَالَ: رُبَّمَا ذَكَرَ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا تَقَرَّبَ
الْعَبْدُ مِنِّى شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا،
وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ
بَاعًا أَوْ بُوعًا».
وَقَالَ مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِى سَمِعْتُ أَنَسًا عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْوِيهِ
عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (عن يحيى) بن سعيد
القطان (عن التيمي) سليمان بن طرخان وهذا هو الصواب ووقع
في اليونينية التميمي ولعله سبق قلم (عن أنس بن مالك عن
أبي هريرة) -رضي الله عنهما- أنه (قال: ربما ذكر) أبو
هريرة (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا تقرب العبد مني شبرًا) كذا للجميع ليس فيه الرواية عن
الله. نعم عند الإسماعيلي من رواية محمد بن أبي بكر
المقدمي عن يحيى بلفظ عن أبي هريرة ذكر النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: قال الله عز وجل: (إذا
تقرب العبد مني شبرًا تقربت منه ذراعًا وإذا تقرب مني
ذراعًا تقربت منه باعًا) بالألف (أو بوعًا) بالواو بالشك
وهما بمعنى، وقال الخطابي: الباع معروف وهو قدر مدّ
اليدين، وقال الباجي: البدع طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض
صدره وذلك قدر أربعة أذرع وهذا تمثيل ومجاز إذ حمله على
الحقيقة مُحال على الله تعالى فوصف العبد بالتقرب إليه
شبرًا وذراعًا وإتيانه ومشيه
معناه التقرّب إلى ربه بطاعته وأداء مفترضاته ونوافله
وتقربه تعالى من عبده وإتيانه ومشيه عبارة عن إثباته على
طاعته وتقريبه من رحمته.
(وقال معتمر) هو ابن سليمان التيمي فيما وصله مسلم (سمعت
أبي) سليمان قال: (سمعت أنسًا) -رضي الله عنه- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرويه) أي الحديث
السابق (عن ربه عز وجل) فصرّح فيه بالرواية عن الله تعالى
والحديث الأول كالثاني لكن الثاني فيه أن أنسًا يروي عن
أبي هريرة وفي الأول أنس يروي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي المعلق يروي المعتمر عن أبيه عن
أنس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
7538 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ: «لِكُلِّ عَمَلٍ
كَفَّارَةٌ، وَالصَّوْمُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ،
وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ
رِيحِ الْمِسْكِ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (حدّثنا محمد بن زياد) القرشي الجمحي مولاهم
أنه (قال: سمعت أبا هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرويه عن ربكم) تبارك
وتعالى أنه (قال):
(لكل عمل) من المعاصي (كفّارة) توجب ستره وغفرانه (والصوم
لي) لا يتعبد به لغيري (وأنا أجزي به) الصائم وغير الصوم
قد يفوّض جزاؤه للملائكة (ولخلوف فم الصائم) بضم الخاء
المعجمة تغير رائحة فمه بسبب خلاء معدته (أطيب عند الله من
ريح المسك). والله تعالى منزّه عن الأطيبة فهو على سبيل
الفرض يعني لو فرض لكان أطيب منه.
واستشكل بأن دم الشهيد كريح المسك والخلوف أطيب، فيلزم منه
أن يكون الصائم أفضل من الشهيد. وأجيب: بأن منشأ الأطيبة
ربما يكون الطهارة لأن الخلوف طاهر والدم نجس.
والحديث سبق في الصوم.
7539 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ ح وَقَالَ لِى خَلِيفَةُ
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
- رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ:
«لاَ يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى». وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ.
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحارث بن سخبرة الأزدي
أبو عمر الحوضي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة)
بن دعامة السدوسي (ح) للتحويل. قال المؤلف:
(وقال لي خليفة) بن خياط (حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الزاي
مصغرًا (عن
(10/464)
سعيد) هو ابن أبي عروبة واللفظ لسعيد (عن
قتادة عن أبي العالية) رفيع بضم الراء وفتح الفاء وبعد
التحتية الساكنة مهملة الرياحي (عن ابن عباس -رضي الله
عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما
يرويه عن ربه) تبارك وتعالى أنه (قال):
(لا ينبغي لعبد أن يقول إنه) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
أن يقول أنا (خير من يونس بن متى) بفتح الميم والفوقية
المشددة مقصورًا (ونسبه إلى أبيه) جملة حالية أي ليس لأحد
أن يفضل نفسه على يونس أو ليس لأحد أن يفضلني عليه تفضيلاً
يؤدي إلى تنقيصه لا سيما إن توهم ذلك من قصة الحوت، فإنها
ليست حاطّة من مرتبته العلية صلوات الله وسلامه على جميعهم
وزادهم شرفًا أو قاله تواضعًا أو قاله قبل علمه بسيادته
على الجميع والدلائل متظاهرة على تفضيله عليهم.
والحديث سبق في سورة النساء والأنعام وليس فيه عن ربه ولا
عن ربه وكذا في أحاديث الأنبياء عن حفص بن عمر بالسند
المذكور. قال في الفتح: وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية عبد
الرحمن بن مهدي ولم أر في شيء من الطرق عن شعبة فيه عن ربه
ولا عن الله، وقال السفاقسي: ليس في أكثر الروايات يرويه
عن ربه فإن كان محفوظًا فهو من سوى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
7540 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِى سُرَيْجٍ،
أَخْبَرَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُغَفَّلٍ الْمُزَنِىِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْفَتْحِ
عَلَى نَاقَةٍ لَهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ
سُورَةِ الْفَتْحِ قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا قَالَ: ثُمَّ
قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِى قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ
وَقَالَ: لَوْلاَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ
لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِى
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ
لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ:
ءَاءَاءَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن أبي سريج) بالسين المهملة
المضمومة آخره جيم هو أحمد بن الصباح أبو جعفر بن أبي سريج
النهشلي الرازي قال: (أخبرنا شبابة) بالشين المعجمة وتخفيف
الموحدة الأولى ابن سوار بفتح المهملة وتشديد الواو أبو
عمرو الفزاري مولاهم قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن
معاوية بن قرة) بضم القاف وتشديد الراء المفتوحة المزني
(عن عبد الله بن مغفل) بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد
الفاء المفتوحة، ولأبي ذر المغفل (المزني) -رضي الله عنه-
أنه (قال: رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح أو من
سورة الفتح) بالشك من الراوي (قال: فرجع فيها) بتشديد
الجيم أي ردّد صوته بالقراءة (قال) شعبة (ثم قرأ معاوية
يحكي قراءة ابن مغفل، وقال) معاوية (لولا أن يجتمع الناس
عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال ابن بطال فيه إن القراءة
بالترجيع والإلحان تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء إليه
وتستميلها بذلك حتى لا تكاد تصبر عن استماع الترجيع المشوب
بلذة الحكمة المهيمنة قال شعبة (فقلت لمعاوية: فكيف كان
ترجيعه؟ قال: ءاءاءا ثلاث مرات) بهمزة مفتوحة بعدها ألف
وهو محمول على الإشباع في محله وسبقت مباحثه في فضائل
القرآن، وفيه جواز القراءة بالترجيع والإلحان الملذذة
للقلوب بحسن الصوت، ووجه دخول هذا الحديث في هذا الباب أنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أيضًا يروي
القرآن عن ربه. وقال الكرماني: الراوية عن الرب أعمّ من أن
تكون قرآنًا أو غيره بالواسطة أو بدونها لكن المتبادر إلى
الذهن المتداول على الألسنة كان بغير الواسطة.
51 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ
وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ
وَغَيْرِهَا
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ
فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93].
(باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله) عز وجل
كالإنجيل (بـ) اللغة (العربية وغيرها) من اللغات (لقول
الله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}
[آل عمران: 93]) ووجه الدلالة منها أن التوراة بالعبرانية
وقد أمر الله أن تتلى على العرب وهم لا يعرفون العبرانية
ففيه الإذن في التعبير عنها بالعربية.
7541 - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا
تَرْجُمَانَهُ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَرَأَهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآيَةَ.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما-: (أخبرني) بالإفراد (أبو
سفيان) صخر (بن حرب أن هرقل) ملك الروم قيصر (دعا ترجمانه)
ولم يسم (ثم دعا بكتاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقرأه) فإذا فيه (بسم الله الرحمن الرحيم من
محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل: و {يا أهل الكتاب تعالوا
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [آل عمران: 64] الآية) وجه
الدلالة منه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتب
إلى هرقل باللسان العربي ولسان هرقل رومي ففيه إشعار بأنه
اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان
المبعوث إليه ليفهمه والمترجم المذكور هو الترجمان.
والحديث سبق مطولاً في أول الصحيح.
7542 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ
الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ، عَنْ
أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ
أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ
بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ
لأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَ {قُولُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ}» [البقرة: 136] الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة
(10/465)
والمعجمة المشددة ابن عثمان أبو بكر العبدي
مولاهم المعروف ببندار قال: (حدّثنا عثمان بن عمر) بضم
العين ابن فارس البصري قال: (أخبرنا علي بن المبارك)
الهنائي (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة الطائي مولاهم (عن
أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري (عن أبي هريرة)
-رضي الله عنه- (قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة
بالعبرانية) بكسر العين وسكون الموحدة (ويفسرونها بالعربية
لأهل الإسلام فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم) قال البيهقي: فيه
دليل على أن أهل الكتاب إن صدقوا ما فسروا من كتابهم
بالعربية كان ذلك مما أنزل إليهم على طريق التعبير عما
أنزل وكلام الله واحد لا يختلف باختلاف اللغات فبأي لسان
قرئ فهو كلام الله ثم أسند عن مجاهد في قوله تعالى:
{لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19] يعني ومن أسلم من
العجم وغيرهم. قال البيهقي: وقد لا يكون يعرف العربية فإذا
بلغه معناه بلسانه فهو له نذير ({وقولوا آمنا بالله وما
أنزل} [البقرة: 136] الآية) والمراد القرآن.
7543 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ،
عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله
عنهما - قَالَ: أُتِىَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الْيَهُودِ
قَدْ زَنَيَا فَقَالَ لِلْيَهُودِ: «مَا تَصْنَعُونَ
بِهِمَا»؟ قَالُوا: نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا وَنُخْزِيهِمَا
قَالَ: «{فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ}». فَجَاؤُوا فَقَالُوا لِرَجُلٍ
مِمَّنْ يَرْضَوْنَ أَعْوَرُ اقْرَأْ فَقَرَأَ حَتَّى
انْتَهَى عَلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ
قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهِ
آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ
عَلَيْهِمَا الرَّجْمَ وَلَكِنَّا نُكَاتِمُهُ بَيْنَنَا
فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا فَرَأَيْتُهُ يُجَانِئُ
عَلَيْهَا الْحِجَارَةَ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا
إسماعيل) ابن علية (عن أيوب) السختياني (عن نافع) مولى ابن
عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: أُتي) بضم
الهمزة وكسر الفوقية (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- برجل) لم يسم ولأبي ذر أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتي برجل (وامرأة) قال ابن
العربي: اسمها بسرة كلاهما (من اليهود قد زنيا فقال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لليهود):
(ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم) بضم النون وفتح السين
المهملة وكسر الخاء المعجمة المشددة نسوّد (وجوههما
ونخزيهما) بضم النون وسكون الخاء المعجمة وكسر الزاي أي
نركبهما على حمار معكوسين وندور بهما في الأسواق (قال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم: ({فأتوا
بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}. فجاؤوا) بها (فقالوا
لرجل ممن يرضون) هو عبد الله بن صوريا الأعور اليهودي (يا
أعور) منادى ولأبي ذر عن الكشميهني أعور مجرور بالفتحة صفة
لرجل والذي في اليونينية بالرفع على أصل المنادى مع حذف
الأداة (اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها) من التوراة
(فوضع يده عليه) على الموضع ولأبي ذر عن الكشميهني عليها
على آية الرجم (قال) له ابن سلام (ارفع يدك) عنها (فرفع
يده فإذا فيه) في الموضع الذي وضع يده عليه (آية الرجم
تلوح) بالحاء المهملة (فقال: يا محمد إن عليهما) ولأبوي
الوقت وذر إن بينهما (الرجم ولكنا نكاتمه بيننا) بضم النون
بعدها كاف وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي والمستملي نتكاتمه
بفتح النون والفوقية والتذكير أي بالرجم أيضًا ولأبي ذر
أيضًا عن الكشميهني نتكاتمها بالتأنيث أي آية الرجم (فأمر
بهما) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فرجما) قال
ابن عمر -رضي الله عنهما- (فرأيته) يعني اليهودي المرجوم
(يجانئ) بضم التحتية وفتح الجيم وبعد الألف نون مكسورة
فهمزة مضمومة يكذب (عليها) على اليهودية يقيها (الحجارة).
والحديث سبق في آخر علامات النبوة وفي باب الرجم بالبلاط
من كتاب المحاربين.
52 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ
الْبَرَرَةِ وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
الماهر بالقرآن) الجيد التلاوة مع الحفظ (مع الكرام)
وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني مع السفرة الكرام وله عن
الحموي والمستملي مع سفرة الكرام (البررة) بإضافة سفر
للكرام من باب إضافة الموصوف للصفة والسفرة الكتبة جمع
سافر مثل كاتب وزنًا ومعنى وهم الكتبة الذين يكتبون من
اللوح المحفوظ والكرام المكرمون عند الله تعالى، والبررة
المطيعون المطهرون من الذنوب، وأصل هذا حديث تقدم موصولاً
في التفسير، لكن بلفظ مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع
السفرة الكرام البررة. قال الهروي: والمراد بالمهارة
بالقرآن جودة الحفظ وجودة التلاوة من غير تردّد فيه لكونه
يسره الله تعالى عليه كما يسره على الملائكة فكان مثلها في
الحفظ والدرجة (و) قوله عليه الصلاة والسلام (زينوا القرآن
بأصواتكم) بتحسينها، ومراد المؤلف إثبات كون التلاوة فعل
العبد فإنها يدخلها الترتيل
(10/466)
والتحسين والتطريب وهذا التعليق وهو زينوا
الخ، وصله أبو داود وغيره.
7544 - حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِى
ابْنُ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا
أَذِنَ لِنَبِىٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ
بِهِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (إبراهيم بن
حمزة) بالحاء المهملة والزاي أبو إسحاق الزبيري الأسدي
قال: (حدّثني) بالإفراد (ابن أبي حازم) بالحاء المهملة
والزاي سلمة بن دينار (عن يزيد) من الزيادة بن عبد الله بن
أسامة بن الهاد الليثي (عن محمد بن إبراهيم) التيمي (عن
أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن أبي هريرة) -رضي الله
عنه- أنه (سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يقول):
(ما أذن الله لشيء) أي ما استمع الله لشيء (ما أذن) ما
استمع (لنبي حسن الصوت بالقرآن) حال كونه (يجهر به) ولا
بدّ من تقدير مضاف عند قوله لنبي أي لصوت نبي والنبي جنس
شائع في كل نبي، فالمراد بالقرآن القراءة ولا يجوز أن يحمل
الاستماع على الإصغاء إذ هو مستحيل على الله تعالى بل هو
كناية عن تقريبه وإجزال ثوابه لأن سماع الله لا يختلف.
7545 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ حِينَ قَالَ لَهَا
أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، وَكُلٌّ حَدَّثَنِى
طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ قَالَتْ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى
فِرَاشِى وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّى بَرِيئَةٌ،
وَأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِى وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا
كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِى شَأْنِى
وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِى فِى نَفْسِى كَانَ أَحْقَرَ
مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِىَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى،
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ
جَاؤُوا بِالإِفْكِ} [النور: 15] الْعَشْرَ الآيَاتِ
كُلَّهَا.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير بضم الموحدة مصغرًا قال: (حدّثنا الليث) بن سعد
الإمام (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن
مسلم الزهري أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير)
بن العوّام (وسعيد بن المسيب) بن حزن سيد التابعين (وعلقمة
بن وقاص) الليثي (وعبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله) بن
عتبة بن مسعود أربعتهم (عن حديث عائشة) -رضي الله عنها-
(حين قال لها أهل الإفك) الكذب الشديد (ما قالوا وكل) من
الأربعة (حدّثني) بالإفراد (طائفة من الحديث) أي بعضه
فجميعه عن مجموعهم لا أن مجموعه عن كل واحد منهم فذكرت
الحديث بطوله إلى أن قالت: فلئن قلت لكم إني بريئة والله
يعلم أني منه بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر
والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني بذلك والله ما أجد لي
ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف: {فصبر جميل والله المستعان
على ما تصفون} [يوسف: 18] (قالت: فاضطجعت على فراشي وأنا
حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله يبرئني ولكن) ولأبوي الوقت
وذر عن الكشميهني ولكني (والله ما كنت أظن أن الله) عز وجل
(ينزل) ولأبي ذر منزل (في شأني وحيًا يُتلى) يقرأ (ولشأني
في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله) عز وجل (فيّ) بتشديد
الياء (بأمر يتلى) بالأصوات في المحاريب والمحافل وغير ذلك
(وأنزل الله عز وجل: {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم}
[النور: 10] العشر الآيات كلها). قال ابن حجر: آخر العشر
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [آل عمران: 66] اهـ.
قلت: قد سبق في تفسير سورة النور أنها إلى رؤوف رحيم
فليراجع وثبت قوله: عصبة منكم لأبي ذر وسقط لغيره، وقد
أورد الحديث من طرق أخرى المؤلف في خلق أفعال العباد ثم
قال: فبينت عائشة -رضي الله عنها- أن الإنزال من الله وأن
الناس يتلونه.
7546 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ،
عَنْ عَدِىِّ بْنِ ثَابِتٍ أُرَاهُ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقْرَأُ فِى الْعِشَاءِ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}
[التين: 1] فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ
قِرَاءَةً مِنْهُ.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
مسعر) بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين ابن
كدام الكوفي (عن عدي بن ثابت) الأنصاري (أراه) بضم الهمزة
أظنه (عن البراء) ولأبي ذر والأصيلي قال: سمعت البراء أي
ابن عازب -رضي الله عنه- (قال): ولأبي ذر والأصيلي وأبي
الوقت يقول: (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقرأ في) صلاة (العشاء {والتين}) ولأبي ذر عن
الكشميهني بالتين ({والزيتون} [التين: 1] فما سمعت أحدًا
أحسن صوتًا أو قراءة منه) وغرض
المؤلف من إيراده هنا بيان اختلاف الأصوات بالقراءة من جهة
النغم والله أعلم.
7547 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا
هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِى بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: كَانَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ
فَإِذَا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ
جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَلاَ تَجْهَرْ
بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110].
وبه قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) الأنماطي البصري قال:
(حدّثنا هشيم) بضم الهاء وفتح المعجمة ابن بشير مصغرًا
أيضًا الواسطي السلمي (عن أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون
المعجمة جعفر بن أبي وحشية (عن سعيد بن جبير) الوالبي
مولاهم (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: كان
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متواريًا بمكة)
من المشركين في أوّل بعثته وفي باب وأسروا قولكم مختفٍ
بمكة (وكان يرفع صوته) بالقراءة في الصلاة (فإذا سمع
المشركون) قراءته (سبّوا القرآن ومن جاء به فقال الله عز
وجل لنبيّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {ولا
تجهر بصلاتك}) أي بقراءة صلاتك ({ولا تخافت بها} [الإسراء:
110]) زاد
(10/467)
في باب قوله وأسروا قولكم عن أصحابك فلا
تسمعهم وابتغ بين ذلك سبيلاً.
7548 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ
أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضى الله
عنه - قَالَ: لَهُ إِنِّى أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ
وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِى غَنَمِكَ أَوْ
بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ لِلصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ
بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ
الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَىْءٌ إِلاَّ
شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ:
سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام ابن أنس الأصبحي (عن عبد الرحمن بن
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه) عبد الله
(أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: له) لعبد
الله بن عبد الرحمن (إني أراك تحب الغنم و) تحب (البادية)
الصحراء لأجل رعي الغنم (فإذا كنت في غنمك) في غير بادية
(أو) في (باديتك) من غير غنم أو معها وهو شك من الراوي
(فأذّنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء) بالأذان (فإنه لا يسمع
مدى) بفتح الميم والدال المهملة مقصورًا ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي نداء (صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا شيء)
من الحيوان والجماد بأن يخلق الله تعالى له إدراكًا (إلا
شهد له يوم القيامة. قال أبو سعيد) الخدري -رضي الله عنه-
(سمعته من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أي قوله فإنه لا يسمع إلى آخره فذكر البادية والغنم موقوف.
قال في الفتح: مراد المؤلف هنا بيان اختلاف الأصوات بالرفع
والخفض. وقال في الكواكب وجه مناسبته إن رفع الأصوات
بالقرآن أحق بالشهادة له وأولى.
وسبق الحديث في باب رفع الصوت بالنداء من كتاب الصلاة.
7549 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِى حَجْرِى وَأَنَا حَائِضٌ.
وبه قال: (حدّثنا قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة وبالصاد
المهملة ابن عقبة أبو عامر السوائي قال: (حدّثنا سفيان)
الثوري (عن منصور) هو ابن عبد الرحمن التيمي (عن أمه) صفية
بنت شيبة الحجبي المكي (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها
(قالت: كان النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ
القرآن ورأسه في حجري) بفتح الحاء المهملة (وأنا حائض)
جملة حالية والحديث مرّ في الحيض.
53 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَؤُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]
(باب قول الله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن}
[المزمل: 20]) وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني ما تيسر منه
قيل المراد نفس القراءة أي فاقرؤوا فيما تصلون به بالليل
ما خفّ عليكم. قال السدي: مائة آية وقيل صلوا ما تيسر
عليكم والصلاة تسمى قرآنًا. قال الله تعالى: {وقرآن الفجر}
[الإسراء: 78] أي صلاة الفجر.
7550 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى
عُرْوَةُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِىَّ حَدَّثَاهُ
أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ:
سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ
الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا
هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ
يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاَةِ
فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ،
فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى
سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ:
كَذَبْتَ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ،
فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: إِنِّى
سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى
حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقَالَ: «أَرْسِلْهُ اقْرَأْ
يَا هِشَامُ» فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اقْرَأْ
يَا عُمَرُ» فَقَرَأْتُ الَّتِى أَقْرَأَنِى فَقَالَ:
«كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ
عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ
مِنْهُ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) نسبه لجده واسم أبيه عبد
الله قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم
العين ابن خالد (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه
قال: (حدّثتي) بالإفراد (عروة) بن الزبير (أن المسور) بكسر
الميم (ابن مخرمة) بفتحها وسكون المعجمة وفتح الراء (وعبد
الرحمن بن عبد القاريّ) بتشديد الياء نسبة إلى القارة
(حدّثناه أنهما سمعا عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- (يقول:
سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان) لا سورة الأحزاب
(في حياة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكدت
أُساوره) بالسين المهملة آخذ برأسه (في الصلاة فتصبرت)
فتكلفت الصبر (حتى سلم فلببته) بتشديد الموحدة الأولى
وتخفف وهو الذي في اليونينية وسكون الثانية (بردائه)
جمعتها عليه عند لبته خوف أن ينفلت مني (فقلت) له: (من
أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ) ها (قال) ولأبي الوقت
قال (أقرأنيها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقلت) له (كذبت أقرأنيها) رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (على غير ما قرأت) ها
(فانطلقت به أقوده) وأجرّه بردائه (إلى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت) يا رسول الله (إني سمعت
هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال):
(أرسله) بهمزة قطع وبكسر السين أطلقه ثم قال عليه الصلاة
والسلام (اقرأ يا هشام) قال عمر -رضي الله عنه- (فقرأ
القراءة التي سمعته) يقرأ بها (فقال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كذلك) وللأصيلي كذا (أنزلت.
ثم قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
اقرأ يا عمر. فقرأت) القراءة (التي أقرأني) بها -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال: كذلك) وللأصيلي كذا
(أنزلت) ثم قال: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) أي
لغات (فاقرؤوا ما تيسر منه). من الأحرف المنزل بها بالنسبة
إلى ما يستحضره القارئ من القراءات فالذي في آية المزمل
للكمية والذي في الحديث للكيفية قال
(10/468)
في الفتح ومناسبة الترجمة وحديثها للأبواب
السابقة من جهة التفاوت في الكيفية ومن جهة جواز نسبة
القراءة للقارئ.
وسبق الحديث في الفضائل والخصومات.
54 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17]
وَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ». يُقَالُ مُيَسَّرٌ:
مُهَيَّأٌ وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ {وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قَالَ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانَ عَلَيْهِ؟.
(باب قول الله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر}) أي
سهلناه للادّكار والاتعاظ ({فهل من مدّكر} [القمر: 17])
متعظ يتعظ وقيل ولقد سهلناه للحفظ وأعنّا عليه مَن أراد
حفظه فهل من طالب لحفظه ليُعان عليه ويروى أن كتب أهل
الأديان كالتوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظرًا ولا
يحفظونها ظاهرًا كالقرآن وثبت قوله: {فهل من مدّكر} لأبي
ذر والأصيلي وسقط لغيرها (وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كل) بالتنوين (ميسر لما خلق له) وصله
هنا.
(يقال ميسر) قال المؤلف أي (مهيأ) وزاد هنا أبو ذر والوقت
والأصيلي. وقال مجاهد المفسر يسرنا القرآن بلسانك أي
هوّنَّا قراءته عليك وهذا وصله الفريابي، وزاد الكشميهني.
(وقال مطر الوراق) بن طهمان أبو رجاء الخراساني: ({ولقد
يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} قال: هل من طالب علم
فيعان عليه). وصله الفريابي.
7551 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، قَالَ يَزِيدُ: حَدَّثَنِى مُطَرِّفُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: «كُلٌّ
مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) عبد الله بن عمرو المقعد قال:
(حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد التنوري (قال يزيد): من
الزيادة ابن أبي يزيد واسمه سنان المشهور بالرشك الضبعي
(حدثني) بالإفراد (مطرف بن عبد الله) بن الشخير العامري
(عن عمران) بن الحصين -رضي الله عنه- أنه (قال: قلت: يا
رسول الله فيما يعمل العاملون) سبق في كتاب القدر يا رسول
الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال فلم يعمل
العاملون أي إذا سبق العلم بذلك فلا يحتاج العامل إلى
العمل لأنه سيصير إلى ما قدر له (قال):
(كلٌّ ميسّر) بتشديد السين المفتوحة (لما خلق له) فعلى
المكلف أن يدأب في الأعمال الصالحة فإن عمله إمارة إلى ما
يؤول إليه أمره غالبًا ومطابقته للترجمة ظاهرة وسبق في
القدر.
7552 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ
وَالأَعْمَشِ سَمِعَا سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ
كَانَ فِى جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ
فِى الأَرْضِ فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ
كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ النَّارِ».
قَالُوا: أَلاَ نَتَّكِلُ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ
مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}» [الليل: 5]
الآيَةَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر بالجمع (محمد بن
بشار) بالموحدة والمعجمة بندار قال: (حدّثنا غندر) محمد بن
جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن منصور) هو ابن
المعتمر (والأعمش) سليمان بن مهران أنهما (سمعا سعد بن
عبيدة) بسكون العين في الأول وضمها في الثاني وفتح الموحدة
أبا حمزة بالمهملة والزاي السلمي بالضم الكوفي (عن أبي عبد
الرحمن) عبد الله بن حبيب الكوفي السلمي (عن علي) أي ابن
أبي طالب -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان في جنازة) زاد في الجنائز في
بقيع الغرقد (فأخذ عودًا فجعل ينكت) بضم الكاف بعدها مثناة
فوقية يضرب به (في الأرض فقال):
(ما منكم من أحد إلا كتب) بضم الكاف أي قدّر في الأزل
(مقعده من الجنة أو من النار) من بيانية (قالوا) سبق تعيين
القائل في الجنائز وفي الترمذي أنه عمر بن الخطاب (ألا
نتّكل) أي نعتمد زاد في الجنائز على كتابنا وندع العمل
(قال: اعملوا) صالحًا (فكلٌّ ميسر) أي لما خلق له ثم قرأ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ({فأما من أعطى
واتقى} [الليل: 5] الآية).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله ميسر وسبق في الجنائز.
55 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}
[البروج: 22] {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}
[الطور: 1] قَالَ قَتَادَةُ: مَكْتُوبٌ يَسْطُرُونَ:
يَخُطُّونَ فِى أُمِّ الْكِتَابِ جُمْلَةِ الْكِتَابِ
وَأَصْلِهِ {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} [ق: 8] مَا
يَتَكَلَّمُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ كُتِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ
{يُحَرِّفُونَ} [المائدة: 13]: يُزِيلُونَ، وَلَيْسَ
أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ
عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ {دِرَاسَتُهُمْ} [الأنعام: 156]
تِلاَوَتُهُمْ {وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12]: حَافِظَةٌ
{وَتَعِيَهَا} [الحاقة: 12]: تَحْفَظُهَا {وَأُوحِىَ
إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} [الأنعام:
19] يَعْنِى أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ بَلَغَ هَذَا
الْقُرْآنُ فَهْوَ لَهُ نَذِيرٌ.
وَقَالَ لِى خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ.
(باب قول الله تعالى: ({بل هو قرآن مجيد) أي شريف عالي
الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه فليس كما تزعمون أنه
مفتري وأنه أساطير الأوّلين ({في لوح محفوظ} [البروج: 22])
من وصول الشياطين إليه. وقوله تعالى ({والطور}) الجبل الذي
كلم الله عليه موسى وهو بمدين ({وكتاب مسطور} [الطور: 1]).
(قال قتادة) فيما وصله المؤلف في كتاب خلق أفعال العباد أي
(مكتوب يسطرون) أي (يخطون) رواه عبد بن حميد من طريق شيبان
عن قتادة (في أم الكتاب جملة الكتاب وأصله) كذا أخرجه عبد
الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة ({ما يلفظ من قول} [ق:
8]) أي (ما يتكلم من شيء إلا كتب عليه) وصله ابن أبي حاتم
من طريق شعيب بن إسحاق عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن
الحسن ومن طريق زائدة بن قدامة عن الأعمش عن مجمع قال
الملك مداده ريقه وقلمه لسانه.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {ما يلفظ
من قول} (يكتب الخير والشر) وقوله: ({يحرفون}) في قوله
تعالى: ({يحرفون الكلم عن مواضعه} [المائدة: 13] أي
(10/469)
(يزيلون وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب
الله عز وجل، ولكنهم يحرفونه يتأوّلونه على غير تأويله).
يحتمل أن يكون هذا من كلام المؤلف ذيّل به على تفسير ابن
عباس، وأن يكون من بقية كلام ابن عباس في تفسير الآية. وقد
صرح كثير بأن اليهود والنصارى بدلوا ألفاطًا كثيرة من
التوراة والإنجيل وأتوا بغيرها من قبل أنفسهم، وحرّفوا
أيضًا كثيرًا من المعاني بتأويلها على غير الوجه ومنهم من
قال: إنهم بدلوهما كلهما، ومن ثم قيل بامتهانهما وفيه نظر
إذ الآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منهما أشياء كثيرة لم
تبدل منها آية الذين يتبعون الرسول النبي الأمي وقصة رجم
اليهوديين، وقيل التبديل وقع في اليسير منهما، وقيل وقع في
المعاني لا في الألفاظ وهو الذي ذكره هنا وفيه نظر فقد وجد
في الكتابين ما لا يجوز أن يكون بهذه الألفاظ من عند الله
أصلاً، وقد نقل بعضهم الإجماع على أنه لا يجوز الاشتغال
بالتوراة والإنجيل ولا كتابتهما ولا نظرهما وعند أحمد
والبزار، واللفظ له من حديث جابر قال: نسخ عمر كتابًا من
التوراة بالعربية فجاء به
إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجعل يقرأ
ووجه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتغير
فقال له رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تسألوا أهل
الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن
تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل والله لو كان موسى بين أظهركم
ما حل له إلا اتباعي".
وروي في ذلك أحاديث أُخَر كلها ضعيفة لكن مجموعها يقتضي أن
لها أصلاً. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ومنه لخصت ما
ذكرته، والذي يظهر أن كراهة ذلك للتنزيه لا للتحريم
والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من
الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك
بخلاف الراسخ فيه، ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على
المخالف ويدل له نقل الأئمة قديمًا وحديثًا من التوراة
وإلزامهم التصديق بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بما يستخرجونه من كتابهم، وإما الاستدلال
للتحريم بما ورد من غضبه عليه الصلاة والسلام فمردود بأنه
قد يغضب من فعل المكروه ومن فعل ما هو خلاف الأولى إذا صدر
ممن لا يليق به ذلك كغضبه من تطويل معاذ الصلاة بالقراءة
اهـ.
وقوله: ({دراستهم}) في قوله تعالى: ({وإن كنا عن دراستهم
لغافلين} [الأنعام: 156] هي (تلاوتهم) وصله ابن أبي حاتم
من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس. وقوله ({واعية}) من قوله
تعالى: ({وتعيها أذن واعية} [الحاقة: 12] أي (حافظة
{وتعيها}) أي (تحفظها) وصله ابن أبي حاتم عن ابن عباس
أيضًا. وقوله تعالى: ({وأوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به}
[الأنعام: 19]) قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم
أيضًا. (يعني أهل مكة ومن بلغ هذا القرآن فهو له نذير)
وصله ابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضًا قال البخاري: (وقال
لي خديفة بن خياط) أي في المذاكرة.
7553 - حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِى عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَبِى رَافِعٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ
غَلَبَتْ -أَوْ قَالَ- سَبَقَتْ رَحْمَتِى غَضَبِى فَهْوَ
عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ».
(وحدّثنا معتمر) قال: (سمعت أبي) سليمان بن طرخان (عن
قتادة عن أو رافع) نفيع الصائغ البصري (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(لما قضى الله الخلق) أي أتمه (كتب كتابًا عنده) والعندية
المكانية مستحيلة في حقه تعالى فتحمل على ما يليق به أو
تفوّض إليه ولأبي ذر عن الكشميهني لما خلق الله الخلق كتب
كتابًا عنده (غلبت أو قال سبقت رحمتي غضبي فهو عنده فوق
العرش).
واستشكل بأن صفات الله قديمة والقدم عدم المسبوقية فكيف
يتصور السبق؟ وأجيب: بأنهما من صفات الأفعال أو المراد سبق
تعلق الرحمة وذلك لأن إيصال العقوبة بعد عصيان العبد بخلاف
إيصال الخير فإنه من مقتضيات صفاته. قال المهلب: وما ذكر
من سبق رحمته غضبه فظاهر لأن من غضب عليه من خلقه لم يخيبه
في الدنيا من رحمته. وقال غيره إن رحمته لا تنقطع عن أهل
النار المخلدين من الكفار إذ في قدرته تعالى أن يخلق لهم
عذابًا يكون عذاب النار يومئذٍ لأهلها رحمة وتخفيفًا
بالإضافة إلى ذلك العذاب.
7554 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِى غَالِبٍ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِى يَقُولُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ
أَنَّ أَبَا رَافِعٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ
الْخَلْقَ، إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى فَهْوَ
مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: بالجمع (محمد بن
أبي غالب) بالغين المعجمة وكسر اللام أبو عبد الله القومسي
بالقاف والميم والسين المهملة نزل بغداد ويقال له
الطيالسي: وكان حافظًا
(10/470)
من أقران البخاري قال: (حدّثنا محمد بن
إسماعيل) البصري ويقال له ابن أبي سمينة بالسين المهملة
وبالنون بوزن عظيمة ولم يتقدم له في البخاري ذكر قال:
(حدّثنا معتمر) قال: (سمعت أبي) سليمان بن طرخان التيمي
(يقول: حدّثنا قتادة) بن دعامة (أن أبا رافع) نفيعًا
الصائغ المدني (حدّثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه
يقول: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يقول):
(إن الله) عز وجل (كتب كتابًا) إما حقيقة عن كتابة اللوح
المحفوظ أي خلق صورته فيه أو أمر بالكتابة (قبل أن يخلق
الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش).
وفي الحديث السابق لما قضى الله الخلق كتب ففيه أن الكتابة
بعد الخلق وقال هنا قبل أن يخلق الخلق فالمراد من الأوّل:
تعلق الخلق وهو حادث فجاز أن يكون بعده، وأما الثاني:
فالمراد منه نفس الحكم وهو أزليّ فبالضرورة يكون قبله
والحديث سبق مرارًا والله الموفق والمعين.
56 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]
{إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]
وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ
حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ
تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنَ
الأَمْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ} وَسَمَّى النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الإِيمَانَ عَمَلاً قَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَأَبُو
هُرَيْرَةَ سُئِلَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَىُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ
بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِى سَبِيلِهِ، وَقَالَ: {جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 14] وَقَالَ وَفْدُ
عَبْدِ الْقَيْسِ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مُرْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا
بِهَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ
وَالشَّهَادَةِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَمَلاً.
(باب قول الله تعالى {والله خلقكم}) أي أتعبدون من الأصنام
ما تنحتونها وتعملونها بأيديكم والله خلقكم ({وما تعملون}
[الصافات: 96]) أي وخلق عملكم وهو التصوير والنحت كعمل
الصائغ السوار أي صاغه فجوهرها بخلق الله وتصوير أشكالها
وإن كان من عملهم فبخلقه تعالى أقدارهم على ذلك، وحينئذٍ
فما مصدرية على ما اختاره سيبويه لاستغنائها عن الحذف
والإضمار منصوبة المحل عطفًا على الكاف والميم في خلقكم،
وقيل: هي موصولة بمعنى الذي على حذف الضمير منصوبة المحل
عطفًا على الكاف والميم من خلقكم أيضًا أي أتعبدون الذي
تنحتون والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بالنحت، ويرجح كونها
بمعنى الذي ما قبلها وهو قوله تعالى: {أتعبدون ما تنحتون}
[الصافات: 95] توبيخًا لهم على عبادة ما عملوه بأيديهم من
الأصنام لأن كلمة ما عامة تتناول ما يعملونه من الأوضاع
والحركات والمعاصي والطاعات وغير ذلك، فإن المراد بأفعال
العباد المختلف في كونها بخلق العبد أو بخلق الرب عز وجل
هو ما يقع بكسب العبد ويسند إليه مثل الصوم والصلاة والأكل
والشرب والقيام والقعود ونحو ذلك، وقيل إنها استفهامية
منصوبة المحل بقوله تعملون استفهام توبيخ وتحقير لشأنها
وقيل نكرة موصوفة حكمها حكم الموصوف، وقيل نافية أي إن
العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون ذلك لكن الله هو
خالقه، والذي ذهب إليه أكثر أهل السُّنّة أنها مصدرية.
وقال المعتزلة: إنها موصولة محاولة لمعتقدهم الفاسد وقالوا
التقدير أتعبدون حجارة تنحتونها والله خلقكم وخلق تلك
الحجارة التي تعملونها. قال السهيلي في نتائج الفكر: ولا
يصح ذلك من جهة النحو إذ ما لا يصح أن تكون مع الفعل الخاص
إلا مصدرية فعلى هذا فالآية ترد مذهبهم وتفسد قولهم والنظم
على قول أهل السُّنَّة أبدع.
فإن قيل: قد تقول عملت الصحفة وصنعت الجفنة وكذا يصح عملت
الصنم قلنا: لا يتعلق ذلك إلا بالصورة التي هي التركيب
والتأليف وهي الفعل الذي هو الأحداث دون الجواهر بالاتفاق
ولأن الآية وردت في إثبات استحقاق الخالق العبادة لانفراده
بالخلق وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق وهم يخلقون.
فقال: أتعبدون ما لا يخلق وتدعون عبادة من خلقكم وخلق
أعمالكم التي تعملون، ولو كان كما زعموا لما قامت الحجة من
هذا الكلام لأنه لو جعلهم خالقين لأعمالهم وهو خالق
الأجناس لشركهم معه في الخلق تعالى الله عن إفكهم.
وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد قال الله تعالى: {ذلكم الله
ربكم خالق كل شيء} [غافر: 62] فدخل فيه الأعيان والأفعال
من الخير والشر وقال تعالى: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا
كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد
القهار} [الرعد: 16] فنفى أن يكون خالق غيره ونفى أن يكون
شيء سواه غير مخلوق، فلو كانت الأفعال غير مخلوقة له لكان
خالق بعض شيء وهو بخلاف الآية ومن المعلوم أن الأفعال أكثر
من الأعيان فلو كان الله خالق الأعيان والناس خالقي
الأفعال لكان مخلوقات الناس أكثر من مخلوقات الله تعالى
الله عن ذلك.
وقال الشمس الأصفهاني في تفسير قوله: {وما تعملون}
(10/471)
أي عملكم وفيه دليل على أن أفعال العباد
مخلوقة لله تعالى وأنها مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملاً
فأبطلت هذه الآية مذهب القدرية والجبرية معًا، وقد رجح بعض
العلماء كونها مصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام إلا لعملهم
لا لجزم الصنم وإلا لكانوا يعبدونه قبل النحت فكأنهم عبدوا
العمل فأنكر عليهم عبادة المنحوت الذي لم ينفك عن عمل
المخلوق.
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية سلمنا أنها موصولة لكن لا
نسلم أن للمعتزلة فيها حجة لأن قوله تعالى: {والله خلقكم}
يدخل فيه ذاتهم وصفاهم، وعلى هذا إذا كان خلقكم وخلق الذي
تعملونه إن كان المراد خلقه لها قبل النحت لزم أن يكون
المعمول غير المخلوق وهو باطل، فثبت أن المراد خلقه لها
قبل النحت وبعده وأن الله خلقها بما فيها من التصوير
والنحت فثبت أنه خالق ما تولد من فعلهم، ففي الآية دليل
على أن الله تعالى خلق أفعالهم القائمة بهم وخلق ما تولد
عنها.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير كل من قولي المصدر
والموصول متلازم والأظهر ترجيح المصدرية لما رواه البخاري
في كتاب خلق أفعال العباد من حديث حذيفة مرفوعًا: إن الله
يصنع كل صانع وصنعته وأقوال الأئمة في هذه المسألة كثيرة،
والحاصل أن العمل يكون مسند إلى العبد من حيث إن له قدرة
عليه وهو المسمى بالكسب ومسندًا إلى الله تعالى من حيث إن
وجودهُ بتأثيره فله جهتان بإحداهما ينفي الجبر وبالأخرى
ينفي القدر وإسناده إلى الله حقيقة وإلى العبد عادة وهي
صفة يترتب عليها الأمر والنهي والفعل والترك فكل ما أسند
من أفعال العباد إلى الله تعالى فهو بالنظر إلى تأثير
القدرة ويقال له الخلق وما أسند إلى العبد إنما يحصل
بتقدير الله تعالى، ويقال له الكسب وعليه يقع المدح والذم
كما يذم المشوّه الوجه ويحمد الجميل الصورة، وأما الثواب
أو العقاب فهو علامة والعبد إنما هو ملك لله يفعل فيه ما
يشاء والله أعلم.
وقوله تعالى: ({إنّا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49])
مقدرًا مرتبًا على مقتضى الحكمة أو مقدرًا مكتوبًا في
اللوح المحفوظ معلومًا قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه وكل
شيء منصوب على الاشتغال وقرأ أبو السمال بالرفع ورجح الناس
النصب بل أوجبه ابن الحاجب حذرًا من لبس المفسر بالصفة لأن
الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السُّنَّة وذلك لأنه
إذا رفع كان مبتدأ وخلقناه صفة لكل أو لشيء وبقدر خبره،
وحينئذٍ يكون له مفهوم لا يخفى على متأمله فيلزم أن يكون
الشيء الذي ليس مخلوقًا لله تعالى لا بقدر وقال أبو البقاء
وإنما المكان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق والرفع لا
يدل على عمومه بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر اهـ.
وإنما دل النصب في كل على العموم لأن التقدير إنّا خلقنا
شيء خلقناه بقدر، فخلقناه تأكيد وتفسير لخلقناه المضمر
الناصب لكل وإذا حذفته، وأظهرت الأول صار التقدير إنّا
خلقنا كل شيء بقدر فخلقناه تأكيد وتفسير لخلقنا المضمر
الناصب لكل له شيء فهذا لفظ عام يعم جميع
المخلوقات ولا يجوز أن يكون خلقناه صفة لشيء لأن الصفة
والصلة لا يعملان فيما قبل الموصوف ولا الموصول ولا يكونان
تفسيرًا لما يعمل فيما قبلهما، فإذا لم يبق خلقناه صفة لم
يبق إلا أنه تأكيد وتفسير للمضمر الناصب وذلك يدل على
العموم، وقد نازع الرضى ابن الحاجب في قوله السابق فقال
المعنى في الآية لا يتفاوت بجعل الفعل خبرًا أو صفة وذلك
لأن مراد الله تعالى بكل شيء كل مخلوق نصبت كل أو رفعته
سواء جعلت خلقناه صفة كل مع الرفع أو خبرًا عنه وذلك أن
قوله خلقنا كل شيء بقدر لا يريد به خلقنا كل ما يقع عليه
اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق الممكنات غير المتناهية ويقع
على كل واحد منها اسم شيء فكل شيء في هذه الآية ليس كما في
قوله تعالى والله على كل شيء قدير لأن معناه أنه قادر على
كل ممكن غير متناهٍ فإذا تقرر هذا قلنا إن معنى كل شيء
خلقناه بقدر على أن خلقناه هو الخبر كل مخلوق مخلوق بقدر
وعلى أن خلقناه صفة كل شيء مخلوق كائن بقدر والمعنيان واحد
إذ لفظ كل شيء في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان خلقناه
(10/472)
صفة له أو خبرًا وليس مع التقدير الأول أعم
منه مع التقدير الثاني كما في مثالنا.
(ويقال) بضم أوله (للمصورين) يوم القيامة ولأبي ذر عن
الكشميهني: ويقول أي الله أو الملك بأمره تعالى (أحيوا)
بفتح الهمزة (ما خلقتم) أسند الخلق إليهم على سبيل
الاستهزاء والتعجيز والتشبيه في الصورة فقط وقال ابن بطال
إنما نسب خلقها إليهم تقريعًا لهم لمضاهاتهم الله تعالى في
خلقه فبكّتهم بأن قال إذ شابهتم بما صوّرتم مخلوقات الله
تعالى فأحيوها كما أحيا هو جل وعلا ما خلق.
وقال في الكواكب: أسند الخلق إليهم صريحًا وهو خلاف
الترجمة لكن المراد كسبهم فأطلق لفظ الخلق عليه استهزاء أو
ضمن خلقتم معنى صوّرتم تشبيهًا بالخلق أو أطلق بناءً على
زعمهم فيه.
({إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام}) أي
في ستة أوقات أو مقدار ستة أيام فإن المتعارف زمان طلوع
الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذٍ وفي خلق الأشياء
تدريجيًّا مع القدرة على إيجادها دفعة دليل على الاختيار
واعتبار للنظار وحثّ على التأني في الأمور ({ثم استوى على
العرش}) الاستواء افتعال من السواء والسواء يكون بمعنى
العدل والوسط وبمعنى الإقبال كما نقله الهروي عن الفراء
وتبعه ابن عرفة بمعنى الاستيلاء، وأنكره ابن الأعرابي.
وقال الحرب: لا تقول استولى إلا لمن له مضادّ وفيما قاله
نظر فإن الاستيلاء من الولاء وهو القرب أو من الولاية
وكلاهما لا يفتقر في إطلاقه لمضادّ، وبمعنى اعتدل وبمعنى
علا وإذا علم هذا فينزل على ذلك الاستواء الثابت للباري
تعالى على الوجه اللائق به وقد ثبت عن الإمام مالك أنه سئل
كيف استوى؟ فقال: كيف غير معقول والاستواء غير مجهول
والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فقوله: كيف غير معقول
أي كيف من صفات الحوادث وكل ما كان من صفات الحوادث
فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل فيجزم
بنفيه عن الله تعالى وقوله والاستواء غير مجهول أي أنه
معلوم المعنى عند أهل اللغة والإيمان به على الوجه اللائق
به تعالى واجب لأنه من
الإيمان بالله تعالى، وكتبه والسؤال عنه بدعة أي حادث لأن
الصحابة رضي الله عنهم كانوا عالمين بمعناه اللائق بحسب
اللغة فلم يحتاجوا للسؤال عنه فلما جاء من لم يحط بأوضاع
لغتهم ولا له نور كنورهم يهديه لنور صفات الباري تعالى شرع
يسأل عن ذلك فكان سؤاله سببًا لاشتباهه على الناس وزيغهم
على العلماء حينئذٍ أن يهملوا البيان وقد مر أن استوى
افتعل وأصله العدل، وحقيقة الاستواء المنسوب إلى الله
تعالى في كتابه بمعنى اعتدل أي قام بالعدل وأصله من قوله
شهد الله أنه لا إله إلا هو إلى قوله قائمًا بالقسط والعدل
وهو استواؤه ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه
موزونًا بحكمته المبالغة في التعريف لخلقه بوحدانيته ولذلك
قرنه بقوله لا إله إلا هو العزيز الحكيم والاستواء المذكور
في القرآن استواءان سماويّ وعرشي فالأول معدّى بإلى قال
تعالى: {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29] والثاني بعلى
لأنه تعالى قام بالقسط متعرقًا بوحدانيته في عالمين عالم
الخلق وعالم الأمر وهو عالم التدبير فكان استواؤه على
العرش للتدبير بعد انتهاء عالم الخلق وبهذا يفهم سر تعدية
الاستواء العرشي بعلى لأن التدبير للأمر لا بد فيه من
استعلاء واستيلاء والعرش جسم كسائر الأجسام سمي به
لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير
تنزل منه ({يغشي الليل النهار}) يغطيه ولم يذكر عكسه للعلم
به ({يطلبه حثيثًا}) يعقبه سريعًا كالطالب له لا يفصل
بينهما شيء والحثيث فعيل من الحث وهو صفة مصدر محذوف أو
حال من الفاعل بمعنى حاثًّا أو المفعول بمعنى محثوثًا
({والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}) بقضائه وتصريفه
ونصبها بالعطف على السماوات ونصب مسخرات على الحال ({ألا
له الخلق والأمر}) فإنه الموجد والمتصرف ({تبارك الله رب
العالمين} [الأعراف: 54]) تعالى بالوحدانية في الألوهية
وتعظم بالتفرد في الربوبية وسقط لأبي ذر قوله: {في ستة
أيام} إلى آخر الآية. وقال بعد قوله
(10/473)
والأرض إلى تبارك الله رب العالمين.
(قال ابن عيينة) سفيان فيما وصله ابن أبي حاتم في كتاب
الرد على الجهمية (بين الله الخلق من الأمر) أي فرق بينهما
(بقوله تعالى) في الآية السابقة ({ألا له الخلق والأمر})
حيث عطف أحدهما على الآخر فالخلق هو المخلوقات والأمر هو
الكلام فالأوّل حادث والثاني قديم وفيه أن لا خلق لغيره
تعالى حيث حصر على ذاته تعالى بتقديم الخبر على المبتدأ
(وسمى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإيمان
عملاً. قال أبو ذر) الغفاري -رضي الله عنه- فيما وصله
المؤلف في العتق (وأبو هريرة) -رضي الله عنه- فيما وصله في
الإيمان والحج (سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أيّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في
سبيله. وقال) تعالى: ({جزاء بما كانوا يعملون} [الأحقاف:
14]) من الإيمان وغيره من الطاعات فسمي الإيمان عملاً حيث
أدخله في جملة الأعمال (وقال وفد عبد القيس) ربيعة (للنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما وصله المؤلف
بعد (مرنا بجمل) أمور كلية مجملة (من الأمر وإن عملنا بها
دخلنا الجنة فأمرهم بالإيمان) أي بتصديق الشارع عليه
الصلاة والسلام فيما علم مجيئه به ضرورة (والشهادة)
بالوحدانية لله تعالى (وإقام الصلاة) المفروضة (وإيتاء
الزكاة) المكتوبة (فجعل) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (ذلك كله) ومن جملته الإيمان (عملاً).
7555 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا
أَيُّوبُ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ
التَّمِيمِىِّ، عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ هَذَا
الْحَىِّ مِنْ جُرْمٍ وَبَيْنَ الأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ
وَإِخَاءٌ فَكُنَّا عِنْدَ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ
فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ،
وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِى تَيْمِ اللَّهِ كَأَنَّهُ
مِنَ الْمَوَالِى فَدَعَاهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّى
رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ لاَ
آكُلُهُ فَقَالَ: هَلُمَّ فَلأُحَدِّثْكَ عَنْ ذَاكَ
إِنِّى أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِى نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ
نَسْتَحْمِلُهُ قَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا
عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ فَأُتِىَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ
عَنَّا فَقَالَ: أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ؟
فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى ثُمَّ
انْطَلَقْنَا قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا حَلَفَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ
يَحْمِلُنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا، ثُمَّ
حَمَلَنَا تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمِينَهُ وَاللَّهِ لاَ نُفْلِحُ
أَبَدًا، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ: فَقَالَ:
«لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ،
إِنِّى وَاللَّهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى
غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ
خَيْرٌ مِنْهُ وَتَحَلَّلْتُهَا».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن الوهاب) الحجبي قال: (حدّثنا
عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي قال: (حدّثنا أيوب) بن
أبي تميمة أبو بكر السختياني الإمام (عن أبي قلابة) بكسر
القاف عبد الله بن زيد الجرمي (والقاسم) بن عاصم (التميمي)
وقيل الكلبي وقيل الليثي كلاهما (عن زهدم) بفتح الزاي
وبالدال المهملة بينهما هاء ساكنة ابن مضرب بالضاد المعجمة
المفتوحة والراء المشددة المكسورة من التضريب أنه (قال:
كان بين هذا الحي من جرم) بفتح الجيم وسكون الراء (وبين
الأشعريين) جمع أشعري نسبة إلى أشعر أبي قبيلة من اليمن
(ود) بضم الواو وتشديد الدال محبة (وإخاء) بكسر الهمزة
وتخفيف الخاء المعجمة ممدودًا مؤاخاة (فكنا عند أبي موسى)
عبد الله بن قيس (الأشعري) -رضي الله عنه- (فقرّب إليه
الطعام) بضم القاف مبنيًّا للمفعول والطعام معرّف وللأصيلي
طعام كذا رأيته في أصل معتمد وهو الذي في اليونينية والذي
في الفرع بالتنكير فقط غير معزوّ (فيه لحم دجاج) مثلث
الدال يقع على الذكر والأنثى (وعنده) وعند أبي موسى (رجل
من بني تيم الله) بفتح الفوقية وسكون التحتية قبيلة من
قضاعة (كأنه) وللأصيلي مما ليس في الفرع كان (من الموالي
فدعاه) أبو موسى (إليه) أي إلى لحم الدجاج (فقال) الرجل
(إني رأيته يأكل شيئًا) من النجاسة وثبت شيئًا للكشميهني
وسقط لغيره (فقذرته) بكسر الذال المعجمة أي فكرهته (فحلفت
لا آكله). وللكشميهني أن لا آكله واختلف في الجلالة فقال
مالك لا بأس بأكل الجلالة من الدجاج وغيره إنما جاء النهي
عنها للتقذر، ولأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن
عمرو بن العاصي نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة
إذا تغير لحمها بأكل النجاسة، وصحح النووي أنه إذا ظهر
تغير لحم الجلالة من نعم أو دجاج بالرائحة والنتن في عرقها
وغيره كره أكلها، وذهب جماعة من الشافعية وهو قول الحنابلة
إلى أن النهي للتحريم وهو الذي صححه الشيخ أبو إسحاق
المروزي وإمام الحرمين والبغوي والغزالي ولم يسم الرجل
المذكور في الحديث. وفي سياق الترمذي أنه زهدم وكذا عند
أبي عوانة في صحيحه، ويحتمل أن يكون كلٌّ من زهدم
والآخر امتنعا من الأكل (فقال) أبو موسى له (هلم) تعال
(فلأحدثك عن ذاك) أي فوالله لأحدّثك أي عن الطريق في حل
اليمين وفي أصل اليونينية فلأحدّثك بسكون اللام والمثلثة
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فلأحدّثنّك بنون التأكيد عن
ذلك باللام قبل الكاف (إني أتيت
(10/474)
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في نفر من الأشعريين) ما بين الثلاثة إلى العشرة من الرجال
(نستحمله) نطلب منه أن يحملنا ويحمل أثقالنا في غزوة تبوك
على شيء من الإبل (قال) صلوات الله وسلامه عليه:
(والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم) أي عليه (فأتي
النبي) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنهب إبل) من غنيمة (فسأل عنا فقال:
أين النفر الأشعريون) فأتينا (فأمر لنا بخمس ذود) بفتح
الذال المعجمة وسكون الواو بعدها دال مهملة وهو من الإبل
ما بين الثنيتين إلى التسعة وقيل ما بين الثلاثة إلى
العشرة واللفظة مؤنثة لا واحد لها من لفظها كالنعم. وقال
أبو عبيد: الذود من الإناث دون المذكور وفي غزوة تبوك ستة
أبعرة وفي الأيمان والنذور بثلاثة ذود ولا تنافي في ذلك
لأن ذكر عدد لا ينافي غيره وقوله خمس بالتنوين وفي رواية
بغير تنوين على الإضافة واستنكره أبو البقاء في غريبه،
وقال: والصواب تنوين خمس وأن يكون ذود بدلاً من خمس فإنه
لو كان بغير تنوين لتغير المعنى لأن العدد المضاف غير
المضاف إليه فيلزم أن يكون خمس خمسة عشر بعيرًا لأن الإبل
الذود ثلاثة، وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: ما أدري كيف حكم
بفساد المعنى إذا كان العدد كذا وليكن عدد الإبل خمسة عشر
بعيرًا فما الذي يضر، وقد ثبت في بعض طرقه خذ هذين
القرينين وهذين القرينين إلى أن عدست مرات، والذي قاله
إنما يتم أن لو جاءت رواية صريحة أنه لم يعطهم سوى خمسة
أبعرة (غرّ الذرى) بضم الغين المعجمة وتشديد الراء والذرى
بالذال المعجمة المضمومة وفتح الراء ذروة وهي أعلى كل شيء
أي ذوي الأسنمة البيض من سمنهن وكثرة شحومهن.
(ثم انطلقنا قلنا ما صنعنا) بسكون العين (حلف رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يحملنا) ولأبي ذر
أن لا يحملنا (وما عنده ما يحملنا ثم حملنا) بفتح اللام في
الأخير (تغفلنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يمينه) بسكون اللام أي طلبنا غفلته وكنا سبب
ذهوله عما وقع (والله لا نفلح أبدًا فرجعنا إليه) صلوات
الله وسلامه عليه (فقلنا له) ذلك (فقال: لست أنا أحملكم
ولكن الله حملكم) حقيقة لأنه خالق أفعال العباد.
وهذا مناسب لما ترجم به. وقال ابن المنير: الذي يظهر أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حلف لا يحملهم
فلما حملهم راجعوه في يمينه فقال: ما أنا حملتكم ولكن الله
حملكم فبيّن أن يمينه إنما انعقدت فيما يملك فلو حملهم على
ما يملك لحنث وكفر ولكنه حملهم على ما لا يملك ملكًا
خاصًّا وهو مال الله وبهذا لا يكون قد حنث في يمينه هذا مع
قصده عليه الصلاة والسلام في الأوّل أنه لا يحملهم على ما
لا يملك بقرض يتكلفه ونحو ذلك. وأما قوله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عقب ذلك لا أحلف على يمين الخ فتأسيس
قاعدة مبتدأة كأنه يقول ولو كنت حلفت ثم رأيت ترك ما حلفت
عليه خيرًا منه لأحنثت
نفسي وكفّرت عن يميني قال وهم إنما سألوه ظنًّا أنه يملك
حملانًا فحلف لا يحملهم على شيء يملكه لكونه كان حينئذٍ لا
يملك شيئًا من ذلك اهـ.
ووجه البدر الدماميني في مصابيحه بأن مكارم أخلاقه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورأفته بالمؤمنين ورحمته بهم
تأبى أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحلف على
عدم حملانهم مطلقًا قال: والذي يظهر لي أن قوله وما عندي
ما أحملكم جملة حالية من فاعل الفعل المنفي بلا أو مفعوله
أي لا أحملكم في حالة عدم وجداني لشيء أحملكم عليه أي أنه
لا يتكلف حملهم بقرض أو غيره لما رآه من المصلحة المقتضية
لذلك، وحينئذٍ فحمله لهم على ما جاءه من مال الله لا يكون
مقتضيًا لحنثه.
وأجيب: بأن المعنى إزالة المنّة عنهم وإضافة النعمة
لمالكها الأصلي، ولم يرد أنه لا صنع له أصلاً في حملهم
لأنه لو أراد ذلك ما قال بعد (إني) ولأبي ذر وإني (والله
لا أحلف على يمين) أي على محلوف يمين وسماه يمينًا مجازًا
للملابسة بينهما، والمراد ما شأنه أن يكون محلوفًا عليه،
وإلا فهو قبل اليمين ليس محلوفًا عليه فيكون من مجاز
الاستعارة ومثله صلى على قبره بعدما دفن أي صلى على صاحب
القبر وأطلق القبر على صاحب القبر ويدل لهذا التأويل رواية
(10/475)
مسلم حيث قال فيها بدل قوله على يمين على
أمر (فأرى غيرها خيرًا منها) أي خيرًا من الخصلة المحلوف
عليها (إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها). بالكفارة، وفي
الأيمان والنذور فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفّرت
عن يميني وأتيت الذي هو خير فقدّم الكفّارة على الإتيان
ففيه دلالة على الجواز لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وقد
ذهب أكثر الصحابة إلى جواز تقدم الكفّارة على اليمين وإليه
ذهب الشافعي ومالك وأحمد إلا أن الشافعي -استثنى الصائم
فقال: لا يجزئ إلا بعد الحنث واحتجوا له بأن الصيام من
حقوق الأبدان ولا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصلاة بخلاف
العتق والكسرة والإطعام فإنها من حقوق الأموال فيجوز
تقديمها كالزكاة. وقال أصحاب الرأي لا تجزئ قبله.
والحديث سبق في المغازي والنذور والذبائح وغيرها.
7556 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِىٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِىُّ قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ
فَقَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا:
إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ
وَإِنَّا لاَ نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِى أَشْهُرٍ حُرُمٍ
فَمُرْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهِ
دَخَلْنَا الْجَنَّةَ وَنَدْعُو إِلَيْهَا مَنْ وَرَاءَنَا
قَالَ: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ
أَرْبَعٍ، آمُرُكُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَهَلْ
تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ
الزَّكَاةِ، وَتُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ
وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: لاَ تَشْرَبُوا فِى
الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ
وَالْحَنْتَمَةِ».
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم ابن
يحيى الصيرفي قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك النبيل وهو
شيخ المؤلف روي عنه كثيرًا بلا واسطة قال: (حدّثنا قرة بن
خالد) بضم القاف وتشديد الراء السدوسي قال: (حدّثنا أبو
جمرة) بالجيم والراء نصر بن عمران
(الضبعي) بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة قال: (قلت لابن
عباس) -رضي الله عنهما- أي حدّثنا مطلقًا أو عن قصة عبد
القيس فحذف مفعول قلت وعند الإسماعيلي من طريق أبي عامر
عبد الملك بن عمرو العقدي عن قرة قال: حدّثنا أبو جمرة
قال: قلت لابن عباس إن لي جرة أنتبذ فيها فأشربه حلوًا لو
أكثرت منه فجالست القوم لخشيت أن أفتضح (فقال: قدم وفد عبد
القيس) وكانوا أربعة عشر رجلاً بالأشج وكانوا ينزلون
بالبحرين (على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) عام الفتح قبل خروجه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من مكة (فقالوا: إن بيننا وبينك المشركين من
مضر) بضم الميم وفتح المعجمة غير منصرف للعلمية والتأنيث
(وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم) بالتنكير فيهما وذلك
لأنهم كانوا يمتنعون عن القتال فيها، وللحموي والمستملي في
أشهر المحرم بتنكير الأوّل وتعريف الثاني وهو من إضافة
الموصوف إلى الصفة والبصريون يمنعونها ويؤولون ذلك على حذف
مضاف أي أشهر الأوقات المحرم (فمرنا) بوزن عل وأصله أؤمر
بهمزتين من أمر يأمر فحذفت الهمزة الأصلية للاستثقال فصار
أمرنا فاستغني عن همزة الوصل فحذفت فصار مرنا (بجمل من
الأمر إن عملنا به) أي بالأمر وللكشميهني إن عملنا بها أي
بالجمل (دخلنا الجنة وندعو إليها) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي إليه إلى الأمر (من وراءنا) من قومنا (قال):
(آمركم) بهمزة ممدودة (بأربع) من الجمل (وأنهاكم عن أربع:
أمركم بالإيمان بالله) زاد في كتاب الإيمان وحده (وهل
تدرون ما الإيمان بالله) هو (شهادة أن لا إله إلا الله)
زاد في الإيمان وأن محمدًا رسول الله ويجوز خفض شهادة على
البدلية (وإقام الصلاة) المفروضة (وإيتاء الزكاة) المكتوبة
(وتعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع لا تشربوا في
الدباء) بضم الدال وتشديد الموحدة ممدودًا اليقطين
(والنقير) ما ينقر في أصل النخلة فيوعى فيه (والظروف
المزفتة) المطلية بالزفت ولأبي ذر عن المستملي والمزفتة
(والحنتمة) بالحاء المهملة المفتوحة والنون الساكنة
والمثناة الفوقية المفتوحة الجرة الخضراء نهى عن الانتباذ
في هذه المذكورات بخصوصها لأنه يسرع إليها الإسكار فربما
شرب منها من لا يشعر بذلك ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في
كل وعاء مع النهي عن كل مسكر.
وهذا الحديث سبق في الإيمان.
7557 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ
أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا
خَلَقْتُمْ»؟.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي قال:
(حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن نافع) العدوي المدني
مولى ابن عمر (عن القاسم بن محمد) هو ابن أبي بكر الصديق
(عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إن أصحاب هذه الصور) أي المصوّرين والمراد بالصور هنا
التماثيل التي لها روح (يعذبون يوم القيامة ويقال لهم) على
سبيل التهكم والتعجيز (أحيوا) بفتح الهمزة (ما خلقتم) أي
اجعلوا ما صوّرتم حيوانًا ذا روح فلا
(10/476)
يقدرون على ذلك فيستمر تعذيبهم.
واستشكل بأن استمرار التعذيب إنما يكون للكافر وهذا مسلم.
وأجيب: بأن المراد الزجر الشديد بالوعيد بعقاب الكافر
ليكون أبلغ في الارتداع وظاهره غير مراد وهذا في حق العاصي
بذلك أما من فعله مستحلاًّ فلا إشكال فيه وفيه إطلاق لفظ
الخلق على الكسب استهزاء أو ضمن خلقتم معنى صوّرتم تشبيهًا
بالخلق وأطلق بناء على زعمهم فيه. قال في الفتح: والذي
يظهر أن مناسبة ذكر حديث المصورين للترجمة من جهة أن من
زعم أنه يخلق فعل نفسه لو صحت دعواه لما وقع الإنكار على
هؤلاء المصوّرين فلما كان أمرهم بنفخ الروح فيما صوّروه
أمر تعجيز ونسبة الخلق إليهم إنما هي على سبيل التهكم دلّ
على فساد قول من نسب خلق فعله إليه استقلالاً اهـ.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في الزينة وابن ماجة في
التجارات.
7558 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ أَصْحَابَ
هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»؟.
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال:
(حدّثنا حماد بن زيد) أي ابن درهم (عن أيوب) السختياني (عن
نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن أصحاب هذه الصور) المصوّرين لها (بعذبون يوم القيامة)
بفتح ذال يعذبون (ويقال لهم أحيوا ما خلقتم). واستدل به
على أن أفعال العباد مخلوقة لله للحوق الوعيد بمن تشبه
بالخالق فدل على أن غير الله ليس بخالق. وأجاب بعضهم بأن
الوعيد وقع على خلق الجواهر ورد بأن الوعيد لاحق باعتبار
الشكل والهيئة وليس ذلك بجوهر.
7559 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا
ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِى زُرْعَةَ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
«قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِى، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ
لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن العلاء) الهمداني أبو كريب
الكوفي قال: (حدّثنا ابن فضيل) هو محمد بن فضيل بضم الفاء
وفتح الضاد المعجمة ابن غزوان الضبي مولاهم الحافظ أبو عبد
الرحمن (عن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم ابن القعقاع (عن
أبي زرعة) هرم بكسر الراء ابن عمرو بن جرير البجلي أنه
(سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب) أي قصد (يخلق كخلقي)
أي ولا أحد أظلم ممن قصد حال كونه أن يصنع ويقدّر كخلقي
وهذا التشبيه لا عموم له يعني كخلقي في فعل الصورة لا من
كل الوجوه واستشكل التعبير بأظلم لأن الكافر أظلم قطعًا
وأجيب بأنه إذا صور الصنم للعبادة كان كافرًا فهو هو أو
يزيد عذابه على سائر الكفار لزيادة قبح كفره (فليخلقوا
ذرة) بفتح الذال المعجمة نملة صغيرة أو الهباء (أو ليخلقوا
حبة) بفتح الحاء أي حبة منتفعًا بها كالحنطة (أو شعيرة).
هو من باب عطف الخاص على العام أو هو شك من الراوي والمراد
تعجيزهم وتعذيبهم تارة بخلق الحيوان وأخرى بخلق الجماد
وفيه نوع من الترقي في الخساسة ونوع من التنزل في الإلزام
وإن كان بمعنى الهباء فهو بخلق ما ليس له جرم محسوس تارة
وبما له جرم أخرى. وحكي أنه وقع السؤال عن حكمة الترقي من
الذرة إلى الحبة إلى الشعيرة في قوله فليخلقوا ذرة. فأجاب
الشيخ تقي الدين الشمني بديهة بأن صنع الأشياء الدقيقة فيه
صعوبة والأمر بمعنى التعجيز فناسب الترقي من الأعلى للأدنى
فاستحسنه الحافظ ابن حجر، وزاد في إكرام الشيخ تقي الدين
وإشهار فضيلته رحمهما الله، وأخرجه المؤلف في نقض الصور من
كتاب اللباس وأخرجه مسلم فيه أيضًا.
57 - باب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ
وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاَوَتُهُمْ لاَ تُجَاوِزُ
حَنَاجِرَهُمْ
(باب) بيان حال (قراءة الفاجر والمنافق) هو من العطف
التفسيري لأن المراد هنا بالفاجر المنافق بقرينة جعله في
حديث الباب قسيمًا للمؤمن ومقابلاً له قال في فتح الباري:
ووقع في رواية أبي ذر قراءة الفاجر أو المنافق بالشك أو
للتنويع والفاجر أعم فيكون من عطف الخاص على العام
(وأصواتهم وتلاوتهم) مبتدأ ومعطوف عليه والخبر قوله (لا
تجاوز حناجرهم) جمع حنجرة وهي الحلقوم وهو مجرى النفس كما
أن المريء مجرى الطعام والشراب وجمعه على الحكاية عن لفظ
الشراب.
7560 - حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا
هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ
أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ
الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا
طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالَّذِى لاَ يَقْرَأُ
كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَلاَ رِيحَ لَهَا
وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ،
كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا
مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِى لاَ يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلاَ
رِيحَ لَهَا».
وبه قال: (حدّثنا هدبة بن خالد) بضم الهاء وسكون الدال
المهملة القيسي قال: (حدّثنا همام) بفتح الهاء وتشديد
الميم الأولى ابن يحيى العوذي قال: (حدّثنا قتادة) بن
دعامة قال: (حدّثنا أنس) هو ابن مالك (عن أبي موسى) عبد
الله بن قيس الأشعري (-رضي
(10/477)
الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة) بضم الهمزة والراء
بينهما فوقية ساكنة وتشديد الجيم ويقال الأترنجة بالنون
والترنجة وترنج (طعمها طيب وريحها طيب) وجرمها كبير
ومنظرها حسن إذ هي صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين وملمسها
لين تتوق إليها النفس قبل تناولها تفيد آكلها بعد الالتذاذ
بمذاقها طيب نكهة ودباغ معدة وقوّة هضم اشتركت الحواس
الأربعة البصر والذوق والشم واللمس في الاحتظاء بها ثم
إنها في أجزائها تنقسم إلى طبائع فقشرها حارّ يابس ويمنع
السوس من الثياب ولحمها حارّ وحماضها بارد يابس وتسكن غلمة
النساء وتجلو اللون والكلف وبزرها حار مجفف وفيها من
المنافع غير ذلك مما ذكره الأطباء في كتبهم فهي أفضل ما
وجد من الثمار في سائر البلدان، وقال المظهري المؤمن الذي
يقرأ هكذا من حيث الإيمان في قلبه ثابت طيب الباطن ومن حيث
إنه يقرأ القرآن ويستريح الناس بصوته وُيثابون بالاستماع
إليه ويتعلمون منه مثل الأترجة يستريح الناس برائحتها (و)
المؤمن (الذي) ولأبي الوقت ومثل الذي (لا يقرأ) القرآن
(كالتمرة) بالمثناة وسكون الميم (طعمها طيب ولا ريح لها)
وقوله يقرأ القرآن على صيغة المضارع ونفيه في قوله لا يقرأ
ليس المراد منهما حصولها مرة ونفيها بالكلية بل المراد
منهما الاستمرار والدوام عليهما وإن القراءة دأبه وعاداته
وليست من هجيراه كقوله فلان يقري الضيف ويحمي الحريم (ومثل
الفاجر) أي المنافق (الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها
طيب وطعمها مر) شبهه بالريحانة لأنه لم ينتفع ببركة القرآن
ولم يفز بحلاوة أجره فلم يجاوز الطيب موضع الصوت وهو الحلق
ولا اتصل بالقلب وهؤلاء الذين يمرقون من الدين قاله ابن
بطالة (ومثل الفاجر) أي المنافق (الذي لا يقرأ القرآن كمثل
الحنظلة) هي معروفة وتسمى في بعض البلاد ببطيخ أبي جهل
(طعمها مر ولا ريح لها) نافع وفيه كما قال ابن بطال أن
قراءة الفاجر والمنافق لا ترفع إلى الله ولا تزكو عنده
وإنما يزكو عنده ما أريد به وجهه.
ورجال هذا الحديث كلهم بصريون وفيه رواية الصحابي عن
الصحابي وسبق في فضائل القرآن.
7561 - حَدَّثَنَا عَلِىٌّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ،
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ ح.
وَحَدَّثَنِى أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا
عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
أَخْبَرَنِى يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ
أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ:
قَالَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - سَأَلَ أُنَاسٌ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ
الْكُهَّانِ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَىْءٍ».
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ
بِالشَّىْءِ يَكُونُ حَقًّا قَالَ: فَقَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ
مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّىُّ فَيُقَرْقِرُهَا
فِى أُذُنِ وَلِيِّهِ، كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ
فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ».
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن عبد الله المديني قال:
(حدّثنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) هو
ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب ولفظ طريق علي
بن
المديني سبقت في باب الكهانة من الطب (ح) لتحويل السند قال
المؤلف:
(وحدّثني) بالإفراد والواو (أحمد بن صالح) أبو جعفر البصري
قال: (حدّثنا) وللأصيلي مما ليس في الفرع أخبرنا (عنبسة)
بعين وموحدة مفتوحتين بينهما نون ساكنة ابن خالد بن يزيد
ابن أخي يونس قال: (حدّثنا يونس) بن يزيد الأيلي وهو عم
عنبسة (عن ابن شهاب) الزهري قال: (أخبرني) بالإفراد (يحيى
بن عروة بن الزبير أنه سمع) أباه (عروة بن الزبير) بن
العوّام (يقول: قالت عائشة -رضي الله عنها- سأل أناس النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بهمزة مضمومة وهم
ربيعة بن كعب الأسلمي وقومه كما ثبت في مسلم (عن الكهان)
بضم الكاف وتشديد الهاء جمع كاهن وهو الذي يدّعي علم الغيب
كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب والأصل
فيه استراق الجني السمع من كلام الملائكة فيلقيه في أذن
الكاهن. وقال الخطابي: الكهنة قوم لهم أذهان حادّة ونفوس
شريرة وطباع نارية فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب
في هذه الأمور وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه وكانت
الكهانة فاشية في الجاهلية خصوصًا في العرب لانقطاع
النبوّة (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(إنهم) أي الكهان (ليسوا بشيء) أي ليس قولهم بشيء يعتمد
عليه (فقالوا: يا رسول الله فإنهم يحدّثون بالشيء يكون
حقًّا) هذا أوردة السائل إشكالاً على عموم قوله عليه
الصلاة والسلام أنهم ليسوا بشيء لأنه فهم منه
(10/478)
أنهم لا يصدقون أصلاً (قال: فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مجيبًا عن سبب ذلك
الصدق وأنه إذا اتفق أن يصدق لم يتركه خالصًا بل يشوبه
بالكذب (تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني) بفتح التحتية
والطاء المهملة بينهما خاء معجمة أي يختلسها بسرعة من
الملك وسقط لأبي ذر من الحق ولأبوي ذر والوقت عن الكشميهني
يحفظها بحاء مهملة ففاء فظاء معجمة من الحفظ. قال الحافظ
ابن حجر: والأول هو المعروف (فيقرقرها) أي يرددها (في أذن
وليّه) الكاهن حتى يفهمها (كقرقرة الدجاجة) بتشديد الدال
أي صوتها إذا قطعته يقال قرت تقرّ قرًّا وقريرًا وقرقرت
قرقرة، ولأبي ذر عن المستملي الزجاجة بالزاي المضمومة
وأنكرها الدارقطني وعدّها من التصحيف لكن وقع في باب ذكر
الملائكة من كتاب بدء الخلق فيقرها في أذنه كما تقر
القارورة أي كما يسمع صوت الزجاجة إذا حكت على شيء أو ألقي
فيها شيء، وقال القابسي: المعنى أنه يكون لما يلقيه الجني
إلى الكاهن حس كحس القارورة إذا حركت باليد أو على الصفا،
وقال الطيبي: قر الدجاجة مفعول مطلق وفيه معنى التشبيه
فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن
بصب الماء في القارورة يصح أن يشبه ترديد الكلام في أذنه
بترديد الدجاجة صوتها في أذن صواحباتها وباب التشبيه واسع
لا يفتقر إلى العلامة على أن الاختطاف مستعار للكلام من
فعل الطير كما قال تعالى: {فتخطفه الطير} فيكون ذكر
الدجاجة هنا أنسب من ذكر الزجاجة لحصول الترشيح في
الاستعارة (فيخلطون) أي الأولياء وجمع بعد الإفراد نظر إلى
الجنس (فيه) المخطوف (أكثر من مائة كذبة) بسكون المعجمة
وفتح الكاف وحكي الكسر وأنكره بعضهم لأنه بمعنى الهيئة
والحالة وليس هذا موضعه.
ومطابقته للترجمة من حيث مشابهة الكاهن بالمنافق من جهة
أنه لا ينتفع بالكلمة الصادقة لغلبة الكذب عليه لفساد حاله
كما لا ينتفع المنافق بقراءته لفساد عقيدته وانضمام خبثه
إليها قاله في الكواكب. وقال في الفتح: والذي يظهر لي من
مراد البخاري أن تلفظ المنافق بالقرآن كما يتلفظ به المؤمن
فتختلف تلاوتهما والمتلوّ واحد ولو كان المتلوّعين التلاوة
لم يقع فيه تخالف وكذلك الكاهن في تلفظه بالكلمة من الوحي
التي يخبره بها الجني مما يختطفه من الملك تلفظه بها وتلفظ
الجني مغاير لتلفظ الملك فتغايرا.
وسبق الحديث في باب الكهانة أواخر الطب.
7562 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا
مَهْدِىُّ بْنُ مَيْمُونٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ
سِيرِينَ يُحَدِّثُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ
أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَيَقْرَؤُونَ
الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ
الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ،
ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ
إِلَى فُوقِهِ». قِيلَ مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: «سِيمَاهُمُ
التَّحْلِيقُ -أَوْ قَالَ- التَّسْبِيدُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل قال: (حدّثنا
مهدي بن ميمون) الأزدي قال: (سمعت محمد بن سيرين) أبا بكر
أحد الأعلام (يحدّث عن) أخيه (معبد بن سيرين) بفتح الميم
وسكون العين المهملة بعدها موحدة مفتوحة فدال مهملة (عن
أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(يخرج ناس من قِبل المشرق) أي من جهة مشرق المدينة كنجد
وما بعده وهم الخوارج ومن معتقدهم تكفير عثمان -رضي الله
عنه- وأنه قتل بحق ولم يزالوا مع عليّ حتى وقع التحكيم
بصفين فأنكروا التحكيم وخرجوا على عليّ وكفّروه (ويقرؤون)
بالواو ولأبي ذر يقرؤون (القرآن لا يجاوز تراقيهم) بالنصب
على المفعولية جمع ترقوة بفتح الفوقية وسكون الراء وضم
القاف وفتح الواو العظم الذي بين ثغرة النحر والعنق وهذا
موضع الترجمة (يمرقون) بضم الراء يخرجون (من الدين كما
يمرق السهم من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وتشديد
التحتية أي المرمي إليها (ثم لا يعودون فيه) أي في الدين
وسقط ثم في بعض النسخ (حتى يعود السهم إلى فوقه) بضم الفاء
موضع الوتر من السهم وهو لا يعود إلى فوقه قط بنفسه (قيل
ما سيماهم) بكسر السين المهملة مقصورًا ما علامتهم؟ قال
الحافظ ابن حجر -رحمه الله- والسائل لم أقف على تعيينه
(قال) عليه الصلاة والسلام (سيماهم) أي علامتهم (التحليق)
أي إزالة الشعر أو إزالة شعر الرأس. قال الحافظ ابن
(10/479)
حجر: طرق الحديث المتكاثرة كالصريحة في
إرادة حلق الرأس وإنما كان هذا علامتهم وإن كان غيرهم يحلق
رأسه أيضًا لأنهم جعلوا الحلق لهم دائمًا زمن الصحابة إنما
كانوا يحلقون رؤوسهم في نسك أو حاجة وقيل المراد حلق الرأس
واللحية وجميع الشعور (أو قال: التسبيد) بفوقية مفتوحة
فسين
مهملة ساكنة وبعد الموحدة المكسورة تحتية ساكنة فدال مهملة
وهو بمعنى التحليق أو هو أبلغ منه استئصال الشعر أو ترك
غسله وترك دهنه والشك من الراوي ولما كان آخر الأمور التي
يظهر بها المفلح من الخاسر ثقل الموازين وخفتها جعله
المؤلف آخر تراجم كتابه فبدأ بحديث الأعمال بالنيات وذلك
في الدنيا وختم بأن الأعمال توزن يوم القيامة إشارة إلى
أنه إنما يتقبل منها ما كان بالنية الخالصة لله تعالى
فقال:
58 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ}
[الشعراء: 105] وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِى آدَمَ
وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُسْطَاسُ
الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ وَيُقَالُ الْقِسْطُ: مَصْدَرُ
الْمُقْسِطِ وَهْوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ:
فَهْوَ الْجَائِرُ.
(باب قول الله تعالى: {ونضع الموازين القسط}) العدل وهو
منصوب على أنه نعت للموازين وعلى هذا فلم أفرد. وأجيب:
بأنه في الأصل مصدر والمصدر يوحد مطلقًا أو على أنه على
حذف مضاف أي ذوات القسط والموازين جمع ميزان وجاء ذكرها في
القرآن بلفظ الجمع، وفي السّنة به وبالإفراد فيجوّز بعضهم
لما أشكل عليه الجميع في الآية أن يكون ثم موازين للعامل
الواحد يوزن بكِل ميزان منها صنف واحد من أعماله قال
الشاعر:
ملك تقوم الحادثات لأجله ... فلكل حادثة لها ميزان
والذي عليه الأكثرون أنه ميزان واحد عبّر عنه بلفظ الجمع
للتفخيم كقوله تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء:
105] وإنما هو رسول واحد أو الجميع باعتبار العباد وأنواع
الموزونات أي: ونضع الموازين العادلات ({ليوم القيامة}
[الأنبياء: 47]) وثبت قوله ليوم القيامة لأبي ذر وسقط
لغيره واللام بمعنى في وإليه ذهب ابن قتيبة وابن مالك وهو
رأي الكوفيين ومنه عندهم لا يجليها لوقتها إلا هو أو هي
للتعليل ولكن على حذف مضاف أي لحساب يوم القيامة أو بمعنى
عند كقوله جئتك لخمس خلون من الشهر وقول النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
(وأن) بفتح الهمزة وقد تكسر (أعمال بني آدم وقولهم يوزن)
بالإفراد وللقابسي وأقوالهم توزن بميزان له لسان وكفّتان
خلافًا للمعتزلة المنكرين لذلك إلا أن منهم من أحاله عقلاً
ومنهم من جوّزه ولم يكن يحكم بثبوته كالعلاف وابن المعتز
واحتجوا بأن الأعمال أعراض وقد عدمت فلا يمكن إعادتها وإن
أمكن إعادتها يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها فلا توصف
بخفة ولا ثقل والقرآن يردّ عليهم قال الله تعالى: {والوزن
يومئذ الحق} أي وزن الأعمال يومئذ الحق {فأما من ثقلت
موازينه فهو في عيشة راضية} [القارعة: 6] سلمنا أن الأعراض
لا توصف بخفة ولا ثقل
لكن لما ورد الدليل على ثبوت الميزان والوزن كالحساب
والصراط وجب علينا اعتقاده وإن عجزت عقولنا عن إدراك بعض
فنَكِل علمه إلى الله تعالى ولا نشتغل بكيفيته والعمدة في
إثباتها عند أهل الحق أنها ممكنة في نفسها إذ لا يلزم من
فرض وقوعها مُحال لذاته مع إخبار الصادق عنها فأجمع
المسلمون عليها قبل ظهور المخالف عليها والله تعالى قادر
على أن يعرف عباده مقادير أعمالهم وأقوالهم يوم القيامة
بأي طريق شاء إما بأن يجعل الأعمال والأقوال أجسامًا أو
يجعلها في أجسام، وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس -رضي
الله عنهما- أن الله تعالى يقلب الأعراض أجسامًا فيزنها أو
توزن صحفها.
ويؤيد هذا حديث البطاقة المروي في الترمذي، وقال حسن غريب
وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي من حديث
عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الله يستخلص
رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه
تسعة وتسعين سجلاًّ كل سجل مثل مدّ البصر ثم يقول أتنكر من
هذا شيئًا؟ أظلمك كَتَبَتي
(10/480)
الحافظون؟ فيقول لا يا رب فيقول: أفلك عذر؟
فقال: لا يا رب فيقول الله تعالى: بلى إن لك عندنا حسنة
فإنه لا ظلم عليك فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا
الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقول: أحضر وزنك،
فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلاّت؟ فيقول: فإنك
لا تظلم فتوضع في السجلاّت في كفّة والبطاقة في كفّة فطاشت
السجلاّت وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء". وقال
ابن ماجة بدل لقوله إن الله يستخلص رجلاً من أمتي يصاح
برجل من أمتي، وقال محمد بن يحيى: البطاقة الرقعة وهذا يدل
على الميزان الحقيقي؛ وأن الموزون صحف الأعمال ويكون
رجحانها باعتبار كثرة ما كتب فيها وخفتها بقلّته فلا
إشكال، وقيل إنه ميزان كميزان الشعر وفائدته إظهار العدل
والمبالغة في الإنصاف ولو جاز حمله على ذلك لجاز حمل
الصراط على الدين الحق والجنة والنار على ما يرد على
الأرواح دون الأجساد من الأحزان والأفراح وهذا كله فاسد
لأنه ورد لما جاء به الصادق على ما لا يخفى.
فإن قلت: أهل القيامة إما أن يكونوا عالمين بكونه تعالى
عادلاً غير ظالم أو لا. فإن علموا ذلك كان مجرد حكمه
كافيًا فلا فائدة في وضع الميزان وإن لم يعلموا ذلك لم
تحصل الفائدة في وزن الصحائف وحينئذ فلا فائدة في وضعها
أصلاً. أجيب: بأنهم عالمون بعدله تعالى وإنما فعل ذلك
لإقامة الحجة عليهم وبيانًا لكونه لا يظلم مثقال ذرة
وإظهارًا لعظمة قدرته في أن كل كفّة طباق السماوات والأرض
ترجح بمثقال الحبة من الخردل وتخف وأيضًا فإنه سبحانه
وتعالى لا يسأل عما يفعل. وقد روي عن سلمان أنه قال: فإن
أنكر ذلك منكر جاهل بمعنى توجيه معنى خبر الله تعالى وخبر
رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الميزان
وقال أو بالله حاجة إلى وزن الأشياء وهو العالم بمقدر كل
شيء قبل خلقه إياه وبعده في كل حال. قيل له: وزان ذلك
إثباته إياه في أم الكتاب واستنساخه في الكتب من غير حاجة
إلى ذلك لأنه سبحانه لا يخاف النسيان وهو عالم بكل ذلك على
كل حال ووقت قبل كونه وبعد وجوده وإنما يفعل ذلك تعالى
ليكون حجة على خلقه كما قال تعالى: {كل
أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا
كتابنا ينطق عليكم بالحق إنّا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}
[الجاثية: 28، 29] فكذلك وزنه تعالى لأعمال خلقه بالميزان
حجة عليهم ولهم إما بالتقصير في طاعته والتضييع وإما
بالتكميل والتتميم وإظهار لكرمه وعفوه ومغفرته وحلمه مع
قدرته بعد اطّلاع كل أحد منّا على مساويه ومسامحته له
وغفرانه وإدخاله إياه الجنة بعد معصيته.
وحكى الزركشي عن بعضهم أن رجحان الوزن في الآخرة بصعود
الراجح عكس الوزن في الدنيا واستند في ذلك إلى قوله تعالى:
{إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] الآية. وهو غريب مصادم
لقوله تعالى: {فأما من ثقلت موازينه} [القارعة: 6] الآية.
وقد جاء أن كفّة الحسنات من نور والأخرى من ظلام وأن الجنة
توضع عن يمين العرش والنار عن يساره ويؤتى بالميزان فينصب
بين يدي الله عز وجل كفّة الحسنات عن يمين العرش مقابلة
الجنة وكفّة السيئات عن يسار العرش مقابلة النار ذكره
الترمذي الحكيم في نوادر الأصول وأبو القاسم اللالكائي في
سُننه، وعن حذيفة موقوفًا: إن صاحب الميزان يوم القيامة
جبريل عليه السلام، وعند البيهقي عن أنس مرفوعًا قال: ملك
الموت موكل بالميزان.
وفي الطبراني الصغير من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يقول الله أي يوم
القيامة يا آدم قد جعلتك حكمًا بيني وبين ذريّتك قم عند
الميزان فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم فمن رجح منهم خيره
على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم أني لا أُدخل منهم
النار إلا ظالمًا. الحديث. قال الطبراني: لا يروى هذا
الحديث عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد تفرّد به عبد
الأعلى.
وعند الحاكم عن سلمان مرفوعًا يوضع الميزان يوم القيامة
فلو آوى فيه السماوات والأرض لوضعت فتقول الملائكة: يا رب
لم تزن بهذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول
الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
وعند
(10/481)
صاحب الفردوس وابنه أبي منصور الديلمي عن
عائشة مرفوعًا: خلق الله عز وجل كفّتي الميزان مثل أو ملء
السماوات والأرض فقالت الملائكة: يا ربنا ما تزن بهذا؟
قال: أزن به من شئت من خلقي، وقيل سأل داود عليه السلام
ربه عز وجل أن يُرِيه الميزان فلما رآه أغمي عليه من هوله
ثم أفاق فقال: إلهي من يقدر على ملء كفّة هذا الميزان
حسنات؟ فقال الله تعالى: يا داود إني إذا رضيت على عبدي
ملأته بتمرة واحدة، يا داود أملؤها بكلمة لا إله إلا الله،
ثم إن ظاهر قول البخاري: وإن أعمال بني آدم وقولهم يوزن
التعميم وليس كذلك بل خصّ منهم من يدخل الجنة بغير حساب
وهم السبعون ألفًا، كما في البخاري فإنه لا يرفع لهم ميزان
ولا يأخذون صحفًا وإنما هي براءات مكتوبة كما قاله
الغزالي، وكذلك من لا ذنب له إلا الكفر فقط ولم يعمل حسنة
فإنه يقع في النار من غير حساب ولا ميزان. وفي البخاري
مرفوعًا: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا
يزن عند الله جناح بعوضة واقرؤوا إن شئتم {فلا نقيم لهم
يوم القيامة وزنًا} [الكهف: 105] أي لا ثواب لهم وأعمالهم
مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن
لا حسنة له فهو في النار.
(وقال مجاهد): المفسر في قوله تعالى: ({وزنوا بالقسطاس
المستقيم} [الشعراء: 182] مما وصله الفريابي في تفسيره
(القسطاص) بضم القاف وكسرها (العدل بالرومية) أي بلغة أهل
الروم ففيه وقوع المعرّب في القرآن، وأما قوله تعالى:
{قرآنًا عربيًّا} فلا ينافيه ألفاظ نادرة أو هو من توافق
اللغتين لقوله تعالى: {إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا})
[يوسف: 2] وليس بشيء لأن المعنى أنه عربي الأسلوب والنظم
ولو سلمنا فباعتبار الأعم الأغلب ولم يشترط في الكلام
العربي أن تكون كل كلمة منه عربية ولا يجوز اشتمال القرآن
على كلمة غير فصيحة، وقيل يجوز، وردّه المولى سعد الدين
التفتازاني بأن ذلك يقود إلى نسبة الجهل والعجز إلى الله
تعالى عن ذلك واعترضه البوني أحد تلامذة الشيخ بأنه يجوز
أن يختار الله تعالى غير الفصيح مع القدرة على الفصيح
لحكمة هي إما أن دلالته على المراد أوضح من الفصيح أو غير
ذلك مما لا يعلمه إلا هو فلا يلزم شيء من العجز والجهل
قال: وعرضته على الشيخ فاستحسنه.
(ويقال: القسط مصدر المقسط) اعترضه الإسماعيلي بأن مصدر
المقسط الإقساط لأنه رباعي. وأجيب: بأن المراد المصدر
المحذوف الزوائد نظرًا إلى أصله فهو مصدر مصدره إذ لا خفاء
أن المصدر الجاري على فعله هو الإقساط قاله في اللامع
والمصابيح كالكواكب (وهو) أي المقسط (العادل) قال الله
تعالى: {إن الله يحب المقسطين} [المائدة: 42].
(وأما القاسط فهو الجائر) قال الله تعالى: {وأما القاسطون
فكانوا لجهنم حطبًا} وقسط الثلاثي بمعنى جار وأقسط الرباعي
بمعنى عدل، وحكى الزجّاج أن الثلاثي يستعمل كالرباعي
والمشهور الأول ومن الغريب ما حكي أن الحجاج لما أحضر سعيد
بن جبير قال: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل فأعجب الحاضرين
فقال لهم الحجاج: ويلكم لم تفهموا جعلني جائرًا كافرًا ألم
تسمعوا قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا}
[الجن: 15] وقوله تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}
[الأنعام: 1].
7563 - حَدَّثَنِى أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِى زُرْعَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
- رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى
الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ
فِى الْمِيزَانِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ،
سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (أحمد بن
إشكاب) بكسر الهمزة وفتحها وسكون الشين المعجمة وبعد الألف
موحدة غير منصرف وقيل منصرف الصفار الكوفي ثم المصري قال:
(حدّثنا محمد بن فضيل) بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة
مصغرًا الضبي بالمعجمة والموحدة المشددة (عن عمارة بن
القعقاع) بضم العين المهملة وتخفيف الميم ابن القعقاع
بقافين مفتوحتين
بينهما عين مهملة ساكنة الضبي أيضًا (عن أبي زرعة) هرم
بفتح الهاء وكسر الراء البجلي بالموحدة والجيم المفتوحة
(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (-رضي الله عنه-) أنه
(قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(كلمتان) خبر مقدم وما بعده صفة بعد صفة أي كلامان فهو من
باب إطلاق الكلمة على الكلام ككلمة الشهادة (حبيبتان إلى
الرحمن) تثنية حبيبة أي محبوبة بمعنى المفعول لا الفاعل
وفعيل إذا كان بمعنى مفعول يستوي فيه
(10/482)
المذكر والمؤنث إذا ذكر الموصوف نحو: رجل
قتيل وامرأة قتيل فإن لم يذكر الموصوف فرّق بينهما نحو:
قتيل وقتيلة وحينئذٍ فما وجه لحوق علامة التأنيث هنا؟
أجيب: بأن التسوية جائزة لا واجبة وقيل إنما أنّثها
لمناسبة الخفيفة والثقيلة لأنهما بمعنى الفاعلة لا
المفعولة، والمراد محبوبية قائلها ومحبة الله تعالى لعبده
وإرادته إيصال الخير له والتكريم، وخصّ اسمه الرحمن دون
غيره من الأسماء الحسنى لأن كل اسم منها إنما يذكر في
المكان اللائق به، وهذا من محاسن البديع الواقع في الكتاب
العزيز وغيره من الفصيح كقوله تعالى: {استغفروا ربكم إنه
كان غفارًا} [نوح: 10] وكذلك هنا لما كان جزاء من يسبح
بحمده تعالى الرحمة ذكر في سياقها الاسم المناسب لذلك وهو
الرحمن (خفيفتان على اللسان) للين حروفهما وسهولة خروجهما
فالنطق بهما سريع وذلك لأنه ليس فيهما من حروف الشّدة
المعروفة عند أهل العربية وهي الهمزة والباء الموحدة
والتاء المثناة الفوقية والجيم والدال والطاء المهملتان
والقاف والكاف ولا من حروف الاستعلاء أيضًا وهي: الخاء
المعجمة والصاد والضاد والطاء والظاء والغين المعجمة
والقاف سوى حرفين الباء الموحدة والظاء المعجمة، ومما
يستثقل أيضًا من الحروف الثاء المثلثة والشين المعجمة
وليستا فيهما، ثم إن الأفعال أثقل من الأسماء وليس فيهما
فعل وفي الأسماء أيضًا ما يستثقل كالذي لا ينصرف وليس
فيهما شيء من ذلك وقد اجتمعت فيهما حروف اللين الثلاثة
الألف والواو والياء وبالجملة فالحروف السهلة الخفيفة
فيهما أكثر من العكس (ثقيلتان في الميزان) حقيقة لكثرة
الأجور المدّخرة لقائلهما والحسنات المضاعفة للذاكر بهما
وقوله: حبيبتان وخفيفتان وثقيلتان صفة لقوله كلمتان وفي
هذه الرواية تقديم حبيبتان وتأخير ثقيلتان وقوله (سبحان
الله) اسم مصدر لا مصدر يقال سبّح يسبّح تسبيحًا لأن قياس
فعل بالتشديد إذا كان صحيح اللام التفعيل كالتسليم
والتكريم، وقيل: إن سبحان مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي،
وقول الشاعر:
سبحانه ثم سبحانًا يعود له ... وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد
يساعد من قال إن سبحان مصدر لوروده منصرفًا قاله في اللباب
وغيره، وقال بعض الكبراء: إن فيه وجوهًا.
أحدهما: أنه مصدر تأكيدي كما في ضربت ضربًا فهو في قوة
قولنا أسبّح الله تسبيحًا فلما حذف الفعل أضيف المصدر إلى
المفعول ومعنى أسبح المده أي أنظم نفسي في سلك الموقنين
بتقديسه عن جميع ما لا يليق بجنابه سبحانه وأنه مقدس أزلاً
وأبدًا وإن لم يقدسه أحد.
الثاني: أنه مصدر نوعي على مثال ما يقال عظم السلطان تعظيم
السلطان أي تعظيمًا يليق بجنابه ويناسب من يتصف بالسلطنة
والمعنى أسبّحه تسبيحًا يختص به، وذلك إذا كان بما يليق
بجنابه ولا يستحقه غيره فالإضافة لا إلى الفاعل ولا إلى
المفعول بل للاختصاص فتأمله.
الثالث: أنه مصدر نوعي ولكنه على مثال ما يقال اذكر الله
مثل ذكر الله فالمعنى أسبّح الله تسبيحًا مثل تسبيح الله
لنفسه أي مثل ما سبّح الله به نفسه فهو صفة لمصدر محذوف
بحذف المضاف إلى سبحان وهو لفظ المثل فالإضافة في سبحان
الله إلى الفاعل.
الرابع: أنه مصدر أريد به الفعل مجازًا كما أن الفعل يذكر
ويراد به المصدر مجازاً كقوله: تسمع بالمعيدي وذلك لأن
المصدر جزء مفهوم الفعل وذكر البعض وإرادة الكل مجاز
كعكسه، ولما كان المراد منه الفعل الذي أريد به إنشاء
التسبيح بني هذا المصدر على الفتح فلا محل له من الإعراب،
وذلك لأن الأصل في الفعل أن يكون مبنيًّا وذلك لأن الشبه
الذي به أعرب المضارع منعدم في الإنشاء فمثله كمثل أسماء
الأفعال وهذا وجه نحوي يمكن أن يقال به فافهم. قال: وما
ذكرناه لا يبطل كون هذا اللفظ معربًا في الأصل فلا يضرّنا
ما جاء في شعر أمية منوّنًا وأما ما يتعلق بمعناه ومغزاه
فهو أنه قد فهم من هذا أيضًا تقدّس الأسماء والصفات لأن
الذات مع
(10/483)
الأسماء والصفات متلازمان في الوجود والعدم
بالتحقيق ولأن انتفاء تقديس الأسماء والصفات يستلزم انتفاء
تقديس الذات لأنها قائمة بالذات ومقتضياتها لكن انتفاء
تقديس الذات منتفٍ، وإذا حصل الاعتراف والاعتقاد بأنه
منزّه عن جميع النقائص وما لا ينبغي أن ينسب إليه ثبتت
الكمالات ضرورة التزامًا وحصل توحيد الربوبية وثبت التقديس
في كل كمال عن المشابهة والمماثلة والشركة وكلا ما لا يليق
فثبت أنه الرب على الإطلاق للأنفس والآفاق فهو المستحق لأن
يشكر ويعبد بكل ما يمكن على الانفراد بالحق والحقيقة
وتوحيد الربوبية حجة ملزمة وبرهان موجب توحيد الألوهية
فتتضمن هذه الكلمة إثبات التوحيدين كما تتضمن إثبات
الكمالين، وهذان الإثباتان في ضمنهما كل مدح ممكن فيما
يرجع إلى الله تعالى ولما كان الاتّصاف بالكمال الوجودي
مشروطًا بخلوّه عما ينافيه قدّم التسبيح على التحميد في
الذكر ما تقدّم التخلية عن التحلية ومن هذا القبيل تقدّم
النفي على الإثبات في لا إله إلا الله انتهى.
والواو في قوله: (وبحمده) للحال أي أسبّحه متلبّسًا بحمدي
له من أجل توقه لي للتسبيح ونحوه، وقيل عاطفة أي أسبّح
وأتلبس بحمده وأما الباء فيحتمل أن تكون سببية أي أسبّح
الله وأثني عليه بحمده، وقال ابن هشام في مغنيه: اختلف في
الباء من قوله فسبّح بحمد ربك فقيل: إنها للمصاحبة والحمد
مضاف للمفعول أي سبّحه حامدًا له أي نزّهه عما لا يليق به
وأثبت له ما يليق به. قال البدر الدماميني في شرحه للمغني:
قصد أي ابن هشام تفسير التسبيح والحمد بما ذكره إذ هو
الثناء بالصفات الجميلة.
فان قلت: من أين يلزم الأمر بالحمد وهو إنما وقع حالاً
مقيدة للتسبيح ولا يلزم من الأمر
بشيء الأمر بحاله المقيدة له بدليل اضرب هندًا جالسة؟
وأجاب: بأنه إنما يلزم ذلك إذا لم يكن الحال من نوع الفعل
المأمور به ولا من فعل الشخص المأمور كالمثال المذكور أما
إذا كانت بعض أنواع الفعل المأمور به نحو: حج مفردًا أو
قارنًا أو كانت من فعل المأمور به نحو: ادخل مكة محرمًا
فهي مأمور بها وما تكلم فيه في المغني من هذا القبيل
انتهى.
قال في المغني: وقيل الباء للاستعانة والحمد مضاف للفاعل
أي سبّحه بما حمد به نفسه إذ ليس كل تنزيه محمودًا ألا ترى
أن تسبيح المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصفات، وقال
الخطابي: المعنى وبمعونتك التي هي نعمة توجب عليّ حمدك
سبّحتك لا بحولي وقوّتي يريد أنه مما أقيم فيه المسبب مقام
السبب ثم إن جنس الحمد كما قاله بعض العلماء لما وقع ذكره
بعد التقديس عن كل ما لا يليق به تعالى بغير تخصيص بعض
المحامد تضمن الكلام، واستلزام إثبات جميع الكمالات
الوجودية الجائزة له مطابقة ولزم منه التقديس عن كل ما لا
يليق وهو كل ما ينافيها ولا يجامعها هذا مع أن كلمة
الجلالة تدل على الذات المقدسة المستجمعة للكمالات أجمع،
وكذا الضمير في وبحمده إلى الهوية الخاصة السبوحية
القدوسية الجامعة لجميع خاصيات الذات الواجبة وخواصها فهذه
الكلمة اشتملت على اسمي الذات اللذين لا أجمع منهما.
أحدهما فيه اعتبار عليه أحكام الشهادة والغيب والآخر فيه
علية أحكام الغيب وغيب الغيب، وأيضًا تشتمل على جميع
التقديسات والتنزيهات وعلى جميع الأسماء والصفات وعلى كل
توحيد.
وختم بقوله: (سبحان الله العظيم) ليجمع بين مقامي الرجاء
والخوف إذ معنى الرحمن يرجع إلى الإنعام والإحسان ومعنى
العظيم يرجع إلى الخوف من هيبته تعالى، وقوله سبحان إلى
آخره مبتدأ وما بينه وبين الخبر صفة له بعد صفة.
وقد أورد صاحب المصابيح سؤالين فقال: فإن قلت: المبتدأ
مرفوع وسبحان الله في المحلين منصوب فكيف وقع مبتدأ مع
ذلك؟ وأجاب: بأن لفظهما محكي، وقال في الثاني فإن قلت:
الخبر مثنى والمخبر عنه غير متعدد ضرورة أنه ليس ثم حرف
عطف يجمعهما. ألا ترى أنه لا يصح قولك زيد عمرو قائمان.
وأجاب: بأنه على حذف العاطف أي سبحان الله وبحمده وسبحان
الله العظيم كلمتان خفيفتان على اللسان إلى آخره.
وقد نص أهل
(10/484)
المعاني على أن من جملة الأسباب المقتضية
لتقديم المسند تشويق السامع إلى المبتدأ بأن يكون في
المسند المقدّم طول يشوّق النفس إلى ذكر المسند إليه فيكون
أوقع في النفس وأدخل في القبول لأن الحاصل بعد الطلب أعز
من المنساق بلا تعب ولا يخفى أن ما ذكره القوم متحقّق في
هذا الحديث بل هو أحسن من المثال الذي أورده وبثّه بكير
وهو قول الشاعر:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق
والقمر
ومراعاة مثل هذه النكتة البلاغية هو الظاهر من تقديم الخبر
على المبتدأ لكن رجح المحقق الكمال ابن الهمام -رحمه الله-
أن سبحان الله هو الخبر قال: لأنه مؤخر لفظًا والأصل عدم
مخالفة
اللفظ محله إلا لموجب يوجبه. قال: وهو من قبيل الخبر
المفرد بلا تعدد لأن كلاًّ من سبحان الله مع عامله
المحذوف. الأول والثاني مع عامله الثاني إنما أريد لفظه
والجمل المتعددة إذا أريد لفظها فهي من قبيل المفرد الجامد
ولذا لا تتحمل ضميرًا ولأنه محطّ الفائدة بنفسه بخلاف
كلمتان فإنه إنما يكون محطًّا للفائدة باعتبار وصفه
بالخفّة على اللسان والثقل في الميزان والمحبة للرحمن. ألا
ترى أن جعل كلمتان الخبر غير بيّن لأنه ليس متعلق الغرض
الإخبار منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن سبحان
الله إلى آخره أنهما كلمتان بل بملاحظة وصف الخبر بما تقدم
أعني خفيفتان ثقيلتان حبيبتان فكان اعتبار سبحان الله إلى
آخره خبرًا أولى وقد ذهب بعضهم إلى تعيين خبرية سبحان الله
إلى آخره ووجهه بوجهين.
أحدهما: أن سبحان الله لزم الإضافة إلى مفرد فجرى مجرى
الظروف والظروف لا تقع إلا خبرًا.
ثانيهما: أن سبحان الله إلى آخره كلمة إذ المراد بالكلمة
في الحديث اللغوية كما تقدم فلو جعل مبتدأ لزم الإخبار عما
هو كلمة بأنه كلمتان.
وأجيب: بأنه لا يخفى على سامع أن المراد اعتبار سبحان الله
وبحمده كلمة وسبحان الله العظيم كلمة فهذا كما يصح أن يعبر
عنه بكلمة كذلك يصح أن يعبر عن كل جملة منه بكلمة غير أنه
لما كان كلٌّ من الجملتين أعني سبحان الله وبحمده سبحان
الله العظيم مما يستقل ذكرًا تامًّا ويفرد بالقصد اعتبر
كلمة وعبر عنهما بكلمتين على أن ما ذكره لازم على تقدير
جعل سبحان الله الخبر كما هو لازم على تقدير جعله مبتدأ
لأنه كما لا يصح أن يخبر عما هو بكلمة بأنه كلمتان كذلك لا
يخبر عما هو كلمتان بما هو كلمة انتهى.
وفي هذا الحديث من علم البديع المقابلة والمناسبة
والموازنة في السجع أما المقبلة فقد قابل الخفة على اللسان
بالثقل وفي الميزان وأما الموازنة في السجع ففي قوله
حبيبتان إلى الرحمن ولم يقل للرحمن لأجل موازنته على
اللسان وفيه نوع من الاستعارة في قوله خفيفتان فإنه كناية
عن قلة حروفهما ورشاقتهما. قال الطيبي: فيه استعارة لأن
الخفة مستعارة للسهولة انتهى.
والظاهر أنها من قبيل الاستعارة بالكناية فإنه شبه سهولة
جريانهما على اللسان بما يخف على الحامل من بعض الأمتعة
فلا تتعبه كالشيء الثقيل فحذف ذكر المشبه به وأبقى شيئًا
من لوازمه وهو الخفة وأما الثقل فعلى الحقيقة عند أهل
السُّنّة إذ الأعمال تتجسم كما مرّ وفيه حثّ على المواظبة
عليها وتحريض على ملازمتها وتعريض بأن سائر التكاليف صعبة
شاقة على النفوس ثقيلة وهذه خفيفة سهلة عليها مع أنها تثقل
في الميزان، وقد روي في الآثار أن عيسى عليه السلام سئل ما
بال الحسنة تثقل والسيئة تخل؟ فقال: لأن الحسنة حضرت
مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنّك ثقلها على تركها
والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفّت عليكم فلا
يحملنك على فعلها خفتها فإن بذلك تخف الموازين يوم
القيامة، ويستفاد من هذا الحديث أن مثل هذا السجع جائز وأن
المنهي عنه في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
سجع كسجع الكهان ما كان متكلفًا أو متضمنًا لباطل لا
ما جاء من غير قصد أو تضمن حقًّا، وفيه من علم العروض
إفادة أن الكلام المسجع ليس بشعر فلا يوزن وإن جاء على وفق
البحور في الجملة هذا مع ضميمة قوله تعالى: {وما علمناه
(10/485)
الشعر وما ينبغي له} [يس: 69] وقد جاء في
الكتاب والسُّنّة أشياء على وفق البحور فمنها ما جاء على
وفق الرجز نحو: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، ومن
السُّنّة قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هل
أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت".
وسبق مزيد لذلك في هذا الشرح فليراجع، وفي سنده من اللطائف
القول في موضعين والتحديث في موضعين والعنعنة وهي في
البخاري محمولة على السماع فهي مثل أخبرنا إذ العنعنة من
غير المدلس محمولة على السماع كما تقرر في المقدمة أول هذا
الشرح.
وفي الحديث أيضًا الاعتناء بشأن التسبيح أكثر من التحميد
لكثرة المخالفين فيه وذلك من جهة تكريره بقول: سبحان الله
وبحمده سبحان الله العظيم، وقد جاءت السُّنّة به على أنواع
شتى ففي مسلم عن سمرة مرفوعًا: "أفضل الكلام سبحان الله
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" أي أفضل الذكر
بعد كتاب الله والموجب لفضلها اشتمالها على جملة أنواع
الذكر من التنزيه والتحميد والتمجيد ودلالتها على جميع
المطالب الإلهية إجمالاً لأن الناظر المتدرج في المعارف
يعرفه سبحانه أوّلاً بنعوت الجلال التي تنزه ذاته عما يوجب
حاجة أو نقصًا ثم بصفات الإكرام وهي الصفات الثبوتية التي
يستحق بها الحمد، ثم يعلم أن من هذا شأنه لا يماثله غيره
ولا يستحق الألوهية سواه فيكشف له من ذلك أنه أكبر إذ كل
شيء هالك إلا وجهه.
وفي الترمذي وقال حديث غريب عن ابن عمر أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "التسبيح نصف
الميزان والحمد لله تملؤه ولا إله إلا الله ليس لها حجاب
دون الله حتى تخلص إليه". وفيه وجهان.
أحدهما: أن يراد التسوية بين التسبيح والتحميد بأن كل واحد
منهما يأخذ نصف الميزان فيملآن الميزان معًا وذلك لأن
الأذكار التي هي أم العبادات البدنية الغرض الأصلي من
شرعها ينحصر في نوعين، أحدهما التنزيه، والآخر التحميد
والتسبيح يستوعب القسم الأول والتحميد يتضمن القسم الثاني.
وثانيهما: أن يراد تفضيل الحمد على التسبيح وأن ثوابه ضعف
ثواب التسبيح لأن التسبيح نصف الميزان والتحميد وحده يملؤه
وذلك لأن الحمد المطلق إنما يستحقه من كان مبرأ عن النقائص
منعوتًا بنعوت الجلال وصفات الإكرام فيكون الحمد شاملاً
للأمرين وأعلى القسمين، وإلى الوجه الأول أشار عليه الصلاة
والسلام بقوله: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في
الميزان" وقوله: "لا إله إلا الله ليس لها حجاب" لأنها
اشتملت على التنزيه والتحميد ونفي ما سواه تعالى صريحًا
ومن ثم جعله من جنس آخر لأن الأولين دخلا في معنى الوزن
والمقدار في الأعمال، وهذا حصل منه القرب إلى الله تعالى
من غير جائز ولا مانع ففي مسلم من حديث جويرية أنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج من عندها بكرة حين صلّى
الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة
قال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليه؟ قالت: نعم، قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لقد قلت بعدك
أربع كلمات ثلاث مرات ولو وزنت بما قلت منذ اليوم
لوزنتهنّ، سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة
عرشه، ومداد كلماته. صرّح في القرينة الأولى بالعدد وفي
الثانية بالزنة وترك الثانية والرابعة منهما ليؤذن بأنهما
لا يدخلان في جنس المعدود والموزون ولا يحصرهما المقدار لا
حقيقة ولا مجازًا فيحصل الترقي حينئذ من عدد الخلق إلى رضا
الحق ومن زنة العرش إلى مداد الكلمات.
وفي الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه
دخل مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على
امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبّح به فقال: "ألا أخبرك
بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل سبحان الله عدد ما خلق في
السماء وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض وسبحان الله عدد
ما بين ذلك وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل
ذلك والحمد لله مثل ذلك. ولا إله إلا الله مثل ذلك ولا حول
ولا قوة إلا بالله مثل ذلك". وفي قوله عدد ما هو
(10/486)
خالق إجمال بعد تفصيل لأن اسم الفاعل إذا
أسند إلى الله يفيد الاستمرار من بدء الخلق إلى الأبد.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَن قال سبحان الله وبحمده
في يوم مائة مرة حطّت خطاياه وإن كنت مثل زبد البحر" رواه
الشيخان وهذا وأمثاله نحو: ما طلعت عليه الشمس وكنايات
عبّر بها عن الكثرة عرفًا. وظاهرًا لإطلاق يُشْعِر بأنه
يحصل هذا الأجر المذكور لمن قال ذلك مائة مرة سواء قالها
متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها
آخره لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار وهذه
الفضائل الواردة في التسبيح ونحوه ما قال ابن بطال وغيره
إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال كالطهارة من الحرام
والمعاصي العظام، فلا يظن ظانّ أن من أدمن الذكر وأصرّ على
ما شاء من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلتحق
بالمطهرين المقدّسين ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه
ليس معه تقوى ولا عمل صالح وفي الترمذي وقال حديث حسن غريب
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لقيت إبراهيم عليه السلام
ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم
أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"
والقيعان: جمع القاع وهو المستوي من الأرض والغراس: جمع
غرس وهو ما يغرس، والغرس: إنما يصلح في التربة الطيبة
وينمو بالماء العذب أي أعلمهم أن هذه الكلمات تورث قائلها
الجنة وأن الساعي في اكتسابها لا يضيع سعيه لأنها المغرس
الذي لا يتلف ما استودع فيه قاله التوربشتي.
وقال الطيبي: وهاهنا إشكال لأن هذا الحديث يدل على أن أرض
الجنة خالية عن الأشجار والقصور ويدل قوله تعالى: {جنات
تجري من تحتها الأنهار} وقوله تعالى: ({أُعِدَّت للمتقين}
[آل عمران: 133] على أنها غير خالية عنها لأنها إنما سميت
جنة لأشجارها المتكاثفة المظلة
بالتفاف أغصانها وتركيب الجنة دائر على معنى الستر وأنها
مخلوقة معدّة والجواب أنها كانت قيعانًا، ثم إن الله تعالى
أوجد بفضله وسعة رحمته فيها أشجارًا وقصورًا على حسب أعمال
العاملين لكل عامل ما يختص به بحسب عمله ثم إن الله تعالى
لما يسره لما خلق له من العمل لينال به ذلك الثواب جعله
كالغارس لتلك الأشجار على سبيل المجاز إطلاقًا للسبب على
المسبب ولما كان سبب إيجاد الله للأشجار عمل العامل أسند
الغراس إليه والله أعلم بالصواب.
ولما كان التسبيح مشروعًا في الختام ختم البخاري -رحمه
الله تعالى- كتابه بكتاب التوحيد والحمد بعد التسبيح آخر
دعوى أهل الجنة. قال الله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك
اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب
العالمين} [يونس: 10] قال القاضي: لعل المعنى أنهم إذا
دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه
بنعوت الجلال ثم حيّاهم الملائكة بالسلامة من الآفات
والفوز بأصناف الكرامات فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام.
قال في فتوح الغيب: ولعل الظاهر أن يضاف السلام إلى الله
عز وجل إكرامًا لأهل الجنة، وينصره قوله تعالى في سورة يس:
{سلام قولاً من رب رحيم} [يس: 58] أي يسلم عليهم بغير
واسطة مبالغة في تعظيمهم وإكرامهم وذلك متمناهم وهذا يدل
على أنه يحصل للمؤمنين بعد نعيمهم في الجنة ثلاثة أنواع من
الكرامات. أولها {سلام قولاً من رب رحيم} وثانيها: ما
يقولون عند مشاهدتها سبحانك اللهم وهي سطوع نور الجمال من
وراء حجاب الجلال وما أفخم شأن اقتران اللهم بسبحانك في
هذا المقام كأنهم لما رأوا أشعة تلك الأنوار لم يتمالكوا
أن لا يرفعوا أصواتهم وآخرها أجل منهما، ولذلك ختموا
الدعاء عند رؤيتها بالحمد لله رب العالمين وما هي إلا نعمة
الرؤية التي كل نعمة دونها، فكأن الكرامات الأول كالتمهيد
للثالثة وما أشد طباق هذا التأويل بما رويناه عن ابن ماجة
عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي
(10/487)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينا
أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا
الرب سبحانه وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام
عليكم يا أهل الجنة قال وذلك قوله تعالى: {سلام قولاً من
رب رحيم} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى
شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى
نوره، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والله أعلم.
ولقد أخبرني الحافظ الشيخ شمس الدين أبو الخير محمد بن زين
الدين السخاوي، وأبو عمرو عثمان الديمي، ونجم الدين عمر بن
تقي الدين، وقاضي القضاة أبو المعالي محمد بن الرضي محمد
الطبري المكيّان الشافعيون، وقاضي القضاة أبو الحسن علي
ابن قاضي القضاة أبي اليمن النويري المالكي، والعلاّمة
المقري أبو العباس أحمد بن أسد الأسيوطي إذنًا مشافهة
قالوا: أخبرنا شيخ الإسلام والحفّاظ أبو الفضل بن أبي
الحسن العسقلاني قال: قرأت على إمام الأئمة عز الدين محمد
بن المسند الأصيل شرف الدين أبي بكر بسماعه على جده قاضي
القضاة عز الدين أبي عمر عبد العزيز قاضي القضاة بدر الدين
محمد بن جماعة ح.
وأباح لي أيضًا مسند وقته أبو العباس أحمد بن محيي الدين
بن طريف الحنفي، أنبأنا الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن
الحسين العراقي، أخبرنا القاضي أبو عمر عبد العزيز عز
الدين ابن القاضي بدر الدين بن جماعة سماعًا عليه، أخبرنا
القاضي أبو العباس أحمد بن محمد الحلبي إجازة أخبرنا يوسف
بن خليل الحافظ بحلب، أخبرنا محمد بن أحمد بن نصر السلفي
بأصبهان، أخبرنا الحسن بن أحمد الحدّاد، أخبرنا أبو نعيم
أحمد بن عبد الله السفياني، حدّثنا عبد الله بن جعفر
الفارسي، حدّثنا إسماعيل بن عبد الله العبدي، حدّثنا سعيد
بن الحكم، حدّثنا خلاد بن سليمان الحضرمي أبو سليمان،
حدّثني خالد بن أبي عمران، عن عروة بن الزبير عن عائشة
قالت: ما جلس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مجلسًا ولا تلا قرآنًا ولا صلى إلا ختم ذلك
بكلمات فقلت: يا رسول الله أراك ما تجلس مجلسًا ولا تتلو
قرآنًا ولا تصلي صلاة إلاّ ختمت بهؤلاء الكلمات. قال: "نعم
من قال خيرًا كنّ طابعًا له على ذلك الخير، ومن قال شرًّا
كانت كفّارة له سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت
أستغفرك وأتوب إليك".
هذا الحديث أخرجه النسائي في اليوم والليلة، عن محمد بن
سهل بن عسكر، عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم فوقع لنا به
عاليًا.
وأنبأني الشيخ شهاب الدين بن عبد القادر الشاوي، وأم حبيبة
زينب ابنة الشيخ شهاب الدين السُّبكي، وأم كمال كمالية
ابنة الإمام نجم الدين المرجاني المكيّتان بها قالوا:
أنبأنا الحافظ الزين بن الحسين العراقي قال: أخبرنا القاضي
أبو عمر عز الدّين سماعًا عليه بجامع الأقمر في القاهرة
سنة إحدى وستين وسبعمائة قال: قرأت على موسى بن أبي الحسن
المقرئ بالقاهرة، أخبرك أبو الفرج بن عبد المنعم بن علي
قراءة عليه وأنت تسمع عن أحمد بن محمد بن محمد التيمي؟
فأقرّ به.
أخبرنا الحسن بن أحمد الحداد، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن
إسحاق الحافظ، حدّثنا أبو بكر الطلحي، حدّثنا أحمد بن عبد
الرحيم بن دحيم، حدّثنا عمرو الأودي، حدّثني أبي عن سليمان
عن أبي حمزة الثمالي ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ وهو ابن
نباتة عن علي -رضي الله عنه- قال: من أحب أن يكتال
بالمكيال فليقل آخر مجلسه أو حين يقوم سبحان ربك ربّ العزة
عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وقد آن أن أثني عنان القلم، وأستغفر الله مما زلّت به
القدم، ووقع لي في هذا الشرح من الزلل والخطأ ملتمسًا ممن
وقف عليه من الفضلاء أن يسدّ بسداد فضله ما عشر عليه من
الخلل، فالمتصدي للتأليف، والمعتني بالتصنيف، ولو بلغ
السها في النهى إذا صنف فقد استهدف، ومن
(10/488)
أنصف أسعف، ولله درّ بعض الأكياس حيث قال:
من صنف فقد وضع عقله في طبق وعرضه على الناس، لا سيما من
كان مثلي قليل البضاعة في كل علم وصناعة، على أني والله عز
وجل يعلم في أكثر مدة جمعي له في كرب ووجل، مع قلة المعين
والناصر، والمنبّه والمذاكر،
(10/489)
فإن تصفح الناظر فيه الغلط فليصفح ولا يكن
من أناس بالأغاليط يفرحون وليصلح ما يجده فاسدًا فإن الله
تعالى ذم رهطًا قال فيهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون،
والله أسأل أن يجعل هذا الشرح وسيلة إلى رضاه والجنة ويحول
بيننا وبين النار بأوثق جنة وكما منّ به يتم القبول حسنة
تلك المنة.
قال مؤلفه: وقد فرغت من تأليفه وكتابته في يوم السبت سابع
عشري ربيع الثاني سنة ست عشرة وتسعمائة حامدًا مُصَلّيًا
مسلّمًا ومحوقلاً ومحسبلاً.
(10/490)
|