شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
96 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنّة
(كتاب الاعتصام) هو افتعال من العصمة وهي المنعة والعاصم
المانع والاعتصام الاستمساك بالشيء فالمعنى هنا الاستمساك
(بالكتاب) أي بالقرآن (والسُّنّة) وهي ما جاء عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أقواله وأفعاله
وتقريره وما همّ بفعله والمراد امتثال قوله تعالى:
{واعتصموا بحبل الله جميعًا} [آل عمران: 103] والحبل في
الأصل هو السبب وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل وأصله في
الإجرام واستعماله في المعاني من باب المجاز، ويجوز أن
يكون حينئذٍ من باب الاستعارة، ويجوز أن يكون من باب
التمثيل ومن كلام الأنصار -رضي الله عنهم- بيننا وبين
القوم حبالاً ونحن قاطعوها يعنون العهود والحلف. قال
الأعشى:
وإذا تجوّزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها
يعني: العهود. قال في اللباب: وهذا المعنى غير طائل بل سمي
العهد حبلاً للتوصل به إلى الغرض قال:
ما زلت معتصمًا بحبل منكم
والمراد بالحبل هنا القرآن لقوله عليه الصلاة والسلام في
الحديث الطويل هو حبل الله المتين.
7268 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ مِسْعَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ
طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ
لِعُمَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا
نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] لاَتَّخَذْنَا
ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّى لأَعْلَمُ
أَىَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ يَوْمَ
عَرَفَةَ فِى يَوْمِ جُمُعَةٍ سَمِعَ سُفْيَانُ مِنْ
مِسْعَرٍ، وَمِسْعَرٌ قَيْسًا وَقَيْسٌ طَارِقًا.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) ولأبوي الوقت وذر: حدّثنا عبد
الله بن الزبير الحميدي قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن مسعر) بكسر الميم وسكون
المهملة ابن كدام بكسر الكاف وفتح المهملة المخففة (وغيره)
يحتمل كما قال في الفتح أن يكون سفيان الثوري فإن الإمام
أحمد أخرجه من روايته (عن قيس بن مسلم) الجدلي بالجيم
المفتوحة والدال المهملة الكوفي (عن طارق بن شهاب) الأحمسي
رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكنه لم
يثبت له منه سماع أنه (قال: قال رجل من اليهود) هو كعب
الأحبار قبل أن يسلم كما عند الطبراني في الأوسط (لعمر) بن
الخطاب -رضي الله عنه-: (يا أمير المؤمنين لو أن علينا)
معشر اليهود (نزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم})
يعني الفرائض والسُّنن والحدود والجهاد والحرام والحلال
فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض وهذا
ظاهر السياق وفيه نظر وقد ذهب جماعة إلى أن المراد
بالإكمال ما يتعلق بأصول الأركان لا ما يتفرع عنها
({وأتممت عليكم نعمتي}) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين
وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ({ورضيت لكم الإسلام}) اخترته
لكم ({دينًا} [المائدة: 4]) من بين الأديان ورضي يتعدى
لواحد وهو الإسلام ودينًا على هذا حال أو يتضمن معنى جعل
وصير فيتعدى لاثنين الإسلام دينًا، وعلى في قوله: {وأتممت
عليكم} يتعلق بأتممت ولا يجوز تعلقه بنعمتي وإن كان فعلها
يتعدى بعلى نحو أنعم الله عليه وأنعمت عليه لأن المصدر لا
يتقدم عليه معموله إلا أن ينوب منابه (لاتخذنا ذلك اليوم
عيدًا) نعظمه في كل سنة لعظم ما وقع فيه من كمال الدين
(فقال عمر) لكعب: (إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية) فيه
(نزلت يوم عرفة في يوم جمعة) قال ابن عباس: كان ذلك اليوم
خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس
ولم تجتمع أعياد أهل المِلَل في يوم قبله ولا بعده. قال
البخاري -رحمه الله تعالى-: (سمع سفيان) بن عيينة حديث
طارق هذا (من مسعر) ولأبي ذر سمع سفيان مسعرًا (ومسعرًا)
سمع (قيسًا وقيس) سمع (طارقًا) فصرح بالسماع فيما عنعنه
أوّلاً اطّلاعًا منه على سماع كل من شيخه.
ووجه سياق الحديث هنا من حيث إن الآية تدل على أن هذه
الأمة المحمدية معتصمة بالكتاب والسُّنّة لأن الله تعالى
منّ عليهم بإكمال الدين وإتمام النعمة ورضي لهم بدين
الإسلام.
والحديث سبق في كتاب الإيمان.
7269 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ
بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ، وَاسْتَوَى عَلَى
مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ: أَمَّا
بَعْدُ فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِى عِنْدَهُ عَلَى الَّذِى
عِنْدَكُمْ، وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِى هَدَى اللَّهُ
بِهِ رَسُولَكُمْ فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا وَإِنَّمَا
هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ.
وبه
(10/297)
قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) نسبه لجده واسم
أبيه عبد الله قال: (حدّثنا الليث) بن سعد المصري الإمام
(عن عقيل) بضم العين ابن خالد (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (أنس بن مالك أنه سمع عمر)
-رضي الله عنه- (الغد) من يوم توفي النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(حين بايع المسلمون أبا بكر) الصديق -رضي الله عنه-
(واستوى) عمر (على منبر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تشهد قبل أبي بكر) بسكون الموحدة بعد
القاف. وفي الأحكام في باب الاستخلاف وأبو بكر صامت لا
يتكلم (فقال: أما بعد فاختار الله لرسوله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي عنده) من معالي درجات الجنات
وحضور حظائر الكرامات (على الذي عندكم) في الدنيا (وهذا
الكتاب) أي القرآن (الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به
تهتدوا وإنما) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي لما وله عن
الكشميهني بما بالموحدة بدل اللام (هدى الله به) بالقرآن
(رسوله) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: وهذا الكتاب الذي هدى
الله به رسولكم كما لا يخفى على ذي لب.
والحديث سبق في باب الاستخلاف من كتاب الأحكام.
7270 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِى إِلَيْهِ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: «اللَّهُمَّ
عَلِّمْهُ الْكِتَابَ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) أبو سلمة التبوذكي
الحافظ قال: (حدّثنا وهب) بضم الواو ابن خالد البصري (عن
خالد) الحذاء (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس) رضي
الله عنهما أنه (قال: ضمني إليه النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال):
(اللهم علمه) فهمه (الكتاب) أي القرآن ليعتصم به. وسبق في
كتاب العلم.
7271 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ،
حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ عَوْفًا أَنَّ
أَبَا الْمِنْهَالِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
بَرْزَةَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ أَوْ
نَعَشَكُمْ بِالإِسْلاَمِ وَبِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ أَبُو عَبْدِ الله: وَقَعَ
هُنَا يُغْنيكُمْ إِنَّمَا هُوَ نَعَشَكُمْ يُنْظَرُ فِي
أَصْلِ كِتابِ الاعْتِصامِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن صباح) بفتح الصاد المهملة
والموحدة المشددة وبعد الألف حاء مهملة العطار البصري قال:
(حدّثنا معتمر) بضم الميم الأولى وكسر الثانية ابن سليمان
بن طرخان البصري (قال: سمعت عوفًا) بالفاء الأعرابي (أن
أبا المنهال) بكسر الميم وسكون النون سيار بن سلامة (حدّثه
أنه سمع أبا برزة) بفتح الموحدة والزاي بينهما راء ساكنة
نضلة بالنون المفتوحة والضاد المعجمة الساكنة الأسلمي
(قال: إن الله) عز وجل (يغنيكم) بالغين المعجمة من الإغناء
(أو نعشكم) بنون فعين مهملة فشين معجمة مفتوحات أي رفعكم
أو جبركم من الكسر أو أقامكم من العثرة (بالإسلام وبمحمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط قوله أو نعشكم
لأبي ذر (قال أبو عبد الله) المصنف (وقع هنا يغنيكم)
بالغين المعجمة الساكنة بعدها نون (وإنما هو نعشكم) بالنون
فالعين المهملة فالشين المعجمة المفتوحات (ينظر) ذلك (في
أصل كتاب الاعتصام).
قال في الفتح: فيه أنه صنف كتاب الاعتصام مفردًا وكتب منه
هنا ما يليق بشرطه في هذا
الكتاب كما صنع في كتاب الأدب المفرد فلم رأى هذه اللفظة
مغايرة لما عنده أنه الصواب أحال على مراجعة ذلك الأصل
وكأنه كان في هذه الحالة غائبًا عنه فأمر بمراجعته وأن
يصلح منه، وقد وقع له نحو هذا في تفسير {أنقض ظهرك}
[الشرح: 3] كما سبق في تفسير سورة {ألم نشرح} [الشرح: 1]
وقوله قال أبو عبد الله الخ ثابت في رواية أبي ذر عن
المستملي ساقط لغيره وسقط لابن عساكر في نسخة قوله ينظر
الخ.
والحديث سبق في الفتن في باب إذا قال عند قوم شيئًا.
7272 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
يُبَايِعُهُ وَأُقِرُّ لَكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا
اسْتَطَعْتُ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن عبد الله بن أبي أويس قال:
(حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام الأصبحي (عن عبد الله بن
دينار) مولى ابن عمر (أن عبد الله بن عمر) بن الخطاب -رضي
الله عنهما (كتب إلى عبد الملك بن مروان) بعد قتل عبد الله
بن الزبير (يبايعه) على الخلافة (وأقر بذلك بالسمع) ولأبي
ذر وأقر لك بالسمع (والطاعة على سُنّة الله وسُنّة رسوله
فيما استطعت). ومن كان على سُنّة الله ورسوله فقد اعتصم
بهما.
والحديث سبق بأتم من هذا في باب كيف يبايع الإمام من أواخر
كتاب الأحكام.
1 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في
الحديث الآتي إن شاء الله تعالى: (بعثت بجوامع الكلم).
وروى العسكري في الأمثال من طريق سليمان بن عبد الله
النوفلي عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أوتيت جوامع الكلم" واختصر لي
الكلام اختصارًا وهو مرسل
(10/298)
وفي سنده من لم أعرفه، وللديلمي بلا سند عن
ابن عباس مرفوعًا مثله، لكن بلفظ: أعطيت الحديث بدل الكلم،
وعند البيهقي في الشعب نحوه فكل كلمة يسيرة جمعت معاني
كثيرة فهي من جوامع الكلم والاختصار هو الاقتصار على ما
يدل على الغرض مع حذف أو إضمار والعرب لا يحذفون ما لا
دلالة عليه ولا صلة إليه، لأن حذف ما لا دلالة عليه مُنافٍ
لغرض وضع الكلام من الإفادة والإفهام وفائدة الحذف تقليل
الكلام، وتقريب معانيه إلى الأفهام، والحذف أنواع. أحدها:
حذف المضافات وله أمثلة كثيرة منها نسبة التحليل والتحريم
والكراهة والإيجاب والاستحباب إلى الأعيان فهذا من مجاز
الحذف إذ لا يتصور تعلق الطلب بالإجرام وإنما تطلب أفعال
تتعلق بها فتحريم الميتة تحريم لأكلها وتحريم الخمر تحريم
لشربها، وأدلة الحذف أنواع منها ما يدل العقل على حذفه
والمقصود الأعظم يرشد إلى تعيينه وله مثالان:
أحدهما قوله: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3].
الثاني: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] فإن العقل يدل
على الحذف إذ لا يصح تحريم الإجرام، والمقصود الأظهر يرشد
إلى أن التقدير حرّم عليكم أكل الميتة حرم عليكم نكاح
أمهاتكم.
ومباحث هذا طويلة جدًّا لا نطيل بإيرادها. وللشيخ عز
الدّين بن عبد السلام مجاز القرآن لخصت منه ما تراه سقى
الله بالرحمة ثراه.
7273 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -
رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ
الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا
نَائِمٌ رَأَيْتُنِى أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ
الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا، أَوْ
تَرْغَثُونَهَا أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا.
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) العامري الأويسي
الفقيه قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري (عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وضي الله عنه أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(بعثت بجوامع الكلم) سبق في باب المفاتيح في اليد من كتاب
التعبير قال محمد: وبلغني أن جوامع الكلم أن الله تعالى
يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في
الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك، وأن في رواية أبي ذر
قال أبو عبد الله بدل قوله محمد فقيل المراد البخاري وصوب
ورجح الحافظ ابن حجر أنه محمد بن مسلم الزهري وأن غير
الزهري جزم بأن المراد بجوامع الكلم القرآن بقرينة قوله
بعثت والقرآن هو الغاية القصوى في إيجاز اللفظ واتساع
المعاني قد بهرت بلاغته العقول وظهرت فصاحته على كل مقول
أعجز بإعجازه فرسان البلاغة البارعة، وفرق بجوامع كلمه ذوي
الألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة. وكانوا قدحًا ولوا
الإتيان ببعض شيء منه فما أطاقوه وراموا ذلك فما استطاعوه
إذ رأوه نظمًا عجيبًا خارجًا عن أساليب كلامهم ووصفًا
بديعًا مباينًا لقوانين بلاغتهم ونظامهم، فأيقنوا بالقصور
عن معارضته، واستشعروا العجز عن مقابلته، ولما سمع المغيرة
بن الوليد من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية قال والله ان له
لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر،
وسمع أعرابي رجلاً يقرأ [فاصدع بما تؤمر} [الحجر: 94] فسجد
وقال: سجدت لفصاحته، وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلم في
القرآن قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أُولي الألباب
لعلكم تتقون} [البقرة: 179] وقوله: {ولو ترى إذ فزعوا فلا
فوت وأخذوا من مكان قريب} [سبأ: 51] وقوله: {ادفع بالتي هي
أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصّلت:
34] وقوله: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} [هود:
44] الآية.
قال القاضي عياض: إذا تأملت هذه الآيات وأشباهها حققت
إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وديباجة عبارتها وحسن تأليف
حروفها وتلاؤم كلمها وأن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة
وفصولاً جمة وعلومًا زواخر ملئت الدواوين من بعض ما استفيد
منها وكثرت المقالات في المستنبطات عنها، وقد حكى الأصمعي
أنه سمع كلام جارية فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك. فقالت:
أو تعدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى
أن أرضعيه} [القصص: 7] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين
وخبرين وبشارتين ومن أمثلة جوامع كلمه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الواردة في الأحاديث حديث "كل عمل ليس
عليه أمرنا فهو ردّ"، وكل شرط ليس
(10/299)
في كتاب الله فهو باطل وليس الخبر
كالمعاينة والبلاء موكل بالمنطق وأي داء أدوأ من البخل
وحبك الشيء يعمي ويصمّ إلى غير ذلك مما يعسر استقصاؤه
ويدلك على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد حاز
من الفصاحة وجوامع الكلم درجة لا يرقاها غيره، وحاز مرتبة
لا يقدر فيها قدره. وفي كتابي المواهب من ذلك ما يشفي
ويكفي. قال ابن المنير: ولم يتحد من الأنبياء بالفصاحة إلا
نبينا-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن هذه
الخصوصية لا تكون لغير الكتاب العزيز وهل فصاحته عليه
الصلاة والسلام في جوامع الكلم التي ليست من التلاوة
ولكنها معدودة من السُّنَّة تحدَّى بها أم لا وظاهر قوله
أوتيت جوامع الكلم أنه من التحدّث بنعمة الله وخصائصه
كقوله:
(ونصرت بالرعب) بضم الراء أي الخوف يقذف في قلوب أعدائي
زاد في التيمم مسيرة شهر وجعل الغاية مسيرة الشهر لأنه لم
يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه (وبينا) بغير
ميم (أنا نائم رأيتني) رأيت نفسي (أتيت) بغير واو بعد
الهمزة وفي باب رؤيا الليل من التعبير بإثباتها (بمفاتيح
خزائن الأرض) كخزائن كسرى أو معادن الذهب والفضة (فوضعت في
يدي) بالإفراد حقيقة أو مجازًا فيكون كناية عن وعد الله
بما ذكر أنه يعطيه أمته.
(قال أبو هريرة) بالسند السابق إليه (فقد ذهب) أي فتوفي
(رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنتم
تلغثونها) بفوقية مفتوحة فلام ساكنة فغين معجمة مفتوحة
فمثلثة مضمومة وبعد الواو الساكنة نون فهاء فألف من اللغيث
بوزن عظيم طعام مخلوط بشعير كذا في المحكم عن ثعلب أي
تأكلونها كيفما اتفق (أو) قال (ترغثونها) بالراء بدل اللام
من الرغث كناية عن سعة العيش وأصله من رغث الجدي أمه إذا
ارتضع منها وأرغثته هي أرضعته قاله القزاز والشك من الراوي
أي وأنتم ترضعونها (أو) قال (كلمة تشبهها) أي تشبه إحدى
الكلمتين المذكورتين نحو ما سبق في التعبير تنتثلونها
بالمثلثة وتاء الافتعال أي تستخرجونها.
والحديث من أفراده.
7274 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ
نَبِىٌّ إِلاَّ أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ
أُومِنَ أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ
الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ
فَأَرْجُو أَنِّى أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي قال:
(حدّثنا الليث) بن سعد الإمام الفهمي المصري (عن سعيد)
بكسر العين (عن أبيه) أبي سعيد كيسان المقبري (عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما) أي الذي (مثله
أومن) بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة فميم مكسورة فنون
مفتوحة من الأمن (أو) قال: (آمن) بفتح الهمزة والميم من
الإيمان (عليه) أي لأجله (البشر وإنما كان) معظم المعجز
(الذي أوتيت) بحذف الضمير المنصوب ولأبي ذر عن الحموي
والكشميهني أوتيته أي من المعجزات (وحيًا أوحاه الله إليّ)
وهو القرآن العظيم لكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا
مع تكفل الله تعالى بحفظه فقال تعالى: {إنّا نحن نزّلنا
الذكر وإنّا له لحافظون} [الحجر: 9] وسائر معجزات غيره من
الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها فلم يبق إلا خبرها،
والقرآن العظيم الباهرة آياته الظاهرة معجزاته على ما كان
عليه من وقت نزوله إلى هذا الزمن مدة تسعمائة سنة وست عشرة
سنة حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة باهرة ولذا رتب عليه قوله
(فأرجو أني أكثرهم) أكثر الأنبياء (تابعًا يوم القيامة)
لأن بدوام المعجزة يتجدد الإيمان ويتظاهر البرهان وتابعًا
نصب على التمييز.
والحديث مرّ في فضائل القرآن.
2 - باب الاِقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَامًا} [الفرقان: 74] قَالَ: أَيِمَّةً نَقْتَدِى
بِمَنْ قَبْلَنَا وَيَقْتَدِى بِنَا مَنْ بَعْدَنَا،
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: ثَلاَثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِى
وَلإِخْوَانِى هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا
وَيَسْأَلُوا عَنْهَا، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ
وَيَسْأَلُوا عَنْهُ وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلاَّ مِنْ
خَيْرٍ.
(باب الاقتداء بسنن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) الشاملة لأقواله وأفعاله وتقريره (وقول الله
تعالى: {واجعلنا للمتقين إمامًا}) أفرده للجنس وحسنه كونه
رأس فاصلة أو اجعل كل واحد منا كما قال تعالى: {نخرجكم
طفلاً} [الفرقان: 74] أو لاتحادهم واتفاق كلمتهم أو لأنه
مصدر في الأصل كصيام وقيام (قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا
ويقتدي بنا من بعدنا) قاله مجاهد فيما أخرجه الفريابي
والطبري بسند صحيح أي: اجعلنا أئمة لهم في الحلال والحرام
يقتدون بنا فيه قيل: وفي الآية ما يدل على أن الرئاسة في
الدين تطلب ويرغب فيها.
(وقال ابن عون) بفتح العين المهملة وبعد الواو الساكنة نون
عبد الله البصري التابعي الصغير
(10/300)
فيما وصله محمد بن نصر المروزي في كتاب
السُّنَّة: (ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني) المؤمنين (هذه
السُّنّة) الطريقة النبوية المحمدية والإشارة في قوله هذه
نوعية لا شخصية (أن يتعلموها ويسألوا عنها) علماءها
(والقرآن أن يتفهموه) أي يتدبروه. قال في الكواكب: قال في
القرآن: يتفهموه. وفي السُّنَّة يتعلموها لأن الغالب على
حال المسلم أن يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى
الوصية بتعلمه، فلذا وصى بفهم معناه وإدراك منطوقه وفحواه.
وقال في الفتح: ويحتمل أن يكون السبب أن القرآن قد جمع بين
دفتي المصحف ولم تكن السُّنَّة يومئذٍ جمعت فأراد بتعلمها
جمعها ليتمكن من تفهمها بخلاف القرآن فإنه مجموع. (ويسألوا
الناس عنه ويدعوا الناس) بفتح الدال يتركوهم (إلا من خير)
ولأبي ذر عن الكشميهني: ويدعوا الناس. قال في الفتح: بسكون
الدال إلى خير.
7275 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ وَاصِلٍ،
عَنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِى
هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ: جَلَسَ إِلَىَّ عُمَرُ فِى
مَجْلِسِكَ هَذَا فَقَالَ: هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ
فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ، إِلاَّ قَسَمْتُهَا
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ.
قَالَ: لِمَ قُلْتُ لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ؟ قَالَ:
هُمَا الْمَرْآنِ يُقْتَدَى بِهِمَا.
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن عباس) بفتح العين وسكون الميم
وعباس بالموحدة الباهلي البصري قال: (حدّثنا عبد الرحمن)
بن مهدي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن واصل) هو ابن حيان
بتشديد التحتية (عن أبي وائل) شقيق بن سلمة أنه (قال: جلست
إلى شيبة) بفتح الشين المعجمة وسكون التحتية بعدها موحدة
ابن عثمان الحجبي (في هذا المسجد) عند باب الكعبة الحرام
أو في الكعبة نفسها (قال: جلس إليّ) بتشديد التحتية (عمر)
بن الخطاب -رضي الله عنه- (في مجلسك هذا. فقال: هممت) أي
قصدت ولأبي ذر عن الكشميهني لقد هممت (أن لا أدع) أي لا
أترك (فيها) أي في الكعبة (صفراء ولا بيضاء) ذهبًا ولا فضة
(إلا قسمتها بين المسلمين) لمصالحهم قال شيبة: (قلت) لعمر
-رضي الله عنه-: (ما أنت بفاعل) ذلك. (قال) عمر: (لم قلت
لم يفعله صاحباك) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ولا أبو بكر رضي الله عنه (قال) عمر: (هما
المرآن يقتدى بهما) بضم التحتية وفتح الدال المهملة، ولأبي
ذر نقتدي بنون مفتوحة بدل التحتية وكسر الدال.
وعند ابن ماجة بسند صحيح عن شقيق قال: بعث معي رجل بدراهم
هدية إلى البيت وشيبة جالس إلى كرسي فناولته إياها فقال:
ألك هذه؟ قلت: لا ولو كانت لي لم آتك بها. قال: أما لئن
قلت ذاك لقد جلس عمر بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه فقال:
لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين، قلت: ما
أنت بفاعل، قال: لأفعلن، قال: ولِم؟ قلت: لأن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد رأى مكانه وأبو
بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يحركاه فقام كما هو فخرج،
ففيه أن عمر -رضي الله عنه- لما أراد أن يصرف ذلك في مصالح
المسلمين، وذكره شيبة بأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وأبا بكر لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما، ونزل
تقرير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منزلة
حكمه باستمرار ما ترك تغييره فوجب عليه الاقتداء به لعموم
قوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158]، وعلم من هذا أنه لا
يجوز صرف ذلك في فقراء المسلمين بل يصرفه القيّم في الجهة
المنذورة وربما تهدّم البيت أو خلق بعض آلاته فيصرف ذلك
فيه ولو صرف في مصالح المسلمين لكان كأنه قد أخرج عن وجهه
الذي سبل فيه،
وللشيخ تقي الدين السبكي كتاب نزول السكينة على قناديل
المدينة ذكر فيه فوائد جمة أفاض الله تعالى عليه فواضل
الرحمة.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله هما المرآن يقتدى بهما.
7276 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَأَلْتُ الأَعْمَشَ فَقَالَ
عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ:
حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ
فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ
فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ».
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدثنا
سفيان) بن عيينة (قال: سألت الأعمش) سليمان بن مهران
(فقال: عن زيد بن وهب) الهمداني الجهني أنه قال: (سمعت
حذيفة) بن اليمان -رضي الله عنه- (يقول: حدّثنا رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أنّ الأمانة) وهي ضد الخيانة أو الإيمان. وشرائعه (نزلت
من السماء في جذر قلوب الرجال) بفتح الجيم وكسرها وإسكان
الذال المعجمة أصل قلوب المؤمنين حتى صارت طبيعة فطروا
عليها (ونزل القرآن فقرؤوا القرآن وعلموا من السُّنة)
الأمانة وما يتعلق بها فاجتمع لهم الطبع والشرع في حفظها
وهذا موضع الترجمة على ما لا يخفى.
والحديث سبق مطوّلاً في الرقاق والفتن.
7277 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِى إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ
مُرَّةَ الْهَمْدَانِىَّ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ
الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَإِنَّ مَا
تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.
وبه قال: (حدّثنا آدم بن أبي إياس) العسقلاني قال:
(10/301)
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (أخبرنا عمرو
بن مرة) بفتح العين في الأول وضم الميم وتشديد الراء في
الآخر الجملي بفتح الجيم والميم المخففة قال: (سمعت مرّة)
بن شراحيل ويقال له مرة الطيب (الهمداني) بسكون الميم وفتح
الدال المهملة وليس هو والد عمرو الراوي عنه (يقول: قال
عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- (إن أحسن الحديث كتاب
الله وأحسن الهدي هدي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بفتح الهاء وسكون الدال المهملة فيهما السمت
والطريقة والسيرة يقال هدى هدي وزيد إذا سار سيرته، ولأبي
ذر عن الكشميهني وأحسن الهدى هدى محمد بضم الهاء وفتح
الدال والقصر الإرشاد واللام في الهدي للاستغراق لأن أفعل
التفضيل لا يضاف إلا إلى متعدد وهو داخل فيه، ولأنه لو لم
يكن للاستغراق لم يفد المعنى المقصود وهو تفضيل دينه
وسُنّته على سائر الأديان والسُّنن (وشر الأمور محدثاتها)
بضم الميم وسكون الحاء وفتح الدال المخففة المهملتين جمع
محدثة، والمراد بها البدع والضلالات من الأفعال والأقوال
والبدعة كل شيء عمل على غير مثال سابق، وفي الشرع أحداث ما
لم يكن في عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فإن
كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة. قال إمامنا الشافعي
-رحمه الله- البدعة بدعتان محمودة ومذمومة فما وافق
السُّنّة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم وأخرجه أبو نعيم
بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي وعند البيهقي
في مناقب الشافعي: أنه قال المحدثات ضربان ما أحدث مخالفًا
كتابًا أو سُنّة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه بدعة الضلالة
وما أحدث من الخير لا يخالف شيئًا من ذلك فهذه محدثة غير
مذمومة (وإن ما توعدون) من البعث وأحواله (لآتٍ) لكائن لا
محالة (وما أنتم بمعجزين) بفائتين ردّ لقولهم: مَن مات
فات. وهذا من قول ابن مسعود ختم موعظته بشيء من القرآن
يناسب الحال، وظاهر سياق هذا الحديث أنه موقوف. قال الحافظ
ابن حجر: لكن القدر الذي له حكم الرفع منه قوله وأحسن
الهدي هدي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن
فيه إخبارًا عن صفة من صفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهو أحد أقسام المرفوع.
وقد جاء الحديث عن ابن مسعود مصرحًا فيه بالرفع من وجه آخر
أخرجه أصحاب السُّنن لكنه ليس على شرط البخاري، وأخرجه
مسلم من حديث جابر مرفوعًا أيضًا بزيادة فيه وليس هو على
شرط البخاري أيضًا، وقد سبق حديث الباب في كتاب الأدب.
7278 - 7279 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
قَالاَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا
بِكِتَابِ اللَّهِ».
وبه قال (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا سفيان)
بن عيينة قال: (حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن
عبيد الله) بضم العين ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود (عن
أبي هريرة وزيد بن خالد) -رضي الله عنهما- (قال): كذا في
الفرع كأصله بالإفراد أي قال كلٌّ منهما وفي غيره قالا
(كنا عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فقام
رجل فقال أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله الحديث في
قصة العسيف الذي زنى بامرأة الذي استأجره (فقال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهما:
(لأقضين بينكما بكتاب الله) القصة إلى آخرها السابق ذلك في
المحاربين وغيره واقتصر منها هنا على قوله كنا عند النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لأقضين بينكما
بكتاب الله القدر المذكور إشارة إلى أن السُّنّة يطلق
عليها كتاب الله لأنها بوحيه وتقديره قال الله تعالى: {وما
ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3].
7280 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِىٍّ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلاَّ مَنْ
أَبَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟
قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ
عَصَانِى فَقَدْ أَبَى».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سنان) العوقي بفتح العين المهملة
والواو بعدها قاف أبو بكر الباهلي البصري قال: (حدّثنا
فليح) بضم الفاء وفتح اللام وبعد التحتية الساكنة حاء
مهملة ابن سليمان المدني قال: (حدّثنا هلال بن علي) بن
أسامة يقال له ابن أبي ميمون وقد ينسب إلى جده
(عن عطاء بن يسار) بالتحتية والمهملة (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(كل أمتي) أي أمة الإجابة (يدخلون الجنة إلا مَن أبى) بفتح
الهمزة والموحدة من عصى منهم فاستثناهم تغليظًا عليهم
وزجرًا عن المعاصي أو المراد أمة الدعوة وإلاّ من أبى أي
كفر بامتناعه عن قبول الدعوة
(10/302)
(قالوا يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من
أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى). قل في شرح المشكاة:
ومن يأبى معطوف على محذوف أي عرفنا الذين يدخلون الجنة
والذي أبى لا نعرفه وكان من حق الجواب أن يقال من عصاني
فعدل إلى ما ذكره تنبيهًا به على أنهم ما عرفوا ذاك ولا
هذا، إذ التقدير من أطاعني وتمسك بالكتاب والسُّنّة دخل
الجنة ومن اتّبع هواه وزلّ عن الصواب وضل عن الطريق
المستقيم دخل النار فوضع أبى موضعه وضعًا للسبب موضع
المسبب قال: ويعضد هذا التأويل إيراد محيي السُّنّة هذا
الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة والتصريح بذكر
الطاعة فإن المطيع هو الذي يعتصم بالكتاب والسُّنّة ويجتنب
الأهواء والبدع.
والحديث من أفراده.
7281 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ، أَخْبَرَنَا
يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، حَدَّثَنَا
أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ:
جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ
نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا: إِنَّ
لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلاً، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلاً،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ
فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا،
وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ
أَجَابَ الدَّاعِىَ دَخَلَ الدَّارَ. وَأَكَلَ مِنَ
الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِىَ لَمْ
يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ،
فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ
الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا:
فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِى مُحَمَّدٌ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ
فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ. تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ عَنْ
لَيْثٍ، عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى هِلاَلٍ،
عَنْ جَابِرٍ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبادة) بفتح العين المهملة
وتخفيف الموحدة الواسطي واسم جده البختري بفتح الموحدة
وسكون المعجمة وفتح الفوقية وليس له في البخاري سوى هذا
الحديث وآخر سبق في الأدب ومن عداه في الصحيحين فبضم العين
قال: (أخبرنا يزيد) بن هارون قال: (حدّثنا سليم بن حيان)
بفتح السين المهملة وكسر اللام بوزن عظيم وفي الفرع مكتوب
على كشط سليمان، وكذا في اليونينية بزيادة ألف ونون وضم
النون وكذا هو في عدة نسخ وهو سليمان بن حيان أبو خالد
الأحمر الكوفي والذي في فتح الباري وعمدة القارئ والكواكب
سليم وحيان بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية الهذلي
البصري قال محمد بن عبادة: (وأثنى عليه) يزيد بن هارون
خيرًا قال: (حدّثنا سعيد بن ميناء) بكسر الميم وسكون
التحتية بعدها نون فهمزة ممدودًا أبو الوليد قال: (حدّثنا
أو) قال (سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري -رضي الله
عنهما- القائل حدّثنا أو سمعت سعيد بن ميناء والشاك سليم
بن حيان شك في أيّ الصيغتين قالها شيخه سعيد ويجوز في جابر
الرفع على تقدير حدّثنا والنصب على تقدير سمعت جابرًا
(يقول: جاءت ملائكة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهو نائم) ذكر منهم الترمذي في جامعه اثنين
جبريل وميكائيل، فيحتمل أن يكون مع كل واحد منهما غيره أو
اقتصر فيه على من باشر الكلام ابتداءً وجوابًا. وفي حديث
ابن مسعود عند الترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة أنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توسد فخذه فرقد وكان إذا نام
نفخ قال فبينا أنا قاعد إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض الله
أعلم بما بهم من الجمال فجلست طائفة منهم عند رأس رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطائفة منهم عن
رجليه (فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة
والقلب يقظان) قال الرامهرمزي: هذا تمثيل يراد به حياة
القلب وصحة خواطره، وقال البيضاوي فيما حكاه في شرح
المشكاة قول بعضهم إنه نائم الخ مناظرة جرت بينهم بيانًا
وتحقيقًا لما أن النفوس القدسية الكاملة لا يضعف إدراكها
بضعف الحواس واستراحة الأبدان (فقالوا: إن لصاحبكم هذا)
يعنون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (مثلاً
فاضربوا له مثلاً فقال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم إن
العين نائمة والقلب يقظان فقالوا مثله) عليه الصلاة
والسلام (كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة) بفتح الميم
وسكون الهمزة وضم الدال وفتحها بعدها موحدة مفتوحة فهاء
تأنيث وقيل بالضم الوليمة وبالفتح أدب الله الذي أدّب به
عباده وحينئذٍ فيتعين الضم هنا (وبعث داعيًا) يدعو الناس
إليها (فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم
يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة).
وفي حديث ابن مسعود عند أحمد بنى بنيانًا حصينًا ثم جعل
مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه فمن أجابه أكل من طعامه
وشرب من شرابه ومن لم يجبه عاقبه (فقالوا: أولوها) بكسر
الواو المشدّدة أي فسروا الحكاية أو التمثيل (له) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يفقهها) مَن أوّل تأويلاً
إذا فسر الشيء بما يؤول إليه والتأويل في اصطلاح العلماء
تفسير اللفظ بما يحتمله احتمالاً غير بيّن (فقال بعضهم:
إنه نائم وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان) كرر
فقال بعضهم إنه
(10/303)
نائم الخ ثلاث مرات (فقالوا فالدار) الممثل
بها (الجنة والداعي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: أما السيد فهو
رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام، وأما الطعام فهو
الجنة ومحمد الداعي فمن اتبعه كان في الجنة (فمن أطاع
محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد أطاع
الله) لأنه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
صاحب المأدبة فمن أجابه ودخل في دعوته أكل من المأدبة (ومن
عصى محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد عصى
الله).
فإن قلت: التشبيه يقتضي أن يكون مثل الباني هو مثل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث قال مثله كمثل
رجل بنى دارًا لا مثل الداعي. وأجاب في شرح المشكاة فقال
قوله: مثله كمثل رجل مطّلع للتشبيه وهو ينبئ عن أن هذا ليس
من التشبيهات المفرقة كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف
البالي
شبه القلوب الرطبة بالعناب واليابسة بالحشف على التفريق بل
هو من التمثيل الذي ينتزع فيه الوجه من أمور متعددة متوهمة
منضم بعضها مع بعض إذ لو أريد التفريق لقيل مثله كمثل داع
بعثه رجل، ومن ثم قدمت في التأويل الدار على الداعي وعلى
المضيف روعي في التأويل أدب حسن حيث لم يصرح المشبه بالرجل
لكنه لمح في قوله من أطاع الله إلى ما يدل على أن المشبه
من هو قال الطيبي، وتحريره، أن الملائكة مثلوا سبق رحمة
الله تعالى على العالمين بإرساله الرحمة المهداة إلى الخلق
كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}
[الأنبياء: 107] ثم إعداده الجنة للخلق ودعوته -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إياهم إلى الجنة ونعيمها
وبهجتها ثم إرشاده الخلق بسلوك الطريق إليها واتباعهم إياه
بالاعتصام بالكتاب والسُّنّة المدليين إلى العالم السفلي
فكأن الناس واقعون في مهواة طبيعتهم ومشتغلون بشهواتها وإن
الله يريد بلطفه رفعهم فأدلى حبلي القرآن والسُّنّة إليهم
ليخلص من تلك الورطة فمن تمسك بهما نجا وحصل في الفردوس
الأعلى والجناب الأقدس عند مليك مقتدر ومن أخلد إلى الأرض
هلك وأضاع نفسه من رحمة الله تعالى بحال مضيف كريم بنى
دارًا وجعل فيها من أنواع الأطعمة المستلذة والأشربة
المستعذبة ما لا يحصى ولا يوصف ثم بعث داعيًا إلى الناس
يدعوهم إلى الضيافة إكرامًا لهم فمن اتبع الداعي نال من
تلك الكرامة ومن لم يتبع حرم منها ثم إنهم وضعوا مكان حلول
سخط الله بهم ونزول العقاب السرمدي عليهم، قولهم: لم ندخل
الدار ولم نأكل من المأدبة لأن فاتحة الكلام سيقت لبيان
سبق الرحمة على الغضب فلم يطابق أن لو ختم بما يصرح
بالعقاب والغضب فجاؤوا بما يدل على المراد على سبيل
الكناية.
(ومحمد) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فرّق)
بتشديد الراء فارق ولغير أبي ذر فرق بسكونها على المصدر
وصف به للمبالغة أي الفارق (بين الناس) المؤمن الكافر
والصالح والطالح إذ به تميزت الأعمال والعمال وهذا
كالتذليل للكلام السابق لأنه مشتمل على معناه ومؤكد له
وفيه إيقاظ للسامعين من رقدة الغفلة وحث على الاعتصام
بالكتاب والسُّنّة والإعراض عما يخالفهما.
(تابعه) أي تابع محمد بن عبادة (قتيبة) بن سعيد (عن ليث)
هو ابن سعد (عن خالد) أبي عبد الرحيم بن يزيد المصري (عن
سعيد بن أبي هلال) الليثي المدني (عن جابر) الأنصاري -رضي
الله عنه- أنه قال: (خرج علينا النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وصله الترمذي بلفظ خرج علينا النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "إني رأيت في
المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما
لصاحبه اضرب له مثلاً فقال اسمع سمعت أُذنك واعقل عقل قلبك
إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا ثم بنى فيها
بناء، ثم جعل فيها مائدة ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى
طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه فالله هو
الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة. وأنت يا محمد رسول
الله من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن
دخل الجنة أكل مما فيها". قال الترمذي: وهو حديث مرسل لأن
سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابرًا. قال في الفتح:
(10/304)
يريد أنه منقطع بين سعيد وجابر، وقد اعتضد
هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني بنحو سياقه
وسنده جيد، وأورده المؤلّف لرفع توهم من ظن أن طريق سعيد
بن ميناء موقوف.
7282 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْ
حُذَيْفَةَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا
فَقَدْ سُبِقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ
يَمِينًا وَشِمَالاً لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن إبراهيم)
النخعي (عن همام) هو ابن الحارث (عن حذيفة) بن اليمان -رضي
الله عنه- أنه (قال: يا معشر القراء) بضم القاف وتشديد
الراء مهموزًا جمع قارئ، والمراد العلماء بالقرآن
والسُّنّة العباد (استقيموا) اسلكوا طريق الاستقامة بأن
تتمسكوا بأمر الله فعلاً وتركًا (فقد سبقتم) بضم السين
وكسر الموحدة مصححًا عليه في الفرع كأصله مبنيًّا للمفعول
أي لازموا الكتاب والسُّنّة فإنكم مسبوقون (سبقًا بعيدًا)
أي ظاهرًا ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو المتسابقين، ولأبي
ذر: سبقتم بفتح السين والموحدة. قال في الفتح: وبه جزم ابن
التين وهو المعتمد، وزاد محمد بن يحيى الذهلي عن أبي نعيم
شيخ البخاري فيه، فإن استقمتم فقد سبقتم أخرجه أبو نعيم في
مستخرجه وخاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام، فإذا تمسك
بالكتاب والسُّنَّة سبق إلى كل لأن من جاء بعده إن عمل
بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام إلا فهو
أبعد منه حسًّا وحكمًا (فإن) خالفتم الأمر (أخذتم يمينًا
وشمالاً) عن طريق الاستقامة (لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: استقيموا لأن الاستقامة
هي الاقتداء بسنن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وأن هذا
صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن
سبيله} [الأنعام: 153] قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة
ونهاهم عن الاختلاف والفرقة. وقال القرطبي أبو محمد:
الصراط الطريق الذي هو دين الإسلام وقوله مستقيمًا نصب على
الحال والمعنى مستويًا قويمًا لا اعوجاج فيه وقد بيّنه على
لسان نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتشعبت منه
طرق فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به
إلى النار. وعن ابن مسعود قال: خطّ رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطًّا بيده ثم قال: هذا سبيل
الله مستقيمًا وخطّ عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس
منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ {وأن هذا صراطي
مستقيمًا} الآية رواه الإمام أحمد.
7283 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِى
مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ مَا
بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا
فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّى رَأَيْتُ الْجَيْشَ
بِعَيْنَىَّ وَإِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ،
فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ
فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا،
وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ،
فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ
فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِى، فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ
بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِى وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ
مِنَ الْحَقِّ».
وبه قال: (حدّثنا أبو كريب) بضم الكاف آخره موحدة مصغرًا
محمد بن العلاء قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن
بريد) بضم الموحدة وفتح الراء عبيد الله (عن) جده (أبي
بردة) بضم الموحدة وسكون الراء عامر أو الحارث (عن) أبيه
(أبي موسى) عبد الله بن قيس -رضي الله عنه- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إنما مثلي ومثل ما) بفتح الميم والمثلثة فيهما أي صفتي
العجيبة الشأن وصفة ما (بعثني الله به) إليكم من الأمر
العجيب الشأن (كمثل رجل) كصفة رجل (أتى قومًا) بالتنكير
للشيوع (فقال) لهم (يا قوم إني رأيت الجيش) المعهود
(بعينيّ) بلفظ التثنية (وإني أنا النذير العريان) بالعين
المهملة والراء الساكنة بعدها تحتية من التعري وهو مثل
سائر يُضرَب لشدة الأمر ودنوّ المحذر وبراءة المحذر عن
التهمة، وأصله أن الرجل إذا رأى العدوّ وقد هجم على قومه
وكان يخشى لحوقهم عند لحوقه تجرد عن ثوبه وجعله على رأس
خشبة وصاح ليأخذوا حذرهم ويستعدوا قبل لحوقهم وقال ابن
السكن هو رجل من خثعم حمل عليه يوم ذي الخلصة عوف بن عامر
فقطع يده ويد امرأته (فالنجاء) بالهمز والمد والرفع مصححًا
عليه في الفرع، وفي غيره بالنصب مفعول مطلق أي الإسراع،
والذي في اليونينية الهمز فقط من غير حركة رفع ولا غيره،
وفي الرقائق في باب الانتهاء عن المعاصي فالنجاء النجاء
مرتين (فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا) بهمزة مفتوحة فدال
مهملة ساكنة وبالجيم ساروا أوّل الليل (فانطلقوا على
مهلهم) بتحريك الهاء بالفتحة بالسكينة والتأني (فنجوا) من
العدوّ (وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم
(10/305)
الجيش فأهلكهم واجتاحهم) بالجيم الساكنة
والحاء المهملة استأصلهم (فذلك مثل من أطاعني فاتبع)
بالفاء ولأبي ذر عن الحموي والمستملي واتبع (ما جئت به
ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق).
قال الطيبي: هذا التشبيه من التشبيهات المفرقة شبه ذاته
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرجل وما بعثه الله
به من إنذار القوم بعذاب الله القريب بإنذار الرجل قومه
بالجيش المصبح وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذب
الرجل في إنذاره وصدقه، وفي قول الرجل: أنا النذير الخ
أنواع من التأكيد أحدها قوله بعينيّ لأن الرؤية لا تكون
إلا بهما، وثانيها إني وأنا، وثالثها العريان فإنه دلّ على
بلوغ النهاية في قرب العدوّ.
والحديث سبق في باب الانتهاء عن المعاصي من الرقاق.
7284 - 7285 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ،
حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِىِّ
أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّىَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ
مِنَ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ لأَبِى بَكْرٍ: كَيْفَ
تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ
النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمَ مِنِّى
مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى
اللَّهِ». فَقَالَ: وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ
بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ
الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عِقَالاً كَانُوا
يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ
فَقَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ
رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ
لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ عَنِ اللَّيْثِ
(عَنَاقًا) وَهْوَ أَصَحُّ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البلخي قال:
(حدّثنا ليث) هو ابن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين ابن
خالد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم الزهري أنه قال:
(أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله بن
عتبة) بن مسعود (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال:
لما توفي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
واستخلف أبو بكر) -رضي الله عنه- (بعده وكفر من كفر من
العرب) غطفان وفزارة وبنو يربوع وبعض بني تميم وغيرهم
منعوا الزكاة فأراد أبو بكر أن يقاتلهم (قال عمر) -رضي
الله عنه- (لأبي بكر) -رضي الله عنه- معترضًا عليه: (كيف
تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(أُمرت) بضم الهمزة أي أمرني الله (أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني
ماله ونفسه) فلا يستباح ماله ولا يهدر دمه (إلا بحقه) بحق
الإسلام من قتل نفس محرمة أو إنكار وجوب الزكاة أو منعها
بتأويل باطل (وحسابه) فيما يسره (على الله) فيثيب المؤمن
ويعاقب غيره فلا نقاتله ولا نفتش باطنه هل هو مخلص أم لا.
فإن ذلك إلى الله تعالى وحسابه عليه ولم ينظر عمر -رضي
الله عنه- إلى قوله: إلا بحقه ولا تأمل شرائطه (فقال) له
أبو بكر -رضي الله عنهما-: (والله لأقاتلن من فرّق بين
الصلاة والزكاة) فقال أحدهما واجب دون الآخر أو امتنع من
إعطاء الزكاة متأوّلاً (فإن الزكاة حق المال) كما أن
الصلاة حق البدن فكما لا تتناول العصمة من لم يؤدّ حق
الصلاة كذلك لا تتناول العصمة من لم يؤدّ حق الزكاة وإذا
لم تتناولهم العصمة بقوا في عموم قوله أمرت أن أقاتل الناس
فوجب قتالهم حينئذٍ، وهذا من لطيف النظر أن يقلب المعترض
على المستدل دليله فيكون أحق به، وكذلك فعل أبو بكر فسلّم
له عمر -رضي الله عنهما- (والله لو منعوني عقالاً) هو
الحبل الذي يعقل به البعير. قال أبو عبيد: وقد بعث النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- محمد بن مسلمة على
الصدقة فكان يأخذ مع كل فريضة عقالاً. قال النووي: وقد ذهب
إلى هذا أي إلى أن المراد بالعقال حقيقته وهو الحبل كثير
من المحققين، والمراد به قدر قيمته، والراجح أن العقال لا
يؤخذ في الزكاة لوجوبه بعينه وإنما يؤخذ تبعًا للفريضة
التي تعقل به أو أنه قال ذلك مبالغة على تقدير أن لو كانوا
يؤدّونه إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وقيل: العقال يطلق على صدقة العام يعني صدقته
حكاه الماوردي عن الكسائي، وقيل: إنه الفريضة من الإبل،
وقيل ما يؤخذ في الزكاة من أنعام وثمار لأنه عقل عن مالها،
لكن قال ابن التيمي في التحرير من فسر العقال بفريضة العام
تعسف ولأبي ذر كذا وهي كناية عن قوله عقالاً وله عن
الكشميهني كذا وكذا (كانوا يؤدّونه إلى رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقاتلتهم على منعه فقال عمر)
-رضي الله عنه- (فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر
أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) بما ظهر من الدليل الذي
أقامه لا أنه قلده في
ذلك لأن المجتهد لا يقلد مجتهدًا واختلف في قوله كذا فقيل
هي وهم وإلى ذلك أشار المصنف بقوله:
(قال ابن بكير) يحيى بن عبد الله بن بكير المصري (وعبد
الله) بن صالح كاتب الليث (عن الليث) بن سعد الإمام
(عناقًا وهو أصح) من رواية عقالاً ووقع
(10/306)
في رواية ذكرها أبو عبيد لو منعوني جديًا
أذوط أي صغير الفك والذقن وهو يؤيد أن الرواية عناقًا
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: لأقاتلن من فرّق بين
الصلاة والزكاة فإن من فرق بينهما خرج عن الاقتداء
بالسُّنّة الشريفة.
والحديث سبق في أوّل الزكاة.
7286 - حَدَّثَنِى إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى ابْنُ وَهْبٍ،
عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: قَدِمَ
عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ
فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ
حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ
عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ
وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ
عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِى هَلْ لَكَ
وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِى
عَلَيْهِ؟ قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ فَلَمَّا
دَخَلَ قَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا
تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا
بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ
بِهِ فَقَالَ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:
199] وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ فَوَاللَّهِ مَا
جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ
وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إسماعيل)
بن أبي أويس قال: (حدّثني) بالإفراد (ابن وهب) عبد الله
(عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم أنه
قال (حدّثني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن عبد
الله بن عتبة) بن مسعود (أن عبد الله بن عباس -رضي الله
عنهما- قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر) الفزاري من
مسلمة الفتح وشهد حُنينًا (فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس
بن حصن) وكان عيينة فيمن وافق طلحة الأسدي لما ادّعى
النبوّة، فلما غلبهم المسلمون في قتال أهل الردّة فر طليحة
وأسر عيينة فأتي به إلى أبي بكر فاستتابه فتاب، وكان قدومه
إلى المدينة إلى عمر بعد أن استقام أمره وشهد الفتوح وفيه
من جفاء الأعرابي شيء (وكان) الحر بن قيس (من النفر الذين
يدنيهم) بضم التحتية وسكون الدال المهملة أي يقربهم (عمر،
وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته) الذين يشاورهم في
الأمور (كهولاً كانوا أو شبانًا) بضم الشين المعجمة وتشديد
الموحدة وكان الحر متصفًا بذلك فلذا كان عمر يقربه (فقال
عبينة لابن أخيه) الحر بن قيس (يا ابن أخي هل لك وجه) أي
وجاهة ومنزلة (عند هذا الأمير) عمر بن الخطاب -رضي الله
عنه- (فتستأذن لي عليه) بنصب فتستأذن لي فتطلب منه الإذن
في خلوة (قال) له الحر: (سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس)
بالسند السابق (فاستأذن) الحر (لعيينة)
فأذن له (فلما دخل) عيينة عليه (قال: يا ابن الخطاب) وهذا
من جفائه حيث لم يقل يا أمير المؤمنين ونحوه (والله ما
تعطينا الجزل) بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها لام أي الكثير
(وما) ولأبي ذر عن الكشميهني ولا (تحكم بيننا بالعدل، فغضب
عمر) وكان شديدًا في الله (حتى همّ بأن يقع به) قصد أن
يبالغ في ضربه (فقال) له (الحر: يا أمير المؤمنين إن الله
تعالى قال لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {خذ
العفو وأمر بالعرف}) بالمعروف والجميل من الأفعال ({وأعرض
عن الجاهلين} [الأعراف: 199]) أي ولا تكافئ السفهاء بمثل
سفههم ولا تمارهم (وإن هذا) عيينة (من الجاهلين) قال ابن
عباس أو الحر بن قيس (فوالله ما جاوزها) أي يتعد (عمر حين
تلاها عليه) الحر أي العمل بها (وكان وقافًا عند كتاب
الله). لا يتجاوز حكمه.
والحديث سبق في تفسير سورة الأعراف.
7287 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ
مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ
بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِى بَكْرٍ -
رضى الله عنهما - أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ
حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَهْىَ
قَائِمَةٌ تُصَلِّى فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ
بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ
اللَّهِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ قَالَتْ بِرَأْسِهَا: أَنْ
نَعَمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ شَىْءٍ لَمْ أَرَهُ
إِلاَّ وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِى مَقَامِى هَذَا، حَتَّى
الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ
تُفْتَنُونَ فِى الْقُبُورِ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ
الدَّجَّالِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُسْلِمُ» لاَ
أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَيَقُولُ
مُحَمَّدٌ: «جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَا
وَآمَنَّا فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا عَلِمْنَا أَنَّكَ
مُوقِنٌ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ» لاَ
أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ «فَيَقُولُ: لاَ
أَدْرِى سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا
فَقُلْتُهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك)
الإمام (عن هشام بن عروة) ابن زوجته (فاطمة بنت المنذر عن)
جدّتها (أسماء ابنة) ولأبي ذر بنت (أبي بكر -رضي الله
عنها- أنها قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس) بالخاء
المعجمة ولأبي ذر عن المستملي كسفت بالكاف الشمس لغتان أو
يغلب في القمر لفظ الخسوف بالخاء المعجمة وفي الشمس الكسوف
بالكاف (والناس قيام وهي) أي عائشة -رضي الله عنها- (قائمة
تصلي فقلت) لها: (ما للناس)؟ ولأبي ذر عن المستملي ما بال
الناس أي ما شأنهم فزعين (فأشارت بيدها نحو السماء) تعني
انكسفت الشمس (فقالت) عائشة: (سبحان الله) قالت أسماء
(فقلت) لها (آية) لعذاب الناس (قالت) عائشة (برأسها أن
نعم) ولأبي ذر عن المستملي والحموي أي نعم بالتحتية بدل
النون (فلما انصرف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) من الصلاة (حمد الله وأثنى عليه) من عطف العام
على الخاص (ثم قال: ما من شيء لم أره إلاّ وقد رأيته) رؤية
عين حال كوني (في مقامي هذا حتى الجنة والنار) بالنصب
عطفًا على الضمير المنصوب في قوله رأيته ويجوز الرفع على
أن حتى ابتدائية والجنة مبتدأ محذوف الخبر أي حتى الجنة
مرئية
والنار عطف عليه (وأوحي) بضم الهمزة (إليّ) بتشديد الياء
(إنكم تفتنون في القبور) أي تمتحنون فيها (قريبًا من فتنة
(10/307)
الدجال فأما المؤمن أو المسلم) قالت فاطمة
بنت المنذر: (لا أدري أيّ ذلك قالت أسماء فيقول) هو (محمد:
جاءنا بالبينات) بالمعجزات (فأجبنا) دعوته ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي فأجبناه بضمير المفعول (وآمنا) أي به
(فيقال) له (نم) حال كونك (صالحًا) منتفعًا بأعمالك (علمنا
أنك موقن، وأما المنافق أو المرتاب) هو الشاك قالت فاطمة:
(لا أدري أيّ ذلك قالت أسماء فيقول لا أدري سمعت الناس
يقولون شيئًا فقلته).
والحديث سبق في العلم والكسوف ومطابقته للترجمة في قوله
جاءنا بالبينات فأجبنا لأن الذي أجاب وآمن هو الذي اقتدى
بسنّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
7288 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ عَنْ
أَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «دَعُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى
أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ
فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان
(عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي الله
عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال: دعوني ما تركتكم) أي اتركوني مدّة تركي إياكم بغير
أمر بشيء ولا نهي عن شيء أو لا تكثروا من الاستفصال فإنه
قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل إذ أمروا بذبح البقرة
فشدّدوا فشدّد الله عليهم كما قال (إنما هلك من كان قبلكم
بسؤالهم واختلافهم) بالموحدة أي بسبب سؤالهم ولأبي ذر عن
الكشميهني أهلك بزيادة الهمزة المفتوحة من الثلاثي المزيد
سؤالهم بإسقاط الموحدة مرفوع فاعله واختلافهم عطف عليه وفي
الفتح، وفي رواية عن الكشميهني أهلك بضم أوّله وكسر اللام
(على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم
بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وهذا كما قال النووي من جوامع
كلمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويدخل فيه كثير
من الأحكام كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي
بالمقدور.
وسبب هذا الحديث على ما ذكره مسلم من رواية محمد بن زياد
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. خطبنا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: (يا أيها الناس قد فرض
الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟
فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم
قال: (ذروني ما تركتكم) الحديث.
وأخرجه الدارقطني مختصرًا وزاد فيه فنزلت {يا أيها الذين
آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة:
101]. ومطابقة حديث الباب لما ترجم به تؤخذ من معنى الحديث
لأن الذي يجتنب ما نهاه عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ويأتمر بما أمره به فهو ممن اقتدى بسُنّته.
3 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ
وَتَكَلُّفِ مَا لاَ يَعْنِيهِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ
تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
(باب ما يكره من كثرة السؤال) عن أمور مغيبة ورد الشرع
بالإيمان بها مع ترك كيفيتها والسؤال عما لا يكون له شاهد
في عالم الحس كالسؤال عن الساعة والروح ومدّة هذه الأمة
إلى غير ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل المحض (و) ما يكره من
(تكلف ما لا يعنيه. وقوله تعالى) بالجر عطفًا على السابق:
{لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]
جواب الشرط. والجملة الشرطية في محل جر صفة لأشياء وأشياء:
قال الخليل وسيبويه: وجملة البصريين أصله شيآء بهمزتين
بينهما ألف وهي فعلاء من لفظ شيء وهمزتها الثانية للتأنيث
ولذا لم تنصرف كحمراء وهي مفردة لفظًا جمع معنى، ولما
استثقلت الهمزتان المجتمعتان قدمت الأولى التي هي لام
فجعلت قبل الشين فصار وزنها لفعاء والجملة التالية لهذه
الجملة المعطوفة عليها وهي: إن تسألوا صفة لأشياء أيضًا أي
وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي تبد لكم
تلك التكاليف التي تغمكم وتشق عليكم وتؤمروا بتحملها
فتعرضوا أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها.
7289 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ
الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنِى عُقَيْلٌ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِى
وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ
الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ، عَنْ شَىْءٍ لَمْ
يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يزيد) أبو عبد الله (المقرئ)
بالهمز الحافظ قال: (حدّثنا سعد) بكسر العين ابن أبي أبوب
الخزاعي المصري واسم أبي أيوب مقلاص بكسر الميم وسكون
القاف آخره صاد مهملة قال: (حدّثني) بالإفراد (عقيل) بضم
العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري
(عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه) سعد بن أبي وقاص
-رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(10/308)
(إن أعظم المسلمين جرمًا}) بضم الجيم وسكون
الراء بعدها ميم أي إثمًا (من سأل عن شيء لم يحرم) زاد
مسلم على الناس (فحرم) بضم الحاء وتشديد الراء المكسورة
زاد مسلم عليهم (من أجل مسألته) لا يقال إن في هذا الحديث
دلالة للقدرية القائلين إن الله تعالى يفعل شيئًا من أجل
شيء وهو مخالف لأهل السُّنّة، لأن أهل السُّنَّة لا ينكرون
إمكان التعليل، وإنما ينكرون وجوبه فلا يمتنع أن يكون
المقدر الشيء الفلاني يتعلق به الحرمة إن سئل عنه وقد سبق
القضاء بذلك لا أن السؤال علة للتحريم اهـ.
والسؤال وإن لم يكن في نفسه جرمًا فضلاً عن كونه أكبر
الكبائر لكنه لما كان سببًا لتحريم مباح صار أعظم الجرائم
لأنه سبب في التضييق على جميع المسلمين ويؤخذ منه أن من
عمل شيئًا
أضرّ به غيره كان آثمًا ولا تنافي بين قوله تعالى:
{فاسألوا أهل الذكر} [النحل: 43] وقوله: لا تسألوا لأن
المأمور به ما تقرر حكمه والمنهي عنه ما لم يتعبد الله
تعالى به عباده.
والحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو داود في السُّنَّة.
7290 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَفَّانُ،
حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ
سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ يُحَدِّثُ عَنْ بُسْرِ بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِىَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اتَّخَذَ حُجْرَةً
فِى الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا لَيَالِىَ
حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ
لَيْلَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ فَجَعَلَ
بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ:
«مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِى رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ،
حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كُتِبَ
عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ
فِى بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِى
بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) بن منصور الكوسج الحافظ قال
(أخبرنا عفان) بن مسلم الصفار كذا بلفظ أخبرنا بالخاء
المعجمة في الفرع وهو في الفتح بلفظ حدّثنا بالحاء المهملة
واستدلّ به على أن إسحاق هذا هو ابن منصور لا إسحاق بن
راهويه قال لقوله حدّثنا عفان، وإسحاق بن راهويه إنما
يقول: أخبرنا، ولأن أبا نعيم أخرجه من طريق أبي خيثمة عن
عفان ولو كان في مسند إسحاق لما عدل عنه قال: (حدّثنا
وهيب) بضم الواو وفتح الهاء ابن خالد قال: (حدّثنا موسى بن
عقبة) صاحب المغازي قال: (سمعت أبا النضر) بالنون المفتوحة
والمعجمة الساكنة سالم بن أبي أمية (يحدّث عن بسر بن سعيد)
بضم الموحدة وسكون المهملة وسعيد بكسر العين مولى الحضرمي
(عن زيد بن ثابت) -رضي الله عنه- (أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اتّخذ حجرة) بضم الحاء
المهملة وسكون الجيم بعدها راء ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي حجزة بالزاي بدل الراء (في المسجد من حصير) أي
حوّطها بها فيه لتستره من الناس وقت الصلاة (فصلّى رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها ليالي) من
رمضان (حتى اجتمع إليه ناس ففقدوا) بفتح الفاء والقاف
(صوته ليلة فظنوا أنه قد نام فجعل بعضهم يتنحنح) بنونين
وحاءين مهملتين (ليخرج إليهم) صلوات الله وسلامه عليه
(فقال):
(ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم) بفتح الصاد المهملة
وسكون التحتية بعد النون المكسورة ولأبي ذر عن الكشميهني
من صنعكم بضم الصاد وسكون النون من غير تحتية من شدة حرصكم
في إقامة صلاة التراويح جماعة (حتى خشيت) أني لو واظبت على
ذلك (أن يكتب عليكم) أي يفرض (ولو كتب عليكم ما قمتم به
فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته
إلا المكتوبة). ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: إلا الصلاة
المكتوبة أي المفروضة يستثنى منه صلاة العيد ونحوها مما
شرع جماعة وتحية المسجد لتعظيمه.
والحديث سبق في صلاة الليل من كتاب الصلاة.
7291 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ، عَنْ أَبِى
بُرْدَةَ، عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ قَالَ: سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ
الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ: «سَلُونِى» فَقَامَ رَجُلٌ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِى؟ قَالَ: «أَبُوكَ
حُذَافَةُ». ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَنْ أَبِى فَقَالَ: «أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى
شَيْبَةَ». فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ
الْغَضَبِ قَالَ: إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن موسى) بن راشد القطان قال:
(حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن بريد بن أبي بردة)
بضم الموحدة وفتح الراء في الأول وسكونها في الثاني (عن)
جده (أبي بردة) عامر أو الحارث (عن أبي موسى الأشعري) -رضي
الله عنه- أنه (قال: سئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أشياء) غير منصرف (كرهها) لأنه
ربما كان فيها سبب لتحريم شيء على المسلمين فتلحقهم به
المشقة قيل منها سؤال من قال أين ناقتي ومن سأل عن وقت
الساعة ومن سأل عن الحج أيجب كل عام (فلما أكثروا عليه
المسألة غضب) لكونهم تعنتوا في المسألة وتكلفوا ما لا حاجة
لهم به (وقال) لهم:
(سلوني) أي عما شئتم كما في كتاب العلم (فقام رجل) اسمه
عبد الله بن حذافة (فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: أبوك
حذافة) بضم الحاء المهملة وفتح المعجمة وبعد الألف فاء
القرشي السهمي (ثم قام آخر) اسمه سعد بن سالم (فقال: يا
رسول الله من أبي؟ فقال: أبوك سالم مولى شيبة) بن
(10/309)
ربيعة وكان سبب ذلك طعن الناس في نسب بعضهم
(فلما رأى عمر) -رضي الله عنه- (ما بوجه رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الغضب) أي من أثر الغضب
(قال إنا نتوب إلى الله) عز وجل مما يوجب غضبك يا رسول
الله وزاد مسلم فما أتى على أصحاب رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم كان أشد منه.
والحديث سبق في باب الغضب في الموعظة من كتاب العلم.
7292 - حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ
الْمُغِيرَةِ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى
الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَىَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَتَبَ
إِلَيْهِ إِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ: «لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ
الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ
قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ
مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ
مِنْكَ الْجَدُّ»، وَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّهُ كَانَ
يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ،
وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ
الأُمَّهَاتِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ.
وبه قال: (حدّثنا موسى) بن إسماعيل التبوذكي قال: (حدّثنا
أبو عوانة) الوضاح اليشكري قال: (حدّثنا عبد الملك) بن
عمير الكوفي (عن وراد) بفتح الواو والراء المشددة (كاتب
المغيرة) بن شُعبة ومولاه أنه (قال: كتب معاوية) بن أبي
سفيان (إلى المغيرة اكتب إليّ) بتشديد الياء (ما سمعت
من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكتب
إليه) المغيرة (أن نبيّ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان يقول في دبر كل صلاة) بضم الدال والموحدة
أي عقب كل صلاة مكتوبة بعد الفراغ منها:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له) حال ثانية مؤكدة لمعنى
الأولى ولا نافية وشريك مبني مع لا على الفتح وخبر لا
متعلق له (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم
لا مانع لما أعطيت) أي للذي أعطيته (ولا معطي لما منعت)
للذي منعته (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) بفتح الجيم فيهما
أي لا ينفع صاحب الحظ من نزول عذابك حظه، وإنما ينفعه عمله
الصالح فالألف واللام في الجد الثاني عوض عن الضمير وقد
سوغ ذلك الزمخشري، واختاره كثير من البصريين والكوفيين في
نحو قوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] قال
وراد بالسند السابق.
(وكتب) المغيرة أيضًا (إليه) أي إلى معاوية (أنه) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (كان ينهى عن قيل وقال)
ببنائهما على الفتح على سبيل الحكاية وبجرهما وتنوينهما
معربين لكن الذي يقتضيه المعنى كونهما على سبيل الحكاية
لأن القيل والقال إذا كانا اسمين كانا بمعنى واحد كالقول،
فلم يكن في عطف أحدهما على الآخر فائدة بخلاف ما إذا كانا
فعلين فإنه يكون النهي عن قيل فيما لا يصح ولا يعلم حقيقته
فيقول المرء في حديثه قيل كذا كما جاء في الحديث: بئس مطية
المرء زعموا، وإنما كان النهي عن ذلك لشغل الزمان في
التحديث بما لا يصح ولا يجوز، ويكون النهي عن قال فيما يشك
في حقيقته وإسناده إلى غيره لأنه يشغل الوقت بما لا فائدة
فيه بل قد يكون كذبًا فيأثم ويضر نفسه وغيره أما من تحقق
الحديث وتحقق من يسنده إليه مما أباحه الشرع فلا حرج في
ذلك (و) كان عليه الصلاة والسلام ينهى عن (كثرة السؤال)
بفتح الكاف وكسرها لغة رديئة كما في الصحاح أي كثرة
المسائل العلمية التي لا تعدو الحاجة إليها. وفي حديث
معاوية نهي عن الأغلوطات وهي شداد المسائل وصعابها وإنما
كره ذلك لما يتضمن كثير منه التكلف في الدين والتنطع من
غير ضرورة أو المسائل في المال، وقد وردت أحاديث في تعظيم
مسألة الناس (و) عن (إضاعة المال) فيما لا يحل (وكان ينهى
عن عقوق الأمهات) جمع أمهة قال:
أمهتي خندف والياس أبي
إلا أن أمهة لمن يعقل وأم لمن يعقل ولمن لا يعقل. قال
الشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد: وتخصيص العقوق بالأمهات
مع امتناعه في الآباء أيضًا لأجل شدة حقوقهن ورجحان الأمر
ببرهِنّ بالنسبة إلى الآباء.
وهذا من باب تخصيص الشيء بالذكر لإظهار عظمه في المنع إن
كان ممنوعًا وشرفه إن كان مأمورًا به، وقد يراعى في موضع
آخر بالتنبيه بذكر الأدنى على الأعلى فيخص الأدنى بالذكر
وذلك بحسب اختلاف المقصود (و) عن (وأد البنات) بالهمزة
الساكنة والدال المهملة أي دفنهن مع
الحياة فعل الجاهلية ولذا خصت بالذكر فتوجه النهي إليه لا
لأن الحكم مخصوص بالبنات (و) عن (منع) بفتح الميم وسكون
النون وتنوين العين مكسورة لما يسأل من الحقوق الواجبة
عليه (و) عن قول (هات) بكسر الفوقية من غير تنوين يطلب من
الناس من غير حاجة، وفيه ترجيح أن يكون المراد من النهي عن
كثرة السؤال سؤال غير المال دفعًا للتكرار.
والحديث سبق في الصلاة وغيرها.
(10/310)
7293 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ،
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ:
نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ.
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
حماد بن زيد) أي ابن درهم أبو إسماعيل الأزدي الأزرق (عن
ثابت) البناني (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: كنا عند
عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (فقال: نهينا) بضم النون
وكسر الهاء (عن التكلف).
وهذا الحديث أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي مسلم
الكجي عن سليمان بن حرب ولفظه عن أنس: كنا عند عمر وعليه
قميص في ظهره أربع رقاع فقرأ {وفاكهة وأبًّا} [عبس: 31]
فقال هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم قال فيه: نهينا
عن التكلف. وأخرجه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب وقال فيه
بعد قوله فما الأب. ثم قال: يا ابن أم عمر إن هذا لهو
التكلف وما عليك أن لا تدري ما الأب.
7294 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، وَحَدَّثَنِى مَحْمُودٌ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِىِّ، أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله
عنه - أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى
الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا
أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ
يَسْأَلَ عَنْ شَىْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ
لاَ تَسْأَلُونِى عَنْ شَىْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ
مَا دُمْتُ فِى مَقَامِى هَذَا». قَالَ أَنَسٌ: فَأَكْثَرَ
النَّاسُ الْبُكَاءَ وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ: «سَلُونِى».
فَقَالَ أَنَسٌ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ
مَدْخَلِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «النَّارُ».
فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ
أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ».
قَالَ: ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: «سَلُونِى سَلُونِى».
فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا
بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولاً. قَالَ:
فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَىَّ
الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِى عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ
وَأَنَا أُصَلِّى فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ
وَالشَّرِّ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم قال
البخاري (وحدّثني) بالإفراد (محمود) هو ابن غيلان قال:
(حدّثنا
عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن
الزهري) أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (أنس بن مالك -رضي
الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خرج حين زاغت الشمس) أي زالت (فصلى الظهر) في أول وقتها
(فلما سلم قام على المنبر) لما بلغه أن قومًا من المنافقين
يسألون منه ويعجزونه عن بعض ما يسألونه (فذكر الساعة وذكر
أن بين يديها أمورًا عظامًا ثم قال):
(من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل) أي فليسألني (عنه فوالله
لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا)
بفتح الميم (قال: أنس: فأكثر الناس) ولأبي ذر عن
الكشميهني: فأكثر الأنصار (البكاء) خوفًا مما سمعوه من
أهوال يوم القيامة أو من نزول العذاب العام المعهود في
الأمم السالفة عند ردهم على أنبيائهم بسبب تغيظه عليه
الصلاة والسلام من مقالة المنافقين السابقة آنفًا.
(وأكثر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
يقول: سلوني. فقال أنس: فقام إليه) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (رجل فقال أين مدخلي يا رسول الله؟
قال: النار) بالرفع قال في الفتح ولم أقف على اسم هذا
الرجل فى شيء من الطرق وكأنهم أبهموه عمدًا للستر عليه،
وفي الطبراني من حديث أبي فراس الأسلمي نحوه وزاد وسأله
رجل أفي الجنة أنا؟ قال (في الجنة) قال: ولم أقف على اسم
هذا الرجل الآخر (فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا
رسول الله؟ قال: أبوك حذافة قال ثم أكثر) عليه الصلاة
والسلام (أن يقول: سلوني سلوني) بتكريرها مرتين للحموي
والمستملي ولغيرهما مرة واحدة (فبرك عمر) -رضي الله عنه-
(على ركبتيه) بلفظ التثنية (فقال: رضينا بالله ربًّا
وبالإسلام دينًا وبمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رسولاً). وفي مرسل السدي عند الطبري في نحو هذه
فقام إليه عمر فقبّل رِجله وقال: رضينا بالله ربًّا إلى
آخره بمثل ما هنا وزاد بالقرآن إمامًا فاعف عنا عفا الله
عنك، فلم يزل به حتى رضي وفيه استعمل المزاوجة في الدعاء
لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معفوّ عنه قبل
ذلك (قال فسكت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أولى). قال في الكواكب:
وأولى يعني أوَ لا ترضون يعني رضيتم أوَ لا وتكتب بالياء
في أكثر النسخ. قلت وكذا هي في اليونينية (والذي نفسي بيده
لقد عرضت عليّ الجنة والنار آنفًا) بمدّ الهمزة والنصب على
الظرفية لتضمنه معنى الظرفية أي أوّل وقت يقرب مني وهو
الآن (في عرض هذا الحائط) بضم العين وسكون الراء أي جانبه
(وأنا أصلي فلم أر) فلم أبصر (كاليوم) صفة محذوف أي يومًا
مثل هذا اليوم (في الخبر) الذي رأيته في الجنة (والشر)
الذي رأيته في النار.
والحديث سبق في باب وقت الظهر من كتاب الصلاة وسياق لفظ
الحديث هنا على لفظ معمر، وفي باب وقت الظهر على لفظ شعيب.
7295 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ،
أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
أَخْبَرَنِى مُوسَى بْنُ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ
بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ
مَنْ أَبِى؟ قَالَ: «أَبُوكَ فُلاَنٌ»، وَنَزَلَتْ {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا، عَنْ
أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الآية.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الرحيم) صاعقة قال: (أخبرنا
روح بن عبادة) بفتح الراء وسكون الواو بعدها مهملة وعبادة
بضم العين وتخفيف الموحدة قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج
قال (أخبرني) بالإفراد (موسى بن أنس) قاضي البصرة (قال:
سمعت أنس بن مالك) -رضي الله عنه- وهو
(10/311)
أبو موسى الراوي عنه (قال: قال رجل) هو عبد
الله بن حذافة أو قيس بن حذافة أو خارجة بن حذافة وكان
يطعن فيه (يا نبي الله من أبي؟ قال) صلوات الله وسلامه
عليه:
(أبوك فلان) أي حذافة (ونزلت {يا أيها الذين آمنوا لا
تسألوا عن أشياء} [المائدة: 101] الآية) وسبق الحديث في
تفسير سورة المائدة.
7296 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا
شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ
حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ
فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ»؟
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن صباح) بفتح الصاد المهملة
والموحدة المشددة آخره مهملة الواسطي قال: (حدّثنا شبابة)
بفتح الشين المعجمة والموحدة المخففة وبعد الألف موحدة
أخرى ابن سوّار بفتح السين المهملة والواو المشدّدة قال:
(حدّثنا ورقاء) بفتح الواو وسكون الراء بعدها قاف مهموز
ممدود ابن عمرو (عن عبد الله بن عبد الرحمن) أي طوالة بضم
الطاء المهملة وتخفيف الواو الأنصاري قاضي المدينة أنه
قال: (سمعت أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (يقول: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لن يبرح) بالموحدة والحاء المهملة لن يزال (الناس
يتساءلون) ولأبي ذر عن المستملي يساءلون بتشديد السين
والتساؤل جريان السؤال بين اثنين فصاعدًا ويجري بينهم
السؤال في كل نوع (حتى يقولوا) ويجوز أن يكون بين العبد
والشيطان أو النفس حتى يبلغ إلى أن يقال (هذا الله خالق كل
شيء) أي هذا مسلم وهو أن الله تعالى خالق كل شيء وهو شيء
وكل شيء مخلوق (فمن خلق الله) زاد في بدء الخلق، فإذا بلغه
فليستعذ بالله ولِيَنْتَهِ أي عن التفكّر في هذا الخاطر،
وفي مسلم فليقل آمنت بالله، وفي أخرى له ورسله، ولأبي داود
والنسائي فقولوا: الله أحد الله الصمد السورة ثم يتفل عن
يساره ثم ليستعذ بالله، والحكمة في قوله الصفات الثلاث
إنها منبّهة على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مخلوقًا
أما أحد فمعناه الذي لا ثاني له ولا مثل فلو فرض مخلوقًا
لم يكن أحدًا على الإطلاق. ويأتي مزيد لذلك في كتاب
التوحيد إن شاء الله تعالى بعون الله وقوّته.
والحديث من أفراد البخاري ومن هذا الوجه.
7297 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ
مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ: كُنْتُ مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى
حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهْوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ،
فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ
تَسْأَلُوهُ لاَ يُسْمِعْكُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقَامُوا
إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنِ
الرُّوحِ فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ
يُوحَى إِلَيْهِ فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ
الْوَحْىُ ثُمَّ قَالَ: «{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى}» [الإسراء: 85].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبيد بن ميمون) التبان المدني
قال: (حدّثنا عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق أحد الأعلام في
الحفظ والعبادة (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن إبراهيم)
النخعي (عن علقمة) بن قيس (عن ابن مسعود) عبد الله (-رضي
الله عنه-) أنه (قال: كنت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حرث) بالحاء المهملة المفتوحة
والراء الساكنة بعدها مثلثة زرع، ولأبي ذر عن الكشميهني:
في خرب بخاء معجمة مكسورة وراء مفتوحة بعدها موحدة
(بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب) بفتح العين وكسر السين
المهملتين وبعد التحتية موحدة عصا من جريد النخل (فمرّ)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بنفر من اليهود فقال
بعضهم) زاد في الإسراء لبعض (سلوه عن الروح) الذي في
الحيوان أي عن حقيقته (وقال بعضهم: لا تسألوه لا يسمعكم)
بضم أوله والجزم على النهي والرفع على الاستئناف (ما
تكرهون) أي إن لم يفسره لأنهم قالوا إن فسره فليس بنبي وإن
لم يفسره فهو نبي وقد كانوا يكرهون نبوّته (فقاموا إليه
فقالوا: يا أبا القاسم حدّثنا) بكسر الدال والجزم (عن
الروح فقام) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ساعة
ينظر) قال ابن مسعود (فعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت عنه)
خوفًا أن يتشوّش بقربي (حتى صعد الوحي) بكسر العين المهملة
(ثم قال) عليه الصلاة والسلام.
({ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85])
مما استأثر بعلمه. وعن أي بريدة لقد مضى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما يعلم الروح ولقد عجزت
الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على
الخوض فيه والحكمة في ذلك عجز العقل عن إدراك مخلوق مجاور
له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز ولذا ردّ ما قيل في
حدّه إنه جسم رقيق هوائي في كل جزء من الحيوان وقوله:
ويسألونك بإثبات الواو في الفرع كأصله وفي بعض النسخ
بحذفها فقال بعضهم: التلاوة بإثباتها يعني أن هذا مما وقع
في البخاري من الآيات المتلوّة على غير وجهها. قال البدر
الدماميني في مصابيحه: ليس هذا من قبيل المغير لأن الآية
المقترنة بحرف عطف يجوز عند حكايتها أن تقرن بالعاطف
(10/312)
وأن تخلى عنه نص على جواز الأمرين الشيخ
بهاء الدين السبكي في شرح مختصر ابن الحاجب مثال الأول ما
أجد لي ولكم مثالاً إلا كما قال العبد الصالح فصبر جميل
إلى غير ذلك ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام حين
سئل عن الخمر ما أنزل عَليّ فيها شيء إلا هذه الآية
الجامعة الفاذة {من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل
مثقال ذرة شرًّا يره} [الزلزلة: 7، 8] قال وقد أشبعنا
الكلام على ذلك في حاشية المغني فليراجع منها.
4 - باب الاِقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب الاقتداء بأفعال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) واجب لعموم قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول
فخذوه}
[الحشر: 7] ولقوله: {فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]
فيجب اتباعه في فعله كما يجب في قوله حتى يقوم دليل على
الندب أو الخصوصية.
7298 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -
رضى الله عنهما - قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ
فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنِّى
اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ»، فَنَبَذَهُ وَقَالَ:
«إِنِّى لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا»، فَنَبَذَ النَّاسُ
خَوَاتِيمَهُمْ.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري ما جزم به المزي (عن عبد الله بن دينار)
المدني (عن ابن عمر) عبد الله (-رضي الله عنهما-) أنه
(قال: اتخذ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خاتمًا من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب) على التوزيع أي
كل واحد اتخذ خاتمًا (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
(إني اتخذت خاتمًا من ذهب، فنبذه) أي فطرحه (وقال: إني لن
ألبسه أبدًا) كراهة مشاركتهم له في خاتمه الذي اتخذه ليختم
به كتبه إلى الملوك لئلا تفوت مصلحة نقش اسمه بوقوع
الاشتراك ويحصل الخلل أو لكونه من ذهب وكان وقت تحريم لبس
الذهب على الرجال (فنبذ الناس خواتيمهم) أي طرحوها اقتداء
بفعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعلاً وتركًا
ولا دلالة في ذلك على الوجوب بل على مطلق الاقتداء به
والتأسي.
والحديث سبق في باب خواتيم الذهب من وجه آخر من كتاب
اللباس.
5 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ
وَالتَّنَازُعِ فِى الْعِلْمِ وَالْغُلُوِّ فِى الدِّينِ
وَالْبِدَعِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لاَ تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
إِلاَّ الْحَقَّ}.
(باب ما يكره من التعمق) بالعين المهملة المفتوحة والميم
المضمومة المشدّدة بعدها قاف أي التشدّد في الأمر حتى
يتجاوز الحدّ فيه (والتنازع) وهو التجادل (في العلم) عند
الاختلاف فيه إذا لم يتضح الدليل وسقط لأبي ذر في العلم
(والغلوّ) بضم الغين المعجمة واللام وتشديد الواو المبالغة
والتشدّد (في الدين) حتى يتجاوز الحد (و) الغلوّ في
(البدع) المذمومة (لقوله) ولأبي ذر لقول الله (تعالى: {يا
أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} [النساء: 171]) لا تجاوزوا
الحد فغلت اليهود في حط المسيح عيسى ابن مريم عليهما
السلام عن منزلته حتى قالوا: إنه ابن الزنا، وغلت النصارى
في رفعه عن مقداره حيث جعلوه ابن الله ({ولا تقولوا على
الله إلا الحق} [النساء: 171]) وهو تنزيهه عن الشريك
والولد.
7299 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِىِّ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ تُوَاصِلُوا». قَالُوا: إِنَّكَ
تُوَاصِلُ. قَالَ: «إِنِّى لَسْتُ
مِثْلَكُمْ إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى
وَيَسْقِينِى»، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ. قَالَ:
فَوَاصَلَ بِهِمُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ رَأَوُا
الْهِلاَلَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلاَلُ لَزِدْتُكُمْ»،
كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
هشام) هو ابن يوسف اليماني قاضيها قال: (أخبرنا معمر) هو
ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن أبي سلمة) بن عبد
الرحمن (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
(لا تواصلوا) في الصوم بأن تصلوا يومًا بيوم من غير أكل
وشرب بينهما والنهي للتحريم أو التنزيه (قالوا) يا رسول
الله (إنك تواصل. قال: إني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي
ويسقيني) بإثبات الياء ولأبي ذر: ويسقين بحذف الياء لا
يقال إن قوله يطعمني ويسقيني مناف للوصال لأن المراد
بالإطعام لازمه وهو التقوية أو المراد من طعام الجنة وهو
لا يفطر آكله (فلم ينتهوا عن الوصال) ظنًّا منهم أن النهي
ليس للتحريم. (قال) أبو هريرة فواصل بهم النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومين أو ليلتين ثم رأوا
الهلال، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(لو تأخر الهلال لزدتكم) في المواصلة حتى تعجزوا عنها
(كالمنكل لهم) بكسر الكاف المشددة من التنكيل أي كالمعذب
لهم، وللحموي كالمنكي لهم بضم الميم وسكون النون وكسر
الكاف من النكاية والإنكاء للمستملي كالمنكر أي عليهم
فاللام في لهم بمعنى على.
واستشكل وجه المطابقة بين الحديث والترجمة. وأجيب: بأن
عادة المؤلّف إيراد ما لا يطابق ظاهرًا حيث تكون المطابقة
في طريق من طرق الحديث لتشحيذ الأذهان، ففي التمني كما سبق
واصل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آخر الشهر
وواصل الناس، فبلغ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال: (لو مدّ في الشهر لواصلت وصالاً يدع
المتعمقون تعمقهم إني لست مثلكم). وحديث
(10/313)
الوصال واحد وإن تعددت رواته من الصحابة،
وقد حصلت المطابقة على ما لا يخفى.
7300 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ،
حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِى
إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِىُّ، حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ:
خَطَبَنَا عَلِىٌّ - رضى الله عنه - عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ
آجُرٍّ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ
إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ
فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِلِ وَإِذَا
فِيهَا الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا،
فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ
يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً وَإِذَا
فِيهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا
أَدْنَاهُمْ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ
عَدْلاً وَإِذَا فِيهَا مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ
إِذْنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ
اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً.
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) قال: (حدّثنا أبي)
حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان قال: (حدّثني) بالإفراد
(إبراهيم) بن يزيد (التيمي) العابد قال: (حدّثني)
بالإفراد (أبي) يزيد بن شريك (قال: خطبنا علي) هو ابن أبي
طالب (-رضي الله عنه- على منبر من آجر) بمد الهمزة وضم
الجيم وتشديد الراء هو الطوب المشوي (وعليه سيف فيه صحيفة
معلقة فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ) بضم الياء
مبنيًّا للمفعول (إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة
فنشرها) أي فتحها فقرئت (فإذا فيها أسنان الإبل) أي إبل
الدّيات واختلافها في العمد والخطأ وشبه العمد (وإذا فيها
المدينة حرم) أي محرمة (من عير) بفتح العين المهملة بعدها
تحتية ساكنة فراء جبل بالمدينة (إلى كذا) في مسلم إلى ثور
وهو جبل معروف (فمن أحدث فيها حدثًا) من ابتدع بدعة أو
ظلمًا (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) والمراد
باللعنة هنا البعد عن الجنة أوّل الأمر (لا يقبل الله منه
صرفًا) فرضًا (ولا عدلاً) نافلة أو بالعكس أو التوبة
والفدية أو غير ذلك مما سبق في حرم المدينة من آخر كتاب
الحج (وإذا فيه) في المكتوب في الصحيفة (ذمة المسلمين
واحدة) أي أمانهم صحيح فإذا أمن الكافر واحد منهم حرم على
غيره التعرض له. وقال البيضاوي: الذمة العهد سمي بها لأنها
يذم متعاطيها على إضاعتها (يسعى بها) أي يتولاها (أدناهم)
من المرأة والعبد ونحوهما (فمن أخفر مسلمًا) بالخاء
المعجمة والفاء نقض عهده (فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، وإذا
فيها) في الصحيفة (من والى قومًا) اتخذهم أولياء (بغير إذن
مواليه) ليس لتقييد الحكم بل هو إيراد الكلام على ما هو
الغالب (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل
الله منه صرفًا ولا عدلاً).
ولأحمد وأبي داود والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة قال: انطلقت أنا والأشتر
إلى عليّ فقلنا: هل عهد إليك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا لم يعهده إلى الناس عامة. قال:
لا إلاَّ ما كان في كتابي هذا. قال وكتابه في قراب سيفه
فإذا فيه المؤمنون تتكافأ دماؤهم الحديث:
ولمسلم من طريق أبي الطفيل كنت عند علي فأتاه رجل فقال له:
ما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسر
إليك فغضب ثم قال: ما كان يسر إليّ شيئًا يكتمه عن الناس
غير أنه حدّثني بكلمات أربع، وفي رواية له ما خصنا بشيء لم
يعم به الناس كافّة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، فأخرج
صحيفة مكتوبًا فيها لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله
من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من
آوى محدثًا.
وفي كتاب العلم من طريق أبي جحيفة قلت لعليّ هل عندكم
كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما
في هذه الصحيفة قال: قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل
وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر، والجمع بين هذه الأخبار
أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذكر فنقل كل
راوٍ بعضها قاله في الفتح وقال: والغرض بإيراد الحديث يعني
حديث الباب هنا لعن من أحدث حدثًا فإنه وإن قيد في الخبر
بالمدينة فالحكم عام فيها وفى غيرها إذا كان من متعلقات
الدين.
وقال الكرماني: في مناسبة حديث علي للترجمة لعله استفاد من
قول علي -رضي الله عنه- تبكيت من تنطع في الكلام، وجاء
بغير ما في الكتاب والسُّنّة قال العيني: والذي قاله
الكرماني هو المناسب لألفاظ الترجمة، والذي قاله بعضهم
يعني الحافظ ابن حجر بعيد من ذلك يعرف بالتأمل.
7301 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِى،
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ
مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِىَ الله عنها -
صَنَعَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
شَيْئًا تَرَخَّصَ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ
ذَلِكَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ
يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّىْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ
إِنِّى أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ
خَشْيَةً».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال (حدّثنا أبي) حفص بن
غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال: (حدّثنا
مسلم) هو ابن صبيح بالصاد المهملة والموحدة وآخره مهملة
مصغر وهو أبو الضحى (عن مسروق) أبي عائشة ابن الأجدع
الهمداني أنه (قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: صنع
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا ترخص
فيه) يحتمل أن يكون
(10/314)
كالإفطار في بعض الأيام في غير رمضان
والتزوّج، وثبت قوله فيه لأبي ذر (وتنزه عنه قوم) فسردوا
الصوم واختاروا العزوبة (فبلغ ذلك النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحمد الله) بكسر الميم زاد أبو ذر
وأثنى عليه (ثم قال):
(ما بال أقوام يتنزهون) أي يتباعدون ويحترزون (عن الشيء
أصنعه) أصنعه في موضع نصب على الحال من الشيء (فوالله إني
أعلمهم بالله) أي بغضب الله وعقابه يعني أنا أفعل شيئًا من
المباحات كالنوم والأكل في النهار والتزوّج وقوم يحترزون
عنه فإن احترزوا عنه لخوف عذاب الله تعالى فإني أعلم بقدر
عذاب الله تعالى منهم (وأشدهم له) تعالى (خشية). فأنا أولى
أن أحترز عنه، وكان ينبغي لهم أن يجعلوا عدم تنزههم عن
المرخص مسببًا عن عمله صلوات الله وسلامه عليه فعكسوا
فأنكر عليهم.
قال الداودي: التنزه عمار خص فيه الشارع من أعظم الذنوب
لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله وهذا إلحاد. قال في فتح
الباري: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، لكن في حديث أنس:
جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يسألون عن عبادة النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها
فقالوا: أين نحن من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ أي
أن بيننا وبينه بونًا بعيدًا فإنّا على صدد التفريط وسوء
العاقبة وهو معصوم مأمون العاقبة وأعمالنا جنة من العقاب
وأعماله مجلبة للثواب، فردّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ما اختاروا لأنفسهم من الرهبانية بأن ما
استأثرهم من الإفراط في الرياضة لو كان أحسن من العدل الذي
أنا عليه لكنت أولى بذلك، ففيه أن العلة التي اعتل بها من
أشير إليهم في الحديث أنه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر، وفي الحديث بيان حسن خلقه، والحث على الاقتداء به
عليه الصلاة والسلام، والنهي عن التعمق وذم التنزه عن
المباح شكًّا في إباحته، وفيه أن العلم بالله يوجب اشتداد
الخشية.
وحديث الباب سبق في باب من لم يواجه بالعتاب من كتاب
الأدب.
7302 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا
وَكِيعٌ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِى
مُلَيْكَةَ قَالَ: كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفْدُ بَنِى تَمِيمٍ
أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ
التَّمِيمِيِّ الْحَنْظَلِىِّ أَخِى بَنِى مُجَاشِعٍ
وَأَشَارَ الآخَرُ بِغَيْرِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
لِعُمَرَ إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلاَفِى فَقَالَ عُمَرُ: مَا
أَرَدْتُ خِلاَفَكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}
[الحجرات: 2] إِلَى قَوْلِهِ: {عَظِيمٌ} قَالَ ابْنُ أَبِى
مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَكَانَ عُمَرُ
بَعْدُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِى أَبَا
بَكْرٍ إِذَا حَدَّثَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِى السِّرَارِ لَمْ
يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) أبو الحسن المروزي
المجاور بمكة قال (أخبرنا) ولأبي ذر: حدّثنا (وكيع) بفتح
الواو وكسر الكاف ابن الجراح أبو سفيان الرؤاسي أحد
الأعلام (عن نافع بن عمر) الجمحي المكي الحافظ، ولأبي ذر:
أخبرنا نافع بن عمر (عن ابن أبي مليكة) بضم الميم وفتح
اللام زهير الأحول المكي أنه (قال: كاد) أي قارب (الخيران)
تثنية خير بفتح المعجمة وتشديد التحتية المكسورة أي
الرجلان الكثيران الخير (أن يهلكا) بكسر اللام والنصب بحذف
نون الرفع وفيه دخول أن على خبر كاد وهو قليل ولأبي ذر أن
يهلكان بإثبات نون الرفع وأن قبل والخيران هما (أبو بكر
وعمر) -رضي الله عنهما- (لما) بفتح اللام وتشديد الميم
(قدم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفد
بني تميم) مشة تسع وسألوه أن يؤمر عليهم أحدًا (أشار
أحدهما) أي أحد الخيرين وهو عمر (بالأقرع) أي بتأمير
الأقرع (ابن حابس التميمي الحنظلي أخي) بالياء، ولأبي ذر
عن الكشميهني: أخو (بني مجاشع) بالجيم والشين المعجمة ابن
دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وسقط
لغير أبي ذر التميمي (وأشار الآخر) وهو أبو بكر -رضي الله
عنه- (بغيره) بتأمير غير الأقرع وهو القعقاع بن معبد بن
زرارة التميمي (فقال أبو بكر لعمر) -رضي الله عنهما-:
(إنما أردت) بتأمير الأقرع (خلافي) أي مخالفة قولي (فقال
عمر) لأبي بكر: (ما أردت) بذلك (خلافك فارتفعت أصواتهما
عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في ذلك
(فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم}) إذا
نطقتم ({فوق صوت النبي} إلى قوله: ({عظيم} [الحجرات: 2])
أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد
الذي يبلغه بصوته وأن تنقضوا منها بحيث يكون كلامه غالبًا
لكلامكم وجهره باهرًا لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة
وسابقته لديكم واضحة وسقط لغير أبي ذر قوله: {فوق صوت
النبي}.
(قال) ولأبي ذر وقال (ابن أبي مليكة) زهير بالسند السابق
(قال ابن المنير): عبد الله (فكان عمر) -رضي الله عنه-
(بعد) أي
(10/315)
بعد نزول هذه الآية (ولم يذكر) أي ابن
الزبير (ذلك عن أبيه) عن جده لأمه أسماء (يعني أبا بكر)
وفيه أن الجد للأم يسمى أبًا، والجملة اعتراض بين قوله بعد
وقوله: (إذا حدث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بحديث حدّثه كأخي السرار) بكسر السين المهملة
كصاحب السرار أي لا يرفع صوته إذا حدّثه بل يكلمه كلامًا
مثل المسارة وشبهها لخفض صوته. قال الزمخشري: ولو أريد
بأخي السرار المسار كان وجهًا والكاف على هذا في محل نصب
على الحال يعني لأن التقدير حدّثه مثل الشخص المسار قال:
وعلى الأول صفة لمصدر محذوف يعني لأن التقدير حدّثه حديثًا
مثل المسار (لم يسمعه) بضم أوّله أي لم يسمع عمر النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديثه (حتى يستفهمه)
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قال الزمخشري:
والضمير في لم يسمعه راجع للكاف إذا جعلت صفة للمصدر ولم
يسمعه منصوب المحل بمنزلة الكاف على الوصفية وإذا جعلت
حالاً كان الضمير لها أيضًا إلا إن قدّر مضاف كقولك يسمع
صوته فحذف الصوت وأقيم الضمير مقامه، ولا يجوز أن يجعل لم
يسمعه حالاً من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لأن المعنى يصير ركيكًا. وقال في فتح الباري: والمقصود من
الحديث قوله تعالى في أوّل السورة: {لا تقدموا بين يدي
الله ورسوله} [الحجرات: 1] ومنه تظهر مطابقته لهذه
الترجمة. وقال العيني: مطابقته للجزء الثاني وهو التنازع
في العلم تؤخذ من قوله: فارتفعت أصواتهما وكان تنازعهما في
تولية اثنين في الإمارة كلٍّ منهما يريد تولية خلاف من
يريده الآخر والتنازع في العلم الاختلاف.
والحديث سبق في سورة الحجرات، ووقع التنبيه فيها أن سياق
الحديث صورته صورة الإرسال لكن في آخره أنه حمله عن عبد
الله بن الزبير والله الموفق والمعين.
7303 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِى مَرَضِهِ: «مُرُوا أَبَا
بَكْرٍ يُصَلِّى بِالنَّاسِ». قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ
إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِى مَقَامِكَ لَمْ
يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ
فَلْيُصَلِّ فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ
بِالنَّاسِ». فَقَالَتْ: عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ:
قُولِى إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِى مَقَامِكَ لَمْ
يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا
بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ». قَالَتْ حَفْصَةُ
لِعَائِشَةَ: مَا كُنْتُ لأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن
الزبير (عن عائشة أم المؤمنين) -رضي الله عنها- (أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في مرضه)
الذي توفي فيه.
(مروا أبا بكر يصلّي بالناس) بالياء بعد اللام مرفوع على
الاستئناف أو أجرى المعتل مجرى الصحيح (قالت عائشة) -رضي
الله عنها- (قلت: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع
الناس من البكاء) إذ ذلك عادته إذا قرأ القرآن لا سيما إذا
قام مقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفقده
منه (فمر عمر فليصل) مجزوم بحذف حرف العلة جواب الأمر
ولأبي ذر للناس (فقال) عليه الصلاة والسلام: (مروا أبا
بكر فليصل بالناس) ولأبي ذر: للناس (فقالت عائشة: فقلت
لحفصة) بنت عمر: (قولي) له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس
من البكاء فأمر عمر فليصل بالناس) ولأبي ذر للناس (ففعلت)
فقالت (حفصة) ذلك لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: إنكن لأنتن صواحب يوسف) الصديق عليه السلام
تظهرن خلاف ما تبطن كهن (مروا أبا بكر فليصل للناس. فقالت
حفصة لعائشة) رضي الله تعالى عنهما: (ما كنت لأصيب منك
خيرًا).
والحديث سبق في الصلاة. ومطابقته لم ترجم له هنا من حيث إن
المرادة والمراجعة داخلة في معنى التعمق لأن التعمق هو
المبالغة في الأمر والتشديد فيه.
7304 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ،
حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
السَّاعِدِىِّ قَالَ: جَاءَ عُوَيْمِرٌ العَجلانِيُّ إِلَى
عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ
مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً فَيَقْتُلُهُ أَتَقْتُلُونَهُ
بِهِ؟ سَلْ لِى يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَهُ فَكَرِهَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الْمَسَائِلَ وَعَابَ، فَرَجَعَ عَاصِمٌ فَأَخْبَرَهُ
أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَرِهَ الْمَسَائِلَ فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ
لآتِيَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَجَاءَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ
خَلْفَ عَاصِمٍ فَقَالَ لَهُ: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ
فِيكُمْ قُرْآنًا، فَدَعَا بِهِمَا فَتَقَدَّمَا
فَتَلاَعَنَا ثُمَّ قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَفَارَقَهَا
وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِفِرَاقِهَا فَجَرَتِ السُّنَّةُ فِى
الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «انْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ
أَحْمَرَ قَصِيرًا مِثْلَ وَحَرَةٍ فَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ
قَدْ كَذَبَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَعْيَنَ ذَا
أَلْيَتَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ».
فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الأَمْرِ الْمَكْرُوهِ.
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس العسقلاني قال: (حدّثنا
ابن أبي ذئب) ولأبي ذر: حدّثنا محمد بن عبد الرحمن أي ابن
المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب واسمه هشام بن سعيد قال:
(حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سهل بن سعد)
بسكون الهاء والعين (الساعدي) -رضي الله عنه- أنه (قال:
جاء عويمر العجلاني) بفتح العين وسكون الجيم وسقط العجلاني
لغير أبي ذر (إلى عاصم بن عدي فقال) له: يا عاصم (أرأيت
رجلاً) أي أخبرني عن حكم رجل (وجد مع امرأته رجلاً)
أجنبيًّا منها (فيقتله أتقتلونه به)؟ قصاصًا. زاد في طريق
آخر أم كيف يفعل أي أيّ شيء يفعل؟ وأم تحتمل أن تكون متصلة
يعني إذا رأى الرجل هذا المنكر والأمر الفظيع وثارت عليه
الحمية أيقتله فتقتلونه أم يصبر على ذلك الشنار والعار وأن
تكون
(10/316)
منقطعة فسأل أوّلاً عن القتل مع القصاص، ثم
أضرب عنه إلى سؤال آخر لأن أم المنقطعة متضمنة لبل
والهمزة، فبل تضرب الكلام السابق والهمزة تستأنف كلامًا
آخر والمعنى كيف يفعل أيصبر؟ على العار أو يحدث له أمرًا
آخر (سل لي يا عاصم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) عن ذلك (فسأله) عاصم (فكره النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسائل) المذكورة لما فيها
من البشاعة (وعاب) على سائلها ولأبي ذر عن الكشميهني
وعابها (فرجع عاصم) إلى أهله وجاءه عويمر (فأخبره أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كره المسائل. فقال
عويمر: والله لآتين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وأسأله عن ذلك (فجاء) إليه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وقد أنزل الله تعالى القرآن) وهو
قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} الآية (خلف عاصم) بفتح
الخاء المعجمة وسكون اللام أي بعد رجوعه (فقال):
(قد أنزل الله فيكم) وفي اللعان قد أنزل فيك وفي صاحبتك أي
زوجته خولة (قرآنًا، فدعا بهما) ولأبي ذر فدعاهما (فتقدما
فتلاعنا، ثم قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن
أمسكتها ففارقتها) وفي اللعان فطلّقها (ولم يأمره النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بفراقها) لأن نفس
اللعان يوجب المفارقة وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو
حنيفة: لا تحصل الفرقة إلا بقضاء القاضي بها بعد التلاعن
(فجرت السُّنّة في المتلاعنين) بفتح النون الأولى بلفظ
التثنية أن يفترقا فلا يجتمعان بعد الملاعنة أبدًا. قال
سهل بن سعد (وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: انظروها) أي المرأة الملاعنة (فإن جاءت به)
بالولد الذي هي حامل به (أحمر) اللون (قصيرًا مثل وحرة)
بفتح الواو والحاء المهملة والراء دويبة فوق العدسة، وقيل
حمراء تلزق بالأرض كالوزغة تقع في الطعام فتفسده (فلا
أراه) بضم الهمزة فلا أظنه أي عويمرًا (إلاّ قد كذب) عليها
(وإن جاءت به أسحم) بفتح الهمزة وسكون السين وفتح الحاء
المهملتين أسود (أعين) بفتح الهمزة والتحتية بينهما عين
مهملة ساكنة واسع العين (ذا إليتين) بتحتية ثم فوقية
كبيرتين والاستعمال أليين بحذف الفوقية (فلا أحسب إلا) أنه
(قد صدق) أي عويمر (عليها فجاءت به على الأمر المكروه) وهو
كونه أسحم أعين لأنه متضمن لثبوت زناها عادة والضمير في
قوله: فإن جاءت به للولد أو الحمل لدلالة السياق عليه
كقوله تعالى: {إن ترك خيرًا} [البقرة: 18] أي الميت.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: فكره النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسائل وعابها لأنه أفحش في
السؤال فلذا كره ذلك. والحديث سبق في اللعان.
7305 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِى عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ
النَّصْرِىُّ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِى ذِكْرًا مِنْ ذَلِكَ فَدَخَلْتُ عَلَى
مَالِكٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: انْطَلَقْتُ حَتَّى
أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ:
هَلْ لَكَ فِى عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ
فِى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ فَأَذِنَ لَهُمَا؟ قَالَ
الْعَبَّاسُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِى
وَبَيْنَ الظَّالِمِ اسْتَبَّا فَقَالَ الرَّهْطُ:
عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ
بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ، فَقَالَ:
اتَّئِدُوا أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ
تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»؟ يُرِيدُ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
نَفْسَهُ قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ
عُمَرُ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا
بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ذَلِكَ؟ قَالاَ:
نَعَمْ. قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّى مُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا
الأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى هَذَا الْمَالِ بِشَىْءٍ
لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا
أَوْجَفْتُمْ} [الحشر: 2] الآيَةَ. فَكَانَتْ هَذِهِ
خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ،
وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ وَقَدْ
أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِىَ
مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، وَكَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ
نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ
مَا بَقِىَ فَيَجْعَلُهُ
مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ حَيَاتَهُ.
أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟
فَقَالُوا: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ:
أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالاَ:
نَعَمْ. ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِىُّ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ
فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ وَأَقْبَلَ عَلَى
عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا
كَذَا وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ
رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا
بَكْرٍ فَقُلْتُ: أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِى بَكْرٍ فَقَبَضْتُهَا
سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو
بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِى وَكَلِمَتُكُمَا عَلَى
كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ جِئْتَنِى
تَسْأَلُنِى نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ وَأَتَانِى
هَذَا يَسْأَلُنِى نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا
فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى
أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ،
تَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِمَا عَمِلَ
فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ
وَلِيتُهَا وَإِلاَّ فَلاَ تُكَلِّمَانِى فِيهَا
فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ فَدَفَعْتُهَا
إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ
دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ:
نَعَمْ. فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ:
أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا؟
قَالاَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّى قَضَاءً
غَيْرَ ذَلِكَ فَوَالَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ
وَالأَرْضُ لاَ أَقْضِى فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ
حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا
فَادْفَعَاهَا إِلَىَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام قال: (حدّثني) بالإفراد (عقيل) بضم
العين وفتح القاف ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن
مسلم الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (مالك بن أوس)
بفتح الهمزة وسكون الواو ابن الحدثان بفتح الحاء والدال
المهملتين والمثلثة ابن عوف بن ربيعة بن سعيد بن يربوع بن
واثلة بن دهمان بن نصر بن معاوية بن كبر بن هوازن (النصري)
بالنون المفتوحة والصاد المهملة الساكنة كما في الكواكب
وعليها علامة الإهمال في الفرع مصححًا عليها، وضبطها
العيني بالضاد المعجمة. وقال: نسبة إلى النضر بن كنانة بن
خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر قال وفي همدان أيضًا النضر
بن ربيعة اهـ.
وهذا الذي قاله لا أعرفه والمعروف أنه بالمهملة نسبة لجده
الأعلى نصر بن معاوية كما مرّ، يقال: إن لأبيه أوس صحبة
وكذا قيل لولده مالك.
قال ابن شهاب: (وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي ذكرًا)
بكسر المعجمة وسكون القاف (من ذلك) الحديث الآتي (فدخلت
على مالك) أي ابن أوس (فسألته) عن ذلك الحديث (فقال:
انطلقت حتى) أي إلى أن (أدخل على عمر) -رضي الله عنه- عبر
بالمضارع في موضع الماضي مبالغة لإرادة استحضار صورة الحال
فجلست عنده فبينا أنا جالس (أتاه حاجبه يرفأ) بتحتية
مفتوحة فراء ساكنة ثم فاء فألف وقد تهمز. قال في الفتح:
وهي روايتنا من طريق أبي ذر، وكان يرفأ من موالي عمر أدرك
(10/317)
الجاهلية ولا يعرف له صحبة (فقال) له (هل
لك) رغبة (في عثمان) بن
عفان (وعبد الرحمن) بن عوف (والزبير) بن العوّام (وسعد)
بسكون العين ابن أبي وقاص (يستأذنون) في الدخول عليك (قال)
عمر (نعم) فأذَنْ لهم (فدخلوا فسلموا وجلسوا) زاد في فرض
الخمس ثم جلس يسيرًا (فقال) ولأبي ذر قال (هل لك) رغبة
(في) دخول (عليّ) أي ابن أبي طالب (وعباس) عم النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال عمر: نعم (فأذن
لهما} فلما دخلا (قال العباس) لعمر (يا أمير المؤمنين اقضِ
بيني وبين الظالم استبا) بلفظ التثنية أي تخاشنا في الكلام
وتكلما بغليظ القول كالمستبين، وقال الداودي: يعني أن كل
واحد منهما يدّعي أنه المظلوم في هذا الأمر، وليس المراد
أن عليًّا يسبّ العباس بغير ذلك لأنه كأبيه ولا أن العباس
يسب عليًّا بغير ذلك لفضل علي -رضي الله عنهما-، وأراد
بقوله الظالم عليًّا، وليس المراد أنه ظالم للناس وأن
الظلم من شيمه وأخلاقه معاذ الله، وإنما يريد الظالم لي في
هذا الأمر على ما ظهر له. وفي الخمس: وبين هذا، ولم يقل
الظالم، وفي رواية جويرية عند مسلم وبين هذا الكاذب الآثم
الغادر الخائن. قال في الفتح: ولم أر في شيء من الطرق أنه
صدر من علي في حق العباس شيء بخلاف ما يفهم من قوله في
رواية عقيل هذه، وإنما جاز للعباس مثل هذا القول لأن
عليًّا كان كالولد له وللوالد ما ليس لغيره فأراد ردعه عما
يعتقد أنه مخطئ فيه أو هي كلمة لا يراد بها حقيقتها، وقد
كان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكروه مع تشددهم في إنكار
المنكر لأنهم فهموا بقرينة الحال أنه لا يريد به الحقيقة
(فقال الرهط عثمان وأصحابه) لعمر: (يا أمير المؤمنين اقضِ
بينهما وأرح أحدهما من الآخر فقال) عمر (اتئدوا) بهمزة وصل
وتشديد الفوقية بعدها همزة مكسورة فدال مهملة مضمومة
تمهلوا واصبروا (أنشدكم) بفتح الهمزة وضم الشين أسألكم
رافعًا نشيدتي أي صوتي (بالله الذي بإذنه تقوم السماء) فوق
رؤوسكم بغير عمد (والأرض) على الماء تحت أقدامكم ولأبي ذر
عن الكشميهني أنشدكم الله بإسقاط حرف الجر (هل تعمون أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا نورث) أي الأنبياء (ما تركنا) ما موصول مبتدأ والعائد
محذوف أي الذي تركناه وخبر المبتدأ (صدقة؟ يريد رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفسه) وغيره من
الأنبياء لقوله في رواية أخرى: إنّا معاشر الأنبياء. نعم
استشكل مع قوله تعالى في زكريا: {يرثني ويرث من آل يعقوب}
[مريم: 6] وقوله: {وورث سليمان داود} [النمل: 16] وأجيب:
بأن المراد ميراث النبوة والعلم (قال الرهط: قد قال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ذلك فأقبل عمر) -رضي
الله عنه- (على عليّ وعباس فقال) لهما (أنشدكما بالله هل
تعلمان أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال ذلك؟ قالا: نعم. قال عمر: فإني محدّثكم عن هذا الأمر
إن كان الله) وفي نسخة إن الله كان بتشديد النون ونصب
الجلالة الشريفة والتقديم والتأخير (خصّ رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا المال) أي الفيء (بشيء
لم يعطه أحدًا غيره) وفي مسلم بخاصة لم يخصص بها غيره.
وعند أبي داود من طريق أسامة بن يزيد عن ابن شهاب كانت
لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاث
صفايا بنو النضير وخيبر وفدك فأما بنو النضير فكانت حبسًا
لنوائبه وأما فدك فكانت حبسًا لأبناء السبيل، وأما خيبر
فجزأها بين المسلمين ثم قسّم جزءًا لنفقة أهله وما فضل منه
جعله في فقراء المهاجرين (فإن الله) تعالى (يقول) ولأبي ذر
والأصيلي وابن عساكر قال الله تعالى: ({وما) وفي
التنزيل: وما ({أفاء}) رد ({الله على رسوله منهم}) من بني
النضير أو من الكفرة ({فما أوجفتم} [الحشر: 6]) أسرعتم يا
مسلمون (الآية. فكانت هذه خالصة لرسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لا حق لغيره فيها (ثم والله
ما احتازها) بحاء مهملة ساكنة ثم فوقية فألف فزاي مفتوحة
من الحيازة أي ما جمعها (دونكم) ولأبي ذر عن الكشميهني ما
اختار بالخاء المعجمة والراء (ولا استأثر) بالفوقية وبعد
الهمزة الساكنة مثلثة فراء أي ما تفرد (بها عليكم وقد
أعطاكموها) أي أموال الفيء (وبثّها) بفتح الموحدة والمثلثة
المشددة أي فرقها (فيكم حتى بقي
(10/318)
منها هذا المال. وكان) بالواو وللكشميهني
فكان بالفاء (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي)
منه (فيجعله مجعل مال الله) في السلاح والكراع ومصالح
المسلمين (فعمل) بكسر الميم (النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك حياته. أنشدكم بالله هل تعلمون
ذلك؟ فقالوا) ولأبي ذر قالوا (نعم. ثم قال) عمر (لعليّ
وعباس: أنشدكما الله) بإسقاط حرف الجر من الجلالة الشريفة
ولأبي ذر بإثباته (هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم. ثم توفّى
الله نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال أبو
بكر) -رضي الله عنه-: (أنا وليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بتشديد التحتية من وليّ (فقبضها)
بفتحات (أبو بكر فعمل فيها بما عمل فيها رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنتما حينتذ وأقبل على عليّ
عباس فقال: تزعمان أن أبا بكر فيها كذا) وفي رواية مسلم
فجئتما تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث
امرأته من أبيها فقال أبو بكر، قال رسول الله: "لا نورث ما
تركنا صدقة" فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا وكأن
الزهري كان يحدّث به تارة فيصرح وتارة يكني وهو نظير ما
سبق من قول العباس لعلي -رضي الله عنهما- (والله يعلم أنه)
أن أبا بكر (فيها صادق بارّ) بتشديد الراء (راشد تابع
للحق، ثم توفى الله أبا بكر) -رضي الله عنه- (فقلت: أنا
وليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و)
وليّ (أبي بكر) -رضي الله عنه- (فقبضتها سنتين) بلفظ
التثنية (أعمل فيها) بفتح الميم (بما عمل) بكسرها (به رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر، ثم
جئتماني وكلمتكما على كلمة واحدة) لا مخالفة بينكما
(وأمركما جميع) لا تفرق فيه ولا تنازع (جئتني) يا عباس
(تسألني نصيبك من ابن أخيك) أي من ميراثه صلوات الله
وسلامه عليه (وأتاني هذا) يشير إلى عليّ (يسألني نصيب
امرأته) فاطمة (من) ميراث (أبيها) عليه الصلاة والسلام
(فقلت) لكما (إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد
الله وميثاقه تعملان) ولأبي ذر لتعملان (فيها بما عمل به
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبما عمل
فيها أبو بكر وبما عملت فيها منذ) بالنون (وليتها) بفتح
الواو وكسر اللام مخففة أي لتتصرفان فيها وتنتفعان منها
بقدر حقكما كما تصرف فيها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر وعمر لا على جهة التمليك إذ
هي صدقة محرمة التمليك بعده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (وإلاّ فلا تكلماني فيها فقلتما ادفعها إلينا
بذلك فدفعتها إليكما بذلك. أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما
بذلك؟ قال الرهط: نعم فأقبل) عمر ولأبي ذر عن الكشميهني ثم
أقبل (على عليّ وعباس فقال: أنشدكما بالله) بحرف الجر (هل
دفعتها إليكما)؟ زاد أبو ذر عن الكشميهني بذلك (قالا: نعم.
قال) عمر (أفتلتمسان) أفتطلبان (مني قضاء غير ذلك؟ فوالذي
بإذنه تقوم السماء) بغير عمد (والأرض) على الماء (لا أقضي
فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها
فادفعاها إليّ فأنا أكفيكماها).
ومطابقة الحديث للترجمة في قول الرهط عثمان وأصحابه: اقضِ
بينهما وأرح أحدهما من الآخر فإن الظن بهما أنهما لم
يتنازعا إلا ولكلٍّ منهما مستند في الحق بيده دون الآخر
فأفضى بهما ذلك إلى المخاصمة ثم المجادلة التي لولا
التنازع لكان اللائق خلاف ذلك قاله في الفتح.
وفي الحديث اتخاذ الحاجب وإقامة الإمام من ينظر على الوقف
نيابة عنه والتشريك بين اثنين في ذلك وغير ذلك مما يدرك
بالتأمل.
وسبق الحديث في باب فرض الخمس بطوله والله تعالى أعلم.
6 - باب إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثً
رَوَاهُ عَلِىٌّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
(باب إثم من آوى) بفتح الهمزة الممدودة والواو (محدثًا)
بضم الميم وكسر المهملة مبتدعًا أو ظالمًا (رواه) أي إثم
من آوى محدثًا (عليّ) أي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). قال في
الفتح: تقدم موصولاً في الباب الذي قبله. قال في عمدة
القارئ: ليس في الباب الذي قبله ما يطابق الترجمة وإنما
الذي يطابقها ما تقدم في باب الجزية في باب إثم من عاهد ثم
غدر قال فيه فمن أحدث فيه حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة
الله.
7306 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: قُلْتُ
لأَنَسٍ: أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ مَا
بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا، مَنْ
أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ عَاصِمٌ: فَأَخْبَرَنِى مُوسَى بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ
قَالَ: أَوْ آوَى مُحْدِثًا.
وبه قال: (حدّثنا
(10/319)
موسى بن إسماعيل) أبو سلمة التبوذكي قال:
(حدّثنا عبد الواحد) بن زياد العبدي مولاهم البصري قال:
(حدّثنا عاصم) هو ابن سليمان الأحول (قال: قلت لأنس) -رضي
الله عنه- (أحرم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- المدينة)؟ بهمزة الاستفهام (قال: نعم ما بين
كذا إلى كذا) وفي حديث عليّ السابق في باب فضل المدينة من
الحج ما بين عائر إلى كذا، واتفقت روايات البخاري كلها على
إبهام الثاني وفي مسلم إلى ثور. وسبق ما في ذلك من البحث
في فضل المدينة (لا يقطع شجرها) وزاد أبو داود ولا ينفر
صيدها (من أحدث فيها حدثًا) مخالفًا للشرع (فعليه لعنة
الله والملائكة والناس أجمعين). والمراد باللعن العذاب
الذي يستحقه لا كلعن الكافر وهذا التوعد وإن كان عامًّا في
المدينة وغيرها لكنه خص المدينة بالذر لشرفها إذ هي مهبط
الوحي ومنها انتشر الدين.
(قال عاصم) أي ابن سليمان بالسند السابق (فأخبرني)
بالإفراد (موسى بن أنس أنه قال: أو
آوى محدثًا). قال الدارقطني عن عاصم عن النضر بن أنس لا عن
موسى قال: والوهم فيه من البخاري أو شيخه. قال عياض: وقد
أخرجه مسلم على الصواب. قال في الفتح: فإن أراد أنه قال عن
النضر فليس كذلك فإنه إنما قال كما أخرجه عن حامد بن عمر
عن عبد الواحد عن عاصم عن ابن أنس، فإن كان عياض أراد أن
الإبهام صواب فلا يخفى ما فيه، والذي سماه النضر هو مسدد
عن عبد الواحد كذا أخرجه في مسنده وأبو نعيم في المستخرج
من طريقه، وقد رواه عمرو بن أبي قيس عن عاصم فبيّن أن بعضه
عنده عن أنس نفسه، وبعضه عن النضر بن أنس عن أبيه أخرجه
أبو عوانة في مستخرجه وأبو الشيخ في كتاب الترهيب جميعًا
من طريقه عن عاصم عن أنس. قال عاصم: ولم أسمع من أنس أو
آوى محدثًا فقلت للنضر: أسمعت هذا يعني القدر الزائد من
أنس؟ قال: لكني سمعته منه أكثر من مائة مرة.
والحديث سبق في الحج في الباب المذكور وبالله المستعان على
الإكمال.
7 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْىِ وَتَكَلُّفِ
الْقِيَاسِ
{وَلاَ تَقْفُ} [الإسراء: 46] لاَ تَقُلْ {مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46].
(باب ما يذكر من ذم الرأي) أي الذي على غير أصل من كتاب أو
سُنّة أو إجماع (وتكلف القياس) الذي لا يكون على هذه
الأصول فإن كان الرأي على أصل منها فمحمود غير مذموم وكذا
القياس ({ولا تقف} [الإسراه: 36]) بفتح الفوقية وسكون
القاف أي (لا تقل {ما ليس لك به علم} [الإسراه: 46]). قاله
ابن عباس فيما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن
أبي طلحة عنه، واحتج به المؤلف لما ذكره من ذم التكلف،
وسقط قوله لا تقل لأبي ذر. وقال العوفي عن ابن عباس: لا
تذم أحدًا بما ليس لك به علم، وقال محمد ابن الحنفية: يعني
شهادة الزور. وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم
تسمع وعلمت ولم تعلم فإن الله سائلك عن ذلك كله، ولا يصح
التشبث به لمبطل الاجتهاد لأن ذا نوع من العلم فإن
علمتموهن مؤمنات أقام الشارع غالب الظن مقام العلم وأمر
بالعمل به كما في الشهادات.
7307 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ، حَدَّثَنِى ابْنُ
وَهْبٍ، حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ
وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِى الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ:
حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ
يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ
الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا،
وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ
بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ
فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ».
فَحَدَّثْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِى
انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَثْبِتْ لِى مِنْهُ
الَّذِى حَدَّثْتَنِى عَنْهُ فَجِئْتُهُ فَسَأَلْتُهُ
فَحَدَّثَنِى بِهِ كَنَحْوِ مَا حَدَّثَنِى فَأَتَيْتُ
عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتُهَا، فَعَجِبَتْ فَقَالَتْ:
وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو.
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن تليد) بفتح الفوقية وكسر اللام
بوزن عظيم هو سعيد بكسر العين ابن عيسى بن تليد نسبه إلى
جده قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر بالجمع (ابن وهب)
عبد الله قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الرحمن بن شريح) بضم
المعجمة وفتح الراء بعدها تحتية ساكنة فمهملة الإسكندراني
(وغيره) قال الحافظ أبو ذر الهروي: هو عبد الله بن لهيعة
وأبهمه المصنف -رحمه الله- لضعفه عنده واعتمد على عبد
الرحمن بن شريح (عن أبي الأسود) محمد بن عبد الرحمن (عن
عروة) بن الزبير أنه (قال: حج) مارًّا (علينا عبد الله بن
عمرو) بفتح العين وسكون الميم (فسمعته يقول؟ سمعت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(إن الله لا ينزع العلم) من الناس (بعد أن أعطاهموه
انتزاعًا) نصب على المصدرية ولأبي ذر عن الحموي أعطاكموه
بالكاف بدل الهاء (ولكن ينتزعه منهم) أو منكم بالكاف (مع
قبض العلماء بعلمهم) فيه نوع قلب والتقدير ولكن ينتزعه
بقبض العلماء مع علمهم أو المراد بعلمهم بكتبهم بأن يمحى
العلم من الدفاتر وتبقى مع على المصاحبة (فيبقى ناس جهّال)
بفتح التحتية والقاف من فيبقى (يستفتون)
(10/320)
بفتح الفوقية قبل الواو الساكنة أي تطلب
منهم الفتوى (فيفتون) بضم التحتية والفوقية (برأيهم
فيضلون) بضم التحتية (ويضلون) بفتحها قال عروة: (فحدّثت
عائشة) ولأبوي الوقت وذر فحدّثت به عائشة (زوج النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم إن عبد الله بن
عمرو حج بعد) أي بعد ذلك السنة أو الحجة (فقالت) له عائشة
(يا ابن أختي) أسماء بنت أبي بكر (انطلق إلى عبد الله) بن
عمرو (فاستثبت لي منه الذي حدّثتني عنه) بسكون المثلثة،
وفي مسلم قالت لي عائشة: يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن
عمرو مارّ بنا إلى الحج فالقه فسائله فإنه قد حمل عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علمًا كثيرًا. قال
عروة (فجئته) أي جئت عبد الله بن عمرو (فسألته) عن ذلك
(فحدّثني به كنحو ما حدّثني) في المرة الأولى (فأتيت
عائشة) -رضي الله عنها- (فأخبرتها) بذلك (فعجبت) لكونه ما
غيّر حرفًا عنه (فقالت: والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو)
وفي رواية سفيان بن عيينة عند الحميدي قال عروة: ثم لبثت
سنة ثم لقيت عبد الله بن عمرو في الطواف فسألته فأخبرني.
قال في الفتح: فأفاد أن لقاءه إياه في المرة الثانية كان
بمكة، وكأن عروة كان حج في تلك السنة من المدينة وحج عبد
الله من مصر فبلغ عائشة، ويكون قولها قد قدم أي من مصر
طالبًا مكة لا أنه قدم المدينة إذ لو دخلها للقيه عروة
بها، ويحتمل أن تكون عائشة حجّت تلك السنة وحجّ معها عروة
فقدم عبد الله بعد فلقيه بأمر عائشة، وعند أحمد عن ابن
مسعود قال: هل تدرون ما ذهاب العلم؟ ذهاب العلماء. واستدلّ
بالحديث على جواز خلوّ الزمان عن مجتهد وهو قول الجمهور
خلافًا لأكثر الحنابلة وبعد من غيرهم لأنه صريح في رفع
العلم بقبض العلماء وفي ترئيس أهل الجهل ومن لازمه الحكم
بالجهل، وإذا انتفى العلم ومن يحكم به استلزم انتفاء
الاجتهاد والمجتهد، وعورض هذا بحديث لا تزال طائفة من أمتي
ظاهرين حتى يأتي أمر الله. وأجيب: بأنه ظاهر في عدم الخلو
لا في نفي الجواز وبأن الدليل الأول أظهر للتصريح بقبض
العلم تارة ورفعه أخرى بخلاف الثاني.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: فيفتون برأيهم. والحديث
سبق في باب كيف يقبض العلم من كتاب العلم، وأخرجه مسلم في
القدر والترمذي في العلم وابن ماجة في السُّنّة.
7308 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ
سَمِعْتُ الأَعْمَشَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ هَلْ
شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ
حُنَيْفٍ يَقُولُ: ح.
وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ:
قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ
رَأَيْتُنِى يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ
أَنَّ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا
سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا
إِلاَّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ، غَيْرَ
هَذَا الأَمْرِ قَالَ: وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ شَهِدْتُ
صِفِّينَ وَبِئْسَتْ صِفُّونَ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان وعبدان لقبه
قال: (أخبرنا أبو حمزة) بالحاء المهملة والزاي محمد بن
ميمون السكري قال: (سمعت الأعمش) سليمان بن مهران (قال:
سألت أبا وائل) شقيق بن سلمة (هل شهدت) وقعة (صفين) التي
كانت بين علي ومعاوية (قال: نعم) حضرتها (فسمعت سهل بن
حنيف) بضم الحاء وفتح النون (يقول: ح) لتحويل السند إلى
آخر.
قال البخاري: (وحدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي الحافظ
قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن الأعمش عن أبي
وائل) أنه (قال: قال سهل بن حنيف) -رضي الله عنه- يوم صفين
وقد كانوا يتهمونه بالتقصير في القتال يومئذ (يا أيها
الناس اتهموا رأيكم) في هذا القتال (على دينكم) فإنما
تقاتلون إخوانكم في الإسلام باجتهاد اجتهدتموه. وقال في
الفتح: أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا
يستند إلى أصل من الدين. وقال ابن بطال: وهذا وإن كان يدل
على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضًا للنص فكأنه
قال: اتهموا الرأي إذا خالف السُّنَّة (لقد رأيتني) أي
رأيت نفسي (يوم أبي جندل) بفتح الجيم والدال المهملة
بينهما نون ساكنة آخره لام ابن سهيل بن عمرو إذ جاء يوسف
في قيوده يوم الحديبية سنة ست عند كتب الصلح على وضع الحرب
عشر سنين، ومن أتى من قريش بغير إذن وليه ردّه عليهم (ولو
أستطيع أن أردّ أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) إذ ردّ أبا جندل إلى قريش لأجل الصلح (لرددته)
وقاتلت قريشًا قتالاً لا مزيد له، فكما توقفت يوم الحديبية
من أجل أني لا أخالف حكم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كذلك أتوقف اليوم لأجل مصلحة
المسلمين، وقد جاء عن عمر نحو
(10/321)
قول سهل ولفظه: اتقوا الرأي في دينكم أخرجه
البيهقي في المدخل وأخرجه هو والطبراني مطوّلاً بلفظ:
اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أردّ أمر رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برأيي اجتهادًا
فوالله ما آلو عن الحق وذلك يوم أبي جندل حتى قال لي رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تراني أرضى
وتأبى.
والحاصل كما قال في فتح الباري: إن المصير إلى الرأي إنما
يكون عند فقد النص، وإلى هذا يومئ قول إمامنا الشافعي فيما
أخرجه البيهقي بسند صحيح إلى أحمد بن حنبل سمعت
الشافعي يقول: القياس عند الضرورة ومع ذلك فليس القائل
برأيه على ثقة من أنه وقع على المراد من الحكم في نفس
الأمر وإنما عليه بذل الوسع في الاجتهاد ليؤجر ولو أخطأ
وبالله التوفيق، ولأبي ذر: ولو أستطيع أن أردّ أمر رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه لرددته.
(وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا) في الله (إلى أمر يفظعنا)
بضم التحتية وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة يوقعنا في أمر
فظيع أي شديد في القبح (إلا أسهلن) أي السيوف ملتبسة (بنا)
بفتح الهمزة وسكون العين المهملة واللام بينهما هاء مفتوحة
آخره نون أي لا أفضين بنا، ولأبي ذر عن الكشميهني إلا
أسهلن بها (إلى أمر) سهل (نعرفه) حالاً ومآلاً فأدخلتنا
فيه (غير هذا الأمر) الذي نحن فيه فإنه مشكل حيث عظمت
المصيبة بقتل المسلمين وشدة المعارضة من حجج الفريقين إذ
حجّة عليّ وأتباعه ما شرع من قتال أهل البغي حتى يرجعوا
إلى الحق، وحجة معاوية وأتباعه قتل عثمان ظلمًا ووجود
قتلته بأعيانهم في العسكر العراقي فعظمت الشبهة حتى اشتد
القتال إلى أن وقع التحكيم فكان ما كان.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: اتهموا رأيكم على دينكم
ونسب اليوم إلى أي جندل لا إلى الحديبية لأن ردّه إلى
المشركين كان شاقًّا على المسلمين وكان ذلك أعظم ما جرى
عليهم من سائر الأمور وأرادوا القتال بسببه وأن لا يردوا
أبا جندل ولا يرضوا بالصلح.
والحديث سبق في كتاب الجزية.
(قال) الأعمش سليمان بالسند السابق (وقال أبو وائل): شقيق
بن سلمة (شهدت) أي حضرت وقعة (صفين) بكسر الصاد المهملة
والفاء المشددة بعدها تحتية ساكنة فنون لا ينصرف للعلمية
والتأنيث بقعة بين الشام والعراق بشاطئ الفرات (وبئست
صفون) بضم الفاء بعدها واو بدل الياء أي بئست المقاتلة
التي وقعت فيها وإعراب الواقع هنا كإعراب الجمع في نحو
قوله تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما إدراك
ما عليون} [المطففين: 18، 19] والمشهور إعرابه بالنون
والتحتية ثابتة في أحواله الثلاثة تقول: هذا صفين برفع
النون ورأيت صفين ومررت بصفين بفتح النون فيهما. قال في
الفتح: ولأبي ذر شهدت صفين وبئست صفين بالتحتية فيهما
ولغيره الثاني بالواو وفي رواية النسفيّ مثله، لكن قال:
بئست الصفون بزيادة الألف واللام وبعضهم فتح الصاد والفاء
مكسورة مشددة اتفاقًا والله أعلم.
8 - باب مَا كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ
الْوَحْىُ فَيَقُولُ: «لاَ أَدْرِى» أَوْ لَمْ يُجِبْ
حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ وَلَمْ يَقُلْ
بِرَأْىٍ وَلاَ قِيَاسٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:
105].
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الرُّوحِ فَسَكَتَ
حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ.
(باب ما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يسأل) بضم أوله مبنيًّا للمفعول (مما لم ينزل) مبني
للمفعول أيضًا (عليه الوحي) قرآنًا أو غيره (فيقول: لا
أدري) كما جاء في أحاديث تأتي إن شاء الله تعالى لكنها
ليست على شرط المؤلّف (أو لم يجب) عن ذلك (حتى ينزل) بضم
أوله وفتح ثالثه (عليه الوحي) بالرفع ببيان ذلك فيجب حينئذ
ولأبي ذر عن المستملي حتى ينزل الله عليه الوحي بالنصب على
المفعولية (ولم يقل برأي ولا قياس) من عطف المرادف وقيل
الرأي التفكر أي لم يقل بمقتضى العقل ولا بالقياس وقيل
الرأي أعم لشموله مثل الاستحسان (لقوله تعالى: {بما أراك
الله}) أي في قوله تعالى: {لتحكم بين الناس بما أراك الله}
[النساء: 105] أي بما علمك الله.
(وقال ابن مسعود): عبد الله (سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الروح فسكت حتى نزلت الآية)
{ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85] وقوله: الآية ثابت لأبي
ذر عن الكشميهني.
7309 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ
يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ:
مَرِضْتُ فَجَاءَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُنِى وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا
مَاشِيَانِ، فَأَتَانِى وَقَدْ أُغْمِىَ عَلَىَّ،
فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَىَّ فَأَفَقْتُ
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - وَرُبَّمَا قَالَ
سُفْيَانُ فَقُلْتُ: أَىْ رَسُولَ اللَّهِ - كَيْفَ
أَقْضِى فِى مَالِى كَيْفَ أَصْنَعُ فِى مَالِى؟ قَالَ:
فَمَا أَجَابَنِى بِشَىْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ
الْمِيرَاثِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال: سمعت ابن المنكدر) محمدًا (يقول:
سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري -رضي الله عنهما- (يقول:
(10/322)
مرضت فجاءني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعودني وأبو بكر) في بني سلمة (وهما
ماشيان فأتاني وقد أغمي) أي غشي (علي) والواو للحال (فتوضأ
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم صب
وضوءه) بفتح الواو أي ماء وضوئه (علىّ فأفقت) من الإغماء
(فقلت: يا رسول الله وربما قال سفيان) بن عيينة (فقلت: أي
رسول الله كيف أقضي في مالي كيف أصنع في مالي؟ قال) جابر
(فما أجابني) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بشيء
حتى نزلت آية الميراث) وفي النساء فنزلت: {يوصيكم الله في
أولادكم} [النساء: 11] وسبق هناك أن الدمياطي قال: إنه وهم
وأن الذي في جابر: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}
[النساء: 76] كما رواه مسلم وفيه زيادة بحث فأطلبه، ثم
وليس في الحديث المعلق ولا الموصول دليل لقول المصنف في
الترجمة لا أدري. وقال في الكواكب: في قوله لا أدري حزازة
إذ ليس في الحديث ما يدل عليه ولم يثبت عنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك.
قال في فتح الباري: وهو تساهل شديد في الإقدام على نفي
الثبوت، والظاهر أنه أشار في الترجمة إلى ما ورد في ذلك
مما لم يثبت عنده منه شيء على شرطه وإن كان يصلح للحجة على
عادته في أمثال ذلك. وفي حديث ابن عمر عند ابن حبان جاء
رجل إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال:
أي البقاع خير؟ قال: "لا أدري" فأتاه جبريل فسأله فقال: لا
أدري. فقال: سل ربك فانتفض جبريل
انتفاضة الحديث ... وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند
الدارقطني والحاكم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: "ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا". وعن
المهلب إنما سكت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في أشياء معضلة ليس لها أصل في الشريعة فلا بدّ
فيها من الاطّلاع على الوحي، وإلاّ فقد شرع -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأمته القياس وأعلمهم كيفية
الاستنباط في مسائل لها أصول ومعان ليريهم كيف يصنعون فيما
لا نص فيه، والقياس هو تشبيه ما لا حكم فيه بما فيه حكم في
المعنى، وقد شبه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الحمر بالخيل فقال: "ما أنزل الله عليّ فيها شيئًا غير هذه
الآية الفاذة الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن
يعمل مثقال ذرة شرًّا يره} [الزلزلة: 7، 8] " وقال للمرأة
التي أخبرته أن أباها لم يحج: "أرأيت لو كان على أبيك دين
كنت قاضيته فالله أحق بالقضاء". فهذا هو عين القياس،
وتعقبه السفاقسي بأن البخاري لم يرد النفي المطلق وإنما
أراد أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك الكلام
في أشياء، وأجاب بالرأي في أشياء، وقد بوّب لكل ذلك بما
ورد فيه وأشار إلى قوله بعد بابين باب من شبه أصلاً
معلومًا بأصل مبين.
والحديث سبق في تفسير سورة النساء والله أعلم.
9 - باب تَعْلِيمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا
عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْىٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ
(باب تعليم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل)
أي ولا قياس وهو إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر
لاشتراكهما فى علة الحكم والرأي أعم.
7310 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِىِّ، عَنْ
أَبِى صَالِحٍ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ جَاءَتِ
امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ
الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ
يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ
اللَّهُ. فَقَالَ: «اجْتَمِعْنَ فِى يَوْمِ كَذَا وَكَذَا
فِى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا». فَاجْتَمَعْنَ فَأَتَاهُنَّ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ:
«مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ
وَلَدِهَا ثَلاَثَةً، إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ
النَّارِ». فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ،
ثُمَّ قَالَ: «وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا أبو
عوانة) الوضاح اليشكري (عن عبد الرحمن بن الأصبهاني) هو
عبد الرحمن بن عبد الله الأصبهاني الأصل الكوفي (عن أبي
صالح ذكوان) الزيات (عن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه-
أنه قال: (جاءت امرأة) قال الحافظ ابن حجر لم أقف على
اسمها، ويحتمل أن تكون هي أسماء بنت يزيد بن السكن (إلى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا
رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك) أي من
اختيارك لا اختيارنا (يومًا) من الأيام (نأتيك فيه تعلمنا
مما علمك الله فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لهن:
(اجتمعن) بكسر الميم (في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا.
فاجتمعن) بفتح الميم (فأتاهن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعلمهن مما علمه الله ثم قال) لهن:
(ما منكن امرأة تقدم بين يديها) من التقديم إلى يوم
القيامة (من ولدها ثلاثة إلا كان) التقديم (لها حجابًا من
النار. فقالت امرأة منهن): هي أم سليم أو أم أيمن أو أم
مبشر (يا رسول الله و) من قدم (اثنين) ولأبي ذر عن
الكشميهني أو اثنين (قال) أبو سعيد (فأعادتها) أي كلمة أو
اثنين (مرتين ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (واثنين واثنين واثنين) ثلاثًا.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: إلا كان لها
(10/323)
حجابًا من النار لأن هذا أمر توفيقي لا
يعلم إلا من قِبل الله تعالى ليس قولاً برأي ولا تمثيل
قاله في الكواب.
وسبق الحديث في العلم في باب هل يجعل للنساء يومًا على
حدته في العلم وفي الجنائز أيضًا.
10 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى
ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ
الْعِلْمِ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا
تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون) قال البخاري
(وهم أهل العلم) ولأبي ذر وهم من أهل العلم وسقط له
يقاتلون، وروى البخاري عن علي بن المديني هم أصحاب الحديث
ذكره الترمذي.
7311 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى
ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ
ظَاهِرُونَ».
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله) بضم العين المهملة (ابن موسى)
العبسي بالموحدة ثم المهملة الكوفي (عن إسماعيل) بن أبي
خالد التابعي (عن قيس) هو ابن أبي حازم (عن المغيرة بن
شعبة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يزال) بالتحتية أوله في الفرع كأصله (طائفة من أمتي
ظاهرين) معاونين أو غالبين. زاد في حديث ثوبان عند مسلم
على الحق لا يضرهم من خذلهم (حتى يأتيهم أمر الله) بقيام
الساعة (وهم ظاهرون) غالبون على من خالفهم.
واستشكل بحديث مسلم عن عبد الله بن عمرو: لا تقوم الساعة
إلا على شرار الناس الحديث: وأجيب: بأن المراد من شرار
الناس الذين تقوم عليهم الساعة قوم يكونون بموضع مخصوص
وبموضع آخر تكون طائفة يقاتلون على الحق، وعند الطبراني من
حديث أبي أمامة قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت
المقدس" والمراد بهم الذين يحصرهم الدجال إذا خرج فينزل
عيسى إليهم فيقتل الدجال، ويحتمل أن يكون ذلك عند خروج
الدجال أو بعد موت عيسى عليه السلام بعد هبوب الريح التي
تهب بعده فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلاّ
قبضته
ويبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة وهناك يتحقق خلوّ
الأرض عن مسلم فضلاً عن هذه الطائفة الكريمة وهذا كما في
الفتح أولى ما يتمسك به في الجمع بين الحديثين المذكورين.
والحديث سبق في علامات النبوة ويأتي إن شاء الله تعالى في
التوحيد بعون الله.
7312 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِى حُمَيْدٌ
قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ
يَخْطُبُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ
خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا
قَاسِمٌ وَيُعْطِى اللَّهُ وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ
الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ
حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثنا ابن
وهب) عبد الله (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب)
محمد بن مسلم الزهري أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (حميد)
بضم الحاء المهملة وفتح الميم ابن عبد الرحمن بن عوف (قال:
سمعت معاوية بن أبي سفيان) -رضي الله عنهما- حال كونه
(يخطب قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(من يرد الله به خيرًا) أي جميع الخيرات لأن النكرة تفيد
العموم أو خيرًا عظيمًا فالتنوين للتعظيم (يفقهه في الدين)
والفقه في الأصل الفهم يقال فقه الرجل بالكسر يفقه فقهًا
إذا فهم وعلم وفقه بالضم يفقه إذا صار فقيهًا عالمًا وجعله
العرف خاصًّا بعلم الشريعة وتخصيصًا بعلم الفروع وإنما خص
من علم الشريعة بالفقه لأنه علم مستنبط بالقوانين والأدلة
والأقيسة والنظر الدقيق بخلاف علم اللغة والنحو والصرف،
روي أن سليمان نزل على نبطية بالعراق فقال لها: هل هاهنا
مكان نظيف أصلي فيه؟ فقالت: طهر قلبك وصلّ حيث شئت فقال:
فقهت أي فهمت، ولو قال علمت لم يقع هذا الموقع. وعن
الدارمي عن عمران قال: قلت للحسن يومًا في شيء قاله: يا
أبا سعيد ليس هكذا يقول الفقهاء، فقال: ويحك هل رأيت
فقيهًا قط إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة
البصير بأمور دينه الداوم على عبادة ربه (وإنما أنا قاسم)
قال القاضي عياض: أي إنما أقسم بينكم فألقى إلى كل واحد ما
يليق به (ويعطي الله) كل واحد منكم من الفهم والتفكر
والعمل ما أراده.
وقال التوربشتي: أعلم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أنه لم يفضل في قسمة ما أوحي إليه أحدًا من أمته على الآخر
بل سوّى في البلاغ وعدل في القسمة وإنما التفاوت في الفهم
وهو واقع من طريق العطاء ولقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث
فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي ويسمعه آخر منهم أو من
القرن الذي يليهم أو ممن أتى بعده فيستنبط منه كثيرًا،
وقال الطيبي: الواو في قوله وإنما إنّا للحال من فاعل
يفقهه أو من مفعوله وإذا كان الثاني فالمعنى أن الله يعطي
كلاًّ ممن أراد أن
(10/324)
يفقهه استعدادًا لدرك المعاني على ما قدره
ثم يلهمني بإلقاء ما هو اللائق باستعداد كل واحد وعليه
كلام القاضي
فإذا كان الأول فالمعنى أني ألقى ما يسنح لي وأسوّي فيه
ولا أرجح واحدًا على واحد فالله تعالى يوفق كلاًّ منهم على
ما أراد وشاء من العطاء وعليه كلام التوربشتي اهـ.
(ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا) على الدين الحق (حتى
تقوم الساعة أو) قال (حتى يأتي أمر الله) تعالى بالشك من
الراوي.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: ولن يزال أمر هذه الأمة
مستقيمًا لأن من جملة الاستقامة أن يكون فيهم التفقه
والمتفقه، ولا بد منه لترتبط الأخبار المذكورة بعضها ببعض
وتحصل جهة جامعة بينهما معنى.
والحديث سبق في العلم، وأخرجه مسلم في الزكاة والله سبحانه
وتعالى أعلم.
11 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعًا} [الأنعام: 65]
(باب قول الله) ولأبي ذر باب بالتنوين في قول الله (تعالى:
{أو يلبسكم شيعًا} [الأنعام: 65]) أي متفرقين.
7313 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - يَقُولُ: لَمَّا
نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65]
قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ {أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ
فَلَمَّا نَزَلَتْ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ
بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ
أَيْسَرُ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (قال عمرو): بفتح العين المهملة ابن دينار
(سمعت جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- يقول: لما نزل
على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {قل هو
القادر}) الكامل القدرة ({على أن يبعث عليكم عذابًا من
فوقكم} [الأنعام: 65]) كالمطر النازل على قوم نوح حجارة
(قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(أعوذ بوجهك) أي بذاتك من عذابك ({أو من تحت أرجلكم}
[الأنعام: 65]) كالرجفة والخسفة ويجوز أن يكون الظرف
متعلقًا بيبعث وأن يكون متعلقًا بمحذوف على أنه صفة
لعذابًا أي عذابًا كائنًا من هاتين الجهتين (قال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أعوذ بوجهك) من عذابك (فلما
نزلت: {أو يلبسكم شيعًا}) أي يخلطكم فرقًا مختلفين على
أهواء شتى كل فرقة مشايعة لإمام ومعنى خلطهم إنشاء القتال
بينهم فيختلطون في ملاحم القتال. وشيعًا نصب على الحال وهي
جمع شيعة كسدة وسدر، وقيل المعنى يجعلكم فرقًا ويثبت فيكم
الأهواء المختلفة ({ويذيق بعضكم بأس بعض}) بقتل بعضكم
بعضًا والبأس السيف والإذاقة استعارة وهي فاشية كقوله
تعالى: {ذوقوا مسّ سقر} [القمر: 48]. {ذق إنك أنت العزيز}
[الدخان: 49]. {فذوقوا العذاب} [آل عمران: 106].
وقال:
أذقناهم كؤوس الموت صرفًا ... وذاقوا من أسنتنا كؤوسا
(قال) صلوات الله وسلامه عليه: (هاتان) المحنتان اللبس
والإذاقة (أهون أو) قال (أيسر) لأن الفتن بين المخلوقين
وعذابهم أهون وأيسر من عذاب الله على الكفر.
والحديث سبق في تفسير سورة الأنعام وأخرجه الترمذي في
التفسير.
12 - باب مَنْ شَبَّهَ أَصْلاً مَعْلُومًا بِأَصْلٍ
مُبَيَّنٍ
قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ.
(باب من شبه أصلاً معلومًا بأصل مبين) بفتح التحتية (قد
بين الله) ولأبي ذر عن الكشميهني بين رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حكمهما) بلفظ التثنية ولأبي
الوقت حكمهما. قال في الفتح: وفي رواية غير الكشميهني
والجرجاني من شبه أصلاً معلومًا بأصل مبين وقد بيّن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكمهما بإثبات الواو
في قوله وقد بيّن (ليفهم السائل) المراد.
7314 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنِى
ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ
امْرَأَتِى وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ وَإِنِّى
أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ»؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا»؟ قَالَ:
حُمْرٌ. قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ»؟ قَالَ: إِنَّ
فِيهَا لَوُرْقًا. قَالَ: «فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ
جَاءَهَا»؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِرْقٌ نَزَعَهَا.
قَالَ: «وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ، وَلَمْ
يُرَخِّصْ لَهُ فِى الاِنْتِفَاءِ مِنْهُ».
وبه قال: (حدّثنا أصبغ بن الفرج) بالمهملة والموحدة
والمعجمة في الأول والجيم في الثاني أبو عبد الله المصري
قال: (حدّثني) ولأبوي ذر والوقت أخبرني والإفراد في
الروايتين (ابن وهب) عبد الله المصري (عن يونس) بن يزيد
الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن) بن عوف (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن
أعرابيًّا) اسمه ضمضم بن قتادة كما في المبهمات لعبد الغني
بن سعيد وعند مسلم وأصحاب السنن أن أعرابيًّا من فزارة
بفتح الفاء وتخفيف الزاي هو فزارة بن ذبيان بن بغيض (أتى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال): يا
رسول الله (إن امرأتي ولدت غلامًا أسود) أي: وإني أنا أبيض
ولم أعرف اسم المرأة ولا الغلام، وأسود صفة لغلام وهو لا
ينصرف للوزن والصفة (وإني أنكرته) أي استنكرته بقلبي ولا
يرد إنه أنكره بلسانه (فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(هل لك من إبل؟ قال) الأعرابي: (نعم. قال) عليه الصلاة
والسلام له: (فما ألوانها)؟ ما مبتدأ من أسماء الاستفهام
وألوانها خبره (قال) ألوانها (حمر) رفع خبر المبتدأ المقدر
(10/325)
(قال) صلوات
الله وسلامه عليه (هل) ولأبي ذر عن الكشميهني فهل (فيها من
أورق) بفتح الهمزة والراء بينهما واو ساكنة آخره قاف قال
الأصمعي: الأورق من الإبل الذي في لونه بياض يميل إلى سواد
وهو أطيب الإبل لحمًا وليس بمحمود عندهم في عمره وسيره وهو
غير منصرف للوصف ووزن الفعل والفاء في فهل عاطفة (قال)
الأعرابي: (إن فيها لورقًا) بضم الواو وسكون الراء أن
واسمها وخبرها في المجرور واللام هي الداخلة في خبر إن
وأصلها لام الابتداء ولكنها أخرت لأجل أنها غير عاملة وأن
عاملة وتسمى هذه اللام المزحلقة (قال) عليه الصلاة والسلام
(فأتى ترى) بفتح الفوقية أو بضمها أي تظن (ذلك جاءها)
الفاعل ضمير يعود على اللون والمفعول يعود على الإبل وذلك
مفعول ثاني وأنى استفهام بمعنى كيف أي كيف أتاها اللون
الذي ليس في أبويها (قال) الأعرابي (يا رسول الله عرق
نزعها) بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف ونزعها بالزاي،
والمراد بالعرق هنا الأصل من النسب شبه بعرق الثمرة ومنه
فلان معرق في النسب والحسب ومعنى نزعه أشبهه واجتذب منه
إليه وأظهر لونه عليه وأصل النزع الجذب فكأنه جذبه إليه،
وللكشميهني نزعه. قال أبو هريرة (ولم يرخص له) أي للأعرابي
(في الانتفاء منه). أي في انتفاء اللعان ونفي الولد من
نفسه.
ومطابقة الحديث للترجمة من كونه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- شبه للأعرابي ما أنكره من لون الغلام بما عرف
من نتاج الإبل فأبان له بما يعرف أن الإبل الحمر تنتج
الأورق وهو الأغبر فكذلك المرأة البيضاء تلد الأسود. وسبق
الحديث في اللعان.
7315 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ أَبِى بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: إِنَّ
أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ
تَحُجَّ أَفَأَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ حُجِّى
عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ
أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ»؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ:
«فَاقْضُوا الَّذِى لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ
بِالْوَفَاءِ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا أبو
عوانة) الوضاح اليشكري (عن أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون
المعجمة جعفر بن وحشية (عن سعيد بن جبير) الوالبي مولى أبي
محمد أحد الأعلام (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أن
امرأة) زاد في الحج والنذور عن الميت من كتاب الحج: من
جهينة، وفي النسائي هي امرأة سنان بن سلمة الجهني ولأحمد
سنان بن عبد الله وهي أصح، وفي الطبراني أنها عمته كذا
قاله في المقدمة. وقال في الشرح: إن ما في النسائي لا يفسر
به المبهم في حديث الباب لأن في حديث الباب أن المرأة سألت
بنفسها. وفي النسائي: إن زوجها سأل، ويحتمل أن تكون نسبة
السؤال إليها مجازية (جاءت إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت): يا رسول الله (إن أمي نذرت أن
تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها)؟ أي أيصح مني أن أكون
نائبة عنها فأحج عنها فالفاء الداخلة عليها همزة الاستفهام
الاستخباري عاطفة على المحذوف المقدر ولم تسم الأم (قال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(نعم حجي عنها أرأيت) أي أخبريني (لو كان على أمك دين)
لمخلوق (أكنت قاضيته)؟ عنها (قالت: نعم. قال: فاقضوا) أيها
المسلمون الحق (الذي له) تعالى ودخلت المرأة في هذا الخطاب
دخولاً بالقصد الأول وقد علم في الأصول أن النساء يدخلن في
خطاب الرجال لا سيما عند القرينة المدخلة، ولأبي ذر عن
الكشميهني: اقضوا الله (فإن الله) تعالى (أحق بالوفاء). من
غيره.
ومطابقة الحديث في كونه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- شبه للمرأة التي سألته عن أمها دين الله بما
تعرف من دين العباد غير أنه قال: فدين الله أحق، وقول
الفقهاء بتقديم حق الآدمي لا ينافي الأحقية بالوفاء
واللزوم لأن تقديم حق العبد بسبب احتياجه، ثم إن عقد هذا
الباب وما فيه يدل على صحة القياس والباب السابق يدل على
الذم. وأجيب: بأن القياس صحيح مشتمل على جميع شرائطه
المقررة في علم الأصول وفاسد بخلاف ذلك فالمذموم هو الفاسد
والصحيح لا مذمة فيه بل هو مأمور به، وفي الباب دليل على
وقوع القياس منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد
احتج المزني بهذين الحديثين على من أنكر القياس وما اتفق
عليه الجمهور هو الحجة فقد قاس الصحابة فمن بعدهم من
التابعين وفقهاء الأمصار.
13 - باب مَا جَاءَ فِى اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]
وَمَدَحَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا
لاَ يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَلِهِ وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ
وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ.
(باب ما جاء في اجتهاد القضاة) بصيغة الجمع، ولأبي ذر وأبي
الوقت القضاء بفتح القاف والضاد والمد وإضافة الاجتهاد
(10/326)
إليه والمعنى الاجتهاد في الحكم وفيه حذف
تقديره اجتهاد متولي القضاء (بما أنزل الله تعالى)
والاجتهاد بذل الوسع للتوصل إلى معرفة الحكم الشرعي
(لقوله) تعالى: ({ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الظالمون} [المائدة: 45]). يجوز أن تكون من شرطية وهو
الظاهر وأن تكون موصولة والفاء في الخبر زائدة لشبهه
بالشرط (ومدح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
صاحب الحكمة) بفتح الدال والحاء والنبي رفع على الفاعلية
وصاحب نصب على المفعولية وبسكون الدال مجرورًا عطفًا على
قوله ما جاء في اجتهاد ويكون المصدر مضافًا لفاعله (حين
يقضي بها) بالحكمة (ويعلمها) للناس (لا) ولأبي ذر عن
الكشميهني: ولا (يتكلف من قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة
أي من جهته ولأبي ذر عن الكشميهني قبله بتحتية ساكنة بدل
الموحدة المفتوحة أي من كلامه (ومشاورة الخلفاء) والقضاة
بالجر عطفًا على قوله في اجتهاد القضاة أي وفيما جاء في
مشاورة الخلفاء (وسؤالهم أهل العلم).
7316 - حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ
قَيْسٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِى
اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ
عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ
حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا».
وبه قال: (حدّثنا شهاب بن عباد) بفتح العين والموحدة
المشدّدة العبدي الكوفي قال: (حدّثنا إبراهيم بن حميد) بضم
الحاء ابن عبد الرحمن الرؤاسي (عن إسماعيل) بن أبي خالد
البجلي واسم أبي خالد سعد (عن قيس) هو ابن أبي حازم (عن
عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا حسد) لا رخصة أو لا غبطة (إلا في اثنتين) خصلتين (رجل)
بالرفع (آتاه) بمد الهمزة أعطاه (الله مالاً فسلط) بضم
السين وكسر اللام وللكشميهني فسلطه بفتحهما وزيادة هاء بعد
الطاء (على هلكته) بفتحات على إنفاقه (في الحق وآخر) ولأبي
ذر أو آخر (آتاه الله حكمة) بكسر الحاء المهملة وسكون
الكاف والحكمة السنة أو الفقه والعلم بالدين أو ما ينفع من
موعظة ونحوها أو الحكم بالحق أو الفهم عن الله ورسوله
ووردت أيضًا بمعنى النبوّة (فهو يقضي بها) بالحكمة
(ويعلمها) الناس. وفي قوله: فسلطه على هلكته مبالغتان
إحداهما التسليط فإنه يدل على الغلبة وقهر النفس المجبولة
على الشح البالغ وثانيتهما قوله على هلكته فإنه يدل على
أنه لا يبقي من المال باقيًا، ولما أوهم القرينتان الإسراف
والتبذير المقول فيهما لا خير في السرف كمله بقوله في الحق
كما قيل: لا سرف في الخير، وكذا القرينة الأخرى اشتملت على
مبالغات إحداها: الحكمة فإنها تدل على علم دقيق مع إتقان
في العمل، وثانيتها: يقضي أي يقضي بين الناس وهي من مرتبته
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وثالثتها: ويعلمها
وهي أيضًا من مرتبة سيد المرسلين قاله في شرح المشكاة.
والحديث سبق في باب من قضى بالحكمة في أوائل الأحكام وكذا
في العلم والزكاة. ومطابقته للترجمة الثانية ظاهرة.
7317 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ هِىَ الَّتِى
يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِى جَنِينًا؟ فَقَالَ:
أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: أَنَا
فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «فِيهِ غُرَّةٌ
عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ». فَقَالَ: لاَ تَبْرَحْ حَتَّى
تَجِيئَنِى بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ.
وبه قال: (حدّثنا محمد) هو ابن سلام ما جزم به ابن السكن
ورجحه في الفتح قال: (أخبرنا أبو معاوية) محمد بن خازم
بالمعجمتين قال: (حدّثنا هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن
المغيرة بن شعبة) الثقفي شهد الحديبية -رضي الله عنه- أنه
(قال: سأل عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه الصحابة -رضي الله
عنهم- (عن إملاص المرأة) بكسر الهمزة وسكون الميم آخره صاد
مهملة (وهي التي يضرب) بضم أوله مبنيًّا للمفعول (بطنها)
نائب الفاعل (فتلقي) بضم الفوقية وكسر القاف (جنينًا)
ميتًا ماذا يجب على الجاني فيه؟ (فقال: أيكم سمع من النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه شيئًا) قال
المغيرة
(فقلت: أنا) سمعته (فقال) عمر -رضي الله عنه- (ما هو)؟
الذي سمعته (قلت: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول فيه) في الإملاص وهو الجنين (غرة) بضم
الغين المعجمة وفتح الراء مشددة (عبد أو أمة) بالرفع
والتنوين في الثلاثة والثاني بدل كل من كل ونكرة من نكرة
وعبر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الجسم كله
بالغرة (فقال) عمر للمغيرة: (لا تبرح حتى تجيئني) وللأصيلي
حتى تجيء (بالخرج) بفتح الميم والراء بينهما معجمة وآخره
جيم (فيما) وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني مما (قلت).
7318 - فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ
فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِى أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «فِيهِ
غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ». تَابَعَهُ ابْنُ أَبِى
الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنِ
الْمُغِيرَةِ.
(فخرجت) من عنده (فوجدت محمد بن مسلمة) الخزرجي البدري
(فجئت به) إليه (فشهد معي
(10/327)
أنه سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول فيه غرة عبد أو أمة) فإن قيل، خبر الواحد
حجة يجب العمل به فلم ألزمه بالشاهد؟ أجيب: بأنه للتأكيد
وليطمئن قلبه بذلك مع أنه لم يخرج بانضمام آخر إليه عن
كونه خبر الواحد.
ومطابقة الحديث للشق الثاني من الترجمة ظاهرة، وسبق في آخر
الديات في باب جنين المرأة.
(تابعه) أي تابع هشام بن عروة في روايته عن أبيه (ابن أبي
الزناد) عبد الرحمن (عن أبيه) عبد الله بن ذكوان (عن عروة)
بن الزبير (عن المغيرة) بن شعبة فيما وصله المحاملي في
الجزء الثالث عشر من فوائد الأصبهاني عنه وفي رواية أبي ذر
عن الأعرج عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة بدل عروة
والمغيرة. قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر رحمه الله: وهو
غلط والصواب الأول.
14 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
لتتبعن) بلام التأكيد وفتح الفوقية الأولى وتسكين الثانية
وفتح الموحدة وضم العين وتشديد النون كذا في الفرع وضبطه
في الفتح بفوقيتين مفتوحتين وكسر الموحدة قال وأصله تتبعون
(سنن من كان قبلكم) بفتح السين والنون أي طريقتهم في كل
منهي عنه وسقط لغير الكشميهني كان.
7319 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِىِّ، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ
حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِى بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا
شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ». فَقِيلَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ: كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: «وَمَنِ
النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ»؟
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن
يونس اليربوعي الكوفي قال: (حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن
عبد الرحمن (عن المقبري) سعيد بن أبي سعيد كيسان (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها) بموحدة
مكسورة بعدها ألف مهموزة وخاء معجمة ساكنة أي بسيرتهم. وفي
رواية الأصيلي على ما حكاه ابن بطال فيما ذكره في الفتح
بما الموصولة أخذ بلفظ الماضي وهي رواية الإسماعيلي وفي
رواية النسفيّ مأخذ القرون بميم مفتوحة وهمزة ساكنة
والقرون جمع قرن بفتح القاف وسكون الراء الأمة من الناس
وفي رواية الإسماعيلي من طريق عبد الله بن نافع عن ابن أبي
ذئب الأمم والقرون (شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) بالذال
المعجمة وللكشميهني شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا (فقيل يا
رسول الله) هؤلاء الذين يتبعونهم (كفارس والروم؟ فقال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ومن الناس)
المتبعون المعهودون المتقدمون (إلا أولئك) الفرس والروم
وهما جيلان مشهوران من الناس وعينهما لكونهما إذ ذاك أكبر
ملوك الأرض وأكثرهم رعية وأوسعهم بلادًا، وكلمة من في
قوله: ومن الناس بفتح الميم وكسر النون للساكنين للاستفهام
الإنكاري، والحديث من أفراده.
7320 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الصَّنْعَانِىُّ مِنَ الْيَمَنِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ
مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا
بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ
تَبِعْتُمُوهُمْ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ:
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ»؟
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد العزيز) الرملي قال: (حدّثنا
أبو عمر) بضم العين حفص بن ميسرة (الصنعاني من اليمن) لا
من صنعاء الشام (عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار) بالتحتية
والمهملة مخففة (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري) -رضي
الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(لتتبعن سنن من) بفتح السين أي طريق من (كان قبلكم) وسقط
لفظ كان لأبي ذر (شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع) بباء الجر في
بذراع فقط وللكشميهني شبرًا بشبر وذراعًا بذراع كذا في
الفرع كأصله وقال في الفتح قوله شبرًا بشبر وذراعًا بذراع،
وفي رواية الكشميهني شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع عكس الذي
قبله (حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) بضم الجيم وسكون
الحاء المهملة والضب بالضاد المعجمة بعدها موحدة مشدّدة
وهو الحيوان البري المعروف يشبه الورد وقد قيل إنه يعيش
سبعمائة سنة فصاعدًا ويبول في كل أربعين يومًا قطرة ولا
تسقط له سن وخص جحره بالذكر لشدة ضيقه، وهو كناية عن شدة
الموافقة لهم في المعاصي لا في الكفر أي أنهم لاقتفائهم
آثارهم واتباعهم طرائقهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق
لوافقوهم (قلنا: يا رسول الله) المتبعون الذين قبلناهم
(اليهود) بالرفع والنصب (والنصارى؟ قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فمن)؟ هم غير أولئك فمن استفهام
إنكاري كالسابق. قال في الفتح: ولم أقف على تعيين القائل
ولا ينافي هذا ما سبق من أنهم كفارس والروم لأن الروم
نصارى وفي الفرس كان يهود مع أن ذلك كالشبر والذراع
والطريق ودخول الجحر على سبيل التمثيل،
(10/328)
ويحتمل أن يكون الجواب اختلف بحسب المقام
فحيث قيل
فارس والروم كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة
الرعية وحيث قيل اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق
بأمور الديانات أصولها وفروعها.
والحديث سبق في ذكر بني إسرائيل.
15 - باب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ أَوْ سَنَّ
سُنَّةً سَيِّئَةً
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] الآيةَ.
(باب إثم من دعا) الناس (إلى ضلالة) لحديث من دعا إلى
ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من
آثامهم شيئًا أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبي
هريرة (أو سن سنة سيئة) لحديث: "ومن سنّ في الإسلام سُنّة
سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من
أوزارهم شيئًا" رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي
(لقول الله تعالى: {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}
[النحل: 25] الآية) في من وجهان:
أحدهما: أنها مزيدة وهو قول الأخفش أي وأوزار الذين على
معنى ومثل أوزار لقوله: إن عليه وزرها ووزر من عمل بها.
والثاني: أنها غير مزيدة وهي للتبعيض أي وبعض أوزار الذين،
وقدر أبو البقاء مفعولاً حذف وهذه صفته أي وأوزارًا من
أوزار ولا بد من حذف مثل أيضًا. ومنع الواحدي أن تكون
للتبعيض قال: لأنه يستلزم تخفيف الأوزار عن الاتباع وهو
غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام من غير أن ينقص من
أوزارهم شيئًا لكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار
الاتباع. قال أبو حيان: والتي لبيان الجنس لا تتقدر هكذا
وإنما تتقدر والأوزار التي هي أوزار الذين فهو من حيث
المعنى كقول الأخفش وإن اختلفا في التقدير وبغير علم حال
من مفعول يضلونهم أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال قاله في
الكشاف أو من الفاعل، ورجح هذا بأنه هو المحدث عنه وأول
الكلام قوله: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير
الأولين} [النحل: 24] ليحملوا أوزارهم كاملة في يوم
القيامة وقوله لهم أي لهؤلاء الكفار وأساطير الأولين أي
أحاديث الأولين وأباطيلهم واللام في ليحملوا للتعليل أي
قالوا ذلك إضلالاً للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة وبعض
أوزار أو وأوزار من ضل لهم وهو وزر الإضلال، لأن المضل
والضال شريكان، وثبت قوله بغير علم لأبي ذر وسقط له لفظ
الآية.
7321 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ،
عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ
مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ
آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا». وَرُبَّمَا قَالَ
سُفْيَانُ مِنْ دَمِهَا لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ
الْقَتْلَ أَوَّلاً.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا
الأعمش) سليمان بن مهران (عن عبد الله بن مرة) بضم الميم
وفتح الراء مشددة الخارفي (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن
عبد الله) بن مسعود أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ليس من نفس) من بني آدم (تقتل ظلمًا) بضم الفوقية الأولى
وفتح الثانية بينهما قاف ساكنة (إلا كان على ابن آدم
الأوّل) قابيل حيث قتل أخاه هابيل (كفل) بكسر الكاف وسكون
الفاء نصيب (منها) قال الحميدي (وربما قال سفيان) بن عيينة
(من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل أوّلاً).
على وجه الأرض من بني آدم وسقط لأبي ذر أوّل من.
وفي الحديث الحث على اجتناب البدع والمحدثات في الدين لأن
الذي يحدث البدعة ربما تهاون بها لخفة أمرها في الأول ولا
يشعر بما يترتب عليها من المفسدة وهو أن يلحقه إثم من عمل
بها من بعده إذ كان الأصل في إحداثها.
والحديث سبق في خلق آدم.
16 - باب مَا ذَكَرَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ: مَكَّةُ
وَالْمَدِينَةُ وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمِنْبَرِ
وَالْقَبْرِ.
(باب ما ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
بفتح الذال المعجمة والكاف والنبي رفع فاعل (وحض) بحاء
مهملة مفتوحة وضاد معجمة مشددة أي حرض (على اتفاق أهل
العلم). قال في الكواكب في بعض الروايات وما حض عليه من
اتفاق أهل العلم وهو من باب تنازع العاملين وهما ذكر وحض،
(وما أجمع) بهمزة قطع ولأبي ذر عن الكشميهني وما اجتمع
بهمزة وصل وزيادة فوقية بعد الجيم (عليه الحرمان مكة
والمدينة) أي ما اجتمع عليه أهلهما من الصحابة ولم يخالف
صاحب من غيرهما والإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أمر من الأمور
الدينية، بشرط أن يكون بعد وفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فخرج بالمجتهدين العوام وعلم اختصاصه
بالمجتهدين
(10/329)
والاختصاص بهم اتفاق فلا عبرة باتفاق غيرهم
اتفاقًا وعلم عدم انعقاده في حياته -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قوله بعد وفاته، ووجهه أنه إن
وافقهم فالحجة في قوله، وإلا فلا اعتبار لقولهم دونه، وعلم
أن إجماع كلٍّ من أهل المدينة النبوية، وأهل البيت النبوي
وهم فاطمة وعليّ والحسن والحسين -رضي الله عنهم-، والخلفاء
الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ -رضي الله عنهم-،
والشيخين أبي بكر وعمر، وأهل الحرمين مكة والمدينة، وأهل
المصرين الكوفة والبصرة غير حجة لأنه اجتهاد بعض مجتهدي
الأمة لا كلهم خلافًا لمالك في إجماع أهل المدينة، وعبارة
المؤلّف تشعر بأن اتفاق أهل الحرمين كليهما إجماع، لكن قال
في الفتح: لعله أراد الترجيح به لا دعوة الإجماع (وما كان
بها) بالمدينة (من مشاهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- و) مشاهد (المهاجرين والأنصار ومصلّى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عطف على مشاهد
(والمنبر والقبر) معطوفان عليه وفيه تفضيل المدينة بما
ذكر، لا سيما وما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة
ومنبره على حوضه، ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي: وما كان بهما بلفظ التثنية والإفراد
أولى لأن ما ذكره في الباب كله متعلق بالمدينة وحدها. وقال
في الفتح: والتثنية أولى.
7322 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ السَّلَمِىِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَصَابَ الأَعْرَابِىَّ وَعْكٌ
بِالْمَدِينَةِ فَجَاءَ الأَعْرَابِىُّ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِى بَيْعَتِى، فَأَبَى رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ
جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِى بَيْعَتِى فَأَبَى ثُمَّ
جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِى بَيْعَتِى فَأَبَى، فَخَرَجَ
الأَعْرَابِىُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ
تَنْفِى خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) هو ابن أنس بالإحرام (عن محمد بن المنكدر
عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام بمهملة وراء
(السلمي) بفتحتين الأنصاري صحابي ابن صحاي غزا تسع عشرة
غزوة -رضي الله عنهما- (أن أعرابيًّا) قيل اسمه قيس بن أبي
حازم وردّ بأنه تابعي كبير لا صحابي أو هو قيس بن حازم
المنقري الصحابي (بايع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو
وسكون العين حمى (بالمدينة فجاء الأعرابي إلى رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط قوله إلى في
رواية الكشميهني فرسول نصب على ما لا يخفى (فقال: يا رسول
الله أقلني بيعتي) على الهجرة أو من المقام بالمدينة
(فأبى) بالموحدة فامتنع (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أن يقيله (ثم جاءه) مرة ثانية (فقال)
يا رسول الله (أقلني بيعتي فأبى) أن يقيله (ثم جاءه)
الثالثة (فقال) يا رسول الله (أقلني بيعتي فأبى) أن يقيله
(فخرج الأعرابي) من المدينة إلى البدو (فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إنما المدينة كالكير) الذي ينفخ به النار أي الموضع
المشتمل عليها (تنفي خبثها) بفتح الفوقية وسكون النون وكسر
الفاء وخبثها بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة ما يثيره من
الوسخ (وينصع) بالتحتية وسكون النون بعدها صاد فعين
مهملتان ويخلص (طيبها) بكسر الطاء والتخفيف والرفع فاعل
ينصع ولأبي ذرّ تنصع بالفوقية طيبها بالنصب على المفعولية،
كذا في الفرع كأصله طيبها بالتخفيف وكسر أوّله في
الروايتين وبه ضبط القزاز، لكنه استشكله فقال: لم أر
للنصوع في الطيب ذكرًا، وإنما الكلام يتضوع بالضاد المعجمة
وزيادة الواو الثقيلة.
ومرّ الحديث في فضل المدينة في أواخر الحج وفي الأحكام
ومطابقته لما ترجم به هنا من جهة الفضيلة التي اشتمل على
ذكرها كلٍّ منهما.
7323 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
حَدَّثَنِى ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ:
كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَلَمَّا
كَانَ آخِرَ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بِمِنًى: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ فُلاَنًا
يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا
فُلاَنًا فَقَالَ عُمَرُ لأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ
فَأُحَذِّرَ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ
الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ قُلْتُ: لاَ
تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ
يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ فَأَخَافُ أَنْ لاَ
يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ
مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ
الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصُ بِأَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ
وَيُنَزِّلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ
لأَقُومَنَّ بِهِ فِى أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ
بِالْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَقِّ
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ
آيَةُ الرَّجْمِ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
عبد الواحد) بن زياد قال: (حدّثنا معمر) بسكون العين بين
فتحتين ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عبيد الله)
بضم العين (ابن عبد الله) بن عتبة بن مسعود أنه قال:
(حدّثني) بالإفراد (ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت
أُقرئ) بضم الهمزة وسكون القاف من الإقراء (عبد الرحمن بن
عوف) القرآن، وقول الدارمي معنى أقرئ رجالاً أي أتعلم منهم
من القرآن لأن ابن عباس كان عند وفاة النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما حفظ المفصل من المهاجرين
والأنصار، وتعقب بأنه خروج عن الظاهر بل عن النص لأن قوله
أقرئ معناه أعلم. قال في الفتح: ويؤيده أن في رواية ابن
إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري كنت أختلف إلى عبد
الرحمن بن عوف ونحن بمنى مع عمر بن الخطاب أعلم عبد الرحمن
(10/330)
بن عوف القرآن أخرجه ابن أبي شيبة وقد كان
ابن عباس ذكيًّا سريع الحفظ وكان كثير من الصحابة
لاشتغالهم بالجهاد لم يستوعبوا القرآن حفظًا وكان من اتفق
له ذلك يستدركه بعد الوفاة النبوية فكانوا يعتمدون على
نجباء الأبناء فيقرئونهم تلقينًا للحفظ (فلما كان آخر حجة
حجها عمر) -رضي الله عنه- سنة ثلاث وعشرين (فقال عبد
الرحمن) بن عوف (بمنى) بالتنوين وكسر الميم (لو شهدت أمير
المؤمنين أتاه رجل) لشهدت عجبًا فجواب لو محذوف أو كلمة لو
للتمني فلا تحتاج إلى جواب ولم أعرف اسم الرجل وفي باب رجم
الحبلى من الزنا من الحدود قال: كنت أقرئ رجالاً من
المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينا أنا في منزله بمنى
وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إليّ عبد
الرحمن فقال لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم (قال)
ولأبي ذر فقال (إن فلانًا) لم أقف على اسمه أيضًا (يقول:
لو مات أمير المؤمنين) عمر (لبايعنا فلانًا) يعني طلحة بن
عبيد الله أو عليًّا (فقال عمر: لأقومن العشية فاحذر)
بالنصب ولأبي ذر بالرفع وللكشميهني فلأحذر (هؤلاء الرهط
الذين يريدون أن يغصبوهم) بفتح التحتية وسكون المعجمة وكسر
المهملة أي يقصدون أمورًا ليست من وظيفتهم ولا مرتبتهم
فيريدون أن يباشروها بالظلم والغصب قال عبد الرحمن (قلت):
يا أمير المؤمنين (لا تفعل) ذلك (فإن الموسم يجمع رعاع
الناس) بفتح الراء والعين المهملة وبعد الألف أخرى جهلتهم
وأراذلهم (يغلبون) ولأبي ذر عن الكشميهني: ويغلبون (على
مجلسك) يكثرون فيه (فأخاف أن لا ينزلوها) بضم التحتية وفتح
النون وكسر الزاي مشددة وبسكون النون أي مقالتك (على
وجهها) وللكشميهني وجوهها (فيطير بها) بضم التحتية وكسر
الطاء المهملة وسكون التحتية (كل مطير) بضم الميم مع
التخفيف أي فينقلها كل ناقل بالسرعة من غير تأمل ولا ضبط
ولأبي الوقت فيطيرها بتشديد التحتية (فأمهل) بهمزة قطع
وكسر الهاء (حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة)
بالنصب على البدلية من المدينة (فتخلص) بضم اللام والنصب
لأبي ذر ولغيره بالرفع أي حتى تقدم المدينة فتصل (بأصحاب
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من
المهاجرين والأنصار فيحفظوا) بالفاء ولأبي الوقت ويحفظوا
بالواو (مقالتك وينزلوها) بالتخفيف والتشديد (على وجهها.
فقال) عمر -رضي الله عنه-: (والله لأقومن به في أوّل مقام
أقومه بالمدينة).
(قال ابن عباس) بالسند السابق (فقدمنا المدينة) فجاء عمر
يوم الجمعة حين زاغت الشمس فجلس على المنبر فلما سكت
المؤذن قام (فقال) بعد أن أثنى على الله بما هو أهله (إن
الله بعث محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل) فيه فتح همزة
أنزل (آية الرجم). بنصب آية وهي قوله مما نسخ لفظه: الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، ولأبي ذر: أنزل بضم
الهمزة وكسر الزاي آية الرجم بالرفع وسقطت التصلية بعد
قوله إن الله بعث محمدًا في رواية أبي ذر.
ومطابقة الحديث للترجمة من وصف المدينة بدار الهجرة
والسُّنّة ومأوى المهاجرين والأنصار.
والحديث أورده هنا باختصار وسبق في باب رجم الحبلى من
الزنا من الحدود مطوّلاً.
7324 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كُنَّا
عِنْدَ أَبِى هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ
مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ فَقَالَ: بَخٍ
بَخٍ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَتَمَخَّطُ فِى الْكَتَّانِ
لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَإِنِّى لأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ
مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَىَّ
فَيَجِىءُ الْجَائِى، فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِى
وَيُرَى أَنِّى مَجْنُونٌ وَمَا بِى مِنْ جُنُونٍ مَا بِى
إِلاَّ الْجُوعُ.
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا
حماد) هو ابن زيد (عن أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن
سيرين أنه (قال: كنا عند أبي هريرة) -رضي الله عنه- (وعليه
ثوبان ممشقان) بضم الميم الأولى وفتح الثانية والمعجمة
المشددة والقاف مصبوغان بالمشق بكسر الميم وفتحها وسكون
الشين بالطين الأحمر (من كتان) والواو في قوله وعليه للحال
(فتمخط) أي استنثر (فقال: بخ بخ) بموحدة مفتوحة وتضم فخاء
معجمة ساكنة فيهما مخففة وتشدد كلمة تقال عند المدح والرضا
بالشيء وقد تكون للمبالغة (أبو هريرة يتمخط في الكتان لقد
رأيتني) أي لقد رأيت نفسي (وإني لأخرّ) أسقط (فيما بين
منبر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى
حجرة عائشة) -رضي الله عنها- حال كوني
(10/331)
(مغشيًا) بفتح الميم وسكون الغين المعجمة
أي مغمى (عليّ) بتشديد الياء من الجوع وللحموي والمستملي
عليه بالهاء (فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي) وللحموي
والمستملي على عنقه (ويرى) بضم التحتية ويظن (أني مجنون و)
الحال (ما بي جنون ما بي إلا الجوع). والغرض من الحديث هنا
قوله: وإني لأخِرُّ فيما بين المنبر والحجرة. وقال ابن
بطال عن المهلب: وجه دخوله في الترجمة الإشارة إلى أنه لما
صبر على الشدة التي أشار إليها من أجل ملازمة النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في طلب العلم جوزي
بما انفرد به من كثرة محفوظه ومنقوله من الأحكام وغيرها،
وذلك ببركة صبره على المدينة.
والحديث أخرجه الترمذي في الزهد.
7325 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ:
سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
نَعَمْ وَلَوْلاَ مَنْزِلَتِى مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ مِنَ
الصِّغَرِ، فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِى عِنْدَ دَارِ
كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ وَلَمْ
يَذْكُرْ أَذَانًا وَلاَ إِقَامَةً، ثُمَّ أَمَرَ
بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَ النِّسَاءُ يُشِرْنَ إِلَى
آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ فَأَمَرَ بِلاَلاً
فَأَتَاهُنَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري
قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن عبد الرحمن بن عابس)
بالعين المهملة وبعد الألف موحدة مكسورة فمهملة ابن ربيعة
النخعي أنه (قال: سئل ابن عباس) -رضي الله عنهما- بضم
السين وكسر الهمزة (أشهدت) بهمزة الاستفهام أي أحضرت
(العيد) أي صلاته (مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-؟ قال: نعم ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر)
أي ما حضرت العيد وسبق في باب العلم الذي بالمصلّى من
العيدين: ولولا مكاني من الصغر ما شهدته وهو يدل على أن
الضمير في قوله منه يعود على غير المذكور وهو الصغر، ومشى
بعضهم على ظاهر ذلك السياق: فقال: إن الضمير يعود على
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والمعنى لولا
منزلتي من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما
شهدت معه العيد وهو متجه، لكن السياق يخالفه وفيه نظر لأن
الغالب أن الصغر في مثل هذا يكون مانعًا لا مقتضيًا فلعل
فيه تقديمًا وتأخيرًا، ويكون قوله من الصغر متعلقًا بما
بعده فيكون المعنى لولا منزلتي من النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما حضرت معه لأجل صغري ويمكن حمله على
ظاهره وأراد بشهوده ما وقع من وعظه للنساء لأن الصغر يقتضي
أن يغتفر له الحضور معهن بخلاف الكبر (فأتى) عليه الصلاة
والسلام (العلم) بفتحتين (الذي عند دار كثير بن الصلت)
بالمثلثة والصلت بفتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها
فوقية ابن معد يكرب الكندي (فصلّى) عليه الصلاة والسلام
العيد بالناس (ثم خطب ولم) ولأبي ذر فلم بالفاء بدل الواو
(يذكر أذانًا ولا إقامة ثم أمر) عليه الصلاة والسلام
(بالصدقة) وفي العيدين ثم خطب ثم أتى النساء ومعه بلال
فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة (فجعل) ولأبي ذر عن
الكشميهني فجعلن (النساء يشرن) بضم التحتية وكسر المعجمة
وسكون الراء وفي العيدين فرأيتهن يهوين بأيديهن (إلى
آذانهن وحلوقهن فأمر) عليه الصلاة والسلام (بلالاً) يأتيهن
ليأخذ منهن ما يتصدقن به (فأتاهن) فجعلن يلقين في ثوبه
الفتخ والخواتيم (ثم رجع) بلال (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: فأتى العلم الذي عند دار
كثير، وقال المهلب فيما ذكره عنه ابن بطال. شاهد الترجمة
قول ابن عباس ولولا مكاني من الصغر ما شهدته لأن معناه أن
صغير أهل المدينة وكبيرهم ونساءهم وخدمهم ضبطوا العلم
معاينة منهم في مواطن العمل من شارعها المبين عن الله
تعالى وليس لغيرهم هذه المنزلة. وتعقب: بأن قول ابن عباس
من الصغر ما شهدته إشارة منه إلى أن الصغر مظنة عدم الوصول
إلى المقام الذي شاهد فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حين سمع كلامه وسائر ما قصّه، لكن لما كان ابن
عمه وخالته أم المؤمنين وصل بذلك إلى المنزلة المذكورة
ولولا ذلك لم يصل ويؤخذ منها نفي التعميم الذي ادعاه
المهلب وعلى تقدير تسليمه فهو خاص بمن شاهد ذلك وهم
الصحابة فلا يشاركهم فيه من بعدهم بمجرد كونه من أهل
المدينة قاله في فتح الباري.
والحديث سبق في الصلاة وفي العيدين.
7326 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -
رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَأْتِى قُبَاءً مَاشِيًا
وَرَاكِبًا.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عبد الله بن دينار) المدني (عن ابن
عمر) مولاه -رضي الله عنهما- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يأتي قباء) بضم القاف ممدودًا وقد
يقصر ويذكر على أنه اسم موضع فيصرف ويؤنث على أنه
(10/332)
اسم بقعة فلا يصرف التأنيث والعلمية أي
يأتي مسجد قباء حال كونه (ماشيًا) مرة (وراكبًا) أخرى وفي
باب من أتى مسجد قباء من أواخر الصلاة يأتي مسجد قباء كل
سبت ماشيًا وراكبًا وللكشميهني راكبًا ماشيًا بالتقديم
والتأخير. قال المهلب: المراد معاينة النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماشيًا وراكبًا في قصده مسجد
قباء وهو مشهد من مشاهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وليس ذلك بغير المدينة.
والحديث مضى في أواخر الصلاة في ثلاثة أبواب متوالية
أوّلها باب مسجد قباء.
7327 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ:
ادْفِنِّى مَعَ صَوَاحِبِى وَلاَ تَدْفِنِّى مَعَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى
الْبَيْتِ فَإِنِّى أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى.
وبه قال: (حدّثنا عبيد بن إسماعيل) الهباري قال: (حدّثنا
أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن
الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت لعبد الله
بن الزبير) بن العوام ابن أسماء أخت عائشة (ادفني) إذا مت
(مع صواحبي) بالتخفيف أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
بالبقيع (ولا تدفني) بفتح الفوقية وكسر الفاء وتشديد النون
(مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في البيت)
في حجرتي التي دفن فيها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وصاحباه (فإني أكره أن أُزكى) بضم الهمزة وفتح
الزاي والكاف المشددة كرهت أن يثنى عليها بما ليس فيها بل
بمجرد كونها مدفونة عنده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وصاحبيه دون سائر أمهات المؤمنين فيظن أنها
خصّت بذلك دونهن لمعنى فيها ليس فيهن، وهذا منها غاية في
التواضع.
7328 - وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ
أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ ائْذَنِى لِى أَنْ أُدْفَنَ مَعَ
صَاحِبَىَّ فَقَالَتْ: إِى وَاللَّهِ، قَالَ: وَكَانَ
الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ
قَالَتْ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا.
(وعن هشام) بالسند السابق مما وصله الإسماعيلي من وجه آخر
(عن أبيه) عروة (أن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (أرسل
إلى عائشة) -رضي الله عنها- قال الحافظ ابن حجر هذا صورته
الإرسال لأن عروة لم يدرك زمن إرسال عمر إلى عائشة لكنه
محمول على أنه حمله عن عائشة فيكون موصولاً (ائذني لي أن
أدفن) بضم الهمزة وفتح الفاء (مع صاحبي) النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبي بكر (فقالت: إي) بكسر
الهمزة وسكون التحتية (والله) حرف جواب بمعنى نعم ولا تقع
إلا مع القسم (قال) عروة بن الزبير: (وكان الرجل إذا أرسل
إليها من الصحابة) يسألها أن يدفن معهم وجواب الشرط قوله
(قالت: لا والله لا أوثرهم) بالمثلثة (بأحد أبدًا) أي لا
أتبعهم بدفن أحد. وقال ابن قرقول: هو من باب القلب أي لا
أوثر بهم أحدًا ويحتمل أن يكون لا أثيرهم بأحد أي لا
أنبشهم لدفن أحد والباء بمعنى اللام، واستشكله السفاقسي
بقولها في قصة عمر لأوثرنه على نفسي وأجاب باحتمال أن يكون
الذي آثرته به المكان الذي دفن فيه من وراء قبر أبيها بقرب
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذلك لا ينفي
وجود مكان آخر في الحجرة. والحديث من أفراده.
7329 - حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
بِلاَلٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ ابْنُ
شِهَابٍ: أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ
يُصَلِّى الْعَصْرَ فَيَأْتِى الْعَوَالِىَ وَالشَّمْسُ
مُرْتَفِعَةٌ.
وَزَادَ اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ وَبُعْدُ الْعَوَالِى
أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاَثَةٌ.
وبه قال: (حدّثنا أيوب بن سليمان) أبو بلال قال: (حدّثنا
أبو بكر بن أبي أويس) واسم أبي بكر عبد الحميد وأبي أويس
عبد الله الأصبحي الأعشى (عن سليمان بن بلال) أبي محمد
مولى الصديق (عن صالح بن كيسان) بفتح الكاف المدني أنه قال
(قال ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (أخبرني) بالإفراد
(أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلّي العصر فيأتي
العوالي) بفتح العين والواو المخففة جمع عالية أي المرتفع
من قرى المدينة من جهة نجد (والشمس مرتفعة) أي والحال أن
الشمس مرتفعة. (وزاد الليث) بن سعد الإمام فيما وصله
البيهقي (عن يونس) بن يزيد الأيلي (وبعد العوالي) بضم
الموحدة وسكون العين (أربعة أميال أو ثلاثة) والأميال جمع
ميل وهو ثلث الفرسخ، وقيل هو مد البصر والشك من الراوي.
ومطابقة الحديث للترجمة قيل من قوله فيأتي العوالي لأن
إتيانه إلى العوالي يدل على أن العوالي من جملة مشاهده في
المدينة.
7330 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ الْجُعَيْدِ سَمِعْتُ
السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى
عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ وَقَدْ زِيدَ
فِيهِ.
سَمِعَ القَاسِمُ بْنُ مالِكٍ الجُعَيْدَ.
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن زرارة) بفتح العين في الأول وضم
الزاي وتكرير الراء بينهما ألف الكلابي النيسابوري قال:
(حدّثنا القاسم بن مالك) أبو جعفر المزني الكوفي (عن
الجعيد) بضم الجيم وفتح العين مصغرًا وقد يستعمل مكبرًا
ابن عبد الرحمن بن أويس الكندي المدني أنه قال: (سمعت
السائب بن يزيد) الكندي له ولأبيه صحبة -رضي الله عنهما-
(يقول: كان الصاع) جمعه أصوع بوزن أفلس. قال الجوهري: إن
(10/333)
شئت أبدلت من الواو المضمومة همزة اهـ.
ويقال فيه ايضًا آصع على القلب أي تحويل العين إلى ما قبل
الفاء مع قلب الواو همزة فيجتمع همزتان فتبدل الثانية
ألفًا لوقوعها ساكنة بعد همزة مفتوحة وكان (على عهد النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مدًّا وثلثًا) نصب خبر
كان وللأصيلي وابن عساكر مد وثلث بالرفع على طريق من يكتب
المنصوب بغير ألف. وقال في الكواكب: أو يكون في كان ضمير
الشأن فيرتفع على الخبر (بمدّكم اليوم) وكان الصاع في زمنه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعة أمداد والمد
رطل وثلث رطل عراقي (وقد زيد فيه) أي في الصاع زمن عمر بن
عبد العزيز حتى صار مدًّا وثلث مد من الأمداد العمرية (سمع
القاسم بنُ مالك الجعيد) يشير إلى ما سبق في كفارة الأيمان
عن عثمان بن أبي شيبة عن القاسم حدّثنا الجعيد، وفي رواية
زياد بن أيوب عن القاسم بن مالك قال أخبرنا الجعيد أخرجه
الإسماعيلي وقوله سمع إلى آخره ثابت لأبوي ذر والوقت فقط.
ومناسبة الحديث للترجمة كما في الفتح أن الصاع مما اجتمع
عليه أهل الحرمين بعد العهد النبوي واستمر فلما زاد بنو
أمية في الصاع لم يتركوا اعتبار الصاع النبوي فيما ورد فيه
التقدير بالصاع من زكاة الفطر وغيرها، بل استمروا على
اعتباره في ذلك وإن استعملوا الصاع الزائد في شيء غير ما
وقع التقدير فيه بالصاع كما نبه عليه مالك ورجع إليه أبو
يوسف في القصة المشهورة.
والحديث سبق في الكفارات وأخرجه النسائي.
7331 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ
مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى
طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اللَّهُمَّ
بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِى
صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ». يَعْنِى أَهْلَ الْمَدِينَةِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك)
الإمام (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك)
-رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(اللهم بارك) زد (لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم
ومدهم. يعني) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أهل
المدينة) قال القاضي عياض: ويحتمل أن تكون هذه البركة
دينية وهو ما يتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في
الزكوات والكفارات فيكون بمعنى البقاء لها البقاء الحكم
بها ببقاء الشريعة وثباتها وأن تكون دنيوية من تكثير المال
والقدر بها حتى يكفي منها ما لا يكفي من غيرها أو ترجع
البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها وإلى كثرة ما
يكال بها من غلاتها وأثمارها أو لاتساع عيش أهلها بعد ضيقه
لما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم بتمليك البلاد والخصب
والريف بالشام والعراق وغيرهما حتى أكثر الحمل إلى
المدينة، وفي هذا كله ظهور إجابة دعوته -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقبولها اهـ.
ورجح النووي كونها في نفس المكيل بالمدينة بحيث يكفي المدّ
فيها من لا يكفيه في غيرها. وقال الطيبي: ولعل الظاهر هو
قول القاضي أو لاتساع عيش أهلها إلى آخره لأنه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: وأنا أدعوك للمدينة بمثل
ما دعاك لمكة ودعاء إبراهيم هو قوله: {فاجعل أفئدة من
الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}
[إبراهيم: 37] يعني وارزقهم من الثمرات بأن تجلب إليهم من
البلاد لعلهم يشكرون النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات في
وادٍ ليس فيه لحم ولا شجر ولا ماء، لا جرم أن الله عز وجل
أجاب دعوته فجعله حرفًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء
رزقًا من لدنه، ولعمري إن دعاء حبيب الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استجيب لها وضاعف خيرها على خيرها بأن
جلب إليها في زمن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم من
مشارق الأرض ومغاربها من كنوز كسرى وقيصر وخاقان ما لا
يحصى ولا يحصر، وفي آخر الأمر يأرز الدين إليها من أقاصي
الأراضي وشاسع البلاد وينصر هذا التأويل قوله في حديث أبي
هريرة: أمرت بقرية تأكل القرى ومكة أيضًا من مأكولها اهـ.
ومطابقة الحديث للترجمة كالذي قبله كما لا يخفى وسبق في
البيوع والكفارات وأخرجه مسلم والنسائي.
7332 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا
فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ
الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) أبو إسحاق القرشي
الخزامي المدني قال: (حدّثنا أبو ضمرة) أنس بن عياض المدني
قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) صاحب المغازي (عن نافع) مولى
ابن عمر (عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن اليهود) من
خيبر
(10/334)
وذكر الطبري وغيره كما مر في المحاربين أن
منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسعد وسعيد بن عمرو ومالك بن
الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم (جاؤوا إلى النبي) وسقط
لفظ إلى لأبي ذر عن المستملي فالتالي منصوب (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برجل) لم يسم (وامرأة) اسمها
بسرة بضم الموحدة وسكون المهملة (زنيا) وكانا محصنين
(فأمر) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بهما)
بالزانيين (فرجما قريبًا من حيث توضع الجنائز) بضم الفوقية
وفتح الضاد المعجمة بينهما واو ساكنة ولأبي ذر عن المستملي
حيث موضع الجنائز بميم مفتوحة بدل الفوقية والجنائز جر
بالإضافة (عند المسجد) النبوي.
ومطابقته للترجمة في قوله حيث توضع الجنائز إذ هي من
المشاهد الكريمة المصرح بها في قوله ومصلّى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وسبق الحديث بأتم من هذا في المحاربين في باب أحكام أهل
الذمة.
7333 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ عَنْ
عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -
رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: «هَذَا
جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّى أُحَرِّمُ مَا
بَيْنَ لاَبَتَيْهَا».
تَابَعَهُ سَهْلٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى أُحُدٍ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) إمام دار الهجرة ابن أنس الأصبحي (عن
عمرو) بفتح العين ابن أبي عمرو ميسرة (مولى المطلب) المدني
أبي عثمان (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طلع) أي بدا (له
أُحد) الجبل المشهور عند رجوعه من حنين سنة ست أو سبع
(فقال):
(هذا) مشيرًا إلى أُحد (جبل يحبنا) حقيقة بأن يخلق الله
تعالى فيه الإدراك والمحبة (ونحبه) إذ جزاء المحبة المحبة
وقيل إنه محمول على المجاز أي يحبنا أهله ونحب أهله وهم
الأنصار، أو المراد نحب أُحدًا بأهله لأنه في أرض من نحب
والأولى كما في شرح السُّنّة إجراؤه على ظاهره، ولا ينكر
وصف الجمادات بحب الأنبياء والأولياء وأهل الطاعة وهذا هو
المختار الذي لا محيد عنه على أنه يحتمل أنه أراد بالجبل
أرض المدينة كلها، وخص الجبل بالذكر لأنه أوّل ما يبدو من
أعلامها لقوله أوّلاً في الحديث طلع له أُحُد وقوله
ثانيًا: (اللهم إن إبراهيم) خليلك (حرم مكة) بتحريمك لها
على لسانه (وإني أحرم ما بين لابتيها) أي لابتي المدينة
تثنية لابة وهي الحرة إذ المدينة بين حرتين إلى معنى الأول
يلمح قول بلال:
وهل يبدون لي شامة وطفيل
وليس المتمنى ظهور هذين الجبلين بل لأنهما من أعلام مكة.
والحديث مرّ في الجهاد في باب فضل الخدمة في الغزو وفي
أحاديث الأنبياء وآخر غزوة أُحُد.
(تابعه) أي تابع أنس بن مالك (سهل) بفتح السين المهملة ابن
سعد (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في)
قوله (أُحُد) جبل يحبنا ونحبه لا في قوله اللهم إن إبراهيم
إلى آخره.
وسبق هذا معلمًا عن سليمان بلفظ. وقال سليمان عن سعد بن
سعيد عن عُمارة بن غزية عن عباس عن أبيه، عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (أحُد جبل يحبنا ونحبه)
وعباس هو ابن سهل بن سعد المذكور.
7334 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو
غَسَّانَ، حَدَّثَنِى أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ أَنَّهُ
كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِى
الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ.
وبه قال: (حدّثنا ابن أبي مريم) هو سعيد بن محمد بن الحكم
بن أبي مريم البصري قال: (حدّثنا أبو غسان) بالغين المعجمة
المفتوحة والسين المهملة المشدّدة محمد بن مطرف قال:
(حدّثني) بالإفراد (أبو حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمة
بن دينار الأعرج (عن سهل) بفتح السين ابن سعد الساعدي -رضي
الله عنه- (أنه كان بين جدار المسجد) النبوي (مما يلي
القبلة وبين المنبر ممرّ الشاة). أي موضع مرورها وهو
بالرفع على أن كان تامة أو ممر اسم كانت بتقدير نحو قدر
والظرف الخبر، وفي باب قدركم ينبغي أن يكون بين المصلي
والسترة أوائل كتاب الصلاة. عن سهل قال: كان بين مصلّى
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين
الجدار ممر شاة.
7335 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِىٍّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِىٍّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ،
عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ
عَاصِمٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا بَيْنَ
بَيْتِى وَمِنْبَرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ
وَمِنْبَرِى عَلَى حَوْضِى».
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم ابن
بحر بن كثير بالنون والزاي أبو حفص الباهلي الفلاس الصيرفي
البصري قال: (حدّثني عبد الرحمن بن مهدي) بفتح الميم وكسر
الدال بينهما هاء ساكنة ابن حسان الحافظ أبو سعيد البصري
اللؤلؤي قال: (حدّثنا مالك) الإمام الأعظم (عن خبيب بن عبد
الرحمن) بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة الأولى الأنصاري
المدني (عن حفص بن عاصم) أي ابن عمر بن الخطاب (عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ
(10/335)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ما بين بيتي) أي قبري
وهو في منزله (ومنبري روضة من رياض الجنة) مقتطعة منها
كالحجر الأسود أو تنقل إليها كالجذع الذي حنّ إليه صلوات
الله وسلامه عليه أو هو مجاز بأن يكون من إطلاق المسبب على
السبب لأن ملازمة ذلك المكان للعبادة سبب في نيل الجنة
وفيه نظر سبق في آخر الحج (ومنبري على حوضي) أي يوضع بعينه
يوم القيامة عليه والقدرة صالحة لذلك.
وسبق مزيد لذلك في الحج، ومطابقته هنا ظاهرة والمراد بحوضه
نهر الكوثر الكائن داخل الجنة لا حوضه الذي خارجها المستمد
من الكوثر أو أن له هناك منبرًا على حوضه يدعو الناس عليه
إليه.
7336 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
سَابَقَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بَيْنَ الْخَيْلِ فَأُرْسِلَتِ الَّتِى ضُمِّرَتْ مِنْهَا
وَأَمَدُهَا إِلَى الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ
الْوَدَاعِ، وَالَّتِى لَمْ تُضَمَّرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ
الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ وَأَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
جويرية) بضم الجيم ابن أسماء البصري (عن نافع) مولى ابن
عمر (عن عبد الله) بن عمر -رضي الله عنهما- أنه (قال: سابق
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين الخيل
فأرسلت) الخيل (التي ضمرت) بضم الضاد المعجمة وتشديد الميم
مكسورة وأرسلت بضم الهمزة والتضمير هو أن تعلف الفرس حتى
تسمن ثم ترد إلى القوت وذلك في أربعين يومًا. وقال
الخطابي: تضمير الخيل أن يظاهر عليها بالعلف مدة ثم تغشى
بالجلال ولا تعلف إلا قوتًا حتى تعرق فتذهب كثرة لحمها،
ولأبي ذر عن الكشميهني: فأرسل بفتح الهمزة أي فأرسل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الخيل التي ضمرت
(منها) من الخيول (وأمدها) بفتح الهمزة والميم المخففة
غايتها (إلى الحفياء) بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء
بعدها تحتية مهموز ممدود موضع بينه وبين المدينة خمسة
أميال أو ستة، وسقطت (إلى) لأبي ذر فالحفياء رفع (إلى ثنية
الوداع) بفتح الواو (والتي لم تضمر أمدها) غايتها (ثنية
الوداع إلى مسجد بني زريق) من الأنصار وزيد في المسافة
للمضمرة لقوّتها وقصر منها لما لم يضمر لقصورها عن شأو ذات
التضمير ليكون عدلاً بين النوعين وكله إعداد للقوّة في
إعزاز كلمة الله امتثالاً لقوله تعالى: {وأعدّوا لهم ما
استطعتم} [الأنفال: 60] (وإن عبد الله) بن عمر -رضي الله
عنهما- (كان فيمن سابق) قال المهلب: فيما نقله عنه ابن
بطال في حديث سهل في مقدار ما بين الجدار والمنبر سُنّة
متّبعة في موضع المنبر ليدخل إليه من ذلك الموضع، ومسافة
ما بين الحفياء، والثنية لمسابقة الخيل سُنّة متّبعة أي
يكون ذلك سُنّة متّبعة وأمدًا للخيل المضمرة عند السباق.
والحديث سبق في الصلاة في باب هل يقال مسجد بني فلان وسقط
لأبي ذر من قوله وأمدها إلى آخره وثبت لغيره.
7337 - : حَدّثَنَت قُتَيْبَةُ، عَنْ لَيْث، عَنْ نافِعٍ،
عَنْ ابْنِ عُمَرَ ح.
وَحَدَّثَنِى إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عِيسَى وَابْنُ
إِدْرِيسَ، وَابْنُ أَبِى غَنِيَّةَ، عَنْ أَبِى حَيَّانَ،
عَنِ الشَّعْبِىِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما -
قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد (عن ليث) هو ابن سعد
الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر) عبد الله بهذا
وهذا الطريق كما قال في فتح الباري يتعلق بالمسابقة فهو
متابعة لرواية جويرية بن أسماء السابقة عن نافع (ح)
للتحويل قال المؤلّف.
(وحدّثني) بالواو والإفراد ولأبي ذر: حدّثنا بسقوط الواو
وبالجمع (إسحاق) هو ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه كما
جزم به أبو نعيم والكلاباذي وغيرهما قال: (أخبرنا عيسى) بن
يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي
(وابن إدريس) هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الكوفي (وابن
أبي غنية) بفتح الغين المعجمة وكسر النون وتشديد التحتية
المفتوحة هو يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية الكوفي
الأصبهاني الأصل ثلاثتهم (عن أبي حيان) بفتح الحاء
المهملة والتحتية المشدّدة وبعد الألف نون يحيى بن سعيد بن
حيان التيمي تيم الرباب (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن
ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: سمعت عمر) بن الخطاب
(على منبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
وسبق تمامه في الأشربة في باب ما جاء في أن الخمر ما خامر
العقل فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء
العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر
العقل الحديث ففي سياق المؤلّف له هنا فيه إجحاف في
الاختصار، ولذا استشكل سياقه مع سابقه بعض الشراح فظن أن
سياق حديث قتيبة السابق لهذا الحديث الذي هو حديث ابن عمر
عن عمر المختصر من حديث الأشربة هذا. قال في الفتح: وهو
غلط فاحش
(10/336)
فإن حديث عمر من أفراد الشعبي عن ابن عمر
عن عمر، وسبب هذا الغلط ما ذكرته من المبالغة في الاختصار
فلو قال بعد قوله في حديث قتيبة بعد قوله عن ابن عمر بهذا
كما ذكرته لارتفع الإشكال كذا قرره في الفتح فليتأمل، فإن
ظاهر التحويل يُشعِر بأن السابق للاحق وإن لم يكن بلفظه
على ما هي عادة المؤلّف وغيره. وقال العيني بعد إيراده
لذلك أخرجه من طريقين أحدهما عن قتيبة والآخر عن إسحاق،
وقد سقط قوله حدّثنا قتيبة إلى قوله حدّثني إسحاق لغير
كريمة وثبت لها.
7338 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، أَخْبَرَنِى السَّائِبُ بْنُ
يَزِيدَ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطَبَنَا عَلَى
مِنْبَرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (السائب بن يزيد) الصحابيّ
-رضي الله عنه- أنه (سمع عثمان بن عفان) -رضي الله عنه-
حال كونه (خطيبًا) وفي رواية خطبنا بنون المتكلم مع غيره
بلفظ الماضي وهو الذي في اليونينية أي خطبنا عثمان (على
منبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
وهذا حديث أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال من وجه آخر عن
الزهري فزاد فيه يقول هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين
فليؤدّه.
7339 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ أَنَّ
هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يُوضَعُ لِى وَلِرَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الْمِرْكَنُ
فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة
المشدّدة أبو بكر العبدي مولاهم الحافظ بندار قال: (حدّثنا
عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي بالسين المهملة البصري
قال: (حدّثنا هشام بن حسان) القردوسي بضم القاف والدال
المهملة بينهما راء ساكنة وبسين مهملة مكسورة الأزدي
مولاهم الحافظ (أن هشام بن عروة حدّثه عن أبيه) عروة بن
الزبير (أن عائشة) -رضي الله عنها- (قالت: كان) ولأبي ذر
قد كان (يوضع لي ولرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- هذا المركن) بكسر الميم وفتح
الكاف بينهما راء ساكنة بعدها نون الإجانة التي يغسل فيها
الثياب قاله الكرماني وغيره، وقال الخليل: شبه تور من أدم،
وقال غيره شبه حوض من نحاس. قال في الفتح: وأبعد من فسره
بالإجانة بكسر الهمزة وتشديد الجيم ثم نون لأنه فسر الغريب
بمثله والإجانة هي القصرية بكسر القاف. قال العيني
متعقبًا، قال ابن الأثير: المركن الإجانة التي يغسل فيها
الثياب والميم زائدة وكذا فسره الأصمعي (فنشرع فيه جميعًا)
أي نتناول منه بغير إناء.
وسبق في باب غسل الرجل مع امرأته من كتاب الغسل قالت: كنت
أغتسل أنا والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من
إناء واحد من قدح يقال له الفرق. قال ابن بطال فيما حكاه
في الفتح فيه سُنّة متّبعة لبيان مقدار ما يكفي الزوج
والمرأة إذا اغتسلا.
7340 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ
عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: حَالَفَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بَيْنَ الأَنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِى دَارِى
الَّتِى بِالْمَدِينَةِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال (حدّثنا عباد بن
عباد) بفتح العين والموحدة المشددة فيهما ابن حبيب بن
المهلب المهلبي أبو معاوية من علماء البصرة قال (حدّثنا
عاصم الأحول) بن سليمان أبو عبد الرحمن البصري الحافظ (عن
أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: حالف) بالحاء المهملة
وباللام المفتوحة بعدها فاء أي عاقد (النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين الأنصار) من الأوس
والخزرج (وقريش) من المهاجرين على التناصر والتعاضد (في
داري التي بالمدينة). وهذا موضع الترجمة وهو آخر هذا
الحديث والتالي حديث آخر وهو قوله:
7341 - وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ
بَنِى سُلَيْمٍ.
(وقنت) عليه الصلاة والسلام (شهرًا) بعد الركوع (يدعو على
أحياء) بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة (من بني سليم).
بضم السين وفتح اللام لأنهم غدروا بالقراء وقتلوهم وكانوا
سبعين من أهل الصفة يتفقرون العلم ويتعلمون القرآن وكانوا
ردءًا للمسلمين إذا نزلت بهم نازلة وكانوا حقًّا عمار
المسجد وليوث الملاحم ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد
الأنصاري من بني النجار فإنه تخلص وبه رمق فعاش حتى استشهد
يوم الخندق وكان ذلك في السنة الرابعة. وفي رواية بالمغازي
قنت شهرًا في صلاة الصبح يدعو على أحياء من أحياء العرب
على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، وساق المؤلّف هنا حديثين
اختصرهما وسبق كلٌّ منهما بأتم مما ذكره هنا.
7342 - حَدَّثَنِى أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ عَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ:
قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَلاَمٍ فَقَالَ لِى انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ
فَأَسْقِيَكَ فِى قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتُصَلِّى فِى
مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَسَقَانِى
سَوِيقًا وَأَطْعَمَنِى تَمْرًا وَصَلَّيْتُ فِى
مَسْجِدِهِ.
وبه قال: (حدّثني) ولأبي ذر بالجمع (أبو كريب) بضم الكاف
محمد بن العلاء قال: (حدّثنا أبو أسامة) بضم الهمزة حماد
بن أسامة
(10/337)
قال: (حدّثنا بريد) بضم الموحدة وفتح الراء
ابن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري (عن أبي
بردة) بضم الموحدة عامر أو الحارث أنه (قال: قدمت المدينة)
طيبة (فلقيني عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام وعند عبد
الرزاق من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: أرسلني أبي
إلى عبد الله بن سلام لأتعلم منه فسألني من أنت فأخبرته
فرحب بي. (فقال لي: انطلق إلى المنزل) أي انطلق معي إلى
منزلي فأل بدل من المضاف إليه (فأسقيك) بالنصب (في قدح شرب
فيه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتصلي
في مسجد صلّى فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فانطلقت معه) إلى منزله (فسقاني) ولأبي ذر
فأسقاني بهمزة مفتوحة بعد الفاء (سويقًا وأطعمني تمرًا
وصليت في مسجده) وفي المناقب فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا
وتمرًا وتدخل في بيت بالتنكير للتعظيم لدخول رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه.
7343 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا
عَلِىُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى
كَثِيرٍ حَدَّثَنِى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
عُمَرَ - رضى الله عنه - حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَنِى
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ
أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى وَهْوَ بِالْعَقِيقِ
أَنْ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ وَقُلْ
عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ. وَقَالَ هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنَا عَلِىٌّ عُمْرَةٌ فِى حَجَّةٍ.
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن الربيع) بكسر العين أبو زيد
الهروي نسبة لبيع الثياب الهروية قال: (حدّثنا علي بن
المبارك) الهنائي (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة الإمام
أبي نصر اليمامي الطائي مولاهم أحد الأعلام أنه قال:
(حدّثني) بالإفراد (عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس)
-رضي الله عنهما- ولأبي ذر قال حدّثني بالإفراد ابن عباس
(أن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- حدّثه قال: حدّثني)
بالإفراد (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(أتاني الليلة آتٍ من ربي) ملك أو هو جبريل (وهو بالعقيق)
وادٍ بظاهر المدينة (أن صل) سُنّة الإحرام (في هذا الوادي
المبارك وقل عمرة وحجة) فيه أنه كان قارنًا وروي بالنصب
بفعل مقدّر نحو نويت أو أردت عمرة وحجة.
وسبق الحديث في أوائل الحج.
(وقال هارون بن إسماعيل) أبو الحسن الخزاز بالمعجمات
البصري مما وصله عبد بن حميد في مسنده وعمر بن شبة في
أخبار المدينة كلاهما عنه (حدّثنا علي) هو ابن المبارك
فقال في روايته (عمرة في حجة). أي مدرجة في حجة فخالف سعيد
بن الربع في قوله عمرة وحجة بواو العطف.
7344 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ وَقَّتَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَرْنًا: لأَهْلِ نَجْدٍ وَالْجُحْفَةَ لأَهْلِ
الشَّأْمِ وَذَا الْحُلَيْفَةِ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ:
قَالَ سَمِعْتُ هَذَا مِنَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَبَلَغَنِى أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ»
وَذُكِرَ الْعِرَاقُ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ
يَوْمَئِذٍ.
وبه قال: (حدّثنا محمد يوسف) البيكندي قال: (حدّثنا سفيان)
بن عيينة (عن عبد الله بن دينار) المدني (عن ابن عمر) -رضي
الله عنهما- أنه قال: (وقت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بتشديد القاف أي جعل حدًّا يحرم منه ولا
يتجاوز أو من الوقت على بابه يعني أنه علق الإحرام بالوقت
الذي يكون الشخص فيه في هذه الأماكن فعين (قرنًا) بفتح
القاف وسكون الراء وهو على مرحلتين من مكة (لأهل نجد) بفتح
النون وسكون الجيم بعدها دال مهملة وهو ما ارتفع والمراد
هنا ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق (و) عين (الجحفة)
بالجيم المضمومة والحاء المهملة الساكنة بعدها فاء قرية
على خمس أو ست مراحل من مكة (لأهل الشام) زاد النسائي ومصر
(وذا الحليفة) بضم الحاء المهملة وبالفاء مصغرًا مكان بينه
وبين مكة مئتا ميل غير ميلين وبين المدينة ستة أميال (لأهل
المدينة) النبوية فأل في المدينة للغلبة كالعقبة لعقبة
أيلة والبيت للكعبة (قال) ابن عمر (سمعت هذا من النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وبلغني أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ولأهل اليمن
يلملم) بفتح اللامين والتحتية وسكون الميم الأولى جبل من
جبال تهامة على ليلتين من مكة والياء فيه بدل من همزة ولا
يقدح فيه قوله بلغني إذ هو عمن لم يعرف لأنه إنما يروى عن
صحابي وهم عدول (وذكر العراق) بضم الذال مبنيًّا للمجهول
(فقال) ابن عمر: (لم يكن عراق يومئذٍ) أي لم يكن أهل
العراق في ذلك الوقت مسلمين حتى يوقت لهم عليه الصلاة
والسلام ميقاتًا.
وسبق الحديث في أوائل الحج.
7345 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ
حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ
حَدَّثَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَنَّهُ أُرِىَ وَهْوَ فِى مُعَرَّسِهِ بِذِى
الْحُلَيْفَةِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ
مُبَارَكَةٍ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الرحمن بن المبارك) العيشي بالتحتية
والمعجمة الطفاوي البصري قال: (حدّثنا الفضيل، بضم الفاء
وفتح الضاد المعجمة ابن سليمان النميري قال: (حدّثنا موسى
بن عقبة) مولى آل الزبير الإمام في المغازي قال: (حدّثني)
بالإفراد (سالم بن عبد الله عن أبيه) عبد الله بن عمر -رضي
الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه أُري) بضم الهمزة وكسر الراء (وهو في
معرّسه) بضم الميم وفتح العين المهملة
(10/338)
والراء المشددة منزله الذي كان فيه آخر
الليل (بذي الحليفة) في المنام (فقيل) بالفاء، ولأبي ذر عن
الكشميهني وقيل (له) عليه الصلاة والسلام: (إنك ببطحاء
مباركة). والحديث سبق في أوائل الحج.
ومطابقته للترجمة ظاهرة لمن تأملها والله الموفق والمعين
ومراده من سياق أحاديث هذا الباب تقديم أهل المدينة في
العلم على غيرهم في العصر النبوي، ثم بعده قبل تفرق
الصحابة في
الأمصار ولا سبيل إلى التعميم كما لا يخفى والله تعالى
يعين على الإتمام ويمنّ بالإخلاص والنفع أستودعه تعالى ذلك
فإنه لا يخيب ودائعه وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم.
17 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأَمْرِ شَىْءٌ} [آل عمران: 128]
(باب في قول الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران:
128]) اسم ليس شيء والخبر لك ومن الأمر حال من شيء لأنه
صفة مقدمة أو يتوب عليهم عطف على ليقطع طرفًا من الذين
كفروا أو يكبتهم وليس لك من الأمر شيء اعتراض بين المعطوف
والمعطوف عليه.
7346 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ
عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِى صَلاَةِ
الْفَجْرِ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ:
«اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فِى الأَخِيرَةِ».
ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا».
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأَمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) السمسار المروزي قال:
(أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا معمر)
بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة ابن راشد (عن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب (عن سالم) مولى ابن عمر (عن ابن عمر)
بن الخطاب -رضي الله عنهما- (أنه سمع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في صلاة الفجر) حال كونه
(رفع) ولأبي ذر ورفع (رأسه من الركوع قال): قال في الكواكب
فإن قلت: أين مقول يقول؟ وأجاب: بأن جعله كالفعل اللازم أي
يفعل القول ويحققه أو هو محذوف اهـ.
وأجاب في الفتح باحتمال أن يكون بمعنى قائلاً ولفظ قال:
المذكور زائد، ويؤيده أنه وقع في تفسير سورة آل عمران من
رواية حبان بن موسى بلفظ: أنه سمع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الركوع في الركعة الأخيرة
من صلاة الفجر يقول: "اللهم" وتعقبه العيني بأنه احتمال لا
يمنع السؤال لأنه وإن كان حالاً فلا بدّ له من مقول ودعواه
زيادة قال غير صحيحة لأنه واقع في محله.
(اللهم ربنا ولك الحمد) بإثبات الواو (في) الركعة
(الأخيرة) ولأبي ذر الآخرة بإسقاط التحتية وقوله في
الكواكب وتبعه في اللامع فإن قلت: ما وجه التخصيص بالآخرة
وله الحمد في الدنيا أيضًا؟ قلت: نعيم الآخرة أشرف فالحمد
عليه هو الحمد حقيقة، أو المراد بالآخرة العاقبة أي مآل كل
الحمود إليك تعقبه في الفتح بأنه ظن أن قوله في الآخرة
متعلق بالجملة وأنه بقية الذكر قاله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الاعتدال وليس هو من كلامه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بل هو من كلام ابن عمر -رضي
الله عنهما- قال ثم ينظر في جمعه الحمد على حمود (ثم قال:
اللهم العن فلانًا وفلانًا) بالتكرار مرتين يريد
صفوان بن أمية وسهيل بن عمير والحارث بن هشام، وقول
الكرماني فلانًا وفلانًا يعني رعلاً وذكوان وهم منه، وإنما
المراد ناس بأعيانهم كما ذكر لا القبائل (فأنزل الله عز
وجل: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم}) أي إن الله
مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن
أسلموا ({أو يعذبهم}) إن أصرّوا على الكفر ليس لك من أمرهم
شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم وعن الفراء أو
بمعنى حتى وعن ابن عيسى إلا أن قولك لألزمنك أو تعطيني حقي
أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم أو
يعذبهم فتتشفى فيهم، وقيل: أراد أن يدعو جمليهم فنهاه الله
تعالى لعلمه أن فيهم من يؤمن ({فإنهم ظالمون} [آل عمران:
128]) مستحقون للتعذيب.
قال ابن بطال دخول هذه الترجمة في كتاب الاعتصام من جهة
دعائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المذكورين
لكونهم لم يذعنوا للإيمان ليعتصموا به من اللعنة، والحديث
سبق في تفسير سورة آل عمران، ومطابقته لما ترجم له هنا
واضحة.
18 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الإِنْسَانُ
أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:
46].
(باب قوله تعالى): وسقط لأبي ذر قوله تعالى: ({وكان
الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54]) جدلاً تمييز أي أكثر
الأشياء التي يتأتى منها الجدال إن فصلتها واحدًا بعد واحد
خصومة ومماراة بالباطل يعني أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل
شيء (وقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي
أحسن} [العنكبوت: 46])
(10/339)
بالخصلة التي هي أحسن وهي مقابلة الخشونة
باللين والغضب بالكظم كما قال: {ادفع بالتي هي أحسن}
[فصلت: 34] إلا الذين ظلموا منهم فأفرطوا في الاعتداء
والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا
معهم الغلظة، وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو الذين أثبتوا الولد
والشريك، وقالوا: {يد الله مغلولة} [المائدة: 64] أو معناه
لا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدّين للجزية إلا بالتي
هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية
فمجادلتهم بالسيف، والآية تدل على جواز المناظرة مع الكفرة
في الدين وعلى جواز تعلم علم الكلام الذي به تتحقق
المجادلة.
7347 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِىِّ ح.
حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَتَّابُ
بْنُ بَشِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِىِّ
أَخْبَرَنِى عَلِىُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ
عَلِىٍّ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِىَّ بْنَ
أَبِى طَالِبٍ قَالَ إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - بِنْتَ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ لَهُمْ أَلاَ تُصَلُّونَ فَقَالَ عَلِىٌّ فَقُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ
فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ: وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ
شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعَهُ وَهْوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ
فَخِذَهُ وَهْوَ يَقُولُ: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ
شَىْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:
يُقَالُ مَا أَتَاكَ لَيْلاً فَهْوَ طَارِقٌ، وَيُقَالُ
الطَّارِقُ: النَّجْمُ، وَالثَّاقِبُ: الْمُضِىءُ.
يُقَالُ: أَثْقِبْ نَارَكَ لِلْمُوقِدِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) بضم المعجمة وفتح المهملة ابن أبي حمزة الحافظ أبو
بشر الحمصي مولى بني أمية (عن الزهري) محمد بن مسلم أبي
بكر أحد الأعلام (ح) مهملة للتحويل من سند إلى آخر قال
البخاري: (حدّثني) بالإفراد بغير واو ولأبي ذر وحدّثني
(محمد بن سلام) بالتخفيف البيكندي الحافظ قال: (أخبرنا
عتاب بن بشير) بفتح العين والفوقية المشددة وبعد الألف
موحدة وبشير بفتح الموحدة وكسر المعجمة الجزري بالجيم
والزاي ثم الراء المكسورة (عن إسحاق) بن راشد الجزري أيضًا
ولفظ الحديث له (عن الزهري) أنه قال: (أخبرني) بالإفراد
(علي بن حسين) بضم الحاء وفتح السين المهملتين ابن علي بن
أبي طالب (أن) أباه (حسين بن علي -رضي الله عنهما- أخبره
أن) أباه (علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: (إن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طرقه وفاطمة
عليها السلام بنت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بنصب فاطمة عطفًا على الضمير المنصوب في طرقه
أي أتاهما ليلاً (فقال لهم): لعليّ وفاطمة ومن معهما
يحضهم.
(ألا) بالتخفيف وفتح الهمزة (تصلون) وفي رواية شعيب بن أبي
حمزة في التهجد فقال لهما: ألا تصليان بالتثنية (فقال علي
فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله) استعارة لقدرته
(فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا) بفتح المثلثة فيهما أن يوقظنا
للصلاة أيقظنا (فانصرف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) مدبرًا (حين قال له) عليّ (ذلك ولم يرجع إليه
شيئًا) أي لم يجبه بشيء. وفيه التفات وفي رواية شعيب
فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئًا (ثم سمعه وهو
مدبر) بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر الموحدة مول
ظهره ولأبي ذرّ وهو منصرف حال كونه (يضرب فخذه) بكسر الخاء
وفتح الذال المعجمتين تعجبًا من سرعة جوابه (وهو) أي
والحال أنه (يقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}) ويؤخذ
من الحديث أن عليًّا ترك فعل الأولى وإن كان ما احتج به
متجهًا، ومن ثم تلا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الآية، ولم يلزمه مع ذلك بالقيام إلى الصلاة
ولو كان امتثل وقام لكان أولى، وفيه أن الإنسان جبل على
الدفاع عن نفسه بالقول والفعل، ويحتمل أن يكون عليّ امتثل
ذلك إذ ليس في القصة تصريح بأن عليًّا امتنع، وإنما أجاب
على ما ذكر اعتذارًا عن ترك القيام لغلبة النوم ولا يمتنع
أنه صلّى عقب هذه المراجعة إذ ليس في الحديث ما ينفيه وفيه
مشروعية التذكير للغافل لأن الغفلة من طبع البشر.
(قال أبو عبد الله) المؤلّف رحمه الله. (يقال ما أتاك
ليلاً فهو طارق) لاحتياجه إلى دق الباب
وسقط قال أبو عبد الله الخ لغير أبي ذر (ويقال: الطارق
النجم والثاقب المضيء) لثقبه الظلام بضوئه (يقال: اثقب)
بكسر القاف وجزم الموحدة فعل أمر (نارك للموقد) بكسر القاف
الذي يوقد النار يشير إلى قوله تعالى: {والسماء والطارق}
[الطارق: 1] الخ. فأقسم بالسماء لعظم قدرها في أعين الخلق
لكونها معدن الرزق ومسكن الملائكة وفيها الجنة وبالطارق،
والمراد جنس النجوم أو جنس الشهب التي يرمي بها لعظم
منفعتها ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل كما يقال للآتي
ليلاً طارق.
7348 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ
سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ بَيْنَا
نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى
يَهُودَ». فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ
الْمِدْرَاسِ فَقَامَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ
أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا». فَقَالُوا: بَلَّغْتَ يَا أَبَا
الْقَاسِمِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ذَلِكَ أُرِيدُ
أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا». فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا
أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ذَلِكَ أُرِيدُ». ثُمَّ
قَالَهَا الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «اعْلَمُوا أَنَّمَا
الأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ
أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ
مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلاَّ
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا الليث) بن
سعد أبو الحارث الإمام مولى بني فهم (عن سعيد) بكسر العين
المقبري (عن أبيه) أبي سعيد كيسان (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- أنه
(10/340)
قال: (بينا) بغير ميم (نحن في المسجد خرج
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر:
النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(انطلقوا إلى يهود. فخرجنا معه) عليه الصلاة والسلام (حتى
جئنا بيت المدراس) بكسر الميم وسكون الدال المهملة وهو
الذي يدرس فيه عالمهم التوراة (فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فناداهم فقال: يا معشر يهود أسلموا)
بكسر اللام (تسلموا) بفتحها الأول من الإسلام والثاني من
السلامة (فقالوا: بلغت) الرسالة ولأبي ذر قد بلغت (يا أبا
القاسم) ولم يذعنوا لطاعته (قال: فقال لهم رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ذلك) أي إقراركم
بالتبليغ (أريد) بضم الهمزة وكسر الراء أقصد وسقط لأبي ذر
قوله لهم رسول الله إلى آخر التصلية: (أسلموا تسلموا.
فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ذلك أريد. ثم قالها)
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
المقالة المذكورة المرة (الثالثة) وكرر للمبالغة في
التبليغ {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] (فقال) عليه
الصلاة والسلام لهم: (اعلموا أنما الأرض لله ورسوله) بفتح
همزة أنما ولأبي ذر ولرسوله (وإني أريد أن أجليكم) بضم
الهمزة وسكون الجيم وكسر اللام أطردكم (من هذه الأرض فمن
وجد منكم بماله) الباء للبدلية أي بدل ماله (شيئًا فليبعه)
جواب من أي من كان له شيء مما لا يمكن نقله فليبعه (وإلاّ)
أي وإن لا تفعلوا ما قلت لكم (فاعلموا أنما الأرض لله
ورسوله) يورثها للمسلمين.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وسبق في الجزية من كتاب
الجهاد.
19 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]
وَمَا أَمَرَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ
الْعِلْمِ
(باب قول الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} [البقرة:
143]) خيارًا، وقيل للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها
الخلل والأوساط محمية قال حبيب:
كانت هي الوسط المحميّ فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت
طرفا
أو عدولاً لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب
من بعض أي: {جعلناكم أمة وسطًا} بين الغلوّ والتقصير فإنكم
لم تغلوا غلوّ النصارى حيث وصفوا المسيح بالألوهية ولم
تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد
الزنا، وسقط لفظ قوله تعالى لأبي ذر (وما أمر النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أمته (بلزوم الجماعة
وهم أهل العلم). المجتهدون.
7349 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو
صَالِحٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ:
هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ فَتُسْأَلُ
أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا جَاءَنَا
مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ شُهُودُكَ فَيَقُولُ
مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ».
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
-قَالَ عَدْلاً- {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ
أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن منصور) أبو يعقوب الكوسج
المروزي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال:
(حدّثنا) ولأبي ذر قال أي قال أبو أسامة قال: (الأعمش)
سليمان بن مهران قال: (حدّثنا أبو صالح) ذكوان الزيات (عن
أبي سعيد الخدري) رضى الله عنه أنه (قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يجاء بنوح) عليه السلام بضم التحتية وفتح الجيم وفي تفسير
سورة البقرة يدعى نوح (يوم القيامة فيقال له: هل بلغت)؟
رسالتي إلى قومك (فيقول: نعم يا رب) بلغتها (فتُسأل أمته)
بضم الفوقية من فتسأل (هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من
نذير. فيقول) تبارك وتعالى له ولأبوي الوقت وذر فيقال (من
شهودك)؟ الذين يشهدون لك أنك بلغتهم (فيقول) نوح يشهد لي
(محمد وأمته فيجاء بكم) ولأبوي الوقت وذر فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيجاء بكم (فتشهدون)
أنه بلغهم (ثم
قرأ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
{وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} -قال) في تفسير وسطًا أي
(عدلاً) {لتكونوا شهداء على الناس} ولأبي ذر عدلاً إلى
قوله: ({لتكونوا شهداء على الناس}) واللام في لتكونوا لام
كي فتفيد العلية أو هي لام الصيرورة وأتى بشهداء الذي هو
جمع شهيد ليدل على المبالغة دون شهيد وشهود جمعي شاهد وفي
على قولان إنها على بابها وهو الظاهر أو بمعنى اللام بمعنى
إنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله
الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ({ويكون
الرسول عليكم شهيدًا} [البقرة: 143]) عطف على لتكونوا أي
يزكيكم ويعلم بعدالتكم والشهادة قد تكون بلا مشاهدة
كالشهادة بالتسامع في الأشياء المعروفة ولما كان الشهيد
كالرقيب جيء بكلمة الاستعلاء، والاستدلال بالآية على أن
الإجماع حجة لأن الله تعالى وصف الأمة بالعدالة والعدل هو
المستحق للشهادة وقبولها
(10/341)
فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله.
والحديث سبق في تفسير سورة البقرة وأحاديث الأنبياء.
قال إسحاق بن منصور: (وعن جعفر بن عون) بفتح العين وبعد
الواو الساكنة نون المخزومي القرشي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر
أخبرنا (الأعمش) سليمان (عن أبي صالح) ذكوان (عن أبي سعيد
الخدري عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بهذا). الحديث. وحاصله أن إسحاق بن منصور شيخ البخاري روى
هذا الحديث عن أبي أسامة بلفظ التحديث وعن جعفر بن عون
بالعنعنة.
20 - باب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ -أَوِ الْحَاكِمُ-
فَأَخْطَأَ خِلاَفَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ
فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ
عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهْوَ رَدٌّ»
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (إذا اجتهد العامل) بتقديم
الميم على اللام أي عامل الزكاة ونحوه ولأبي ذر عن
الكشميهني العالم بتأخيرها أي المفتي (أو الحاكم فأخطأ
خلاف) شرع (الرسول) صلوات الله وسلامه عليه أي مخالفًا
لحكم سنته في أخذ واجب الزكاة أو في قضائه وأو للتنويع (من
غير علم) أي لم يتعمد المخالفة وإنما خالف خطأ (فحكمه
مردود) لا يعمل به (لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وصله
مسلم وكذا سبق في الصلح لكن بلفظ آخر.
واستشكل قوله فأخطأ خلاف الرسول لأن ظاهره مُنافٍ للمراد
لأن من أخطأ خلاف الرسول لا يذم بخلاف من أخطأ وفاقه، ولذا
قال في الكواكب وفي الترجمة نوع تعجرف. وأجاب في الفتح:
بأن الكلام تمّ عند قوله فأخطأ وهو متعلق بقوله اجتهد
وقوله خلاف الرسول أي فقال خلاف الرسول وحذف. قال في
الكلام كثير فأي عجرفة في هذا. قال: ووقع في حاشية نسخة
الدمياطي بخطه الصواب في الترجمة فأخطأ بخلاف الرسول. قال
في الفتح: وليس
دعوى حذف الباء برافع للإشكال بل إن سلك طريق التغيير فلعل
اللام متأخرة ويكون الأصل خالف بدل خلاف وتعقبه العيني بأن
تقديره بقوله قال خلاف الرسول يكون عطفًا على أخطأ. فيؤدي
إلى نفي المقصود الذي ذكرناه الآن اهـ. وسقط لغير أبي ذر
عليه من قوله عليه أمرنا.
7350 - 7351 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَخِيهِ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ
سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ
سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا
سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بَعَثَ أَخَا بَنِى عَدِىٍّ الأَنْصَارِىَّ
وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا»؟ قَالَ:
لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِى
الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ
تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ -أَوْ بِيعُوا
هَذَا- وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ
الْمِيزَانُ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (عن أخيه) أبي بكر
واسمه عبد الحميد بتقديم المهملة على الميم (عن سليمان بن
بلال عن عبد المجيد) بتقديم الميم على الجيم (ابن سهيل بن
عبد الرحمن بن عوف) الزهري المدني بضم سين سهيل وفتح هائه
كذا في الفرع وغيره من النسخ المقابلة على اليونينية
وفرعها في نسخة عن أخيه عن سليمان بن بلال عن عبد المجيد
الخ. قال في الفتح: وذكر أبو علي الجياني أن سليمان سقط من
أصل الفربري فيما ذكر أبو زيد قال: والصواب إثباته فإنه لا
يتصل السند إلا به وقد ثبت كذلك في رواية إبراهيم بن معقل
النسفيّ قال: وكذلك لم يكن في كتاب ابن السكن ولا عند أبي
أحمد الجرجاني. قال الحافظ ابن حجر: وهو ثابت عندنا في
النسخة المعتمدة من رواية أبي ذر عن شيوخه الثلاثة عن
الفربري، وكذا في سائر النسخ التي اتصلت لنا عن الفربري
فكأنها سقطت من نسخة أبي زيد فظن سقوطها من أصل شيخه، وقد
جزم أبو نعيم في مستخرجه بأن البخاري أخرجه عن إسماعيل عن
أخيه عن سليمان وهو يرويه عن أبي أحمد الجرجاني عن الفربري
وأما رواية ابن السكن، فلم أقف عليها اهـ. (أنه سمع سعيد
بن المسيب يحدث أن أبا سعيد الخدري وأبا هريرة) -رضي الله
عنهما- (حدّثناه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بعث أخا بني عدي) أي واحدًا منهم اسمه سواد بن
غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد التحتية
(الأنصاري واستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب) بفتح الجيم
وكسر النون وبعد التحتية الساكنة موحدة نوع من التمر أجود
تمورهم (فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(أكل تمر خير هكذا. قال): ولأبي الوقت فقال: (لا والله يا
رسول الله إنا لنشتري الصاع) من الجنيب (بالصاعين من
الجمع) بفتح الجيم وسكون الميم تمر رديء (فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا تفعلوا) ذلك
(ولكن مثلاً بمثل) بسكون المثلثة فيهما (أو بيعوا هذا
واشتروا بثمنه من هذا) وفي مسلم هو الربا فردّوه
(10/342)
ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا هذا (وكذلك
الميزان) يعني كل ما يوزن فيباع وزنًا بوزن من غير تفاضل
فحكمه حكم المكيلات.
ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن الصحابي اجتهد فيما فعل
فرده النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونهاه عما
فعل وعذره لاجتهاده.
والحديث سبق في البيوع في باب إذا أراد بيع التمر بتمر خير
منه.
21 - باب أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ
أَوْ أَخْطَأَ
(باب أجر الحاكم إذا اجتهد) في حكمه (فأصاب أو أخطأ) فهو
مأجور.
7352 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ المُقْرئُ
المَكِّيُّ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ،
حَدَّثَنِى يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ
بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِى قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ
أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ
ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». قَالَ: فَحَدَّثْتُ
بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. وَقَالَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِى بَكْرٍ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَهُ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يزيد) من الزيادة (المقرئ)
بالهمز (المكي) وسقط المقرئ والمكي لغير أبي ذر قال:
(حدّثنا حيوة) بفتح الحاء المهملة وبعد التحتية الساكنة
واو مفتوحة فهاء تأنيث (ابن شريح) بضم المعجمة وفتح الراء
وبعد التحتية الساكنة مهملة وثبت ابن شريح لأبي ذر وسقط
لغيره وابن شريح هذا هو التجيبي فقيه مصر وزاهدها ومحدثها
له أحوال وكرامات قال: (حدّثني) بالإفراد (يزيد بن عبد
الله بن الهاد) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد
الليثي (عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) التميمي المدني
التابعي ولأبيه صحبة (عن بسر بن سعيد) بكسر العين وبسر بضم
الموحدة وسكون السين المهملة المدني العابد مولى ابن
الحضرمي (عن أن قيس مولى عمرو بن العاص) قال في الفتح،
قاله البخاري: لا يعرف اسمه وتبعه الحاكم أبو أحمد وجزم
ابن يونس في تاريخ مصر بأنه عبد الرحمن بن ثابت وهو أعرف
بالمصريين من غيره ونقل عن محمد بن سحنون أنه سمى أباه
الحكم وخطأه في ذلك، وحكى الدمياطي أن اسمه سعد وعزاه
لمسلم في الكنى. قال الحافظ ابن حجر: وقد راجعت نسخًا في
الكنى لمسلم فلم أر ذلك فيها وما لأبي قيس في البخاري إلا
هذا الحديث (عن عمرو بن العاص) -رضي الله عنه- (أنه سمع
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(إذا حكم الحاكم فاجتهد) أي إذا أراد الحاكم أن يحكم فعند
ذلك يجتهد لأن الحكم متأخر عن الاجتهاد فلا يجوز الحكم قبل
الاجتهاد اتفاقًا، ويحتمل كما في الفتح أن تكون الفاء في
قوله فاجتهد تفسيرية لا تعقيبية (ثم أصاب) بأن وافق ما في
نفس الأمر من حكم الله (فله أجران) أجر الاجتهاد وأجر
الإصابة (وإذا حكم فاجتهد) أراد أن يحكم فاجتهد (ثم أخطأ)
بأن وقع ذلك بغير حكم الله (فله أجر) واحد وهو أجر
الاجتهاد فقط. (قال) يزيد بن عبد الله بن الهاد الراوي
(فحدّثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم) بفتح العين
والحاء المهملتين ونسبه في هذه الرواية لجده وهو أبو بكر
بن محمد بن عمرو بن حزم (فقال: هكذا حدّثني) بالإفراد (أبو
سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (عن أبي هريرة) بمثل حديث عمرو
بن العاص. (وقال عبد العزيز بن المطلب) بن عبد الله بن
حنطب المخزومي قاضي المدينة وليس له في البخاري سوى هذا
الموضع المعلق (عن عبد الله بن أبي بكر) أي ابن محمد بن
حزم قاضي المدينة أيضًا (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثله). فخالف
أباه في روايته عن أبي سلمة وأرسل الحديث الذي وصله لأن
أبا سلمة تابعي.
قال في الفتح: وقد وجدت ليزيد بن الهاد فيه متابعًا عند
عبد الرزاق وأبي عوانة من طريقه عن معمر عن يحيى بن سعيد
هو الأنصاري عن أبي بكر بن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة
فذكر الحديث مثله بغير قصة وفيه فله أجران اثنان.
وفي الحديث دليل على أن الحق عند الله واحد وكل واقعة لله
تعالى فيها حكم فمن وجده أصاب ومن فقده أخطأ، وفيه أن
المجتهد يخطئ ويصيب والمسألة مقررة في أصول الفقه فقال أبو
الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني وأبو يوسف ومحمد
وابن سريج المسألة التي لا قاطع فيها من مسائل الفقه كل
مجتهد فيها مصيب. وقال الأشعري والقاضي أبو بكر: حكم الله
فيها تابع لظن المجتهد فما ظنه فيها من الحكم فهو حكم الله
في حقه وحق مقلده، وقال أبو يوسف ومحمد وابن سريج في أصح
الروايات عنه مقالة تسمى بالأشبه، وهي أن في كل حادثة ما
لو حكم الله لم يحكم إلا به. وقال في المنخول: وهذا حكم
على الغيب، ثم هؤلاء القائلون بالأشبه يعبرون عنه بأن
المجتهد مصيب في اجتهاده مخطئ في الحكم أي
(10/343)
إذا صادف خلاف ما لو حكم لم يحكم إلا به
وربما قالوا يخطئ انتهاء لا ابتداء هذا آخر تفاريع القول
بأن كل مجتهد مصيب. وقال الجمهور: وهو الصحيح المصيب واحد،
وقال ابن السمعاني في القواطع: إنه ظاهر مذهب الشافعي ومن
حكى عنه غيره فقد أخطأ ولله تعالى في كل واقعة حكم سابق
على اجتهاد المجتهدين وفكر الناظرين، ثم اختلفوا أعليه
دليل أم هو كدفين يصيبه من شاء الله تعالى ويخطئه من شاءه،
والصحيح أن عليه أمارة. واختلف القائلون بأن عليه أمارة في
أن المجتهد هل هو مكلف بإصابة الحق أو لا لأن الإصابة ليست
في وسعه والصحيح الأول لإمكانها ثم اختلفوا فيما إذا أخطأ
الحق هل يأثم والصحيح لا يأثم بل له أجر لبذله وسعه في
طلبه. وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر
واحد". وقيل: يأثم لعدم إصابته المكلف بها. وأما المسألة
التي يكون فيها قاطع من نص أو إجماع واختلف فيها لعدم
الوقوف عليه فالمصيب فيها واحد بالإجماع وإن دق مسلك ذلك
القاطع وقيل على الخلاف فيما لا قاطع فيها وهو غريب ثم إذا
أخطأه نظر فإن لم يقصر وبذل المجهود في طلبه ولكن تعذر
عليه الوصول إليه فهل يأثم فيه مذهبان، وأصحهما المنع
والثاني نعم ومتى قصر المجتهد في اجتهاده أثم وفاقًا لتركه
الواجب عليه من بذله وسعه فيه.
22 - باب الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ أَحْكَامَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَتْ
ظَاهِرَةً وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمُورِ
الإِسْلاَمِ
(باب الحجة على من قال إن أحكام النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانت ظاهرة) للناس لا تخفى إلا على
النادر (وما كان يغيب بعضهم) عطف على مقول القول وكلمة ما
نافية أو عطف على الحجة فما موصولة، لكن قال في الفتح إن
ظاهر السياق يأبى كونها نافية أي بعض الصحابة (عن مشاهد
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح ميم
مشاهد (وأمور الإسلام) قالوا والترجمة معقودة لبيان أن
كثيرًا من أكابر الصحابة كان يغيب عن بعض ما يقوله النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو يفعله من الأفعال
التكليفية فيستمر على ما كان اطلع عليه هو إما على المنسوخ
لعدم اطّلاعه على ناسخه، وإما على البراءة الأصلية. وقال
ابن بطال: أراد الرد على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن
التواتر شرط في قبول الخبر وقولهم مردود بما صح إن الصحابة
كان يأخذ بعضهم عن بعض ويرجع بعضهم إلى ما رواه غيره
وانعقد الإجماع على القول بالعمل بإخبار الآحاد.
7353 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِى عَطَاءٌ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو مُوسَى عَلَى عُمَرَ
فَكَأَنَّهُ وَجَدَهُ مَشْغُولاً فَرَجَعَ فَقَالَ عُمَرُ:
أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ
ائْذَنُوا لَهُ؟ فَدُعِىَ لَهُ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ
عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ
بِهَذَا، قَالَ: فَأْتِنِى عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ
لأَفْعَلَنَّ بِكَ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنَ
الأَنْصَارِ فَقَالُوا: لاَ يَشْهَدُ إِلاَّ أَصَاغِرُنَا،
فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ فَقَالَ: قَدْ كُنَّا
نُؤْمَرُ بِهَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: خَفِىَ عَلَىَّ هَذَا
مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز أنه
قال: (حدّثني) بالإفراد (عطاء) هو ابن أبي رباح (عن عبيد
بن عمير) بضم العين فيهما الليثي المكي أنه (قال: استأذن
أبو موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (على عمر) بن الخطاب
-رضي الله عنه- أي ثلاثًا (فكأنه وجده مشغولاً فرجع فقال
عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس) يريد أبا موسى (ائذنوا
له) في الدخول (فدعي له) بضم الدال وكسر العين فحضر عنده
(فقال) له (ما حملك على ما صنعت)؟ من الرجوع (فقال) أبو
موسى (إنّا كنا نؤمر) بضم النون وفتح الميم من قبل النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بهذا) أي بالرجوع
إذا استأذنا ثلاثًا ولم يؤذن لنا (قال) عمر: (فائتني على
هذا ببينة) على ما ذكرته (أو لأفعلن بك، فانطلق) أبو موسى
(إلى مجلس من الأنصار) فسألهم عن ذلك (فقالوا) أي أبيّ
والأنصار (لا يشهد إلا أصاغرنا) بألف بعد الصاد ولأبي ذر
عن الكشميهني لا يشهد لك إلا أصغرنا (فقام أبو سعيد
الخدري) -رضي الله عنه- وكان أصغر القوم معه (فقال) لعمر:
(قد كنا نؤمر بهذا) أي نرجع إذا استأذنا ولم يؤذن لنا
(فقال عمر: خفي عليّ) بتشديد التحتية (هذا من أمر النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألهاني) شغلنى (الصفق
بالأسواق). وهو
ضرب اليد على اليد عند البيع، وليس قول عمر ذلك ردًّا لخبر
الواحد بل احتياطًا وإلا فقد قبل عمر حديث عبد الرحمن بن
عوف في أخذ الجزية من المجوس وحديثه في الطاعون، وحديث
عمرو بن حزم في التسوية بين الأصابع في الدّية.
ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن عمر لما خفي عليه أمر
الاستئذان رجع إلى قول أبي
(10/344)
موسى فدلّ على أنه يعمل بخبر الواحد، وأن
بعض السنن كان يخفى على بعض الصحابة وأن الشاهد يبلغ
الغائب ما شهده وأن الغائب يقبله ممن حدّثه به ويعتمده
ويعمل به، لا يقال طلب عمر البيّنة يدل على أنه لا يحتج
بخبر الواحد لأنه مع انضمام أي سعيد إليه لا يصير متواترًا
كما لا يخفى.
والحديث سبق في الاستئذان في باب التسليم والاستئذان.
7354 - حَدَّثَنَا عَلِىٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حَدَّثَنِى الزُّهْرِىُّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الأَعْرَجِ
يَقُولُ: أَخْبَرَنِى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ
تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ إِنِّى كُنْتُ امْرَأً
مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، وَكَانَ
الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ،
وَكَانَتِ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ، فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ: «مَنْ
يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى ثُمَّ
يَقْبِضْهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّى»؟
فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَىَّ فَوَالَّذِى بَعَثَهُ
بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ.
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن عبد الله المديني قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثني) بالإفراد (الزهري)
محمد بن مسلم (أنه سمع من الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز
(يقول: أخبرني) بالإفراد (أبو هريرة) -رضي الله عنه- (قال:
إنكم تزعمون أن أبا هريرة) تقولون إن أبا هريرة (يكثر
الحديث على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والله الموعد) يوم القيامة يظهر أنكم على الحق في الإنكار
أو أني عليه في الإكثار والجملة معترضة، ولا بدّ في
التركيب من تأويل لأن مفعلاً للمكان أو الزمان أو المصدر
ولا يصح هنا إطلاق شيء منها فلا بد من إضمار أو تجوّز يدل
عليه المقام قاله البرماوي الكرماني (إني كنت امرأً
مسكينًا) من مساكين الصفة (ألزم) بفتح الهمزة والزاي
واللام بينهما ساكنة (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على ملء بطني) مقتنعًا بالقوت فلم يكن لي غيبة
عنه يعني أنه كان لا ينقطع عنه خشية أن يفوته القوت (وكان
المهاجرون يشغلهم الصفق) البيع (بالأسواق) ويشغلهم بفتح
ياء المضارعة والغين المعجمة من الثلاثي وعبر بالصفق عن
التبايع لأنهم كانوا إذا تبايعوا تصافقوا بالأكف أمارة
لانبرام البيع فإذا تصافقت الأكف انتقلت الأملاك واستقرّت
كل يد منهما على ما صار لكل واحد منهما من ملك صاحبه
(وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم) في الزراعة زاد
في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ
إذا نسوا (فشهدت من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ذات يوم وقال):
(من يبسط) بلفظ المضارع مجزومًا ولأبي ذر عن الكشميهني من
بسط بلفظ الماضي (رداءه) وفي المزارعة ثوبه (حتى أقضي
مقالتي) زاد في المزارعة هذه (ثم يقبضه) بالرفع وفي
اليونينية بالجزم وفي المزارعة ثم يجمعه (فلن ينس) بغير
تحتية بعد السين مصلحة في الفرع على كشط. قال السفاقسي:
إنه وقع كذلك بالنون وبالجزم في الرواية وذكر أن القزاز
نقل عن بعض العرب من يجزم بلن اهـ. وفي بعض النسخ المعتمدة
فلن ينسى بإثباتها خطأ وهو الذي في اليونينية ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي فلم بحرف الجزم بدل حرف النصب ينس (شيئًا
سمعه مني) قال أبو هريرة (فبسطت بردة كانت عليّ) بتشديد
الياء (فو) الله (الذي بعثه) إلى الخلق (بالحق ما نسيت
شيئًا سمعته منه). بعد أن جمعتها إلى صدري.
ومباحث الحديث سبقت غير مرة ومطابقته للترجمة من جهة كون
أبي هريرة أخبر عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من أقواله وأفعاله ما غاب عنه كثير من الصحابة
ولما بلغهم ما سمعه قبلوه وعملوا به فدل على قبول خبر
الواحد والعمل به وفيه رد على مشترطي التواتر وإنه كان
يعزب على المتقدم في الصحبة الشريفة الواسع العلم ما يعلمه
غيره مما سمعه منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو
اطلع عليه فمن ذلك حديث أبي بكر الصدّيق مع جلالة قدره حيث
لم يعلم النص في الجدّة حتى أخبره محمد بن مسلمة والمغيرة
بالنص فيها، وهو في الموطأ وحديث عمر في الاستئذان المذكور
في هذا الباب إلى غير ذلك مما في تتبعه طول يخرج عن
الاختصار.
وفي حديث البراء بسند صحيح ليس كلنا كان يسمع الحديث من
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانت لنا ضيعة
وأشغال، ولكن كان الناس لا يكذبون فيحدث الشاهد الغائب
والله الموفق والمعين.
23 - باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُجَّةً لاَ مِنْ
غَيْرِ الرَّسُولِ
(باب من رأى ترك النكير) بفتح النون وكسر الكاف أي الإنكار
(من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما يفعل
بحضرته أو يقال ويطلع عليه (حجة) لأنه لا يقرّ أحدًا على
باطل سواء استبشر به مع ذلك أم لا لكن دلالته مع الاستبشار
أقوى، وقد تمسك الشافعي في القيافة واعتبارها في النسب
بكِلا الأمرين
(10/345)
الاستبشار وعدم الإنكار في قصة المدلجي،
وسواء كان المسكوت عنه ممن يغريه الإنكار أو لا كافرًا كان
أو منافقًا والقول باستثناء من يزيده الإنكار إغراء حكاه
ابن السمعاني عن المعتزلة بناء على أنه لا يجب إنكاره عليه
للإغراء. قال: والأظهر أنه يجب إنكاره عليه ليزول توهم
الإباحة والقول باستثناء ما إذا كان الفاعل كافرًا أو
منافقًا قول إمام الحرمين بناء على أن الكافر غير مكلف
بالفروع، ولأن المنافق كافر في الباطن والقول بالاقتصار
على الكافر ذهب إليه الماوردي وهو أظهر لأنه أهل للانقياد
في الجملة وكما يدل للجواز للفاعل فكذا لغيره لأن حكمه على
الواحد حكمه على الجماعة. وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني
إلى اختصاصه بمن قرر ولا يتعدى إلى غيره فإن
التقرير لا صيغة له. نعم والصحيح أنه يعم سائر المكلفين
لأنه في حكم الخطاب وخطاب الواحد خطاب للجميع (لا من غير
الرسول) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعدم عصمته،
فسكوته لا يدل على الجواز لأنه قد لا يتبين له حينئذٍ وجه
الصواب. قال في المصابيح: وفيه نظر لأنه إذا أفتى واحد في
مسألة تكليفية وعرف به أهل الإجماع وسكتوا عليه ولم ينكره
أحد ومضى قدر مهلة النظر في تلك الحادثة عادة وكان ذلك
القول المسكوت عليه واقعًا في محل الاجتهاد، فالصحيح أنه
حجة وهل هو إجماع أو لا؟ فيه خلاف. قالوا: والخلاف لفظي
وعلى الجملة قد تصوّرنا في بعض الصور أن ترك النكير من غير
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حجة.
7355 - حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِى،
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ
الصَّائِدِ الدَّجَّالُ قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ قَالَ:
إِنِّى سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ
يُنْكِرْهُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا حماد بن حميد) بالتصغير قال في الفتح هو
خراساني فيما ذكره أبو عبد الله بن منده في رجال البخاري،
وقال محمد بن إسماعيل بن محمد بن خلفون: حماد بن حميد
العسقلاني روى عن عبيد الله بن معاذ روى عنه البخاري في
الاعتصام، وقال أبو أحمد بن عدي حماد بن حميد لا يعرف عن
عبيد الله بن معاذ، وقال ابن أبي حاتم: حماد بن حميد
العسقلاني روى عن ضمرة وبشر بن بكر بن سويد وروّاد سمع منه
أي ببيت المقدس في رحلته الثانية، وروى عنه. وسئل أي عنه
فقال: شيخ. قال محمد بن إسماعيل روى عنه البخاري في الجامع
في باب من رأى ترك النكير من النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حجة. قال محمد بن إسماعيل: لم يجر
لحماد ذكر في النسخة عن النسفيّ إنما عنده. وقال عبيد الله
بن معاذ وليس قبله حماد بن حميد اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر وقد زعم أبو الوليد الباجي في رجال
البخاري أنه هو الذي روى عنه البخاري هنا وهو بعيد قال:
(حدّثنا عبيد الله) بالتصغير (ابن معاذ) قال: (حدّثنا أبي)
معاذ بن حسان بن نصر بن حسان العنبري البصري قال: (حدّثنا
شعبة) بن الحجاج (عن سعد بن إبراهيم) بسكون العين ابن عبد
الرحمن بن عوف (عن محمد بن المنكدر) أنه (قال: رأيت جابر
بن عبد الله) الأنصاري -رضي الله عنه- (يحلف) أي شاهدته
حين حلف (بالله أن ابن الصائد) بألف بعد الصاد بوزن الظالم
ولأبي ذر ابن الصياد واسمه صاف (الدجال) قال ابن المنكدر
(قلت) له: (تحلف بالله قال) جابر: (إني سمعت عمر) بن
الخطاب -رضي الله عنه- (يحلف) أي بالله (على ذلك عند النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم ينكره النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
استشكل هذا مع ما سبق في الجنائز من أن عمر -رضي الله عنه-
قال للنبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعني أضرب
عنقه فقال: إن يكن هو فلن تسلط عليه إذ هو صريح في أنه
تردد في أمره، وحينئذٍ فلا يدل
سكوته على إنكاره عند حلف عمر على أنه هو وقد تقرر أن شرط
العمل بالتقرير أن لا يعارضه التصريح بخلافه فمن قال أو
فعل بحضرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا
فأقره دلّ ذلك على الجواز، فلو قال -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو فعل خلاف ذلك دل على نسخ ذلك
التقرير إلا دليل الخصوصية، وعند أبي داود بسند صحيح عن
موسى بن عقبة عن نافع قال كان ابن عمر يقول والله ما أشك
أن المسيح الدجال هو ابن صياد. وأجاب ابن بطال عن التردّد:
بأنه كان قبل أن يعلمه الله بأنه هو الدجال فلما أعلمه لم
ينكر على عمر حلفه، وبأن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك
وإن لم يكن في الخبر شك فيكون ذلك
(10/346)
من تلطفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لعمر في صرفه عن قتله.
وقال ابن دقيق العيد في أوائل شرح الإلمام: إذا أخبر شخص
بحضرة النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أمر
ليس فيه حكم شرعي فهل يكون سكوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- دليلاً على مطابقة ما في الواقع كما وقع لعمر
في حلفه على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر عليه، فهل يدل
عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال كما فهمه جابر حتى
صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل؟ فيه نظر.
قال: والأقرب عندي أنه لا يدل لأن مأخذ المسألة ومناطها هو
العصمة من التقرير على الباطل وذلك يتوقف على تحقق
البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة إلا أن يدعي مدّعٍ
أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة فيحتاج إلى دليل
وهو عاجر عنه. نعم التقرير يسوّغ الحلف على ذلك على غلبة
الظن لعدم توقف ذلك على العلم اهـ.
قال في الفتح: ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون
السكوت مستوي الطرفين، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من
قسم خلاف الأولى.
وقال في المصابيح: وقد يقال هذا محمول على أنه لم ينكره
إنكار من نفى كونه الدجال بدليل أنه أيضًا لم يسكت على ذلك
بل أشار إلى أنه متردّد، ففي الصحيحين أنه قال لعمر: إن
يكن هو فلن تسلط عليه فتردّد في أمره فلما حلف عمر على ذلك
صار حالفًا على غلبة ظنه والبيان قد تقدم من النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم هذا سكوت عن حلف على أمر
غيب لا على حكم شرعي ولعل مسألة السكوت والتقرير مختصة
بالأحكام الشرعية لا الأمور الغيبية اهـ.
وقال البيهقي: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على حلف عمر، فيحتمل
أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان
متوقفًا في أمره ثم جاءه التثبت من الله بأنه غيره على ما
تقتضيه قصة تميم الداري وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير
ابن صياد وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في
الدجال، والحاصل أنه إن وقع الشك في أنه الدجال الذي يقتله
عيسى ابن مريم عليهما السلام فلم يقع الشك في أنه أحد
الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: إن بين يدي الساعة دجالين
كذابين، وقصة تميم الداري أخرجها مسلم من حديث فاطمة بنت
قيس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب
فذكر أن تميمًا الداري ركب في سفينة مع ثلاثين رجلاً من
قومه فلعب بهم الموج شهرًا ثم نزلوا في جزيرة فلقيتهم دابة
كثيرة الشعر فقالت لهم: أنا الجساسة ودلتهم على رجل في
الدير قال: فانطلقنا سراعًا فدخلنا الدير فإذا فيه أعظم
إنسان رأيناه قط خلقًا وأشد وثاقًا مجموعة يداه إلى عنقه
بالحديد فقلنا: ويلك من أنت فذكر الحديث وفيه أنه سألهم عن
نبي الأميين هل بعث وأنه قال إن يطيعوه فهو خير لهم وأنه
سألهم عن بحيرة طبرية وأنه قال لهم إني مخبركم عني أنا
المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في
الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة
وطيبة، ففيه كما قال البيهقي أن الدجال الأكبر الذي يخرج
في آخر الزمان غير ابن صياد، وعند مسلم من طريق داود بن
أبي هند عن أبي بصرة عن أبي سعيد قال: صحبني ابن صياد إلى
مكة فقال لي: ما قد لقيت من الناس يزعمون أني الدجال ألست
سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول:
"إنه لا يولد له"؟! قلت: بلى. قال: فإنه قد ولد لي. قال:
أوَلست سمعته يقول: "لا يدخل المدينة ولا مكة"؟! قلت: بلى.
قال: قد ولدت بالمدينة وها أنا أريد مكة.
وقال الخطابي اختلف السلف في أمر ابن صياد بعد كبره فروي
عنه أنه تاب عن ذلك القول ومات بالمدينة وأنهم لما أرادوا
الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس، وقيل لهم اشهدوا
لكن يعكر على هذا ما عند أبي داود بسند صحيح عن جابر قال:
فقدنا ابن صياد يوم الحرّة وبسند حسن قيل إنه مات. وفي
الحديث جواز الحلف بما يغلب على الظن.
والحديث أخرجه مسلم في الفتن وأبو داود في الملاحم.
24 - باب الأَحْكَامِ الَّتِى تُعْرَفُ بِالدَّلاَئِلِ
وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلاَلَةِ وَتَفْسِيرِهَا؟
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ سُئِلَ
عَنِ الْحُمُرِ فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}
[الزلزلة: 7] وَسُئِلَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: «لاَ آكُلُهُ
وَلاَ أُحَرِّمُهُ». وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الضَّبُّ
فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ.
(باب) بيان (الأحكام التي تعرف بالدلائل) ولأبي ذر عن
الكشميهني بالدليل بالإفراد والدليل ما يرشد إلى المطلوب
ويلزم من العلم به العلم بوجود المدلول
(10/347)
والمراد بالأدلة الكتاب والسُّنَّة
والإجماع والقياس والاستدلال. وقال إمام الحرمين والغزالي.
ثلاثة فقط فأسقطا القياس والاستدلال فالإمام بناه على أن
الأدلة لا تتناول إلا القطعي والغزالي خص الأدلة بالثمرة
للأحكام فلهذا كانت ثلاثة وجعل القياس من طرق الاستثمار
فإنه دلالة من حيث معقول اللفظ كلما أن العموم والخصوص
دلالة من حيث صيغته (وكيف معنى الدلالة) بتثليث الدال وهي
في عرف الشرع الإرشاد إلى أن حكم الشيء الخاص الذي لم يرد
فيه نص داخل تحت حكم دليل آخر بطريق العموم (وتفسيرها) أي
تبيينها وهو تعليم المأمور كيفية ما أمر به كتعليم عائشة
-رضي الله عنها- للمرأة السائلة التوضؤ بالفرصة.
(وقد أخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في
أول أحاديث هذا الباب (أمر الخيل وغيرها، ثم سئل عن الحمر)
بضمتين (فدلهم على قوله تعالى: ({فمن}) بالفاء ولأبي ذر من
({يعمل مثقال ذرة خيرًا يره}
[الزلزلة: 7]) إذ فيه إشارة إلى أن حكم الحمر وغيرها مندرج
في العموم المستفاد منه (وسئل النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) كما في ثالث أحاديث هذا الباب (عن
الضب) أيحل أكله (فقال: لا آكله ولا أحرمه. وأُكل على
مائدة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الضب
فاستدل ابن عباس بأنه ليس بحرام) لأنه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقرّ على باطل.
7356 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ السَّمَّانِ،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ
سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِى لَهُ
أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ
فِى مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِى طِيَلِهَا
ذَلِكَ الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ
وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا
أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا
حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ
فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِىَ بِهِ كَانَ
ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ وَهِىَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ،
وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ
حَقَّ اللَّهِ فِى رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا فَهْىَ
لَهُ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً فَهِىَ
عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ». وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْحُمُرِ قَالَ: «مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الآيَةَ
الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني)
بالإفراد (مالك) الإمام (عن زيد بن أسلم) الفقيه العدوي
مولى عمر المدني (عن أبي صالح) ذكوان (السمان عن أبي
هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر) بكسر
الواو وسكون الزاي إثم (فأما الرجل الذي) هي (له أجر فرجل
ربطها) للجهاد (في سبيل الله فأطال) في الحبل الذي ربطها
به حتى تسرح للرعي ولأبي ذر عن الكشميهني فأطال لها (في
مرج) بفتح الميم وبعد الراء الساكنة جيم موضع كلأ (أو
روضة) بالشك من الراوي (فما أصابت) أي ما أكلت وشربت ومشت
(في طيلها) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية في حبلها
المربوطة به (ذلك المرج) ولأبي ذر والأصيلي من المرج
(والروضة) ولأبي ذر أو الروضة (كان له) أي لصاحبها (حسنات)
يوم القيامة (ولو أنها قطعت طيلها) حبلها المذكور (فاستنت)
بفتح الفوقية والنون المشددة عدت بمرج ونشاط (شرفًا أو
شرفين) بفتح الشين المعجمة والراء فيهما شوطًا أو شوطين
(كانت آثارها) بمد الهمزة وبالمثلثة في الأرض بحوافرها عند
خطواتها (وأرواثها حسنات له) يوم القيامة (ولو أنها مرت
بنهر) بفتح الهاء وتسكن (فشربت منه) بغير قصد صاحبها (ولم
يرد أن يسقي به) أي يسقيه والباء زائدة وللأصيلي أن تسقى
بضم الفوقية وفتح القاف (كان ذلك) أي ذلك الشرب وإرادته
(حسنات له وهي لذلك الرجل أجر ورجل ربطها تغنّيًا) بفتح
الفوقية والمعجمة وكسر النون المشدّدة أي يستغني بها عن
الناس والنصب على التعليل (وتعففًا) يتعفف بها عن الافتقار
إليهم بما يعمل عليها ويكسبه على ظهرها (ولم ينس حق الله
في رقابها ولا ظهورها) سقط لفظ لا لأبي ذر واستدلّ به
الحنفية في
إيجاب الزكاة في الخيل وقال غيرهم أي يؤدي زكاة تجارتها
وظهورها بأن يركب عليها في سبيل الله (فهي له ستر) تقيه من
الفاقة (ورجل ربطها فخرًا) لأجل الفخر (ورياء) أي إظهارًا
للطاعة والباطن بخلافه (فهي على ذلك وزر) إثم.
(وسئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن
الحمر) هل لها حكم الخيل؟ ويحتمل أن يكون السائل صعصعة بن
معاوية عم الفرزدق لحديث النسائي في التفسير وصححه الحاكم
عنه بلفظ قدمت على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فسمعته يقول: {من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره}
[الزلزلة: 7] إلى آخر السورة. قال: ما أبالي أن لا أستمع
غيرها حسبي حسبي (قال: ما أنزل الله عليّ فيها إلا هذه
الآية الفاذة) بالفاء وبعد الألف ذال معجمة مشدّدة القليلة
المثل المنفردة في معناها (الجامعة) لكل خير وشر ({فمن})
بالفاء ولأبي ذر من ({يعمل مثقال ذرة خيرًا يره * ومن يعمل
(10/348)
مثقال ذرة شرًّا يره} [الزلزلة: 7 - 8]).
قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن وأصدق، واتفق
العلماء على عموم هذه الآية القائلون بالعموم ومن لم يقل
به. وقال كعب الأحبار: لقد أنزل الله تعالى إلى محمد آيتين
أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف: {فمن يعمل
مثقال ذرة خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره}.
والحديث سبق في الجهاد وعلامات النبوة والتفسير.
7357 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا يحيى) هو ابن جعفر البيكندي كما جزم به
الكلاباذي والبيهقي أو هو ابن موسى البلخي قال: (حدّثنا
ابن عيينة) سفيان بن أبي عمران ميمون الهلالي أبو محمد
الكوفي ثم المكلي الحافظ الفقيه الحجة (عن منصور ابن صفية)
اسم أبيه عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن عبد الدار
العبدري الحجبي المكي ثقة أخطأ ابن حزم في تضعيفه (عن أمه)
صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية
وحديث عن عائشة وغيرها من الصحابة وفي البخاري التصريح
بسماعها من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أنكر الدارقطني إدراكها (عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن
امرأة) اسمها أسماء بنت شكل بفتح المعجمة والكاف بعدها لام
(سألت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال
المؤلّف.
0000 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ،
حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِىُّ،
حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ
شَيْبَةَ، حَدَّثَتْنِى أُمِّى عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله
عنها - أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْحَيْضِ كَيْفَ
تَغْتَسِلُ مِنْهُ؟ قَالَ: «تَأْخُذِينَ فِرْصَةً
مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِينَ بِهَا». قَالَتْ: كَيْفَ
أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ النَّبِىُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تَوَضَّئِى».
قَالَتْ: كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«تَوَضَّئِينَ بِهَا». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَرَفْتُ
الَّذِى يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَجَذَبْتُهَا إِلَىَّ فَعَلَّمْتُهَا.
(حدّثنا) ولأبي ذر: وحدّثنا (محمد هو ابن عقبة) بضم العين
وسكون القاف الشيباني الكوفي يكنى أبا عبد الله فيما جزم
به الكلاباذي وهو من قدماء شيوخ البخاري ولفظ الحديث له،
وسقط لأبي ذر هو فقط قال: (حدّثنا الفضيل) بضم الفاء وفتح
الضاد المعجمة (ابن سليمان) بضم السين وفتح اللام
(النميري) بضم النون وفتح الميم أبو سليمان البصري قال:
(حدّثنا منصور بن عبد الرحمن بن شيبة) قال الحافظ ابن حجر:
وقع هنا منصور بن عبد الرحمن بن شيبة وشيبة إنما هو جد
منصور لأمه لأن أمه صفية بنت شيبة بن عثمان بن طلحة الحجبي
وعلى هذا فيكتب ابن شيبة بالألف وبالرفع كإعراب منصور لأنه
صفته لا إعراب عبد الرحمن فهو نسبة إلى أبي أمه والذي في
اليونينية بكسر النون فقط صفة لسابقه قال: (حدّثتني)
بالإفراد (أمي) صفية بنت شيبة (عن عائشة رضي الله عنها أن
امرأة) هي أسماء كما مرّ قريبًا (سألت النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي الوقت رسول الله
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الحيض كيف نغتسل
منه)؟ بنون مفتوحة وكسر السين ولأبي ذر يغتسل بتحتية
مضمومة بدل النون وفتح السين وفي نسخة بالمثناة الفوقية
المفتوحة (قال):
(تأخذين) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي تأخذي بحذف النون
والأول هو الصواب (فرصة) بتثليث الفاء وسكون الراء وبالصاد
المهملة قطعة من قطن (ممسكة) مطيبة بالمسك (فتوضئين بها)
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فتوضئي بها بحذف النون أي
وضوًا لغويًّا أي تنظفي بها (قالت: كيف أتوضأ بها يا رسول
الله؟ قال) ولأبي ذر فقال (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: توضئين) ليس هنا بها (قالت: كيف أتوضأ بها يا
رسول الله؟ قال): ولأبي ذر فقال (النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: توضئين) وللكشميهني توضئي بها (بها.
قالت عائشة) -رضي الله عنها- (فعرفت الذي يريد رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بقوله توضئي بها
(فجذبتها) بالذال المعجمة (إليّ) بتشديد الياء (فعلمتها).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله توضئي بها فإنه وقع بيانه
للسائلة بها فهمته عائشة -رضي الله عنها- وأقرها-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ذلك لأن السائلة لم تكن
تعرف أن تتبع الدم بالفرصة يسمى توضؤًا فلما فهمت عائشة
غرضه بيّنت للسائلة ما خفي عليها من ذلك فالمجمل يوقف على
بيانه من القرائن وتختلف الأفهام في إدراكه.
وسبق هذا الحديث في الطهارة بلفظ سفيان بن عيينة.
7358 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِى بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ
بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمْنًا وَأَقِطًا
وَأَضُبًّا، فَدَعَا بِهِنَّ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ
فَتَرَكَهُنَّ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا
مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَلاَ أَمَرَ
بِأَكْلِهِنَّ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
أبو عوانة) الوضاح (عن أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون
المعجمة جعفر بن أبي وحشية (عن سعيد بن جبير) الوالبي
مولاهم
أحد الأعلام (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أن أم حفيد)
بضم الحاء المهملة وفتح الفاء وبعد التحتية الساكنة دال
مهملة هزيلة بضم الهاء وفتح الزاي
(10/349)
مصغر هزلة (بنت الحارث بن حزن) بفتح الحاء
المهملة وسكون الزاي بعدها نون الهلالية أخت ميمونة أم
المؤمنين وخالة ابن عباس (أهدت النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمنًا وإقطًا) لبنًا مجمدًا
(وأَضُبًّا) بهمزة مفتوحة فصاد معجمة مضمومة جمع ضب
وللكشميهني وضبًّا بفتح الضاد بلفظ الإفراد (فدعا بهن) أو
به (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأكلن) أو
فأكل (على مائدته فتركهن) أو تركه (النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كالمتقذر له) بالقاف والذال المعجمة
المشددة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي لهن (ولو كن) أي
الأضب (حرامًا ما أكلن) ولأبي ذر عن الكشميهني ولو كان أي
الضب حرامًا ما أكل (على مائدته ولا أمر بأكلهن) أو بأكله.
ومطابقته ظاهرة.
7359 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
أَخْبَرَنِى عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ
بَصَلاً، فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا
وَلْيَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ». وَإِنَّهُ أُتِىَ بِبَدْرٍ
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِى طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ
بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ عَنْهَا،
فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ فَقَالَ:
قَرِّبُوهَا فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ
مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: «كُلْ
فَإِنِّى أُنَاجِى مَنْ لاَ تُنَاجِى». وَقَالَ ابْنُ
عُفَيْرٍ: عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ
وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ، عَنْ
يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ، فَلاَ أَدْرِى هُوَ مِنْ
قَوْلِ الزُّهْرِىِّ أَوْ فِى الْحَدِيثِ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) أبو جعفر بن الطبراني
المصري الحافظ قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله المصري قال:
(أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب)
محمد بن سلم الزهري أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (عطاء بن
أبي رباح) بفتح الراء والموحدة المخففة (من جابر بن عبد
الله) الأنصاري رضي الله عنهما أنه (قال: قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(مَن أكل ثومًا) بضم المثلثة (أو بصلاً فليعتزلنا) جواب
الشرط أي فليعتزل الحضور عندنا والصلاة معنا (أو ليعتزل
مسجدنا) عامّ في جميع المساجد ويؤيده الرواية الأخرى
مساجدنا بلفظ الجمع فيكون لفظ الإفراد للجنس أو هو خاص
بمسجده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكونه مهبط
الملك بالوحي (وليقعد) ولأبي ذر عن الكشميهني: أو ليقعد
(في بيته) فلا يحضر المساجد والجماعات وليصل في بيته فإن
ذلك عذر له عن التخلف (وإنه) بكسر الهمزة (أتي) بضم الهمزة
عليه الصلاة والسلام (ببدر) بفتح الموحدة وسكون الدال
المهملة بعدها راء (قال ابن وهب) عبد الله (يعني طبقًا
فيه) بقول (خضرات) بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين وسمي
الطبق بدرًا لاستدارته كاستدارة القمر وللأصيلي خضرات بضم
الخاء وفتح الضاد وهو مبتدأ مسوّغهُ تقدم الخبر في المجرور
والجملة في محل الصفة لبدر، وهو مسوّغ ثانٍ والخضرات جمع
خضرة العشب الناعم (من يقول فوجد) بفتحات أصاب (لها ريحًا)
كريهة كالبصل والثوم والفجل (فسأل عنها) بفتح السين والفاء
سببية أي
بسبب ما وجد من الريح سأل وفاعل سأل ضمير النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فأخبر) بضم الهمزة وكسر
الموحدة مبنيًّا للمجهول والمفعول الذي لم يسم فاعله ضمير
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو هنا يتعدى
إلى الثالث بحرف الجر وهو قوله (بما فيها من البقول) وما
موصول والعائد ضمير الاستقرار وضمير فيها يعود على الخضرات
أي أخبر بما اختلط فيها وتكون في مجازًا في الظرف (فقال)
عليه الصلاة والسلام (قربوها) أي إلى فلان ففيه حذف
(فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا منقول بالمعنى لأن لفظه عليه
الصلاة والسلام قربوها لأبي أيوب فكان الراوي لم يحفظه
فكنى عنه وعلى تقدير أن لا يكون عينه ففيه التفات لأن
الأصل أن يقول إلى بعض أصحابي وقوله كان معه من كلام
الراوي (فلما رآه كره أكلها) بفتح الهمزة وفاعل رآه يعود
على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وضمير
المفعول على الذي قرّب إليه وضمير كره يعود على الرجل
وجملة كله في محل الحال من مفعول رأى لأن الرؤية بصرية
وجواب لما قوله (قال) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- للرجل (كل فإني أناجي من لا تناجي) من
الملائكة.
(وقال) وسقط الواو لأبي ذر (ابن عفير) بضم العين المهملة
وفتح الفاء وهو سعيد بن كثير بن عفير شيخ المؤلّف (عن ابن
وهب) عبد الله (بقدر) بكسر القاف وسكون الدال المهملة (فيه
خضرات) بفتح الخاء وكسر الضاد وللأصيلي خضرات بضم ثم فتح
بدل من ببدر (ولم يذكر الليث) بن سعد الإمام فيما وصله
الذهلي في الزهريات (وأبو صفوان) عبد الله بن سعيد الأموي
فيما وصله في الأطعمة في روايتهما (عن يونس) بن يزيد
الأيلي (قصة القدر فلا أدري هو من قول الزهري) محمد بن
مسلم
(10/350)
مدرجًا (أو) هو مروي (في الحديث) وقد بالغ
بعضهم فقال: إن لفظة القدر بالقاف تصحيف وسبب ذلك استشكال
القدر فإنه يُشعِر بأنه مطبوخ وقد ورد الإذن بأكلها
مطبوخة، ويمكن الجواب بأن ما في القدر قديمات بالطبخ حتى
تذهب رائحته الكريهة أصلاً، وقد لا ينتهي به إلى ذلك فتحمل
هذه الرواية الصحيحة على الحالة الثانية بل يجوز أن يكون
قد جعل في القدر على نية أن يطبخ ثم اتفق أن أُتي به قبل
الطبخ لكن أمره بالتقريب لبعض أصحابه ببعد هذا الاحتمال
ولكن مع هذه الاحتمالات لا يبقى إشكال يُفضي إلى جعله
مصحفًا أو ضعيفًا.
والحديث سبق في الصلاة في باب ما جاء في أكل الثوم النّيء.
7360 - حَدَّثَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِى وَعَمِّى قَالاَ:
حَدَّثَنَا أَبِى عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرَنِى مُحَمَّدُ بْنُ
جُبَيْرٍ أَنَّ أَبَاهُ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ
أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَلَّمَتْهُ فِى شَىْءٍ،
فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنْ لَمْ أَجِدْكَ قَالَ: «إِنْ لَمْ تَجِدِينِى
فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ».
زَادَ الْحُمَيْدِىُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ
كَأَنَّهَا تَعْنِى الْمَوْتَ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن
سعد بن إبراهيم) بن سعد بسكون
العين فيهما ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو
الفضل البغدادي قاضي أصبهان قال: (حدّثنا أبي) سعد (وعمي)
يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف
(قالا) أي قال كلٌّ منهما (حدّثنا أبي) إبراهيم (عن أبيه)
سعد قال (أخبرني) بالإفراد (محمد بن جبير أن أباه جبير بن
مطعم) القرشي النوفلي (أخبره أن امرأة من الأنصار) أي تسمّ
وسقط من اليونينية والملكية لفظ من الأنصار (أتت رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكلمته في شيء)
يعطيها (فأمرها بأمر) وفي مناقب أبي بكر فأمرها أن ترجع
إليه (فقالت: أرأيت) أي أخبرني (يا رسول الله إن لم أجدك.
قال) عليه الصلاة والسلام:
(إن لم تجديني فائتي أبا بكر) الصديق -رضي الله عنه- (زاد
الحميدي) عبد الله بن الزبير على الحديث السابق ولأبى ذر
زاد لنا الحميدي (عن إبراهيم بن سعد) المذكور بالسند
المذكور (كأنها تعني) بقولها إن لم أجدك (الموت) أي إن جئت
فوجدتك قد من ماذا أفعل؟ قال في الكواكب: ومناسبة هذا
الحديث للترجمة أنه يستدل به على خلافة أبي بكر لكن بطريق
الإشارة لا التصريح.
والحديث سبق في مناقب أبي بكر.
بسم الله الرحمن الرحيم
25 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، عَنْ
شَىْءٍ»
(بسم الله الرحمن الرحيم).
سقطت البسملة لأبي ذر.
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا
تسألوا أهل الكتاب) اليهود والنصارى (عن شيء) مما يتعلق
بالشرائع لأن شرعنا غير محتاج لشيء فإذا لم يوجد فيه نص
ففي النظر والاستدلال غنى عن سؤالهم. نعم لا يدخل في النهي
سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا والأخبار عن الأمم
السالفة وكذا سؤال من آمن منهم.
7361 - وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ،
عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ
قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ كَعْبَ الأَحْبَارِ
فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلاَءِ
الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ، عَنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ
الْكَذِبَ.
(وقال أبو اليمان) شيخ المؤلّف الحكم بن نافع ولم يقل
حدّثنا أبو اليمان إما لكونه أخذه عنه مذاكرة أو لكونه
أثرًا موقوفًا. نعم أخرجه الإسماعيلي عن عبد الله بن
العباس الطيالسي عن البخاري قال: حدّثنا أبو اليمان ومن
هذا الوجه أخرجه أبو نعيم. قال في الفتح: فظهر أنه مسموع
له وترجح الاحتمال الثاني وكذا هو في التاريخ الصغير
للمؤلّف قال: حدّثنا أبو اليمان قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن
أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال: (أخبرني)
بالإفراد
(حميد بن عبد الرحمن) بضم الحاء مصغرًا ابن عوف أنه (سمع
معاوية) بن أبي سفيان (يحدّث رهطًا من قريش بالمدينة) لما
حج في خلافته وقال ابن حجر: لم أقف على تعيين الرهط.
(وذكر كعب الأحبار) بن ماتع بالفوقية بعدها عين مهملة ابن
عمرو بن قيس من آل ذي رعين وقيل ذي الكلاع الحميري وكان
يهوديًّا عالمًا بكتبهم أسلم في عهد عمر أو أبي بكر أو في
عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتأخرت هجرته
والأول أشهر (فقال) أبي معاوية (إن كان) كعب (من أصدق
هؤلاء المحدّثين الذين يحدّثون عن أهل الكتاب) ممن هو نظير
كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم (وإن كنّا مع ذلك لنبلو)
بالنون لنختبر (عليه الكذب) الضمير المخفوض بعلى يعود على
كعب الأحبار يعني أنه يخطئ فيما يقوله في بعض الأحيان ولم
يرد أنه كان كذابًا كذا ذكره ابن حبان في كتاب الثقات،
وقيل إن الهاء في عليه راجعة إلى الكتاب من قوله: إن كان
من أصدق هؤلاء
(10/351)
المحدّثين الذين يحدّثون عن أهل الكتاب،
وذلك لأن كتبهم قد بدلت وحرّفت وليس عائدًا على كعب. قال
القاضي عياض: وعندي أنه يصح عوده على كعب أو على حديثه وإن
لم يقصد الكذب أو يتعمده كعب إذ لا يشترط في الكذب عند أهل
السُّنّة التعمد بل هو إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه
وليس في هذا تجريح لكعب بالكذب، وقال ابن الجوزي: يعني أن
الكذب فيما يخبر به عن أهل الكتاب لا منه فالأخبار التي
يحكيها عن القوم يكون في بعضها كذب فأما كعب الأحبار فهو
من خيار الأحبار، وأخرج ابن سعد من طريق عبد الرحمن بن
جبير بن نفير قال: قال معاوية إلا أن كعب الأحبار أحد
العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار وإن كنا فيه لمفرّطين.
7362 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ
الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ، عَنْ
أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ
أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ
بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ
لأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا: {آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ}» الآيَةَ [العنكبوت: 46].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر بالجمع (محمد بن
بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة ابن عثمان أبو بكر العبدي
مولاهم الحافظ بندار قال: (حدّثنا عثمان بن عمر) بضم العين
ابن فارس العبدي البصري أصله من بخارى قال: (أخبرنا علي بن
المبارك) الهنائي بضم الهاء وتخفيف النون ممدودًا (عن يحيى
بن أبي كثير) بالمثلثة الطائي مولاهم (عن ابن سلمة) بن عبد
الرحمن بن عوف (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال:
كان أهل الكتاب) اليهود (يقرؤون التوراة بالعبرانية) بكسر
العين المهملة وسكون الموحدة (ويفسرونها بالعربية لأهل
الإسلام فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-)
(لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) إذا كان ما يخبرونكم
به محتملاً لئلا يكون في نفس الأمر صدقًا فتكذبوه أو كذبًا
فتصدقوه فتقعوا في الحرج (وقولوا) أيها المؤمنون: ({آمنا
بالله وما
أنزل إلينا}) القرآن ({وما أنزل إليكم} [العنكبوت: 46]
الآية).
والحديث سبق في باب قوله قولوا آمنا من تفسير البقرة سندًا
ومتنًا.
7363 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ:
كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ
وَكِتَابُكُمُ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْدَثُ
تَقْرَؤُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ
وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ
وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلاً أَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ
الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، لاَ وَاللَّهِ مَا
رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلاً يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى
أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) أبو سلمة التبوذكي
الحافظ قال: (حدّثنا إبراهيم) بن سعد بن إبراهيم الزهري
قال: (أخبرنا ابن شهاب) محمد بن مسلم (عن عبيد الله) بضم
العين (ابن عبد الله) ابن عتبة بن مسعود وثبت قوله ابن عبد
الله لأبي ذر وسقط لغيره (أن ابن عباس -رضي الله عنهما-
قال: كيف تسألون أهل الكتاب) من اليهود والنصارى
والاستفهام إنكاري (عن شيء) من الشرائع (وكتابكم) القرآن
(الذي أنزل على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أحدث) أقرب نزولاً إليكم من عند الله فالحدوث
بالنسبة إلى المنزل إليهم وهو في نفسه قديم (تقرؤونه
محضًا) خالص (لم يشب) بضم أوله وفتح المعجمة لم يخلط فلا
يتطرق إليه تحريف ولا تبديل بخلاف التوراة والإنجيل (وقد
حدّثكم) سبحانه وتعالى في كتابه (أن أهل الكتاب) من اليهود
وغيرهم (بدّلوا كتاب الله) التوراة (وغيّروه وكتبوا
بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا
قليلاً إلا) بالتخفيف (ينهاكم ما جاءكم من العلم) بالكتاب
والسُّنّة (عن مسألتهم) بفتح الميم وسكون السين ولأبي ذر
عن الكشميهني مساءلتهم بضم الميم وفتح السين بعدها ألف.
(لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم)
فأنتم بالطريق الأولى أن لا تسألوهم.
والحديث سبق في الشهادات.
26 - باب كَرَاهِيَةِ الْخِلاَفِ
(باب كراهية الخلاف) في الأحكام الشرعية أو أعمّ من ذلك
ولأبي ذر الاختلاف، وهذا الباب عند أبي ذر بعد باب نهي
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن التحريم
وقبل هذا الباب المذكور باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى
بينهم} [الشورى: 38] وقال في الفتح: وسقطت هذه الترجمة
لابن بطال فصار حديثها من جملة باب النهي على التحريم.
7364 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِىٍّ، عَنْ سَلاَّمِ بْنِ أَبِى
مُطِيعٍ، عَنْ أَبِى عِمْرَانَ الْجَوْنِىِّ، عَنْ
جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اقْرَؤُوا
الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا
اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ»، قَالَ أَبُو عَبْدِ
الله: سَمِعَ عَبْدُ الرَّحمَنِ سَلامًا.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن راهويه كما جزم به
الكلاباذي قال: (أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي) بفتح الميم
وسكون الهاء وكسر الدال المهملة (عن سلام بن أبي مطيع)
بتشديد اللام الخزاعي (عن أبي عمران) عبد الملك بنَ حبيب
(الجوني) بفتح الجيم وسكون الواو بعدها نون فتحتية نسبة
لأحد أجداده الجون بن عوف (عن جندب بن عبد الله البجلي)
-رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اقرؤوا القرآن ما ائتلفت) ما اجتمعت (قلوبكم)
(10/352)
عليه (فإذا اختلفتم) في فهم معانيه (فقوموا
عنه) لئلا يتمادى بكم الخلاف إلى الشر.
وسبق الحديث في فضائل القرآن وأخرجه مسلم في النذور
والنسائي في فضائل القرآن.
(قال أبو عبد الله) البخاري (سمع عبد الرحمن) بن مهدي
(سلامًا) أي ابن مطيع وأشار بهذا إلى ما سبق في آخر فضائل
القرآن وهذا ثبت في رواية المستملي.
7365 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا أَبُو
عِمْرَانَ الْجَوْنِىُّ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ
عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا
عَنْهُ». وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله: قَالَ يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ، عَنْ هَارُونَ الأَعْوَرِ حَدَّثَنَا أَبُو
عِمْرَانَ، عَنْ جُنْدَبٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) بن راهويه قال: (أخبرنا عبد
الصمد) بن عبد الوارث قال: (حدّثنا همام) بفتح الهاء
وتشديد الميم الأولى ابن يحيى البصري قال: (حدّثنا أبو
عمران) عبد الملك (الجوني عن جندب بن عبد الله) سقط لأبي
ذر ابن عبد الله (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا
عنه) أي اقرؤوا والزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد
إليه، فإذا وقع الاختلاف بأن عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة
الداعية إلى الافتراق فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم
للإلفة وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة قاله في
الفتح فيما سبق مع غيره في آخر فضائل القرآن وأوردته هنا
لبعد العهد به.
(قال أبو عبد الله) البخاري كذا ثبت في رواية أبي ذر وهو
ساقط لغيره (وقال يزيد بن هارون) بن زاذان أبو خالد
الواسطي (عن هارون) بن موسى الأزدي العتكي مولاهم البصري
النحوي (الأعور) قال: (حدّثنا أبو عمران) الجوني (عن جندب)
-رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) وهذا التعليق وصله الدارمي.
7366 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
لَمَّا حُضِرَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: وَفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ - قَالَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ
كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ». قَالَ عُمَرُ: إِنَّ
النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَلَبَهُ
الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ
اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كِتَابًا، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ: مَا قَالَ عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ
وَالاِخْتِلاَفَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قُومُوا عَنِّى».
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ:
إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ
اخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِمْ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (إبراهيم بن
موسى) بن يزيد الفراء أبو إسحاق الرازي الصغير قال:
(أخبرنا هشام) هو ابن يوسف (عن معمر) بسكون العين ابن راشد
(عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عبيد الله) بضم العين (ابن
عبد الله) بن عتبة بن مسعود (عن ابن عباس) -رضي الله
عنهما- أنه (قال: لما حضر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) بضم الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة أي حضره
الموت (قال: وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب) -رضي الله
عنه- (قال) عليه الصلاة والسلام:
(هلم) أي تعالوا (أكتب لكم) بالجزم جواب الأمر (كتابًا لن
تضلوا بعده) زاد أبو ذر عن الحموي أبدًا (قال عمر) -رضي
الله عنه-: (إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
غلبه الوجع و) الحال (عندكم القرآن فحسبنا) كافينا (كتاب
الله) فلا نكلفه عليه الصلاة والسلام ما يشق عليه في هذه
الحالة من إملاء الكتاب (واختلف أهل البيت واختصموا) بسبب
ذلك (فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتابًا لن
تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر) أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غلبه الوجع وعندكم القرآن
فحسبنا كتاب الله (فلما أكثروا اللغط) بالغين المعجمة
الصوت بذلك (والاختلاف عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال) لهم: (قوموا عني) زاد في العلم ولا ينبغي
عندي التنازع (قال عبيد الله) بضم العين ابن عبد الله بن
عتبة (فكان ابن عباس) -رضي الله عنهما- (يقول إن الرزية كل
الرزية) أي أن المصيبة كل المصيبة (ما حال) أي الذي حجز
(بين رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين
أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم) بيان لقوله ما
حال، وقد كان عمر -رضي الله عنه- أفقه من ابن عباس
لاكتفائه بالقرآن وفي تركه عليه الصلاة والسلام الإنكار
على عمر -رضي الله عنه- دليل على استصوابه.
والحديث سبق في باب كتابة العلم من كتاب العلم وفي
المغازي، وأخرجه مسلم في باب الوصايا والنسائي في العلم.
27 - باب نَهْىِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ مَا تُعْرَفُ
إِبَاحَتُهُ
وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ حِينَ أَحَلُّوا
أَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ وَقَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ
يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ،
وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ
الْجَنَازَةِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.
(باب نهي) بسكون الهاء وإضافة باب (النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الصادر منه محمول (على التحريم) وهو
حقيقة فيه وفي نسخة باب بالتنوين نهي النبي بفتح الهاء
ورفع النبي على الفاعلية وفي الفرع كأصله عن الترحيم
بالنون بدل على والذي شرحه العيني كالحافظ ابن حجر على على
باللام (إلا ما نعرف إباحته) بدلالة السياق عليه أو قرينة
الحال أو إقامة الدليل (وكذلك أمره) عليه الصلاة والسلام
تحرم مخالفته لوجوب امتثاله ما لم يقم دليل على إرادة
(10/353)
الندب أو غيره (نحو قوله) عليه الصلاة
والسلام (حين أحلوا) في حجة الوداع لما أمرهم بفسخ الحج
إلى العمرة وتحللوا من العمرة (أصيبوا من النساء) أي
جامعوهن (وقال جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري -رضي الله
عنه- وسقطت الواو لأبي ذر (ولم يعزم) أي لم يوجب -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عليهم) أن يجامعوهن (ولكن
أحلهن لهم) فالأمر فيه للإباحة وهذا وصله الإسماعيلي
(وقالت أم عطية) نسيبة (نهينا) بضم النون أي نهانا النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن اتباع الجنائز
ولم يعزم علينا) بضم التحتية وفتح الزاي أي ولم يوجب
علينا-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهذا سبق موصولاً في الجنائز.
7367 - حَدَّثَنَا الْمَكِّىُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: قَالَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ
البُرْسانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِى
عَطَاءٌ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِى
أُنَاسٍ مَعَهُ، قَالَ: أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى الْحَجِّ
خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ
جَابِرٌ: فَقَدِمَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ
فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَحِلَّ وَقَالَ: «أَحِلُّوا
وَأَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ». قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ
جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ
أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ لَمَّا
لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلاَّ خَمْسٌ،
أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا فَنَأْتِى
عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْىَ قَالَ:
وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَحَرَّكَهَا فَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: «قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّى أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ،
وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلاَ هَدْيِى
لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، فَحِلُّوا فَلَوِ
اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا
أَهْدَيْتُ». فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
وبه قال: (حدّثنا المكي بن إبراهيم) الحنظلي البلخي الحافظ
(عن ابن جريج) عبد الملك (قال عطاء) هو ابن أبي رباح (قال
جابر) هو ابن عبد الله.
(قال أبو عبد الله) المؤلّف (وقال محمد بن بكر) بفتح
الموحدة وسكون الكاف (البرساني) بضم الموحدة وسكون الراء
وبالسين المهملة وبعد الألف نون مكسورة نسبة إلى برسان بطن
من الأزد وثبت البرساني لأبي ذر وسقطت لغيره (حدّثنا ابن
جريج) عبد الملك ولأبي ذر عن ابن جريج أنه قال: (أخبرني)
بالإفراد (عطاء) هو ابن أبي رباح قال (سمعت جابر بن عبد
الله) الأنصاري -رضي الله عنهما- (في أناس معه) كان القياس
أن يقول معي لكنه التفات (قال: أهللنا أصحاب رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحج) أصحاب
بالنصب على الاختصاص (خالصًا ليس معه عمرة) هو محمول على
ما كانوا ابتدؤوا به ثم أذن لهم بإدخال العمرة على الحج
وفسخ الحج إلى العمرة فصاروا على ثلاثة أنحاء كما قالت
عائشة -رضي الله عنها- منا من أهل بجج ومنا من أهل بعمرة
ومنا من جمع (قال عطاء) بالسند السابق (قال جابر فقدم
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مكة (صبح
رابعة مضت من ذي الحجة فلما قدمنا أمرنا النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح راء أمرنا (أن نحل)
بفتح النون وكسر الحاء المهملة أي بالإحلال (وقال):
(أحلوا) من إحرامكم (وأصيبوا من النساء) أذن في الجماع
(قال عطاء) بالسند السابق (قال جابر) -رضي الله عنه- (ولم
يعزم عليهم) أي يوجب عليهم جماعهن (ولكن أحلهن لهم فبلغه)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إنا نقول لما)
بالتشديد (لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس) من الليالي
أوّلها ليلة الأحد وآخرها ليلة الخميس لأن توجههم من مكة
كان عشية الأربعاء فباتوا ليلة الخميس بمنى ودخلوا عرفة
يوم الخميس (أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة نقطر
مذاكيرنا) جمع ذكر على غير قياس (المذي) بالذال المعجمة
الساكنة، ولأبي ذر عن المستملي: المني (قال) عطاء بالسند
السابق (ويقول جابر بيده هكذا وحركها) أي أمالها قال
الكرماني هذه الإشارة لكيفية التقطير (فقام رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد حماد بن زيد
خطيبًا (فقال: قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم
ولولا هديي لحللت كما تحلون) بفتح الفوقية وكسر الحاء
المهملة (فحلوا) بكسر الحاء أمر من حل (فلو استقبلت من
أمري ما استدبرت) أي لو علمت في أول الأمر ما علمت آخر أو
هو جواز العمرة في أشهر الحج (ما أهديت. فحللنا وسمعنا
وأطعنا).
ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إن أمره عليه الصلاة
والسلام بإصابة النساء لم يكن على الوجوب ولهذا قال لم
يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم.
وسبق الحديث بالحج.
7368 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ،
حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِىُّ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «صَلُّوا
قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ» قَالَ فِى الثَّالِثَةِ:
لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ
سُنَّةً.
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بفتح الميمين عبد الله بن عمرو
المقعد البصري قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد (عن
الحسين) بضم الحاء ابن ذكوان المعلم (عن ابن بريدة) بضم
الموحدة وفتح الراء عبيد الله الأسلمي قاضي مروانه قال:
(حدّثني) بالإفراد (عبد الله) بن مغفل بالغين المعجمة
المفتوحة والفاء المفتوحة المشددة (المزني) -رضي الله عنه-
(عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(صلوا قبل صلاة المغرب. قال في الثالثة لمن شاء كراهية) أي
لأجل كراهية (أن يتخذها الناس سُنّة) طريقة لازمة لا يجوز
تركها وفيه إشارة إلى أن الأمر حقيقة في الوجوب فلذلك
(10/354)
أردفه بما يدل على التخيير بين الفعل
والترك فكان ذلك صارفًا للحمل على الوجوب.
وهذا الباب بعد الباب التالي لهذا ويليه باب كراهية
الخلاف.
والحديث سبق في الصلاة في باب كم بين الأذان والإقامة.
28 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]
{وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَأَنَّ
الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ} [آل عمران: 159] فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ
التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشَاوَرَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِى الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ
فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لأْمَتَهُ
وَعَزَمَ قَالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ
بَعْدَ الْعَزْمِ وَقَالَ: «لاَ يَنْبَغِى لِنَبِىٍّ
يَلْبَسُ لأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ».
وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى أَهْلُ
الإِفْكِ عَائِشَةَ، فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ
الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى
تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ
وَكَانَتِ الأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَشِيرُونَ الأُمَنَاءَ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ فِى الأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا
بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ
لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً
بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ
فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُمِرْتُ
أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
إِلاَّ بِحَقِّهَا». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ
لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ
تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ
إِلَى مَشُورَةٍ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى
الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ،
وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ قَالَ
النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ
بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ». وَكَانَ الْقُرَّاءُ
أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولاً كَانُوا أَوْ
شُبَّانًا وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
(باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} [الثورى: 38])
أي ذو شورى يعني لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه وقوله
تعالى: ({وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 59]) استظهارًا
برأيهم وتطييبًا لنفوسهم وتمهيدًا لسُنّة المشاورة للأمة
(وإن المشاورة قبل العزم) على الشيء (و) قبل (التبيين) وهو
وضوح المقصود (لقوله تعالى: {فإذا عزمت}) فإذا قطعت الرأي
على شيء بعد الشورى ({فتوكل على الله} [آل عمران: 159]) في
إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك (فإذا عزم الرسول -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بعد المشورة على شيء وشرع
فيه (لم يكن لبشر التقدّم على الله ورسوله) للنهي عن ذلك
في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي
الله ورسوله} [الحجرات: 1] (وشاور النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه يوم أُحُد في المقام والخروج)
بضم الميم (فرأوا له الخروج فلما لبس لامته) بغير همزة في
الفرع كأصله وفي غيرهما بهمزة ساكنة بعد اللام أي درعه
(وعزم) على الخروج والقتال وندموا (قالوا) له يا رسول الله
(قم) بفتح الهمزة وكسر القاف بالمدينة ولا تخرج منها إليهم
(فلم يمل إليهم) فيما قالوه (بعد العزم) لأنه يناقض التوكل
الذي أمره الله به (وقال: لا ينبغي لنبي يلبس لامته فيضعها
حتى يحكم الله) بينه وبين عدوه.
وهذا وصله الطبراني بمعناه من حديث ابن عباس.
(وشاور) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عليًّا) أي
ابن أبي طالب (وأسامة) بن زيد (فيما رمى به أهل الإفك)
ولأبي ذر عن الكشميهني رمى أهل الإفك به (عائشة) -رضي الله
عنها- (فسمع منهما) ما قالاه ولم يعمل بجميعه فأما عليّ
فأومأ إلى الفراق بقوله والنساء سواها كثير وأما أسامة
فقال إنه لا يعلم عنها إلا الخير فلم يعمل عليه الصلاة
والسلام بما أومأ إليه عليّ من المفارقة وعمل بقوله واسأل
الجارية فسألها وعمل بقول أسامة في عدم المفارقة ولكنه أذن
لها في التوجه إلى بيت أبيها (حتى نزل القرآن فجلد
الرامين) بصيغة الجمع وسمي في رواية أبي داود منهم مسطح بن
أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ولم يقع في شيء من طرق
حديث الإفك في الصحيحين أنه جلد الرامين نعم رواه أحمد
وأصحاب السنن من حديث عائشة (ولم يلتفت إلى تنازعهم) أي
إلى تنازع علي وأسامة ومن وافقهما وفي الطبراني عن ابن عمر
في قصة الإفك، وبعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إلى علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد وبريرة. قال
في الفتح: فكأنه أشار بصيغة الجمع في قوله تنازعهم إلى ضم
بريرة إلى علي وأسامة لكن استشكل بأن ظاهر سياق الحديث
الصحيح أنها لم تكن حاضرة. وأجيب بأن المراد بالتنازع
اختلاف قول المذكورين عندما سألتهم واستشارتهم وهو أعم من
أن يكونوا مجتمعين أو مفترقين (ولكن حكم بما أمره الله
وكانت الأئمة) من الصحابة والتابعين فمن بعدهم (بعد النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستشيرون الأمناء من
أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها) إذا لم يكن
فيها نص بحكم معين وكانت على أصل الإباحة والتقييد
بالأمناء صفة موضحة لأن غير المؤتمن لا يستشار ولا يلتفت
لقوله (فإذا وضح الكتاب) القرآن (أو السُّنّة لم يتعدوه
إلى غيره اقتداء) ولأبي ذر عن الكشميهني اقتدوا.
(بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ورأى أبو
بكر) الصديق -رضي الله عنه- (قتال من منع الزكاة فقال عمر)
رضي الله عنه: (كيف تقاتل)؟ زاد أبو ذر الناس (وقد قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أمرت) أي
أمرني الله (أن أقاتل الناس) المشركين عبدة الأوثان دون
أهل الكتاب (حتى) أي إلى أن (يقولوا لا إله إلا الله فإذا
قالوا لا إله إلا الله) مع محمد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عصموا) أي حفظوا (مني دماءهم
وأموالهم) فلا تهدر دماؤهم ولا تستباح أموالهم بعد عصمتهم
بالإسلام بسبب من الأسباب (إلا بحقها) من قتل نفس أو حدّ
أو غرامة متلف زاد أبو ذر هنا وحسابهم أي بعد ذلك على الله
أي في أمر سرائرهم وإنما قيل دون
(10/355)
أهل الكتاب لأنهم إذا أعطوا الجزية سقط
عنهم القتال وثبتت لهم العصمة فيكون ذلك تقييدًا للمطلق
(فقال أبو بكر) -رضي الله عنه- (والله لأقاتلن من فرق بين
ما جمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم
تابعه بعد عمر) -رضي الله عنه- على ذلك (فلم يلتفت أبو بكر
إلى مشورة) وللكشميهني إلى مشورته (إذ) بسكون المعجمة (كان
عنده حكم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين
وأحكامه) بالجر عطفًا على المجرور السابق.
(وقال) ولغير أبي ذر قال (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) فيما وصله المؤلّف من حديث ابن عباس في كتاب
المحاربين (من بدّل دينه فاقتلوه. وكان القراء أصحاب مشورة
عمر) بفتح الميم وضم المعجمة وسكون الواو (كهولاً كانوا أو
شبانًا) هذا طرف عن حديث وقع موصولاً في التفسير (وكان) أي
عمر (وقافًا) بتشديد القاف أي كثير الوقوف (عند كتاب الله
عز وجل) كذا وقع في التفسير موصولاً.
7369 - حَدَّثَنَا الأُوَيْسِىُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
حَدَّثَنِى عُرْوَةُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ
بْنُ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى
الله عنها - حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ قَالَتْ:
وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ
زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْىُ يَسْأَلُهُمَا، وَهْوَ
يَسْتَشِيرُهُمَا فِى فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا
أُسَامَةُ فَأَشَارَ بِالَّذِى يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ
أَهْلِهِ، وَأَمَّا عَلِىٌّ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ
اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ
الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ فَقَالَ: «هَلْ رَأَيْتِ مِنْ
شَىْءٍ يَرِيبُكِ»؟ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَمْرًا
أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ
تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِى الدَّاجِنُ
فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «يَا
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِى مِنْ رَجُلٍ
بَلَغَنِى أَذَاهُ فِى أَهْلِى وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ
عَلَى أَهْلِى إِلاَّ خَيْرًا». فَذَكَرَ بَرَاءَةَ
عَائِشَةَ: وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ. عَنْ هِشَامٍ.
وبه قال: (حدّثنا الأويسي) ولأبي ذر الأويسي عبد العزيز بن
عبد الله قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وثبت ابن سعد لأبي ذر وسقط
لغيره (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري أنه قال: (حدّثني) بالإفراد (عروة) بن الزبير بن
العوّام (وابن المسيب) سعيد (وعلقمة بن وقاص وعبيد الله)
بضم العين ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أربعتهم (عن
عائشة -رضي الله عنها- حين قال لها أهل الإفك) زاد أبو ذر
ما قالوا (قالت: ودعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- علي بن أبي طالب) -رضي الله عنه- (وأسامة بن
زيد -رضي الله عنهما- حين استلبث الوحي) تأخر وأبطأ
(يسألهما وهو يستشيرهما في فراق أهله) يعني عائشة ولم تقل
في فراقي لكراهتها التصريح بإضافة الفراق إليها (فأما
أسامة فأشار) على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (بالذي يعلم من براءة أهله) مما نسبوه إليها
فقال كما في الشهادات أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله
إلا خيرًا (وأما علي) -رضي الله عنه- (فقال) يا رسول الله
(لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير) بصيغة التذكير
للكل على إرادة الجنس، وإنما قال ذلك لما رأى عند النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الغم والقلق لأجل
ذلك (وسل الجارية) بريرة (تصدقك) بالجزم على الجزاء أي إن
أردت تعجيل الراحة فطلقها وإن أردت خلاف ذلك فابحث عن
حقيقة الأمر فدعا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بريرة (فقال) لها:
(هل رأيت من شيء يريبك) بفتح أوله يعني عن جنس ما قيل فيها
(قالت ما رأيت أمرًا أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام)
ولأبي ذر عن الكشميهني فتنام (عن عجين أهلها) لأن
الحديث السن يغلب عليه النوم ويكثر عليه (فتأتي الداجن)
بالدال المهملة والجيم الشاة التي تألف البيوت (فتأكله
فقام) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (على
المنبر) خطيبًا (فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني) بكسر
الذال المعجمة من يقوم بعذري إن كافأته على قبيح فعله ولا
يلومني (من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على)
ولأبي ذر عن الكشميهني في (أهلي إلاَّ خيرًا. فذكر براءة
عائشة) -رضي الله عنها-.
وهذا الحديث سبق بأطول من هذا في مواضع في الشهادات
والتفسير والأيمان والنذور وغيرها. (وقال أبو أسامة) حماد
بن أسامة (عن هشام) هو ابن عروة قال المؤلّف.
7370 - حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ أَبِى زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِىُّ، عَنْ
هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطَبَ
النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:
«مَا تُشِيرُونَ عَلَىَّ فِى قَوْمٍ يَسُبُّونَ أَهْلِى،
مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُوءٍ قَطُّ»، وَعَنْ
عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا أُخْبِرَتْ عَائِشَةُ بِالأَمْرِ
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِى أَنْ
أَنْطَلِقَ إِلَى أَهْلِى فَأَذِنَ لَهَا، وَأَرْسَلَ
مَعَهَا الْغُلاَمَ وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ:
سُبْحَانَكَ {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
(حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر وحدّثني بالواو (محمد بن حرب)
النشائي بالنون والشين المعجمة الخفيفة قال: (حدّثنا يحيى
بن أبي زكريا الغساني) بغين معجمة مفتوحة وسين مهملة مشددة
وبعد الألف نون وفي أصل أبي ذر كما ذكره في حاشية الفرع
كأصله العشاني بالعين المهملة والشين المعجمة وصحح عليه
وكتب نسخة الغساني بالغين المعجمة والسين المهملة قال
الحافظ ابن حجر والذي بالعين المهملة ثم المعجمة تصحيف
شنيع (عن هشام) هو ابن عروة (عن) أبيه (عروة) بن الزبير
(عن عائشة) -رضي الله عنها- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب الناس فحمد الله) تعالى (وأثنى
عليه) بما هو أهله (وقال):
(10/356)
(ما تشيرون علي) بتشديد الياء (في قوم يسبون أهلي ما علمت
عليهم من سوء قط. وعن عروة) بن الزبير بالسند السابق أنه
(قال: لما أخبرت عائشة) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول وسكون
الفوقية (بالأمر) الذي قاله أهل الإفك (قالت: يا رسول الله
أتأذن لي أن أنطلق إلى أهلي فأذن لها وأرسل معها الغلام.
وقال رجل من الأنصار): هو أبو أيوب خالد الأنصاري كما عند
ابن إسحاق، وأخرجه الحاكم من طريقه (سبحانك {ما يكون لنا
أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم}). وسبح تعجبًا ممن
يقول ذلك فهو تنزيه لله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة
وقوله وقال أبو أسامة هو تعليق، وقوله وحدّثني محمد بن حرب
طريق موصول والله أعلم.
هذا آخر كتاب الاعتصام نجز سادس عشر ربيع الأول سنة 916،
ولما فرغ المؤلف من مسائل أصول الفقه شرع في مسائل أصول
الكلام وما يتعلق به وبه ختم الكتاب وكانت الأولى تقديم
أصول الكلام لأنه الأصل والأساس والكل مبني عليه لكنه من
باب الترقي إرادة لختم الكتاب بالأشرف فقال. |