شرح النووي على مسلم

 (

كتاب الصلاة)
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ فَقِيلَ هِيَ الدُّعَاءُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ لِأَنَّهَا ثَانِيَةٌ لِشَهَادَةِ التَّوْحِيدِ كَالْمُصَلِّي مِنَ السَّابِقِ فِي خَيْلِ الْحَلَبَةِ وَقِيلَ هِيَ مِنْ الصَّلَوَيْنِ وَهُمَا عِرْقَانِ مَعَ الرِّدْفِ وَقِيلَ هُمَا عَظْمَانِ يَنْحَنِيَانِ فِي الرُّكُوعِ والسجود قالوا ولهذا كتبت الصلوة بِالْوَاوِ فِي الْمُصْحَفِ وَقِيلَ هِيَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقِيلَ أَصْلُهَا الْإِقْبَالُ عَلَى الشَّيْءِ وَقِيلَ غَيْرُ ذلك والله تعالى أعلم

(باب بدء الاذان)
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْأَذَانُ الْإِعْلَامُ قَالَ اللَّهُ تعالى وأذان من الله ورسوله وقال تعالى فأذن مؤذن وَيُقَالُ الْأَذَانُ وَالتَّأْذِينُ وَالْأُذَيْنُ قَوْلُهُ (كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعْنَى يَتَحَيَّنُونَ يُقَدِّرُونَ حِينَهَا لِيَأْتُوا إِلَيْهَا فِيهِ وَالْحِينُ الْوَقْتُ مِنَ الزَّمَانِ قَوْلُهُ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ اتَّخِذُوا نَاقُوسًا) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هُوَ الَّذِي يَضْرِبُ بِهِ النَّصَارَى لِأَوْقَاتِ

(4/75)


صَلَوَاتِهِمْ وَجَمْعُهُ نَوَاقِيسُ وَالنَّقْسُ ضَرْبُ النَّاقُوسِ قَوْلُهُ (كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اتَّخِذُوا نَاقُوسًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَرْنًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ يَا بِلَالُ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي إِصَابَتِهِ الصَّوَابَ وَفِيهِ التشاور في الامور لاسيما الْمُهِمَّةُ وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ كَانَتِ الْمُشَاوَرَةُ وَاجِبَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ كَانَتْ سُنَّةً فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَقِّنَا وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ وُجُوبُهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَشَاوِرْهُمْ في الامر وَالْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمُحَقِّقُو أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُتَشَاوِرِينَ أَنْ يَقُولَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا عِنْدَهُ ثُمَّ صَاحِبُ الْأَمْرِ يَفْعَلُ مَا ظَهَرَتْ لَهُ مَصْلَحَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ (أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِعْلَامٌ لَيْسَ عَلَى صِفَةِ الْأَذَانِ الشَّرْعِيِّ بَلْ إِخْبَارٌ بِحُضُورِ وَقْتِهَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ أَوْ مُتَعَيَّنٌ فَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ رَأَى الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِهِ فَجَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ فَيَكُونُ الْوَاقِعُ الْإِعْلَامَ أَوَّلًا ثُمَّ رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَذَانَ فَشَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِمَّا بِوَحْيٍ وَإِمَّا بِاجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ هُوَ عَمَلًا بِمُجَرَّدِ المنام هذا ما لايشك فِيهِ بِلَا خِلَافٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ ولايصح لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ غَيْرُ حَدِيثِ الْأَذَانِ وَهُوَ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ ذَاكَ لَهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ عَمُّ عباد

(4/76)


بْنِ تَمِيمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (يابلال قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ حُجَّةٌ لِشَرْعِ الْأَذَانِ مِنْ قِيَامٍ وأنه لايجوز الْأَذَانُ قَاعِدًا قَالَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَإِنَّهُ جَوَّزَهُ وَوَافَقَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَالِكِيُّ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّا قَدَّمْنَا عَنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا النِّدَاءِ الْإِعْلَامُ بِالصَّلَاةِ لَا الْأَذَانُ الْمَعْرُوفُ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ قُمْ فَاذْهَبْ إِلَى مَوْضِعٍ بَارِزٍ فَنَادِ فِيهِ بِالصَّلَاةِ لِيَسْمَعَكَ النَّاسُ مِنَ الْبُعْدِ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْقِيَامِ فِي حَالِ الْأَذَانِ لَكِنْ يُحْتَجُّ لِلْقِيَامِ فِي الْأَذَانِ بِأَحَادِيثَ مَعْرُوفَةٍ غَيْرِ هَذَا وَأَمَّا قَوْلُهُ مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ مَذْهَبُنَا الْمَشْهُورُ أَنَّهُ سُنَّةٌ فَلَوْ أَذَّنَ قَاعِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ صَحَّ أَذَانُهُ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ وَكَذَا لَوْ أَذَّنَ مُضْطَجِعًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ صَحَّ أَذَانُهُ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِعْلَامُ وَقَدْ حَصَلَ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي اشْتِرَاطِ الْقِيَامِ شَيْءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا السَّبَبُ فِي تَخْصِيصِ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنِّدَاءِ وَالْإِعْلَامِ فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ قِيلَ مَعْنَاهُ أَرْفَعُ صَوْتًا وَقِيلَ أَطْيَبُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ كَوْنِ الْمُؤَذِّنِ رَفِيعَ الصَّوْتِ وَحَسَنَهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ أَصْحَابُنَا فَلَوْ وَجَدْنَا مُؤَذِّنًا حَسَنَ الصَّوْتِ يَطْلُبُ عَلَى أَذَانِهِ رِزْقًا وَآخَرَ يَتَبَرَّعُ بِالْأَذَانِ لَكِنَّهُ غَيْرُ حَسَنِ الصَّوْتِ فَأَيُّهُمَا يُؤْخَذُ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يُرْزَقُ حَسَنُ الصَّوْتِ وَهُوَ قول بن شُرَيْحٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي حِكْمَةِ الْأَذَانِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءٍ إِظْهَارُ شِعَارِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِعْلَامُ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَبِمَكَانِهَا وَالدُّعَاءُ إلى الجماعة والله أعلم

(باب الأمر بشقع الأذن وايتار الاقامة الا كلمة الاقامة فانها مثنى)
فِيهِ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ

(4/77)


الْإِقَامَةَ إِلَّا الْإِقَامَةَ) أَمَّا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ فَهُوَ خَالِدُ بْنُ مِهْرَانَ أَبُو الْمُنَازِلِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَلَمْ يَكُنْ حَذَّاءً وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِسُ فِي الْحَذَّائِينَ وَقِيلَ فِي سَبَبِهِ غَيْرَ هَذَا وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَأَمَّا أَبُو قِلَابَةَ فَبِكَسْرِ الْقَافِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْجُرْمِيُّ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا وَقَوْلُهُ يَشْفَعُ الْأَذَانَ هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْفَاءِ وَقَوْلُهُ أُمِرَ بِلَالٌ هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْأُصُولِ وَجَمِيعِ الْمُحَدِّثِينَ وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ هَذَا اللَّفْظُ وَشَبَهُهُ مَوْقُوفٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ لِأَنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى صَاحِبِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا بِكَذَا وَنُهِينَا عَنْ كذا أوأمر النَّاسُ بِكَذَا وَنَحْوُهُ فَكُلُّهُ مَرْفُوعٌ سَوَاءٌ قَالَ الصَّحَابِيُّ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ فَمَعْنَاهُ يَأْتِي بِهِ مَثْنَى وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَحُكِيَ فِي إِفْرَادِهِ خِلَافٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِثْبَاتِ التَّرْجِيعِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيُوتِرُ الْإِقَامَةَ فَمَعْنَاهُ يَأْتِي بِهَا وِتْرًا وَلَا يُثَنِّيهَا بِخِلَافِ الْأَذَانِ وَقَوْلُهُ إِلَّا الْإِقَامَةَ مَعْنَاهُ إِلَّا لَفْظَ الْإِقَامَةِ وهي قوله قد قامت الصلاة فانه لايوترها بَلْ يُثَنِّيهَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي لَفْظِ الْإِقَامَةِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْإِقَامَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ كَلِمَةً اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ مَالِكٌ رحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ هِيَ عَشْرُ كَلِمَاتٍ فَلَمْ يُثَنِّ لَفْظَ الْإِقَامَةِ وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَقُولُ فِي الْأَوَّلِ اللَّهُ أَكْبَرُ مَرَّةً وَفِي الْآخَرِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَيَقُولُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّةً فَتَكُونُ ثَمَانِ كَلِمَاتٍ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْإِقَامَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً فَيُثَنِّيهَا كُلَّهَا وَهَذَا الْمَذْهَبُ شَاذٌّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي الْحَرَمَيْنِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ

(4/78)


إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْإِقَامَةَ فُرَادَى قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُكَرِّرُ قَوْلَهُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ إِلَّا مَالِكًا فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُكَرِّرُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحِكْمَةُ فِي إِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَةِ الْأَذَانِ أَنَّ الْأَذَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ فَيُكَرِّرُ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إِعْلَامِهِمْ وَالْإِقَامَةُ لِلْحَاضِرِينَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكْرَارِهَا وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ يَكُونُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْإِقَامَةِ دُونَهُ فِي الْأَذَانِ وَإِنَّمَا كَرَّرَ لَفْظَ الْإِقَامَةِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْإِقَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ قَدْ قُلْتُمْ أَنَّ الْمُخْتَارَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْإِقَامَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ كَلِمَةً مِنْهَا اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَهَذَا تَثْنِيَةٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ صُورَةَ تَثْنِيَةٍ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَذَانِ إِفْرَادٌ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَقُولَ كُلَّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ فَيَقُولُ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ بِنَفَسٍ آخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (ذَكَرُوا أَنْ يُعْلِمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ أَيْ يَجْعَلُوا لَهُ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا قَوْلُهُ (فَذَكَرُوا أَنْ يُنَوِّرُوا نَارًا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُورُوا نَارًا بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ فمعنى ينوروا أي يظهروا نورها ومعنى أَيْ يُوقِدُوا وَيُشْعِلُوا يُقَالُ أَوْرَيْتَ النَّارَ أَيْ أَشْعَلْتَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تورون والله أعلم

(4/79)


(باب صفة الاذان)
قَوْلُهُ (أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) قَدْ قَدَّمْنَا مَرَّاتٍ أَنَّ غَسَّانَ مُخْتَلَفٌ فِي صَرْفِهِ وَالْمِسْمَعِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ مَنْسُوبٌ إِلَى مِسْمَعٍ جَدِّ قَبِيلَةٍ قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ صَاحِبِ الدَّسْتُوَائِيِّ) قَوْلُهُ صَاحِبِ هُوَ مَجْرُورٌ صِفَةً لهشام ولايقال إِنَّهُ مَرْفُوعٌ صِفَةً لِمُعَاذٍ وَقَدْ صَرَّحَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ صِفَةٌ لِهِشَامٍ ذَكَرَهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَقَدْ بَيَّنْتُهُ هُنَاكَ وَأَوْضَحْتُ الْقَوْلَ فِيهِ وَذَكَرْتُ أَنَّهُ يقال فيه الدستواني بالنون وأنه منسوب إلى دستوا كورةمن كُوَرِ الْأَهْوَازِ قَوْلُهُ (عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ) هَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ تَابِعِيُّونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَعَامِرٌ هَذَا هُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْبَصْرِيُّ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ) اسْمُهُ سَمُرَةُ وَقِيلَ أَوْسٌ وقيل جابر وقال بن قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ سَمُرَةَ وهو غريب وأبو مَحْذُورَةَ قُرَشِيٌّ جُمَحِيٌّ أَسْلَمَ بَعْدَ حُنَيْنٍ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَقِيلَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِمَكَّةَ وَتَوَارَثَتْ ذُرِّيَّتُهُ الْأَذَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ هَذَا الْأَذَانَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مرتين

(4/80)


حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ فِي أَوَّلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ وَوَقَعَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْفَارِسِيِّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي التَّثْنِيَةِ وَالتَّرْبِيعِ وَالْمَشْهُورُ فِيهِ التَّرْبِيعُ وَبِالتَّرْبِيعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَبِالتَّثْنِيَةِ قَالَ مَالِكٌ وَاحْتُجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِأَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ أَعْرَفُ بِالسُّنَنِ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَبِالتَّرْبِيعِ عَمَلُ أَهْلِ مَكَّةَ وَهِيَ مَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوَاسِمِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّرْجِيعَ فِي الْأَذَانِ ثَابِتٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْعَوْدُ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بَعْدَ قَوْلِهِمَا مَرَّتَيْنِ بِخَفْضِ الصَّوْتِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ لَا يَشْرَعُ التَّرْجِيعُ عَمَلًا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيعٌ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَالزِّيَادَةُ مُقَدَّمَةٌ مَعَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي مَحْذُورَةَ هَذَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي مَحْذُورَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ من الهجرة بعد حنين وحديث بن زَيْدٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَانْضَمَّ إِلَى هَذَا كُلِّهِ عَمَلُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَسَائِرِ الْأَمْصَارِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي التَّرْجِيعِ هَلْ هو ركن لايصح الْأَذَانُ إِلَّا بِهِ أَمْ هُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ رُكْنًا حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ صَحَّ الْأَذَانُ مَعَ فَوَاتِ كَمَالِ الْفَضِيلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ فِعْلِ التَّرْجِيعِ وَتَرْكِهِ وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَعْنَاهُ تَعَالَوْا إِلَى الصَّلَاةِ وَأَقْبِلُوا إِلَيْهَا قَالُوا وَفُتِحَتِ الْيَاءُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الْيَاءِ السَّابِقَةِ الْمُدْغَمَةِ وَمَعْنَى حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ هَلُمَّ إِلَى الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ وَقِيلَ إِلَى الْبَقَاءِ أَيْ أقْبِلُوا عَلَى سَبَبِ الْبَقَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَالْفَلَحُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ لُغَةٌ فِي الْفَلَاحِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُقَالُ لِحَيَّ عَلَى كَذَا الْحَيْعَلَةُ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى

(4/81)


الْحَاءُ وَالْعَيْنُ لَا يَأْتَلِفَانِ فِي كَلِمَةٍ أَصْلِيَّةِ الْحُرُوفِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يُؤَلَّفَ فِعْلٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ مِثْلَ حَيَّ عَلَى فَيُقَالُ مِنْهُ حَيْعَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب اسْتِحْبَابِ اتِّخَاذِ مُؤَذِّنَيْنِ للمسجد الواحد)
فيه حديث بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤذنان بلال وبن أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا جَوَازُ وَصْفِ الْإِنْسَانِ بِعَيْبٍ فِيهِ لِلتَّعْرِيفِ أَوْ مَصْلَحَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَا عَلَى قَصْدِ التَّنْقِيصِ وَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْغِيبَةِ الْمُبَاحَةِ وَهِيَ سِتَّةُ مَوَاضِعَ يُبَاحُ فِيهَا ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِعَيْبِهِ وَنَقْصِهِ وَمَا يَكْرَهُهُ وَقَدْ بَيَّنْتُهَا بِدَلَائِلِهَا وَاضِحَةً فِي آخِرِ كِتَابِ الْأَذْكَارِ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي مُتَدَيِّنٌ عَنْ مِثْلِهِ وَسَأَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عِنْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ وَفِي حَدِيثِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَفِي حَدِيثِ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَأُنَبِّهُ عَلَى نَظَائِرِهَا فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شاء الله تعالى وبالله التوفيق واسم بن أُمِّ مَكْتُومٍ عَمْرُو بْنُ قَيْسِ بْنِ زَائِدَةَ بْنِ الْأَصَمِّ بْنِ هَرَمِ بْنِ رَوَاحَةَ هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زائدة واسم أم مكتوم عاتكه توفي بن أُمِّ مَكْتُومٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ شَهِيدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَذِّنَانِ يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ وَفِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَقَدْ كَانَ أَبُو مَحْذُورَةَ مُؤَذِّنًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَسَعْدُ الْقَرَظُ أَذَّنَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبَاءَ مَرَّاتٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ اتِّخَاذِ مُؤَذِّنِينَ لِلْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ يُؤَذِّنُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْآخَرُ عِنْدَ طُلُوعِهِ كَمَا كَانَ بِلَالٌ وبن أُمِّ مَكْتُومٍ يَفْعَلَانِ قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ مُؤَذِّنَيْنِ اتَّخَذَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً فَأَكْثَرَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَقَدِ اتَّخَذَ عُثْمَانُ رَضِيَ الله عنه أربعة للحاجة عند كثرةالناس قال اصحابنا ويستحب أن لايزاد على اربعة

(4/82)


إِلَّا لِحَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ قَالَ أَصْحَابُنَا وَإِذَا تَرَتَّبَ للاذان اثنان فصاعدا فالمستحب ان يُؤَذِّنُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ إِنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ تَرَتَّبُوا فِيهِ فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الِابْتِدَاءِ بِهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا أَذَّنُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِهِ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا وَقَفُوا مَعًا وَأَذَّنُوا وَهَذَا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ اخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ إِلَى تَهْوِيشٍ فَإِنْ أَدَّى إِلَى ذَلِكَ لَمْ يُؤَذِّنْ إِلَّا وَاحِدٌ فَإِنْ تَنَازَعُوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنْ أَذَّنُوا عَلَى التَّرْتِيبِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ بِهَا إِنْ كَانَ هُوَ الْمُؤَذِّنُ الرَّاتِبُ أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُؤَذِّنٌ رَاتِبٌ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ غَيْرَ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ فَأَيُّهُمَا أَوْلَى بِالْإِقَامَةِ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا أَنَّ الرَّاتِبَ أَوْلَى لِأَنَّهُ مَنْصِبُهُ وَلَوْ أَقَامَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ غَيْرُ مَنْ لَهُ وِلَايَةِ الْإِقَامَةِ اعْتَدَّ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا لَوْ خَطَبَ بِهِمْ وَاحِدٌ وَأَمَّ بِهِمْ غَيْرُهُ فَلَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلٍ وَأَمَّا إِذَا أَذَّنُوا مَعًا فَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى إِقَامَةِ وَاحِدٍ وَإِلَّا فَيَقْرَعُ قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَلَا يُقِيمُ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ إِلَّا وَاحِدٌ إِلَّا إِذَا لَمْ تَحْصُلِ الْكِفَايَةُ بِوَاحِدٍ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا بَأْسَ أَنْ يُقِيمُوا مَعًا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى التَّهْوِيشِ

(باب جَوَازِ أَذَانِ الْأَعْمَى إِذَا كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ)
فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها (كان بن أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَعْمَى) وَقَدْ تَقَدَّمَ مُعْظَمُ فِقْهِ الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَمَقْصُودُ الْبَابِ أَنَّ أَذَانَ الْأَعْمَى صَحِيحٌ وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةَ إِذَا كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ كَمَا كَانَ بلال وبن أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَى مُؤَذِّنًا وَحْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(4/83)


(باب الْإِمْسَاكِ عَنْ الْإِغَارَةِ عَلَى قَوْمٍ فِي دَارِ الْكُفْرِ إِذَا سُمِعَ فِيهِمْ الْأَذَانُ)
فِيهِ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَكَانَ يَسْتَمِعُ الْأَذَانَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلَّا أَغَارَ فَسَمِعَ رجلا يقول الله أكبر الله أكبرفقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْفِطْرَةِ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ الاالله فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ فَنَظَرُوا فَإِذَا رَاعِي مِعْزَى) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفِطْرَةِ أَيْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ أَيْ بِالتَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ فَإِذَا هُوَ رَاعِي مِعْزَى احْتُجَّ بِهِ فِي أَنَّ الْأَذَانَ مَشْرُوعٌ لِلْمُنْفَرِدِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ غَيْرِنَا وَفِي الْحَدِيثِ دليل على أن الاذان يمنع الاغارة عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِسْلَامِهِمْ وَفِيهِ أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ يَكُونُ إِسْلَامًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ

(باب اسْتِحْبَابِ الْقَوْلِ مِثْلِ قَوْلِ المؤذن لمن سمعه)
(ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل له الوسيلة) فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا سَمِعْتُمِ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ

(4/84)


صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ (إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله ثم قال حي علىالصلاة قال لاحول وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ على الفلاح قال لاحول وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ

(4/85)


ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ) أَمَّا أَسْمَاءُ الرِّجَالِ فَفِيهِ خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسَافٍ فَخُبَيْبُ بِضَمِّ الخاء المعجمة واساف بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفِيهِ الْحُكَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفُصُولِ الَّتِي فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ فَهُوَ حَكِيمٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ إِلَّا اثْنَيْنِ بِالضَّمِّ حُكَيْمٌ هَذَا وَزُرَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ وَأَمَّا قَوْلُ مُسْلِمٍ (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ) إِلَى آخِرِهِ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِدْرَاكِ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ مُرْسَلًا وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْعِلَلِ هُوَ حَدِيثٌ مُتَّصِلٌ وَصَلَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ وَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ هُوَ الصَّوَابُ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَقَدْ سَبَقَ مِثَالُ هَذَا فِي الشَّرْحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا لُغَاتُهُ فَفِيهِ والوسيلة وَقَدْ فَسَّرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْوَسِيلَةُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ

(4/86)


أي وجبت وقيل نالته قوله ص إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِهِ مَعْنَاهُ قَالَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ هَذَا مَثْنًى كَمَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فَاخْتَصَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شَطْرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى بَاقِيَةٍ وَمَعْنَى حَيَّ عَلَى كَذَا أَيْ تَعَالَوْا إِلَيْهِ وَالْفَلَاحُ الْفَوْزُ وَالنَّجَاةُ وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ قَالُوا وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ أَجْمَعُ لِلْخَيْرِ مِنْ لَفْظَةِ الْفَلَاحِ وَيَقْرُبُ مِنْهَا النَّصِيحَةُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي حَدِيثِ الدِّينُ النَّصِيحَةُ فَمَعْنَى حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَيْ تَعَالَوْا إِلَى سَبَبِ الْفَوْزِ وَالْبَقَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ وَالْفَلَاحُ وَالْفَلَحُ تُطْلِقُهُمَا الْعَرَبُ أَيْضًا على البقاء وقوله لاحول وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ يَجُوزُ فِيهِ خَمْسَةُ اوجه لاهل العربية مشهورة احدهما لاحول وَلَا قُوَّةَ بِفَتْحِهِمَا بِلَا تَنْوِينٍ وَالثَّانِي فَتْحُ الْأَوَّلِ وَنَصْبُ الثَّانِي مُنَوَّنًا وَالثَّالِثُ رَفْعُهُمَا مُنَوَّنَيْنِ وَالرَّابِعُ فَتْحُ الْأَوَّلِ وَرَفْعُ الثَّانِي مُنَوَّنًا وَالْخَامِسُ عَكْسُهُ قَالَ الْهَرَوِيُّ قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ الْحَوْلُ الْحَرَكَةُ أَيْ لَا حَرَكَةَ وَلَا اسْتِطَاعَةَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَكَذَا قَالَ ثَعْلَبٌ وَآخَرُونَ وَقِيلَ لَا حَوْلَ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا قُوَّةَ فِي تَحْصِيلِ خَيْرٍ إِلَّا بِاللَّهِ وَقِيلَ لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَتِهِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَتِهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ وَحُكِيَ هَذَا عن بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ لُغَةً غريبة ضعيفة أنه يقال لاحيل وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ بِالْيَاءِ قَالَ وَالْحَيْلُ وَالْحَوْلُ بِمَعْنًى وَيُقَالُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْحَوْقَلَةُ هَكَذَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْحَوْلَقَةُ فَعَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْحَاءُ وَالْوَاوُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقَافُ مِنَ الْقُوَّةِ وَاللَّامُ مِنَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى الثَّانِي الْحَاءُ وَاللَّامُ مِنَ الحول والقاف من الْقُوَّةُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِئَلَّا يُفْصَلَ بَيْنَ الْحُرُوفِ ومثل الحولقة الْحَيْعَلَةُ فِي حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى كَذَا وَالْبَسْمَلَةُ فِي بِسْمِ الله والحمد له فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْهَيْلَلَةُ فِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالسَّبْحَلَةُ فِي سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَّا أَحْكَامُ الْبَابِ فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ قَوْلِ سَامِعِ الْمُؤَذِّنِ مِثْلَ مَا يَقُولُ إِلَّا فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِحَدِيثِ عُمَرَ أنه يقول في الحيعلتين لاحول وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ مُتَابَعَةِ الْمُؤَذِّنِ وَاسْتِحْبَابُ سُؤَالِ الْوَسِيلَةِ لَهُ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ السَّامِعُ كُلَّ كَلِمَةٍ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْهَا وَلَا يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ مِنْ كُلِّ الْأَذَانِ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنَا أشهد أن

(4/87)


مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَغَّبَ غَيْرَهُ فِي خَيْرٍ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ شيئا من دلائله لِيُنَشِّطَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ من صلى علي مرة صلىالله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا وَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ يُشْتَرَطُ لَهَا الْقَصْدُ وَالْإِخْلَاصُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَلْبِهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ بِالْقَوْلِ مِثْلَ قَوْلِهِ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ مُتَطَهِّرٍ وَمُحْدِثٍ وَجُنُبٍ وَحَائِضٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا مَانِعَ لَهُ مِنَ الْإِجَابَةِ فَمِنْ أَسْبَابِ الْمَنْعِ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَلَاءِ أَوْ جِمَاعِ أَهْلِهِ أَوْ نَحْوِهِمَا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي صَلَاةٍ فَمَنْ كَانَ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ فَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ لَمْ يُوَافِقْهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا سَلَّمَ أَتَى بِمِثْلِهِ فَلَوْ فَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَهَلْ يُكْرَهُ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ اعراض عن الصلاة لكن لاتبطل صلاته ان قال ماذكرناه لِأَنَّهَا أَذْكَارٌ فَلَوْ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَوِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ لِأَنَّهُ كَلَامُ آدَمِيٍّ وَلَوْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي قِرَاءَةٍ أَوْ تَسْبِيحٍ أَوْ نَحْوِهِمَا قَطَعَ مَا هُوَ فِيهِ وَأَتَى بِمُتَابَعَةِ الْمُؤَذِّنِ وَيُتَابِعُهُ فِي الْإِقَامَةِ كَالْأَذَانِ إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ فِي لَفْظِ الْإِقَامَةِ أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا وَإِذَا ثَوَّبَ الْمُؤَذِّنُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ قَالَ سَامِعُهُ صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْكِي الْمُصَلِّي لَفْظَ الْمُؤَذِّنِ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ أَمْ لَا يَحْكِيهِ فِيهِمَا أَمْ يَحْكِيهِ فِي النَّافِلَةِ دُونَ الْفَرِيضَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِمَا وَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلُ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَمْ مَنْدُوبٌ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ قَالَ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَقُولُهُ عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ مُؤَذِّنٍ أَمْ لِأَوَّلِ مُؤَذِّنٍ فَقَطْ قَالَ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ هَلْ يُتَابَعُ الْمُؤَذِّنُ فِي كُلِّ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ أَمْ إِلَى آخِرِ الشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَمَا بَعْدَهُ بَعْضُهُ لَيْسَ بِذِكْرٍ وَبَعْضُهُ تَكْرَارٌ لِمَا سَبَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَصْلٌ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوْحِيدٌ وَثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَانْقِيَادٌ لِطَاعَتِهِ وَتَفْوِيضٌ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَمَنْ حَصَلَ هَذَا فَقَدْ حَازَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَكَمَالَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وبمحمد رسولا

(4/88)


وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَذَانَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِعَقِيدَةِ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَوْعَيْهِ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ فَأَوَّلُهُ إِثْبَاتُ الذَّاتِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْكَمَالِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ أَضْدَادِهَا وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعَ اخْتِصَارِ لَفْظِهَا دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ثُمَّ صَرَّحَ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَفْيِ ضِدِّهَا مِنَ الشَّرِكَةِ الْمُسْتَحِيلَةِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذِهِ عُمْدَةُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الْمُقَدَّمَةُ عَلَى كُلِّ وَظَائِفِ الدِّينِ ثُمَّ صَرَّحَ بِإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَمَوْضِعُهَا بَعْدَ التَّوْحِيدِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْجَائِزَةِ الْوُقُوعِ وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ مِنْ بَابِ الْوَاجِبَاتِ وَبَعْدَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ كَمُلَتِ الْعَقَائِدُ الْعَقْلِيَّاتُ فِيمَا يَجِبُ وَيَسْتَحِيلُ وَيَجُوزُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ دَعَا إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَعَقَّبَهَا بَعْدَ إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ وُجُوبِهَا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مِنْ جهة العقل ثم دعا إلى الفلاح وهوالفوز وَالْبَقَاءُ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهِيَ آخِرُ تَرَاجِمِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ للاعلام بالشروع فيها وهومتضمن لِتَأْكِيدِ الْإِيمَانِ وَتَكْرَارِ ذِكْرِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعِبَادَةِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَلِيَدْخُلَ الْمُصَلِّي فِيهَا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَبَصِيرَةٍ مِنْ إِيمَانِهِ وَيَسْتَشْعِرُ عَظِيمَ مَا دَخَلَ فِيهِ وَعَظَمَةَ حَقِّ مَنْ يَعْبُدُهُ وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَهُوَ مِنَ النَّفَائِسِ الْجَلِيلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ

(بَابُ فضل الاذان وهروب الشَّيْطَانِ عِنْدَ سَمَاعِهِ)
فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(4/89)


(إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ذَهَبَ حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ قَالَ الرَّاوِي هِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ مِيلًا) وَفِي رِوَايَةٍ (إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ أَحَالَ له ضراط حتى لايسمع صَوْتُهُ فَإِذَا سَكَتَ رَجَعَ فَوَسْوَسَ فَإِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ ذَهَبَ حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ فَإِذَا سَكَتَ رَجَعَ فَوَسْوَسَ) وَفِي رِوَايَةٍ (إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ حُصَاصٌ) وَفِي رِوَايَةٍ

(4/90)


(إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا ثَوَّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرُ بَيْنَ المرء ونفسه يقول له اذْكُرْ كَذَا وَاذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يُذْكَرُ مِنْ قَبْلُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ مَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى) أَمَّا أَسْمَاءُ الرِّجَالِ فَفِيهِ طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَمِّهِ هَذَا الْعَمُّ هُوَ عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقَوْلُهُ (الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ) اسْمُ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ وَقَوْلُهُ (قَالَ سُلَيْمَانُ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّوْحَاءِ) سُلَيْمَانُ هُوَ الْأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ وَالْمَسْئُولُ أَبُو سُفْيَانَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ وَفِيهِ أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا مَصْرُوفٌ وَغَيْرُ مَصْرُوفٍ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مَرَّاتٍ قَوْلُهُ (أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى بَنِي حَارِثَةَ) هُوَ بِالْحَاءِ قَوْلُهُ (الْحَزَامِيُّ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَأَمَّا لُغَاتُهُ وَأَلْفَاظُهُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا هُوَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَعْنَاقًا جَمْعُ عُنُقٍ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ مَعْنَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ تَشَوُّفًا إِلَى

(4/91)


رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُتَشَوِّفَ يُطِيلُ عُنُقَهُ إِلَى مَا يَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ فَمَعْنَاهُ كَثْرَةُ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ إِذَا أَلْجَمَ النَّاسَ الْعَرَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طَالَتْ أَعْنَاقُهُمْ لِئَلَّا يَنَالَهُمْ ذَلِكَ الْكَرْبُ وَالْعَرَقُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَادَةٌ وَرُؤَسَاءٌ وَالْعَرَبُ تَصِفُ السَّادَةَ بِطُولِ الْعُنُقِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَكْثَرُ أَتْبَاعًا وَقَالَ بن الْأَعْرَابِيِّ مَعْنَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَعْمَالًا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ إِعْنَاقًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إسْرَاعًا إِلَى الْجَنَّةِ وَهُوَ مِنْ سَيْرِ الْعُنُقِ قَوْلُهُ مَكَانُ الرَّوْحَاءِ هِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمَدِّ قَوْلُهُ إِذَا سَمِعَ الشَّيْطَانُ الْأَذَانَ أَحَالَ هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ ذَهَبَ هَارِبًا قَوْلُهُ وَلَهُ حُصَاصٌ هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ وَصَادَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ أَيْ ضُرَاطٌ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقِيلَ الْحُصَاصُ شِدَّةُ الْعَدْوِ قَالَهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْأَذَانِ لِئَلَّا يَسْمَعَهُ فَيُضْطَرُّ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لايسمع صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقِيلَ إِنَّمَا يَشْهَدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا شَهَادَةَ لَهُ قَالَ وَلَا يُقْبَلُ هَذَا مِنْ قَائِلِهِ لِمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ مِنْ خِلَافِهِ قَالَ وَقِيلَ أَنَّ هَذَا فِيمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الشَّهَادَةُ مِمَّنْ يَسْمَعُ وَقِيلَ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ لَهَا وَلِمَا لَا يَعْقِلُ مِنَ الْحَيَوَانِ إِدْرَاكًا لِلْأَذَانِ وَعَقْلًا وَمَعْرِفَةً وَقِيلَ إِنَّمَا يُدْبِرُ الشَّيْطَانُ لِعِظَمِ أَمْرِ الْأَذَانِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدَ التَّوْحِيدِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَانِهِ وَقِيلَ لِيَأْسِهِ مِنْ وَسْوَسَةِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْإِعْلَانِ بِالتَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا ثَوَّبَ بِالصَّلَاةِ الْمُرَادُ بِالتَّثْوِيبِ الْإِقَامَةُ وَأَصْلُهُ مِنْ ثَابَ إِذَا رَجَعَ وَمُقِيمُ الصَّلَاةِ رَاجِعٌ إِلَى الدُّعَاءِ إِلَيْهَا فَإِنَّ الْأَذَانَ دُعَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ وَالْإِقَامَةُ دُعَاءٌ إِلَيْهَا قَوْلُهُ حَتَّى يَخْطُرُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ قَالَ ضَبَطْنَاهُ عَنِ الْمُتْقِنِينَ بِالْكَسْرِ وَسَمِعْنَاهُ مِنْ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِالضَّمِّ قَالَ وَالْكَسْرُ هُوَ الْوَجْهُ وَمَعْنَاهُ يُوَسْوِسُ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ خَطَرَ الْفَحْلُ بِذَنَبِهِ إِذَا حَرَّكَهُ فَضَرَبَ بِهِ فخذيه وأما بالضم فمن السلوك والمرور أي يَدْنُو مِنْهُ فَيَمُرُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ فَيُشْغِلُهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ وَبِهَذَا فَسَّرَهُ الشَّارِحُونَ لِلْمُوَطَّأِ وَبِالْأَوَّلِ فَسَّرَهُ الْخَلِيلُ قَوْلُهُ (حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَيْفَ صَلَّى) إِنْ بِمَعْنَى مَا كما في الرواية

(4/92)


الاولى هذا هوالمشهور فِي قَوْلِهِ إِنْ يَدْرِي إِنَّهُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا قَالَ وهي رواية بن عَبْدِ الْبَرِّ وَادَّعَى أَنَّهَا رِوَايَةُ أَكْثَرِهِمْ وَكَذَا ضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَالصَّحِيحُ الْكَسْرُ أما فقه الباب ففيه فَضِيلَةُ الْأَذَانِ وَالْمُؤَذِّنِ وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مُصَرِّحَةً بِعِظَمِ فَضْلِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَفْضَلُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَرْصُدَ نَفْسَهُ لِلْأَذَانِ أَمْ لِلْإِمَامَةِ عَلَى أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا الْأَذَانُ أَفْضَلُ وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالثَّانِي الْإِمَامَةُ افضل وهونص الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَالثَّالِثُ هُمَا سَوَاءٌ وَالرَّابِعُ إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقِيَامَ بِحُقُوقِ الْإِمَامَةِ وَجَمِيعِ خِصَالِهَا فَهِيَ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَالْأَذَانُ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ وَالْمَسْعُودِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَمَّا جَمْعُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ فَإِنَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يستحب ان لا يَفْعَلَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ وَقَالَ مُحَقِّقُوهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ انه لابأس بِهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ وَهَذَا أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَابُ اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمِنْكَبَيْنِ مَعَ تَكْبِيرِةِ الْإِحْرَامِ)
(وَالرُّكُوعِ وَفِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وأنه لايفعله اذا رفع من السجود) فيه 0 بن عمر رضي الله عنه قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي مَنْكِبَيْهِ وَقَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُهُمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) وَفِي رواية

(4/93)


(وَلَا يَفْعَلُهُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ) وَفِي رِوَايَةٍ (إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ) وَفِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ (إِذَا صَلَّى كَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ (إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بهما اذنيه) وفي رواية (يحاذي بهما

(4/94)


فُرُوعَ أُذُنَيْهِ) أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ اليدين عند تكبيرة الْإِحْرَامِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وجمهور العلماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بَعْدَهمْ يُسْتَحَبُّ رَفْعُهُمَا أَيْضًا عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَفْعُهُمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَابِعٍ وَهُوَ إِذَا قَامَ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ فَقَدْ صَحَّ فِيهِ حديث بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُسْتَحَبُّ أَيْضًا فِي السُّجُودِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَا يُسْتَحَبُّ فِي غَيْرِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ مالك واجمعوا على انه لايجب شَيْءٌ مِنَ الرَّفْعِ وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ إِيجَابُهُ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَبِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ السَّيَّارِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَقَدْ حَكَيْتُهُ عَنْهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَفِي تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ وَأَمَّا صِفَةُ الرَّفْعِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ الْجَمَاهِيرِ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ بِحَيْثُ تُحَاذِي أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ فُرُوعَ أُذُنَيْهِ أَيْ أَعْلَى أُذُنَيْهِ وَإِبْهَامَاهُ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ وَرَاحَتَاهُ مَنْكِبَيْهِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَبِهَذَا جَمَعَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ رِوَايَاتِ الْأَحَادِيثِ فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَمَّا وَقْتُ الرَّفْعِ فَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى رَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ وَفِي الثَّانِيَةِ كَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَفِي الثَّالِثَةِ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ ثُمَّ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ مَعَ إِرْسَالِ الْيَدَيْنِ وَيُنْهِيهُ مَعَ انْتِهَائِهِ وَالثَّانِي يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَدَاهُ قَارَّتَانِ ثُمَّ يُرْسِلُهُمَا وَالثَّالِثُ يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ مِنِ ابْتِدَائِهِ التَّكْبِيرَ وَيُنْهِيهُمَا مَعًا وَالرَّابِعُ يَبْتَدِئُ بِهِمَا مَعًا وَيُنْهِي التَّكْبِيرَ مَعَ انْتِهَاءِ الْإِرْسَالِ وَالْخَامِسُ وَهُوَ الْأَصَحُّ يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَلَا اسْتِحْبَابَ فِي الِانْتِهَاءِ فَإِنْ فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرِ قَبْلَ تَمَامِ الرَّفْعِ أَوْ بِالْعَكْسِ تَمَّمَ الْبَاقِي وَإِنْ فَرَغَ مِنْهُمَا حَطَّ يَدَيْهِ وَلَمْ يَسْتَدِمِ الرَّفْعَ وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ مِنَ الْمِعْصَمِ أَوْ إِحْدَاهُمَا رَفَعَ السَّاعِدَ وَإِنْ قُطِعَ مِنَ السَّاعِدِ رَفَعَ الْعَضُدَ عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ لَا يَرْفَعُهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرَّفْعِ إِلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوعِ اونقص مِنْهُ فَعَلَ الْمُمْكِنَ فَإِنْ أَمْكَنَ فَعَلَ الزَّائِدَ ويستحب

(4/95)


أَنْ يَكُونَ كَفَّاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ عِنْدَ الرَّفْعِ وَأَنْ يَكْشِفَهُمَا وَأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا تَفْرِيقًا وَسَطًا وَلَوْ تَرَكَ الرَّفْعَ حَتَّى أَتَى بِبَعْضِ التَّكْبِيرِ رَفَعَهُمَا فِي الْبَاقِي فَلَوْ تَرَكَهُ حَتَّى أَتَمَّهُ لَمْ يَرْفَعْهُمَا بَعْدَهُ وَلَا يُقَصِّرُ التَّكْبِيرَ بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُ وَلَا يُبَالِغُ فِي مَدِّهِ بِالتَّمْطِيطِ بَلْ يَأْتِي بِهِ مُبَيَّنًا وَهَلْ يَمُدُّهُ أَوْ يُخَفِّفُهُ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يُخَفِّفُهُ وَإِذَا وَضَعَ يَدَيْهِ حَطَّهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ فَوْقَ سُرَّتِهِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ تَحْتَ سُرَّتِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَهُمَا أَرْسَلَهُمَا إِرْسَالًا خَفِيفًا إِلَى تَحْتِ صَدْرِهِ فَقَطْ ثُمَّ يَضَعُ الْيَمِينَ عَلَى الْيَسَارِ وقيل يرسلهما إرسالا بليغا ثم يستأنف رفعهماالى تَحْتِ صَدْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحِكْمَةِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلْتُهُ إِعْظَامًا لِلَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ اسْتِكَانَةٌ وَاسْتِسْلَامٌ وَانْقِيَادٌ وَكَانَ الْأَسِيرُ إِذَا غُلِبَ مَدَّ يَدَيْهِ عَلَامَةٌ لِلِاسْتِسْلَامِ وَقِيلَ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِعْظَامِ مَا دَخَلَ فِيهِ وَقِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى طَرْحِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَمُنَاجَاةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَيُطَابِقُ فِعْلُهُ قَوْلَهُ وَقِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا الْأَخِيرُ مُخْتَصٌّ بِالرَّفْعِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَفِي أَكْثَرِهَا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ فِيهِ إِثْبَاتُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله وجماعة عن بن الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُنَّةً لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَأَنَّ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ يَكْفِي فِيهِ النِّيَّةُ وَلَا أَظُنُّ هَذَا يَصِحُّ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامِ مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَعَ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ ولفظة التكبير الله اكبر فهذا يجزئ بالاجماع قال الشافعي ويجزي الله الاكبر لايجزي غيرهما وقال مالك لا يجزئ إِلَّا اللَّهُ أَكْبَرُ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُ وَهَذَا قَوْلٌ مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ اللَّهُ الْكَبِيرُ وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الِاقْتِصَارَ فِيهِ عَلَى كُلِّ لَفْظٍ فِيهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ أَوِ اللَّهُ أَجَلُّ أَوْ أعْظَمُ وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ

(4/96)


مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْحِكْمَةُ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ افْتِتَاحُهَا بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَنَعْتُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَابُ إِثْبَاتِ التَّكْبِيرِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ فِي الصَّلَاةِ)
(إِلَّا رَفْعَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَيَقُولُ فِيهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه) فِيهِ (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يركع ثم يقول سمع الله لمن حمد حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حين يهوى ساجدا ثم يكبر حين يرفع رَأْسَهُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومَ من المثنى

(4/97)


بَعْدَ الْجُلُوسِ) فِيهِ إِثْبَاتُ التَّكْبِيرِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ إِلَّا فِي رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ فانه يقول سمع الله لمن حمد وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَمِنَ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَدْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ فِي زَمَنِ أَبِي هريرة وكان بعضهم لايرى التَّكْبِيرَ إِلَّا لِلْإِحْرَامِ وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَانَ هؤلاء لم يبلغهم فعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَقَرَّ الْعَمَلُ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فَفِي كُلِّ صَلَاةٍ ثُنَائِيَّةٍ إِحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً وَهِيَ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَخَمْسٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَفِي الثلاثية سبع عشرة وهي تكبيرةالإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الاول وخمس ركعة وفي الرباعية اثنتان وَعِشْرُونَ فَفِي الْمَكْتُوبَاتِ الْخَمْسِ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ تَكْبِيرَةً واعلم ان تكبيرة الاحرام واجبة وما عدا سُنَّةٌ لَوْ تَرَكَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ وَمُوَافَقَةُ السُّنَّةِ هَذَا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلا واحمد بن حنبل رضي الله عنه في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ جَمِيعَ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبَةٌ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ فَعَلَّمَهُ وَاجِبَاتِهَا فَذَكَرَ منها

(4/98)


تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا زَادَ وَهَذَا مَوْضِعُ الْبَيَانِ وَوَقْتُهُ وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ وقوله يكبرحين يَهْوِي سَاجِدًا ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الْمَثْنَى هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مُقَارَنَةِ التَّكْبِيرِ لِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ وَبَسْطِهِ عَلَيْهَا فَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَشْرَعُ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الرُّكُوعِ وَيَمُدُّهُ حَتَّى يَصِلَ حَدَّ الرَّاكِعِينَ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَشْرَعُ فِي الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ وَيَمُدُّهُ حَتَّى يَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي تَسْبِيحِ السُّجُودِ وَيَبْدَأُ فِي قَوْلِهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَشْرَعُ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَيَمُدُّهُ حَتَّى يَنْتَصِبَ قَائِمًا ثُمَّ يَشْرَعُ فِي ذكر الاعتدال وهو ربنا لك الحمدالى آخِرِهِ وَيَشْرَعُ فِي التَّكْبِيرِ لِلْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ حِينَ يَشْرَعُ فِي الِانْتِقَالِ وَيَمُدُّهُ حَتَّى يَنْتَصِبَ قَائِمًا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ انه لايكبر لِلْقِيَامِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَطَائِفَةٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنَ إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَمُنْفَرِدٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حمده

(4/99)


فِي حَالِ ارْتِفَاعِهِ وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فِي حَالِ اسْتِوَائِهِ وَانْتِصَابِهِ فِي الِاعْتِدَالِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُمَا جَمِيعًا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفُرُوعِهَا وَشَرْحُ أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا حَيْثُ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ لَقَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ هَجَرَ اسْتِعْمَالَ التَّكْبِيرِ فِي الِانْتِقَالَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ ركعة وانه اذا لم يحسن)
(الفاتحه ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها) فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَفِي رواية

(4/100)


(مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَقَالَ اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى آخِرِهِ) وَفِيهِ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ أَمَّا أَلْفَاظُ الْبَابِ فَالْخِدَاجُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَالْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ وَالْهَرَوِيُّ وَآخَرُونَ الْخِدَاجُ النُّقْصَانُ يُقَالُ خَدَجَتِ النَّاقَةُ إِذَا أَلْقَتْ وَلَدَهَا قَبْلَ أَوَانِ النِّتَاجِ وَإِنْ كَانَ تَامَّ الْخَلْقِ وَأَخْدَجَتْهُ إِذَا وَلَدَتْهُ نَاقِصًا وَإِنْ كَانَ لِتَمَامِ الولادة ومنه قيل لذي اليدية مُخْدَجُ الْيَدِ أَيْ نَاقِصُهَا قَالُوا فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِدَاجٌ أَيْ ذَاتُ خِدَاجٍ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ خَدَجَتْ وَأُخْدِجَتْ إِذَا وَلَدَتْ لِغَيْرِ تَمَامٍ وَأُمُّ الْقُرْآنِ اسْمُ الْفَاتِحَةِ وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا فَاتِحَتُهُ كَمَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّهَا أَصْلُهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ (مَجَّدَنِي عَبْدِي) أَيْ عَظَّمَنِي

(4/101)


قَوْلُهُ (إِنَّ أَبَا السَّائِبِ أَخْبَرَهُ) أَبُو السَّائِبِ هَذَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ اسْمًا وَهُوَ ثِقَةٌ قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْقَافِ مَنْسُوبٌ إِلَى مَعْقِرَ وَهِيَ نَاحِيَةٌ مِنَ الْيَمَنِ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَفِيهِ وُجُوبُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ لَا يُجْزِي غَيْرُهَا إِلَّا لِعَاجِزٍ عَنْهَا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ لَا تَجِبُ الْفَاتِحَةُ بَلِ الْوَاجِبُ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ وَدَلِيلُ الجمهور قوله لَا صَلَاةَ إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنْ قَالُوا الْمُرَادُ لَا صَلَاةَ كَامِلَةً قُلْنَا هَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ

(4/102)


اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَأَمَّا حَدِيثُ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ أَوْ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ بَعْدَهَا أَوْ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنِ الْفَاتِحَةِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صَلَاةَ لم لمن يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ وُجُوبَهَا عَلَى الْمَأْمُومِ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ فَمَعْنَاهُ اقْرَأْهَا سِرًّا بِحَيْثُ تُسْمِعُ نَفْسَكَ وَأَمَّا مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ تَدَبُّرُ ذَلِكَ وَتَذَكُّرُهُ فَلَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تُطْلَقُ إلا على حركةاللسان بحيث يسمع نفسه ولهنا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ لَوْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةِ لِسَانِهِ لَا يَكُونُ قَارِئًا مُرْتَكِبًا لِقِرَاءَةِ الْجُنُبِ الْمُحَرَّمَةِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَبِيعَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قِرَاءَةٌ أَصْلًا وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ الثوري والأوزعاني وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَجِبُ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بَلْ هُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وُجُوبُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ ثم افعل ذلك في يصلاتك كُلِّهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ) الْحَدِيثُ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا الْفَاتِحَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجُّ عَرَفَةُ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا بِعَيْنِهَا فِي الصَّلَاةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُرَادُ قِسْمَتُهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ نِصْفَهَا الْأَوَّلَ تَحْمِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَمْجِيدٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَتَفْوِيضٌ إِلَيْهِ وَالنِّصْفُ الثَّانِي سُؤَالٌ وَطَلَبٌ وَتَضَرُّعٌ وَافْتِقَارٌ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِ مَا احْتَجُّوا بِهِ قَالُوا لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ بِالْإِجْمَاعِ فَثَلَاثٌ فِي أَوَّلِهَا ثَنَاءٌ أَوَّلُهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ وَثَلَاثٌ دُعَاءٌ أولها اهدنا الصراط المستقيم وَالسَّابِعَةُ مُتَوَسِّطَةٌ وَهِيَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالُوا وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمْ يَذْكُرِ الْبَسْمَلَةَ وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَذَكَرَهَا وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُولُ إِنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ بِأَجْوِبَةٍ أَحَدِهَا أَنَّ التَّنْصِيفَ عَائِدٌ إِلَى جُمْلَةِ الصَّلَاةِ لَا إِلَى الْفَاتِحَةِ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَالثَّانِي أَنَّ التَّنْصِيفَ عَائِدٌ إِلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَامِلَةِ وَالثَّالِثِ مَعْنَاهُ فَإِذَا انْتَهَى الْعَبْدُ فِي قِرَاءَتِهِ إِلَى الْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين

(4/103)


قَالَ الْعُلَمَاءُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وَأَثْنَى عَلَيَّ وَمَجَّدَنِي إِنَّمَا قَالَهُ لِأَنَّ التَّحْمِيدَ الثَّنَاءُ بِجَمِيلِ الْفِعَالِ وَالتَّمْجِيدُ الثَّنَاءُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَيُقَالُ أَثْنَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِهَذَا جَاءَ جَوَابًا لِلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِاشْتِمَالِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَقَوْلُهُ وَرُبَّمَا قَالَ فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي وَجْهُ مُطَابَقَةِ هَذَا لِقَوْلِهِ مَالِكِ يَوْمِ الدين أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْمُلْكِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَبِجَزَاءِ الْعِبَادِ وَحِسَابِهِمْ وَالدِّينُ الْحِسَابُ وَقِيلَ الْجَزَاءُ وَلَا دَعْوَى لِأَحَدٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا مَجَازَ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِبَعْضِ الْعِبَادِ مُلْكٌ مَجَازِيٌّ وَيَدَّعِي بَعْضُهُمْ دَعْوَى بَاطِلَةً وَهَذَا كُلُّهُ يَنْقَطِعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هَذَا مَعْنَاهُ وَإِلَّا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ وَالْمُلْكُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلدَّارَيْنِ وَمَا فِيهِمَا وَمَنْ فِيهِمَا وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ مَرْبُوبٌ لَهُ عَبْدٌ مُسَخَّرٌ ثُمَّ فِي هَذَا الِاعْتِرَافُ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّمْجِيدِ وَتَفْوِيضِ الأمر ما لايخفى وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المستقيم إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَهَذَا لِعَبْدِي هَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَفِي غَيْرِهِ فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اهْدِنَا وَمَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ ثَلَاثُ آيَاتٍ لَا آيَتَانِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّهَا آيَةٌ وَاهْدِنَا وَمَا بَعْدَهُ آيَتَانِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ يَقُولُ اهْدِنَا وَمَا بَعْدَهُ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَلِلْأَكْثَرِينَ أَنْ يَقُولُوا قَوْلُهُ هَؤُلَاءِ الْمُرَادُ بِهِ الْكَلِمَاتُ لَا الْآيَاتُ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَهَذَا لِعَبْدِي وَهَذَا أَحْسَنُ مِنَ الْجَوَابِ بِأَنَّ الْجَمْعَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ هَذَا مَجَازٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى صَرْفِهِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(4/104)


قَالَ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمَا أَعْلَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَنَّاهُ لَكُمْ وَمَا أَخْفَاهُ أَخْفَيْنَاهُ لَكُمْ) مَعْنَاهُ مَا جَهَرَ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ جَهَرْنَا بِهِ وَمَا أَسَرَّ أَسْرَرْنَا بِهِ وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَعَلَى الْإِسْرَارِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَثَالِثَةِ الْمَغْرِبِ وَالْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الْعِشَاءِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَمَذْهَبُنَا الْجَهْرُ فِيهِمَا وَفِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ قِيلَ يَجْهَرُ فِيهَا وَقِيلَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ وَنَوَافِلُ النَّهَارِ يُسِرُّ بِهَا وَالْكُسُوفُ يُسِرُّ بِهَا نَهَارًا وَيَجْهَرُ لَيْلًا وَالْجِنَازَةُ يُسِرُّ بِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا وَقِيلَ يَجْهَرُ لَيْلًا وَلَوْ فَاتَهُ صَلَاةُ لَيْلَةٍ كَالْعِشَاءِ فَقَضَاهَا فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى جَهَرَ وَإِنْ قَضَاهَا نَهَارًا فَوَجْهَانِ الْأَصَحُّ يُسِرُّ وَالثَّانِي يَجْهَرُ وَإِنْ فَاتَهُ نهارية كالظهر فقضاها نهارا أسر وإن قَضَاهَا لَيْلًا فَوَجْهَانِ الْأَصَحُّ يَجْهَرُ وَالثَّانِي يُسِرُّ وَحَيْثُ قُلْنَا يَجْهَرُ أَوْ يُسِرُّ فَهُوَ سُنَّةٌ فَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ عِنْدَنَا قَوْلُهُ (وَمَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَمَنْ زَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ) فِيهِ دَلِيلٌ لِوُجُوبِ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّهُ لَا يُجْزِي غَيْرُهَا وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ السُّورَةِ بَعْدَهَا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الصبح والجمعة والأولين مِنْ كُلِّ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وُجُوبَ السُّورَةِ وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ وَأَمَّا السُّورَةُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ تُسْتَحَبُّ أَمْ لَا وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

(4/105)


وَاسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ دُونَ الْقَدِيمِ وَالْقَدِيمُ هُنَا أَصَحُّ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَتُسْتَحَبُّ السُّورَةُ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ وَلَا تُسْتَحَبُّ فِي الْجِنَازَةِ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْفَاتِحَةِ إِلَّا التَّأْمِينُ عَقِبَهَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ فِي الصُّبْحِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ مِنَ اوْسَاطِهِ وَفِي الْمَغْرِبِ مِنْ قِصَارِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ وَالْأَشْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا والأصح أنه يُطَوِّلَ الْأُولَى لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الأولى ما لايطول فِي الثَّانِيَةِ وَمَنْ قَالَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ يَقُولُ هِيَ أَخَفُّ مِنَ الْأُولَيَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْصِيرِ الرَّابِعَةِ عَلَى الثَّالِثَةِ وَاللَّهُ أعلم وحيث شرعت السورة فتركها فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَقِرَاءَةُ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ قَدْرِهَا مِنْ طَوِيلَةٍ وَيَقْرَأُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ وَيُكْرَهُ عَكْسُهُ وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ وَيَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَلَا يَجُوزُ بِالشَّوَاذِّ وَإِذَا لَحَنَ فِي الْفَاتِحَةِ لَحْنًا يُخِلُّ الْمَعْنَى كَضَمِّ تَاءِ أَنْعَمْتَ أَوْ كَسْرِهَا أَوْ كَسْرِ كَافِ إِيَّاكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ الْمَعْنَى كَفَتْحِ الْبَاءِ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِهِ كُرِهَ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَيَجِبُ تَرْتِيبُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَمُوَالَاتُهَا وَيَجِبُ قِرَاءَتُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَيَحْرُمُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهَا سَوَاءً عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا وَيُشْتَرَطُ فِي الْقِرَاءَةِ وَفِي كُلِّ الْأَذْكَارِ إِسْمَاعُ نَفْسِهِ وَالْأَخْرَسُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ بِحَسَبِ الإمكان ويجزئه والله أعلم حديث أبي هريرة قَوْلُهُ (دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

(4/106)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ الرَّجُلُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا عَلِّمْنِي قَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكِ كُلِّهَا) وَفِي رِوَايَةٍ (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ) هَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ وَلْيُعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْوَاجِبَاتِ دُونَ السُّنَنَ فَإِنْ قِيلَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كُلَّ الْوَاجِبَاتِ فَقَدْ بَقِيَ وَاجِبَاتٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا فَمِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ النِّيَّةُ وَالْقُعُودُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ وَتَرْتِيبُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَمِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ التَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَالسَّلَامُ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ بِوُجُوبِ السَّلَامِ الْجُمْهُورُ وَأَوْجَبَ التَّشَهُّدَ كَثِيرُونَ وَأَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الشَّافِعِيِّ الشَّعْبِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابُهُمَا وَأَوْجَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ وَأَوْجَبَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّشَهُّدَ)

(4/107)


الْأَوَّلَ وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحَ وَتَكْبِيرَاتَ الِانْتِقَالَاتِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاجِبَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَ السَّائِلِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيَانِهَا وَكَذَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَفِيهِ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَفِيهِ أَنَّ التَّعَوُّذَ وَدُعَاءَ الِافْتِتَاحِ وَرَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَوَضْعَ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ وَتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَهَيْئَاتِ الْجُلُوسِ وَوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَخِذِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِدَالِ عَنِ الرُّكُوعِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَلَمْ يُوجِبُهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ عَنْهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ وَأَمَّا الِاعْتِدَالُ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ يَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ كَمَا يَجِبُ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَتَوَقَّفَ فِي إِيجَابِهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا فَاكْتَفَى بِالِاعْتِدَالِ وَلَمْ يَذْكُرِ الطُّمَأْنِينَةَ كَمَا ذَكَرَهَا فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَفِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَفِيهِ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَا سَبَقَ وَفِيهِ أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَكَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ وَيَكُونُ هَذَا مِنَ النَّصِيحَةِ لَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ قَالَ عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ عَلِّمْنِي الصَّلَاةَ فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَالْوُضُوءَ وَلَيْسَا مِنَ الصَّلَاةِ لَكِنَّهُمَا شَرْطَانِ لَهَا وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ وَالْجَاهِلِ وَمُلَاطَفَتُهُ وَإِيضَاحُ الْمَسْأَلَةِ وَتَلْخِيصُ الْمَقَاصِدِ وَالِاقْتِصَارُ فِي حَقِّهِ عَلَى الْمُهِمِّ دُونَ الْمُكَمِّلَاتِ الَّتِي لَا يَحْتَمِلُ حَالُهُ حِفْظَهَا وَالْقِيَامَ بِهَا وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ السَّلَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَوُجُوبُ رَدِّهِ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهُ إِذَا تَكَرَّرَ اللِّقَاءُ وَإِنْ قَرُبَ الْعَهْدُ وَأَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَأَنَّ صِيغَةَ الْجَوَابِ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ أَوْ وَعَلَيْكَ بِالْوَاوِ وَهَذِهِ الْوَاوُ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَأَوْجَبَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهَا سُنَّةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَلَا يُسَمَّى مُصَلِّيًا بَلْ يُقَالُ لَمْ تُصَلِّ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَرَكَهُ مِرَارًا يُصَلِّي صَلَاةً فَاسِدَةً فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذِنْ لَهُ فِي صَلَاةٍ فَاسِدَةٍ وَلَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةِ فَاسِدَةً بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ

(4/108)


يَأْتِيَ بِهَا صَحِيحَةً وَإِنَّمَا لَمْ يُعَلِّمْهُ أَوَّلًا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَعْرِيفِهِ وَتَعْرِيفِ غَيْرِهِ بِصِفَةِ الصَّلَاةِ الْمُجْزِئَةِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ثُمَّ بِفَسْخِهِ إِلَى الْعُمْرَةِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي اسْتِدْرَاكَاتِهِ خَالَفَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي هَذَا جَمِيعَ أَصْحَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَكُلُّهُمْ رَوَوْهُ عَنْ عُبَيْدِ الله عن سعيد عن أبي هريرة لم يَذْكُرُوا أَبَاهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَيَحْيَى حَافِظٌ فَيَعْتَمِدُ مَا رَوَاهُ فَحَصَلَ أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ لَا عِلَّةَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ الصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَضُرَّ فِي صِحَّةِ الْمَتْنِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مِثْلَ هَذَا مَرَّاتٍ فِي أَوَّلِ الكتاب ومقصودي بذكر هذا أن لا يَغْتَرَّ بِذِكْرِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَوْ غَيْرِهِ لَهُ فِي الِاسْتِدْرَاكَاتِ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ

(باب نَهْيِ المأموم عن جهره بالقراءة خلف إمامه)
يه قول (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ فَقَالَ أَيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا وَلَمْ أَرِدْ بِهَا إِلَّا الْخَيْرَ قَالَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا) وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ أَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ بِلَا شَكٍّ خَالَجَنِيهَا أَيْ نَازَعَنِيهَا وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَالْإِنْكَارُ فِي جَهْرِهِ أَوْ رَفْعِ صَوْتِهِ بِحَيْثُ أَسْمَعَ غَيْرَهُ لَا عَنْ أصل القراءة بل فيه أنهم كانوا يقرؤن بِالسُّورَةِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَفِيهِ إِثْبَاتُ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الظُّهْرِ لِلْإِمَامِ وَلِلْمَأْمُومِ وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَنَا وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ السُّورَةَ فِي السِّرِّيَّةِ كَمَا لَا يَقْرَؤُهَا فِي الْجَهْرِيَّةِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ فِي الْجَهْرِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْإِنْصَاتِ وَهُنَا لَا يَسْمَعُ فَلَا مَعْنَى لِسُكُوتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِمَاعٍ وَلَوْ

(4/109)


كَانَ فِي الْجَهْرِيَّةِ بَعِيدًا عَنِ الْإِمَامِ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْرَأُ السُّورَةَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ (عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ زُرَارَةَ) فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُدَلِّسٌ وَقَدْ قَالَ فِي الرواية الأولى عن والمدلس لَا يُحْتَجُّ بِعَنْعَنَتِهِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ سَمَاعُهُ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ مِمَّنْ عَنْعَنَ عَنْهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَابُ حُجَّةِ مَنْ قال لا يجهر بالبسملة)
وفيه قَوْلُ أَنَسٍ (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ

(4/110)


أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَفِي رِوَايَةٍ (وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا) فِي إِسْنَادِهِ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِي قِيلَ لِقَتَادَةَ أَسَمِعْتَهُ مِنْ أَنَسٍ قَالَ نَعَمْ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِسَمَاعِهِ فَيَنْتَفِي مَا يَخَافُ مِنْ إِرْسَالِهِ لِتَدْلِيسِهِ وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ قَبْلَهُ وَقَوْلُهُ يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ هُوَ بِرَفْعِ الدَّالِ عَلَى الْحِكَايَةِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ لَا يَرَى الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمَنْ يَرَاهَا مِنْهَا وَيَقُولُ لَا يَجْهَرُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَوَائِفَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّهُ يَجْهَرُ بِهَا حَيْثُ يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَ أَصْحَابُنَا وَمَنْ قَالَ بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَكَانَ هَذَا باتفاق الصحابة وإجماعهم على أن لا يَثْبُتُوا فِيهِ بِخَطِّ الْقُرْآنِ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَأَجْمَعَ بَعْدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ فِي كُلِّ الْأَعْصَارِ إِلَى يَوْمِنَا وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٍ وَأَنَّهَا لَا تُكْتَبُ فِيهَا وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدَةَ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَتَبَ يُخْبِرُهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ هَكَذَا وَقَعَ عَنْ عَبْدَةَ أَنَّ عُمَرَ وَهُوَ مرسل

(4/111)


يعني أن عبدة وهو بن أَبِي لُبَابَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ قَالَ وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ عَنْ قَتَادَةَ يَعْنِي الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَابِ وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّصِلٌ هَذَا كَلَامُ الْغَسَّانِيِّ والمقصود أنه عَطْفَ قَوْلِهِ وَعَنْ قَتَادَةَ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ عَبْدَةَ وَإِنَّمَا فَعَلَ مُسْلِمٌ هَذَا لِأَنَّهُ سَمِعَهُ هَكَذَا فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ وَمَقْصُودُهُ الثَّانِي الْمُتَّصِلُ دُونَ الْأَوَّلِ الْمُرْسَلِ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَلَا إِنْكَارَ فِي هَذَا كُلِّهِ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ أخبرني بن خَلَّادٍ قَالَ سَأَلْتُ الزَّجَّاجَ عَنِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَبِحَمْدِكَ فَقَالَ مَعْنَاهُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ سَبَّحْتُكَ قَالَ وَالْجَدُّ هُنَا الْعَظَمَةُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(باب حُجَّةِ مَنْ قَالَ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ سِوَى بَرَاءَةٌ)
فِيهِ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذِ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر إن شانئك هو الأبتر ثُمَّ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ يرد عليه

(4/112)


أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ فَيَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أَمَّتِي فَيُقَالُ مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَحْدَثَ وَفِيهَا بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ قَوْلُهُ بَيْنَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ بَيْنَا فِعْلٌ أُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ فَصَارَتِ أَلِفًا وَاصِلَةً وَمَنْ قَالَ وبينما بمعناه زيدت فيه ما بقول بَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُهُ أَتَانَا أَيْ أَتَانَا بَيْنَ أَوْقَاتِ رَقَبَتِنَا إِيَّاهُ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ الَّذِي هُوَ أَوْقَاتٌ قَالَ وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَخْفِضُ مَا بَعْدَ بَيْنَا إِذَا صَلَحَ فِي مَوْضِعِهِ بَيْنَ وغيره يرفع مَا بَعْدَ بَيْنَا وَبَيْنَمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ قوله بين أَظُهْرِنَا أَيْ بَيْنَنَا قَوْلُهُ أَغْفَى إِغْفَاءَةً أَيْ نَامَ وَقَوْلُهُ آنِفًا أَيْ قَرِيبًا وَهُوَ بِالْمَدِّ وَيَجُوزُ الْقَصْرُ فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ وَقَدْ قُرِئَ به في السبع والشانئ المبغض والأبتر هُوَ الْمُنْقَطِعُ الْعَقِبِ وَقِيلَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ كُلِّ خير قالوا أنزلت في العاص بن وائل والكوثر هُنَا نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَقَوْلُهُ يَخْتَلِجُ أَيْ يَنْتَزِعُ وَيَقْتَطِعُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَقْصُودُ مُسْلِمٍ بِإِدْخَالِ الْحَدِيثِ هُنَا وَفِيهِ جَوَازُ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَجَوَازُ نَوْمِ الْإِنْسَانِ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ وَأَنَّهُ إِذَا رَأَى التَّابِعُ مِنْ مَتْبُوعِهِ تَبَسُّمًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يَقْتَضِي حُدُوثَ أَمْرٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِهِ وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْحَوْضِ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ حَيْثُ ذَكَرَ مُسْلِمٌ أَحَادِيثَهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُهُ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(4/113)


(باب وضع يده الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ تَحْتَ صدره)
فوق سرته وَوَضْعِهِمَا فِي السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فِيهِ (وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ حِيَالَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ فَلَمَّا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا سَجَدَ سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ) فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ أَلِفٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ هَاءٍ قَوْلُهُ حِيَالَ أُذُنَيْهِ بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ قُبَالَتُهُمَا وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ رَفْعِهِمَا فَفِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا لِقَوْلِهِ كَبَّرَ ثُمَّ الْتَحَفَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ رَفْعِ يَدَيْهِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ كَشْفِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرَّفْعِ وَوَضْعِهِمَا فِي السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَاسْتِحْبَابُ وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَيَجْعَلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ فَوْقَ سُرَّتِهِ هَذَا مَذْهَبُنَا الْمَشْهُورُ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا وَلَا ترجيح وبهذا قال الأوزاعي وبن الْمُنْذِرِ وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا يَضَعُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ وَالثَّانِيَةُ يُرْسِلُهُمَا وَلَا يَضَعُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَهَذِهِ رِوَايَةُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَهِيَ الْأَشْهَرُ عِنْدَهُمْ

(4/114)


وَهِيَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ الْوَضْعِ فِي النَّفْلِ وَالْإِرْسَالِ فِي الْفَرْضِ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِي اسْتِحْبَابِ وَضْعِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ حَدِيثُ وَائِلٍ الْمَذْكُورُ هُنَا وَحَدِيثُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعَيْهِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو حَازِمٍ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ كَمَا سَبَقَ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ وَعَنْ هُلْبٍ الطَّائِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَدَلِيلُ وَضْعِهِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى على صدره رواه بن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَضْعُ الْأَكُفِّ عَلَى الْأَكُفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ ضَعِيفٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَضْعِيفِهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي شَيْبَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْوَاسِطِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالِاتِّفَاقِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ وَمَنَعَهُمَا مِنَ الْعَبَثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ)
فِيهِ تَشَهُّدُ بن مسعود وتشهد بن عَبَّاسٍ وَتَشَهُّدُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِهَا كُلِّهَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى وبعض أصحاب مالك أن تشهد بن عَبَّاسٍ أَفْضَلُ لِزِيَادَةِ لَفْظَةِ الْمُبَارَكَاتِ فِيهِ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَحِيَّةً مِنْ عند الله مباركة طيبة وَلِأَنَّهُ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ

(4/115)


تشهد بن مَسْعُودٍ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَشَدُّ صِحَّةً وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ صَحِيحًا وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَشَهُّدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ عَلَّمَهُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَمْ يُنَازِعْهُ أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى تَفْضِيلِهِ وَهُوَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِلَى آخِرِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي التَّشَهُّدِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ سُنَّةٌ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَائِفَةٌ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ سُنَّةٌ وَالْأَخِيرُ وَاجِبٌ وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ هُمَا وَاجِبَانِ وَقَالَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَوَّلُ وَاجِبٌ وَالثَّانِي فَرْضٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هُمَا سُنَّتَانِ وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ بِوُجُوبِ الْأَخِيرِ وَقَدْ وَافَقَ مَنْ لَمْ يُوجِبِ التَّشَهُّدَ عَلَى وُجُوبِ الْقُعُودِ بِقَدْرِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْبَابِ فَفِيهِ لَفْظَةُ التَّشَهُّدِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلنُّطْقِ بِالشَّهَادَةِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَاهُ السَّالِمُ من النقائص وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ وَمِنَ الشَّرِيكِ وَالنِّدِّ وَقِيلَ الْمُسَلِّمُ أَوْلِيَاءَهُ وَقِيلَ الْمُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَأَمَّا التَّحِيَّاتُ فَجَمْعُ تَحِيَّةٍ وَهِيَ الْمِلْكُ وَقِيلَ الْبَقَاءُ وَقِيلَ الْعَظَمَةُ وَقِيلَ الْحَيَاةُ وَإِنَّمَا قِيلَ التَّحِيَّاتُ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ مُلُوكَ الْعَرَبِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُحَيِّيهِ أَصْحَابُهُ بِتَحِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ فَقِيلَ جَمِيعُ تَحِيَّاتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ حَقِيقَةً وَالْمُبَارَكَاتُ وَالزَّاكِيَاتُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَقِيلَ النَّمَاءُ وَكَذَا الزَّكَاةُ أَصْلُهَا النَّمَاءُ وَالصَّلَوَاتُ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْمَعْرُوفَةُ وَقِيلَ الدَّعَوَاتُ وَالتَّضَرُّعُ وَقِيلَ الرَّحْمَةُ أَيِ اللَّهُ الْمُتَفَضِّلُ بِهَا وَالطَّيِّبَاتُ أَيِ الكلمات الطيبات وقوله في حديث بن عَبَّاسٍ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ تَقْدِيرُهُ وَالْمُبَارَكَاتُ والصلوات والطيبات كما في حديث بن مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَلَكِنْ حُذِفَتِ الْوَاوُ اخْتِصَارًا وَهُوَ جَائِزٌ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ التَّحِيَّاتِ وَمَا بَعْدَهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا تَصْلُحُ حَقِيقَتُهَا لِغَيْرِهِ وَقَوْلُهُ (السَّلَامُ عَلَيْكَ

(4/116)


أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) فَقِيلَ مَعْنَاهُ التَّعْوِيذُ بِاللَّهِ وَالتَّحْصِينُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّ السَّلَامَ اسْمٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَقْدِيرُهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ حَفِيظٌ وَكَفِيلٌ كَمَا يُقَالُ اللَّهُ مَعَكَ أَيْ بِالْحِفْظِ وَالْمَعُونَةِ وَاللُّطْفِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ السَّلَامَةُ وَالنَّجَاةُ لَكُمْ وَيَكُونُ مَصْدَرًا كَاللَّذَاذَةِ وَاللَّذَاذِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى فسلام لك من أصحاب اليمين وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلَامَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ يَجُوزُ فِيهِ حَذْفُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيُقَالُ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَسَلَامٌ عَلَيْنَا وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ هُنَا وَلَكِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ أَفْضَلُ وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي رِوَايَاتِ صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَمَّا الَّذِي فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَلَامُ التَّحْلِيلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ هَكَذَا وَيَقُولُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَفْضَلُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي التَّشَهُّدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِيَعُودَ التَّعْرِيفُ إِلَى سَابِقِ كَلَامِهِ كَمَا يَقُولُ جَاءَنِي رَجُلٌ فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ قَوْلُهُ وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَغَيْرُهُمَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ دَاخِلَتَيْنِ عَلَى الْجِنْسِ تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ وَالْعُمُومَ قَوْلُهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ رَجُلٌ مُحَمَّدٌ وَمَحْمُودٌ إِذَا كَثُرَتْ خِصَالُهُ الْمَحْمُودَةُ قَالَ بن فَارِسٍ وَبِذَلِكَ سُمِّيَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا يَعْنِي لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكَثْرَةِ خِصَالِهِ الْمَحْمُودَةِ أَلْهَمَ أَهْلَهُ التَّسْمِيَةَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِمَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالدَّعَوَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصلاة عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التشهد

(4/117)


الْأَخِيرِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وُجُوبُهَا فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَمَنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ زِيَادَةٌ فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ وَلَكِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ صَحِيحَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ

(4/118)


سَاكِنَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ قَوْلُهُ (أُقِرَّتِ الصَّلَاةُ بِالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ) قَالُوا مَعْنَاهُ قُرِنَتْ بِهِمَا وَأُقِرَّتْ مَعَهُمَا وَصَارَ الْجَمِيعُ مَأْمُورًا بِهِ قَوْلُهُ (فَأَرَمَّ الْقَوْمُ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ سَكَتُوا قَوْلُهُ (لَقَدْ رَهِبْتُ أَنْ تَبْكَعَنِي) هُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فِي أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا أَيْ تُبَكِّتَنِي بِهَا وَتُوَبِّخَنِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ) أَمْرٌ بِإِقَامَةِ الصُّفُوفِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ وَالْمُرَادُ تَسْوِيَتُهَا وَالِاعْتِدَالُ فِيهَا وَتَتْمِيمُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ مِنْهَا وَالتَّرَاصُّ فِيهَا وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ فِيهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثم ليؤمكم

(4/119)


أَحَدُكُمْ) فِيهِ الْأَمْرُ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ أَمْ إِيجَابٍ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ فَالرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِنَا وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا فَعَلَهُ مَنْ يَحْصُلُ بِهِ إِظْهَارُ هَذَا الشِّعَارِ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلُّهُمْ أَثِمُوا كُلُّهُمْ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أصحابنا هي سنة وقال بن خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ لَكِنْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَمَنْ تَرَكَهَا وَصَلَّى مُنْفَرِدًا بِلَا عُذْرٍ أَثِمَ وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ هِيَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَقَالَ بِكُلِّ قَوْلٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ طَوَائِفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا) فِيهِ أَمْرُ الْمَأْمُومِ بِأَنْ يَكُونَ تكبيره عقب تكبير الإمام ويتضمن مسئلتين إحداهما أنه لَا يُكَبِّرَ قَبْلَهُ وَلَا مَعَهُ بَلْ بَعْدَهُ فَلَوْ شَرَعَ الْمَأْمُومُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ نَاوِيًا الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ وَقَدْ بَقِيَ لِلْإِمَامِ مِنْهَا حَرْفٌ لم يصح إحرام المأموم بلاخلاف لأنه نوى الإقتداء بالإمام بِمَنْ لَمْ يَصِرْ إِمَامًا بَلْ بِمَنْ سَيَصِيرُ إِمَامًا إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرِ وَالثَّانِيَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَوْنُ تَكْبِيرَةِ الْمَأْمُومِ عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ وَلَا يَتَأَخَّرُ فَلَوْ تَأَخَّرَ جَازَ وَفَاتَهُ كَمَالُ فَضِيلَةِ تَعْجِيلِ التَّكْبِيرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا قَالَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ) فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ أَنَّ تَأْمِينَ الْمَأْمُومِ يَكُونُ مَعَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لَا بَعْدَهُ فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ مَعًا آمِينَ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا قَالُوا مَعْنَاهُ إِذَا أَرَادَ التَّأْمِينَ لِيَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ يُرِيدُ التَّأْمِينَ فِي آخِرِ قَوْلِهِ وَلَا الضَّالِّينَ فَيَعْقُبُ إِرَادَتَهُ تَأْمِينَهُ وَتَأْمِينَكُمْ مَعًا وَفِي آمِينَ لُغَتَانِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ وَالْمَدُّ أَفْصَحُ وَالْمِيمُ خَفِيفَةٌ فِيهِمَا وَمَعْنَاهُ اسْتَجِبْ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَمَامُ الْكَلَامِ فِي التَّأْمِينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي بَابِهِ حَيْثُ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقُولُوا آمِينَ يُجِبْكُمُ اللَّهُ) هُوَ بِالْجِيمِ أَيْ يَسْتَجِبْ دُعَاكُمْ وَهَذَا حَثٌّ عَظِيمٌ عَلَى التَّأْمِينِ فَيَتَأَكَّدُ الِاهْتِمَامُ بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ فَقَالَ رَسُولُ

(4/120)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتِلْكَ بِتِلْكَ) مَعْنَاهُ اجْعَلُوا تَكْبِيرَكُمْ لِلرُّكُوعِ وَرُكُوعَكُمْ بَعْدَ تَكْبِيرِهِ وَرُكُوعِهِ وَكَذَلِكَ رَفْعَكُمْ مِنَ الرُّكُوعِ يَكُونُ بَعْدَ رَفْعِهِ وَمَعْنَى تِلْكَ بِتِلْكَ أَنَّ اللَّحْظَةَ الَّتِي سَبَقَكُمُ الْإِمَامُ بِهَا فِي تَقَدُّمِهِ إِلَى الرُّكُوعِ تَنْجَبِرُ لَكُمْ بِتَأْخِيرِكُمْ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَ رَفْعِهِ لَحْظَةً فَتِلْكَ اللَّحْظَةُ بِتِلْكَ اللَّحْظَةِ وَصَارَ قَدْرَ رُكُوعِكُمْ كَقَدْرِ رُكُوعِهِ وَقَالَ مِثْلَهُ فِي السُّجُودِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ) فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ الْجَهْرُ بِقَوْلِهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَحِينَئِذٍ يسمعونه فيقولون وفيه دَلَالَةٍ لِمَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ لَا يَزِيدُ الْمَأْمُومُ عَلَى قَوْلِهِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَلَا يَقُولُ مَعَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ فيه في بابه إنشاء اللَّهُ تَعَالَى وَمَعْنَى سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ أَجَابَ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ وَمَعْنَى يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ يَسْتَجِبْ دُعَاءَكُمْ قَوْلُهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ هَكَذَا هُوَ هُنَا بِلَا وَاوٍ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَبِحَذْفِهَا وَكِلَاهُمَا جَاءَتْ بِهِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ وَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ جَائِزَانِ وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتِلَافًا عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَغَيْرِهِ فِي الْأَرْجَحِ مِنْهُمَا وَعَلَى إِثْبَاتِ الواو يكون قوله ربنا متعلقابما قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَا رَبَّنَا فَاسْتَجِبْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى هدايتنا لذلك قوله (وإذا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمُ التَّحِيَّاتُ) اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ فِي أَوَّلِ جُلُوسِهِ التَّحِيَّاتُ وَلَا يَقُولُ

(4/121)


بِسْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِوَاضِحٍ لِأَنَّهُ قَالَ فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلَ وَلَمْ يَقُلْ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ قَتَادَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا) هَكَذَا (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ قال أبو بكر بن أُخْتِ أَبِي النَّضْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مُسْلِمٌ تُرِيدُ أَحْفَظَ مِنْ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ هُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا فَقَالَ هُوَ عندي صحيح فقال لم لم تضعه ها هنا قَالَ لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٌ وَضَعْتُهُ ها هنا إنما وضعت ها هنا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ) فَقَوْلُهُ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ صَاحِبُ مُسْلِمٍ رَاوِي الْكِتَابِ عَنْهُ وَقَوْلُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي طَعَنَ فِيهِ وَقَدَحَ فِي صِحَّتِهِ فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ أَتُرِيدُ أَحْفَظَ مِنْ سُلَيْمَانَ يَعْنِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَامِلُ الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ فَلَا تَضُرُّ مُخَالَفَةُ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ فقال

(4/122)


أَبُو بَكْرٍ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ هُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِمَ لَمْ تضعه ها هنا فِي صَحِيحِكَ فَقَالَ مُسْلِمٌ لَيْسَ هَذَا مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ وَلَكِنْ هُوَ صَحِيحٌ عِنْدِي وَلَيْسَ كُلُّ صَحِيحٍ عِنْدِي وَضَعْتُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِنَّمَا وَضَعْتُ فِيهِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ ثُمَّ قَدْ يُنْكِرُ هَذَا الْكَلَامَ وَيُقَالُ قَدْ وَضَعَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً غَيْرَ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا وَجَوَابُهُ أَنَّهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ بِصِفَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ هَذَا السُّؤَالَ وَجَوَابَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا مِمَّا اخْتَلَفَ الْحَافِظُ فِي صِحَّتِهِ فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَيْسَتْ بِمَحْفُوظَةٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ شَيْخِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ قَدْ خَالَفَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِيهَا جَمِيعَ أَصْحَابِ قَتَادَةَ وَاجْتِمَاعُ هَؤُلَاءِ الْحُفَّاظِ عَلَى تَضْعِيفِهَا مُقَدَّمٌ عَلَى تَصْحِيحِ مُسْلِمٍ لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَرْوِهَا مُسْنَدَةً فِي صَحِيحِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ)
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عَقِبَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فِي الصَّلَاةِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْجَمَاهِيرُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ لَوْ تُرِكَتْ صَحَّتِ الصَّلَاةُ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَوْ تُرِكَتْ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما وهو قول الشَّعْبِيُّ وَقَدْ نَسَبَ جَمَاعَةٌ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا إِلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ فَإِنَّهُ مَذْهَبُ الشَّعْبِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ لِوُجُوبِهَا خَفَاءٌ وَأَصْحَابُنَا يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَذْكُورِ هُنَا أَنَّهُمْ قَالُوا كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ قولوا اللهم صلي عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَى

(4/123)


آخِرِهِ قَالُوا وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَظْهَرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ إِلَّا إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ إِلَى آخِرِهِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ رَوَاهَا الْإِمَامَانِ الْحَافِظَانِ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْبُسْتِيُّ وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحَيْهِمَا قَالَ الْحَاكِمُ هِيَ زِيَادَةٌ صَحِيحَةٌ وَاحْتَجَّ لَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا فِي صَحِيحَيْهِمَا بِمَا رَوَيَاهُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ وَلَمْ يُمَجِّدْهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَّلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَدْعُ مَا شَاءَ قَالَ الْحَاكِمُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَإِنْ اشْتَمَلَا عَلَى مَا لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ كَالصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالدُّعَاءِ فَلَا يَمْتَنِعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا فَإِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَإِذَا خَرَجَ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ عَنِ الْوُجُوبِ بِدَلِيلٍ بَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْوُجُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْوَاجِبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْآلِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَقْوَالٍ أَظْهَرُهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَزْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ وَالثَّانِي بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَالثَّالِثُ أَهْلُ بَيْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُرِّيَّتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهِ الْمُجْمِرَ وَأَنَّهُ صِفَةٌ لِنُعَيْمٍ أَوْ لِأَبِيهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوُضُوءِ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) هُوَ الْبَدْرِيُّ وَاسْمُهُ عُقْبَةُ بْنُ عُمَرَ وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْمُقَدِّمَةِ وَفِي غَيْرِهِ قَوْلُهُ (أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ) مَعْنَاهُ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى صلوا عليه وسلموا تسليما فَكَيْفَ نَلْفِظُ بِالصَّلَاةِ وَفِي هَذَا أَنَّ مَنْ أَمَرَ بِشَيْءٍ لَا يُفْهَمُ مُرَادُهُ يُسْأَلُ عَنْهُ لِيَعْلَمَ مَا يَأْتِي بِهِ قَالَ الْقَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمْ عَنْ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ

(4/124)


فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ قُلْتُ وَهَذَا ظَاهِرُ اخْتِيَارِ مُسْلِمٍ وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ (فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ) مَعْنَاهُ كَرِهْنَا سُؤَالَهُ مَخَافَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ سُؤَالَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ) مَعْنَاهُ قَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيَّ فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَهَذِهِ صِفَتُهَا وَأَمَّا السَّلَامُ فَكَمَا عَلِمْتُمْ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهُ وَبَرَكَاتُهُ وَقَوْلُهُ عَلِمْتُمْ هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ رواه بضم العين وتشديد اللام أي علمتكموه وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى الْبَرَكَةِ هُنَا الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ وَقِيلَ هُوَ بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ لِيُتِمَّ النِّعْمَةَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِهِ وَقِيلَ بَلْ سَأَلَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ وَقِيلَ بَلْ لِيَبْقَى ذَلِكَ لَهُ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَجْعَلَ لَهُ بِهِ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ كَإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ سَأَلَ صَلَاةً يَتَّخِذُهُ بِهَا خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدِهَا حَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَعْنَاهُ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَتَمَّ الْكَلَامُ هُنَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ أَيْ وَصَلِّ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ

(4/125)


عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ فَالْمَسْئُولُ لَهُ مِثْلُ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَفْسُهُ الْقَوْلُ الثَّانِي مَعْنَاهُ اجْعَلْ لِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَاةً مِنْكَ كَمَا جَعَلَتْهَا لِإِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ فَالْمَسْئُولُ الْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ لَا قَدْرِهَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرهِ وَالْمُرَادُ اجْعَلْ لِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَاةً بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي لِإِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ وَالْمَسْئُولُ مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْآلِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْأَتْبَاعِ وَيَدْخُلُ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَدْخُلُ فِي آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ فَطَلَبَ إِلْحَاقَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا نَبِيٌّ وَاحِدٌ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا خَلَائِقُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَلَمْ يَجِئْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْغَرِيبَةِ قَالَ وَاخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ وَأَجَازَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَحُجَّةُ الْأَكْثَرِينَ تَعْلِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الرَّحْمَةِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ الرَّحْمَةَ وَقَوْلُهُ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ قِيلَ البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة وقيل الثَّبَاتُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ بَرَكَتِ الْإِبِلُ أَيْ ثَبَتَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُ بَرَكَةُ الْمَاءِ وَقِيلَ التَّزْكِيَةُ وَالتَّطْهِيرُ مِنَ الْعُيُوبِ كُلِّهَا وَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ

(4/126)


وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ احْتَجَّ بِهِ مَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَكْثَرُونَ لَا يُصَلِّي عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ اسْتِقْلَالًا فَلَا يُقَالُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمْ وَلَكِنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ تَبَعًا فَيُقَالُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَقَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَقِلًّا وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثِ الْبَابِ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ صَلَّى عَلَيْهِمْ قَالُوا وَهُوَ مُوَافِقُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الذي يصلي عليكم وملائكته وَاحْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّوْقِيفِ وَاسْتِعْمَالِ السَّلَفِ وَلَمْ يُنْقَلِ اسْتِعْمَالُهُمْ ذَلِكَ بَلْ خَصُّوا بِهِ الْأَنْبِيَاءَ كَمَا خَصُّوا اللَّهَ تَعَالَى بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ فَيُقَالُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَتَبَارَكَ وَتَعَالَى وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يُقَالُ قَالَ النَّبِيُّ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا جَلِيلًا وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ هو الذي يصلي عليكم وملائكته وَعَنِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ فَهُوَ دُعَاءٌ وَتَرَحُّمٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِمَا وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْآلِ وَالْأَزْوَاجِ وَالذُّرِّيَّةِ فَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى التَّبَعِ لَا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُقَالُ تَبَعًا لِأَنَّ التَّابِعَ

(4/127)


يُحْتَمَلُ فِيهِ مَا لَا يُحْتَمَلُ اسْتِقْلَالًا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ هَلْ يُقَالُ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ هُوَ مُجَرَّدُ تَرْكِ أَدَبٍ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَالسَّلَامُ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بَيْنَهُمَا فَلَا يُفْرَدُ بِهِ غَائِبٌ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءَ فَلَا يُقَالُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ فَيُقَالُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا) قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ رَحْمَتُهُ وَتَضْعِيفُ أَجْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ جاء بالحسنة فله عشرة امثالها قَالَ وَقَدْ يَكُونُ الصَّلَاةُ عَلَى وَجْهِهَا وَظَاهِرِهَا تَشْرِيفًا لَهُ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ

(باب التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّأْمِينِ)
فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قول الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ (إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ من

(4/128)


وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ (إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتِ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ (إِذَا قَالَ الْقَارِئُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقَالَ مَنْ خَلْفَهُ آمِينَ فَوَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) وَسَبَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي بَابِ التَّشَهُّدِ إِذَا قَالَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ فِي هَذِهِ

(4/129)


الْأَحَادِيثِ اسْتِحْبَابُ التَّأْمِينِ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَأْمِينُ الْمَأْمُومِ مَعَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ لقوله صلى الله عليه وسلم وإذا قال وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ وَأَمَّا رِوَايَةُ إِذَا أَمَّنَ فَأَمِّنُوا فَمَعْنَاهَا إِذَا أَرَادَ التَّأْمِينَ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ هَذَا قَرِيبًا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي بَابِ التَّشَهُّدِ وَيُسَنُّ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ الْجَهْرُ بِالتَّأْمِينِ وَكَذَا لِلْمَأْمُومِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُؤَمِّنُ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَكَذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةٍ لَا يُؤَمِّنُ الْإِمَامُ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْكُوفِيُّونَ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ لَا يَجْهَرُ بِالتَّأْمِينِ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ يَجْهَرُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ مَعْنَاهُ وَافَقَهُمْ فِي وَقْتِ التَّأْمِينِ فَأَمَّنَ مَعَ تَأْمِينِهِمْ فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَالصَّوَابُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ قَوْلًا أَنَّ مَعْنَاهُ وَافَقَهُمْ فِي الصِّفَةِ وَالْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ وَاخْتَلَفُوا فِي هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ فَقِيلَ هُمُ الْحَفَظَةُ وَقِيلَ غَيْرُهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِذَا قَالَهَا الْحَاضِرُونَ مِنَ الْحَفَظَةِ قَالَهَا مَنْ فَوْقَهُمْ حَتَّى ينتهي إلى أهل السماء وقول بن شِهَابٍ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ آمِينَ) مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ تَأْمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا وَرَدَ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا دَعَا الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّرَاطَ إِلَى آخِرِهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّ التَّأْمِينَ لَا يَكُونُ إلا عقبها والله أعلم

(باب ائتمام المأموم بالإمام)
فِيهِ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (سَقَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ فَدَخَلْنَا

(4/130)


عَلَيْهِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ) وَفِي رِوَايَةٍ (فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا) وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها

(4/131)


(صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا بِصَلَاتِهِ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا فَجَلَسُوا) وَذَكَرَ أَحَادِيثَ أُخَرَ بِمَعْنَاهُ قَوْلُهُ جُحِشَ هُوَ بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ خُدِشَ وَقَوْلُهُ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بهم صلاة مكتوبة وفيه جَوَازِ الْإِشَارَةِ وَالْعَمَلِ الْقَلِيلِ فِي الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ وفيه مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِي الْأَفْعَالِ وَالتَّكْبِيرِ وَقَوْلُهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ كَذَا وَقَعَ هُنَا وَلَكَ الْحَمْدُ بِالْوَاوِ وَفِي رِوَايَاتٍ بِحَذْفِهَا وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ وَفِيهِ وُجُوبُ مُتَابَعَةِ الْمَأْمُومِ لِإِمَامِهِ فِي التَّكْبِيرِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأَنَّهُ يَفْعَلُهَا بَعْدَ الْمَأْمُومِ فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا فَإِنْ شَرَعَ فِيهَا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ وَيَرْكَعُ بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ وَقَبْلَ رَفْعِهِ مِنْهُ فَإِنْ قَارَنَهُ أَوْ سَبَقَهُ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَكِنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَكَذَا السُّجُودُ وَيُسَلِّمُ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ السَّلَامِ فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمُفَارَقَةَ فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَإِنْ سَلَّمَ مَعَهُ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ تَبْطُلُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(4/132)


وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِظَاهِرِهِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ خَلْفَ الْقَاعِدِ لَا قَائِمًا وَلَا قَاعِدًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْقَاعِدِ إِلَّا قَائِمًا وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ بَعْدَ هَذَا قَاعِدًا وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ زَعَمَ أَنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ هُوَ الْإِمَامُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْتَدٍ بِهِ لَكِنِ الصَّوَابُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هُوَ الْإِمَامُ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا الْبَابِ صَرِيحًا أَوْ كَالصَّرِيحِ فَقَالَ فِي رِوَايَتهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ

(4/133)


فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بِالنَّاسِ جَالِسًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَمَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَإِلَّا فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ خلف النفل وعكسه والظهر خلف العصر وعكسه وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَآخَرُونَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَقَالُوا مَعْنَى الْحَدِيثِ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فِي الْأَفْعَالِ وَالنِّيَّاتِ وَدَلِيلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِبَطْنِ نَخْلٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ بِكُلِّ فِرْقَةٍ مَرَّةً فَصَلَاتُهُ الثَّانِيَةُ وَقَعَتْ لَهُ نَفْلًا وَلِلْمُقْتَدِينَ فَرْضًا وَأَيْضًا حَدِيثُ مُعَاذٍ كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ ولهم مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِائْتِمَامَ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (ائْتَمُّوا بَأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا) واللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ) أَيْ سَاتِرٌ

(4/134)


لِمَنْ خَلْفَهُ وَمَانِعٌ مِنْ خَلَلٍ يَعْرِضُ لِصَلَاتِهِمْ بِسَهْوٍ أَوْ مُرُورٍ أَيْ كَالْجُنَّةِ وَهِيَ التُّرْسُ الَّذِي يَسْتُرُ مَنْ وَرَاءَهُ وَيَمْنَعُ وُصُولَ مَكْرُوهٍ إِلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنْ كِدْتُمْ تَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسٍ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى ملوكهم وهو قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ قِيَامِ الْغِلْمَانِ وَالتُّبَّاعِ عَلَى رَأْسِ مَتْبُوعِهِمِ الْجَالِسِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَأَمَّا الْقِيَامُ لِلدَّاخِلِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا بَلْ هُوَ جَائِزٌ قَدْ جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيثُ وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَقَدْ جُمِعَتْ دَلَائِلُهُ وَمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ

(بَابُ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ إِذَا عَرَضَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ وَسَفَرٍ وَغَيْرِهِمَا)
مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَأَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ إِمَامٍ جَالِسٍ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ لَزِمَهُ الْقِيَامُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَنَسَخِ الْقُعُودِ خَلْفَ الْقَاعِدِ فِي حَقِّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِيهِ حَدِيثُ اسْتِخْلَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي آخِرِ الْبَابِ

(4/135)


السَّابِقِ دَلِيلَ مَا ذَكَرْتُهُ فِي التَّرْجَمَةِ قَوْلُهَا (الْمِخْضَبُ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِخَاءٍ وَضَادٍ مُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ إِنَاءٌ نَحْوَ الْمِرْكَنِ الَّذِي يُغْسَلُ فِيهِ قَوْلُهُ (ذَهَبَ لِيَنُوءَ) أَيْ يَقُومُ وَيَنْهَضُ وَقَوْلُهُ (فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ) دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ فَإِنَّهُ مَرَضٌ وَالْمَرَضُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ نَقْصٌ وَالْحِكْمَةُ فِي جَوَازِ الْمَرَضِ عَلَيْهِمْ وَمَصَائِبِ الدُّنْيَا تَكْثِيرُ أَجْرِهِمْ وَتَسْلِيَةُ النَّاسِ بِهِمْ وَلِئَلَّا يَفْتَتِنَ النَّاسُ بِهِمْ وَيَعْبُدُوهُمْ لِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ فَقِيلَ لَا وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَأَخَّرَ الْإِمَامُ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَرُجِيَ مَجِيئُهُ عَلَى قُرْبٍ يَنْتَظِرُ وَلَا يَتَقَدَّمُ غَيْرُهُ وَسَنَبْسُطُ الْمَسْأَلَةَ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهَا (قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ) دَلِيلُ الِاسْتِحْبَابِ بِالْغُسْلِ مِنَ الْإِغْمَاءِ وَإِذَا تَكَرَّرَ الْإِغْمَاءُ اسْتُحِبَّ تَكَرُّرُ الْغَسْلِ لِكُلِّ مَرَّةٍ فَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ إِلَّا بَعْدَ الْإِغْمَاءِ مَرَّاتٍ كَفَى غَسْلٌ وَاحِدٌ وَقَدْ حَمَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْغَسْلَ هُنَا عَلَى الْوُضُوءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِغْمَاءَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْمُرَادَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْهُ فَإِنَّ الْغَسْلَ مُسْتَحَبٌّ مِنَ الْإِغْمَاءِ بَلْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ وَاجِبٌ وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ قَوْلُهُ (وَالنَّاسُ عُكُوفٌ) أَيْ مُجْتَمِعُونَ مُنْتَظِرُونَ لِخُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْلُ الِاعْتِكَافِ اللُّزُومُ وَالْحَبْسُ

(4/136)


قَوْلُهَا (لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ) دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَالصَّوَابُ جَوَازُهُ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ وَالْبَرَاءِ وَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ إِطْلَاقُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِيهِ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ قَوْلُهَا (فَأَرْسَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ) فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا فَضِيلَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَرْجِيحُهُ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ رضوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَتَفْضِيلُهُ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِخِلَافَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا عَرَضَ لَهُ عُذْرٌ عَنْ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ اسْتَخْلَفَ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَخْلِفُ إِلَّا أَفْضَلَهُمْ وَمِنْهَا فَضِيلَةُ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَعْدِلْ إِلَى غَيْرِهِ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَفْضُولَ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهِ الْفَاضِلُ مَرْتَبَةً لَا يَقْبَلُهَا بَلْ يَدَعُهَا لِلْفَاضِلِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ وَمِنْهَا جَوَازُ الثَّنَاءِ فِي الْوَجْهِ لِمَنْ أَمِنَ عَلَيْهِ الْإِعْجَابُ وَالْفِتْنَةُ لِقَوْلِهِ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَهُ لِلْعُذْرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ كَثِيرُ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَوَاضُعًا وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهَا (فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أحدهما العباس) وفسر بن عباس

(4/137)


الْآخَرَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَفِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ (فَخَرَجَ وَيَدٌ لَهُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ عباس ويدله عَلَى رَجُلٍ آخَرَ) وَجَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاوَبُونَ الْأَخْذَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تارة هذا وتارة ذاك وذاك وَيَتَنَافَسُونَ فِي ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ خَوَاصُّ أَهْلِ بَيْتِهِ الرِّجَالُ الْكِبَارُ وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَهُمْ مُلَازَمَةً لِلْأَخْذِ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُبَارَكَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أنَّهُ أَدَامَ الْأَخْذَ بِيَدِهِ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَبُ الْبَاقُونَ فِي الْيَدِ الْأُخْرَى وَأَكْرَمُوا الْعَبَّاسَ بِاخْتِصَاصِهِ بِيَدٍ وَاسْتِمْرَارِهَا لَهُ لِمَا لَهُ مِنَ السِّنِّ وَالْعُمُومَةِ وَغَيْرِهِمَا وَلِهَذَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مُسَمًّى وَأَبْهَمَتِ الرَّجُلَ الْآخَرَ إِذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِينَ مُلَازِمًا فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ وَلَا مُعْظَمِهِ بِخِلَافِ الْعَبَّاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَجْلَسَانِي إِلَى جَنْبِهِ فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِهِ) فِيهِ جَوَازُ وُقُوفِ مَأْمُومٍ وَاحِدٍ بِجَنْبِ الإمام لحاجة أو مصلحة كإسماع المأموضنين وَضِيقِ الْمَكَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ (هَاتِ) هُوَ بِكَسْرِ التَّاءِ قَوْلُهُ (اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِهَا) يَعْنِي بَيْتَ عَائِشَةَ وَهَذَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ كَانَ الْقَسْمُ

(4/138)


وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي الدَّوَامِ كَمَا يَجِبُ فِي حَقِّنَا وَلِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا هَذَا وَالثَّانِي سُنَّةٌ وَيَحْمِلُونَ هَذَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيلِ الْعِشْرَةِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرُجْحَانُهَا عَلَى جَمِيعِ أَزْوَاجِهِ الْمَوْجُودَاتِ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَكُنَّ تِسْعًا إِحْدَاهُنَّ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عَائِشَةَ وَخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ يَخُطُّ بِرِجْلَيْهِ فِي الأرض أي

(4/139)


لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَيَضَعَهُمَا وَيَعْتَمِدَ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) أَيْ فِي التَّظَاهُرِ عَلَى مَا تُرِدْنَ وَكَثْرَةِ إِلْحَاحِكُنَّ فِي طَلَبِ مَا تُرِدْنَهُ وَتَمِلْنَ إِلَيْهِ وَفِي مُرَاجَعَةِ عَائِشَةَ جَوَازِ مُرَاجَعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَالْإِشَارَةِ بِمَا يَظْهَرُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ وَتَكُونُ تِلْكَ الْمُرَاجَعَةُ بِعِبَارَةٍ لَطِيفَةٍ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةِ مُرَاجَعَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا وَأَشْبَاهُهُ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ قَوْلُهَا (لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِدْعَاءِ الْأَئِمَّةِ لِلصَّلَاةِ قَوْلُهَا (رَجُلٌ أَسِيفٌ

(4/140)


أَيْ حَزِينٌ وَقِيلَ سَرِيعُ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا الْأَسْوَفُ قَوْلُهَا (يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ

(4/141)


أَيْ يَمْشِي بَيْنَهُمَا مُتَّكِئًا عَلَيْهِمَا يَتَمَايَلُ إِلَيْهِمَا قَوْلُهُ (كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةَ مُصْحَفٍ) عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمَالِ الْبَارِعِ وَحُسْنِ الْبَشَرَةِ وَصَفَاءِ الْوَجْهِ وَاسْتِنَارَتِهِ وَفِي الْمُصْحَفِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ ضَمُّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ (ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا) سَبَبُ تَبَسُّمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحُهُ بِمَا رَأَى مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَاتِّبَاعِهِمْ لِإِمَامِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ شَرِيعَتَهُ وَاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ وَاجْتِمَاعِ قُلُوبِهِمْ وَلِهَذَا اسْتَنَارَ وَجْهُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَادَتِهِ إِذَا رَأَى أَوْ سَمِعَ مَا يَسُرُّهُ يَسْتَنِيرُ وَجْهُهُ وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ تَأْنِيسُهُمْ وَإِعْلَامُهُمْ بِتَمَاثُلِ حَالِهِ فِي مَرَضِهِ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَرَأَى مِنْ نَفْسِهِ ضَعْفًا فَرَجَعَ قَوْلُهُ

(4/142)


(وَنَكَصَ) أَيْ رَجَعَ إِلَى وَرَائِهِ قَهْقَرَى قَوْلُهُ (حدثنا محمد بن المثنى وهرون قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ قَوْلُهُ (وَضَحَ لَنَا وَجْهُهُ) أَيْ بَانَ وَظَهَرَ

(4/143)


قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عن أبي موسى) هذا الإسناد كله كوقيون قَوْلُهَا (وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ) فِيهِ جَوَازُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ لِيَسْمَعَهُ النَّاسُ وَيَتَّبِعُوهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقْتَدِي اتِّبَاعُ صَوْتِ الْمُكَبِّرِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَنَقَلُوا فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ فِيهِ فَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُبْطِلْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي الْإِسْمَاعِ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَ صَلَاةَ الْمِسْمَعِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ إِذْنَ الْإِمَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنْ تَكَلَّفَ صَوْتًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ ارْتَبَطَ بِصَلَاتِهِ وَكُلُّ هَذَا ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ كُلِّ ذَلِكَ وَصِحَّةُ صَلَاةِ الْمُسْمِعِ وَالسَّامِعِ وَلَا يُعْتَبَرُ إِذْنُ الْإِمَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب تَقْدِيمِ الْجَمَاعَةِ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ إِذَا تَأَخَّرَ الْإِمَامُ)
وَلَمْ يَخَافُوا مَفْسَدَةً بِالتَّقْدِيمِ فِيهِ حَدِيثُ تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَدِيثُ تَقَدُّمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ فَضْلُ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَشْيِ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ تَقَدَّمَ

(4/144)


غيره إذا لم يخف فتنة وإنكار مِنَ الْإِمَامِ وَفِيهِ أَنَّ الْمُقَدَّمَ نِيَابَةً عَنِ الْإِمَامِ يَكُونُ أَفْضَلَ الْقَوْمِ وَأَصْلَحَهُمْ لِذَلِكَ الْأَمْرِ وَأَقْوَمَهُمْ بِهِ وَفِيهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَغَيْرَهُ يَعْرِضُ التقدم على الفاضل وأن الفاضل يوافقه وفيه أَنَّ الْفِعْلَ الْقَلِيلَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِقَوْلِهِ صَفَّقَ النَّاسُ وَفِيهِ جَوَازُ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ وَاسْتِحْبَابُ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ بِالدُّعَاءِ وَفِعْلُ ذَلِكَ الْحَمْدِ وَالدُّعَاءُ عَقِبَ النِّعْمَةِ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ وَفِيهِ جَوَازُ مَشْيِ الْخُطْوَةِ وَالْخُطْوَتَيْنِ فِي الصلاة وفيه أن هذا الْقَدْرَ لَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ لِحَاجَةٍ وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِخْلَافِ الْمُصَلِّي بِالْقَوْمِ مَنْ يُتِمُّ الصَّلَاةَ لَهُمْ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا وَفِيهِ أَنَّ التَّابِعَ إِذَا أَمَرَهُ الْمَتْبُوعُ بِشَيْءٍ وَفَهِمَ مِنْهُ إِكْرَامَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَا تَحَتُّمُ الْفِعْلُ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَلَا يَكُونُ هَذَا مُخَالَفَةً لِلْأَمْرِ بَلْ يَكُونُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا وَتَحَذُّقًا فِي فَهْمِ الْمَقَاصِدِ وَفِيهِ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ مَعَ الْكِبَارِ وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِمَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ كَإِعْلَامِ مَنْ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ وَتَنْبِيهِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُسَبِّحَ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَيَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَأَنْ تُصَفِّقَ وَهُوَ التَّصْفِيحُ إِنْ كَانَ امْرَأَةً فَتَضْرِبُ بَطْنَ كَفِّهَا الْأَيْمَنِ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهَا الْأَيْسَرِ

(4/145)


وَلَا تَضْرِبُ بَطْنَ كَفٍّ عَلَى بَطْنِ كَفٍّ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فَإِنْ فَعَلَتْ هَكَذَا عَلَى جِهَةِ اللَّعِبِ بَطَلَتْ صَلَاتُهَا لِمُنَافَاتِهِ الصَّلَاةَ وَفِيهِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَقْدِيمُ الْجَمَاعَةِ لَهُ وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَرُجْحَانِهِ وَفِيهِ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَفِيهِ أَنَّ الْإِقَامَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ أَتُصَلِّي فَأُقِيمُ وَفِيهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ الصَّلَاةَ فَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ وَلَوْ أَقَامَ غَيْرُهُ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ وَلَكِنْ يُعْتَدُّ بِإِقَامَتِهِ عِنْدَنَا وعند جمهور العلماء وفيه جَوَازِ خَرْقِ الْإِمَامِ الصُّفُوفَ لِيَصِلَ إِلَى مَوْضِعِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى خَرْقِهَا لِخُرُوجِهِ لِطَهَارَةٍ أَوْ رُعَافٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَرُجُوعِهِ وَكَذَا مَنِ احْتَاجَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَأْمُومِينَ لِعُذْرٍ وَكَذَا لَهُ خَرْقُهَا فِي الدُّخُولِ إِذَا رَأَى قُدَّامَهُمْ فُرْجَةً فَإِنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ بِتَرْكِهَا وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُصَلِّي بِمَنْ يَحْرُمُ بِالصَّلَاةِ بَعْدَهُ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ أَوَّلًا ثُمَّ اقْتَدَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَحْرَمَ بَعْدَهُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا وَقَوْلُهُ (وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى) فِيهِ أَنَّ مَنْ رَجَعَ فِي صَلَاتِهِ

(4/146)


لِشَيْءٍ يَكُونُ رُجُوعُهُ إِلَى وَرَاءُ وَلَا يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَتَحَرَّفُهَا وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَمِمَّا فِيهِ حَمْلُ الْإِدَاوَةِ مَعَ الرَّجُلِ الْجَلِيلِ وَجَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِصَبِّ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَغَسْلِ الْكَفَّيْنِ فِي أَوَّلِهِ ثَلَاثًا وَجَوَازُ لُبْسِ الْجِبَابِ وَجَوَازُ إِخْرَاجِ الْيَدِ مِنْ أَسْفَلِ الثَّوْبِ إِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ مِنَ الْعَوْرَةِ وَجَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

(4/147)


وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(بَابُ تَسْبِيحِ الرَّجُلِ وَتَصْفِيقِ الْمَرْأَةِ إِذَا نَابَهُمَا شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ للنساء) تقدم شرحه في الباب قبله

(4/148)


(باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَا فُلَانُ أَلَا تُحْسِنُ صَلَاتَكَ أَلَا يَنْظُرُ الْمُصَلِّي إِذَا صلى كيف يصلي فإنما يُصَلِّي لِنَفْسِهِ إِنِّي وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ) وفِي رِوَايَةٍ (هل ترون قبلتي ها هنا فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلَا سُجُودُكُمِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي) وَفِي رِوَايَةٍ (أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدْرَاكًا فِي قَفَاهُ يُبْصِرُ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ وَقَدِ انْخَرَقَتِ الْعَادَةُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَلَيْسَ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ بَلْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِظَاهِرِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ قَالَ الْقَاضِي قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ

(4/149)


الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةٌ بِالْعَيْنِ حَقِيقَةً وَفِيهِ الْأَمْرُ بِإِحْسَانِ الصَّلَاةِ وَالْخُشُوعِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَجَوَازُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَكِنِ الْمُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ كَتَأْكِيدِ أَمْرٍ وَتَفْخِيمِهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِهِ وَتَمْكِينِهِ مِنَ النُّفُوسِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنَ الْحَلِفِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي أَيْ مِنْ وَرَائِي كَمَا فِي الرِّوَايَاتِ الْبَاقِيَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْدِ الْوَفَاةِ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنَا مُعَاذٌ حَدَّثَنَا أَبِي وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى حَدَّثَنَا بن أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ هَذَانِ الطَّرِيقَانِ مِنْ أَبِي غَسَّانَ إِلَى أَنَسٍ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ

(باب تَحْرِيمِ سَبْقِ الْإِمَامِ بِرُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ وَنَحْوَهُمَا)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ) فِيهِ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ بِالِانْصِرَافِ السَّلَامُ

(4/150)


قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ) فِيهِ أَنَّهُمَا مَخْلُوقَتَانِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (أما يخشى الذي يرفع رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ) وَفِي رِوَايَةٍ صُورَتَهُ فِي صُورَةِ حِمَارٍ وَفِي رِوَايَةٍ وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ هَذَا كُلُّهُ بَيَانٌ لِغِلَظِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(4/151)


(باب النهي عن رفع البصر إلى السماء فِي الصَّلَاةِ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ) أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَفِي رِوَايَةٍ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ فِيهِ النَّهْيُ الْأَكِيدُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ نُقِلَ الْإِجْمَاعُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَاخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الدُّعَاءِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَكَرِهَهُ شُرَيْحٌ وَآخَرُونَ وَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ وَقَالُوا لِأَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةَ الدُّعَاءِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةَ الصَّلَاةِ وَلَا يُنْكَرُ رَفْعُ الْأَبْصَارِ إِلَيْهَا كَمَا لَا يُكْرَهُ رَفْعُ الْيَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وما توعدون

(باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد)
(ورفعها عند السلام وإتمام الصفوف الأول والتراص فيها والأمر بالاجتماع) قوله صلى الله عليه وسلم (مالي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمُسٍ) هُوَ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا

(4/152)


وَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ بَلْ تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ بِأَذْنَابِهَا وَأَرْجُلِهَا وَالْمُرَادُ بِالرَّفْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُنَا رَفْعُهُمْ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ السَّلَامِ مُشِيرِينَ إِلَى السَّلَامِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ (فَرَآنَا حِلَقًا) هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ جَمْعُ حَلْقَةٍ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ فَتَحَهَا فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ) أَيْ مُتَفَرِّقِينَ جَمَاعَةً جَمَاعَةً وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ الْوَاحِدَةِ عِزَةٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالْأَمْرُ بِالِاجْتِمَاعِ وَفِيهِ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِ الصُّفُوفِ الْأُوَّلِ والتراص في الصفوف وَمَعْنَى إِتْمَامِ الصُّفُوفِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتِمَّ الْأَوَّلَ وَلَا يَشْرَعُ فِي الثَّانِي حَتَّى يَتِمَّ الْأَوَّلُ وَلَا فِي الثَّالِثِ حَتَّى يَتِمَّ الثَّانِي وَلَا فِي الرَّابِعِ حَتَّى يَتِمَّ الثَّالِثُ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِهَا وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي السَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عن يمينه السلام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَنْ شِمَالِهِ وَلَا يُسَنُّ زِيَادَةُ وَبَرَكَاتُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِيهَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَأَشَارَ إِلَيْهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنَّهَا بِدْعَةٌ إِذْ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا حَدِيثٌ بَلْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ فِي تَرْكِهَا وَالْوَاجِبُ مِنْهُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ بِغَيْرِ مِيمٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَسْلِيمَتَيْنِ

(4/153)


وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ الْمُرَادُ بِالْأَخِ الْجِنْسُ أَيْ إِخْوَانِهِ الْحَاضِرِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالسُّكُونِ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُشُوعِ فِيهَا وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُصَلُّونَ وَأَنَّ صُفُوفَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصفة والله أعلم

(باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها)
(والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) لِيَلِنِي هُوَ بِكَسْرِ اللَّامَيْنِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ قَبْلَ النُّونِ وَيَجُوزُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ مَعَ تَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى

(4/154)


التَّوْكِيدِ وَأُولُو الْأَحْلَامِ هُمُ الْعُقَلَاءُ وَقِيلَ الْبَالِغُونَ والنهي بِضَمِّ النُّونِ الْعُقُولُ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ أُولُو الْأَحْلَامِ الْعُقَلَاءُ يَكُونُ اللَّفْظَانِ بِمَعْنًى فَلَمَّا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ تَأْكِيدًا وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَاحِدَةُ النُّهَى نُهْيَةٌ بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ العقل ورجل نه ونهي مِنْ قَوْمِ نَهِينَ وَسُمِّيَ الْعَقْلُ نُهْيَةٌ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى مَا أُمِرَ بِهِ وَلَا يَتَجَاوَزُ وَقِيلَ لِأَنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْقَبَائِحِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مَصْدَرًا كَالْهُدَى وَأَنْ يَكُونَ جَمْعًا كَالظُّلَمِ قَالَ وَالنَّهْيُّ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الثَّبَاتُ وَالْحَبْسُ وَمِنْهُ النِّهَى وَالنَّهَى بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَالنُّهْيَةُ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْمَاءُ فَيَسْتَنْقِعُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ فَرَجَعَ الْقَوْلَانِ فِي اشْتِقَاقِ النُّهْيَةِ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحَبْسُ فَالنُّهْيَةُ هِيَ الَّتِي تَنْهَى وَتَحْبِسُ عَنِ الْقَبَائِحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثم الذين يلونهم) معناه الذين يَقْرَبُونَ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْوَصْفِ قَوْلُهُ (يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا) أَيْ يُسَوِّي مَنَاكِبَنَا فِي الصُّفُوفِ وَيَعْدِلُنَا فِيهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ الْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ إِلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْإِكْرَامِ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ الْإِمَامُ إِلَى اسْتِخْلَافٍ فَيَكُونُ هُوَ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ يَتَفَطَّنُ لِتَنْبِيهِ الْإِمَامِ عَلَى السَّهْوِ لِمَا لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ غَيْرُهُ وَلِيَضْبِطُوا صِفَةَ الصَّلَاةِ ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس وليقتدي بأفعالهم مَنْ وَرَاءَهُمْ وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا التَّقْدِيمُ بِالصَّلَاةِ بَلِ السُّنَّةُ أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْفَضْلِ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ إِلَى الْإِمَامِ وَكَبِيرِ الْمَجْلِسِ كَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالْقَضَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَمَوَاقِفِ الْقِتَالِ وَإِمَامَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّدْرِيسِ وَالْإِفْتَاءِ وَإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ وَنَحْوَهَا وَيَكُونُ النَّاسُ فِيهَا عَلَى مَرَاتِبِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرَفِ وَالسِّنِّ وَالْكَفَاءَةِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُتَعَاضِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَفِيهِ تَسْوِيَةُ الصفوف

(4/155)


وَاعْتِنَاءُ الْإِمَامِ بِهَا وَالْحَثُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ) هِيَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ اخْتِلَاطُهَا وَالْمُنَازَعَةُ وَالْخُصُومَاتُ وَارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ وَاللَّغَطُ وَالْفِتَنُ الَّتِي فِيهَا قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ) اسْمُ أَبِي مَعْشَرٍ زِيَادُ بْنُ كُلَيْبٍ التَّمِيمِيُّ الْحَنْظَلِيُّ الْكُوفِيُّ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن مثنى وبن بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) هذان الإسنادان بصريون وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنِّي أَرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِي) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ) أَيْ سَوُّوهُ وَعَدِّلُوهُ وَتَرَاصُّوا فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَتُسَوُّنَّ

(4/156)


صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ) قِيلَ مَعْنَاهُ يَمْسَخُهَا وَيُحَوِّلُهَا عَنْ صُوَرِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ وَقِيلَ يُغَيِّرُ صِفَاتَهَا وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَاهُ يُوقِعُ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَاخْتِلَافَ الْقُلُوبِ كَمَا يُقَالُ تَغَيَّرَ وَجْهُ فُلَانٍ عَلَيَّ أَيْ ظَهَرَ لِي مِنْ وَجْهِهِ كَرَاهَةٌ لِي وَتَغَيَّرَ قَلْبُهُ عَلَيَّ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ فِي الصُّفُوفِ مُخَالَفَةٌ فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَاخْتِلَافُ الظَّوَاهِرِ سَبَبٌ لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِنِ قَوْلُهُ (يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ) الْقِدَاحُ بِكَسْرِ الْقَافِ هِيَ خَشَبُ السِّهَامِ حِينَ تُنْحَتُ وَتُبْرَى وَاحِدُهَا قِدْحٌ بِكَسْرِ الْقَافِ مَعْنَاهُ يُبَالِغُ فِي تَسْوِيَتِهَا حَتَّى تَصِيرَ كَأَنَّمَا يَقُومُ بِهَا السِّهَامُ لِشِدَّةِ اسْتِوَائِهَا وَاعْتِدَالِهَا قَوْلُهُ فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ لَتُسَوُّنَّ عِبَادَ اللَّهِ صُفُوفَكُمْ فِيهِ الْحَثُّ عَلَى تَسْوِيَتِهَا وَفِيهِ جَوَازُ الْكَلَامِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَلَامُ لمصلحة الصلاة أو لغيرها أولا لِمَصْلَحَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا) النِّدَاءُ هُوَ الْأَذَانُ وَالِاسْتِهَامُ

(4/157)


الِاقْتِرَاعُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا فَضِيلَةَ الْأَذَانِ وَقَدْرَهَا وَعَظِيمَ جَزَائِهِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا يُحَصِّلُونَهُ بِهِ لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنْ أَذَانٍ بَعْدَ أَذَانٍ أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يُؤَذِّنُ لِلْمَسْجِدِ إِلَّا وَاحِدٌ لَاقْتَرَعُوا فِي تَحْصِيلِهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَضِيلَةِ نَحْوَ مَا سَبَقَ وَجَاءُوا إِلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَاقَ عَنْهُمْ ثُمَّ لَمْ يَسْمَحْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِهِ لَاقْتَرَعُوا عَلَيْهِ وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقُرْعَةِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي يُزْدَحَمُ عَلَيْهَا وَيُتَنَازَعُ فِيهَا قَوْلُهُ (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) التَّهْجِيرُ التَّبْكِيرُ إِلَى الصَّلَاةِ أَيِّ صَلَاةٍ كَانَتْ قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَخَصَّهُ الْخَلِيلُ بِالْجُمُعَةِ وَالصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) فِيهِ الْحَثُّ الْعَظِيمُ عَلَى حُضُورِ جَمَاعَةِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَالْفَضْلُ الْكَثِيرُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ مِنْ تَنْغِيصِ أَوَّلِ نَوْمِهَا وَآخِرِهِ وَلِهَذَا كَانَتَا أَثْقَلَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ الْعِشَاءِ عَتَمَةً وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ بَيَانٌ لِلْجَوَازِ وَأَنَّ ذَلِكَ النَّهْيُ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَتَمَةِ هُنَا لِمَصْلَحَةٍ وَنَفْيِ مَفْسَدَةٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُ لَفْظَةَ الْعِشَاءِ فِي الْمَغْرِبِ فَلَوْ قَالَ لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ لَحَمَلُوهَا عَلَى الْمَغْرِبِ فَفَسَدَ الْمَعْنَى وَفَاتَ الْمَطْلُوبُ فَاسْتَعْمَلَ الْعَتَمَةَ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا وَلَا يَشُكُّونَ فِيهَا وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى احْتِمَالِ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْظَمِهِمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ حَبْوًا هُوَ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَإِنَّمَا ضَبَطْتُهُ لِأَنِّي رَأَيْتُ مِنَ الْكِبَارِ مَنْ صَحَّفَهُ قَوْلُهُ (تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ) مَعْنَى وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ أَيْ يَقْتَدُوا بِي مُسْتَدِلِّينَ عَلَى أَفْعَالِي بِأَفْعَالِكُمْ

(4/158)


فَفِيهِ جَوَازُ اعْتِمَادِ الْمَأْمُومِ فِي مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ الَّذِي لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ عَلَى مُبَلِّغٍ عنه أوصف قُدَّامَهُ يَرَاهُ مُتَابِعًا لِلْإِمَامِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ أَيْ عَنِ الصُّفُوفِ الْأُوَلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ رَحْمَتِهِ أَوْ عَظِيمِ فَضْلِهِ وَرَفْعِ الْمَنْزِلَةِ وَعَنِ الْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ (قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ) هُوَ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا) أَمَّا صُفُوفُ الرِّجَالِ فَهِيَ عَلَى عُمُومِهَا فَخَيْرُهَا أَوَّلُهَا أَبَدًا وَشَرُّهَا آخِرُهَا أَبَدًا أَمَّا صُفُوفُ النِّسَاءِ فَالْمُرَادُ بالحديث أما صُفُوفُ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي يُصَلِّينَ مَعَ الرِّجَالِ وَأَمَّا إِذَا صَلَّيْنَ مُتَمَيِّزَاتٍ لَا مَعَ الرِّجَالِ فَهُنَّ كَالرِّجَالِ خَيْرُ صُفُوفِهِنَّ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَالْمُرَادُ بِشَرِّ الصُّفُوفِ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَقَلُّهَا ثَوَابًا وَفَضْلًا وَأَبْعَدُهَا مِنْ مَطْلُوبِ الشَّرْعِ وَخَيْرُهَا بِعَكْسِهِ وَإِنَّمَا فَضَّلَ آخِرَ صُفُوفِ النِّسَاءِ الْحَاضِرَاتِ مَعَ الرِّجَالِ لِبُعْدِهِنَّ مِنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ وَرُؤْيَتِهِمْ وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهِمْ عِنْدَ رُؤْيَةِ حَرَكَاتِهِمْ وَسَمَاعِ

(4/159)


كَلَامِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَذَمَّ أَوَّلَ صُفُوفِهِنَّ لِعَكْسِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ الْمَمْدُوحَ الَّذِي قَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِفَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ هُوَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِي الْإِمَامَ سَوَاءٌ جَاءَ صَاحِبُهُ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا وَسَوَاءٌ تَخَلَّلَهُ مَقْصُورَةٌ وَنَحْوُهَا أَمْ لَا هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ وَصَرَّحَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الصَّفُّ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُتَّصِلُ مِنْ طَرَفِ الْمَسْجِدِ إِلَى طَرَفِهِ لَا يَتَخَلَّلهُ مَقْصُورَةٌ وَنَحْوُهَا فَإِنْ تَخَلَّلَ الَّذِي يَلِي الإمام شيء فليس بأول بل الأول مالا يَتَخَلَّلُهُ شَيْءٌ وَإِنْ تَأَخَّرَ وَقِيلَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجِيءِ الْإِنْسَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَوَّلًا وَإِنْ صَلَّى فِي صَفٍّ مُتَأَخِّرٍ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ غَلَطٌ صَرِيحٌ وَإِنَّمَا أَذْكُرُهُ وَمِثْلَهُ لِأُنَبِّهَ عَلَى بُطْلَانِهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب أَمْرِ النِّسَاءِ الْمُصَلِّيَاتِ وَرَاءَ الرِّجَالِ)
(أَنْ لَا يرفعن رؤوسهن مِنْ السُّجُودِ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ) قَوْلُهُ (رَأَيْتُ الرِّجَالَ عَاقِدِي أُزُرِهِمْ) مَعْنَاهُ عَقَدُوهَا لِضِيقِهَا لِئَلَّا يُكْشَفَ شَيْءٌ مِنَ الْعَوْرَةِ فَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالتَّوَثُّقُ بِحِفْظِ السُّتْرَةِ وَقَوْلُهُ (يَا معشر النساء لا ترفعن رؤوسكن حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ) مَعْنَاهُ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُ امْرَأَةٍ عَلَى عَوْرَةِ رَجُلٍ انْكَشَفَ وَشَبَهَ ذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

(4/160)


(باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ)
(إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ وَأَنَّهَا لَا تَخْرُجْ مُطَيَّبَةً) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) هَذَا وَشَبَهُهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ الْمَسْجِدَ لَكِنْ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ مَأْخُوذَةً مِنَ الأحاديث وهو أن لا تَكُونَ مُتَطَيِّبَةً وَلَا مُتَزَيِّنَةً وَلَا ذَاتَ خَلَاخِلَ يُسْمَعُ صَوْتُهَا وَلَا ثِيَابٍ فَاخِرَةٍ وَلَا مُخْتَلِطَةً بِالرِّجَالِ وَلَا شَابَّةً

(4/161)


وَنَحْوَهَا مِمَّنْ يُفْتَتَنُ بِهَا وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي الطَّرِيقِ مَا يَخَافُ بِهِ مَفْسَدَةً وَنَحْوَهَا وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهِنِّ مِنَ الْخُرُوجِ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ وَوُجِدَتِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ حَرُمَ الْمَنْعُ إِذَا وُجِدَتِ الشُّرُوطُ قَوْلُهُ (فَيَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا) هُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْفَسَادُ وَالْخِدَاعُ وَالرِّيبَةُ قَوْلُهُ (فَزَبَرَهُ) أَيْ نَهَرَهُ قَوْلُهُ (فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا) وَفِي رِوَايَةٍ فَزَبَرَهُ وَفِي رِوَايَةٍ فَضَرَبَ فِي صدره فيه تعزير الْمُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَّةِ وَالْمُعَارِضِ لَهَا بِرَأْيِهِ وَفِيهِ تعزير الْوَالِدِ وَلَدَهُ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِذَا اسْتَأْذَنُوكُمْ) هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ اسْتَأْذَنُوكُمْ وَفِي بَعْضِهَا اسْتَأْذَنَكُمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ أَيْضًا وَعُومِلْنَ مُعَامَلَةَ

(4/162)


الذُّكُورِ لِطَلَبِهِنَّ الْخُرُوجَ إِلَى مَجْلِسِ الذُّكُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ) معناه إذا أرادت شهودها أما من شهدها ثُمَّ عَادَتِ إِلَى بَيْتِهَا فَلَا تُمْنَعُ مِنَ التَّطَيُّبِ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا) مَعْنَاهُ إِذَا أَرَادَتْ شُهُودَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ مِنَ الْمُحَالِ قَوْلُ الْعَامَّةِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا إِلَّا عِشَاءٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوصَفُ بِالْآخِرَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَصْفُهَا بِالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَأَلْفَاظُهُمْ بِهَذَا مَشْهُورَةٌ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الَّتِي بَعْدَ

(4/163)


هَذَا وَالْبَخُورِ بِتَخْفِيفِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ) يَعْنِي مِنَ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ وَحُسْنِ الثِّيَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب التَّوَسُّطِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ)
(بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ إِذَا خَافَ مِنْ الْجَهْرِ مَفْسَدَةً) ذَكَرَ فِي الْبَابِ حديث بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمْنَا لَهُ وَهُوَ مُرَادُ مُسْلِمٍ بِإِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا وَذَكَرَ تَفْسِيرُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ وَاخْتَارَهُ

(4/164)


الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ لَكِنِ الْمُخْتَارُ الْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَابُ الاستماع للقراءة)
فيه حديث بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) إِلَى آخِرِهَا قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ) إِنَّمَا كَرَّرَ لَفْظَةَ كَانَ لِطُولِ الْكَلَامِ وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إِذَا طَالَ الْكَلَامُ جَازَتِ إِعَادَةُ اللَّفْظِ وَنَحْوُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وعظاما أنكم مخرجون فَأَعَادَ أَنَّكُمْ لِطُولِ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى

(4/165)


ولما جاءهم كتاب من عند الله إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطًا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ كَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ به لسانه وشفتيه معناه كان كثيرا ما يفعل ذَلِكَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ هَذَا شَأْنُهُ وَدَأْبُهُ قَوْلُهُ عز وجل فإذا قرأناه أَيْ قَرَأَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِيهِ إِضَافَةُ مَا يَكُونُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ قَوْلُهُ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً سَبَبُ الشِّدَّةِ هَيْبَةُ الْمَلَكِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَثِقَلُ الْوَحْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثقيلا وَالْمُعَالَجَةُ الْمُحَاوَلَةُ لِلشَّيْءِ وَالْمَشَقَّةُ فِي تَحْصِيلِهِ قَوْلُهُ فَكَانَ ذَلِكَ يُعْرَفُ مِنْهُ يَعْنِي يَعْرِفُهُ مَنْ رَآهُ لِمَا يَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ وَبَدَنِهِ مِنَ أَثَرِهِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا قَوْلُهُ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ الِاسْتِمَاعُ

(4/166)


الْإِصْغَاءُ لَهُ وَالْإِنْصَاتُ السُّكُوتُ فَقَدْ يَسْتَمِعُ وَلَا يُنْصِتُ فَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى فاستمعوا له وأنصتوا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ يُقَالُ أَنْصَتَ وَنَصَتَ وَانْتَصَتَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ أَفْصَحُهُنَّ أَنْصَتَ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ

(باب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَى الْجِنِّ)
قَوْلُهُ سُوقُ عُكَاظٍ هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ وَالسُّوقُ تُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ لُغَتَانِ قِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقِيَامِ النَّاسِ فِيهَا عَلَى سُوقِهِمْ قوله عن بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَا قَرَأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم وذكر بعده حديث بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمِ الْقُرْآنَ قَالَ الْعُلَمَاءُ هما قضيتان فحديث بن عَبَّاسٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَأَوَّلُ النُّبُوَّةِ حِينَ أتوا فسمعوا قراءة قل أوحى وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَلْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِمَاعَهُمْ حَالَ اسْتِمَاعِهِمْ بِوَحْيٍ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ إِلَّا بَعْدَ ذلك واما حديث بن مَسْعُودٍ فَقَضِيَّةٌ أُخْرَى جَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِقَدْرِهِ وَكَانَ بَعْدَ اشْتِهَارِ الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتِ الشُّهُبُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا حَدَثَ بَعْدَ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا وَلِهَذَا أَنْكَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَارْتَاعَتْ لَهُ وَضَرَبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا لِيَعْرِفُوا خَبَرَهُ وَلِهَذَا كَانَتِ الْكِهَانَةُ فَاشِيَةً فِي الْعَرَبِ حَتَّى قُطِعَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ صُعُودِ السَّمَاءِ وَاسْتِرَاقِ السَّمْعِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا وَأَنَّا

(4/167)


لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَقَدْ جَاءَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِاسْتِغْرَابِهِمْ رَمْيَهَا لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْهَدُوهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَكَانَ رَمْيُهَا مِنْ دَلَائِلِ النبوة وقال جماعة من العلماء مازالت الشهب منذ كانت الدنيا وهو قول بن عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أشعار العرب وروى فيه بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدِيثًا قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ فقد قال الله تعالى فمن يستمع الآن يجدله شهابا رصدا فَقَالَ كَانَتِ الشُّهُبُ قَلِيلَةً فَغَلُظَ أَمْرُهَا وَكَثُرَتْ حِينَ بُعِثَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ نَحْوَ هَذَا وَذَكَرُوا أَنَّ الرَّمْيَ بِهَا وَحِرَاسَةَ السَّمَاءِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَمَعْلُومَةً وَلَكِنْ إِنَّمَا كَانَتْ تَقَعُ عِنْدَ حُدُوثِ أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ عَذَابٍ يَنْزِلُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا وَقِيلَ كَانَتِ الشُّهُبُ قَبْلُ مَرْئِيَّةً وَمَعْلُومَةً لَكِنْ رجم الشياطين واحراقهم لم يكن الابعد نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى رُجُومًا وَفِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ فَتَكُونُ الْكَوَاكِبُ هِيَ الرَّاجِمَةُ الْمُحْرِقَةُ بِشُهُبِهَا لَا بِأَنْفُسِهَا وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ فَتَكُونُ هِيَ بِأَنْفُسِهَا الَّتِي يُرْجَمُ بِهَا وَيَكُونُ رُجُومُ جَمْعَ رَجْمٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مَعْنَاهُ سِيرُوا فِيهَا كُلِّهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْرُجُ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَاتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ فَإِنَّ اللَّهَ

(4/168)


تعالى يمقت على ذلك قوله فمر النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ وَهُوَ بِنَخْلٍ هَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ بِنَخْلٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَصَوَابُهُ بِنَخْلَةٍ بِالْهَاءِ وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ هُنَاكَ كَذَا جَاءَ صَوَابُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ نَخْلٌ وَنَخْلَةٌ وَأَمَّا تِهَامَةُ فَبِكَسْرِ التَّاءِ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا نَزَلَ عَنْ نَجْدٍ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ وَمَكَّةَ مِنْ تهامة قال بن فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ سُمِّيَتْ تِهَامَةُ مِنَ التَّهَمِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْهَاءِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ وَرُكُودُ الرِّيحِ وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَغَيُّرِ هَوَائِهَا يُقَالُ تَهِمَ الدُّهْنُ إِذَا تَغَيَّرَ وَذَكَرَ الْحَازِمِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ فِي أَرْضِ تِهَامَةَ تَهَائِمُ قَوْلُهُ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ قَالُوا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ فِيهِ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ وَفِيهِ إِثْبَاتُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي السَّفَرِ وَأَنَّهَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً مِنَ أَوَّلِ النُّبُوَّةِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ آمَنُوا عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَلَا بُدَّ لِمَنْ آمَنَ عِنْدَ سَمَاعِهِ أَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْإِعْجَازِ وَشُرُوطَ الْمُعْجِزَةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فَيَكُونُ الْجِنُّ عَلِمُوا ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَبْلَهُمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الصَّادِقُ الْمُبَشَّرُ بِهِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ يُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْمَعَاصِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ من الجنة والناس أجمعين وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مُؤْمِنَهُمْ وَمُطِيعُهُمْ هَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيُنَعَّمُ بِهَا ثَوَابًا وَمُجَازَاةً لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ أَمْ لَا يَدْخُلُونَ بَلْ يَكُونُ ثَوَابُهُمْ أَنْ يَنْجُوا مِنَ النَّارِ ثُمَّ يُقَالُ كُونُوا ترابا كالبهائم وهذا مذهب بن أَبِي سُلَيْمٍ وَجَمَاعَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا وَيُنَعَّمُونَ فِيهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ البصري والضحاك ومالك بن أنس وبن أبي ليلى وغيرهم وقوله (سألت بن مَسْعُودٍ هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ قَالَ لَا) هَذَا صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ الْمَذْكُورِ فيه الوضوء بالنبيذ وحضور بن مَسْعُودٍ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ النَّبِيذِ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ وَمَدَارُهُ عَلَى زَيْدٍ

(4/169)


مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ قَوْلُهُ (اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ) مَعْنَى اسْتُطِيرَ طَارَتْ بِهِ الْجِنُّ وَمَعْنَى اغْتِيلَ قُتِلَ سِرًّا وَالْغِيلَةُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ هِيَ الْقَتْلُ فِي خُفْيَةٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ انتهى حديث بن مَسْعُودٍ عِنْدَ قَوْلِهِ فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ كَذَا رَوَاهُ أصحاب داود الراوي عن الشعبي وبن علية وبن زريع وبن أبي زائدة وبن إِدْرِيسَ وَغَيْرِهِمْ هَكَذَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ مرويا عن بن مَسْعُودٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَالشَّعْبِيُّ لَا يَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (لَكُمْ كُلَّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهُ عَلَيْهِ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا لِمُؤْمِنِيهِمْ وَأَمَّا غَيْرِهِمْ فَجَاءَ في حديث آخر أن طعامهم مالم يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ

(4/170)


عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَهُ) فِيهِ الْحِرْصُ عَلَى مُصَاحَبَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ فِي أَسْفَارِهِمْ وَمُهِمَّاتِهِمْ وَمَشَاهِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ مُطْلَقًا وَالتَّأَسُّفُ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ قَوْلُهُ (آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ فِيمَا يَشَاءُ مِنَ الْجَمَادِ تَمْيِيزًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقوله تعالى وان من شئ الايسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَحَدِيثُ الشَّجَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَتَتَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وَحَدِيثُ حَنِينِ الْجِذْعِ وَتَسْبِيحِ الطَّعَامِ وَفِرَارِ حَجَرِ مُوسَى بِثَوْبِهِ وَرُجْعَانُ حِرَاءَ وَأُحُدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ)
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ

(4/171)


الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا الآية أحياناويقرأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (كَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الْأُولَيَيْنِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةٍ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً أَوْ قَالَ نِصْفُ ذَلِكَ وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي

(4/172)


كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ) وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ (أَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ) وَفِي حديث أبي سَعِيدٍ الْآخَرِ قَالَ (لَقَدْ كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَأْتِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ

(4/173)


الْأُولَى مِمَّا يُطَوِّلهَا) وَفِي أَحَادِيثَ أُخَرَ فِي غَيْرِ الْبَابِ وَهِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مَخَافَةَ أَنْ تَفْتَتِنَ أُمُّهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَانَتْ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَخْتَلِفُ فِي الْإِطَالَةِ وَالتَّخْفِيفِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُونَ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ وَلَا شُغْلَ هُنَاكَ لَهُ وَلَا لَهُمْ طُولُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ خَفَّفَ وَقَدْ يُرِيدُ الْإِطَالَةَ ثُمَّ يَعْرِضُ مَا يَقْتَضِي التَّخْفِيفَ كَبُكَاءِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ وَيَنْضَمُّ إِلَى هَذَا أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَيُخَفِّفُ وَقِيلَ إِنَّمَا طَوَّلَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ الْأَقَلُّ وَخَفَّفَ فِي مُعْظَمِهَا فَالْإِطَالَةُ لِبَيَانِ جَوَازِهَا وَالتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ وَقَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّخْفِيفِ وَقَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ وَقِيلَ طَوَّلَ فِي وَقْتٍ وَخَفَّفَ فِي وَقْتٍ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ لَا تَقْدِيرَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الِاشْتِرَاطِ بَلْ يَجُوزُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَإِنَّمَا الْمُشْتَرَطُ الْفَاتِحَةُ وَلِهَذَا اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَيْهَا وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ السُّنَّةُ التَّخْفِيفُ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعِلَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا وَإِنَّمَا طَوَّلَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِتَحَقُّقِهِ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ فَإِنْ تَحَقَّقَ أَحَدٌ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ طَوَّلَ قَوْلُهُ وَكَانَ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ أَنَّ قِرَاءَةَ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ بِكَمَالِهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ قَدْرِهَا من طويلة لان المستحب للقارئ ان يبتدىء مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ الْمُرْتَبِطِ وَيَقِفُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُرْتَبِطِ وَقَدْ يَخْفَى الِارْتِبَاطُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ كَثِيرٍ فَنُدِبَ مِنْهُمْ إِلَى إِكْمَالِ السُّورَةِ لِيُحْتَرَزَ عَنِ الْوُقُوفِ دُونَ الِارْتِبَاطِ وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَلَعَلَّ سَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اخْتِلَافِ إِطَالَةِ الصَّلَاةِ وَتَخْفِيفِهَا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ وَالثَّالِثَةِ مِنَ الْمَغْرِبِ فَقِيلَ بِالِاسْتِحْبَابِ وَبِعَدَمِهِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الْأُخْرَيَيْنِ أَتَى بِالسُّورَةِ فِي الْبَاقِيَتَيْنِ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ مِنْ سُورَةٍ وَأَمَّا اخْتِلَافُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ فَهُوَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ قَالُوا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَتَكُونُ الصُّبْحُ أَطْوَلَ وَفِي الْعِشَاءِ وَالْعَصْرِ بِأَوْسَاطِهِ وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِهِ قَالُوا وَالْحِكْمَةُ فِي إِطَالَةِ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ أَنَّهُمَا فِي وَقْتِ غَفْلَةٍ بِالنَّوْمِ آخِرَ اللَّيْلِ وَفِي الْقَائِلَةِ فَيُطَوِّلهُمَا لِيُدْرِكَهُمَا الْمُتَأَخِّرُ بِغَفْلَةٍ وَنَحْوِهَا وَالْعَصْرُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ تَفْعَلُ فِي وَقْتِ تَعَبِ أَهْلِ الْأَعْمَالِ فَخُفِّفَتْ عَنْ ذَلِكِ وَالْمَغْرِبُ ضيقة الوقت

(4/174)


فَاحْتِيجَ إِلَى زِيَادَةِ تَخْفِيفِهَا لِذَلِكَ وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى عَشَاءِ صَائِمِهِمْ وَضَيْفِهِمْ وَالْعِشَاءُ فِي وَقْتِ غَلَبَةِ النَّوْمِ وَالنُّعَاسِ وَلَكِنَّ وَقْتَهَا وَاسِعٌ فَأَشْبَهَتِ الْعَصْرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ وَكَانَ يُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَيَقْصُرُ الثَّانِيَةَ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَشْهَرُهُمَا عِنْدَهُمْ لَا يُطَوِّلُ وَالْحَدِيثُ مُتَأَوَّلٌ عَلَى أَنَّهُ طَوَّلَ بِدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ أَوْ لِسَمَاعِ دُخُولِ داخل في الصلاة ونحوه لافي الْقِرَاءَةِ وَالثَّانِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي الأولى قصدا وهذا هو الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ السُّنَّةِ وَمَنْ قَالَ بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا أَخَفُّ مِنْهَا فِي الْأُولَيَيْنِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَطْوِيلِ الثَّالِثَةِ عَلَى الرَّابِعَةِ إِذَا قُلْنَا بِتَطْوِيلِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ وَلَمْ يُوجِبْ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ الْقِرَاءَةَ بَلْ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالسُّكُوتِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَنِ الصَّحِيحَةِ وَقَوْلُهُ (وَكَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ) أَحْيَانًا هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَيَانَ جَوَازِ الْجَهْرِ فِي الْقِرَاءَةِ السِّرِّيَّةِ وَأَنَّ الْإِسْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْجَهْرَ بِالْآيَةِ كَانَ يَحْصُلُ بِسَبْقِ اللِّسَانِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي التَّدَبُّرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَمَّا منصور فهو بن الْمُعْتَمِرِ وَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ فَلَيْسَ هُوَ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الْأُمَوِيَّ مَوْلَاهُمُ الْإِمَامَ الْجَلِيلَ الْمَشْهُورَ الْمُتَأَخِّرَ صَاحِبَ الْأَوْزَاعِيِّ بَلْ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَنْبَرِيُّ الْبَصْرِيُّ أَبُو بِشْرٍ التَّابِعِيُّ وَأَنَّ اسْمَ أَبِي الصِّدِّيقِ بكر بن عمرو وقيل بن قَيْسٍ النَّاجِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى نَاجِيَةَ قَبِيلَةٍ قَوْلُهُ (كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَهُ) هُوَ بِضَمِّ الزَّايِ وَكَسْرِهَا لغتان قوله (والآوليين والآخريين) هو بيائين مُثَنَّاتَيْنِ تَحْتُ قَوْلُهُ (فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ قَدْرَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ) يَجُوزُ جَرُّ السَّجْدَةِ عَلَى الْبَدَلِ وَنَصْبُهَا بِأَعْنِي وَرَفْعُهَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قَوْلُهُ (عَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ) كَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَهُوَ مَعْنَى رِوَايَةِ مِنْ قَوْلُهُ (إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةَ شَكَوْا سَعْدًا) هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْكُوفَةُ هِيَ الْبَلْدَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَدَارُ الْفَضْلِ وَمَحِلُّ الْفُضَلَاءِ بَنَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْنِي أَمَرَ نُوَّابَهُ بِبِنَائِهَا هِيَ وَالْبَصْرَةِ قِيلَ سُمِّيَتْ كُوفَةَ لِاسْتِدَارَتِهَا تَقُولُ الْعَرَبُ رَأَيْتُ كُوفًا وَكُوفَانًا لِلرَّمْلِ الْمُسْتَدِيرِ وَقِيلَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا تَقُولُ الْعَرَبُ تَكَوَّفَ الرَّمْلُ إِذَا اسْتَدَارَ وَرَكِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا وَقِيلَ لِأَنَّ تُرَابَهَا خَالَطَهُ

(4/175)


حَصًى وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ سُمِّيَ كُوفَةَ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُقَالُ لِلْكُوفَةِ أَيْضًا كُوفَانُ بِضَمِّ الْكَافِ قَوْلُهُ (فَذَكَرُوا مِنْ صَلَاتِهِ) أَيْ أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ قَوْلُهُ (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا شُكِيَ إِلَيْهِ نَائِبُهُ بَعَثَ إِلَيْهِ وَاسْتَفْسَرَهُ عَنْ ذَلِكِ وَأَنَّهُ إِذَا خَافَ مَفْسَدَةً بِاسْتِمْرَارِهِ فِي وِلَايَتِهِ وَوُقُوعَ فِتْنَةٍ عَزْلَهُ فَلِهَذَا عَزَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَلَلٌ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يَقْدَحُ فِي وِلَايَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ مَقْتَلِ عُمَرَ وَالشُّورَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنْ أَصَابَتِ الْإِمَارَةُ سَعْدًا فَذَاكَ وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِرَ فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ مِنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ قَوْلُهُ (لَا أَخْرِمُ عَنْهَا) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ لَا أَنْقُصُ قَوْلُهُ (إِنِّي لَأَرْكُدُ بِهِمْ فِي الْأُولَيَيْنِ) يَعْنِي أُطَوِّلُهُمَا وَأُدِيمُهُمَا وَأُمِدُّهُمَا كَمَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِمْ رَكَدَتِ السُّفُنُ وَالرِّيحُ وَالْمَاءُ إِذَا سَكَنَ وَمَكَثَ وَقَوْلُهُ وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ يَعْنِي أُقْصِّرُهُمَا عَنِ الْأُولَيَيْنِ لَا أَنَّهُ يُخِلُّهُ بِالْقِرَاءَةِ وَيَحْذِفُهَا كُلَّهَا قَوْلُهُ (ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ أَبَا إِسْحَاقَ) فِيهِ مَدْحُ الرَّجُلِ الْجَلِيلِ فِي وَجْهِهِ إِذَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ فِتْنَةً بِإِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ بِالْأَمْرَيْنِ وَجَمَعَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْتُهُ وَقَدْ أَوْضَحْتُهُمَا فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ وَفِيهِ خِطَابُ الرَّجُلِ الْجَلِيلِ بِكُنْيَتِهِ دون اسمه قوله (وما آلوا مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) آلُو بِالْمَدِّ فِي أَوَّلِهِ وَضَمِّ اللَّامِ أَيْ لَا أُقْصِرُ فِي ذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إِفْسَادِكُمْ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا الوليد) يعنى بن مُسْلِمٍ هُوَ صَاحِبُ الْأَوْزَاعِيِّ قَوْلُهُ (عَنْ قَزَعَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَإِسْكَانِهَا قَوْلُهُ (وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ) أَيْ عِنْدَهُ نَاسٌ كَثِيرُونَ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ (أَسْأَلُكَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مالك فِي ذَلِكَ مِنْ خَيْرٍ) مَعْنَاهُ إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهَا لِطُولِهَا وَكَمَالِ خُشُوعِهَا وَإِنْ تَكَلَّفْتَ ذَلِكَ شُقَّ عَلَيْكَ وَلَمْ تُحَصِّلْهُ فَتَكُونُ قَدْ عَلِمْتَ السُّنَّةَ وَتَرَكْتَهَا

(4/176)


(باب الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ سُفْيَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُسَيِّبِ الْعَابِدِيُّ) قال الحفاظ قوله بن الْعَاصِ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ حَذْفُهُ وَلَيْسَ هَذَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيَّ بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْحِجَازِيُّ كَذَا ذكره البخارى في تاريخه وبن أَبِي حَاتِمٍ وَخَلَائِقُ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَأَمَّا أَبُو سَلَمَةَ هَذَا فَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ الْمَخْزُومِيِّ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِيمَنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ وَأَمَّا الْعَابِدِيُّ فَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَوْلُهُ (أَخَذَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْلَةٌ) هِيَ بِفَتْحِ السِّينِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ قَطْعِ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةِ بِبَعْضِ السُّورَةِ وَهَذَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ إِنْ كَانَ الْقَطْعُ لِعُذْرٍ وان

(4/177)


لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ كَرَاهَتُهُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ سَرِيعٍ) هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ قَوْلُهُ (سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ أَيْ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الَّتِي فِيهَا وَاللَّيْلِ اذا عسعس قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ مَعْنَى عَسْعَسَ اللَّيْلُ أَدْبَرَ كَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ ونقل الفراء اجماع المفسرين عليه قال وقال آخَرُونَ مَعْنَاهُ أَقْبَلَ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ إِذَا أَقْبَلَ وَإِذَا أَدْبَرَ قَوْلُهُ زياد بن علاقة هو بكسر العين وقطبة بْنُ مَالِكٍ بِضَمِّ الْقَافِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ عم زياد وقوله عزوجل والنخل باسقات أَيْ طَوِيلَاتٍ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرُونَ

(4/178)


مَعْنَاهُ مَنْضُودٌ مُتَرَاكِبٌ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ قَالَ بن قُتَيْبَةَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ فَإِذَا انْشَقَّ كِمَامُهُ وَتَفَرَّقَ فَلَيْسَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَضِيدٍ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ) اسْمُ أَبِي الْمِنْهَالِ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ الرِّيَاحِيُّ وأبو برزة نضله عن عبيدة الاسلمى

(4/179)


(بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ)
فِيهِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (أَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثم

(4/180)


يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ فَقَالُوا أَنَافَقْتَ إِلَى آخِرِهِ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ لِأَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْقُطُ فَرْضُهُ ثُمَّ يُصَلِّي مَرَّةً ثَانِيَةً بقومه هي له تطوع ولهم فَرِيضَةٌ وَقَدْ جَاءَ هَكَذَا مُصَرَّحًا بِهِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَآخَرِينَ وَلَمْ يُجُزْهُ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْكُوفِيُّونَ وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَفُّلًا وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ حَدِيثُ مُعَاذٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ دَعَاوَى لَا أَصْلَ لَهَا فَلَا يُتْرَكُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ بِهَا

(4/181)


وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْطَعَ الْقُدْوَةَ وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِعُذْرٍ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَالثَّالِثُ يَجُوزُ لِعُذْرٍ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا الْعُذْرُ هُوَ مَا يَسْقُطُ بِهِ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ ابْتِدَاءً وَيُعْذَرُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا بِسَبَبِهِ وَتَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ عُذْرٌ عَلَى الْأَصَحِّ لِقِصَّةِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَارَقَهُ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ بَلْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ سَلَّمَ وَقَطَعَ الصَّلَاةَ مِنْ أَصْلِهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَهَا وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ لِلْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَطْعِ الصَّلَاةِ وَإِبْطَالِهَا لِعُذْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ) فِيهِ جَوَازُ قَوْلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ وَنَحْوِهَا وَمَنَعَهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ إِلَّا السُّورَةُ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الْبَقَرَةَ وَنَحْوُ هَذَا وَهَذَا خَطَأٌ صَرِيحٌ وَالصَّوَابُ جَوَازُهُ فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَيُقَالُ سورة بلا همز وبالهمز لغتان ذكرهما بن قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ وَتَرْكُ الْهَمْزَةِ هُنَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ وَيُقَالُ قَرَأْتُ السُّورَةَ وَقَرَأْتُ بِالسُّورَةِ وَافْتَتَحْتُهَا وَافْتَتَحْتُ بِهَا قَوْلُهُ (إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ) هِيَ الْإِبِلُ الَّتِي يُسْتَقى عَلَيْهَا جَمْعُ نَاضِحٍ وَأَرَادَ إِنَّا أَصْحَابُ عَمَلٍ وَتَعَبٍ فَلَا نَسْتَطِيعُ تَطْوِيلَ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ) أَيْ مُنَفِّرٌ عَنِ الدِّينِ وَصَادٌّ عَنْهُ فَفِيهِ

(4/182)


الْإِنْكَارُ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ مَا يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ وَفِيهِ جَوَازُ الِاكْتِفَاءِ فِي التَّعْزِيرِ بِالْكَلَامِ وَفِيهِ الْأَمْرُ بِتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ وَالتَّعْزِيرِ عَلَى إِطَالَتِهَا إِذَا لَمْ يَرْضَ الْمَأْمُومُونَ قَوْلُهُ (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاءَ الْآخِرَةِ) فِيهِ جَوَازُ قَوْلِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا بَيَانُهُ وَقَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ بِإِنْكَارِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ قُتَيْبَةُ يَقُولُ فِي حَدِيثِهِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَمْرٍو وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَيُّوبَ وَكَانَ يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُبَيِّنَهُ وَكَأَنَّهُ أَهْمَلَهُ لِكَوْنِهِ جَعَلَ الرِّوَايَةَ مَسُوقَةً عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ وَحْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب أَمْرِ الْأَئِمَّةِ بِتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ فِي تَمَامٍ)
فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ والكبير والضعيف

(4/183)


وَالْمَرِيضَ وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ) وَفِي رِوَايَةٍ وَذَا الْحَاجَةِ مَعْنَى أَحَادِيثِ الْبَابِ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْأَمْرُ لِلْإِمَامِ بِتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ بِحَيْثُ لَا يُخِلُّ بِسُنَّتِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَأَنَّهُ إِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ طَوَّلَ مَا شَاءَ فِي الْأَرْكَانِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّطْوِيلَ وَهِيَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَالتَّشَهُّدُ دُونَ الِاعْتِدَالِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا) فِيهِ جَوَازُ التَّأَخُّرِ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إِذَا عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْإِمَامِ التَّطْوِيلُ الْكَثِيرُ وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِهَذَا وَنَحْوِهِ فِي مَعْرِضِ الشَّكْوَى وَالِاسْتِفْتَاءِ قَوْلُهُ (فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ) الْحَدِيثُ

(4/184)


فِيهِ الْغَضَبُ لِمَا يُنْكَرُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالْغَضَبُ فِي الْمَوْعِظَةِ قَوْلُهُ (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أُمَّ قَوْمَكَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا فَقَالَ ادْنُهْ فَجَلَّسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ ثُمَّ قَالَ تَحَوَّلْ فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ ثُمَّ قَالَ أُمَّ قَوْمَكَ) قَوْلُهُ ثَدْيَيَّ وَكَتِفَيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَفِيهِ إِطْلَاقُ اسْمِ الثَّدْيِ عَلَى حَلَمَةِ الرَّجُلِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ جَلَّسَنِي هُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَقَوْلُهُ أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْخَوْفَ مِنْ حُصُولِ شَيْءٍ مِنَ الْكِبْرِ وَالْإِعْجَابِ لَهُ بِتَقَدُّمِهِ عَلَى النَّاسِ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَكَةِ كَفِّ رسول

(4/185)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْوَسْوَسَةَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ كَانَ مُوَسْوِسًا وَلَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ الْمُوَسْوِسُ فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ بَعْدَ هَذَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ هَذَا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يُلَبِّسُهَا عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِّي

(4/186)


قَوْلُهُ (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مَعَ أُمِّهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْخَفِيفَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ) الْوَجْدُ يُطْلَقُ عَلَى الْحُزْنِ وَعَلَى الْحُبِّ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا سَائِغٌ هُنَا وَالْحُزْنُ أَظْهَرُ أَيْ مِنْ حُزْنِهَا وَاشْتِغَالِ قَلْبِهَا بِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الرفق بالمأمومين وسائر الاتباع ومراعاة مصلحتهم وأن لا يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَفِيهِ جَوَازُ صَلَاةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّ الصَّبِيَّ يَجُوزُ إِدْخَالُهُ الْمَسْجِدَ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَمَّنْ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ حَدَثٌ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ) هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب اعْتِدَالِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَتَخْفِيفِهَا فِي تَمَامٍ)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ الْأَعْلَى أَبِي بَكْرَةَ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مِرَارًا قَوْلُهُ (رَمَقْتُ الصَّلَاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ

(4/187)


قِيَامَهُ فَرَكْعَتَهُ فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ فَسَجْدَتَهُ فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَإِطَالَةِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَفِي الِاعْتِدَالِ عَنِ الرُّكُوعِ وَعَنِ السُّجُودِ وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ أَنَسٍ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي بَعْدَهُ مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَوْجَزَ صَلَاةً مِنْ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي تَمَامٍ وَقَوْلُهُ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهَا كَانَ فِيهِ طُولٌ يَسِيرٌ عَلَى بَعْضٍ وَذَلِكَ فِي الْقِيَامِ وَلَعَلَّهُ أَيْضًا فِي التَّشَهُّدِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ بِتَطْوِيلِ الْقِيَامِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِالسِّتِّينَ إِلَى المائة وفي الظهر بالم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وَأَنَّهُ كَانَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيُدْرِكُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَأَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى بَلَغَ ذِكْرَ مُوسَى وَهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَبِالْمُرْسَلَاتِ وَفِي الْبُخَارِيِّ بِالْأَعْرَافِ وَأَشْبَاهِ هَذَا وَكُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ فِي إِطَالَةِ الْقِيَامِ أَحْوَالٌ بِحَسَبِ الْأَوْقَاتِ وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ جَرَى فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْقِيَامَ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقَوْلُهُ (فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ شَيْئًا يَسِيرًا فِي مُصَلَّاهُ قَوْلُهُ (غَلَبَ عَلَى الْكُوفَةِ رَجُلٌ فَأَمَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ) وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ مَطَرُ بْنُ نَاجِيَةَ كَمَا سَمَّاهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

(4/188)


(باب متابعة الإمام والعمل بعده)
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ أَرَ أَحَدًا يَحْنِي ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَخِرُّ مَنْ وَرَاءَهُ سُجَّدًا) قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ الْقَائِلُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ وَمُرَادُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ غَيْرُ كَذُوبٍ وليس المراد أن الْبَرَاءُ غَيْرُ كَذُوبٍ لِأَنَّ الْبَرَاءَ صَحَابِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَزْكِيَةٍ وَلَا يَحْسُنُ فِيهِ هَذَا القول وهذا الذي قاله بن مَعِينٍ خَطَأٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْقَائِلَ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَمُرَادُهُ أَنَّ الْبَرَاءَ غَيْرُ كَذُوبٍ وَمَعْنَاهُ تَقْوِيَةُ الْحَدِيثِ وَتَفْخِيمُهُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَمْكِينِهِ مِنَ النَّفْسِ لَا التَّزْكِيَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي مشكوك فيه ونظيره قول بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ وَنَظَائِرُهُ

(4/190)


كَثِيرَةٌ فَمَعْنَى الْكَلَامِ حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ كَمَا عَلِمْتُمْ فَثِقُوا بِمَا أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ قالوا وقول بن مَعِينٍ أَنَّ الْبَرَاءَ صَحَابِيٌّ فَيُنَزَّهُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ صَحَابِيٌّ أَيْضًا مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ هَذَا الْأَدَبُ مِنْ آدَابِ الصلاة وهو أن السنة أن لا يَنْحَنِيَ الْمَأْمُومُ لِلسُّجُودِ حَتَّى يَضَعَ الْإِمَامُ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ مَنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَرَفَعَ الْإِمَامُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ سُجُودِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي مَجْمُوعُهُ أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمَأْمُومِ التَّأَخُّرُ عَنِ الْإِمَامِ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَشْرَعُ فِي الرُّكْنِ بَعْدَ شُرُوعِهِ وَقَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبَانُ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ) هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ الْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْبَرَاءِ ولم يقل أحد عن بن أَبِي لَيْلَى غَيْرُ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ عَنِ الحكم وقد خالفه بن عَرْعَرَةَ فَقَالَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن يزيد عن البراء وغيرابان أَحْفَظُ مِنْهُ هَذَا كَلَامُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ لَا يُقْبَلُ بَلْ أَبَانُ ثِقَةٌ نَقَلَ شَيْئًا فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ كَذِبُهُ وَغَلَطُهُ وَلَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَكُونَ مَرْوِيًّا عَنِ ابْنِ يزيد وبن أبي ليلى والله أعلم قوله (لايحنو أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَرَاهُ قَدْ سَجَدَ) هَكَذَا هُوَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ رِوَايَاتِ الْبَرَاءِ يَحْنُو بِالْوَاوِ وَبَاقِي رِوَايَاتِهِ وَرِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ بَعْدَهَا كُلُّهَا بِالْيَاءِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَهُمَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا

(4/191)


الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ حَنَيْتُ وَحَنَوْتُ لَكِنِ الْيَاءُ أَكْثَرُ وَمَعْنَاهُ عَطَفْتُهُ وَمِثْلُهُ حَنَيْتُ الْعُودَ وَحَنَوْتُهُ عَطَفْتُهُ قَوْلُهُ (عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ سَرِيعٍ) هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَلَا أقسم بالخنس) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ هِيَ النُّجُومُ الْخَمْسَةُ وَهِيَ الْمُشْتَرَى وَعُطَارِدُ وَالزُّهْرَةُ وَالْمِرِّيخُ وَزُحَلُ هَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي رواية عنه أن هَذِهِ الْخَمْسَةُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَعَنِ الْحَسَنِ هِيَ كُلُّ النُّجُومِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَالْخُنَّسُ الَّتِي تَخْنِسُ أَيْ تَرْجِعُ فِي مَجْرَاهَا وَالْكُنَّسُ الَّتِي تكنس أي تدخل في كُنَاسَهَا أَيْ تَغِيبُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَغِيبُ فِيهَا وَالْكُنَّسُ جَمْعُ كَانِسٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

(باب مَا يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من اركوع)
قَوْلُهُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عن عبيد بن الحسن عن بن أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رَفَعَ ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ

(4/192)


وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ) هَذَا الإسناد كله كوفيون وملء هو بنصب الهمز ورفعها والنصب أشهر وهو الذي اختاره بن خَالَوَيْهِ وَرَجَّحَهُ وَأَطْنَبَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَهُ وَجَوَازُ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مَرْجُوحٌ وَحُكِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أنه يَتَعَيَّنَ الرَّفْعُ وَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَبَالَغَ فِي إِنْكَارِ النَّصْبِ وَقَدْ ذَكَرْتُ كُلَّ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ مُخْتَصَرًا فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ حَمْدًا لَوْ كَانَ أَجْسَامًا لَمَلَأَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا اسْتِحْبَابُ هذا الذكر ومنها وجوب الاعتدال ووجوب الطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنَ إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَمُنْفَرِدٍ أَنْ يَقُولَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي حَالِ ارْتِفَاعِهِ وَقَوْلُهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فِي حال اعْتِدَالِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا كما رأيتموني أصلي رواه البخاري قوله (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى سَمِعَ هُنَا أَجَابَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى مُتَعَرِّضًا لِثَوَابِهِ استجاب الله تعالى له وَأَعْطَاهُ مَا تَعَرَّضَ لَهُ فَإِنَّا نَقُولُ رَبَّنَا لك الحمد لتحصيل ذلك قوله (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ) هُوَ بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ جِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ زَايٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ تُكْتَبُ أَلِفًا ثُمَّ هَاءٍ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَطَالِعِ فِيهِ كَسْرَ الْمِيمِ أَيْضًا وَرَجَّحَ الْفَتْحَ وَحُكِيَ أَيْضًا تَرْكُ الْهَمْزِ فِيهِ قَالَ وَقَالَهُ الْحَيَّانِيُّ بِالْهَمْزِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد) اسْتِعَارَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الذُّنُوبِ وَغَيْرِهَا وقوله ماء البارد هو من إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بِجَانِبِ الغربي وَقَوْلُهُمْ مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَفِيهِ الْمَذْهَبَانِ السَّابِقَانِ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ مَاءُ الطَّهُورِ الْبَارِدِ وَجَانِبُ الْمَكَانِ الغربي ومسجد

(4/193)


الْمَوْضِعِ الْجَامِعِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إثما قَالَ الْخَطِيئَةُ الْمَعْصِيَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِثْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآدَمِيِّ قَوْلُهُ (كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ) وَفِي رِوَايَةٍ مِنَ الدَّرَنِ وَفِي رِوَايَةٍ مِنَ الدَّنَسِ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَمَعْنَاهُ اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي طَهَارَةً كَامِلَةً مُعْتَنًى بِهَا كَمَا يُعْتَنَى بِتَنْقِيَةِ الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْوَسَخِ قَوْلُهُ (أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) أَمَّا قَوْلُهُ أَهْلَ فَمَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ رَفْعَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْتَ أهل الثناء والمختار النصب والثناء والوصف الْجَمِيلُ وَالْمَدْحُ وَالْمَجْدُ الْعَظَمَةُ وَنِهَايَةُ الشَّرَفِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قال القاضي عياض ووقع في رواية بن مَاهَانَ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ وَلَهُ وَجْهٌ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَحَقُّ بِالْأَلِفِ وَكُلُّنَا بِالْوَاوِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ كُلُّنَا بِحَذْفِ

(4/194)


الْأَلِفِ وَالْوَاوِ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَعْرُوفَةِ تَقْدِيرُهُ أَحَقُّ قَوْلِ الْعَبْدِ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ إِلَى آخِرِهِ وَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون اعْتَرَضَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا انثى والله أعلم بما وضعت عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَضَعَتْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ التَّاءِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ ... أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بني زياد ... وقول الآخر ... ألاهل أَتَاهَا وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... بِأَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ يَمْلِكَ يُبْقَرَا ... وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا يُعْتَرَضُ مَا يُعْتَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَارْتِبَاطِهِ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَتَقْدِيرُهُ هُنَا أَحَقُّ قَوْلِ الْعَبْدِ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقُولَهُ وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِشَوَاهِدِهَا فِي آخِرِ صِفَةِ الْوُضُوءِ مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى فَضِيلَةِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى أَنَّ هَذَا أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهِ لِأَنَّ كُلَّنَا عبدولا نُهْمِلُهُ وَإِنَّمَا كَانَ أَحَقَّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ

(4/195)


لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِذْعَانِ لَهُ وَالِاعْتِرَافِ بِوَحْدَانِيِّتِهِ وَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنْهُ وَالْحَثَّ عَلَى الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَقَوْلُهُ ذَا الْجَدِّ المشهور فيه بفتح الْجِيمِ هَكَذَا ضَبَطَهُ الْعُلَمَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ قَالَ بن عَبْدِ الْبَرِّ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِالْكَسْرِ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ هُوَ بِالْفَتْحِ قَالَ وَقَالَهُ الشَّيْبَانِيُّ بِالْكَسْرِ قَالَ وَهَذَا خِلَافُ مَا عَرَفَهُ أَهْلُ النَّقْلِ قَالَ وَلَا يعلم من قاله غَيْرَهُ وَضَعَّفَ الطَّبَرِيُّ وَمَنْ بَعْدَهُ الْكَسْرَ 2قَالُوا وَمَعْنَاهُ عَلَى ضَعْفِهِ الِاجْتِهَادُ أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الِاجْتِهَادِ مِنْكَ اجْتِهَادَهُ إِنَّمَا يَنْفَعُهُ وَيُنْجِيهُ رَحْمَتَكَ وَقِيلَ الْمُرَادُ ذَا الْجَدِّ وَالسَّعْي التَّامِّ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْإِسْرَاعُ فِي الْهَرَبِ أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الْإِسْرَاعِ فِي الْهَرَبِ مِنْكَ هَرَبُهُ فَإِنَّهُ فِي قَبْضَتِكَ وَسُلْطَانِكَ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْجَدُّ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْحَظُّ وَالْغِنَى وَالْعَظَمَةُ وَالسُّلْطَانُ أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الْحَظِّ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْعَظَمَةِ وَالسُّلْطَانِ مِنْكَ حَظُّهُ أَيْ لَا يُنْجِيهُ حَظُّهُ مِنْكَ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُ وَيُنْجِيهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خير عند ربك والله تعالى أعلم

(باب النَّهْيُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)
قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ) هَذَا مِنْ وَرَعِ مُسْلِمٍ وَبَاهِرِ عِلْمِهِ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ

(4/196)


اثْنَيْنِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ وَسُفْيَانُ مَعْرُوفٌ بِالتَّدْلِيسِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ فَنَبَّهَ مُسْلِمٌ عَلَى اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي عِبَارَةِ سُفْيَانَ قَوْلُهُ (كَشَفَ السِّتَارَةَ) هِيَ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ السِّتْرُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ وَالدَّارِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ) وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (نَهَانِي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الرُّكُوعِ التَّسْبِيحُ وَوَظِيفَةُ السُّجُودِ التَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ فَلَوْ قَرَأَ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ كُرِهَ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَغَيْرِ الْفَاتِحَةِ فَيُكْرَهُ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَالثَّانِي يَحْرُمُ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ هَذَا إِذَا كَانَ عَمْدًا فَإِنْ قَرَأَ سهوا لم يكره وسواء قرأ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ) أَيْ سَبِّحُوهُ وَنَزِّهُوهُ وَمَجِّدُوهُ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا الْأَذْكَارَ الَّتِي تُقَالُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَيُكَرِّرُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَضُمُّ إِلَيْهِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ إِلَى آخِرِهِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ وَلِلْإِمَامِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ الْمَأْمُومِينَ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ فَإِنْ شَكَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى التَّسْبِيحِ وَلَوِ اقْتَصَرَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ عَلَى تَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ حَصَّلَ أَصْلَ سُنَّةِ التَّسْبِيحِ لَكِنْ تَرَكَ كَمَالَهَا وَأَفْضَلَهَا وَاعْلَمْ أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبٍ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْجُمْهُورُ وَأَوْجَبَهُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَائِفَةٌ مِنَ أَئِمَةِ الحدي لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي الْأَمْرِ بِهِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يأمره به ولو وجب لأمره به فَإِنْ قِيلَ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالنِّيَّةِ وَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ فقد سبق جوابه عند شرحه وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَمِنٌ هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فَمَنْ فَتَحَ فَهُوَ عِنْدَهُ مَصْدَرٌ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَمَنْ كَسَرَ فَهُوَ وَصْفٌ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ قَمِينٌ بِزِيَادَةِ يَاءٍ وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَمَعْنَاهُ حَقِيقٌ

(4/197)


وَجَدِيرٌ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي سُجُودِهِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالتَّسْبِيحِ وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ فِيهِ قَوْلُهُ (وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ) فِيهِ عَصْبُ الرَّأْسِ عِنْدَ وَجَعِهِ قَوْلُهُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ) هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ قَوْلُهُ (نَهَانِي وَلَا أَقُولُ نَهَاكُمْ) لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي سَمِعْتَهُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لِي فَأَنَا أَنْقُلُهُ كَمَا سَمِعْتُهُ وَإِنْ 8كَانَ الْحُكْمُ يتناول الناس

(4/198)


كلهم ذكر مسلم الِاخْتِلَافَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُنَيْنٍ فِي ذِكْرِ بن عَبَّاسٍ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ

(4/199)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ مَنْ أَسْقَطَ بن عَبَّاسٍ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ قُلْتُ وَهَذَا اخْتِلَافٌ لَا يُؤْثِّرُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ فَقَدْ يَكُونُ عَبْدُ الله بن حنين سمعه من بن عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ عَلِيٍّ نَفْسِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَائِلِ هَذَا الشَّرْحِ مَبْسُوطَةً قَوْلُهُ (نَهَانِي حِبِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ أي محبوبي

(باب ما يقال في الركوع والسجود)
قوله صلى الله عليه وسلم (أقرب ما يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ) مَعْنَاهُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ وَفَضْلِهِ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ السُّجُودَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِيَامِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّ تَطْوِيلَ السُّجُودِ وَتَكْثِيرَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَغَوِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ وَمِمَّنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ تَطْوِيلِ السجود بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ تَطْوِيلَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ وَالْمُرَادُ بِالْقُنُوتِ الْقِيَامُ وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْقِيَامِ الْقِرَاءَةُ وَذِكْرَ السُّجُودِ التَّسْبِيحُ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُطَوِّلَ الْقِيَامَ أَكْثَرَ مِنْ تَطْوِيلِ السُّجُودِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَقْضِ فِيهَا بِشَيْءٍ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ أَمَّا فِي النَّهَارِ فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ وَأَمَّا فِي اللَّيْلِ فَتَطْوِيلُ الْقِيَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ جُزْءٌ بِاللَّيْلِ يَأْتِي عَلَيْهِ فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ

(4/200)


أَفْضَلُ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ جُزْأَهُ وَيَرْبَحُ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ إِنَّمَا قَالَ إِسْحَاقُ هَذَا لِأَنَّهُمْ وَصَفُوا صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالليل بطول القيام ولم يُوصَفُ مِنْ تَطْوِيلِهِ بِالنَّهَارِ مَا وُصِفَ بِاللَّيْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ) هُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا أَيْ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَفِيهِ تَوْكِيدُ الدُّعَاءِ وَتَكْثِيرُ أَلْفَاظِهِ وَإِنْ أَغْنَى بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ قَوْلُهَا (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) مَعْنَى يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ يَعْمَلُ مَا أُمِرَ بِهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ توابا وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ الْبَدِيعَ فِي الْجَزَالَةِ الْمُسْتَوْفِي مَا أُمِرَ بِهِ فِي الْآيَةِ وَكَانَ يَأْتِي بِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِأَنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا فَكَانَ يَخْتَارُهَا لِأَدَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ لِيَكُونَ أَكْمَلَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ التَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ وَقَوْلُهُمْ سُبْحَانَ

(4/201)


اللَّهِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ يُقَالُ سَبَّحْتُ اللَّهَ تسبيحا وسبحانا فسبحان الله معناه براءة وتنزيها لَهُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَصِفَةٍ لِلْمُحَدِّثِ قَالُوا وَقَوْلُهُ وَبِحَمْدِكَ أَيْ وَبِحَمْدِكَ سَبَّحْتُكَ وَمَعْنَاهُ بِتَوْفِيقِكَ لِي وَهِدَايَتِكَ وَفَضْلِكَ عَلَيَّ سَبَّحْتُكَ لَا بِحَوْلِي وَقُوَّتِي فَفِيهِ شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَالِاعْتِرَافُ بِهَا وَالتَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ كُلَّ الْأَفْعَالِ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ حُجَّةٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ كَرَاهَتُهُ لِئَلَّا يَكُونَ كَاذِبًا قَالَ بَلْ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ قَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ حَسَنٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَأَمَّا كَرَاهَةُ قَوْلِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فَلَا يُوَافِقُ عَلَيْهَا وَقَدْ ذَكَرْتُ الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا فِي بَابِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ كِتَابِ الْأَذْكَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا اسْتِغْفَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ مَعَ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِذْعَانِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صبيح) هو بضم

(4/202)


الصَّادِ وَهُوَ أَبُو الضُّحَى الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى قَوْلُهَا (فَتَحَسَّسَتْ) هُوَ بِالْحَاءِ وَقَوْلُهَا (افْتَقَدْتُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَدْتُ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى قَوْلُهُ (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَوْلُهَا (فَوَقَعَتْ يَدَيَّ عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ لَمْسُ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَآخَرِينَ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَكْثَرُونَ يَنْقُضُ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمَلْمُوسَ لَا يُنْتَقَضُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَغَيْرِهِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ يُنْتَقَضُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا يُحْمَلُ هَذَا اللَّمْسُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فَوْقَ حَائِلٍ فَلَا يَضُرُّ وَقَوْلُهَا (وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ نَصْبَهُمَا فِي السُّجُودِ وَقَوْلُهَا (وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إني

(4/203)


أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَسَأَلَهُ أَنْ يُجِيرَهُ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَالرِّضَاءُ وَالسَّخَطُ ضِدَّانِ مُتَقَابِلَانِ وَكَذَلِكَ الْمُعَافَاةُ وَالْعُقُوبَةُ فَلَمَّا صَارَ إِلَى ذِكْرِ مَا لَا ضِدَّ لَهُ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْتَعَاذَ بِهِ مِنْهُ لَا غَيْرُ وَمَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَارُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي بُلُوغِ الْوَاجِبِ مِنْ حَقِّ عِبَادَتِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَيْ لَا أُطِيقُهُ وَلَا آتِي عَلَيْهِ وَقِيلَ لَا أُحِيطُ بِهِ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعْنَاهُ لَا أُحْصِي نِعْمَتَكَ وَإِحْسَانَكَ وَالثَّنَاءَ بِهَا عَلَيْكَ وَإِنْ اجْتَهَدْتُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْكَ وَقَوْلُهُ (أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) اعْتِرَافٌ بِالْعَجْزِ عَنْ تَفْصِيلِ الثَّنَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى بُلُوغِ حَقِيقَتِهِ وَرَدٌّ لِلثَّنَاءِ إِلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ وَالْإِحْصَارِ وَالتَّعْيِينِ فَوَكَّلَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا وَكَمَا أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِصِفَاتِهِ لَا نِهَايَةَ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّنَاءَ تَابِعٌ لِلْمُثْنَى عَلَيْهِ وَكُلُّ ثَنَاءٍ أَثْنَى بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَثُرَ وَطَالَ وَبُولِغَ فِيهِ فَقَدْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ وَسُلْطَانُهُ أَعَزُّ وَصِفَاتُهُ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ وَفَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ أَوْسَعُ وَأَسْبَغُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي جَوَازِ إِضَافَةِ الشَّرِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ الْخَيْرُ لِقَوْلِهِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ وَمِنْ عُقُوبَتِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) هُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ قَوْلُهُ (سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ) هُمَا بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ وَبِفَتْحِهِمَا وَالضَّمُّ أَفْصَحُ وَأَكْثَرُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي فَصْلِ ذَرَحَ كَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُولُهُمَا بِالْفَتْحِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي فَصْلِ سَبَحَ سُبُّوحٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ ثَعْلَبٌ كُلُّ اسْمٍ عَلَى فَعُولٍ فَهُوَ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ إِلَّا السُّبُّوحَ وَالْقُدُّوسَ فَإِنَّ الضَّمَّ فِيهِمَا أَكْثَرُ وَكَذَلِكَ الذَّرُّوحُ وَهِيَ دُوَيْبَةٌ حَمْرَاءُ مُنَقَّطَةٌ بِسَوَادٍ تَطِيرُ وَهِيَ من ذوات السموم وقال بن فارس والزبيدي وغيرهما سبوح هوالله عَزَّ وَجَلَّ فَالْمُرَادُ بِالسُّبُّوحِ الْقُدُّوسُ الْمُسَبَّحُ

(4/204)


الْمُقَدَّسُ فَكَأَنَّهُ قَالَ مُسَبَّحٌ مُقَدَّسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ والروح ومعنى سبوح المبرأ من النقائص وَالشَّرِيكِ وَكُلُّ مَا لَا يَلِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَقُدُّوسٌ الْمُطَهَّرُ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِالْخَالِقِ وَقَالَ الْهَرَوِيُّ قِيلَ الْقُدُّوسُ الْمُبَارَكُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقِيلَ فِيهِ سُبُّوحًا قُدُّوسًا عَلَى تَقْدِيرِ أُسَبِّحُ سُبُّوحًا أَوْ أَذْكُرُ أَوْ أُعَظِّمُ أَوْ أَعْبُدُ وَقَوْلُهُ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ قِيلَ الرُّوحُ مَلَكٌ عَظِيمٌ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِيلَ خَلْقٌ لَا تَرَاهُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا لَا نَرَى نَحْنُ الْمَلَائِكَةَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

(باب فَضْلِ السُّجُودِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ)
فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا

(4/205)


دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً وَفِي الْحَدِيثِ الآخر أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذَلِكَ قَالَ هُوَ ذَلِكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ فِيهِ الْحَثُّ عَلَى كَثْرَةِ السُّجُودِ وَالتَّرْغِيبُ وَالْمُرَادُ بِهِ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ تَكْثِيرُ السُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ إِطَالَةِ الْقِيَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْمَسْأَلَةُ وَالْخِلَافُ فِيهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَسَبَبُ الْحَثِّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْجُدْ واقترب وَلِأَنَّ السُّجُودَ غَايَةُ التَّوَاضُعِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ تَمْكِينُ أَعَزِّ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَأَعْلَاهَا وَهُوَ وَجْهُهُ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي يُدَاسُ وَيُمْتَهَنُ وَاللَّهُ أعلم وقوله أو غير ذَلِكَ هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ

(باب أَعْضَاءِ السُّجُودِ وَالنَّهْيِ عَنْ كَفِّ الشَّعْرِ وَالثَّوْبِ)
وَعَقْصِ الرَّأْسِ فِي الصَّلَاةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ

(4/206)


وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَلَا الشَّعْرَ) وَفِي رِوَايَةٍ (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ وَلَا أَكْفِتَ الشَّعْرَ وَلَا الثِّيَابَ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ) وَفِي رِوَايَةٍ عن بن عَبَّاسٍ (أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ وَنُهِيَ أَنْ يَكِفَّ شعره أو

(4/207)


ثيابه) وفي رواية عن بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَامَ فَجَعَلَ يَحِلُّهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ إلى بن عباس فقال مالك وَلِرَأْسِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ) هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ أَعْضَاءَ السُّجُودِ سَبْعَةٌ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلسَّاجِدِ أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهَا كُلِّهَا وَأَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ جَمِيعًا فَأَمَّا الْجَبْهَةُ فَيَجِبُ وَضْعُهَا مَكْشُوفَةً عَلَى الْأَرْضِ وَيَكْفِي بَعْضُهَا وَالْأَنْفُ مُسْتَحَبٌّ فَلَوْ تَرَكَهُ جَازَ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَتَرَكَ الْجَبْهَةَ لَمْ يَجُزْ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَكْثَرِينَ وقال أبو حنيفة رضي الله عنه وبن الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَقَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى وبن حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجِبُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ جَمِيعًا لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ بَلْ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ عُضْوٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ سَبْعَةٍ فَإِنْ جُعِلَا عُضْوَيْنِ صَارَتْ ثَمَانِيَةً وَذَكَرَ الْأَنْفَ اسْتِحْبَابًا وَأَمَّا الْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ فَهَلْ يَجِبُ السُّجُودُ عَلَيْهِمَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكِّدًا وَالثَّانِي يَجِبُ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَو أَخَلَّ بِعُضْوٍ مِنْهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَإِذَا أَوْجَبْنَاهُ لَمْ يَجِبْ كَشْفُ الْقَدَمَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَفِي الْكَفَّيْنِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدُهُمَا يَجِبُ كَشْفُهُمَا كَالْجَبْهَةِ وَأَصَحُّهُمَا لَا يَجِبُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَةُ أَعْظُمٍ أَيْ أَعْضَاءٍ فَسَمَّى كُلَّ عُضْوٍ عَظْمًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ عِظَامٌ كَثِيرَةٌ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا نَكْفِتُ الثِّيَابَ وَلَا الشَّعْرَ) هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ لَا نَضُمُّهَا وَلَا نَجْمَعُهَا وَالْكَفْتُ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ

(4/208)


وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَيْ نَجْمَعُ النَّاسَ فِي حَيَاتِهِمْ وَمَوْتِهِمْ وَهُوَ بمعنى الكف في الرواية الأخرى كلاهما بِمَعْنًى وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ وَثَوْبُهُ مُشَمَّرٌ أَوْ كُمُّهُ أَوْ نَحْوُهُ أَوْ رَأْسُهُ مَعْقُوصٌ أَوْ مَرْدُودٌ شَعْرُهُ تَحْتَ عِمَامَتِهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَكُلُّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ فَلَوْ صَلَّى كَذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِإِجْمَاعِ العلماء وحكى بن الْمُنْذِرِ الْإِعَادَةَ فِيهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ثُمَّ مذهب الجمهور أن النهي مطلقا لِمَنْ صَلَّى كَذَلِكَ سَوَاءٌ تَعَمَّدَهُ لِلصَّلَاةِ أَمْ كَانَ قَبْلَهَا كَذَلِكَ لَا لَهَا بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ يَخْتَصُّ النَّهْيُ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلصَّلَاةِ وَالْمُخْتَارُ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَنْقُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فعل بن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ هُنَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ أَنَّ الشَّعْرَ يَسْجُدُ مَعَهُ وَلِهَذَا مَثَّلَهُ بِالَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ قَوْلُهُ (عَنِ بن عباس أنه رأى بن الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ فَقَامَ فَجَعَلَ يَحِلُّهُ) فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَنَّ ذلك لا يؤخر إذا لم يؤخره بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَأَنَّ الْمَكْرُوهَ يُنْكَرُ كَمَا يُنْكَرُ الْمُحَرَّمُ وَأَنَّ مَنْ رَأَى مُنْكَرًا وَأَمْكَنَهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ غَيَّرَهُ بِهَا لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب الِاعْتِدَالِ فِي السُّجُودِ وَوَضْعِ الْكَفَّيْنِ عَلَى الْأَرْضِ)
وَرَفْعِ المرفقين عن الجنبين ورفع البطن عن الفخذين في السجود مَقْصُودُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلسَّاجِدِ أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَرْفَعَ مِرْفَقَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ وَعَنْ جَنْبَيْهِ رَفْعًا بَلِيغًا بِحَيْثُ يَظْهَرُ بَاطِنُ إِبْطَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْتُورًا وَهَذَا أَدَبٌ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ فَلَوْ تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا مُرْتَكِبًا وَالنَّهْي لِلتَّنْزِيهِ وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا أَنَّهُ أَشْبَهُ بِالتَّوَاضُعِ وَأَبْلَغُ فِي تَمْكِينِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ مِنَ الْأَرْضِ وَأَبْعَدُ مِنْ هَيْئَاتِ الْكَسَالَى فَإِنَّ الْمُتَبَسِّطَ كَشَبَهِ الْكَلْبِ وَيُشْعِرُ حَالُهُ بِالتَّهَاوُنِ بِالصَّلَاةِ وَقِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(4/209)


وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْبَابِ فَفِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَلَا يَتَبَسَّطْ بِزِيَادَةِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ هَذَانِ اللَّفْظَانِ صَحِيحَانِ وَتَقْدِيرُهُ وَلَا يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ فَيَنْبَسِطَ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ وَكَذَا اللَّفْظُ الْآخَرُ وَلَا يَتَبَسَّطْ ذِرَاعَيْهِ فَيَنْبَسِطَ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تعالى والله أنبتكم من الأرض نباتا وَقَوْلُهُ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ شَاهِدَانِ وَمَعْنَى يَتَبَسَّطْ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ أَيْ يَتَّخِذُهُمَا بِسَاطًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنِ إِيَادٍ) هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وبالياء المثناة من تحت قوله (عن عبد الله بن مالك بن بُحَيْنَةَ) الصَّوَابُ فِيهِ أَنْ يُنَوِّنَ مَالِكٍ وَيَكْتُبَ بن بالألف لأن بن بُحَيْنَةَ لَيْسَ صِفَةً لِمَالِكٍ بَلْ صِفَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ اسْمُ أَبِيهِ مَالِكٍ وَاسْمُ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بُحَيْنَةُ فَبُحَيْنَةُ امْرَأَةُ مَالِكٍ وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ قَوْلُهُ (فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ) يَعْنِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَنْبَيْهِ قوله

(4/210)


(يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ وَهُوَ مَعْنَى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى خَوَّى بِيَدَيْهِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفَرَّجَ وَجَنَّحَ وَخَوَّى بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَمَعْنَاهُ كُلُّهُ بَاعَدَ مِرْفَقَيْهِ وَعَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ قَوْلُهُ (يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ حَتَّى نَرَى بَيَاضَ إِبْطَيْهِ) هُوَ بِالنُّونِ فِي نَرَى وَرُوِيَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ الْمَضْمُومَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَيُؤَيِّدُ الْيَاءَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَيْمُونَةَ إِذَا سَجَدَ خَوَّى بِيَدَيْهِ حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ ضَبَطْنَاهُ وَضَبَطُوهُ هُنَا بِضَمِّ الْيَاءِ وَيُؤَيِّدُ النُّونَ رِوَايَةُ اللَّيْثِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى بَيَاضَ إِبْطَيْهِ قَوْلُهُ (لَوْ شَاءَتْ بُهْمَةٌ أَنْ تَمُرَّ) قَالَ أبو عبيد وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْبُهْمَةُ وَاحِدَةُ الْبُهْمِ وَهِيَ أَوْلَادُ الْغَنَمِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَجَمْعُ الْبُهْمِ بِهَامٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْبُهْمَةُ مِنْ أَوْلَادِ الضَّأْنِ خَاصَّةً وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ وَالسِّخَالُ أَوْلَادُ الْمِعْزَى قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا بن عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ) هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِتَصْغِيرِ

(4/211)


الْأَوَّلِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا عَبْدُ اللَّهِ مُكَبَّرًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِي أَكْثَرِهَا بِالتَّكْبِيرِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَالتَّصْغِيرِ فِي الثَّانِيَةِ وَكُلُّهُ صَحِيحٌ فَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ أَخَوَانِ وَهُمَا ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ أَكْبَرُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكِلَاهُمَا رَوَيَا عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَالَّذِي ذَكَرَهُ خَلَفُ الْوَاسِطِيُّ فِي كِتَابِهِ أَطْرَافِ الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَكَذَا ذَكَرَهُ أبو داود وبن ماجة في سننيهما من رواية بن عُيَيْنَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَلَمْ يَذْكُرُوا رِوَايَةَ الْفَزَارِيِّ وَوَقَعَ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَةِ عَنِ النَّسَائِيِّ بَعْضُهُمْ رَوَاهُ بِالتَّكْبِيرِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّصْغِيرِ وَرَوَاهُ البيهقي في السنن الكبير من رواية بن عُيَيْنَةَ بِالتَّصْغِيرِ وَمِنْ رِوَايَةِ الْفَزَارِيِّ بِالتَّكْبِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ) هُوَ بِفَتْحِ الضَّادِ أَيْ بَيَاضُهُمَا قَوْلُهُ (وَإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَّ عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى) يَعْنِي إِذَا قَعَدَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَوْ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْقُعُودُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَالسُّنَّةُ فِيهِ التَّوَرُّكُ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَوْلُهُ (جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ) بِضَمِّ الباء الموحدة والله أعلم

(4/212)


(باب مَا يَجْمَعُ صِفَةَ الصَّلَاةِ وَمَا يُفْتَتَحُ به ويختم به)
وصفة الركوع والاعتدال منه والسجود والاعتدال منه والتشهد بعد كل ركعتين من الرباعية وصفة الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول فِيهِ أَبُو الْجَوْزَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشَخِّصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِي قَائِمًا وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ) وَفِي رِوَايَةٍ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ أَبُو الْجَوْزَاءِ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ وَاسْمُهُ أَوْسُ بن عبد الله بصرى قَوْلُهَا وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ هُوَ بِرَفْعِ الدَّالِ عَلَى الْحِكَايَةِ قَوْلُهَا (وَلَمْ يُصَوِّبْهُ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ لَمْ يَخْفِضْهُ خَفْضًا بَلِيغًا بَلْ يَعْدِلُ فِيهِ بَيْنَ الْإِشْخَاصِ وَالتَّصْوِيبِ قَوْلُهَا (وَكَانَ يَفْرُشُ) هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَالضَّمُّ أَشْهَرُ قَوْلُهَا (عقبة الشيطان

(4/213)


بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَقِبُ الشَّيْطَانِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْقَافِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِيهِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَضَعَّفَهُ وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ بِالْإِقْعَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يُلْصِقَ أَلْيَيْهِ بِالْأَرْضِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا يَفْرِشُ الْكَلْبُ وَغَيْرُهُ مِنَ السِّبَاعِ أَمَّا أحكام الباب فَقَوْلُهَا كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ فِيهِ إِثْبَاتُ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لَفْظُ التَّكْبِيرِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْيِينِ التَّكْبِيرِ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُومُ غَيْرُهُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْظِيمِ مَقَامَهُ وَقَوْلُهَا (وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُولُ إِنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَكْثَرِينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ الْقُرْآنَ بِسُورَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا بِسُورَةٍ أُخْرَى فَالْمُرَادُ بَيَانُ السُّورَةِ الَّتِي يُبْتَدَأُ بِهَا وَقَدْ قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْهَا وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِلرَّاكِعِ أَنْ يُسَوِّيَ ظَهْرَهُ بِحَيْثُ يَسْتَوِي رَأْسُهُ وَمُؤَخَّرُهُ وَفِيهِ وُجُوبُ الإعتدال إذا رفع من الركوع وأنه يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَفِيهِ وُجُوبُ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَوْلُهَا (وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ) فِيهِ حُجَّةٌ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ فُقَهَاءِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَالْأَخِيرَ وَاجِبَانِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْأَكْثَرُونَ هُمَا سُنَّتَانِ لَيْسَا وَاجِبَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَوَّلُ سُنَّةٌ وَالثَّانِي وَاجِبٌ وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ قوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَبِقَوْلِهِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَاحْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَجَبَرَهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ وَلَوْ وَجَبَ لَمْ يَصِحَّ جَبْرُهُ كَالرُّكُوعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ قَالُوا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَوَّلِ فَالْأَخِيرُ بِمَعْنَاهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَلِّمْهُ الْأَعْرَابِيَّ حِينَ عَلَّمَهُ فروض الصلاة والله أعلم قولها وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى مَعْنَاهُ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا فِيهِ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ الْجُلُوسَ فِي الصَّلَاةِ يَكُونُ مُفْتَرِشًا سَوَاءٌ فِيهِ جَمِيعُ الْجِلْسَاتِ وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُسَنُّ مُتَوَرِّكًا بِأَنْ يُخْرِجُ

(4/214)


رِجْلَهُ الْيُسْرَى مِنْ تَحْتِهِ وَيُفْضِي بِوَرِكِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى السُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسَ كُلَّ الْجِلْسَاتِ مُفْتَرِشًا إِلَّا الَّتِي يَعْقُبُهَا السَّلَامُ وَالْجِلْسَاتُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى أَرْبَعٌ الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَجِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ عَقِبَ كُلِّ رَكْعَةٍ يَعْقُبُهَا قِيَامٌ وَالْجِلْسَةُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالْجِلْسَةُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَالْجَمِيعُ يُسَنُّ مُفْتَرِشًا إِلَّا الْأَخِيرَةَ فَلَوْ كَانَ مَسْبُوقًا وَجَلَسَ إِمَامُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ مُتَوَرِّكًا جَلَسَ الْمَسْبُوقُ مُفْتَرِشًا لِأَنَّ جُلُوسَهُ لَا يَعْقُبُهُ سَلَامٌ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمُصَلِّي سُجُودُ سَهْوٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا فِي التَّشَهُّدِ فَإِذَا سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ تَوَرَّكَ ثُمَّ سَلَّمَ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِطْلَاقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَذَا وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِالِافْتِرَاشِ فِي الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ وَالتَّوَرُّكِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَحُمِلَ حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا عَلَى الْجُلُوسِ فِي غَيْرِ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَجُلُوسُ الْمَرْأَةِ كَجُلُوسِ الرَّجُلِ وَصَلَاةُ النَّفْلِ كَصَلَاةِ الْفَرْضِ فِي الْجُلُوسِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْجُمْهُورُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ سُنَّةَ الْمَرْأَةِ التَّرَبُّعُ وَعَنْ بَعْضِهِمُ التَّرَبُّعُ فِي النَّافِلَةِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ ثُمَّ هَذِهِ الْهَيْئَةُ مُسْتَوِيَةٌ فَلَوْ جَلَسَ فِي الْجَمِيعِ مُفْتَرِشًا أَوْ مُتَوَرِّكًا أَوْ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُقْعِيًا أَوْ مَادًّا رِجْلَيْهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قَوْلُهَا (وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ) هُوَ الْإِقْعَاءُ الَّذِي فَسَّرْنَاهُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا الْإِقْعَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا في حديث بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُنَّةٌ فَهُوَ غَيْرُ هَذَا كَمَا سَنُفَسِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهَا (وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ) سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ قَوْلُهَا (وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ هَذَا مَعَ قوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَقَالَ مَالِكٌ والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى وجمهور العلماء مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ السَّلَامُ فَرْضٌ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُوَ سُنَّةٌ لَوْ تَرَكَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي آخِرِهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَلِّمْهُ الْأَعْرَابِيَّ فِي وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ حِينَ عَلَّمَهُ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَبِالْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ

(4/215)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَشْرُوعَ تَسْلِيمَتَانِ ومذهب مالك رحمه الله تعالى في طَائِفَةُ الْمَشْرُوعِ تَسْلِيمَةٌ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ قَالَ بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ فَهِيَ عِنْدَهُ سُنَّةٌ وَشَذَّ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فَأَوْجَبَهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ مَنْ قبله والله أعلم

(باب سترة المصلى والندب إلى الصلاة إلى سترة والنهي عن المرور)
(بين يدي المصلي وحكم المرور ودفع المار وجواز الاعتراض بين يدي المصلي) (والصلاة إلى الراحلة والأمر بالدنو من السترة وبيان قدر السترة وما يتعلق بِذَلِكَ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ وَلَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاءِ ذَلِكَ) الْمُؤْخِرَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْخَاءِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ وَمَعَ إِسْكَانِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْخَاءِ وَيُقَالُ آخِرَةُ الرَّحْلِ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٌ وَكَسْرِ الْخَاءِ فَهَذِهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ وَهِيَ الْعُودُ الَّذِي فِي آخِرِ الرَّحْلِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّدْبُ إِلَى السُّتْرَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي وَبَيَانُ أَنَّ أَقَلَّ السُّتْرَةِ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ وَهِيَ قَدْرُ عَظْمِ الذِّرَاعِ هُوَ نَحْوُ ثلثي ذراع ويحصل بأى شئ أَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ هَكَذَا وَشَرَطَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي غِلَظِ الرُّمْحِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي السُّتْرَةِ كَفُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهُ وَمَنْعُ مَنْ يُجْتَازُ بِقُرْبِهِ وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْخَطَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لَا يَكْفِي قَالَ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ بِهِ حَدِيثٌ وَأَخَذَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ ضَعِيفٌ وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ يَكُونُ مُقَوَّسًا كَهَيْئَةِ الْمِحْرَابِ وَقِيلَ قَائِمًا بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ وَقِيلَ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ إِلَى شِمَالِهِ قَالَ وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ

(4/216)


رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ الْخَطَّ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَحَدِيثُ الْخَطِّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِيهِ ضَعْفٌ وَاضْطِرَابٌ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ فَاسْتَحَبَّهُ فِي سُنَنِ حَرْمَلَةَ وَفِي الْقَدِيمِ وَنَفَاهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ بِاسْتِحْبَابِهِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْخَطِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ أَصْحَابُنَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ السُّتْرَةِ وَلَا يَزِيدَ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثِ أَذْرُعٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَصًا وَنَحْوَهَا جَمَعَ أَحْجَارًا أَوْ تُرَابًا أَوْ مَتَاعَهُ وَإِلَّا فَلْيَبْسُطْ مُصَلًّى وَإِلَّا فَلْيَخُطَّ الْخَطَّ وَإِذَا صَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُرُورِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَكَذَا يَمْنَعُ مِنَ الْمُرُورِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَطِّ وَيَحْرُمُ الْمُرُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ سُتْرَةٌ أَوْ تَبَاعَدَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ مَنَعُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ لِتَقْصِيرِهِ وَلَا يَحْرُمُ حِينَئِذٍ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَكِنْ يُكْرَهُ وَلَوْ وَجَدَ الدَّاخِلُ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ الثَّانِي وَيَقِفَ فِيهَا لِتَقْصِيرِ أَهْلِ الصَّفِّ الثَّانِي بِتَرْكِهَا وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ السُّتْرَةَ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ وَلَا يَضُمَّ لَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا الطَّنَافِسِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ

(4/217)


وَكَسْرِ الْفَاءِ قَوْلُهُ (يَرْكُزُ الْعَنَزَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ بِمَعْنَى يَغْرِزُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ (كَانَ يَعْرِضُ رَاحِلَتَهُ ويصلى اليها) هو بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَرُوِيَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ يَجْعَلُهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَى الْحَيَوَانِ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ بِقُرْبِ الْبَعِيرِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي عِطَانِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخَافُ هُنَاكَ نُفُورُهَا فَيَذْهَبُ الْخُشُوعُ بِخِلَافِ هَذَا قَوْلُهُ (وَهُوَ بِالْأَبْطُحِ) هُوَ الْمَوْضِعُ الْمَعْرُوفُ عَلَى بَابِ مَكَّةَ وَيُقَالُ لَهَا الْبَطْحَاءُ أَيْضًا قَوْلُهُ (فَمِنْ نَائِلٍ وَنَاضِحٍ) مَعْنَاهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَالُ مِنْهُ

(4/218)


شَيْئًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْضَحُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ شَيْئًا مِمَّا نَالَهُ وَيَرُشُّ عَلَيْهِ بَلَلًا مِمَّا حَصَلَ لَهُ وَهُوَ مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَمَنْ لَمْ يُصِبْ أَخَذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ قَوْلُهُ (فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوُضُوءٍ فَمِنْ نَائِلٍ وَنَاضِحٍ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ) فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ فَتَوَضَّأَ فَمِنْ نَائِلٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَنَاضِحٍ تَبَرُّكًا بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَرَأَيْتُ النَّاسَ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَاسْتِعْمَالِ فَضْلِ طَهُورِهِمْ وَطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ قَوْلُهُ (عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْحُلَّةُ ثَوْبَانِ لَا يَكُونُ وَاحِدًا وَهُمَا إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَنَحْوُهُمَا وَفِيهِ جَوَازُ لِبَاسِ الْأَحْمَرِ قَوْلُهُ (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ) فِيهِ أَنَّ السَّاقَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (فَأَذَّنَ بِلَالٌ) فِيهِ الْأَذَانُ فِي السَّفَرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا أَكْرَهُ مِنْ تَرْكِهِ فِي السَّفَرِ مَا أَكْرَهُ مِنْ تَرْكِهِ فِي الْحَضَرِ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُسَافِرِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ قَوْلُهُ (فَأَذَّنَ بلال فجعلت أتتبع فاه ها هنا وههنا يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُؤَذِّنِ الِالْتِفَاتُ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ يَمِينًا وَشِمَالًا بِرَأْسِهِ وَعُنُقِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَا يُحَوِّلُ قَدَمَيْهِ وَصَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ وَإِنَّمَا يَلْوِي رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْتِفَاتِهِ عَلَى مَذَاهِبِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَقُولُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ عَنْ يَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وَالثَّانِي يَقُولُ عَنْ يَمِينِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّةً ثُمَّ مَرَّةً عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّةً عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ مَرَّةً عَنْ يَسَارِهِ وَالثَّالِثُ يَقُولُ عَنْ يَمِينِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْقِبْلَةِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الِالْتِفَاتِ عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْ يَسَارِهِ فَيَقُولُ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيَلْتَفِتُ عَنْ يَسَارِهِ فَيَقُولُ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَوْلُهُ (ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ) هِيَ عَصَا فِي أَسْفَلِهَا حَدِيدَةٌ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِعَانَةِ الْإِمَامِ بِمَنْ يُرَكِّزُ لَهُ عَنَزَةً وَنَحْوِ ذلك قوله (فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ) فِيهِ أَنَّ الْأَفْضَلَ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ وَإِنْ كَانَ بِقُرْبِ بَلَدٍ مَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا

(4/219)


قَوْلُهُ (يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ لَا يُمْنَعُ) مَعْنَاهُ يَمُرُّ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ وَرَاءَ السُّتْرَةِ وَقُدَّامَهَا إِلَى الْقِبْلَةِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيِ الْعَنَزَةِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَيَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَفِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ قَوْلُهُ (وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا) يَعْنِي رَافِعَهَا إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ كأني

(4/220)


أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ وَفِيهِ رَفْعُ الثَّوْبِ عَنِ الْكَعْبَيْنِ قَوْلُهُ (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ فَتَوَضَّأَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَفْضَلَ لِمَنْ أَرَادَ الْجَمْعَ وَهُوَ نَازِلٌ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَنْ يُقَدِّمَ الثَّانِيَةَ إِلَى الْأُولَى وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْأُولَى سَائِرًا فَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ وَلِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ قَوْلُهُ (أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَلَى حِمَارٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْأَتَانُ هِيَ الْأُنْثَى مِنْ جِنْسِ الْحَمِيرِ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى حِمَارٍ مَحْمُولَةٌ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مُبَيِّنَةٌ لِلْجَمِيعِ قَوْلُهُ (وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ) مَعْنَاهُ قَارَبْتُهُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سن بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ عَشْرُ سِنِينَ وَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَهُوَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الصَّوَابُ قَوْلُهُ (فَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ) أَيْ تَرْعَى

(4/221)


قَوْلُهُ (يُصَلِّي بِمِنًى) فِيهَا لُغَتَانِ الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ وَلِهَذَا يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ وَالْأَجْوَدُ صَرْفُهَا وَكِتَابَتُهَا بِالْأَلِفِ سُمِّيَتْ مِنًى لِمَا يُمْنَى بِهَا مِنَ الدِّمَاءِ أَيْ يُرَاقُ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الصَّبِيِّ صَحِيحَةٌ وَأَنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتَلَفُوا هَلْ سُتْرَةُ الْأَمَامِ بِنَفْسِهَا سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ أَمْ هِيَ سُتْرَةٌ لَهُ خَاصَّةً وَهُوَ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُمْ مُصَلُّونَ إِلَى سُتْرَةٍ قَالَ وَلَا خِلَافَ أَنَّ السُّتْرَةَ مَشْرُوعَةٌ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَأْمَنُ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مُطْلَقًا لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّهَا تَصُونُ بَصَرَهُ وَتَمْنَعُ الشَّيْطَانَ الْمُرُورَ وَالتَّعَرُّضَ لِإِفْسَادِ صَلَاتِهِ كَمَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ قَوْلُهُ وَهُوَ يُصَلِّيُ بِمِنًى وَفِي رواية بعرفة وهو مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ قَوْلُهُ (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) وَفِي رِوَايَةٍ حَجَّةُ الْوَدَاعِ أَوْ يَوْمُ الْفَتْحِ الصَّوَابُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهَذَا الشَّكُّ محمول عليه قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا كَانَ

(4/222)


أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلْيَدْرَأْ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) مَعْنَى يَدْرَأْ يَدْفَعْ وَهَذَا الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ أَمْرُ نَدْبٍ وَهُوَ نَدْبٌ مُتَأَكِّدٌ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوْجَبَهُ بَلْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مُقَاتَلَتُهُ بِالسِّلَاحِ وَلَا مَا يُؤَدِّي إِلَى هلاكه فإن دفعه بما يجوز فَهَلَكَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَهَلْ يَجِبُ دِيَتُهُ أَمْ يَكُونُ هَدَرًا فِيهِ مَذْهَبَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا كُلُّهُ لِمَنْ لَمْ يُفَرِّطْ فِي صَلَاتِهِ بَلِ احْتَاطَ وَصَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ أَوْ فِي مَكَانٍ يَأْمَنُ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ قَالَ وَكَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ مِنْ مَوْضِعِهِ لِيَرُدَّهُ وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ وَيَرُدُّهُ مِنْ مَوْقِفِهِ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْمَشْيِ فِي صَلَاتِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُرُورِهِ مِنْ بَعِيدٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ قَدْرَ مَا تَنَالُهُ يَدُهُ مِنْ مَوْقِفِهِ وَلِهَذَا أُمِرَ بِالْقُرْبِ مِنْ سُتْرَتِهِ وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ إِذَا كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّسْبِيحِ قَالَ وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَرَّ لَا يَرُدُّهُ لِئَلَّا يَصِيرَ مُرُورًا ثَانِيًا إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَرُدُّهُ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ كَلَامٌ نَفِيسٌ وَالَّذِي قَالَهُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَرُدُّهُ إِذَا أَرَادَ الْمُرُورَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ بِأَسْهَلِ الْوُجُوهِ فَإِنْ أَبَى فَبِأَشَدِّهَا وَإِنْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَالصَّائِلِ عَلَيْهِ لِأَخْذِ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ وَقَدْ أَبَاحَ لَهُ الشَّرْعُ مُقَاتَلَتَهُ وَالْمُقَاتَلَةُ الْمُبَاحَةُ لَا ضَمَانَ فِيهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ مَعْنَاهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ

(4/223)


عَلَى مُرُورِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ الرُّجُوعِ الشَّيْطَانُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَفْعَلُ فِعْلَ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ بَعِيدٌ مِنَ الْخَيْرِ وَقَبُولِ السُّنَّةِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ الْقَرِينُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَمَثَلُ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِفَتْحِ الثَّاءِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَغَيْرُهُ الْفَتْحُ أَشْهَرُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوْهَرِيُّ وَآخَرُونَ غَيْرَهُ وَمَعْنَاهُ انْتَصَبَ وَالْمُضَارِعُ يُمَثِّلُ بضم الثاء لا غير منه الْحَدِيثُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ النَّاسُ لَهُ قِيَامًا قَوْلُهُ (أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ) هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ

(4/224)


الْهَاءِ مُصَغَّرٌ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ النَّجَّارِيِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّيَمُّمِ وَهُوَ غَيْرُ أَبِي جَهْمٍ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْخَمِيصَةِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّ صَاحِبَ الْخَمِيصَةِ أَبُو جَهْمٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَبِغَيْرِ يَاءٍ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) مَعْنَاهُ لَوْ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ لَاخْتَارَ الْوُقُوفَ أَرْبَعِينَ عَلَى ارْتِكَابِ ذَلِكَ الْإِثْمِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ النَّهْيُ الْأَكِيدُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِي ذلك قَوْلُهُ (كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ) يَعْنِي بِالْمُصَلَّى مَوْضِعُ السُّجُودِ وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ قُرْبُ الْمُصَلَّى مِنْ سُتْرَتِهِ قَوْلُهُ (كَانَ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ مَكَانِ الْمُصْحَفِ يُسَبِّحُ) الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ صَلَاةُ النَّافِلَةِ وَالسُّجُودُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي

(4/225)


الْمُصْحَفِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ ضَمُّ الْمِيمِ وَفَتْحُهَا وَكَسْرُهَا وَفِي هَذَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِدَامَةِ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ فِيهِ فَضْلٌ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إِيطَانِ الرَّجُلِ مَوْضِعًا مِنَ الْمَسْجِدِ يُلَازِمُهُ فَهُوَ فِيمَا لَا فَضْلَ فِيهِ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَأَمَّا مَا فِيهِ فَضْلٌ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا مَنْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَدْرِيسِ عِلْمٍ أَوْ لِلْإِفْتَاءِ أَوْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ مِنْ تَسْهِيلِ طُرُقِ الْخَيْرِ وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خِلَافَ السَّلَفِ فِي كَرَاهَةِ الْإِيطَانِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَالِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ لِحَاجَةٍ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ (كَانَ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقِبْلَةِ قَدْرُ مَمَرِّ الشَّاةِ) الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ الْجِدَارُ وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْمِنْبَرَ عَنِ الْجِدَارِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ نَظَرُ أَهْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ قَوْلُهُ (كَانَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ) فِيهِ مَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِدَامَةِ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ فِيهِ فَضْلٌ وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الْأَسَاطِينِ فَأَمَّا الصَّلَاةُ إِلَيْهَا فَمُسْتَحَبَّةٌ لَكِنِ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَصْمُدَ إِلَيْهَا بَلْ يَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ كَمَا سَبَقَ وَأَمَّا الصَّلَاةُ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا عِنْدَنَا وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي كَرَاهَتِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ وَسَبَبُ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّفَّ وَلِأَنَّهُ يُصَلِّي إِلَى غير جدار قريب قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ

(4/226)


اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْطَعُ هَؤُلَاءِ الصَّلَاةَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَفِي قَلْبِي مِنَ الْحِمَارِ وَالْمَرْأَةِ شَيْءٌ وَوَجْهُ قَوْلِهِ إِنَّ الكلب لم يجيء فِي التَّرْخِيصِ فِيهِ شَيْءٌ يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَفِيهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذَا وَفِي الْحِمَارِ حَدِيثُ بن عَبَّاسٍ السَّابِقُ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِمُرُورِ شَيْءٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَطْعِ نَقْصُ الصَّلَاةِ لِشُغْلِ الْقَلْبِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِبْطَالُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي نَسْخَهُ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرْءِ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَتَأْوِيلِهَا وَعِلْمِنَا التَّارِيخَ وَلَيْسَ هُنَا تَارِيخٌ وَلَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ وَالتَّأْوِيلُ بَلْ يُتَأَوَّلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ أَنَّ حَدِيثَ لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرْءِ شَيْءٌ ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (سَمِعْتُ سَلْمَ بْنَ أَبِي الذَّيَّالِ) سَلْمٌ بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَالذَّيَّالُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ قَوْلُهُ (يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ

(4/227)


هُوَ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى مَعْنٍ قَوْلُهُ (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ) اسْتَدَلَّتْ بِهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهَا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْطَعُ صَلَاةَ الرَّجُلِ وَفِيهِ جَوَازُ صَلَاتِهِ إِلَيْهَا وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمِ الصَّلَاةَ إِلَيْهَا لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِهَا وَتَذَكُّرِهَا وَإِشْغَالِ الْقَلْبِ بِهَا بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَصَلَاتُهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي اللَّيْلِ وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ قَوْلُهَا (فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَثِقَ بِاسْتِيقَاظِهِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِإِيقَاظِ غَيْرِهِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَهَجُّدٌ فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَمَّا مَنْ لَا يَثِقُ بِاسْتِيقَاظِهِ وَلَا لَهُ مَنْ يُوقِظُهُ فَيُوتِرُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِيقَاظِ النَّائِمِ لِلصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَقَدْ جاءت فيه أحاديث أيضا غير هذا قولها (إن المرأة

(4/228)


لَدَابَّةُ سُوءٍ) تُرِيدُ بِهِ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْمَرْأَةَ تَقْطَعُ الصَّلَاةَ قَوْلُهَا (فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْنَحَهُ) هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ النُّونِ أَيْ أَظْهَرُ لَهُ وَأَعْتَرِضُ يُقَالُ سَنَحَ لِي كَذَا أَيْ عَرَضَ وَمِنْهُ السَّانِحُ مِنَ الطَّيْرِ قَوْلُهَا (فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِي) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ لَمْسُ النِّسَاءِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أنه ينقض

(4/229)


وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ غَمَزَهَا فَوْقَ حَائِلٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ النَّائِمِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ قَوْلُهَا (وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ) أَرَادَتْ بِهِ الِاعْتِذَارَ تَقُولُ لَوْ كَانَ فِيهَا مَصَابِيحُ لَقَبَضْتُ رِجْلِي عِنْدَ إِرَادَتِهِ السُّجُودَ وَلَمَا أَحْوَجْتُهُ إِلَى غَمْزِي قَوْلُهَا (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَنَا حَائِضٌ وَعَلَيَّ مِرْطٌ وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ إِلَى جَنْبِهِ) الْمِرْطُ كِسَاءٌ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ بِجَنْبِ الْمُصَلِّي لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَأَبْطَلَهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ أَنَّ ثِيَابَ الْحَائِضِ طَاهِرَةٌ إِلَّا مَوْضِعًا تَرَى عَلَيْهِ دَمًا أَوْ نَجَاسَةً أُخْرَى وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الْحَائِضِ وَجَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ بَعْضُهُ عَلَى الْمُصَلِّي وَبَعْضُهُ عَلَى حَائِضٍ أَوْ غَيْرِهَا وَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الْمُصَلِّي وَجْهَ غَيْرِهِ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَرَاهَتُهُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى

(باب الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَصِفَةِ لِبْسِهِ)
قَوْلُهُ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ) فِيهِ

(4/230)


جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا إِلَّا مَا حُكِيَ عن بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ وَلَا أَعْلَمُ صِحَّتَهُ وَأَجْمَعُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي ثَوْبَيْنِ أَفْضَلُ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الثَّوْبَيْنِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا كُلُّ أَحَدٍ فَلَوْ وَجَبَا لَعَجَزَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا عَنِ الصَّلَاةِ وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدين من حرج وَأَمَّا صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَفِي وَقْتٍ كَانَ لِعَدَمِ ثَوْبٍ آخَرَ وَفِي وَقْتٍ كَانَ مَعَ وُجُودِهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَرَانِي الْجُهَّالُ وَإِلَّا فَالثَّوْبَانِ أَفْضَلُ كَمَا سَبَقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ) قَالَ الْعُلَمَاءُ حِكْمَتُهُ أَنَّهُ إِذَا ائْتَزَرَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُؤْمِنْ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا جَعَلَ بَعْضَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى إِمْسَاكِهِ بِيَدِهِ أَوْ يَدَيْهِ فَيَشْغَلُ بِذَلِكَ وَتَفُوتُهُ سُنَّةُ وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى

(4/231)


تَحْتَ صَدْرِهِ وَرَفْعِهِمَا حَيْثُ شُرِعَ الرَّفْعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سَتْرِ أَعْلَى الْبَدَنِ وَمَوْضِعِ الزِّينَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (خُذُوا زِينَتَكُمْ) ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْجُمْهُورُ هَذَا النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ فَلَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ سَاتِرٍ لِعَوْرَتِهِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى شَيْءٍ يَجْعَلُهُ عَلَى عَاتِقِهِ أَمْ لَا وَقَالَ أحمد وبعض السلف رحمهم الله تعالى لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ إِذَا قَدَرَ عَلَى وَضْعِ شَيْءٍ عَلَى عَاتِقِهِ إِلَّا بِوَضْعِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِوَايَةٌ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَلَكِنْ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَأْتَزِرْ بِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْكِتَابِ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ قَوْلُهُ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يصلي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلًا بِهِ وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (مُخَالِفًا بَيْنَ طرفيه

(4/232)


وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ (مُتَوَشِّحًا بِهِ) الْمُشْتَمِلُ وَالْمُتَوَشِّحُ وَالْمُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ هُنَا قَالَ بن السِّكِّيتِ التَّوَشُّحُ أَنْ يَأْخُذَ طَرَفَ الثَّوْبِ الَّذِي ألقاه على مَنْكِبَهُ الْأَيْمَنِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَيَأْخُذُ طَرَفَهُ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى الْأَيْسَرِ مِنْ تَحْتِ يده اليمنى ثم يعقدهما عَلَى صَدْرِهِ وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَوْلُهُ (فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ مِنْ ثَوْبٍ وَحَصِيرٍ وَصُوفٍ وَشَعْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ نَبَتَ مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَا وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ

(4/233)


الْجُمْهُورِ وَقَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا مَا نَبَتَ مِنَ الْأَرْضِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ وَأَمَّا الْبُسُطُ وَاللُّبُودُ وَغَيْرُهَا مِمَّا لَيْسَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنِ الْأَرْضُ أَفْضَلُ مِنْهُ إِلَّا لِحَاجَةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ سِرُّهَا التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ

(4/234)