شرح النووي على
مسلم (كتاب البيوع قَالَ الْأَزْهَرِيُّ تَقُولُ
الْعَرَبُ بِعْتُ بِمَعْنَى بِعْتُ مَا كُنْتُ مَلَكْتُهُ
وَبِعْتُ بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُهُ قَالَ وَكَذَلِكَ
شَرَيْتُ بِالْمَعْنَيَيْنِ قَالَ وَكُلُّ وَاحِدٍ بَيْعٌ
وَبَائِعٌ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ كُلٌّ
مِنْهُمَا مَبِيعٌ وكذا قال بن قُتَيْبَةَ بِقَوْلِ بِعْتُ
الشَّيْءَ بِمَعْنَى بِعْتُهُ وَبِمَعْنَى اشْتَرَيْتُهُ
وَشَرَيْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُهُ وَبِمَعْنَى
بِعْتُهُ)
(10/153)
وَكَذَا قَالَهُ آخَرُونَ مِنْ أَهْلَ
اللُّغَةِ وَيُقَالُ بِعْتُهُ وَابْتَعْتُهُ فَهُوَ
مَبِيعٌ وَمَبْيُوعٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ كَمَا يَقُولُ
مَخِيطٌ وَمَخْيُوطٌ قَالَ الْخَلِيلُ الْمَحْذُوفُ مِنْ
مَبِيعٍ وَاوُ مَفْعُولٍ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ فَهِيَ
أَوْلَى بِالْحَذْفِ وَقَالَ الْأَخْفَشُ الْمَحْذُوفُ
عَيْنُ الْكَلِمَةِ قَالَ الْمَازِرِيُّ كِلَاهُمَا حَسَنٌ
وَقَوْلُ الْأَخْفَشِ أَقْيَسُ وَالِابْتِيَاعُ
الِاشْتِرَاءُ وَتَبَايَعَا وَبَايَعْتُهُ وَيُقَالُ
اسْتَبَعْتُهُ أَيْ سَأَلْتُهُ الْبَيْعَ وَأَبَعْتُ
الشَّيْءَ أَيْ عَرَضْتُهُ لِلْبَيْعِ وَبِيعَ الشَّيْءُ
بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا وَبُوعَ لُغَةٌ فيه وكذلك
القول في قيل وكيل
(باب ابطال بيع الملامسة والمنابذة
[1511] قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ (مَالِكٌ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنِ
الْأَعْرَجِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ
بِبِلَادِنَا وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي
نُسَخِهِمْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْغَافِرِ الْفَارِسِيِّ
مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
حِبَّانَ بِزِيَادَةِ نَافِعٍ قَالَ وهو غلط وليس لنافع
ذكر في هذا الْحَدِيثِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ فِي
الْمُوَطَّأِ نَافِعًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمَّا
نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ فِي
الْكُتُبِ بِأَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِهِ
وَلِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِي تَأْوِيلِ
الْمُلَامَسَةِ أَحَدُهَا تَأْوِيلُ الشافعى)
(10/154)
وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِثَوْبٍ مَطْوِيٍّ
أَوْ فِي ظُلْمَةٍ فَيَلْمِسَهُ الْمُسْتَامُ فَيَقُولُ
صَاحِبُهُ بِعْتُكَهُ هُوَ بِكَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَقُومَ
لَمْسُكَ مَقَامَ نَظَرِكَ وَلَا خِيَارَ لَكَ إِذَا
رَأَيْتَهُ وَالثَّانِي أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ اللَّمْسِ
بَيْعًا فَيَقُولُ إِذَا لَمَسْتَهُ فَهُوَ مَبِيعٌ لَكَ
وَالثَّالِثُ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَتَى
يَمَسُّهُ انْقَطَعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وغيره وهذا
الحديث باطل على التأويلات كلها وفي المنابذة ثلاثة
أَوْجُهٌ أَيْضًا أَحَدُهَا أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ
النَّبْذِ بَيْعًا وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ
وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ فَإِذَا نَبَذْتُهُ
إِلَيْكَ انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ
وَالثَّالِثُ الْمُرَادُ نَبْذُ الْحَصَاةِ كَمَا
سَنَذْكُرُهُ انشاء اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيْعِ
الْحَصَاةِ وَهَذَا الْبَيْعُ باطل للغرر
[1512] قوله (ويكون لك بَيْعَهُمَا عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ
وَلَا تَرَاضٍ) مَعْنَاهُ بلا تأمل ورضى بَعْدَ
التَّأَمُّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(10/155)
(بَاب بُطْلَانِ بَيْعِ الْحَصَاةِ
وَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ غَرَرٌ)
نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
بَيْعِ الْحَصَاةِ وَبَيْعِ الْغَرَرِ أَمَّا بَيْعُ
الْحَصَاةِ فَفِيهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا أَنْ
يَقُولَ بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَابِ مَا وَقَعَتْ
عَلَيْهِ الْحَصَاةُ الَّتِي أَرْمِيهَا أَوْ بِعْتُكَ
مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ هُنَا إِلَى مَا انْتَهَتْ
إِلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ
بِعْتُكَ عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ أَرْمِيَ
بِهَذِهِ الْحَصَاةِ وَالثَّالِثُ أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ
الرَّمْيِ بِالْحَصَاةِ بَيْعًا فَيَقُولَ إِذَا رَمَيْتُ
هَذَا الثَّوْبَ بِالْحَصَاةِ فَهُوَ مَبِيعٌ مِنْكَ
بِكَذَا وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَهُوَ
أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلِهَذَا
قَدَّمَهُ مُسْلِمٌ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ
غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ كَبَيْعِ الْآبِقِ وَالْمَعْدُومِ
وَالْمَجْهُولِ وَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ
وَمَا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُ الْبَائِعِ عَلَيْهِ وَبَيْعِ
السَّمَكِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَاللَّبَنِ فِي
الضَّرْعِ وَبَيْعِ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَبَيْعِ
بَعْضِ الصُّبْرَةِ مُبْهَمًا وَبَيْعِ ثَوْبٍ مِنْ
أَثْوَابٍ وَشَاةٍ مِنْ شِيَاهٍ وَنَظَائِرَ ذَلِكَ
وَكُلُّ هَذَا بَيْعُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ غَرَرٌ مِنْ
غَيْرِ حَاجَةٍ وَقَدْ يَحْتَمِلُ بَعْضُ الْغَرَرِ
بَيْعًا إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ كَالْجَهْلِ
بِأَسَاسِ الدَّارِ وَكَمَا إِذَا بَاعَ الشَّاةَ
الْحَامِلَ وَالَّتِي في ضرعها لبن فإنه يصح للبيع لِأَنَّ
الْأَسَاسَ تَابِعٌ لِلظَّاهِرِ مِنَ الدَّارِ وَلِأَنَّ
الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ
رُؤْيَتُهُ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي حَمْلِ الشَّاةِ
وَلَبَنِهَا وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
جَوَازِ أَشْيَاءَ فِيهَا غَرَرٌ حَقِيرٌ مِنْهَا
أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْجُبَّةِ
الْمَحْشُوَّةِ وَإِنْ لَمْ يُرَ حَشْوُهَا وَلَوْ بِيعَ
حَشْوُهَا بِانْفِرَادِهِ لَمْ يَجُزْ وَأَجْمَعُوا عَلَى
جَوَازِ إِجَارَةِ الدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ شَهْرًا مَعَ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ
يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً
وَعِشْرِينَ وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ دُخُولِ
الْحَمَّامِ بِالْأُجْرَةِ مَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي
اسْتِعْمَالِهِمُ الْمَاءَ وَفِي قَدْرِ مُكْثِهِمْ
وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ مِنَ السِّقَاءِ
بِالْعِوَضِ مَعَ جَهَالَةِ قَدْرِ الْمَشْرُوبِ
وَاخْتِلَافِ عَادَةِ الشَّارِبِينَ وَعَكْسِ هَذَا
وَأَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي
الْبُطُونِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ قَالَ الْعُلَمَاءُ
مَدَارُ الْبُطْلَانِ بِسَبَبِ الْغَرَرِ وَالصِّحَّةُ
مَعَ وُجُودِهِ عَلَى ما ذكرناه وهو أنه إِنْ دَعَتْ
حَاجَةٌ إِلَى ارْتِكَابِ الْغَرَرِ وَلَا يُمْكِنُ
الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَكَانَ
الْغَرَرُ حَقِيرًا جَازَ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا وَمَا
وَقَعَ في بعض
(10/156)
مَسَائِلِ الْبَابِ مِنَ اخْتِلَافِ
الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ فِيهَا وَفَسَادِهِ
كَبَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ
الْقَاعِدَةِ فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ الْغَرَرَ حَقِيرٌ
فَيَجْعَلُهُ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ
وَبَعْضُهُمْ يَرَاهُ لَيْسَ بِحَقِيرٍ فَيَبْطُلُ
الْبَيْعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ
الْمُلَامَسَةِ وَبَيْعَ الْمُنَابَذَةِ وَبَيْعَ حَبَلِ
الْحَبَلَةِ وَبَيْعَ الْحَصَاةِ وَعَسْبِ الْفَحْلِ
وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْبُيُوعِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا
نُصُوصٌ خَاصَّةٌ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ
بَيْعِ الْغَرَرِ وَلَكِنْ أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ
وَنُهِيَ عَنْهَا لِكَوْنِهَا مِنْ بِيَاعَاتِ
الْجَاهِلِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ بَيْعِ حبل الحبلة)
[1514] فيه حديث بن عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ
الْحَبَلَةِ) هِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ فِي
الْحَبَلِ وَفِي الْحَبَلَةِ قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ
بَعْضُهُمْ بإِسْكَانِ الْبَاءِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ
قَوْلُهُ حَبْلُ وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْحَبَلَةُ هُنَا جَمْعُ حَابِلٍ
كَظَالِمٍ وَظَلَمَةٍ وَفَاجِرٍ وَفَجَرَةٍ وَكَاتِبٍ
وَكَتَبَةٍ قَالَ الْأَخْفَشُ يُقَالُ حَبِلَتِ
الْمَرْأَةُ فَهِيَ حَابِلٌ وَالْجَمْعُ نسوة حبلة وقال بن
الْأَنْبَارِيِّ الْهَاءُ فِي الْحَبَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ
وَوَافَقَهُ بَعْضُهُمْ وَاتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى
أَنَّ الْحَبَلَ مُخْتَصٌّ بِالْآدَمِيَّاتِ وَيُقَالُ فِي
غَيْرِهِنَّ الْحَمَلُ يُقَالُ حَمَلَتِ الْمَرْأَةُ
وَلَدًا وَحَبِلَتْ بِوَلَدٍ وَحَمَلَتِ الشَّاةُ سَخْلَةً
وَلَا يُقَالُ حَبِلَتْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ لَا يُقَالُ
لِشَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ حَبَلَ إِلَّا مَا جَاءَ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي المراد
بالنهى
(10/157)
عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ فَقَالَ
جَمَاعَةٌ هُوَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَنْ
تَلِدَ النَّاقَةُ وَيَلِدَ وَلَدُهَا وَقَدْ ذَكَرَ
مُسْلِمٌ فِي هَذَا الحديث هذا التفسير عن بن عُمَرَ
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمْ
وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ بَيْعُ وَلَدِ النَّاقَةِ
الْحَامِلِ في الحال وهذا تفسير أبي عبيدة مَعْمَرِ بْنِ
الْمُثَنَّى وَصَاحِبِهِ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ
سَلَامٍ وَآخَرِينَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ لَكِنَّ الرَّاوِي هُوَ
بن عُمَرَ وَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ
وَهُوَ أَعْرَفُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَقِّقِي
الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ تَفْسِيرَ الرَّاوِي مُقَدَّمٌ
إِذَا لَمْ يُخَالِفِ الظَّاهِرَ وَهَذَا الْبَيْعُ
بَاطِلٌ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ
فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ
وَالْأَجَلُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ وَأَمَّا
الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ وَمَجْهُولٌ
وَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ وَغَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى
تسليمه والله أعلم
(بَابِ تَحْرِيمِ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ
وسومه على سومه)
(وتحريم النجش وتحريم التصرية)
[1412] قوله صلى الله عليه وسلم (لا يبع بَعْضُكُمْ عَلَى
بَيْعِ بَعْضٍ) وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَبِيعُ الرَّجُلُ
عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ
أَخِيهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ وفي رواية لا يسم
المسلم على سوم المسلم أَمَّا الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ
أَخِيهِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا
فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ افْسَخْ هَذَا الْبَيْعَ وَأَنَا
أَبِيعُكَ مِثْلَهُ بِأَرْخَصَ مِنْ ثَمَنِهِ أَوْ
أَجْوَدَ مِنْهُ بِثَمَنِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا
حَرَامٌ يَحْرُمُ أَيْضًا الشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ
أَخِيهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلْبَائِعِ فِي مُدَّةِ
الْخِيَارِ افْسَخْ هَذَا الْبَيْعَ وَأَنَا أَشْتَرِيهِ
مِنْكَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ وَنَحْوَ هَذَا
وأما السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
قَدِ اتَّفَقَ مَالِكُ السِّلْعَةِ وَالرَّاغِبُ فِيهَا
عَلَى الْبَيْعِ وَلَمْ يَعْقِدَاهُ فَيَقُولَ الْآخَرُ
لِلْبَائِعِ أَنَا أَشْتَرِيهِ وَهَذَا حَرَامٌ بَعْدَ
اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ وَأَمَّا السَّوْمُ فِي
السِّلْعَةِ الَّتِي تُبَاعُ فِيمَنْ يَزِيدُ فَلَيْسَ
بِحَرَامٍ وأَمَّا الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ
(10/158)
أَخِيهِ وَسُؤَالُ الْمَرْأَةِ طَلَاقَ
أُخْتِهَا فَسَبَقَ بَيَانُهُمَا وَاضِحًا فِي كِتَابِ
النِّكَاحِ وَسَبَقَ هُنَالِكَ أَنَّ الرِّوَايَةَ لَا
يَبِيعُ وَلَا يَخْطِبُ بِالرَّفْعِ عَلَى سَبِيلِ
الْخَبَرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ وَذَكَرْنَا
أَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ
الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَالشِّرَاءِ عَلَى
شِرَائِهِ وَالسَّوْمِ عَلَى سَوْمِهِ فَلَوْ خَالَفَ
وَعَقَدَ فَهُوَ عَاصٍ وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ هَذَا
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَآخَرِينَ
وَقَالَ دَاوُدُ لَا يَنْعَقِدُ وَعَنْ مَالِكٍ
رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى
إِبَاحَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَنْ يَزِيدُ وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ وَكَرِهَهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَأَمَّا
النَّجْشُ فَبِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ جِيمٍ سَاكِنَةٍ
ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي ثَمَنِ
السِّلْعَةِ لَا لِرَغْبَةٍ فِيهَا بَلْ لِيَخْدَعَ
غَيْرَهُ وَيَغُرَّهُ لِيَزِيدَ وَيَشْتَرِيَهَا وَهَذَا
حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالْإِثْمُ
مُخْتَصٌّ بِالنَّاجِشِ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ
الْبَائِعُ فَإِنْ وَاطَأَهُ عَلَى ذَلِكَ أَثِمَا
جَمِيعًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي إِنْ لَمْ يَكُنْ
مِنَ الْبَائِعِ مُوَاطَأَةٌ وَكَذَا إِنْ كَانَتْ فِي
الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ قَصَّرَ فِي الِاغْتِرَارِ وَعَنْ
مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَجَعَلَ
النَّهْيَ عَنْهُ مُقْتَضِيًا لِلْفَسَادِ وَأَصْلُ
النَّجْشِ الِاسْتِثَارَةُ وَمِنْهُ نَجَشْتُ الصَّيْدَ
أَنْجُشُهُ بِضَمِّ الْجِيمِ نَجْشًا إِذَا اسْتَثَرْتُهُ
سُمِّيَ النَّاجِشُ فِي السِّلْعَةِ نَاجِشًا لِأَنَّهُ
يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها وقال بن قُتَيْبَةَ أَصْلُ
النَّجْشِ الْخَتْلُ وَهُوَ الْخِدَاعُ وَمِنْهُ قِيلَ
لِلصَّائِدِ نَاجِشٌ لِأَنَّهُ يَخْتِلُ الصَّيْدَ
وَيَخْتَالُ له وكل من استثار شيئا فَهُوَ نَاجِشٌ وَقَالَ
الْهَرَوِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّجْشُ الْمَدْحُ
وَالْإِطْرَاءُ وَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ لا يمدح
أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها بِلَا رَغْبَةٍ وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْعَلَاءِ
وَسُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ)
هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ عَنْ أبيهما وهو
(10/159)
مشكل لأن العلاء هو بن عبد الرحمن وسهيل هو
بن أَبِي صَالِحٍ وَلَيْسَ بِأَخٍ لَهُ فَلَا يُقَالُ عَنْ
أَبِيهِمَا بِكَسْرِ الْبَاءِ بَلْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ
يَقُولَ عَنْ أَبَوَيْهِمَا وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ
الْمَوْجُودُ فِي النُّسَخِ عَنْ أَبَيْهِمَا بِفَتْحِ
الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَيَكُونَ تَثْنِيَةُ أَبٍ عَلَى
لُغَةِ مَنْ قَالَ هَذَانِ أَبَانِ وَرَأَيْتُ أَبَيْنِ
فَثَنَّاهُ بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ وَبِالْيَاءِ
وَالنُّونِ وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ
وَأَوْضَحْنَاهُ هُنَاكَ قَالَ الْقَاضِي الرِّوَايَةُ
فِيهِ عِنْدَ جَمِيعِ شُيُوخِنَا بِكَسْرِ الْبَاءِ قَالَ
وَلَيْسَ هُوَ بِصَوَابٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا أَخَوَيْنِ
قَالَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ
أَبَوَيْهِمَا وَهُوَ الصَّوَابُ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ
فِي الْأَوَّلِ لَعَلَّهُ عَنْ أَبَيْهِمَا بِفَتْحِ
الْبَاءِ قَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةِ الدَّوْرَقِيِّ عَلَى
سِيمَةِ أَخِيهِ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ
الْيَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ فِي السَّوْمِ ذَكَرَهَا
الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ ويقال انه تغالى السِّيمَةِ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تُصَرُّوا
الْإِبِلَ) هُوَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ
وَنَصْبِ الْإِبِلِ مِنَ التَّصْرِيَةِ وَهِيَ الْجَمْعُ
يُقَالُ صَرَّى يُصَرِّي تَصْرِيَةً وَصَرَّاهَا
يُصَرِّيهَا تَصْرِيَةً فَهِيَ مُصَرَّاةٌ كَغَشَّاهَا
يُغَشِّيهَا تَغْشِيَةً فَهِيَ مُغَشَّاةٌ وَزَكَّاهَا
يُزَكِّيهَا تَزْكِيَةً فَهِيَ مُزَكَّاةٌ قَالَ الْقَاضِي
وَرُوِّينَاهُ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
بَعْضِهِمْ لَا تصروا بفتح
(10/160)
التَّاءِ وَضَمِّ الصَّادِ مِنَ الصَّرِّ
قَالَ وَعَنْ بَعْضِهِمْ لَا تُصَرُّ الْإِبِلُ بِضَمِّ
التَّاءِ مِنْ تُصْرَّى بِغَيْرِ وَاوٍ بَعْدَ الرَّاءِ
وَبِرَفْعِ الْإِبِلِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ
مِنَ الصِّرِّ أَيْضًا وَهُوَ رَبْطُ أَخْلَافِهَا
وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ وَمَعْنَاهُ
لَا تَجْمَعُوا اللَّبَنَ فِي ضَرْعِهَا عِنْدَ إِرَادَةِ
بَيْعِهَا حَتَّى يَعْظُمَ ضَرْعُهَا فَيَظُنَّ
الْمُشْتَرِي أَنَّ كَثْرَةَ لَبَنِهَا عَادَةٌ لَهَا
مُسْتَمِرَّةٌ ومنه قول العرب صربت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ
أَيْ جَمَعْتُهُ وَصَرَّى الْمَاءَ فِي ظَهْرِهِ أَيْ
حَبَسَهُ فَلَمْ يَتَزَوَّجْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ
الْمُصَرَّاةِ وَفِي اشْتِقَاقِهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
التَّصْرِيَةُ أَنْ يَرْبِطَ أَخْلَافَ النَّاقَةِ أَوِ
الشَّاةِ وَيَتْرُكَ حَلْبَهَا الْيَوْمَيْنِ
وَالثَّلَاثَةَ حَتَّى يَجْمَعَ لَبَنَهَا فَيَزِيدَ
مُشْتَرِيهَا فِي ثَمَنِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ لِظَنِّهِ
أَنَّهُ عَادَةٌ لَهَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ مِنْ
صَرَّى اللَّبَنَ فِي ضَرْعِهَا أَيْ حَقَنَهُ فِيهِ
وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الرَّبْطِ لَكَانَتْ
مَصْرُورَةً أَوْ مُصَرَّرَةً قَالَ الْخَطَّابِيُّ
وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ حَسَنٌ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ
صَحِيحٌ قَالَ
(10/161)
وَالْعَرَبُ تَصُرُّ ضُرُوعَ
الْمَحْلُوبَاتِ وَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِ الْعَرَبِ لَا يُحْسِنُ الْكَرَّ
إِنَّمَا يُحْسِنُ الْحَلْبَ وَالصَّرَّ وَبِقَوْلِ
مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ ... فَقُلْتُ لِقَوْمِي هَذِهِ
صَدَقَاتُكُمْ ... مُصَرَّرَةٌ أَخْلَافُهَا لَمْ
تُجَرَّدِ ...
(قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَصْلَ الْمُصَرَّاةِ
مَصْرُورَةٌ ابدلت إِحْدَى الرَّاءَيْنِ أَلِفًا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى خَابَ مَنْ دساها أَيْ دَسَّسَهَا
كَرِهُوا اجْتِمَاعَ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ مِنْ جِنْسٍ
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّصْرِيَةَ حَرَامٌ سَوَاءٌ تَصْرِيَةُ
النَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ وَالْجَارِيَةِ
وَالْفَرَسِ وَالْأَتَانِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهُ غِشٌّ
وَخِدَاعٌ وَبَيْعُهَا صَحِيحٌ مَعَ أَنَّهُ حَرَامٌ
وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي إِمْسَاكِهَا وَرَدِّهَا
وَسَنُوَضِّحُهُ فِي الْبَابِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّدْلِيسِ
فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ ذَلِكَ
يَنْعَقِدُ وَأَنَّ التدليس بالفعل حرام كالتدليس بالقول)
(باب تحريم تلقى الجلب
[1517] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم نهى أن يتلقى السِّلَعُ حَتَّى تَبْلُغَ
الْأَسْوَاقَ) وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنِ التَّلَقِّي
وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ وَفِي
رِوَايَةٍ أَنْ يُتَلَقَّى الْجَلَبُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا
تَلَقَّوُا الْجَلَبَ فَمَنْ تَلَقَّى فَاشْتَرَى مِنْهُ
فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ
وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ)
(10/162)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَتَى سَيِّدُهُ أَيْ مَالِكُهُ الْبَائِعُ
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ تَلَقِّي الْجَلَبِ
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ يَجُوزُ
التَّلَقِّي إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ فَإِنْ أَضَرَّ
كُرِهَ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِلنَّهْيِ الصَّرِيحِ
قَالَ أَصْحَابُنَا وَشَرْطُ التَّحْرِيمِ أَنْ يُعْلَمَ
النَّهْيُ عَنِ التَّلَقِّي وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ
التَّلَقِّي بَلْ خَرَجَ لِشُغْلٍ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَفِي
تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا وَقَوْلَانِ
لِأَصْحَابِ مَالِكٍ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
التَّحْرِيمُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى وَلَوْ تَلَقَّاهُمْ
وَبَاعَهُمْ فَفِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ وَإِذَا
حَكَمْنَا بِالتَّحْرِيمِ فَاشْتَرَى صَحَّ الْعَقْدُ
قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ إِزَالَةُ
الضَّرَرِ عَنِ الْجَالِبِ وَصِيَانَتُهُ مِمَّنْ
يَخْدَعُهُ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمَازِرِيُّ فَإِنْ قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ
الْحَاضِرِ لِلْبَادِي سَبَبُهُ الرِّفْقُ بِأَهْلِ
الْبَلَدِ وَاحْتُمِلَ فِيهِ غَبْنُ البادى والمنع من
التلقى أن لا يُغْبَنَ الْبَادِي وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ
السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فَالْجَوَابُ أَنَّ
الشَّرْعَ يَنْظُرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَى
مَصْلَحَةِ النَّاسِ وَالْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي أَنْ
يُنْظَرَ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ لَا لِلْوَاحِدِ
عَلَى الْوَاحِدِ فَلَمَّا كَانَ الْبَادِي إِذَا بَاعَ
بِنَفْسِهِ انْتَفَعَ جَمِيعُ أَهْلِ السُّوقِ
وَاشْتَرَوْا رَخِيصًا فَانْتَفَعَ بِهِ جَمِيعُ سُكَّانِ
الْبَلَدِ نَظَرَ الشَّرْعُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى
الْبَادِي وَلَمَّا كَانَ فِي التَّلَقِّي إِنَّمَا
يَنْتَفِعُ الْمُتَلَقِّي خَاصَّةً وَهُوَ وَاحِدٌ فِي
قُبَالَةِ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ فِي إِبَاحَةِ التَّلَقِّي
مَصْلَحَةٌ لَا سِيَّمَا وَيَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ عِلَّةٌ
ثَانِيَةٌ وَهِيَ لُحُوقُ الضَّرَرِ بِأَهْلِ السُّوقِ فِي
انْفِرَادِ الْمُتَلَقِّي عَنْهُمْ بِالرُّخْصِ وَقَطْعِ
الْمَوَادِّ عَنْهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْمُتَلَقِّي
فَنَظَرَ الشَّرْعُ لَهُمْ عَلَيْهِ فَلَا تَنَاقُضَ
بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بَلْ هُمَا مُتَّفِقَتَانِ فِي
الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَتَى
سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ قَالَ
أَصْحَابُنَا لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ
يَقْدَمَ وَيَعْلَمَ السِّعْرَ فَإِذَا قَدِمَ فَإِنْ
كَانَ الشِّرَاءُ بِأَرْخَصَ مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ ثَبَتَ
لَهُ الْخِيَارُ سَوَاءٌ أَخْبَرَ الْمُتَلَقِّي
بِالسِّعْرِ كَاذِبًا أَمْ لَمْ يُخْبِرْ وَإِنْ كَانَ
الشِّرَاءُ بِسِعْرِ الْبَلَدِ أَوْ أَكْثَرَ فَوَجْهَانِ
الْأَصَحُّ لَا خِيَارَ لَهُ لِعَدَمِ الْغَبْنِ
وَالثَّانِي ثُبُوتُهُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ قَوْلُهُ (أَخْبَرَنِي هِشَامٌ الْقُرْدُوسِيُّ)
هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَالدَّالِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ
بَيْنَهُمَا مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَرَادِيسِ قَبِيلَةٌ
مَعْرُوفَةٌ والله أعلم
(10/163)
(باب تحريم بيع الحاضر للبادى
[1520] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ) وَفِي
رِوَايَةٍ قَالَ طَاوُسٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ
حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ لَا يَكُنْ لَهُ سِمْسَارًا وَفِي
رِوَايَةٍ لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ
يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَفِي رِوَايَةٍ
عَنْ أَنَسٍ نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَإِنْ
كَانَ أَخَاهُ أَوْ أَبَاهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ
تَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ قَالَ
أَصْحَابُنَا وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَقْدَمَ غَرِيبٌ
مِنَ الْبَادِيَةِ أَوْ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ بِمَتَاعٍ
تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِيَبِيعَهُ بِسِعْرِ
يَوْمِهِ فَيَقُولَ لَهُ الْبَلَدِيُّ اتْرُكْهُ عِنْدِي
لِأَبِيعَهُ عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَعْلَى قَالَ
أَصْحَابُنَا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ
وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ فَلَوْ لَمْ
يَعْلَمِ النَّهْيَ أَوْ كَانَ الْمَتَاعُ مِمَّا لَا
يُحْتَاجُ فِي الْبَلَدِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لِقِلَّةِ
ذَلِكَ الْمَجْلُوبِ لَمْ يَحْرُمْ وَلَوْ خَالَفَ وَبَاعَ
الْحَاضِرُ لِلْبَادِي صَحَّ الْبَيْعُ مَعَ التَّحْرِيمِ
هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ بَعْضُ
الْمَالِكِيَّةِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَفُتْ
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ
بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي مُطْلَقًا لِحَدِيثِ
الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ)
(10/164)
بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي مَنْسُوخٌ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ على كراهة التنزيه بمجرد
الدعوى
(باب حكم بيع المصراة قَدْ سَبَقَ بَيَانُ التَّصْرِيَةِ
وَبَيَانُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي بَابِ
تَحْرِيمِ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ
[1524] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ
اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَلْيَنْقَلِبْ بِهَا
فَلْيَحْلُبْهَا فَإِنْ رَضِيَ حِلَابَهَا أَمْسَكَهَا
وَإِلَّا رَدَّهَا وَمَعَهَا صاع تمر) وفى رواية من ابتاع
شاة مُصَرَّاةً فَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ إِنْ)
(10/165)
شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا
وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ مَنِ
اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَمَعَهَا صَاعًا مِنْ
طَعَامٍ لَا سَمْرَاءَ وَفِي رِوَايَةٍ مَنِ اشْتَرَى
شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِنْ
شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ
تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا مَا
أَحَدُكُمُ اشْتَرَى لَقِحَةً مُصَرَّاةً أَوْ شَاةً
مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ
يَحْلُبَهَا إِمَّا هِيَ وَإِلَّا فَلْيَرُدَّهَا وَصَاعًا
مِنْ تَمْرٍ أَمَّا الْمُصَرَّاةُ وَاشْتِقَاقُهَا
فَسَبَقَ أَنَّ التَّصْرِيَةَ حَرَامٌ وَأَنَّ فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ مَعَ تَحْرِيمِهَا يَصِحُّ الْبَيْعُ
وَأَنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ
الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَدْلِيسٍ بِأَنْ سَوَّدَ شَعْرَ
الْجَارِيَةِ الشَّائِبَةِ أَوْ جَعَّدَ شَعْرَ
السَّبْطَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
خِيَارِ مُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ هَلْ هُوَ عَلَى
الْفَوْرِ بَعْدَ الْعِلْمِ أَوْ يَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ فَقِيلَ يَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِظَاهِرِ
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ
عَلَى الْفَوْرِ وَيَحْمِلُونَ التَّقْيِيدَ بِثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ
يَعْلَمْ أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِيمَا
دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا نَقَصَ لَبَنُهَا فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ احْتُمِلَ كَوْنُ
النَّقْصِ لِعَارِضٍ مِنْ سُوءِ مَرْعَاهَا فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا اسْتَمَرَّ كَذَلِكَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عُلِمَ أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ ثُمَّ
إِذَا اخْتَارَ رَدَّ المصراة
(10/166)
بَعْدَ أَنْ حَلَبَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا
مِنْ تَمْرٍ سَوَاءٌ كَانَ اللَّبَنُ قَلِيلًا أَوْ
كَثِيرًا سَوَاءٌ كَانَتْ نَاقَةً أَوْ شَاةً أَوْ
بَقَرَةً هَذَا مذهبنا وبه قال مالك والليث وبن أَبِي
لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَفُقَهَاءُ
الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُوَافِقُ
لِلسُّنَّةِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَرُدُّ صَاعًا
مِنْ قُوتِ الْبَلَدِ وَلَا يَخْتَصُّ بِالتَّمْرِ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ
وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ
غَرِيبَةٍ عَنْهُ يَرُدُّهَا وَلَا يَرُدُّ صَاعًا مِنْ
تَمْرٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إِذَا أَتْلَفَ شَيْئًا
لِغَيْرِهِ رَدَّ مِثْلَهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلَّا
فَقِيمَتُهُ وَأَمَّا جِنْسٌ آخَرُ مِنَ الْعُرُوضِ
فَخِلَافُ الْأُصُولِ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا
بِأَنَّ السُّنَّةَ إِذَا وَرَدَتْ لَا يُعْتَرَضُ
عَلَيْهَا بِالْمَعْقُولِ وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي
تَقْيِيدِهِ بِصَاعِ التَّمْرِ فلِأَنَّهُ كَانَ غَالِبَ
قُوتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَاسْتَمَرَّ حُكْمُ
الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ مِثْلُهُ
وَلَا قِيمَتُهُ بَلْ وَجَبَ صَاعٌ فِي الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ حَدًّا يُرْجَعُ إِلَيْهِ
وَيَزُولُ بِهِ التَّخَاصُمُ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا عَلَى رَفْعِ الْخِصَامِ
وَالْمَنْعِ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ وَقَدْ
يَقَعُ بَيْعُ الْمُصَرَّاةِ فِي الْبَوَادِي وَالْقُرَى
وَفِي مَوَاضِعَ لَا يُوجَدُ مَنْ يَعْرِفُ الْقِيمَةَ
وَيُعْتَمَدُ قَوْلُهُ فِيهَا وَقَدْ يَتْلَفُ اللَّبَنُ
وَيَتَنَازَعُونَ فِي قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ وَفِي
عَيْنِهِ فَجَعَلَ الشَّرْعُ لَهُمْ ضَابِطًا لَا نِزَاعَ
مَعَهُ وَهُوَ صَاعُ تَمْرٍ وَنَظِيرُ هَذَا الدِّيَةُ
فَإِنَّهَا مِائَةُ بَعِيرٍ وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
حَالِ الْقَتِيلِ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ وَمِثْلُهُ
الْغُرَّةُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ سَوَاءٌ
كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى تَامُّ الْخَلْقِ أَوْ
نَاقِصُهُ جَمِيلًا كَانَ أَوْ قَبِيحًا وَمِثْلُهُ
الْجُبْرَانُ فِي الزَّكَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ
جَعَلَهُ الشَّرْعُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا
قَطْعًا لِلنِّزَاعِ سَوَاءٌ كَانَ التَّفَاوُتُ
بَيْنَهُمَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَقَدْ ذَكَرَ
الْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى
وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَلْزَمُ
الْمُشْتَرِيَ رَدُّ عِوَضِ اللَّبَنِ مَعَ أَنَّ الخراج
بالضمان
(10/167)
وَأَنَّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مَعِيبًا
ثُمَّ عَلِمَ الْعَيْبَ فَرَدَّ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ
الْغَلَّةِ وَالْأَكْسَابِ الْحَاصِلَةِ فِي يَدِهِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّبَنَ لَيْسَ مِنَ الْغَلَّةِ
الْحَاصِلَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَلْ كَانَ مَوْجُودًا
عِنْدَ الْبَائِعِ وَفِي حَالَةِ الْعَقْدِ وَوَقَعَ
الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَعَلَى الشَّاةِ جَمِيعًا فَهُمَا
مَبِيعَانِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَتَعَذَّرَ رَدُّ اللَّبَنِ
لاختلاطه بما حدث في ملك المشترى فوجب رد عوضه والله أعلم
(باب بطلان بيع المبيع قبل القبض
[1525] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ
ابْتَاعَ طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه) قال بن عَبَّاسٍ
وَأَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى
يَقْبِضَهُ وَفِي رِوَايَةٍ مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا
يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لم
قال ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ وفي رواية بن
عمر قال كم فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرا
بِانْتِقَالِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ
فِيهِ إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ وَفِي
رِوَايَةٍ كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ
جِزَافًا فَنَهَانَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
تنبيعه حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ وَفِي رِوَايَةٍ
عَنِ بن عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا اشْتَرَوْا)
(10/168)
طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ فِي
مَكَانِهِ حَتَّى يُحَوِّلُوهُ وَفِي رِوَايَةٍ رَأَيْتُ
النَّاسَ فِي عَهْدِ رسول اببه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا ابْتَاعُوا الطَّعَامَ جِزَافًا
يَضْرِبُونَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ ذَلِكَ
حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ قَوْلُهُ (مُرْجَأً)
أَيْ مُؤَخَّرًا وَيَجُوزُ هَمْزُهُ وَتَرْكُ هَمْزِهِ
وَالْجِزَافُ بِكَسْرِ الجيم ضمها وَفَتْحِهَا ثَلَاثُ
لُغَاتٍ الْكَسْرُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَهُوَ الْبَيْعُ
بِلَا كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ وَلَا تَقْدِيرٍ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ جَوَازُ بَيْعِ الصُّبْرَةِ جِزَافًا وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ
بَيْعُ الصُّبْرَةِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ
وَغَيْرِهِمَا جِزَافًا صَحِيحٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَهَلْ
هُوَ مَكْرُوهٌ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ
أَصَحُّهُمَا مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَالثَّانِي
لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ قَالُوا وَالْبَيْعُ بِصُبْرَةِ
الدَّرَاهِمِ جِزَافًا حُكْمُهُ كَذَلِكَ وَنَقَلَ
أَصْحَابُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ
إِذَا كَانَ بَائِعُ الصُّبْرَةِ جِزَافًا يَعْلَمُ
قَدْرَهَا وفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ النَّهْيُ عَنْ
بَيْعِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْبَائِعُ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ
الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ
قَبْضِهِ سَوَاءٌ كَانَ طَعَامًا أَوْ عَقَارًا أَوْ
مَنْقُولًا
(10/169)
أَوْ نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ وَقَالَ
عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ يَجُوزُ فِي كُلِّ مَبِيعٍ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ لا يَجُوزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا
الْعَقَارَ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ فِي الطَّعَامِ
وَيَجُوزُ فِيمَا سِوَاهُ وَوَافَقَهُ كَثِيرُونَ وَقَالَ
آخَرُونَ لَا يَجُوزُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ
وَيَجُوزُ فِيمَا سِوَاهُمَا أَمَّا مَذْهَبُ عُثْمَانَ
الْبَتِّيِّ فَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي وَلَمْ
يحكه الا كثرون بَلْ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى
بُطْلَانِ بَيْعِ الطَّعَامِ المبيع قبل قبضه قالوا وإنما
الْخِلَافُ فِيمَا سِوَاهُ فَهُوَ شَاذٌّ مَتْرُوكٌ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (كَانُوا يُضْرَبُونَ إِذَا
بَاعُوهُ) يَعْنِي قَبْلَ قَبْضِهِ هَذَا
(10/170)
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ
يُعَزِّرُ مَنْ تَعَاطَى بَيْعًا فَاسِدًا وَيُعَزِّرُهُ
بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَرَاهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ
فِي الْبَدَنِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ
قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِمَرْوَانَ أَحْلَلْتَ
بَيْعَ الصِّكَاكَ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى
يُسْتَوْفَى فَخَطَبَ مَرْوَانُ النَّاسَ فَنَهَى عَنْ
بَيْعِهَا) الصِّكَاكُ جَمْعُ صَكٍّ وَهُوَ الْوَرَقَةُ
الْمَكْتُوبَةُ بِدَيْنٍ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى صُكُوكٍ
وَالْمُرَادُ هُنَا الْوَرَقَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ
وَلِيِّ الْأَمْرِ بِالرِّزْقِ لِمُسْتَحِقِّهِ بِأَنْ
يَكْتُبَ فِيهَا لِلْإِنْسَانِ كَذَا وَكَذَا مِنْ طَعَامٍ
أَوْ غَيْرِهِ فَيَبِيعُ صَاحِبُهَا ذَلِكَ لِإِنْسَانٍ
قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
ذَلِكَ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ
جَوَازُ بَيْعِهَا وَالثَّانِي مَنْعُهَا فَمَنْ مَنَعَهَا
أَخَذَ بِظَاهِرِ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبِحُجَّتِهِ
وَمَنْ أَجَازَهَا تَأَوَّلَ قَضِيَّةَ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ خَرَجَ لَهُ الصَّكُّ
بَاعَهُ لِثَالِثٍ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي
فَكَانَ النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ الثَّانِي لَا عَنِ
الْأَوَّلِ لِأَنَّ الَّذِي خَرَجَتْ لَهُ مَالِكٌ
لِذَلِكَ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَ هُوَ بِمُشْتَرٍ
فَلَا يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا لَا
يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ مَا وَرِثَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَ أَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى نَحْوِ
مَا ذَكَرْتُهُ وَكَانُوا يَتَبَايَعُونَهَا ثُمَّ
يَبِيعُهَا الْمُشْتَرُونَ قَبْلَ قَبْضِهَا فَنُهُوا
(10/171)
عَنْ ذَلِكَ قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَا تَبِعْ
طَعَامًا ابْتَعْتَهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ انْتَهَى
هَذَا تَمَامُ الْحَدِيثِ فِي الْمُوَطَّأِ وَكَذَا جَاءَ
الْحَدِيثُ مُفَسَّرًا فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ صُكُوكًا
خَرَجَتْ لِلنَّاسِ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بِطَعَامٍ
فَتَبَايَعَ النَّاسُ تِلْكَ الصُّكُوكَ قَبْلَ أَنْ
يَسْتَوْفُوهَا وَفِي الْمُوَطَّأِ مَا هُوَ أَبَيْنُ مِنْ
هَذَا وَهُوَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ابْتَاعَ
طَعَامًا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فَبَاعَ حَكِيمٌ الطَّعَامَ الَّذِي اشتراه
قبل قبضه والله أعلم
(باب تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بتمر
[1530] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ
التَّمْرِ لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا بِالْكَيْلِ
الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِتَحْرِيمِ
بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ حَتَّى يَعْلَمَ
الْمُمَاثَلَةَ قَالَ الْعُلَمَاءُ لِأَنَّ الْجَهْلَ
بِالْمُمَاثَلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ كَحَقِيقَةِ
الْمُفَاضَلَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَلَمْ يَحْصُلْ
تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ مَعَ الْجَهْلِ وَحُكْمُ
الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ
وَسَائِرِ الرِّبَوِيَّاتِ إِذَا بِيعَ بَعْضُهَا ببعض
حكم)
(10/172)
التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ
[1531] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(الْبَيِّعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ
عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ
الْخِيَارِ) هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِثُبُوتِ خِيَارِ
الْمَجْلِسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ
بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ
ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بِأَبْدَانِهِمَا وَبِهَذَا قَالَ
جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ قال به علي بن
أبى طالب وبن عمر وبن عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو
بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَطَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالْحَسَنُ
البصرى والشعبي والزهري والاوزاعى وبن أبى ذئب وسفيان بن
عيينة والشافعى وبن الْمُبَارَكِ وَعَلِيُّ بْنُ
الْمَدِينِيِّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ
رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ
وَالْبُخَارِيُّ وَسَائِرُ الْمُحَدِّثِينَ وَآخَرُونَ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَا يَثْبُتُ خِيَارُ
الْمَجْلِسِ بَلْ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ
وَالْقَبُولِ وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَحُكِيَ عَنِ
النَّخَعِيِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَهَذِهِ
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ
وَلَيْسَ لَهُمْ عَنْهَا جَوَابٌ صَحِيحٌ وَالصَّوَابُ
ثُبُوتُهُ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ)
(10/173)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ ففيه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ
وأصحها أَنَّ الْمُرَادَ التَّخْيِيرُ بَعْدَ تَمَامِ
الْعَقْدِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ وَتَقْدِيرُهُ
يَثْبُتُ لَهُمَا الْخِيَارُ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا
أَنْ يَتَخَايَرَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَخْتَارَا إِمْضَاءَ
الْبَيْعِ فَيَلْزَمَ الْبَيْعُ بِنَفْسِ التَّخَايُرِ
وَلَا يَدُومُ إِلَى الْمُفَارَقَةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي
أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا بَيْعًا شُرِطَ فِيهِ خِيَارُ
الشَّرْطِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ دُونَهَا فَلَا
يَنْقَضِي الْخِيَارُ فِيهِ بِالْمُفَارَقَةِ بَلْ يَبْقَى
حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ الْمَشْرُوطَةُ وَالثَّالِثُ
مَعْنَاهُ إِلَّا بَيْعًا شُرِطَ فِيهِ أن لا خِيَارَ
لَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ
الْبَيْعِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ خِيَارٌ وَهَذَا تَأْوِيلُ
مَنْ يُصَحِّحُ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بُطْلَانُهُ بِهَذَا
الشَّرْطِ فَهَذَا تَنْقِيحُ الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ
هَذَا الْحَدِيثِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى تَرْجِيحِ
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ
وَنَقَلُوهُ عَنْهُ وَأَبْطَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا
سِوَاهُ وَغَلَّطُوا قَائِلَهُ وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ مِنَ
الْمُحَدِّثِينَ الْبَيْهَقِيُّ ثُمَّ بَسَطَ دَلَائِلَهُ
وَبَيَّنَ ضَعْفَ مَا يُعَارِضُهَا ثُمَّ قَالَ وَذَهَبَ
كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَضْعِيفِ الْأَثَرِ
الْمَنْقُولِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبَيْعُ
صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ وَأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ
فِيهِ شَرْطُ قَطْعِ الْخِيَارِ وَأَنَّ الْمُرَادَ
بِبَيْعِ الْخِيَارِ التَّخْيِيرُ بَعْدَ الْبَيْعِ أَوْ
بيعٌ شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ
قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ التَّخْيِيرُ بَعْدَ
الْبَيْعِ لِأَنَّ نَافِعًا رُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ
بِبَيْعِ الْخِيَارِ وَرُبَّمَا فَسَّرَهُ بِهِ وَمِمَّنْ
قَالَ بِتَصْحِيحِ هَذَا أبو عيسى الترمذى ونقل بن
الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَاقِ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنِ
الثَّوْرِيِّ والاوزاعى وبن عُيَيْنَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ
وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا تَبَايَعَ
الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا
لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ
أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ
فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ)
وَمَعْنَى أَوْ يُخَيِّرُ)
(10/174)
أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَنْ يَقُولَ لَهُ
اخْتَرْ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ فَإِذَا اخْتَارَ وَجَبَ
الْبَيْعُ أَيْ لَزِمَ وَانْبَرَمَ فَإِنْ خَيَّرَ
أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَسَكَتَ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُ
السَّاكِتِ وَفِي انْقِطَاعِ خِيَارِ الْقَائِلِ وَجْهَانِ
لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا الِانْقِطَاعُ لِظَاهِرِ
لَفْظِ الْحَدِيثِ قوله (فكان بن عُمَرَ إِذَا بَايَعَ
رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى
هُنَيَّةً) ثُمَّ رَجَعَ هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ
الْأُصُولِ هُنَيَّةً بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ غَيْرُ
مَهْمُوزٍ وَفِي بَعْضِهَا هُنَيْهَةً بِتَخْفِيفِ
الْيَاءِ وَزِيَادَةِ هَاءٍ أَيْ شَيْئًا يَسِيرًا
وَقَوْلُهُ فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ أَيْ لَا
يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ كما فسره بن عُمَرَ الرَّاوِي
وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ
التَّفَرُّقَ عَلَى أَنَّهُ التَّفَرُّقُ بِالْقَوْلِ
وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا
حَتَّى يَتَفَرَّقَا) أى ليس بينهما
(10/175)
بيع
[1532] لازم قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ
صَدَقَا وَبَيَّنَا بِوَرِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا)
أَيْ بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ مَا يَحْتَاجُ
إِلَى بَيَانِهِ مِنْ عَيْبٍ وَنَحْوِهِ فِي السِّلْعَةِ
وَالثَّمَنِ وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ وَفِي الْإِخْبَارِ
بِالثَّمَنِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِوَضَيْنِ وَمَعْنَى
مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا أَيْ ذَهَبَتْ بَرَكَتُهُ
وَهِيَ زِيَادَتُهُ وَنَمَاؤُهُ
(بَاب مَنْ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ
[1533] قَوْلُهُ (ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي
الْبُيُوعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ
وَكَانَ إِذَا بَايَعَ يَقُولُ لَا خِيَابَةَ) أَمَّا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ لَا
خِلَابَةَ)
(10/176)
هُوَ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ
وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ
وَقَوْلُهُ وَكَانَ إِذَا بَايَعَ قَالَ لَا خِيَابَةَ
هُوَ بِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ بَدَلَ اللَّامِ هَكَذَا
هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ
بَعْضُهُمْ لَا خِيَانَةَ بِالنُّونِ قَالَ وَهُوَ
تَصْحِيفٌ قَالَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي
غَيْرِ مُسْلِمٍ خِذَابَةَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وكان الرجل ألثغ فكان يقولها هكذا
وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ لَا خِلَابَةَ وَمَعْنَى
لَا خِلَابَةَ لَا خَدِيعَةَ أَيْ لَا تَحِلُّ لَكَ
خَدِيعَتِي أَوْ لَا يَلْزَمُنِي خَدِيعَتُكَ وَهَذَا
الرَّجُلُ هُوَ حَبَّانُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَبِالْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ بْنُ مُنْقِدِ بْنِ عَمْرٍو
الْأَنْصَارِيُّ وَالِدُ يَحْيَى وَوَاسِعٍ بَنِي حَبَّانَ
شَهِدَا أُحُدًا وَقِيلَ بَلْ هُوَ وَالِدُهُ مُنْقِدُ
بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ
سَنَةً وَكَانَ قَدْ شُجَّ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ
الْحُصُونِ بِحَجَرٍ فَأَصَابَتْهُ فِي رَأْسِهِ
مَأْمُومَةٌ فَتَغَيَّرَ بِهَا لِسَانُهُ وَعَقْلُهُ
لَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ التَّمْيِيزِ وَذَكَرَ
الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ كَانَ ضَرِيرًا وَقَدْ جَاءَ
فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهُ مَعَ هَذَا
الْقَوْلِ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ
سِلْعَةٍ يَبْتَاعُهَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ خَاصًّا فِي حَقِّهِ
وَأَنَّ الْمُغَابَنَةَ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ
لَازِمَةٌ لَا خِيَارَ لِلْمَغْبُونِ بِسَبَبِهَا سَوَاءٌ
قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَآخَرِينَ وَهِيَ أَصَحُّ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْمَغْبُونِ الْخِيَارُ لِهَذَا
الْحَدِيثِ بِشَرْطِ أَنْ يَبْلُغَ الْغَبْنُ ثُلُثَ
الْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَلَا وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْبَتَ لَهُ
الْخِيَارَ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ قُلْ لَا خِلَابَةَ أَيْ
لَا خَدِيعَةَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا ثُبُوتُ
الْخِيَارِ وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَوْ أَثْبَتَ لَهُ
الْخِيَارَ كَانَتْ قَضِيَّةَ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا
فَلَا يَنْفُذُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ
صَلَاحِهَا بِغَيْرِ شَرْطِ القطع
[1534] فيه (عن بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ)
(10/177)
صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ
وَالْمُبْتَاعَ) وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنْ بَيْعِ
النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى
يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لَا
تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ
وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ قَالَ يَبْدُو صَلَاحُهُ
حُمْرَتُهُ وَصُفْرَتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ لِابْنِ
عُمَرَ مَا صَلَاحُهُ قَالَ تَذْهَبُ عَاهَتُهُ وَفِي
رِوَايَةٍ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ
وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى
يَأْكُلَ أَوْ يُؤْكَلَ وَحَتَّى يُوزَنَ فَقُلْتُ مَا
يُوزَنُ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ يعنى عند بن عَبَّاسٍ
حَتَّى يُحْرَزَ أَمَّا أَلْفَاظُ البابِ فَمَعْنَى
يَبْدُو يَظْهَرُ وَهُوَ بِلَا هَمْزٍ وَمِمَّا يَنْبَغِي
أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ
كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى يَبْدُوَا
بِالْأَلِفِ فِي الْخَطِّ وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ
حَذْفُهَا فِي مِثْلِ هَذَا لِلنَّاصِبِ وَإِنَّمَا
اخْتَلَفُوا فِي إِثْبَاتِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ نَاصِبٌ
مِثْلَ زَيْدٍ يَبْدُو وَالِاخْتِيَارُ حَذْفُهَا أَيْضًا
وَيَقَعُ مِثْلُهُ فِي حَتَّى يَزْهُوَ وَصَوَابُهُ حَذْفُ
الْأَلِفِ كَمَا ذُكِرَ
[1535] قَوْلُهُ (يَزْهُوَ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ كَذَا
ضَبَطُوهُ وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى قال بن الْأَعْرَابِيِّ يُقَالُ زَهَا
النَّخْلُ يَزْهُو إِذَا ظَهَرَتْ ثَمَرَتُهُ وَأَزْهَى
يُزْهَى إِذَا احْمَرَّ أَوِ اصْفَرَّ وَقَالَ
الْأَصْمَعِيُّ لَا يُقَالُ فِي النَّخْلِ أَزْهَى
إِنَّمَا يُقَالُ زَهَا وَحَكَاهُمَا أَبُو زَيْدٍ
لُغَتَيْنِ وَقَالَ الْخَلِيلُ أَزْهَى النَّخْلُ بَدَا
صَلَاحُهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَكَذَا يُرْوَى حَتَّى
يَزْهُوَ قَالَ وَالصَّوَابُ فِي الْعَرَبِيَّةِ حَتَّى
يُزْهَى وَالْإِزْهَاءُ فِي الثَّمَرِ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ
يَصْفَرَّ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الصَّلَاحِ فيها ودليل
خلاصها من الآفه قال بن الْأَثِيرِ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ
يُزْهَى كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ يَزْهُو
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الزَّهْوُ بِفَتْحِ الزَّايِ
وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ بِضَمِّهَا وَهُوَ
الْبُسْرُ الْمُلَوَّنُ يُقَالُ إِذَا ظَهَرَتِ
الْحُمْرَةُ أَوِ الصُّفْرَةُ فِي النَّخْلِ فَقَدْ ظَهَرَ
فِيهِ الزَّهْوُ وَقَدْ زَهَا النَّخْلُ زَهْوًا وَأَزْهَى
لُغَةٌ فَهَذِهِ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ
وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا جَوَازُ ذَلِكَ كُلِّهِ
فَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ نَقَلَ
شَيْئًا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُ قَبِلْنَاهُ اذا كان
(10/178)
ثِقَةً قَوْلُهُ (وَعَنِ السُّنْبُلِ
حَتَّى يَبْيَضَّ) مَعْنَاهُ يَشْتَدُّ حَبُّهُ وَهُوَ
بُدُوُّ صَلَاحِهِ قَوْلُهُ (وَيَأْمَنُ الْعَاهَةَ) هِيَ
الْآفَةُ تُصِيبُ الزَّرْعَ أَوِ الثَّمَرَ وَنَحْوَهُ
فَتُفْسِدُهُ
[1536] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى
أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ
جَابِرٍ ح وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ)
فَقَوْلُهُ أَوَّلًا عَنْ جَابِرٍ
(10/179)
كَانَ يَنْبَغِي لَهُ عَلَى مُقْتَضَى
عَادَتِهِ وَقَاعِدَتِهِ وَقَاعِدَةِ غَيْرِهِ حَذْفُهُ
فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى أَبِي
الزُّبَيْرِ لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ لَكِنَّهُ أَرَادَ
زِيَادَةَ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ
مِثْلِ هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو
عَاصِمٍ ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ
وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ حدثنا روح قال أنبأنا زكريا بْنُ
إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) هَكَذَا
يُوجَدُ فِي النُّسَخِ هَذَا وَأَمْثَالُهُ فَيَنْبَغِي
أَنْ يقرأ القارئ بعد روح قالا حدثنا زكريا لأن أبا عاصم
وروحا يرويان عن زكريا فلو قال القارئ قال أنبأنا زكريا
كَانَ خَطَأً لِأَنَّهُ يَكُونُ مُحَدِّثًا عَنْ رَوْحٍ
وَحْدِهِ وَتَارِكًا لِطَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ وَمِثْلُ
هَذَا مِمَّا يُغْفَلُ عَنْهُ فَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ
لِيُتَفَطَّنَ لِأَشْبَاهِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ
هَذَا فِي الْكِتَابِ فَيُقَالَ قالا حدثنا زكريا وَإِنْ
كَانُوا يَحْذِفُونَ لَفْظَهُ قَالَ إِذَا كَانَ
الْمُحَدِّثُ عَنْهُ وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَا يُلْبَسُ
بِخِلَافِ هَذَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ يَجُوزُ أَنْ
يُقَالَ هنا قال حدثنا زكريا وَيَكُونَ الْمُرَادُ قَالَ
رَوْحٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ وَاللَّفْظُ لَهُ
قُلْنَا هَذَا مُحْتَمَلٌ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ
الْمُخْتَارَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ
فَائِدَةً لِئَلَّا يَكُونَ تَارِكًا لِرِوَايَةِ أَبِي
عَاصِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1537] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) وَهُوَ
بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ
الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ
وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ عِمْرَانَ ويقال بن أبي عمران
ويقال بن فَيْرُوزَ الْكُوفِيُّ الطَّائِيُّ مَوْلَاهُمْ
قَالَ هِلَالُ بْنُ حِبَّانَ بِالْمُعْجَمَةِ
وَبِالْمُوَحَّدَةِ كَانَ مِنْ أَفَاضِلِ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ الْإِمَامُ
(10/180)
الْجَلِيلُ اجْتَمَعْتُ أَنَا وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ وَكَانَ أَبُو
الْبَخْتَرِيِّ أَعْلَمَنَا وَأَفْقَهَنَا قُتِلَ بالجماجم
سنة ثلاث وثمانين وقال بن مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو
زُرْعَةَ ثِقَةٌ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ مَا ذَكَرْتُ فِيهِ
لِأَنَّ الْحَاكِمَ أَبَا أَحْمَدَ قَالَ فِي كِتَابِهِ
الْأَسْمَاءُ وَالْكُنَى إِنَّ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ هَذَا
لَيْسَ قَوِيًّا عِنْدَهُمْ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ
الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ جَرْحٌ غَيْرُ مُفَسَّرٍ وَالْجَرْحُ
إِذَا لَمْ يُفَسَّرْ لَا يُقْبَلُ وَقَدْ نَصَّ
جَمَاعَاتٌ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ
هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ
أعلم قوله (سألت بن عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ
فَقَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ
أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ وحتى توزن فقلت ما يوزن فَقَالَ
رَجُلٌ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْزَرَ) وَأَمَّا قَوْلُهُ
يَأْكُلُ أَوْ يُؤْكَلُ فَمَعْنَاهُ حَتَّى يَصْلُحَ
لِأَنْ يُؤْكَلَ فِي الْجُمْلَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ
كَمَالَ أَكْلِهِ بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَلِكَ يَكُونُ
عِنْدَ بُدُوِّ الصلاح وأما تفسيره يوزن بيحزر فَظَاهِرٌ
لِأَنَّ الْحَزْرَ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ وكذا
الوزن وقوله حتى يحزر هو بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى
الرَّاءِ أَيْ يُخْرَصَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ
بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَإِنْ كَانَ
يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ لَوْ صَحَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَهَذَا التَّفْسِيرُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ
في معنى المضاف إلى بن عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ أَقَرَّ
قَائِلَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ وتقريره كقوله والله
أعلم قوله (عن بن أَبِي نُعْمٍ) هُوَ بِإِسْكَانِ
الْعَيْنِ بِلَا يَاءَ بَعْدَهَا وَاسْمُهُ دُكَيْنُ بْنُ
الْفُضَيْلِ وَشُرُوحُ مُسْلِمٍ كُلُّهَا سَاكِتَةٌ عَنْهُ
أَمَّا أَحْكَامُ الْبَابِ فَإِنْ بَاعَ الثَّمَرَةَ
قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ
بِالْإِجْمَاعِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ شَرَطَ
الْقَطْعَ ثُمَّ لَمْ يَقْطَعْ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ
وَيُلْزِمُهُ الْبَائِعُ بِالْقَطْعِ فَإِنْ تَرَاضَيَا
عَلَى إِبْقَائِهِ جَازَ وَإِنْ بَاعَهَا بِشَرْطِ
التَّبْقِيَةِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَ
إِدْرَاكِهَا فَيَكُونُ الْبَائِعُ قَدْ أَكَلَ مَالَ
أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ
وَأَمَّا إِذَا شَرَطَ الْقَطْعَ فَقَدِ انْتَفَى هَذَا
الضَّرَرُ وَإِنْ بَاعَهَا مُطْلَقًا بِلَا شَرْطٍ
فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ
الْبَيْعَ بَاطِلٌ لِإِطْلَاقِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
وَإِنَّمَا صَحَّحْنَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ لِلْإِجْمَاعِ
فَخَصَّصْنَا الْأَحَادِيثَ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا إِذَا
شُرِطَ الْقَطْعُ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الثِّمَارِ
الْإِبْقَاءُ فَصَارَ كَالْمَشْرُوطِ وَأَمَّا إِذَا
بِيعَتِ الثَّمَرَةُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَيَجُوزُ
بَيْعُهَا مُطْلَقًا
(10/181)
وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ وَبِشَرْطِ
التَّبْقِيَةِ لِمَفْهُومِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ
مَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا إِذَا لَمْ
يَكُنْ مِنْ جِنْسِهَا وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا
السَّلَامَةُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الصَّلَاحِ ثُمَّ إِذَا
بِيعَتْ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ مُطْلَقًا يُلْزَمُ
الْبَائِعُ بِسِقَايَتِهَا إِلَى أَوَانِ الْجُذَاذِ
لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَادَةُ فِيهَا هَذَا مَذْهَبُنَا
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ
شَرْطُ الْقَطْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَعَنِ
السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ
مَالِكٍ وَالْكُوفِيِّينَ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ
يَجُوزُ بَيْعُ السُّنْبُلِ الْمُشْتَدِّ وَأَمَّا
مَذْهَبُنَا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فَإِنْ كَانَ السُّنْبُلُ
شَعِيرًا أَوْ ذُرَةً أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا
تُرَى حَبَّاتُهُ جَازَ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ حِنْطَةً
وَنَحْوَهَا مِمَّا تُسْتَرُ حَبَّاتُهُ بِالْقُشُورِ
الَّتِي تُزَالُ بِالدِّيَاسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ
لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ
لَا يَصِحُّ وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْهِ وَالْقَدِيمُ
أَنَّهُ يَصِحُّ وَأَمَّا قَبْلَ الِاشْتِدَادِ فَلَا
يَصِحُّ بَيْعُ الزَّرْعِ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ كَمَا
ذَكَرْنَا وَإِذَا بَاعَ الزَّرْعَ قَبْلَ الِاشْتِدَادِ
مَعَ الْأَرْضِ شَرْطٍ جَازَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَكَذَا
الثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ إِذَا بِيعَ مَعَ
الشَّجَرِ جَازَ بلا شرط تبعا ونكذا حُكْمُ الْبُقُولِ فِي
الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي الْأَرْضِ دُونَ
الْأَرْضِ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَكَذَا لَا يَصِحُّ
بَيْعُ الْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِ قَبْلَ بدو
(10/182)
صَلَاحِهِ وَفُرُوعُ الْمَسْأَلَةِ
كَثِيرَةٌ وَقَدْ نَقَّحْتُ مَقَاصِدَهَا فِي رَوْضَةِ
الطَّالِبِينَ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَجَمَعْتُ فِيهَا
جُمَلًا مُسْتَكْثَرَاتٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ
قَوْلُهُ (فِي الْحَدِيثِ نَهَى الْبَائِعَ
وَالْمُشْتَرِيَ) أَمَّا الْبَائِعُ فَلِأَنَّهُ يُرِيدُ
أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَمَّا الْمُشْتَرِي
فَلِأَنَّهُ يُوَافِقُهُ عَلَى حَرَامٍ وَلِأَنَّهُ
يُضَيِّعُ مَالَهُ وَقَدْ نُهِيَ عن إضاعة المال
(باب تحريم بيع الرطب بالتمر
إلا في العرايا فيه حديث بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ
وَرَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا) وَفِي رِوَايَةٍ
رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ
بِالتَّمْرِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَفِي
رِوَايَةٍ رَخَّصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا
بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ وَبَاقِي رِوَايَاتِ الْبَابِ
بِمَعْنَاهُ وَفِيهَا ذِكْرُ الْمُحَاقَلَةِ
وَالْمُزَابَنَةِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ وَهَذَا نُؤَخِّرُهُ
إِلَى بَابِهِ وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْبَابِ فَقَوْلُهُ
وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا
تَبْتَاعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ هُمَا فِي
الرِّوَايَتَيْنِ الْأَوَّلُ الثَّمَرُ بِالثَّاءِ
الْمُثَلَّثَةِ وَالثَّانِي التَّمْرُ بِالْمُثَنَّاةِ
وَمَعْنَاهُ الرُّطَبُ بِالتَّمْرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ
كُلَّ الثِّمَارِ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَإِنَّ
سَائِرَ الثِّمَارِ)
(10/183)
يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالتَّمْرِ قَوْلُهُ
(حَدَّثَنَا حُجَيْنٌ) هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَآخِرُهُ
نُونٌ قَوْلُهُ (رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ
بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ) هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ
وَكَسْرِهَا الْفَتْحُ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهُ بِقَدْرِ مَا
فِيهَا إِذَا صَارَ تَمْرًا
(10/184)
فَمَنْ فَتَحَ قَالَ هُوَ مَصْدَرٌ أَيِ
اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَمَنْ كَسَرَ قَالَ هُوَ اسْمٌ
لِلشَّيْءِ الْمَخْرُوصِ قَوْلُهُ (عَنْ بُشَيْرِ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ
مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ) أَمَّا بُشَيْرٌ
فَبِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الشِّينِ وَأَمَّا
يَسَارٌ فَبِالْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَالسِّينُ مُهْمَلَةٌ
وَهُوَ بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ الْمَدَنِيُّ
الْأَنْصَارِيُّ الْحَارِثِيُّ مَوْلَاهُمْ قَالَ يَحْيَى
بْنُ مَعِينٍ لَيْسَ هُوَ بِأَخِي سُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ شَيْخًا
كَبِيرًا فَقِيهًا قَدْ أَدْرَكَ عَامَّةَ أَصْحَابُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَانَ قَلِيلَ الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ (مِنْ أَهْلِ
دَارِهِمْ) يَعْنِي بَنِي حَارِثَةَ وَالْمُرَادُ
بِالدَّارِ الْمَحَلَّةُ وَقَوْلُهُ (عَنْ بَعْضِ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ
بَعْضَهُمْ فَقَالَ مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حثمة
والبعض يطلق على القليل والكثير وحثمة بِفَتْحِ الْحَاءِ
الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ
وَاسْمُ أَبِي حَثْمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَاعِدَةَ
وَقِيلَ عَامِرُ بْنُ سَاعِدَةَ وَكُنْيَةُ سَهْلٍ أَبُو
يَحْيَى وَقِيلَ أَبُو مُحَمَّدٍ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بن ثمان سِنِينَ
قَوْلُهُ (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ يَعْنِي بن بلال عن يحيى هو بن سَعِيدٍ عَنْ
بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ
(10/185)
عَنْ بَعْضِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ
مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ) فِي هَذَا
الْإِسْنَادِ أَنْوَاعٌ مِنْ مَعَارِفِ عِلْمِ
الْإِسْنَادِ وَطُرُقِهِ مِنْهَا أَنَّهُ إِسْنَادٌ
كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ وَهَذَا نَادِرٌ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ بِخِلَافِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ
فَإِنَّهُ كَثِيرٌ قَدَّمْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ
مِنْ أَوَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ وَبَعْدَهَا بَيَانُهُ
وَمِنْهَا أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَنْصَارِيِّينَ
مَدَنِيِّينَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهَذَا نَادِرٌ
جِدًّا وَهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ
وَبُشَيْرٌ وَسَهْلٌ ومنها قوله سليمان يعنى بن بلال وقوله
يحيى وهو بن سَعِيدٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ
الَّتِي فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَبَعْدَهَا بَيَانُ
فَائِدَةِ قَوْلِهِ يَعْنِي وَقَوْلِهِ وَهُوَ وَأَنَّ
الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الرِّوَايَةِ بَيَانُ
نَسَبِهِمَا بَلِ اقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى قَوْلِهِ
سُلَيْمَانُ وَيَحْيَى فَأَرَادَ مُسْلِمٌ بَيَانَهُ وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ فَإِنَّهُ
يَزِيدُ عَلَى مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ فقال يعنى بن
بِلَالٍ فَحَصَلَ الْبَيَانُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ
مَنْسُوبَةٍ إِلَى شَيْخِهِ وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ
بِضَبْطِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ وَهُوَ بُشَيْرُ
بْنُ يَسَارٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالْقَعْنَبِيُّ وَهُوَ
مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ وَمِنْهَا أَنَّ فِيهِ رِوَايَةَ
تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ وَهُوَ يَحْيَى عَنْ بُشَيْرٍ
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَظَائِرُهُ فِي الْحَدِيثِ
كَثِيرَةً فَهُوَ مِنْ مَعَارِفِهِمْ وَمِنْهَا قَوْلُهُ
عن بعض أصحاب رسول الله مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي
حَثْمَةَ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا سَمِعَ مِنْ
جَمَاعَةٍ ثِقَاتٍ جَازَ أَنْ يَحْذِفَ بَعْضَهُمْ
وَيَرْوِيَ عَنْ بَعْضٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا
وَتَفْصِيلُهُ مَبْسُوطًا فِي الْفُصُولِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ
بْنِ بِلَالٍ) الذَّاكِرُ هُوَ الثَّقَفِيُّ الَّذِي هُوَ
فِي دَرَجَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ وَإِنَّمَا
ذَكَرْتُ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ قَدْ
يُغْلَطُ فِيهِ بَلْ قَدْ غُلِطَ فِيهِ قَوْلُهُ (غَيْرَ
أن إسحاق وبن مثنى جعلا مكان الربا الزبن وقال بن أبى عمر
الربا) يعنى
(10/186)
أن بن أبي عمر رفيق إسحاق وبن مُثَنَّى
قَالَ فِي رِوَايَتِهِ ذَلِكَ الرِّبَا كَمَا سَبَقَ فِي
رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ وَأَمَّا إسحاق وبن
مُثَنَّى فَقَالَا ذَلِكَ الزَّبْنُ وَهُوَ بِفَتْحِ
الزَّاي وَإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَهَا نُونٌ
وَأَصْلُ الزَّبْنِ الدَّفْعُ وَيُسَمَّى هَذَا الْعَقْدُ
مُزَابَنَةً لِأَنَّهُمْ يَتَدَافَعُونَ فِي
مُخَاصَمَتِهِمْ بِسَبَبِهِ لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ
وَالْخَطَرِ قَوْلُهُ (مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ)
بِالْحَاءِ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مولى بن أَبِي
أَحْمَدَ) قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدُ أَبُو
سُفْيَانَ هَذَا مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ قَالَ ويقال
مولى أبي أحمد وبن أَبِي أَحْمَدَ هُوَ مَوْلًى لِبَنِي
عَبْدِ الْأَشْهَلِ يقال كان له انقطاع إلى بن أَبِي
أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ فَنُسِبَ إِلَى وَلَائِهِمْ وَهُوَ
مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ
[1541] قَوْلُهُ (خَمْسَةُ أَوْسُقٍ) هِيَ جَمْعُ وَسْقٍ
بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيُقَالُ بِكَسْرِهَا وَالْفَتْحُ
أَفْصَحُ وَيُقَالُ فِي الْجَمْعِ
(10/187)
أيضا أوساق ووسوق قال الهروى كل شئ
حَمَلْتَهُ فَقَدْ وَسَقْتَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ الْوَسْقُ
ضَمُّ الشَّيْءِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ وَأَمَّا قَدْرُ
الْوَسْقِ فَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا وَالصَّاعُ خَمْسَةُ
أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ وَأَمَّا
الْعَرَايَا فَوَاحِدَتُهَا عَرِيَّةٌ بِتَشْدِيدِ
الْيَاءِ كَمَطِيَّةٍ وَمَطَايَا وَضَحِيَّةٍ وَضَحَايَا
مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعَرِّي وَهُوَ التَّجَرُّدُ
لِأَنَّهَا عَرِيَتْ عَنْ حُكْمِ بَاقِي البستان قال
الأزهرى والجمهور هي فعلية بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ وَقَالَ
الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ
مِنْ عَرَاهُ يَعْرُوهُ إِذَا أَتَاهُ وَتَرَدَّدَ
إِلَيْهِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَتَرَدَّدُ إِلَيْهَا
وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَخَلِّي صَاحِبِهَا
الْأَوَّلِ عَنْهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ نَخْلِهِ وَقِيلَ
غَيْرُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ
الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا تُبَاعُ
بِخَرْصِهَا) فِيهِ تَحْرِيمُ بَيْعِ الرُّطَبِ
بِالتَّمْرِ وَهُوَ الْمُزَابَنَةُ كَمَا فَسَّرَهُ فِي
الْحَدِيثِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الزَّبْنِ وَهُوَ
الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُدَافَعَةُ وَقَدِ اتَّفَقَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الرُّطَبِ
بِالتَّمْرِ فِي غَيْرِ الْعَرَايَا وَأَنَّهُ رِبًا
وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْعِنَبِ
بِالزَّبِيبِ وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ
الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ صَافِيَةٍ وَهِيَ
الْمُحَاقَلَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَقْلِ وَهُوَ
الْحَرْثُ وَمَوْضِعُ الزَّرْعِ وَسَوَاءٌ عِنْدَ
جُمْهُورِهِمْ كَانَ الرُّطَبُ وَالْعِنَبُ عَلَى
الشَّجَرِ أَوْ مَقْطُوعًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ
كَانَ مَقْطُوعًا جَازَ بَيْعُهُ بِمِثْلِهِ مِنَ
الْيَابِسِ وَأَمَّا الْعَرَايَا فَهِيَ أَنْ يَخْرُصَ
الْخَارِصُ نَخَلَاتٍ فَيَقُولَ هَذَا الرُّطَبُ الَّذِي
عَلَيْهَا إِذَا يَبِسَ تَجِيءُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْسُقٍ
(10/188)
من التمر مَثَلًا فَيَبِيعُهُ صَاحِبُهُ
لِإِنْسَانٍ بِثَلَاثَةِ أَوْسُقِ تَمْرٍ وَيَتَقَابَضَانِ
فِي الْمَجْلِسِ فَيُسَلِّمُ الْمُشْتَرِي التَّمْرَ
وَيُسَلِّمُ بَائِعُ الرُّطَبِ الرُّطَبَ بِالتَّخْلِيَةِ
وَهَذَا جَائِزٌ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَا
يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَفِي
جَوَازِهِ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ
أَصَحُّهُمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ
بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ وَجَاءَتِ الْعَرَايَا
رُخْصَةً وَشَكَّ الرَّاوِي فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ
دُونَهَا فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ وَهُوَ دُونَ
خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَبَقِيَتِ الْخَمْسَةُ عَلَى
التَّحْرِيمِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي
غَيْرِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ مِنَ الثِّمَارِ وَفِيهِ
قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْفُقَرَاءِ وَقَوْلٌ
إِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ هَذَا
تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَرِيَّةِ وَبِهِ
قَالَ أَحْمَدُ وَآخَرُونَ وَتَأَوَّلَهَا مَالِكٌ وَأَبُو
حَنِيفَةَ عَلَى غَيْرِ هَذَا وظواهر الأحاديث ترد تأويلها
قَوْلُهُ (رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ
أَوْ بِالتَّمْرِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ)
فِيهِ دَلَالَةٌ لِأَحَدِ أَوْجُهِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ
يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِالرُّطَبِ
عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَصَحُّ عند جمهوره بطلانهة
وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى أَنَّ أَوْ
لِلشَّكِّ لَا لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ بَلْ
مَعْنَاهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِهَا بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ
وَشَكَّ
(10/189)
فِيهِ الرَّاوِي فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ التَّمْرُ كما صرح به في سائر الروايات
(باب من باع نخلا عليها تمر
[1543] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ
بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ
إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) قَالَ أَهْلُ
اللُّغَةِ يُقَالُ أَبَرْتُ النَّخْلَ آبُرُهُ أَبْرًا
بِالتَّخْفِيفِ كَأَكَلْتُهُ أَكْلًا وَأَبَّرْتُهُ
بالتشديد أؤبره تَأْبِيرًا كَعَلَّمْتُهُ أُعَلِّمُهُ
تَعْلِيمًا وَهُوَ أَنْ يَشُقَّ طلع النخلة ليذر فيه شئ
مِنْ طَلْعِ ذَكَرِ النَّخْلِ وَالْإِبَارُ هُوَ شَقُّهُ)
(10/190)
سواء حط فيه شيء أولا وَلَوْ تَأَبَّرَتْ
بِنَفْسِهَا أَيْ تَشَقَّقَتْ فَحُكْمُهَا فِي الْبَيْعِ
حُكْمُ الْمُؤَبَّرَةِ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ هَذَا
مَذْهَبُنَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِبَارِ
لِلنَّخْلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَقَدْ أَجْمَعُوا
عَلَى جَوَازِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ
بَيْعِ النَّخْلِ الْمَبِيعَةِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ
وَقَبْلَهُ هَلْ تَدْخُلُ فِيهَا الثَّمَرَةُ عِنْدَ
إِطْلَاقِ بَيْعِ النَّخْلَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ
لِلثَّمَرَةِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ فَقَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَكْثَرُونَ إِنْ بَاعَ
النَّخْلَةَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ فَثَمَرَتُهَا
لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُشْتَرِي
بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتُ النَّخْلَةَ بِثَمَرَتِهَا
هَذِهِ وَإِنْ بَاعَهَا قَبْلَ التَّأْبِيرِ فَثَمَرَتُهَا
لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ شَرَطَهَا الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ
جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ وَقَالَ
مَالِكٌ لَا يَجُوزُ شَرْطُهَا لِلْبَائِعِ وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ هِيَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ
وَبَعْدَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وقال بن أَبِي لَيْلَى
هِيَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّأْبِيرِ وَبَعْدَهُ
فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ فَأَخَذُوا فِي
الْمُؤَبَّرَةِ بِمَنْطُوقِ الْحَدِيثِ وَفِي غَيْرِهَا
بِمَفْهُومِهِ وَهُوَ دَلِيلُ الْخِطَابِ وَهُوَ حُجَّةٌ
عِنْدَهُمْ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَخَذَ
بِمَنْطُوقِهِ فِي الْمُؤَبَّرَةِ وَهُوَ لَا يَقُولُ
بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فَأَلْحَقَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ
بِالْمُؤَبَّرَةِ وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنَّ
الظَّاهِرَ يُخَالِفُ الْمُسْتَتِرَ فِي بَيْعِ حُكْمِ
التَّبَعِيَّةِ فِي الْبَيْعِ كَمَا أَنَّ الْجَنِيَنَ
يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْبَيْعِ وَلَا يَتْبَعُهَا
الْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ وأما بن أَبِي لَيْلَى فَقَوْلُهُ
بَاطِلٌ مَنَابِذٌ لِصَرِيحِ السُّنَّةِ وَلَعَلَّهُ لَمْ
يَبْلُغْهُ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا
فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ
الْمُبْتَاعُ) هَكَذَا رَوَى هَذَا الْحُكْمَ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رواية سالم عن أبيه عن بن
عُمَرَ وَلَمْ تَقَعْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي حَدِيثِ
نافع عن بن عُمَرَ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ فَسَالِمٌ ثِقَةٌ
بَلْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ نَافِعٍ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ
وَقَدْ أَشَارَ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ إِلَى
تَرْجِيحِ رِوَايَةِ نَافِعٍ وَهَذِهِ إِشَارَةٌ
مَرْدُودَةٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَالِكٍ
وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمِ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا
مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ مَالًا مَلَكَهُ لَكِنَّهُ إِذَا
بَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ
(10/191)
مَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ
يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ
لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ شَيْئًا أَصْلًا وَتَأَوَّلَا
الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ فِي يد
العبد شئ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ فَأُضِيفَ ذَلِكَ الْمَالُ
إِلَى الْعَبْدِ لِلِاخْتِصَاصِ وَالِانْتِفَاعِ لَا
لِلْمِلْكِ كَمَا يُقَالُ جُلُّ الدَّابَّةِ وَسَرْجُ
الْفَرَسِ وَإِلَّا فَإِذَا بَاعَ السَّيِّدُ الْعَبْدَ
فَذَلِكَ الْمَالُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ إِلَّا
أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ فَيَصِحُّ لِأَنَّهُ
يَكُونُ قَدْ بَاعَ شَيْئَيْنِ الْعَبْدَ وَالْمَالَ
الَّذِي فِي يَدِهِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ
قَالَا وَيُشْتَرَطُ الِاحْتِرَازُ مِنَ الرِّبَا قَالَ
الشَّافِعِيُّ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ دَرَاهِمَ لَمْ
يَجُزْ بَيْعُ الْعَبْدِ وَتِلْكَ الدَّرَاهِمِ
بِدَرَاهِمَ فَكَذَا إِنْ كَانَ دَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ
بَيْعُهَا بِذَهَبٍ وَإِنْ كَانَ حِنْطَةً لَمْ يَجُزْ
بَيْعُهَا بِحِنْطَةٍ وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ أَنْ
يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ
وَالثَّمَنُ دَرَاهِمُ وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ
لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ قَالَ وَكَأَنَّهُ لَا حِصَّةَ
لِلْمَالِ مِنَ الثَّمَنِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ
لِلْأَصَحِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إِذَا بَاعَ
الْعَبْدَ أَوِ الْجَارِيَةَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ لَمْ
تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ بَلْ تَكُونُ لِلْبَائِعِ إِلَّا
أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ لِأَنَّهُ مَالٌ فِي
الْجُمْلَةِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَدْخُلُ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ يَدْخُلُ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ فَقَطْ
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ
وَلَا غَيْرُهُ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ
اسْمَ الْعَبْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الثِّيَابَ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ عن
الْمُخَابَرَةِ وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ (قَبْلَ بُدُوِّ
صَلَاحِهَا وَعَنْ بَيْعِ الْمُعَاوَمَةِ وَهُوَ بَيْعُ
السِّنِينَ) أَمَّا الْمُحَاقَلَةُ وَالْمُزَابَنَةُ
وَبَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَسَبَقَ
بَيَانُهَا فِي الْبَابِ الْمَاضِي وَأَمَّا
الْمُخَابَرَةُ فَهِيَ)
(10/192)
وَالْمُزَارَعَةُ مُتَقَارِبَتَانِ وَهُمَا
الْمُعَامَلَةُ عَلَى الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ
مِنْهَا مِنَ الزَّرْعِ كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمَعْلُومَةِ لَكِنْ فِي
الْمُزَارَعَةِ يَكُونُ الْبَذْرُ مِنْ مَالِكِ الْأَرْضِ
وَفِي الْمُخَابَرَةِ يَكُونُ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ
هَكَذَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ
نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ هُمَا
بِمَعْنًى قَالُوا وَالْمُخَابَرَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ
الْخَبَرِ وَهُوَ الْأَكَّارُ أَيِ الْفَلَّاحُ هَذَا
قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْخِبَارِ
وَهِيَ الْأَرْضُ اللَّيِّنَةُ وَقِيلَ مِنَ الْخُبْرَةِ
وَهِيَ النَّصِيبُ وَهِيَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَقَالَ
الْجَوْهَرِيُّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هِيَ النَّصِيبُ مِنْ
سَمَكٍ أَوْ لَحْمٍ يُقَالُ تَخَبَّرُوا خُبْرَةً إِذَا
اشْتَرَوْا شَاةً فَذَبَحُوهَا وَاقْتَسَمُوا لَحْمَهَا
وقال بن الْأَعْرَابِيِّ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَيْبَرَ
لِأَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ كَانَ فِيهَا وَفِي
صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُخَابَرَةِ خِلَافٌ
مَشْهُورٌ لِلسَّلَفِ وَسَنُوَضِّحُهُ فِي بَابٍ بَعْدَهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ
بَيْعِ الْمُعَاوَمَةِ وَهُوَ بَيْعُ السِّنِينَ
فَمَعْنَاهُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ الشَّجَرَةِ عَامَيْنِ
أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَيُسَمَّى بَيْعُ
الْمُعَاوَمَةِ وَبَيْعُ السِّنِينَ وَهُوَ باطل بالإجماع
نقل الإجماع فيه بن الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ لِهَذِهِ
الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ لِأَنَّهُ بَيْعُ
مَعْدُومٍ وَمَجْهُولٍ غَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ
وَغَيْرِ مَمْلُوكٍ لِلْعَاقِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1536] قَوْلُهُ (نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى
يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَلَا يُبَاعُ إِلَّا بِالدِّينَارِ
وَالدِّرْهَمِ إِلَّا الْعَرَايَا) مَعْنَاهُ لَا يُبَاعُ
الرُّطَبُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ بِتَمْرٍ بَلْ يُبَاعُ
بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَغَيْرِهِمَا
وَالْمُمْتَنِعُ إِنَّمَا هُوَ بَيْعُهُ
(10/193)
بِالتَّمْرِ إِلَّا الْعَرَايَا فَيَجُوزُ
بَيْعُ الرُّطَبِ فِيهَا بِالتَّمْرِ بِشَرْطِهِ
السَّابِقِ فِي بَابِهِ قَوْلُهُ (نَهَى عَنْ بَيْعِ
الثَّمَرَةِ حَتَّى تُطْعِمَ) هُوَ بِضَمِّ التَّاءِ
وَكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ يَبْدُو صَلَاحُهَا وَتَصِيرُ
طعاما يطيب أكلها قوله (نهى وأن يُشْتَرَى النَّخْلُ
حَتَّى يَشْقَهَ وَالْإشْقَاهُ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ
يَصْفَرَّ) وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى تُشْقِحَ بِالْحَاءِ
هُوَ بِضَمِّ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ فِيهِمَا
وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ الشِّينَ فِي
تَشْقَهُ وَهُمَا جَائِزَانِ تَشْقَهُ وَتُشْقِحُ
وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ تَشْقَهُ
وَقَالَ الْمَعْرُوفُ بِالْحَاءِ وَالصَّحِيحُ
جَوَازُهُمَا وَقِيلَ إِنَّ الْهَاءَ بَدَلٌ مِنَ الْحَاءِ
كَمَا قَالُوا مَدْحَهُ وَمَدْهَهُ وَقَدْ فَسَّرَ
الرَّاوِي الْإِشْقَاهَ وَالْإِشْقَاحَ بِالِاحْمِرَارِ
وَالِاصْفِرَارِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ
فِي ذَلِكَ حَقِيقَةُ الِاصْفِرَارِ وَالِاحْمِرَارِ بَلْ
يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ هَذَا
(10/194)
الِاسْمُ إِذَا تَغَيَّرَ يَسِيرًا إِلَى
الْحُمْرَةِ أَوِ الصُّفْرَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ
الشَّقْحَةُ لَوْنٌ غَيْرُ خَالِصِ الْحُمْرَةِ أَوِ
الصُّفْرَةِ بَلْ هُوَ تَغَيُّرٌ إِلَيْهِمَا فِي
كُمُودَةٍ قَوْلُهُ (سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ) بِفَتْحِ
السين وحيان بالمثناة وسعيد بْنُ مِينَاءَ بِالْمَدِّ
وَالْقَصْرِ قَوْلُهُ (نَهَى عَنِ الثُّنْيَا) هِيَ
اسْتِثْنَاءٌ وَالْمُرَادُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْبَيْعِ
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ نَهَى عَنِ الثُّنْيَا إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ
وَالثُّنْيَا الْمُبْطِلَةُ لِلْبَيْعِ قَوْلُهُ بِعْتُكَ
هَذِهِ الصُّبْرَةَ إِلَّا بَعْضَهَا وَهَذِهِ
الْأَشْجَارَ أَوِ الْأَغْنَامَ أَوِ الثِّيَابَ
وَنَحْوَهَا إِلَّا بَعْضَهَا فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ
لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولٌ فَلَوْ قَالَ بِعْتُكَ
هَذِهِ الْأَشْجَارَ إِلَّا هَذِهِ الشَّجَرَةَ أَوْ
هَذِهِ الشَّجَرَةَ إِلَّا رُبُعَهَا أَوِ الصُّبْرَةَ
إِلَّا ثُلُثَهَا أَوْ بِعْتُكَ بِأَلْفٍ إِلَّا دِرْهَمًا
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الثُّنْيَا الْمَعْلُومَةِ
صَحَّ الْبَيْعُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ بَاعَ
الصُّبْرَةَ إِلَّا صَاعًا مِنْهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَحَّحَ مَالِكٌ
أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهَا مَا لَا يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِهَا
أَمَّا إِذَا بَاعَ ثَمَرَةَ نَخْلَاتٍ فَاسْتَثْنَى مِنْ
ثَمَرِهَا عَشَرَةَ آصُعٍ مَثَلًا لِلْبَائِعِ فَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً
بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَزِدْ
عَلَى قَدْرِ ثُلُثِ الثَّمَرَةِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا
أَبُو الْوَلِيدِ الْمَكِّيُّ عَنْ جَابِرٍ) وَفِي رواية
أخرى سعيد بن ميناء عن جابر قال بن أَبِي حَاتِمٍ أَبُو
الْوَلِيدِ هَذَا اسْمُهُ يَسَارٌ قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ
هَذَا غَلَطٌ إِنَّمَا هُوَ سعيد بن مِينَاءَ الْمَذْكُورُ
بِاسْمِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ بينه
البخارى في تاريخه
(10/195)
(باب كراء الارض قَوْلُهُ (عَنْ جَابِرٍ
قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ) وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ
كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ أَنْ يَزْرَعَهَا وَعَجَزَ عَنْهَا
فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَلَا يُؤَاجِرْهَا
إِيَّاهُ وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ
فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ وَلَا
يُكْرِهَا وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ
وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا
أَخَاهُ وَلَا تَبِيعُوهَا وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي
بِالْكِرَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ
فَلْيُحْرِثْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيَدَعْهَا وَفِي
رِوَايَةٍ كُنَّا نَأْخُذُ الْأَرْضَ بِالثُّلُثِ
وَالرُّبُعِ بِالْمَاذِيَانَاتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ
مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا فَإِنْ لَمْ
يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ لَمْ
يَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَلْيُمْسِكْهَا وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ
كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَهَبْهَا أَوْ لِيُعِرْهَا وَفِي
رِوَايَةٍ نَهَى عَنْ بَيْعِ أَرْضٍ بَيْضَاءَ سَنَتَيْنِ
أَوْ ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنِ الحقول)
(10/196)
وَفَسَّرَهُ جَابِرٌ بِكِرَاءِ الْأَرْضِ
وَمِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ أبى سعيد الخدرى وفي رواية بن
عُمَرَ كُنَّا نُكْرِي أَرْضَنَا ثُمَّ تَرَكْنَا ذَلِكَ
حِينَ سَمِعْنَا حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَفِي
رِوَايَةٍ عَنْهُ كُنَّا لَا نَرَى بِالْخَبَرِ بَأْسًا
حَتَّى كَانَ عَامَ أَوَّلَ فَزَعَمَ رَافِعٌ أَنَّ
نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
عنه وفي رواية عن نافع أن بن عُمَرَ كَانَ يُكْرِي
مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ
بَلَغَهُ آخِرَ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَافِعَ بْنَ
خَدِيجٍ يُحَدِّثُ فِيهَا بِنَهْيٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَنَا
مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ
الْمَزَارِعِ فتركها بن عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ
حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ
خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ
فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ
يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ
وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ
فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا
وَيَهْلِكُ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا
هَذَا فَلِذَلِكَ زَجَرَ عنه فأما شئ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ
فَلَا بَأْسَ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ كُنَّا نُكْرِي
الْأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ
فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هذه
(10/197)
فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا الْوَرِقُ
فَلَمْ يَنْهَنَا وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَعْقِلٍ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ قَالَ
زَعَمَ ثَابِتٌ يَعْنِي بن الضَّحَّاكِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ
الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ وَقَالَ لَا
بَأْسَ بِهِ أَمَّا الْمَاذِيَانَاتُ فَبِذَالٍ مُعْجَمَةٍ
مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ ثُمَّ أَلِفٍ
ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ أَلِفٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ هَذَا
هُوَ الْمَشْهُورُ وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ
الرُّوَاةِ فَتْحَ الذَّالِ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ
وَهِيَ مَسَايِلُ الْمِيَاهِ وَقِيلَ مَا يَنْبُتُ عَلَى
حَافَّتَيْ مَسِيلِ الْمَاءِ وَقِيلَ مَا يَنْبُتُ حَوْلَ
السَّوَاقِي وَهِيَ لَفْظَةٌ مُعَرَّبَةٌ لَيْسَتْ
عَرَبِيَّةً وَأَمَّا قوله وإقبال فبفتح الهمزة أي أوائلها
ورؤسها وَالْجَدَاوِلُ جَمْعُ جَدْوَلٍ وَهُوَ النَّهْرُ
الصَّغِيرُ كَالسَّاقِيَةِ وَأَمَّا الرَّبِيعُ فَهُوَ
السَّاقِيَةُ الصَّغِيرَةُ وَجَمْعُهُ أَرْبِعَاءُ
كَنَبِيٍّ وَأَنْبِيَاءَ وَرِبْعَانُ كَصَبِيٍّ
وَصِبْيَانَ وَمَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُمْ
كَانُوا يَدْفَعُونَ الْأَرْضَ إِلَى مَنْ يَزْرَعُهَا
بِبَذْرٍ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِمَالِكِ
الْأَرْضِ مَا يَنْبُتُ عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ
وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ أَوْ هَذِهِ الْقِطْعَةِ
وَالْبَاقِي لِلْعَامِلِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ
مِنَ الْغَرَرِ فَرُبَّمَا هَلَكَ هَذَا دُونَ ذَاكَ
وَعَكْسُهُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كِرَاءِ
الْأَرْضِ فَقَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا
يَجُوزُ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ أَكْرَاهَا بِطَعَامٍ أَوْ
ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْ زَرْعِهَا
لِإِطْلَاقِ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَكَثِيرُونَ
تَجُوزُ إِجَارَتُهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَبِالطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ
سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُزْرَعُ فِيهَا أَمْ مِنْ
غَيْرِهِ وَلَكِنْ لَا تَجُوزُ إِجَارَتُهَا بِجُزْءِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَهِيَ
الْمُخَابَرَةُ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَشْتَرِطَ
لَهُ زَرْعَ قِطْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَقَالَ رَبِيعَةُ
يَجُوزُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَطْ وَقَالَ مَالِكٌ
يَجُوزُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا إِلَّا
الطَّعَامَ وَقَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَآخَرُونَ تَجُوزُ إِجَارَتُهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَتَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وغيرهما
وبهذا قال بن شريح وبن خُزَيْمَةَ وَالْخَطَّابِيُّ
وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا وَهُوَ
الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ وَسَنُوَضِّحُهُ فِي بَابِ
الْمُسَاقَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا
طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُجَّتَهُمَا
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ فَاعْتَمَدُوا
بِصَرِيحِ رِوَايَةِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَثَابِتِ بْنِ
الضَّحَّاكِ السَّابِقَيْنِ فِي جَوَازِ الْإِجَارَةِ
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا وَتَأَوَّلُوا
أَحَادِيثَ النَّهْيِ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا حَمْلُهَا
عَلَى إِجَارَتِهَا بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ أَوْ
بِزَرْعِ قِطْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ بِالثُّلُثِ
وَالرُّبُعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ الرُّوَاةُ
فِي هَذِهِ
(10/198)
الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا
وَالثَّانِي حَمْلُهَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ
وَالْإِرْشَادِ إِلَى إِعَارَتِهَا كَمَا نَهَى عَنْ
بَيْعِ الْغَرَرِ نَهْيَ تَنْزِيهٍ بَلْ يَتَوَاهَبُونَهُ
وَنَحْوَ ذلك وهذان التأولان لابد مِنْهُمَا أَوْ مِنْ
أَحَدِهِمَا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَقَدْ
أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الثَّانِي الْبُخَارِيُّ
وغيره ومعناه عن بن عَبَّاسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أوليزرعها أَخَاهُ)
أَيْ يَجْعَلْهَا مَزْرَعَةً لَهُ وَمَعْنَاهُ يُعِيرُهُ
إِيَّاهَا بِلَا عِوَضٍ وَهُوَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَالنُّونِ أَيْ يَجْعَلُهَا مَنِيحَةً أَيْ عَارِيَةً
وَأَمَّا الْكِرَاءُ فَمَمْدُودٌ وَيُكْرِي بِضَمِّ
الْيَاءِ قَوْلُهُ (فَتُصِيبُ مِنَ الْقِصْرِيِّ) هُوَ
بِقَافٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ صَادٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ
ثُمَّ رَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى
وَزْنِ الْقِبْطِيِّ هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَكَذَا ضَبَطَهُ
الْجُمْهُورُ وَهُوَ المشهور قال
(10/199)
الْقَاضِي هَكَذَا رُوِّينَاهُ عَنْ
أَكْثَرِهِمْ وَعَنِ الطَّبَرِيِّ بفتح القاف والراء مقصور
وعن بن الخزاعى بضم
(10/200)
القاف مقصور قال والصواب الأول وهو مَا
بَقِيَ مِنَ الْحَبِّ فِي السُّنْبُلِ بَعْدَ الدِّيَاسِ
وَيُقَالُ لَهُ الْقُصَارَةُ بِضَمِّ الْقَافِ وَهَذَا
الِاسْمُ أَشْهَرُ مِنَ الْقِصْرِيِّ
[1547] قَوْلُهُ (كُنَّا لَا نَرَى بِالْخِبْرِ بَأْسًا)
ضَبَطْنَاهُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا وَالْكَسْرُ
أَصَحُّ وَأَشْهَرُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوْهَرِيُّ
وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرَهُ وَحَكَى
الْقَاضِي فِيهِ
(10/201)
الْكَسْرَ وَالْفَتْحَ وَالضَّمَّ
وَرَجَّحَ الْكَسْرَ ثُمَّ الْفَتْحَ وَهُوَ بِمَعْنَى
الْمُخَابَرَةِ قَوْلُهُ (أَتَاهُ بِالْبَلَاطِ) هُوَ بفتح
الباء
(10/202)
مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ
مُبَلَّطٌ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ بِقُرْبِ مَسْجِدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله
(عن نافع أن بن عُمَرَ كَانَ يَأْخُذُ الْأَرْضَ فَنُبِّئَ
حَدِيثًا عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) فَذَكَرُوا فِي
آخِرِهِ فَتَرَكَهُ بن عُمَرَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ هَكَذَا
هُوَ فِي كَثِيرٍ من النسخ يأخذ بالخاء والدال مِنَ
الْأَخْذِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا يَأْجُرْ بِالْجِيمِ
الْمَضْمُومَةِ وَالرَّاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ
الْقَاضِي وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ
لِجُمْهُورِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ صَاحِبُ
الْمَطَالِعِ وَالْأَوَّلُ تَصْحِيفٌ وَفِي بَعْضِ
النُّسَخِ يُؤَاجِرْ وَهَذَا صَحِيحٌ قَوْلُهُ (أَنَّ عبد
الله بن عمر كان يكرى أرضه) كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ
أَرَضِيهِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ عَلَى
الْجَمْعِ وَفِي بَعْضِهَا أَرْضَهُ على الافراد وكلاهما
صحيح
(10/203)
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ عَنْ
رَافِعٍ أَنَّ ظَهِيرَ بْنَ رَافِعٍ وَهُوَ عَمُّهُ قَالَ
أَتَانِي ظَهِيرٌ فَقَالَ لَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَكَذَا هُوَ فِي
جَمِيعِ النُّسَخِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَتَقْدِيرُهُ عَنْ
رَافِعٍ أَنَّ ظَهِيرًا عَمَّهُ حَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ قَالَ
رَافِعٌ فِي بَيَانِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَتَانِي ظَهِيرٌ
فَقَالَ لَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا التَّقْدِيرُ دَلَّ عَلَيْهِ
فَحْوَى الْكَلَامِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ
أَنْبَأَنِي بَدَلَ أَتَانِي وَالصَّوَابُ الْمُنْتَظِمُ
أَتَانِي مِنَ الْإِتْيَانِ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
(نُؤَاجِرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الرَّبِيعِ أَوِ
الْأَوْسُقِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ الربيع
وهو السَّاقِيَّةُ وَالنَّهْرُ الصَّغِيرُ وَحَكَى
الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ بن مَاهَانَ الرُّبْعَ بِضَمِّ
الرَّاءِ وَبِحَذْفِ الْيَاءِ وَهُوَ أيضا صحيح
(10/205)
[1550] قَوْلُهُ (إِنَّ مُجَاهِدًا قَالَ
لِطَاوُسٍ انْطَلِقْ بِنَا إلى بن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
فَاسْمَعْ مِنْهُ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ) رُوِيَ
فَاسْمَعْ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ مَجْزُومًا عَلَى
الْأَمْرِ وَبِقَطْعِهَا مَرْفُوعًا عَلَى الْخَبَرِ
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَأْخُذُ عَلَيْهَا
خَرْجًا) أَيْ أُجْرَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(10/207)
كتاب المساقاة والمزارعة
[1551] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ
(10/208)
وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَطْرُ ثَمَرِهَا فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
وَجَمِيعُ فُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أبو حنيفة لا يجوز
وتأويل هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى أَنَّ خَيْبَرَ
فُتِحَتْ عَنْوَةً وَكَانَ أَهْلُهَا عَبِيدًا لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَخَذَهُ
فَهُوَ لَهُ وَمَا تَرَكَهُ فَهُوَ لَهُ وَاحْتَجَّ
الْجُمْهُورُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُقِرُّكُمْ ما أقركم الله وهذا حديث صَرِيحٌ فِي
أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَبِيدًا قَالَ الْقَاضِي وَقَدِ
اخْتَلَفُوا فِي خَيْبَرَ هَلْ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ
صُلْحًا أَوْ بِجَلَاءِ أَهْلِهَا عَنْهَا بِغَيْرِ
قِتَالٍ أَوْ بَعْضُهَا صُلْحًا وَبَعْضُهَا عَنْوَةً
وبعضها جلاء عَنْهُ أَهْلُهُ أَوْ بَعْضُهَا صُلْحًا
وَبَعْضُهَا عَنْوَةً قَالَ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ
وَهِيَ رِوَايَةُ مَالِكٍ ومن تابعه وبه قال بن عُيَيْنَةَ
قَالَ وَفِي كُلِّ قَوْلٍ أَثَرٌ مَرْوِيٌّ وَفِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ
أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا وَكَانَتِ الْأَرْضُ
حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا يَدُلُّ لِمَنْ قَالَ عَنْوَةً
إِذْ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَنْوَةِ
وَظَاهِرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ صُلْحًا أَنَّهُمْ صُولِحُوا
عَلَى كَوْنِ الْأَرْضِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا تَجُوزُ عَلَيْهِ
الْمُسَاقَاةُ مِنَ الْأَشْجَارِ فَقَالَ دَاوُدُ يَجُوزُ
عَلَى النَّخْلِ خَاصَّةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى
النَّخْلِ وَالْعِنَبِ خَاصَّةً وَقَالَ مَالِكٌ تَجُوزُ
عَلَى جَمِيعِ الْأَشْجَارِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ
فَأَمَّا دَاوُدُ فَرَآهَا رُخْصَةً فَلَمْ يَتَعَدَّ
فِيهِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ
فَوَافَقَ دَاوُدَ فِي كَوْنِهَا رُخْصَةً لَكِنْ قَالَ
حُكْمُ الْعِنَبِ حُكْمُ النَّخْلِ فِي مُعْظَمِ
الْأَبْوَابِ وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ سَبَبُ الْجَوَازِ
الْحَاجَةُ وَالْمَصْلَحَةُ وَهَذَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ
فَيُقَاسُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (بشطر ما
يخرج
(10/209)
منها) فيه بَيَانِ الْجُزْءِ الْمُسَاقَى
عَلَيْهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ
الْأَجْزَاءِ الْمَعْلُومَةِ فَلَا يجوز على مجهول كقوله
على أن لك بَعْضُ الثَّمَرِ وَاتَّفَقَ الْمُجَوِّزُونَ
لِلْمُسَاقَاةِ عَلَى جَوَازِهَا بِمَا اتَّفَقَ
الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ
قَوْلُهُ (مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ) يَحْتَجُّ بِهِ
الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ فِي
جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ وَإِنْ
كَانَتِ الْمُزَارَعَةُ عِنْدَهُمْ لَا تَجُوزُ
مُنْفَرِدَةً فَتَجُوزُ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ
فَيُسَاقِيهِ عَلَى النَّخْلِ وَيُزَارِعُهُ عَلَى
الْأَرْضِ كَمَا جَرَى فِي خَيْبَرَ وَقَالَ مَالِكٌ لَا
تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ لَا مُنْفَرِدَةً وَلَا تَبَعًا
إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَرْضِ بَيْنَ الشَّجَرِ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ الْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ
فَاسِدَتَانِ سَوَاءٌ جَمَعَهُمَا أَوْ فرقهما ولو عقدتا
فسختا وقال بن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ وفقهاء المحدثين وأحمد وبن خزيمة
وبن شُرَيْحٍ وَآخَرُونَ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ
وَالْمُزَارَعَةُ مُجْتَمِعَتَيْنِ وَتَجُوزُ كُلُّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةً وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ
الْمُخْتَارُ لِحَدِيثِ خَيْبَرَ وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَى
كَوْنِ الْمُزَارَعَةِ فِي خَيْبَرَ إِنَّمَا جَازَتْ
تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ بَلْ جَازَتْ مُسْتَقِلَّةً
وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِلْمُسَاقَاةِ
مَوْجُودٌ فِي الْمُزَارَعَةِ قِيَاسًا عَلَى الْقِرَاضِ
فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ كَالْمُزَارَعَةِ
فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ
الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى
الْعَمَلِ بِالْمُزَارَعَةِ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ
السَّابِقَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُخَابَرَةِ فَسَبَقَ
الْجَوَابُ عَنْهَا وَأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا
إِذَا شَرَطَا لِكُلِّ وَاحِدٍ قطعة معينة من الأرض وقد
صنف
(10/210)
بن خُزَيْمَةَ كِتَابًا فِي جَوَازِ
الْمُزَارَعَةِ وَاسْتَقْصَى فِيهِ وَأَجَادَ وَأَجَابَ
عَنِ الْأَحَادِيثِ بِالنَّهْيِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُقِرُّكُمْ
فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) وَفِي رِوَايَةِ
الْمُوَطَّأِ أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ قَالَ
الْعُلَمَاءُ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى مُدَّةِ الْعَهْدِ
وَالْمُرَادُ إِنَّمَا نُمَكِّنُكُمْ مِنَ الْمُقَامِ فِي
خَيْبَرَ مَا شِئْنَا ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ إِذَا شِئْنَا
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
عَازِمًا عَلَى إِخْرَاجِ الْكُفَّارِ مِنْ جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ كَمَا أَمَرَ بِهِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَكَمَا
دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ وَاحْتَجَّ
أَهْلُ الظَّاهِرِ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ
مُدَّةً مَجْهُولَةً وَقَالَ الْجُمْهُورُ لَا تَجُوزُ
الْمُسَاقَاةُ إِلَّا إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ
كَالْإِجَارَةِ وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ على ما ذكرناه
وقيل جَازَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ
مَعْنَاهُ أَنَّ لَنَا إِخْرَاجَكُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْمُدَّةِ الْمُسَمَّاةِ وَكَانَتْ سُمِّيَتْ مُدَّةً
وَيَكُونُ الْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ
لَيْسَتْ بِعَقْدٍ دَائِمٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ بَلْ
بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ تَنْقَضِي الْمُسَاقَاةُ
فَإِنْ شِئْنَا عَقَدْنَا عَقْدًا آخَرَ وَإِنْ شِئْنَا
أَخْرَجْنَاكُمْ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ إِذَا أَطْلَقَا
الْمُسَاقَاةَ اقْتَضَى ذَلِكَ سَنَةً واحدة والله أعلم
قَوْلُهُ (عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)
بَيَانٌ لِوَظِيفَةِ عَامِلِ الْمُسَاقَاةِ وَهُوَ أَنَّ
عَلَيْهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي إِصْلَاحِ
الثَّمَرِ وَاسْتِزَادَتِهِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ كُلَّ
سَنَةٍ كَالسَّقْيِ وَتَنْقِيَةِ الْأَنْهَارِ وَإِصْلَاحِ
مَنَابِتِ الشَّجَرِ وَتَلْقِيحِهِ وَتَنْحِيَةِ
الْحَشِيشِ وَالْقُضْبَانِ عنه وحفظ الثمرة وجذابها
وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا يُقْصَدُ بِهِ حِفْظُ
الْأَصْلِ وَلَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ كَبِنَاءِ
الْحِيطَانِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ فَعَلَى الْمَالِكِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ
كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ وَسْقٍ ثَمَانِينَ وَسْقًا مِنْ
تَمْرٍ وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ) قَالَ
الْعُلَمَاءُ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَيَاضَ
الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الزَّرْعِ
أَقَلُّ مِنَ الشَّجَرِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ
الْأَرْضَ الَّتِي تُفْتَحُ عَنْوَةً تُقَسَّمُ بَيْنَ
الْغَانِمِينَ الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا كَمَا تُقَسَّمُ
بَيْنَهُمُ الْغَنِيمَةُ الْمَنْقُولَةُ بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَسَمَ خَيْبَرَ بَيْنَهُمْ وقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
يَقِفُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَرْضِ سَوَادِ
الْعِرَاقِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ
يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فِي
قِسْمَتِهَا أَوْ تَرْكِهَا فِي أَيْدِي مَنْ كَانَتْ
لَهُمْ
(10/211)
بِخَرَاجٍ يُوَظِّفُهُ عَلَيْهَا وَتَصِيرُ
مِلْكًا لَهُمْ كَأَرْضِ الصُّلْحِ قَوْلُهُ (وَكَانَ
الثَّمَرُ يُقْسَمُ عَلَى السُّهْمَانِ فِي نِصْفِ
خَيْبَرَ فَيَأْخُذُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
خَيْبَرَ فُتِحَتْ عَنْوَةً لِأَنَّ السُّهْمَانَ كَانَتْ
لِلْغَانِمِينَ وَقَوْلُهُ يَأْخُذُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ أَيْ
يَدْفَعُهُ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ وَهُمْ خَمْسَةُ
الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول
فَيَأْخُذُ لِنَفْسِهِ خُمُسًا وَاحِدًا مِنَ الْخُمُسِ
وَيَصْرِفُ الْأَخْمَاسَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الْخُمُسِ
إِلَى الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِينَ وَاعْلَمْ
أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مَعَ أَهْلِ خيبر كانتا برضى
الْغَانِمِينَ وَأَهْلِ السُّهْمَانِ وَقَدِ اقْتَسَمَ
أَهْلُ السُّهْمَانِ بَيْنَ الْمُسْتَحَقِّينَ وَسَلَّمَ
إِلَيْهِمْ نَفْسَ الْأَرْضِ حِينَ أَخَذَهَا مِنَ
الْيَهُودِ حِينَ أَجْلَاهُمْ عَنْهَا قَوْلُهُ
(فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ)
هُمَا مَمْدُودَتَانِ وَهُمَا قَرْيَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أن
(10/212)
مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ بَعْضِهَا
وَهُوَ الْحِجَازُ خَاصَّةً لِأَنَّ تَيْمَاءَ مِنْ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحِجَازِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فَضْلِ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ
[1552] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا
مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أَكْلَ
مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ
وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا
أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَلَا يَرْزَؤُهُ
أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ) وَفِي رِوَايَةٍ لَا
يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا
فَيَأْكُلُ منه انسان ولا دابة ولا شئ إِلَّا كَانَتْ لَهُ
صَدَقَةٌ وَفِي رِوَايَةٍ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
فَضِيلَةُ الْغَرْسِ وَفَضِيلَةُ الزَّرْعِ وَأَنَّ أجر
فاعلى ذلك مستمر مادام الْغِرَاسُ وَالزَّرْعُ وَمَا
تَوَلَّدَ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَطْيَبِ الْمَكَاسِبِ
وَأَفْضَلِهَا فَقِيلَ التِّجَارَةُ وَقِيلَ الصَّنْعَةُ
بِالْيَدِ وَقِيلَ الزِّرَاعَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ
بَسَطْتُ إِيضَاحَهُ فِي آخِرِ بَابِ الْأَطْعِمَةِ مِنْ
شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَيْضًا
أَنَّ الثَّوَابَ وَالْأَجْرَ فِي الْآخِرَةِ مُخْتَصٌّ
بِالْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ يُثَابُ عَلَى مَا
سُرِقَ مِنْ مَالِهِ أَوْ أَتْلَفَتْهُ دَابَّةٌ أَوْ
طَائِرٌ وَنَحْوُهُمَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (وَلَا يَرْزَؤُهُ) هُوَ بِرَاءٍ ثُمَّ زَايٍ
بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ يَنْقُصُهُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ (عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ
عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ مُبَشِّرٍ الْأَنْصَارِيَّةِ
فِي نَخْلٍ لَهَا) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ
دَخَلَ علي)
(10/213)
أُمِّ مُبَشِّرٍ وَفِي بَعْضِهَا دَخَلَ
عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ أَوْ أُمِّ مُبَشِّرٍ قَالَ
الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ أُمُّ
مُبَشِّرٍ بِلَا شَكٍّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ
أُمُّ مَعْبَدٍ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذِهِ
الرِّوَايَةِ وَيُقَالُ فِيهَا أَيْضًا أُمُّ بَشِيرٍ
فَحَصَلَ أَنَّهَا يُقَالُ لَهَا أُمُّ مُبَشِّرٍ وَأُمُّ
مَعْبَدٍ وَأُمُّ بَشِيرٍ قِيلَ اسْمُهَا الْخُلَيْدَةُ
بِضَمِّ الْخَاءِ وَلَمْ يَصِحَّ وَهِيَ امْرَأَةُ زَيْدِ
بْنِ حَارِثَةَ أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ قَوْلُهُ
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا
بْنُ إِسْحَاقَ أخبرنى عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ
هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالْمَعْرُوفُ فِيهِ أَبُو
الزُّبَيْرِ عن جابر
(10/214)
قَوْلُهُ (عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ زَادَ عَمْرٌو فِي رِوَايَتِهِ
عَنْ عَمَّارٍ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي
مُعَاوِيَةَ فَقَالَا عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ) إِلَى آخِرِهِ
هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ مُسْلِمٍ وَأَبُو بَكْرٍ
وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا وَأَبُو كُرَيْبٍ بَدَلَ أَبِي
بَكْرٍ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُهُمْ الصَّوَابُ أَبُو
كُرَيْبٍ لِأَنَّ أَوَّلَ الْإِسْنَادِ لِأَبِي بَكْرِ
بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَلِأَبِي
كُرَيْبٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي
مُعَاوِيَةَ فَالرَّاوِي عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ هُوَ
أَبُو كُرَيْبٍ لَا أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا وَاضِحٌ
وَبَيِّنٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم
(10/215)
(باب وضع الجوائح
[1554] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ
بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ
فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ
تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ) وَفِي رِوَايَةٍ
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ
فَقُلْنَا لأنس مازهوها قَالَ تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ
أَرَأَيْتُكَ إِنْ مَنْعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ
تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
إِنْ لَمْ يُثْمِرْهَا اللَّهُ فَبِمَ يَسْتَحِلُّ
أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ
الْجَوَائِحِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أُصِيبَ رَجُلٌ
فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ
عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِغُرَمَائِهِ خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ
إِلَّا ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الثَّمَرَةِ
إِذَا بِيعَتْ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَسَلَّمَهَا
الْبَائِعُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا ثُمَّ تَلِفَتْ قَبْلَ أَوَانِ الْجُذَاذِ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ هَلْ تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ
الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
أَصَحِّ قَوْلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ وَآخَرُونَ هِيَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَلَا
يَجِبُ وَضْعُ الْجَائِحَةِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَطَائِفَةٌ هِيَ فِي
ضَمَانِ الْبَائِعِ وَيَجِبُ وَضْعُ الْجَائِحَةِ وَقَالَ
مَالِكٌ إِنْ كَانَتْ دُونَ الثُّلُثِ لَمْ يَجِبْ
وَضْعُهَا وَإِنْ كَانَتِ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ وَجَبَ
وَضْعُهَا وَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَاحْتَجَّ
الْقَائِلُونَ)
(10/216)
بِوَضْعِهَا بِقَوْلِهِ أَمَرَ بِوَضْعِ
الْجَوَائِحِ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ
شَيْئًا وَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَاقِيَةِ فِي يَدِ
الْبَائِعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَلْزَمُهُ سَقْيُهَا
فَكَأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَتْ مِنْ
ضَمَانِ الْبَائِعِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ
لَا يَجِبُ وَضْعُهَا بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَدَفَعَهُ إِلَى غُرَمَائِهِ
فَلَوْ كَانَتْ تُوضَعُ لَمْ يُفْتَقَرْ إِلَى ذَلِكَ
وَحَمَلُوا الْأَمْرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ عَلَى
الِاسْتِحْبَابِ أَوْ فِيمَا بِيعَ قَبْلَ بُدُوِّ
الصَّلَاحِ وَقَدْ أَشَارَ فِي بَعْضِ هَذِهِ
الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِلَى شئ مِنْ هَذَا
وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ قَوْلِهِ فَكَثُرَ دَيْنُهُ
إِلَى آخِرِهِ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا تَلْفِتْ
بَعْدَ أَوَانِ الْجُذَاذِ وَتَفْرِيطِ الْمُشْتَرِي فِي
تَرْكِهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الشَّجَرِ فَإِنَّهَا
حِينَئِذٍ تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي قَالُوا
وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
آخِرِ الْحَدِيثِ لَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ وَلَوْ
كَانَتِ الْجَوَائِحُ لَا تُوضَعُ لَكَانَ لَهُمْ طَلَبُ
بَقِيَّةِ الدَّيْنِ وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا
بِأَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَكُمُ الْآنَ إِلَّا هَذَا
وَلَا تَحِلُّ لَكُمْ مُطَالَبَتُهُ مادام مُعْسِرًا بَلْ
يُنْظَرُ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وفي
(10/217)
الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ التَّعَاوُنُ
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَمُوَاسَاةُ الْمُحْتَاجِ
وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَالْحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ
عَلَيْهِ وَأَنَّ الْمُعْسِرَ لَا تَحِلُّ مُطَالَبَتُهُ
وَلَا مُلَازَمَتُهُ وَلَا سَجْنُهُ وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وجمهورهم وحكى عن بن شُرَيْحٍ
حَبْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ وَإِنْ كَانَ قَدْ
ثَبَتَ إِعْسَارُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مُلَازَمَتُهُ
وَفِيهِ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَى الْغُرَمَاءِ جَمِيعُ مَالِ
الْمُفْلِسِ مَا لَمْ يَقْضِ دَيْنَهُمْ وَلَا يُتْرَكُ
لِلْمُفْلِسِ سِوَى ثِيَابِهِ وَنَحْوِهَا وَهَذَا
الْمُفْلِسُ الْمَذْكُورُ قِيلَ هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنْ لَمْ
يُثْمِرْهَا اللَّهُ فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ
أَخِيهِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا وَهْمٌ مِنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ أَوْ مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي
حَالِ إِسْمَاعِهِ مُحَمَّدًا لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
حَمْزَةَ سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَفْصُولًا
مُبَيَّنًا أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ وَهُوَ الصَّوَابُ
وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فأسقط محمد بن عَبَّادٍ كَلَامَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَى بِكَلَامِ
أَنَسٍ وَجَعَلَهُ مَرْفُوعًا وَهُوَ خَطَأٌ
[1554] قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا) أَبُو
إِسْحَاقَ هَذَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
سُفْيَانَ رَوَى هَذَا الْكِتَابَ عَنْ مُسْلِمٍ
وَمُرَادُهُ أَنَّهُ عَلَا بِرَجُلٍ فَصَارَ فِي رِوَايَةِ
هَذَا الْحَدِيثِ كَشَيْخِهِ مُسْلِمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَاحِدٌ فَقَطْ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
(10/218)
(بَاب اسْتِحْبَابِ الْوَضْعِ مِنْ
الدَّيْنِ
[1557] قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
أَصْحَابِنَا قَالُوا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
أُوَيْسٍ قَالَ وَحَدَّثَنِي أَخِي) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْحُفَّاظِ هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْمَقْطُوعَةِ
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا
سَبَقَ بَيَانُهَا فِي الْفُصُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي
مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ لأن مسلما لم ينكر مَنْ
سَمِعَ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ الْقَاضِي إِذَا
قَالَ الرَّاوِي حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَوْ
حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَوْ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا
لَيْسَ هُوَ مِنَ الْمَقْطُوعِ وَلَا مِنَ الْمُرْسَلِ
وَلَا مِنَ الْمُعْضِلِ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ بَلْ
هُوَ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ عَنِ الْمَجْهُولِ وَهَذَا
الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّوَابُ لَكِنْ كَيْفَ
كَانَ فَلَا يُحْتَجُّ بِهَذَا الْمَتْنِ مِنْ هَذِهِ
الرِّوَايَةِ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ
وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فَقَدْ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
أُوَيْسٍ وَلَعَلَّ مُسْلِمًا أَرَادَ بِقَوْلِهِ غَيْرُ
وَاحِدٍ الْبُخَارِيَّ وَغَيْرَهُ وَقَدْ حَدَّثَ مُسْلِمٌ
عَنْ إِسْمَاعِيلَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي
كِتَابِ الْحَجِّ وَفِي آخِرِ كِتَابِ الْجِهَادِ وَرَوَى
مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَحْمَد بْنِ يُوسُفَ الْأَزْدِيِّ
عَنْ إِسْمَاعِيلَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَفِي كِتَابِ
الْفَضَائِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَفِي هَذَا
الْبَابِ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَوَى اللَّيْثُ
بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ)
هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْمَقْطُوعَةِ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ وَيُسَمَّى مُعَلَّقًا وَسَبَقَ فِي التَّيَمُّمِ
مِثْلُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَهَذَا الحديث المذكور هنا
متصل عن الليث ورواه الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ
يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
رَبِيعَةَ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ هُنَا وَرَوَاهُ
النَّسَائِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ
شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
رَبِيعَةَ قَوْلُهُ (وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ
الْآخِرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ) أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ
يَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ)
(10/219)
الدَّيْنِ وَيَرْفُقَ بِهِ فِي
الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُطَالَبَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا وَلَكِنْ
بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْتَهِيَ إِلَى الْإِلْحَاحِ
وَإِهَانَةِ النَّفْسِ أَوِ الْإِيذَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ
وَحَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ
وَحَدَّثَنِي أَخِي قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ
هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْمَقْطُوعَةِ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا سَبَقَ بَيَانُهَا
فِي الْفُصُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا
الشَّرْحِ لأن مسلما لم ينكر مَنْ سَمِعَ مِنْهُ هَذَا
الْحَدِيثَ قَالَ الْقَاضِي إِذَا قَالَ الرَّاوِي
حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَوْ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَوْ
حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَيْسَ هُوَ مِنَ
الْمَقْطُوعِ وَلَا مِنَ الْمُرْسَلِ وَلَا مِنَ
الْمُعْضِلِ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ بَلْ هُوَ مِنْ
بَابِ الرِّوَايَةِ عَنِ الْمَجْهُولِ وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّوَابُ لَكِنْ كَيْفَ كَانَ
فَلَا يُحْتَجُّ بِهَذَا الْمَتْنِ مِنْ هَذِهِ
الرِّوَايَةِ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ
وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فَقَدْ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
أُوَيْسٍ وَلَعَلَّ مُسْلِمًا أَرَادَ بِقَوْلِهِ غَيْرُ
وَاحِدٍ الْبُخَارِيَّ وَغَيْرَهُ وَقَدْ حَدَّثَ مُسْلِمٌ
عَنْ إِسْمَاعِيلَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي
كِتَابِ الْحَجِّ وَفِي آخِرِ كِتَابِ الْجِهَادِ وَرَوَى
مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَحْمَد بْنِ يُوسُفَ الْأَزْدِيِّ
عَنْ إِسْمَاعِيلَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَفِي كِتَابِ
الْفَضَائِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ وَفِي هَذَا
الْبَابِ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَوَى اللَّيْثُ
بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ
هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْمَقْطُوعَةِ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ وَيُسَمَّى مُعَلَّقًا وَسَبَقَ فِي التَّيَمُّمِ
مِثْلُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَهَذَا الحديث المذكور هنا
متصل عن الليث ورواه الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ
يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
رَبِيعَةَ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ هُنَا وَرَوَاهُ
النَّسَائِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ
شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
رَبِيعَةَ قَوْلُهُ وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ
الْآخِرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ
يَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ الدَّيْنِ وَيَرْفُقَ بِهِ فِي
الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُطَالَبَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا وَلَكِنْ
بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْتَهِيَ إِلَى الْإِلْحَاحِ
وَإِهَانَةِ النَّفْسِ أَوِ الْإِيذَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1558] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لَا يَفْعَلُ
الْمَعْرُوفَ قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَهُ)
أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ الْمُتَأَلِّي الْحَالِفُ
وَالْأَلْيَةُ الْيَمِينُ وَفِي هَذَا كَرَاهَةُ الْحَلِفِ
عَلَى تَرْكِ الْخَيْرِ وَإِنْكَارُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ خَيْرًا أَنْ
يَحْنَثَ فَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَفِيهِ الشَّفَاعَةُ
إِلَى أَصْحَابِ الْحُقُوقِ وَقَبُولُ الشَّفَاعَةِ فِي
الخير قوله (تقاضى بن أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ
عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ
أَصْوَاتُهُمْ) مَعْنَى تَقَاضَاهُ طَالَبَهُ به وأراد
قضاه وَحَدْرَدٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ فِي
الْمَسْجِدِ وَالشَّفَاعَةُ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ
وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ الْخُصُومِ وَحُسْنُ التَّوَسُّطِ
بَيْنَهُمْ وَقَبُولُ الشَّفَاعَةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ
وَجَوَازُ الاشارة واعتمادها قوله فَأَشَارَ إِلَيْهِ
بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ قَوْلُهُ (كَشَفَ سِجْفَ
حُجْرَتِهِ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ
وَإِسْكَانُ الْجِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(10/220)
(بَاب مَنْ أَدْرَكَ مَا بَاعَهُ عِنْدَ
الْمُشْتَرِي وَقَدْ أَفْلَسَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ
[1559] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ) هَذَا الْإِسْنَادُ فِيهِ
أَرْبَعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ
بَعْضٍ وَهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وَعُمَرُ
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلِهَذَا
نَظَائِرُ سَبَقَتْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ
رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ)
وَفِي رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُعْدَمُ)
(10/221)
إِذَا وُجِدَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ وَلَمْ
يُفَرِّقْهُ أَنَّهُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي بَاعَهُ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً
فَأَفْلَسَ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ ثَمَنَهَا
وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُ وَكَانَتِ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً
بِحَالِهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ بَائِعُهَا
بِالْخِيَارِ إِنْ شاء بركها وَضَارَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ
بِثَمَنِهَا وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ فِيهَا بِعَيْنِهَا فِي
صُورَةِ الْإِفْلَاسِ وَالْمَوْتِ وَقَالَ أبو حنيفة لا
يجوز له الرجوع فيها بَلْ تَتَعَيَّنُ الْمُضَارَبَةُ
وَقَالَ مَالِكٌ يَرْجِعُ فِي صُورَةِ الْإِفْلَاسِ
وَيُضَارِبُ فِي الْمَوْتِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ
بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَعَ حَدِيثِهِ فِي الْمَوْتِ فِي
سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ وَتَأَوَّلَهَا أَبُو
حَنِيفَةَ تَأْوِيلَاتٍ ضَعِيفَةً مَرْدُودَةً وَتَعَلَّقَ
بِشَيْءٍ يُرْوَى عَنْ علي وبن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُمَا قَوْلُهُ
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
(10/222)
مَهْدِيٍّ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ ثُمَّ قَالَ
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ)
هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا فِي
الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ شُعْبَةُ بِضَمِّ الشِّينِ
الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَفِي
الثَّانِي سَعِيدٌ بفتح السين المهملة وهو سعيد بن أَبِي
عَرُوبَةَ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ
الْجُلُودِيِّ قَالَ ووقع في رواية بن مَاهَانَ فِي
الثَّانِي شُعْبَةُ أَيْضًا بِضَمِّ الشِّينِ
الْمُعْجَمَةِ قَالَ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ
(وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ
وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ قَالَ حَجَّاجٌ مَنْصُورُ بْنُ
سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ)
هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِنَا
وَأُصُولِهِمُ الْمُحَقَّقَةِ قَالَ حَجَّاجٌ مَنْصُورُ
بْنُ سَلَمَةَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ
الْخُزَاعِيَّ هَذَا اسْمُهُ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ
فَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ
بِكُنْيَتِهِ وَذَكَرَهُ حَجَّاجٌ بِاسْمِهِ وَهَذَا
صَحِيحٌ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ فِي
مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِهِمْ وَلِعَامَّةِ رُوَاتِهِمْ
قَالَ حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ
فَزَادَ لَفْظَةَ حَدَّثَنَا قَالَ الْقَاضِي وَالصَّوَابُ
حَذْفُ لَفْظَةِ حَدَّثَنَا كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ
الرُّوَاةِ قَالَ وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ هَذَا الثَّانِي
عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ كَنَّاهُ وحجاج سماه
(10/223)
(باب فضل أنظار
المعسر والتجاوز (في الاقتضاء من
الموسر والمعسر)
[1560] قَوْلُهُ (كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ
فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَوَّزُوا
عَنِ الْمُوسِرِ) قَالَ اللَّهُ تَجَوَّزُوا عَنْهُ وَفِي
رِوَايَةٍ كُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ وَأَتَجَاوَزُ
عَنِ الْمَعْسُورِ وَفِي رِوَايَةٍ كُنْتُ أُنْظِرُ
الْمُعْسِرَ وَأَتَجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ أَوْ فِي
النَّقْدِ وَفِي رِوَايَةٍ وَكَانَ مِنْ خُلُقِي
الْجَوَازُ فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ
وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ فَقَوْلُهُ فِتْيَانِي مَعْنَاهُ
غِلْمَانِي كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى وَالتَّجَاوُزُ وَالتَّجَوُّزُ مَعْنَاهُمَا
الْمُسَامَحَةُ فِي الِاقْتِضَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ
وَقَبُولِ مَا فِيهِ نَقْصٌ يَسِيرٌ كَمَا قَالَ
وَأَتَجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
فَضْلُ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَالْوَضْعِ عَنْهُ إِمَّا
كُلُّ الدَّيْنِ وَإِمَّا بَعْضُهُ مِنْ كَثِيرٍ أَوْ
قَلِيلٍ وَفَضْلُ الْمُسَامَحَةِ فِي الِاقْتِضَاءِ وَفِي
الِاسْتِيفَاءِ سَوَاءٌ اسْتُوْفِيَ مِنْ مُوسِرٍ أَوْ
مُعْسِرٍ وَفَضْلُ الْوَضْعِ من الدين وأنه لا يحتقر شيء
مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ فَلَعَلَّهُ سَبَبُ السَّعَادَةِ
وَالرَّحْمَةِ وَفِيهِ جَوَازُ تَوْكِيلِ الْعَبِيدِ
وَالْإِذْنِ لَهُمْ فِي التَّصَرُّفِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ
مَنْ يَقُولُ شَرْعُ من قبلنا شرع لنا)
(10/224)
قوله (الْمَيْسُورُ وَالْمَعْسُورُ) أَيْ
آخُذُ مَا تَيَسَّرَ وَأُسَامِحُ بِمَا تَعَسَّرَ قَوْلُهُ
(حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ عَنْ
رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ) ثُمَّ قَالَ فِي
آخِرِ الْحَدِيثِ فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ
الْجُهَنِيُّ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ هَكَذَا
سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ
فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَأَبُو مَسْعُودٍ قَالَ
الْحُفَّاظُ هَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ
لِأَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ
الْبَدْرِيِّ وَحْدِهِ وَلَيْسَ لِعُقْبَةَ
(10/225)
بْنِ عَامِرٍ فِيهِ رِوَايَةٌ قَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْوَهْمُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ
مِنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ قال وصوابه عقبة بن عمر
وأبو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ كَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ
أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ وَتَابَعَهُمْ نُعَيْمُ
بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ
وَمَنْصُورٌ وَغَيْرُهُمْ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ
فَقَالُوا فِي آخِرِ الحديث فقال
(10/226)
عقبة بن عمر وأبو مَسْعُودٍ وَقَدْ ذَكَرَ
مُسْلِمٌ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ مَنْصُورٍ وَنُعَيْمٍ
وَعَبْدِ الْمَلِكِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ
اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ
عَنْ مُعْسِرٍ) كُرَبِ بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ
جَمْعُ كُرْبَةٍ وَمَعْنَى يُنَفِّسُ أَيْ يَمُدُّ
وَيُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يُفَرِّجُ
عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ مَطْلِ الْغَنِيِّ وَصِحَّةِ الْحَوَالَةِ
واستحباب قبولها (اذا أحيل على ملئ)
[1564] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ) قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ
الْمَطْلُ مَنْعُ قَضَاءِ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ
فَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَحَرَامٌ وَمَطْلُ غَيْرِ
الْغَنِيِّ لَيْسَ بِظُلْمٍ وَلَا حَرَامٍ لِمَفْهُومِ
الْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا
وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْأَدَاءِ
لِغَيْبَةِ الْمَالِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ
التَّأْخِيرُ إِلَى الْإِمْكَانِ وَهَذَا مَخْصُوصٌ مِنْ
مَطْلِ الْغَنِيِّ أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِالْغَنِيِّ
الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْأَدَاءِ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا
فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ وَفِيهِ دَلَالَةٌ لمذهب مالك
والشافعى والجمهور أن المعسر لايحل حَبْسُهُ وَلَا
مُلَازَمَتُهُ وَلَا مُطَالَبَتُهُ حَتَّى يُوسِرَ وَقَدْ
سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْمُفْلِسِ وَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ فِي أَنَّ
الْمُمَاطِلَ هَلْ يَفْسُقُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ
بِمَطْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَمْ لَا تُرَدُّ
شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَصِيرَ
عَادَةً وَمُقْتَضَى مَذْهَبِنَا اشْتِرَاطُ التَّكْرَارِ
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ
لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ اللَّيُّ
بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهُوَ الْمَطْلُ
وَالْوَاجِدُ بِالْجِيمِ الْمُوسِرُ قَالَ الْعُلَمَاءُ
يُحِلُّ عِرْضَهُ بِأَنْ يَقُولَ ظَلَمَنِي وَمَطَلَنِي
وَعُقُوبَتُهُ الْحَبْسُ وَالتَّعْزِيرُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
(10/227)
(وإذا اتبع أحدكم على ملئ فَلْيَتْبَعْ)
هُوَ بِإِسْكَانِ التَّاءِ فِي أُتْبِع وَفِي فَلْيَتْبَعْ
مِثْلَ أَخْرَجَ فَلْيَخْرُجْ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ
الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ
اللُّغَةِ وَكُتُبِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَنَقَلَ الْقَاضِي
وَغَيْرُهُ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ
يُشَدِّدُهَا فِي الْكَلِمَةِ الثَّانِيَةِ وَالصَّوَابُ
الْأَوَّلُ وَمَعْنَاهُ وَإِذَا أُحِيلَ بِالدَّيْنِ
الَّذِي لَهُ عَلَى مُوسِرٍ فَلْيَحْتَلْ يُقَالُ مِنْهُ
تَبِعْتُ الرجل لحقى أتبعه تباعه فأنا تبع وإذا طَلَبْتُهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ لَا تَجِدُوا لكم علينا به
تبيعا ثُمَّ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ
إِذَا أُحِيلَ على ملى اسْتُحِبَّ لَهُ قَبُولُ
الْحَوَالَةِ وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى النَّدْبِ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَبُولُ مُبَاحٌ لَا
مَنْدُوبٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاجِبٌ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ
وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَغَيْرِهِ
(بَاب تَحْرِيمِ بَيْعِ فضل الماء الذى يكون بالفلاة
ويحتاج إليه (لرعى الكلأ وتحريم منع بذله وتحريم بيع ضراب
الفحل)
[1565] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ) وَفِي
رِوَايَةٍ عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ وَعَنْ بَيْعِ
الْمَاءِ وَالْأَرْضِ لِتُحْرَثَ وَفِي رِوَايَةٍ لَا
يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ وَفِي
رِوَايَةٍ لَا يُبَاعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُبَاعَ بِهِ
الْكَلَأُ أَمَّا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ
لِيُمْنَعَ بِهَا الْكَلَأُ فَمَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ
لِإِنْسَانٍ بِئْرٌ مَمْلُوكَةٌ لَهُ بِالْفَلَاةِ
وَفِيهَا مَاءٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ وَيَكُونَ هُنَاكَ
كَلَأٌ)
(10/228)
لَيْسَ عِنْدَهُ مَاءٌ إِلَّا هَذِهِ فَلَا
يُمْكِنُ أَصْحَابُ الْمَوَاشِي رَعْيَهُ إِلَّا إِذَا
حَصَلَ لَهُمُ السَّقْيُ مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ فَيَحْرُمُ
عَلَيْهِ مَنْعُ فضل هذا الماء للماشية ويجب بذله لها
بِلَا عِوَضٍ لِأَنَّهُ إِذَا مَنْعَ بَذْلَهُ امْتَنَعَ
النَّاسُ مِنْ رَعْيِ ذَلِكَ الْكَلَأِ خَوْفًا عَلَى
مَوَاشِيهِمْ مِنَ الْعَطَشِ وَيَكُونُ بِمَنْعِهِ
الْمَاءَ مَانِعًا مِنْ رَعْيِ الْكَلَأِ وَأَمَّا
الرِّوَايَةُ الْأُولَى نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ
فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذِهِ الثَّانِيَةِ الَّتِي
فِيهَا لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ
فِي غَيْرِهِ وَيَكُونُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ قَالَ
أَصْحَابُنَا يَجِبُ بَذْلُ فَضْلِ الْمَاءِ بِالْفَلَاةِ
كَمَا ذَكَرْنَاهُ بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ
مَاءٌ آخَرُ يُسْتَغْنَى بِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ
الْبَذْلُ لِحَاجَةِ الْمَاشِيَةِ لَا لِسَقْيِ الزَّرْعِ
وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ مَالِكُهُ مُحْتَاجًا
إِلَيْهِ وَاعْلَمْ أن المذهب الصحيح أن من تبع فِي
مِلْكِهِ مَاءٌ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا لَا يَمْلِكُهُ أَمَّا إِذَا أَخْذَ الْمَاءَ
فِي إِنَاءٍ مِنَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ فَإِنَّهُ
يَمْلِكُهُ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَقَدْ نَقَلَ
بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا لَا يَمْلِكُهُ بَلْ يَكُونُ أَخَصَّ بِهِ
وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُبَاعُ
فَضْلُ الْمَاءِ لِيُبَاعَ بِهِ الْكَلَأُ فَمَعْنَاهُ
أَنَّهُ إِذَا كَانَ فَضْلُ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ كَمَا
ذَكَرْنَا وَهُنَاكَ كَلَأٌ لَا يُمْكِنُ رَعْيُهُ إِلَّا
إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْ سَقْيِ الْمَاشِيَةِ مِنْ هَذَا
الْمَاءِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ هَذَا الْمَاءِ
لِلْمَاشِيَةِ بِلَا عِوَضٍ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ
لِأَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ كَأَنَّهُ بَاعَ الْكَلَأَ
الْمُبَاحَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمُ الَّذِي لَيْسَ مَمْلُوكًا
لِهَذَا الْبَائِعِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ
الْمَاشِيَةِ لَمْ يَبْذُلُوا الثَّمَنَ فِي الْمَاءِ
لِمُجَرَّدِ إِرَادَةِ الْمَاءِ بَلْ لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ
إِلَى رَعْيِ الْكَلَأِ فَمَقْصُودُهُمْ تَحْصِيلُ
الْكَلَأِ فَصَارَ بِبَيْعِ الْمَاءِ كَأَنَّهُ بَاعَ
الْكَلَأَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ
الْكَلَأُ مَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ هُوَ النَّبَاتُ سَوَاءٌ
كَانَ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا وَأَمَّا الْحَشِيشُ
وَالْهَشِيمُ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْيَابِسِ وَأَمَّا
الْخَلَى فَمَقْصُورٌ غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَالْعُشْبُ
مُخْتَصٌّ بِالرَّطْبِ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الرُّطْبُ
بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ قَوْلُهُ (نَهَى
عَنْ بَيْعِ الْأَرْضِ لِتُحْرَثَ) مَعْنَاهُ نَهَى عَنْ
إِجَارَتِهَا لِلزَّرْعِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ
وَاضِحَةً فِي بَابِ كِرَاءِ الْأَرْضِ وَذَكَرْنَا أَنَّ
الْجُمْهُورَ يُجَوِّزُونَ إِجَارَتَهَا بِالدَّرَاهِمِ
وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا وَيَتَأَوَّلُونَ النَّهْيَ
تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ
لِيَعْتَادُوا إِعَارَتَهَا وَإِرْفَاقَ بَعْضِهِمْ
بَعْضًا وَالثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِجَارَتِهَا
عَلَى أَنْ يكون
(10/229)
لِمَالِكِهَا قِطْعَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنَ
الزَّرْعِ وَحَمَلَهُ الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ
الْمُزَارَعَةِ عَلَى إِجَارَتِهَا بِجُزْءٍ مِمَّا
يَخْرُجُ منها والله أعلم قَوْلُهُ (نَهَى عَنْ ضِرَابِ
الْجَمَلِ) مَعْنَاهُ عَنْ أُجْرَةِ ضِرَابِهِ وَهُوَ
عَسْبُ الْفَحْلِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَهُوَ
بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ السِّينِ
الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِجَارَةِ الْفَحْلِ
وَغَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ لِلضِّرَابِ فَقَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَآخَرُونَ اسْتِئْجَارُهُ لِذَلِكَ بَاطِلٌ وَحَرَامٌ
وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ عِوَضٌ وَلَوْ أَنْزَاهُ
الْمُسْتَأْجِرُ لَا يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى مِنْ أجره ولا
أجرة مثل ولا شئ مِنَ الْأَمْوَالِ قَالُوا لِأَنَّهُ
غَرَرٌ مَجْهُولٌ وَغَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
وَمَالِكٌ وَآخَرُونَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ لِضِرَابِ
مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ لِضَرَبَاتٍ مَعْلُومَةٍ لِأَنَّ
الْحَاجَةَ تَدْعُو إليه وهي مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ
وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْحَثِّ عَلَى
مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَمَا حَمَلُوا عَلَيْهِ مَا
قَرَنَهُ بِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ إِجَارَةِ الْأَرْضِ
والله أعلم
(10/230)
(بَاب تَحْرِيمِ ثَمَنِ الْكَلْبِ
وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ (وَالنَّهْيِ
عَنْ بَيْعِ السِّنَّوْرِ)
[1567] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ
الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ) وَفِي الْحَدِيثِ
الْآخَرِ شَرُّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ
الْكَلْبِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ وَفِي رِوَايَةٍ ثَمَنُ
الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ
الْحَجَّامِ خَبِيثٌ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ سَأَلْتُ
جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ فَقَالَ
زَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْهُ أَمَّا مَهْرُ الْبَغِيِّ فهو ما تأخذه الزانية على
الزنى وَسَمَّاهُ مَهْرًا لِكَوْنِهِ عَلَى صُورَتِهِ
وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا
حُلْوَانُ الْكَاهِنِ فَهُوَ مَا يُعْطَاهُ عَلَى
كِهَانَتِهِ يُقَالُ مِنْهُ حَلَوْتُهُ حُلْوَانًا إِذَا
أَعْطَيْتُهُ قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَصْلُهُ مِنَ
الحلاوة شبه بالشئ الْحُلْوِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ
يَأْخُذُهُ سَهْلًا بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا فِي مُقَابَلَةِ
مَشَقَّةٍ يُقَالُ حَلَوْتُهُ إِذَا أَطْعَمْتُهُ
الْحُلْوَ كَمَا يُقَالُ عَسَلْتُهُ إِذَا أَطْعَمْتُهُ
الْعَسَلَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَيُطْلَقُ الْحُلْوَانُ
أَيْضًا عَلَى غَيْرِ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ
الرَّجُلُ مَهْرَ ابْنَتِهِ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ عَيْبٌ
عِنْدَ النِّسَاءِ قَالَتِ امْرَأَةٌ تَمْدَحُ زَوْجَهَا
لَا يَأْخُذُ الْحُلْوَانَ عَنْ بَنَاتِنَا قَالَ
الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْقَاضِي عِيَاضٌ
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ حُلْوَانِ
الْكَاهِنِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ مُحَرَّمٍ وَلِأَنَّهُ
أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى
تَحْرِيمِ أُجْرَةِ الْمُغَنِّيَةِ لِلْغِنَاءِ
وَالنَّائِحَةِ لِلنَّوْحِ وَأَمَّا الَّذِي جَاءَ فِي
غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنَ النَّهْيِ عَنْ كسب الاماء
فالمراد به كسبهن بالزنى وَشِبْهِهِ لَا بِالْغَزْلِ
وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قال
بن الْأَعْرَابِيِّ وَيُقَالُ حُلْوَانُ الْكَاهِنِ
الشِّنْعُ وَالصِّهْمِيمُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ
وَحُلْوَانُ الْعَرَّافِ أَيْضًا حَرَامٌ قَالَ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَاهِنِ وَالْعَرَّافِ أَنَّ
الْكَاهِنَ إِنَّمَا يَتَعَاطَى الْأَخْبَارَ عَنِ
الْكَائِنَاتِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ وَيَدَّعِي
معرفة الأسرار)
(10/231)
والعراف هو الذى يدعى معرفة الشئ
الْمَسْرُوقِ وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ
الْأُمُورِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ
السُّنَنِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي
آخِرِ الْكِتَابِ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا فَقَالَ إِنَّ
الْكَاهِنَ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مُطَالَعَةَ عِلْمِ
الْغَيْبِ وَيُخْبِرُ النَّاسَ عَنِ الْكَوَائِنِ قَالَ
وَكَانَ فِي الْعَرَبِ كَهَنَةٌ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ
يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رُفَقَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَتَابِعَةٌ
تُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ
يَدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَدِرْكُ الْأُمُورَ بِفَهْمٍ
أُعْطِيَهُ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُسَمَّى عَرَّافًا
وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْأُمُورَ
بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَابٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى مواقعها
كالشئ يُسْرَقُ فَيَعْرِفُ الْمَظْنُونَ بِهِ السَّرِقَةُ
وَتُتَّهَمُ الْمَرْأَةُ بِالرِّيبَةِ فَيَعْرِفُ مَنْ
صَاحِبُهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ وَمِنْهُمْ
مَنْ كَانَ يُسَمِّي الْمُنَجِّمَ كَاهِنًا قَالَ
وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ الْكُهَّانِ
يَشْتَمِلُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ
وَعَلَى النَّهْيِ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَالرُّجُوعِ إِلَى
قَوْلِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدْعُو الطَّبِيبَ
كَاهِنًا وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ عَرَّافًا فَهَذَا غَيْرُ
دَاخِلٍ فِي النَّهْيِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ
أَصْحَابِنَا فِي آخِرِ كِتَابِهِ الْأَحْكَامِ
السُّلْطَانِيَّةِ وَيَمْنَعُ الْمُحْتِسَبُ مَنْ
يَكْتَسِبُ بِالْكِهَانَةِ وَاللَّهْوِ وَيُؤَدِّبُ
عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَوْنِهِ مِنْ
شَرِّ الْكَسْبِ وَكَوْنِهِ خَبِيثًا فَيَدُلُّ عَلَى
تَحْرِيمِ بَيْعِهِ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا
يَحِلُّ ثَمَنُهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ سَوَاءٌ
كَانَ مُعَلَّمًا أَمْ لَا وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ
اقْتِنَاؤُهُ أَمْ لَا وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ
الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَرَبِيعَةُ
(10/232)
والأوزاعى والحكم وحماد والشافعى وأحمد
وداود وبن الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ يَصِحُّ بَيْعُ الْكِلَابِ الَّتِي فِيهَا
مَنْفَعَةٌ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى متلفها وحكى بن
الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ
جَوَازَ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ دُونَ غَيْرِهِ وَعَنْ
مَالِكٍ رِوَايَاتٌ إِحْدَاهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ
وَالثَّانِيَةُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ
وَالثَّالِثَةُ لَا يَصِحُّ وَلَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى
مُتْلِفِهِ دَلِيلُ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ
ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلَّا كلب صيد وفي رواية الا كلبا ضاريا
وَأَنَّ عُثْمَانَ غَرَّمَ إِنْسَانًا ثَمَنَ كَلْبٍ
قَتَلَهُ عشرين بعيرا وعن بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
التَّغْرِيمُ فِي إِتْلَافِهِ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ
بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَقَدْ أَوْضَحْتُهَا
فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَأَمَّا كَسْبُ الْحَجَّامِ وَكَوْنُهُ خَبِيثًا وَمِنْ
شَرِّ الْكَسْبِ فَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ
بِتَحْرِيمِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَسْبِ
الْحَجَّامِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ لَا يَحْرُمُ كَسْبُ الْحَجَّامِ وَلَا
يَحْرُمُ أَكْلُهُ لَا عَلَى الْحُرِّ وَلَا عَلَى
الْعَبْدِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ
وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ بِهَا فُقَهَاءُ
الْمُحَدِّثِينَ يَحْرُمُ عَلَى الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ
وَاعْتَمَدُوا هذه الأحاديث وشبهها واحتج الجمهور بحديث بن
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى
الْحَجَّامَ أَجْرَهُ قَالُوا وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ
يُعْطِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَحَمَلُوا
هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِي النهى على التنزيه
والارتفاع عن دنئ الْأَكْسَابِ وَالْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا
لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ
فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يطعم عبده مالا
يَحِلُّ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ
فَهُوَ محمول على أنه لا ينفع أو عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ
تَنْزِيهٍ حَتَّى يَعْتَادَ النَّاسُ هِبَتَهُ
وَإِعَارَتَهُ وَالسَّمَاحَةَ بِهِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ
فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْفَعُ وَبَاعَهُ صَحَّ الْبَيْعُ
وَكَانَ ثَمَنُهُ حَلَالًا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ
(10/233)
العلماء كافة الا ما حكى بن الْمُنْذِرِ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَجَابِرِ
بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاحْتَجُّوا
بِالْحَدِيثِ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ بِأَنَّهُ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ
الْمُعْتَمَدُ وَأَمَّا ما ذكره الخطابى وأبو عمرو بْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي النَّهْيِ
عَنْهُ ضَعِيفٌ فَلَيْسَ كَمَا قَالَا بَلِ الحديث صحيح
رواه مسلم وغيره وقول بن عَبْدِ الْبَرِّ إِنَّهُ لَمْ
يَرْوِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ غَيْرُ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ غَلَطٌ مِنْهُ أَيْضًا لِأَنَّ مُسْلِمًا قَدْ
رَوَاهُ فِي صَحِيحِهِ كما تروى مِنْ رِوَايَةِ مَعْقِلِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ فَهَذَانِ
ثِقَتَانِ رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَهُوَ ثِقَةٌ
أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَبَيَانِ نَسْخِهِ
وَبَيَانِ تَحْرِيمِ اقْتِنَائِهَا (إِلَّا لِصَيْدٍ أَوْ
زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ)
[1570] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ) وَفِي
رِوَايَةٍ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فَأَرْسَلَ فِي
أَقْطَارِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُقْتَلَ وَفِي رِوَايَةٍ
أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فَتُتُبِّعَتْ
فِي الْمَدِينَةِ وَأَطْرَافِهَا فَلَا نَدَعُ كَلْبًا
إِلَّا قَتَلْنَاهُ حَتَّى إِنَّا لَنَقْتُلُ كَلْبَ
الْمِرْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَتْبَعُهَا وَفِي
رِوَايَةٍ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إِلَّا كَلْبَ
صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَقِيلَ لِابْنِ
عُمَرَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ كلب زرع فقال
بن عُمَرَ إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا وَفِي
رِوَايَةِ جَابِرٍ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ بِقَتْلِ
الْكِلَابِ حَتَّى ان المرأة تقدم من البادية بكلبها
فتقتله ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا)
(10/234)
وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ
الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شيطان وفي رواية
بن الْمُفضَّلِ قَالَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ
قَالَ مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ ثُمَّ رَخَّصَ فِي
كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ
فِي كلب الغنم والصيد والزرع وفي حديث بن عُمَرَ مَنِ
اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارٍ
نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ وَفِي
رِوَايَةٍ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا
لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلَا مَاشِيَةٍ ولا أرض فإنه ينقص
من أجره قيرطان كُلَّ يَوْمٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ
انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ وَفِي
رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ مَنِ اقْتَنَى
كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ
مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ أَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى قتل الكلب الكلب والكلب العقور
واختلفوا في قتل مالا ضَرَرَ فِيهِ فَقَالَ إِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا بِقَتْلِهَا كُلِّهَا
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَنُهِيَ عَنْ قَتْلِهَا إِلَّا
الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَى
النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ جَمِيعِ الْكِلَابِ الَّتِي لَا
ضَرَرَ فِيهَا سَوَاءٌ الْأَسْوَدُ وَغَيْرُهُ
وَيَسْتَدِلُّ لما ذكره بحديث بن الْمُغَفَّلِ وَقَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى
الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ فِي قَتْلِ الْكِلَابِ إِلَّا مَا
اسْتَثْنَى مِنْ كَلْبِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ قَالَ
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ قَالَ وَاخْتَلَفَ
الْقَائِلُونَ بِهَذَا هَلْ كَلْبُ الصَّيْدِ وَنَحْوُهُ
مَنْسُوخٌ مِنَ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ
بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَأَنَّ الْقَتْلَ كَانَ عَامًّا فِي
الْجَمِيعِ أَمْ كَانَ مَخْصُوصًا بِمَا سِوَى ذَلِكَ
قَالَ وَذَهَبَ آخرون إلى جواز اتخاذ جميعها الْبَهِيمَ
قَالَ الْقَاضِي وَعِنْدِي أَنَّ النَّهْيَ أَوَّلًا كَانَ
نَهْيًا عَامًّا عَنِ اقْتِنَاءِ جَمِيعِهَا وَأَمَرَ
بِقَتْلِ جَمِيعِهَا ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا مَا سِوَى
الْأَسْوَدِ وَمَنَعَ الِاقْتِنَاءَ فِي جَمِيعِهَا إِلَّا
كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ الْقَاضِي
(10/235)
هو ظاهر الأحاديث ويكون حديث بن
الْمُغَفَّلِ مَخْصُوصًا بِمَا سِوَى الْأَسْوَدِ
لِأَنَّهُ عَامٌّ فَيُخَصُّ مِنْهُ الْأَسْوَدُ
بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ وَأَمَّا اقْتِنَاءُ الْكِلَابِ
فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ
بِغَيْرِ حَاجَةٍ وَيَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لِلصَّيْدِ
وَلِلزَّرْعِ وَلِلْمَاشِيَةِ وَهَلْ يَجُوزُ لِحِفْظِ
الدُّورِ وَالدُّرُوبِ وَنَحْوِهَا فِيهِ وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ
فَإِنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِالنَّهْيِ إِلَّا لِزَرْعٍ أَوْ
صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ وَأَصَحُّهَا يَجُوزُ قِيَاسًا
عَلَى الثَّلَاثَةِ عَمَلًا بِالْعِلَّةِ الْمَفْهُومَةِ
مِنَ الْأَحَادِيثِ وَهِيَ الْحَاجَةُ وَهَلْ يَجُوزُ
اقْتِنَاءُ الْجَرْوِ وَتَرْبِيَتُهُ لِلصَّيْدِ أَوِ
الزَّرْعِ أَوِ الْمَاشِيَةِ فِيهِ وَجْهَانِ
لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا جَوَازُهُ قَوْلُهُ (قال بن
عمران لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا) وَقَالَ سَالِمٌ فِي
الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ
أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ قَالَ
الْعُلَمَاءُ لَيْسَ هَذَا تَوْهِينًا لِرِوَايَةِ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَلَا شَكًّا فِيهَا بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ
لَمَّا كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَحَرْثٍ اعْتَنَى بِذَلِكَ
وَحَفِظَهُ وَأَتْقَنَهُ وَالْعَادَةُ أن المبتلى بشئ
يتقنه مالا يتقنه غيره ويتعرف من أحكامه مالا يَعْرِفُهُ
غَيْرُهُ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وهى
اتخاذه للزرع من رواية بن الْمُغَفَّلِ وَمِنْ رِوَايَةِ
سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَهَا أيضا مسلم من
رواية بن الْحَكَمِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
أَبِي نُعْمٍ البجلى عن بن عمر فيحتمل أن بن عُمَرَ لَمَّا
سَمِعَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَحَقَّقَهَا عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهَا
عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَزَادَهَا فِي حَدِيثِهِ الَّذِي
كَانَ يَرْوِيهِ بِدُونِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ
تَذَكَّرَ فِي وَقْتٍ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَوَاهَا وَنَسِيَهَا
فِي وَقْتٍ فَتَرَكَهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ لَيْسَ مُنْفَرِدًا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ بَلْ
وَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي رِوَايَتِهَا
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوِ
انْفَرَدَ بِهَا
(10/236)
لَكَانَتْ مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً
مُكَرَّمَةً
[1572] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ) فَإِنَّهُ
شَيْطَانٌ مَعْنَى الْبَهِيمِ الْخَالِصُ السَّوَادِ
وَأَمَّا النُّقْطَتَانِ فَهُمَا نُقْطَتَانِ
مَعْرُوفَتَانِ بَيْضَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ وَهَذَا
مُشَاهَدٌ مَعْرُوفٌ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ) احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ صَيْدُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ وَلَا
يَحِلُّ إِذَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ وإِنَّمَا
حَلَّ صَيْدُ الْكَلْبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ
وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ يَحِلُّ صَيْدُ الْكَلْبِ
الْأَسْوَدِ كَغَيْرِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ
إِخْرَاجُهُ عَنْ جِنْسِ الْكِلَابِ وَلِهَذَا لَوْ وَلَغَ
فِي إِنَاءٍ وَغَيْرِهِ وَجَبَ غَسْلُهُ كَمَا يُغْسَلُ
مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ الْأَبْيَضِ
[1573] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا
بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ) أَيْ مَا شَأْنُهُمْ أَيْ
لِيَتْرُكُوهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ
أَوْ ضَارِي) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ ضَارِي
بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضِهَا ضَارِيًا بِالْأَلِفِ بَعْدَ
الْيَاءِ مَنْصُوبًا وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَنِ
اقْتَنَى كَلْبًا
(10/237)
إِلَّا كَلْبَ ضَارِيَةٍ وَذَكَرَ
الْقَاضِي أَنَّ الْأَوَّلَ رُوِيَ ضَارِي بِالْيَاءِ
وَضَارٍ بِحَذْفِهَا وَضَارِيًا فَأَمَّا ضَارِيًا فَهُوَ
ظَاهِرُ الْإِعْرَابِ وَأَمَّا ضَارِي وَضَارٍ فَهُمَا
مَجْرُورَانِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَاشِيَةٍ وَيَكُونُ
مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ كَمَاءِ
الْبَارِدِ وَمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ولدار الآخرة وَسَبَقَ
بَيَانُ هَذَا مَرَّاتٍ وَيَكُونُ ثُبُوتُ الْيَاءِ فِي
ضَارِي عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ فِي إِثْبَاتِهَا فِي
الْمَنْقُوصِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَالْمَشْهُورُ
حَذْفُهَا وَقِيلَ إِنَّ لَفْظَةَ ضَارٍ هُنَا صِفَةٌ
لِلرَّجُلِ الصَّائِدِ صَاحِبِ الْكِلَابِ الْمُعْتَادِ
لِلصَّيْدِ فَسَمَّاهُ ضَارِيًا اسْتِعَارَةً كَمَا فِي
الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ
كَلْبَ صَائِدٍ وَأَمَّا رِوَايَةُ إِلَّا كَلْبَ
ضَارِيَةٍ فَقَالُوا تَقْدِيرُهُ إِلَّا كَلْبَ ذِي
كِلَابٍ ضَارِيَةٍ وَالضَّارِي هُوَ الْمُعَلَّمُ
الصَّيْدَ الْمُعْتَادُ لَهُ يُقَالُ مِنْهُ ضَرِيَ
الْكَلْبُ يَضْرِي كَشَرِيَ يَشْرِي ضَرًّا وَضَرَاوَةً
وَأَضْرَاهُ صَاحِبُهُ أَيْ عَوَّدَهُ ذَلِكَ وَقَدْ
ضَرِيَ بِالصَّيْدِ إِذَا لَهِجَ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ لِلَّحْمِ ضَرَاوَةً
كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ قَالَ جَمَاعَةٌ مَعْنَاهُ أَنَّ
لَهُ عَادَةً يُنْزَعُ إِلَيْهَا كَعَادَةِ الْخَمْرِ
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ لِأَهْلِهِ
عَادَةً فِي أَكْلِهِ كَعَادَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي
مُلَازَمَتِهِ وَكَمَا أَنَّ مَنِ اعْتَادَ الْخَمْرَ لَا
يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهَا كَذَا مَنِ اعْتَادَ اللَّحْمَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَقَصَ مِنْ
أَجْرِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ
(10/238)
عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ وَفِي
رِوَايَةٍ قِيرَاطٌ فَأَمَّا روَايَةُ عَمَلِهِ
فَمَعْنَاهُ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ وَأَمَّا الْقِيرَاطُ
هُنَا فَهُوَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى
وَالْمُرَادُ نَقَصَ جُزْءٌ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ وَأَمَّا
اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي قِيرَاطٍ وَقِيرَاطَيْنِ
فَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي نَوْعَيْنِ مِنَ
الْكِلَابِ أَحَدُهُمَا أَشَدُّ أَذًى مِنَ الْآخَرِ
وَلِمَعْنًى فِيهِمَا أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا
بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ فَيَكُونُ الْقِيرَاطَانِ فِي
الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِزِيَادَةِ فَضْلِهَا
وَالْقِيرَاطُ فِي غَيْرِهَا أَوِ الْقِيرَاطَانِ فِي
الْمَدَائِنِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْقُرَى وَالْقِيرَاطُ فِي
الْبَوَادِي أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي زَمَنَيْنِ فَذَكَرَ
الْقِيرَاطَ أَوَّلًا ثُمَّ زَادَ التَّغْلِيظَ فَذَكَرَ
الْقِيرَاطَيْنِ قَالَ الرُّويَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا
فِي كِتَابِهِ الْبَحْرِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِمَا
يَنْقُصُ مِنْهُ فَقِيلَ يَنْقُصُ مِمَّا مَضَى مِنْ
عَمَلِهِ وَقِيلَ مِنْ مُسْتَقْبَلِهِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا
فِي مَحَلِّ نَقْصِ الْقِيرَاطَيْنِ فَقِيلَ يَنْقُصُ
قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ
اللَّيْلِ أَوْ قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ الْفَرْضِ وَقِيرَاطٌ
مِنْ عَمَلِ النَّفْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ نُقْصَانِ الْأَجْرِ بِاقْتِنَاءِ
الْكَلْبِ فَقِيلَ لِامْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ
دُخُولِ بَيْتِهِ بِسَبَبِهِ وَقِيلَ لِمَا يَلْحَقُ
الْمَارِّينَ مِنَ الْأَذَى مِنْ تَرْوِيعِ الْكَلْبِ
لَهُمْ وَقَصْدِهِ إِيَّاهُمْ وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ
عُقُوبَةٌ لَهُ لِاتِّخَاذِهِ مَا نُهِيَ عَنِ اتِّخَاذِهِ
وَعِصْيَانِهِ فِي ذَلِكَ وَقِيلَ لِمَا يُبْتَلَى بِهِ
مِنْ وُلُوغِهِ فِي غَفْلَةِ صَاحِبِهِ وَلَا يَغْسِلُهُ
(10/239)
بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
[1576] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ
اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا
ضَرْعًا) الْمُرَادُ بِالضَّرْعِ الْمَاشِيَةُ كَمَا فِي
سَائِرِ الرِّوَايَاتِ وَمَعْنَاهُ مَنِ اقْتَنَى كلبا
لغير زرع وماشية وقوله (وفد عليهم سفيان بن أبي زهير
الشنائي) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ بِشِينٍ
مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ
هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مَنْسُوبٌ إِلَى أَزْدِ شَنُوءَةَ
بِشِينٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ
هَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ ثُمَّ هَاءٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ
النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ الشَّنَوِيَّ بِالْوَاوِ وَهُوَ
صَحِيحٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّسْهِيلِ وَرَوَاهُ بَعْضُ
رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ شَنُوِيٌّ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى
الْأَصْلِ
(باب حل أجرة الحجامة ذكر فيه الْأَحَادِيثِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم وأعطى
الحجام أجره قال بن عَبَّاسٍ وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ
يُعْطِهِ وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا فِي بَابِ تَحْرِيمِ
ثَمَنِ الْكَلْبِ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي
أُجْرَةِ الْحِجَامَةِ وَفِي هذه)
(10/241)
الْأَحَادِيثِ إِبَاحَةُ نَفْسِ
الْحِجَامَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَدْوِيَةِ
وَفِيهَا إِبَاحَةُ التَّدَاوِي وَإِبَاحَةُ الْأُجْرَةِ
عَلَى الْمُعَالَجَةِ بِالتَّطَبُّبِ وَفِيهَا
الشَّفَاعَةُ إِلَى أَصْحَابِ الْحُقُوقِ وَالدُّيُونِ فِي
أَنْ يُخَفِّفُوا مِنْهَا وَفِيهَا جَوَازُ مُخَارَجَةِ
الْعَبْدِ بِرِضَاهُ وَرِضَاءِ سَيِّدِهِ وَحَقِيقَةُ
الْمُخَارَجَةِ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ
تَكْتَسِبُ وَتُعْطِينِي مِنَ الْكَسْبِ كُلَّ يَوْمٍ
دِرْهَمًا مَثَلًا وَالْبَاقِي لَكَ أَوْ فِي كُلِّ
أُسْبُوعٍ كَذَا وَكَذَا وَيُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا
[1577] قَوْلُهُ (حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ) هُوَ بِطَاءٍ
مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ
ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَهُوَ عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ
اسْمُهُ نَافِعٌ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَا تُعَذِّبُوا
صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ) هُوَ بغين معجمة
(10/242)
مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ
زَايٍ مَعْنَاهُ لَا تَغْمِزُوا حَلْقَ الصَّبِيِّ
بِسَبَبِ الْعُذْرَةِ وَهُوَ وَجَعُ الْحَلْقِ بَلْ
دَاوُوهُ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ وَهُوَ العود الهندي
(10/243)
(باب تحريم بيع الخمر
[1578] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ
اللَّهَ يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ وَلَعَلَّ اللَّهَ
سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا
شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ) قَالَ فَمَا
لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
الْخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ
مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ قَالَ
فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ منها في
طريق المدينة فسفكوها) يعني رَاقُوهَا وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ
وُرُودِ الشَّرْعِ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا بِتَحْرِيمٍ وَلَا
غَيْرِهِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ
لِلْأُصُولِيِّينَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا حُكْمَ وَلَا
تَكْلِيفَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رسولا)
(11/2)
وَالثَّانِي أَنَّ أَصْلَهَا عَلَى
التَّحْرِيمِ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِغَيْرِ ذَلِكَ
وَالثَّالِثُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالرَّابِعُ عَلَى
الْوَقْفِ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ التَّنَفُّسِ
وَنَحْوِهِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ
الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً
بِلَا خِلَافٍ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ
تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا
بَذْلُ النَّصِيحَةِ للمسلمين في دينهم ودنياهم لأنه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَحَهُمْ فِي
تَعْجِيلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَا دَامَتْ حَلَالًا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَا
يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا فِيهِ
تَحْرِيمُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ
وَالْعِلَّةُ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ
كَوْنُهَا نَجِسَةً أَوْ لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ
مُبَاحَةٌ مَقْصُودَةٌ فَيَلْحَقُ بِهَا جَمِيعُ
النَّجَاسَاتِ كَالسِّرْجِينِ وَذَرْقِ الحمام وغيره وكذلك
يلحق بها ماليس فيه منفعة مقصودة كَالسِّبَاعِ الَّتِي لَا
تَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ وَالْحَشَرَاتُ وَالْحَبَّةُ
الْوَاحِدَةُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا
يَجُوزُ بيع شئ من ذلك وأما الحديث المشهور في كتب
السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ إِذَا
حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ
ثمنه فمحمول على ما المقصود منه الأكل بخلاف ما المقصود
منه غير ذلك كالعبد والبغل وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ
فَإِنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ وَبَيْعَهَا جَائِزٌ
بِالْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ) أَيْ
أَدْرَكَتْهُ حَيًّا وَبَلَغَتْهُ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
الْآيَةَ قَوْلُهُ (فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ
عِنْدَهُمْ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ
فَسَفَكُوهَا) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ تَخْلِيلِهَا
وَوُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ بِإِرَاقَتِهَا وَتَحْرِيمِ
إِمْسَاكِهَا وَلَوْ جَازَ التَّخْلِيلُ لَبَيَّنَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ
وَنَهَاهُمْ عَنْ إِضَاعَتِهَا كَمَا نَصَحَهُمْ
وَحَثَّهُمْ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ
تَحْرِيمِهَا حِينَ تَوَقَّعَ نُزُولَ تَحْرِيمِهَا
وَكَمَا نَبَّهَ أَهْلَ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ عَلَى
دِبَاغِ جِلْدِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَمِمَّنْ قَالَ
بِتَحْرِيمِ تَخْلِيلِهَا وَأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ
بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ
وَمَالِكٌ فِي أصح الروايتين عنه وجوزه الأوزاعي والليبث
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ
وَأَمَّا إذا انقلبت بنفسها خلا فيظهر عِنْدَ جَمِيعِهِمْ
إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ سَحْنُونٍ الْمَالِكِيِّ أَنَّهُ
قَالَ لَا يَطْهُرُ قَوْلُهُ
(11/3)
[1579] (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
وَعْلَةَ السَّبَئِيِّ) هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ
مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ
مَنْسُوبٌ إِلَى سَبَأٍ وَأَمَّا وَعْلَةُ فَبِفَتْحِ
الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسَبَقَ
بَيَانُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي حَدِيثِ
الدِّبَاغِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلَّذِي أَهْدَى إِلَيْهِ الْخَمْرَ (هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا قَالَ لَا) لَعَلَّ السُّؤَالَ
كَانَ لِيَعْرِفَ حَالَهُ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا
بِتَحْرِيمِهَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ هَدِيَّتَهَا وامساكها
وحملها وعزره عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ عَذَرَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ
هَذِهِ الْقَضِيَّةَ كَانَتْ عَلَى قُرْبِ تَحْرِيمِ
الْخَمْرِ قَبْلَ اشْتِهَارِ ذَلِكَ وَفِي هَذَا أَنَّ
مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً جَاهِلًا تحريمها لا إثم عليه
ولا تعزيز قَوْلُهُ (فَسَارَّ إِنْسَانًا فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَ
سَارَرْتَهُ فَقَالَ أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا) الْمُسَارِرُ
الَّذِي خَاطَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي أَهْدَى الزاوية كَذَا
جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ
وَأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ دَوْسٍ قَالَ الْقَاضِي وَغَلِطَ
بَعْضُ الشَّارِحِينَ فَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ عَنْ
بَعْضِ أَسْرَارِ الْإِنْسَانِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ
كِتْمَانُهُ كَتَمَهُ وَإِلَّا فَيَذْكُرُهُ قَوْلُهُ
(فَفَتَحَ الْمَزَادَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ
النُّسَخِ الْمَزَادَ بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي آخِرِهَا
وَفِي بَعْضِهَا الْمَزَادَةَ بِالْهَاءِ وَقَالَ فِي أول
الحديث أهدى راوية وهي مي قال أبو عبيد هما بمعنى وقال بن
السِّكِّيتِ إِنَّمَا يُقَالُ لَهَا مَزَادَةٌ وَأَمَّا
الرَّاوِيَةُ فَاسْمٌ لِلْبَعِيرِ خَاصَّةً وَالْمُخْتَارُ
قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ لِأَبِي
عُبَيْدٍ فَإِنَّهُ سَمَّاهَا رَاوِيَةً وَمَزَادَةً
قَالُوا سُمِّيَتْ رَاوِيَةً لِأَنَّهَا تَرْوِي
صَاحِبَهَا وَمَنْ مَعَهُ وَالْمَزَادَةُ لِأَنَّهُ
يَتَزَوَّدُ فِيهَا الماء
(11/4)
فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ
لِأَنَّهُ يُزَادُ فِيهَا جلد ليتسع وفي قوله ففتح المراد
دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّ
أَوَانِيَ الْخَمْرِ لَا تُكْسَرُ وَلَا تُشَقُّ بَلْ
يُرَاقُ مَا فِيهَا وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ
إِحْدَاهُمَا كَالْجُمْهُورِ وَالثَّانِيَةُ يُكْسَرُ
الْإِنَاءُ وَيُشَقُّ السِّقَاءُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا
أَصْلَ لَهُ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُمْ
كَسَرُوا الدِّنَانَ فَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ
بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهَا (لَمَّا أُنْزِلَتِ
[1580] الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي
الرِّبَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاقْتَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حَرَّمَ
التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ) قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ
تَحْرِيمُ الْخَمْرِ هُوَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ
نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الرِّبَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ
فَإِنَّ آية الربا آخر مانزل أَوْ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْيُ عَنِ
التِّجَارَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَحْرِيمِهَا وَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُ أَخْبَرَ بِتَحْرِيمِ التِّجَارَةِ حِينَ
حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثُمَّ أُخْبِرَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى
بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الرِّبَا تَوْكِيدًا وَمُبَالَغَةً
فِي إِشَاعَتِهِ وَلَعَلَّهُ حَضَرَ الْمَجْلِسَ مَنْ لَمْ
يَكُنْ بَلَغَهُ تَحْرِيمُ التِّجَارَةِ فِيهَا قَبْلَ
ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم
(11/5)
(بَاب تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ
[1581] قَوْلُهُ (عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَامَ
الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ
وَالْأَصْنَامِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ
شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ
وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا
النَّاسُ فَقَالَ لَا هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ
قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ ثُمَّ
بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) يُقَالُ أَجْمَلَ الشَّحْمَ
وَجَمَلَهُ أَيْ أَذَابَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا هُوَ حَرَامٌ فَمَعْنَاهُ
لَا تَبِيعُوهَا فَإِنَّ بَيْعَهَا حَرَامٌ وَالضَّمِيرُ
فِي هُوَ يَعُودُ إِلَى الْبَيْعِ لَا إِلَى الِانْتِفَاعِ
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ
أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ فِي
طَلْيِ السُّفُنِ وَالِاسْتِصْبَاحِ بِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا فِي بَدَنِ الْآدَمِيِّ
وَبِهَذَا قَالَ أَيْضًا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ
وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ
الْجُمْهُورُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي شَيْءٍ
أَصْلًا لِعُمُومِ النهي عن الانتفاع بالميتة الا ماخص
وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ وَأَمَّا الزَّيْتُ
وَالسَّمْنُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْأَدْهَانِ الَّتِي
أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ فَهَلْ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ
بِهَا وَنَحْوُهُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فِي غَيْرِ
الْأَكْلِ وَغَيْرِ الْبَدَنِ أَوْ يُجْعَلُ مِنَ
الزَّيْتِ صَابُونٌ أَوْ يُطْعِمُ الْعَسَلَ
الْمُتَنَجِّسَ لِلنَّحْلِ أَوْ يُطْعِمُ الْمَيْتَةَ
لِكِلَابِهِ أَوْ يُطْعِمُ الطَّعَامَ النَّجِسَ لدوابه)
(11/6)
فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ السَّلَفِ الصَّحِيحُ
مِنْ مَذْهَبِنَا جَوَازُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَنَقَلَهُ
الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ
وَرُوِيَ نحوه عن علي وبن عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى
وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ وَأَجَازَ أبوحنيفة
وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ وَغَيْرُهُمْ بَيْعَ الزَّيْتِ
النَّجِسِ إِذَا بَيَّنَهُ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
الْمَاجِشُونِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَحْمَدُ بْنُ
صَالِحٍ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْعُلَمَاءُ وَفِي عُمُومِ تَحْرِيمِ بَيْعِ
الْمَيْتَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ جُثَّةِ الْكَافِرِ
إِذَا قَتَلْنَاهُ وَطَلَبَ الْكُفَّارُ شِرَاءَهُ أَوْ
دَفْعَ عِوَضٍ عَنْهُ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ
نَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّ قَتَلَهُ
الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَبَذَلَ الْكُفَّارُ
فِي جَسَدِهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْخُذْهَا وَدَفَعَهُ
إِلَيْهِمْ وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا نَحْوَ هَذَا
قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِلَّةُ فِي مَنْعِ بَيْعِ
الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ النَّجَاسَةُ
فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ نَجَاسَةٍ وَالْعِلَّةُ فِي
الْأَصْنَامِ كَوْنُهَا لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ
مُبَاحَةٌ فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ إِذَا كُسِرَتْ
يُنْتَفَعُ بِرُضَاضِهَا
(11/7)
فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ
لِأَصْحَابِنَا مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ لِظَاهِرِ
النَّهْيِ وَإِطْلَاقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ
اعْتِمَادًا عَلَى الِانْتِفَاعِ وَتَأَوَّلَ الْحَدِيثَ
عَلَى مالم يُنْتَفَعْ بِرُضَاضِهِ أَوْ عَلَى كَرَاهَةِ
التَّنْزِيهِ فِي الْأَصْنَامِ خَاصَّةً وَأَمَّا
الْمَيْتَةُ وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فَأَجْمَعَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي تَضَمَّنَ
هَذَا الْحَدِيثُ أن مالا يَحِلُّ أَكْلُهُ
وَالِانْتِفَاعُ بِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَحِلُّ
أَكْلُ ثَمَنِهِ كَمَا فِي الشُّحُومِ الْمَذْكُورَةِ فِي
الْحَدِيثِ فَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْيَهُودِ
وَالْمَلَاحِدَةِ بِأَنَّ الِابْنَ إِذَا وَرِثَ مِنْ
أَبِيهِ جَارِيَةً كَانَ الْأَبُ وَطِئَهَا فَإِنَّهَا
تَحْرُمُ عَلَى الِابْنِ وَيَحِلُّ لَهُ بَيْعُهَا
بِالْإِجْمَاعِ وَأَكْلُ ثَمَنِهَا قَالَ الْقَاضِي
وَهَذَا تَمْوِيهٌ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ لِأَنَّ
جَارِيَةَ الْأَبِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الِابْنِ مِنْهَا
غَيْرُ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى هَذَا الْوَلَدِ دون غير
مِنَ النَّاسِ وَيَحِلُّ لِهَذَا الِابْنِ الِانْتِفَاعُ
بِهَا فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ سِوَى الِاسْتِمْتَاعِ
وَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ الِاسْتِمْتَاعُ وَغَيْرُهُ
بِخِلَافِ الشُّحُومِ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْمَقْصُودِ
مِنْهَا وَهُوَ الْأَكْلُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ
الْيَهُودِ وَكَذَلِكَ شُحُومُ الْمَيْتَةِ مُحَرَّمَةُ
الْأَكْلِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَكَانَ مَا عَدَا الْأَكْلِ
تَابِعًا لَهُ بخلاف موطوت الْأَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَابُ الرِّبَا)
مَقْصُورٌ وَهُوَ مِنْ رَبَا يَرْبُو فَيُكْتَبُ
بِالْأَلِفِ وَتَثْنِيَتُهُ رِبَوَانِ وَأَجَازَ
الْكُوفِيُّونَ كَتْبُهُ وَتَثْنِيَتُهُ بِالْيَاءِ
لِسَبَبِ الْكَسْرَةِ فِي أَوَّلِهِ وَغَلَّطَهُمُ
الْبَصْرِيُّونَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي
الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّمَا
كَتَبُوهُ بِالْوَاوِ لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ
تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَلُغَتُهُمُ
الرَّبْوُ فَعَلَّمُوهُمْ صُورَةَ الْخَطِّ عَلَى
لُغَتِهِمْ قَالَ وَكَذَا قَرَأَهَا أَبُو سِمَاكٍ
الْعَدَوِيُّ بِالْوَاوِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ بِالْإِمَالَةِ بِسَبَبِ كَسْرَةِ
الرَّاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ لِفَتْحَةِ
الْيَاءِ قَالَ وَيَجُوزُ كَتْبُهُ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ
وَالْيَاءِ وقال أهل اللغة
(11/8)
والرماء بِالْمِيمِ وَالْمَدِّ هُوَ
الرِّبَا وَكَذَلِكَ الرُّبْيَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ
وَالتَّخْفِيفِ لُغَةٌ فِي الرِّبَا وَأَصْلُ الرِّبَا
الزِّيَادَةُ يُقَالُ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ
وَأَرْبَى الرَّجُلُ وَأَرْمَى عَامَلَ بِالرِّبَا وَقَدْ
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي
الْجُمْلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي ضَابِطِهِ
وَتَفَارِيعِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وأحل الله البيع
وحرم الربا وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ
وَنَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي
سِتَّةِ أَشْيَاءَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ
وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ فَقَالَ أَهْلُ
الظَّاهِرِ لَا رِبَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السِّتَّةِ
بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ قَالَ
جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ سِوَاهُمْ لَا يَخْتَصُّ
بِالسِّتَّةِ بَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَا فِي مَعْنَاهَا
وَهُوَ مَا يُشَارِكُهَا فِي الْعِلَّةِ وَاخْتَلَفُوا فِي
الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي
السِّتَّةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْعِلَّةُ فِي
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا جِنْسُ الْأَثْمَانِ
فَلَا يَتَعَدَّى الرِّبَا مِنْهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا
مِنَ الْمَوْزُونَاتِ وَغَيْرِهَا لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ
قَالَ وَالْعِلَّةُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ
كَوْنُهَا مَطْعُومَةً فَيَتَعَدَّى الرِّبَا مِنْهَا
إِلَى كُلِّ مَطْعُومٍ وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ فِي
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْعِلَّةُ
فِيهَا كَوْنُهَا تُدَّخَرُ لِلْقُوتِ وَتَصْلُحُ لَهُ
فَعَدَّاهُ إِلَى الزَّبِيبِ لِأَنَّهُ كَالتَّمْرِ
وَإِلَى الْقُطْنِيَّةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبُرِّ
وَالشَّعِيرِ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ الْعِلَّةُ
فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْوَزْنُ وَفِي الْأَرْبَعَةِ
الْكَيْلُ فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَوْزُونٍ مِنْ
نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَغَيْرِهِمَا وَإِلَى كُلِّ مَكِيلٍ
كَالْجِصِّ وَالْأُشْنَانِ وَغَيْرِهِمَا وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ الْعِلَّةُ فِي الْأَرْبَعَةِ كَوْنُهَا
مَطْعُومَةً مَوْزُونَةً أَوْ مَكِيلَةً بِشَرْطِ
الْأَمْرَيْنِ فَعَلَى هَذَا لَا رِبَا فِي الْبِطِّيخِ
وَالسَّفَرْجَلِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا
يُوزَنُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ
الرِّبَوِيِّ بِرِبَوِيٍّ لَا يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ
مُتَفَاضِلًا وَمُؤَجَّلًا وَذَلِكَ كَبَيْعِ الذَّهَبِ
بِالْحِنْطَةِ وَبَيْعِ الْفِضَّةِ بِالشَّعِيرِ
وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَكِيلِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ وَأَحَدُهُمَا
مُؤَجَّلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ إِذَا
بِيعَ بِجِنْسِهِ حَالًّا كَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَعَلَى
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ التَّقَابُضِ
إِذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مِمَّا
يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ
وَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ
التَّفَاضُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إِذَا كَانَ
يَدًا بِيَدٍ كَصَاعِ حِنْطَةٍ بِصَاعَيْ شَعِيرٍ وَلَا
خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إِلَّا
مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ بن
عَبَّاسٍ فِي تَخْصِيصِ الرِّبَا بِالنَّسِيئَةِ قَالَ
الْعُلَمَاءُ وَإِذَا بِيعَ الذَّهَبُ بِذَهَبٍ أَوِ
الْفِضَّةُ بِفِضَّةٍ سُمِّيَتْ مُرَاطَلَةً وَإِذَا
بِيعَتِ الْفِضَّةُ بِذَهَبٍ سُمِّيَ
(11/9)
صَرْفًا لِصَرْفِهِ عَنْ مُقْتَضَى
الْبِيَاعَاتِ مِنْ جَوَازِ الفاضل وَالتَّفَرُّقِ قَبْلَ
الْقَبْضِ وَالتَّأْجِيلِ وَقِيلَ مِنْ صَرِيفِهِمَا
وَهُوَ تَصْوِيتُهُمَا فِي الْمِيزَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا
تَبِيعُوا الذَّهَبَ
[1584] بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا
سَوَاءً بِسَوَاءٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا يَتَنَاوَلُ
جَمِيعَ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مِنْ جَيِّدٍ
وَرَدِيءٍ وَصَحِيحٍ وَمَكْسُورٍ وَحُلِيٍّ وَتِبْرٍ
وَغَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ الْخَالِصُ وَالْمَخْلُوطُ
بِغَيْرِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تُشِفُّوا
بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ) هُوَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ
الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ لَا
تُفَضِّلُوا وَالشِّفُّ بِكَسْرِ الشِّينِ وَيُطْلَقُ
أَيْضًا عَلَى النُّقْصَانِ فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ
يُقَالُ شَفَّ الدِّرْهَمُ بِفَتْحِ الشِّينِ يَشِفُّ
بِكَسْرِهَا إِذَا زَادَ وَإِذَا نَقَصَ وَأَشَفَّهُ
غَيْرُهُ يَشِفُّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ)
الْمُرَادُ بِالنَّاجِزِ الْحَاضِرُ وَبِالْغَائِبِ
الْمُؤَجَّلُ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
تَحْرِيمِ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ
مُؤَجَّلًا وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ أَوْ
بِالشَّعِيرِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْئَيْنِ اشْتَرَكَا فِي
عِلَّةِ الرِّبَا أَمَّا إِذَا بَاعَ دِينَارًا بِدِينَارٍ
كِلَاهُمَا فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ
الدِّينَارَ أَوْ بَعَثَ مَنْ أَحْضَرَ لَهُ دِينَارًا
مِنْ بَيْتِهِ وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ
(11/10)
بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ
الشَّرْطَ أَنْ لا يَتَفَرَّقَا بِلَا قَبْضٍ وَقَدْ
حَصَلَ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بعد هذه ولا تبيعوا شيئا غائبا
منها بِنَاجِزٍ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا قَوْلُ
الْقَاضِي عياض أنفق الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ إِذَا كَانَ
أَحَدُهُمَا مُؤَجَّلًا أَوْ غَابَ عَنِ الْمَجْلِسِ
فَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابَهُ
وَغَيْرَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الصُّوَرِ
الَّتِي ذَكَرْتُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا
بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ
(11/11)
الْأَلْفَاظِ تَوْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي
الْإِيضَاحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رَبًّا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ)
[1586] فِيهِ لُغَتَانِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ وَالْمَدُّ
أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَأَصْلُهُ هَاكَ فَأُبْدِلَتِ
الْمَدَّةُ مِنَ الْكَافِ وَمَعْنَاهُ خُذْ هَذَا
وَيَقُولُ صَاحِبُهُ مِثْلَهُ وَالْمَدَّةُ مَفْتُوحَةٌ
وَيُقَالُ بِالْكَسْرِ أَيْضًا وَمَنْ قَصَرَهُ قَالَ
وَزْنُهُ وَزْنُ خَفْ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ هَا كخف
والاثنين هاءا كخافا وللجمع هاؤا كَخَافُوا
وَالْمُؤَنَّثَةِ هَاكِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثَنِّي
وَلَا يَجْمَعُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا يُغَيِّرُهَا
فِي التَّأْنِيثِ بَلْ يَقُولُ فِي الْجَمِيعِ هَا قَالَ
السِّيرَافِيُّ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا صَوْتًا كَصَهْ
وَمَنْ ثَنَّى وَجَمَعَ قَالَ لِلْمُؤَنَّثَةِ هَاكِ وَهَا
لُغَتَانِ وَيُقَالُ فِي لُغَةٍ هَاءِ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ
الْهَمْزَةِ للذكر وللأنثى هاتي بزيادة ثاء وَأَكْثَرُ
أَهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَ هَا بِالْقَصْرِ وَغَلَّطَ
الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ الْمُحَدِّثِينَ فِي رِوَايَةِ
الْقَصْرِ وَقَالَ الصَّوَابُ الْمَدُّ وَالْفَتْحُ
وَلَيْسَتْ بِغَلَطٍ بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً قَالَ الْقَاضِي وَفِيهِ لُغَةٌ
أُخْرَى هَاءَكَ بِالْمَدِّ وَالْكَافِ قَالَ الْعُلَمَاءُ
وَمَعْنَاهُ التَّقَابُضُ
(11/12)
فَفِيهِ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ فِي
بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِالرِّبَوِيِّ إِذَا اتَّفَقَا فِي
عِلَّةِ الرِّبَا سَوَاءٌ اتَّفَقَ جِنْسُهُمَا كَذَهَبٍ
بِذَهَبٍ أَمِ اخْتَلَفَ كَذَهَبٍ بِفِضَّةٍ وَنَبَّهَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
بِمُخْتَلِفِ الْجِنْسِ عَلَى مُتَّفِقِهِ وَاسْتَدَلَّ
أَصْحَابُ مَالِكٍ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
التَّقَابُضُ عَقِبَ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ أَخَّرَهُ عَنِ
الْعَقْدِ وَقَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ
عِنْدَهُمْ وَمَذْهَبُنَا صِحَّةُ الْقَبْضِ فِي
الْمَجْلِسِ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْعَقْدِ يوما أو
أياما واكثر مالم يَتَفَرَّقَا وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
حُجَّةٌ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يُصَارِفَ صَاحِبَ
الذَّهَبِ فَيَأْخُذَ الذَّهَبَ وَيُؤَخِّرَ دَفْعَ
الدَّرَاهِمِ إِلَى مَجِيءِ الْخَادِمِ فَإِنَّمَا قَالَهُ
لِأَنَّهُ ظَنَّ جَوَازَهُ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ وَمَا
كَانَ بلغة حكم المسألة فأبلغه اياه عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فَتَرَكَ الْمُصَارَفَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1587] (الْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا
بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ) فَإِذَا
اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ
شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ
فِي أَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ صِنْفَانِ وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ
وَفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَآخَرِينَ وَقَالَ مَالِكٌ
وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمُعْظَمُ عُلَمَاءِ
الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنَّهَا
صِنْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَسَعِيدٍ
وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّخَنَ صِنْفٌ وَالذُّرَةَ
صِنْفٌ والارز صنف الا الليث بن سعد وبن وهب فقالا هذه
الثلاثة صنف وَاحِدٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى)
مَعْنَاهُ فَقَدْ فَعَلَ الرِّبَا الْمُحَرَّمَ فَدَافِعُ
الزِّيَادَةِ وَآخُذُهَا عَاصِيَانِ مُرْبِيَانِ قَوْلُهُ
(فَرَدَّ النَّاسُ) مَا أَخَذُوا هَذَا دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ الْبَيْعَ الْمَذْكُورَ بَاطِلٌ قَوْلُهُ (أَنَّ
عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا
سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ) أو قَالَ وَإِنْ
رَغِمَ يُقَالُ رَغِمَ
(11/13)
بكسر الغين وفتحها ومعناه ذلك وَصَارَ
كَاللَّاصِقِ بِالرُّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ وَفِي هَذَا
الِاهْتِمَامُ بِتَبْلِيغِ السُّنَنِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ
وَإِنْ كَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ لِمَعْنًى وَفِيهِ
الْقَوْلُ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ
كَبِيرًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(يَدًا بِيَدٍ) حُجَّةٌ لِلْعُلَمَاءِ كَافَّةً فِي
وُجُوبِ التَّقَابُضِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ
وَجَوَّزَ إسماعيل بن عليه التقرق عِنْدَ اخْتِلَافِ
الْجِنْسِ وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْأَحَادِيثِ
وَالْإِجْمَاعِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ
فَلَوْ بَلَغَهُ
(11/14)
لَمَا خَالَفَهُ قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا
سُلَيْمَانُ الرَّبَعِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ
وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي
رَبِيعَةَ
[1588] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(إِلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ) يَعْنِي أَجْنَاسَهُ
كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ
(11/15)
قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ
بِالذَّهَبِ دَيْنًا) يَعْنِي مُؤَجَّلًا أَمَّا إِذَا
بَاعَهُ بِعِوَضٍ فِي الذِّمَّةِ حَالٍّ فَيَجُوزُ كَمَا
سَبَقَ قَوْلُهُ (أَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الْفِضَّةَ
بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا)
[1590] يَعْنِي سَوَاءً وَمُتَفَاضِلًا وَشَرْطُهُ أَنْ
يَكُونَ حَالًّا وَيَتَقَابَضَا فِي المجلس
(11/16)
قَوْلُهُ (سَمِعَ عُلَيَّ بْنَ رَبَاحٍ)
هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ
بِفَتْحِهَا وَقِيلَ يُقَالُ بِالْوَجْهَيْنِ فَالْفَتْحُ
اسْمٌ وَالضَّمُّ لَقَبٌ قَوْلُهُ (عَنْ فَضَالَةَ بْنِ
عُبَيْدٍ قَالَ اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً
بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ
فَفَصَلْتُهَا فَوَجَدَتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ
عَشَرَ دِينَارًا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا تُبَاعُ حَتَّى
تُفْصَلَ) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخٍ مُعْتَمَدَةٍ قِلَادَةً
بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ
قِلَادَةً فِيهَا اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَنَقَلَ
الْقَاضِي أَنَّهُ وَقَعَ لِمُعْظَمِ شُيُوخِهِمْ
قِلَادَةً فِيهَا اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَأَنَّهُ
وَجَدَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ
الْغَسَّانِيِّ مُصَلَّحَةً قِلَادَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ
دِينَارًا قَالَ وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ وَبِهِ
يَصِحُّ الْكَلَامُ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالصَّوَابُ
مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا بِاثْنَيْ عَشَرَ وَهُوَ الَّذِي
أَصْلَحَهُ صَاحِبُ أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ
وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَاضِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ مَعَ
غَيْرِهِ بِذَهَبٍ حَتَّى يُفَصَّلَ فَيُبَاعَ الذَّهَبُ
بِوَزْنِهِ ذَهَبًا وَيُبَاعَ الْآخَرُ بِمَا أَرَادَ
وَكَذَا لَا تُبَاعُ فِضَّةٌ مَعَ غَيْرِهَا
(11/17)
بِفِضَّةٍ وَكَذَا الْحِنْطَةُ مَعَ
غَيْرِهَا بِحِنْطَةٍ وَالْمِلْحُ مَعَ غَيْرِهِ بِمِلْحٍ
وَكَذَا سَائِرُ الرِّبَوِيَّاتِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ
فَصْلِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّهَبُ فِي الصُّورَةِ
الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا
وَكَذَلِكَ بَاقِي الرِّبَوِيَّاتِ وَهَذِهِ هِيَ
الْمَسْأَلَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ الْمَعْرُوفَةُ بِمَسْأَلَةِ
مدعجوة وصورتها باع مدعجوة وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ
أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ لِهَذَا الْحَدِيثِ
وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِهِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمَالِكِيِّ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ
يَجُوزُ بَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ
وَلَا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ وَلَا بِدُونِهِ وَقَالَ مَالِكٌ
وَأَصْحَابُهُ وَآخَرُونَ يَجُوزُ بَيْعُ السَّيْفِ
الْمُحَلَّى بِذَهَبٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ فِي
مَعْنَاهُ مِمَّا فِيهِ ذَهَبٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ
بِالذَّهَبِ إِذَا كَانَ الذَّهَبُ فِي الْمَبِيعِ
تَابِعًا لِغَيْرِهِ وَقَدَّرُوهُ بِأَنْ يَكُونَ
الثُّلُثَ فَمَا دُونَهُ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالذَّهَبِ مُطْلَقًا
سَوَاءٌ بَاعَهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الذَّهَبِ أَوْ أَقَلَّ
أَوْ أَكْثَرَ وَهَذَا غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ
الْحَدِيثِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ
الْقِلَادَةِ وَأَجَابَتِ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ
الذَّهَبَ كَانَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ
دِينَارًا وَقَدِ اشْتَرَاهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا
قَالُوا وَنَحْنُ لَا نُجِيزُ هَذَا وَإِنَّمَا نُجِيزُ
الْبَيْعَ إِذَا بَاعَهَا بِذَهَبٍ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهَا
فَيَكُونُ مَا زَادَ مِنَ الذَّهَبِ الْمُنْفَرِدِ فِي
مُقَابَلَةِ الْخَرَزِ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مَعَ
الذَّهَبِ الْمَبِيعِ فَيَصِيرُ كَعِقْدَيْنِ وَأَجَابَ
الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ
كَانَ فِي بَيْعِ الْغَنَائِمِ لِئَلَّا يُغْبَنَ
الْمُسْلِمُونَ فِي بَيْعِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا
وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ لَا سِيَّمَا جَوَابُ
الطَّحَاوِيِّ فَإِنَّهُ دَعْوًى مُجَرَّدَةٌ قَالَ
أَصْحَابُنَا وَدَلِيلُ صِحَّةِ قَوْلِنَا وَفَسَادِ
التَّأْوِيلَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يُبَاعُ حَتَّى يُفَصَّلَ
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي اشْتِرَاطِ فَصْلِ أَحَدِهِمَا عن
الآخر في البيع وانه لافرق بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الذَّهَبُ
الْمَبِيعُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ
بَيْنَ بَيْعِ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا وَاللَّهُ
أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنِ الْجُلَاحِ أَبِي كَثِيرٍ) هُوَ
بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَآخِرُهُ حَاءٌ
مُهْمَلَةٌ قَوْلُهُ (كُنَّا
(11/18)
نُبَايِعُ الْيَهُودَ الْأُوقِيَّةَ
الذَّهَبَ بِالدِّينَارَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا
تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ)
يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ
الْأُوقِيَّةَ مِنْ ذَهَبٍ وَخَرَزٍ وَغَيْرِهِ
بِدِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَإِلَّا فَالْأُوقِيَّةُ
وَزْنُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا
لَا يَبْتَاعُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ ذَهَبٍ خَالِصٍ
بِدِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَهَذَا سَبَبُ مُبَايَعَةِ
الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ظَنُّوا جَوَازَهُ
لِاخْتِلَاطِ الذَّهَبِ بِغَيْرِهِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حرام حتى يميز
وَيُبَاعَ الذَّهَبُ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا وَوَقَعَ هُنَا
فِي النُّسَخِ الْوُقِيَّةَ الذَّهَبَ وَهِيَ لُغَةٌ
قَلِيلَةٌ وَالْأَشْهُرُ الْأُوقِيَّةُ بِالْهَمْزِ فِي
أَوَّلِهِ وَسَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ قَوْلُهُ
(فَطَارَتْ لِي وَلِأَصْحَابِي قِلَادَةٌ) أَيْ حَصَلَتْ
لَنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَوْلُهُ (وَاجْعَلْ ذَهَبَكَ فِي
كِفَّةٍ) هِيَ بِكَسْرِ الْكَافِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ
كِفَّةُ الْمِيزَانِ وَكُلُّ مُسْتَدِيرٍ بِكَسْرِ
الْكَافِ وَكُفَّةُ الثَّوْبِ وَالصَّائِدِ بِضَمِّهَا
وَكَذَلِكَ كُلُّ مُسْتَطِيلٍ وَقِيلَ بالوجهين فيهما معا
(11/19)
[1592] قَوْلُهُ (إِنَّ مَعْمَرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ
لِيَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ شَعِيرًا فَبَاعَهُ
بِصَاعٍ وَزِيَادَةٍ فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ رُدَّهُ وَلَا
تَأْخُذْهُ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامُ مِثْلًا
بِمِثْلٍ قَالَ وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمئِذٍ الشَّعِيرَ
فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ فَقَالَ إِنِّي
أَخَافُ أَنْ يُضَارِعَ) مَعْنَى يُضَارِعُ يُشَابِهُ
وَيُشَارِكُ وَمَعْنَاهُ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى
الْمُمَاثِلِ فَيَكُونَ لَهُ حُكْمُهُ فِي تَحْرِيمِ
الرِّبَا وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي
كَوْنِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ صِنْفًا وَاحِدًا لَا
يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا
وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُمَا
صِنْفَانِ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا كَالْحِنْطَةِ
مَعَ الْأَرُزِّ وَدَلِيلُنَا مَا سَبَقَ عِنْدَ قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ
هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ مَعَ مَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا
بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ
أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ
هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ
بِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا خَافَ مِنْ ذَلِكَ
فَتَوَرَّعَ عَنْهُ احْتِيَاطًا قَوْلُهُ (قَدِمَ بِتَمْرٍ
جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ
[1593] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا قَالَ لَا وَاللَّهِ
يارسول اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ
(11/20)
بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا
وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ
الْمِيزَانُ) أَمَّا الْجَنِيبُ فَبِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ
ثُمَّ نُونٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ ثُمَّ
مُوَحَّدَةٍ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ مِنْ أَعْلَاهُ
وَأَمَّا الْجَمْعُ فَبِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ
الْمِيمِ وَهُوَ تَمْرٌ رَدِيءٌ وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي
الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ بِأَنَّهُ الْخَلْطُ مِنَ
التَّمْرِ وَمَعْنَاهُ مَجْمُوعٌ مِنْ أَنْوَاعٍ
مُخْتَلِفَةٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ
هَذَا الْعَامِلَ الَّذِي بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ لَمْ
يَعْلَمْ تَحْرِيمَ هَذَا لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَوَائِلِ
تَحْرِيمِ الرِّبَا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ
بِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْحَابُنَا وَمُوَافِقُوهُمْ فِي
أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ وَهِيَ
الْحِيلَةُ الَّتِي يَعْمَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ
تَوَصُّلًا إِلَى مَقْصُودِ الرِّبَا بِأَنْ يُرِيدَ أَنْ
يُعْطِيَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْنِ فَيَبِيعَهُ
ثَوْبًا بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ بِمِائَةٍ
وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ
بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرَوْا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَلَمْ
يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ
مِنْ غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ وَهَذَا
كُلُّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَآخَرِينَ
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ هُوَ حَرَامٌ وَأَمَّا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا
الْمِيزَانُ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ لِأَنَّهُ
ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا وَمُوَافِقُوهُمْ بِأَنَّ
مَعْنَاهُ
(11/21)
وكذلك الميزان لا يجوز التفاصل فِيهِ
فِيمَا كَانَ رِبَوِيًّا مَوْزُونًا قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا)
[1594] قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هِيَ كَلِمَةُ تَوَجُّعٍ
وَتَحَزُّنٍ وَمَعْنَى عَيْنُ الرِّبَا أَنَّهُ حَقِيقَةُ
الرِّبَا الْمُحَرَّمِ وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لُغَاتٌ
الْفَصِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الرِّوَايَاتِ أَوَّهْ
بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ مُشَدَّدَةٍ
وَهَاءٍ سَاكِنَةٍ وَيُقَالُ بِنَصَبِ الْهَاءِ
مُنَوَّنَةً وَيُقَالُ أُوهِ بِإِسْكَانِ الْوَاو وَكَسْرِ
الْهَاءِ مُنَوَّنَةً وَغَيْرُ مُنَوَّنَةٍ وَيُقَالُ
أَوٍّ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَكْسُورَةٍ مُنَوَّنَةٍ بِلَا
هَاءٍ وَيُقَالُ آهْ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَتَنْوِينِ
الْهَاءِ سَاكِنَةً مِنْ غَيْرِ وَاوٍ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
لِمَنِ اشْتَرَى صَاعًا بِصَاعَيْنِ (هَذَا الرِّبَا
فَرُدُّوهُ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ
بِبَيْعٍ فَاسِدٍ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ وَإِذَا
رَدَّهُ اسْتَرَدَّ الثَّمَنَ فَإِنْ قِيلَ فَلَمْ
يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّهِ فَالْجَوَابُ
أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَأَمَرَ
فِيهَا بِرَدِّهِ فَبَعْضُ الرُّوَاةِ حَفِظَ ذَلِكَ
وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَحْفَظْهُ فَقَبِلْنَا زِيَادَةَ
الثِّقَةِ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ
لَحُمِلَتِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا أَمَرَ بِهِ
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْنَا ذَلِكَ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ
لَمْ يَأْمُرْ بِهِ مَعَ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ
لَحَمَلْنَاهَا عَلَى أَنَّهُ جَهِلَ بَائِعَهُ وَلَا
يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ فَصَارَ مَالًا ضَائِعًا لِمَنْ
عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقِيمَتِهِ وَهُوَ
(11/22)
التَّمْرُ الَّذِي قَبَضَهُ عِوَضًا
فَحَصَلَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي الْحَدِيثِ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ قَوْلُهُ (سَأَلْتُ بن عَبَّاسٍ
[1594] عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ أَيَدًا بِيَدٍ قُلْتُ
نَعَمْ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ سألت بن
عمر وبن عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ
بَأْسًا قَالَ فَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ
فَقَالَ مَا زَادَ فَهُوَ رِبًا فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ
لِقَوْلِهِمَا فَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ حَدِيثَ نَهْيِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ بَيْعِ
صَاعَيْنِ بِصَاعٍ وَذَكَرْتُ رجوع بن عمر وبن عَبَّاسٍ
عَنْ إِبَاحَتِهِ إِلَى مَنْعِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الذي
بعده أن بن عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ
[1596] أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَفِي
رِوَايَةٍ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَفِي
رِوَايَةٍ لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ معنى ما
ذكره أولا عن بن عمر وبن عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا
يَعْتَقِدَانِ أَنَّهُ لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا
بِيَدٍ وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ
وَدِينَارٍ بِدِينَارَيْنِ وَصَاعِ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ
مِنَ التَّمْرِ وَكَذَا الْحِنْطَةُ وَسَائِرُ
الرِّبَوِيَّاتِ كَانَا يَرَيَانِ جَوَازَ بَيْعِ
الْجِنْسِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَأَنَّ
الرِّبَا لَا يَحْرُمُ
(11/23)
فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا إِذَا
كَانَ نَسِيئَةً وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّهُ
سَأَلَهُمَا عَنِ الصَّرْفِ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا
يَعْنِي الصَّرْفَ مُتَفَاضِلًا كَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ
وَكَانَ مُعْتَمَدَهُمَا حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ ثُمَّ رجع بن عمر وبن
عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَا بِتَحْرِيمِ بَيْعِ
الْجِنْسِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا حِينَ
بَلَغَهُمَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا ذَكَرَهُ
مُسْلِمٌ مِنْ رُجُوعِهِمَا صَرِيحًا وَهَذِهِ
الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ تَدُلُّ عَلَى
أن بن عمر وبن عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمَا حَدِيثُ
النَّهْيِ عَنِ التَّفَاضُلِ فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ
فَلَمَّا بَلَغَهُمَا
(11/24)
رَجَعَا إِلَيْهِ وَأَمَّا حَدِيثُ
أُسَامَةَ لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ فَقَدْ قَالَ
قَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ
بِظَاهِرِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ وَتَأَوَّلَهُ
آخَرُونَ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى
غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ وَهُوَ كَبَيْعِ الدَّيْنِ
بِالدَّيْنِ مُؤَجَّلًا بِأَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَهُ
ثَوْبٌ مَوْصُوفٌ فَيَبِيعُهُ بِعَبْدٍ مَوْصُوفٍ
مُؤَجَّلًا فَإِنْ بَاعَهُ بِهِ حَالًّا جَازَ الثَّانِي
أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ
فَإِنَّهُ لَا رِبًا فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّفَاضُلِ بَلْ
يَجُوزُ تَفَاضُلُهَا يَدًا بِيَدٍ الثَّالِثُ أَنَّهُ
مُجْمَلٌ وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مُبَيِّنٌ فَوَجَبَ
الْعَمَلُ بِالْمُبَيِّنِ وَتَنْزِيلُ الْمُجْمَلِ
عَلَيْهِ هَذَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ
(11/25)
رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا
هِقْلٌ) هُوَ بِكَسْرِ الهاء واسكان القاف قَوْلُهُ
(سَأَلَ شِبَاكٌ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ
مَكْسُورَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ قَوْلُهُ
(لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
[1598] آكل الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ
وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ) هذا تصريح بتحريم
كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما وَفِيهِ
تَحْرِيمُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبَاطِلِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
(11/26)
(بَاب أَخْذِ الْحَلَالِ وَتَرْكِ
الشُّبُهَاتِ)
[1599] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا
مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
إِلَى آخِرِهِ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عِظَمِ وَقْعِ
هَذَا الْحَدِيثِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَأَنَّهُ أَحَدُ
الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ
قَالَ جَمَاعَةٌ هُوَ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ
الْإِسْلَامَ يَدُورُ عَلَيْهِ وَعَلَى حَدِيثِ
الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَحَدِيثِ مِنْ حُسْنِ
إِسْلَامِ المرء تركه مالا يَعْنِيهُ وَقَالَ أَبُو
دَاوُدَ السِّخْتِيَانِيُّ يَدُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَحَادِيثَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَحَدِيثِ لَا يُؤْمِنُ
أَحَدكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ
لِنَفْسِهِ وَقِيلَ حَدِيثُ ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا
يُحِبُّكَ اللَّهُ وازهد مافي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ
النَّاسُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَبَبُ عِظَمِ مَوْقِعِهِ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ فِيهِ
عَلَى إِصْلَاحِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ
وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ يَنْبَغِي تَرْكُ الْمُشْتَبِهَاتِ
فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحِمَايَةِ دِينِهِ وَعِرْضِهِ
وَحَذَّرَ مِنْ مُوَاقَعَةِ الشُّبُهَاتِ وَأَوْضَحَ
ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْحِمَى ثُمَّ بَيَّنَ
أَهَمَّ الْأُمُورِ وَهُوَ مُرَاعَاةُ الْقَلْبِ فَقَالَ
صَلَّى الله عليه وسلم ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إِلَى
آخِرِهِ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن بصلاح
القلب يصلح باقي الجسد وبفساده يفسد باقيه وأما قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَلَالُ بَيِّنٌ
وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ
ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ حَلَالٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَا يَخْفَى
حِلُّهُ كَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِهِ وَالزَّيْتِ
وَالْعَسَلِ وَالسَّمْنِ وَلَبَنِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ
وَبَيْضِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ
وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالنَّظَرُ وَالْمَشْيُ وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِيهَا حَلَالٌ بَيِّنٌ
وَاضِحٌ لَا شَكَّ فِي حِلِّهِ وَأَمَّا الْحَرَامُ
الْبَيِّنُ فَكَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ
وَالْبَوْلِ والدم المسفوح وكذلك الزنى وَالْكَذِبُ
وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالنَّظَرُ إِلَى
الْأَجْنَبِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَأَمَّا
الْمُشْتَبِهَاتُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ
بِوَاضِحَةِ الْحِلِّ وَلَا الْحُرْمَةِ فَلِهَذَا لَا
يَعْرِفُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَعْلَمُونَ
حُكْمَهَا وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ
(11/27)
فَيَعْرِفُونَ حُكْمَهَا بِنَصٍّ أَوْ
قِيَاسٍ أَوِ اسْتِصْحَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا
تَرَدَّدَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَلَمْ
يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ اجْتَهَدَ فِيهِ
الْمُجْتَهِدُ فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ
الشرعي فإذا الحقه به صار حلالا وقد يكون دليله غَيْرَ
خَالٍ عَنِ الِاحْتِمَالِ الْبَيِّنِ فَيَكُونُ الْوَرَعُ
تَرْكَهُ وَيَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ
اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ
لِلْمُجْتَهِدِ فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ مُشْتَبَهٌ فَهَلْ
يُؤْخَذُ بِحِلِّهِ أَمْ بِحُرْمَتِهِ أَمْ يُتَوَقَّفُ
فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ
وَغَيْرُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُخَرَّجَةٌ عَلَى
الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ
الشَّرْعِ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ الْأَصَحُّ
أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ وَلَا
إِبَاحَةٍ وَلَا غَيْرِهَا لِأَنَّ التَّكْلِيفَ عِنْدَ
أَهْلِ الْحَقِّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ
وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهَا التَّحْرِيمُ وَالثَّالِثُ
الْإِبَاحَةُ وَالرَّابِعُ التَّوَقُّفُ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ) أَيْ حَصَلَ
لَهُ الْبَرَاءَةُ لِدِينِهِ مِنَ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ
وَصَانَ عِرْضَهُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ فِيهِ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ
حِمًى وَإِنْ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ) مَعْنَاهُ أَنَّ
الْمُلُوكَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ يَكُونُ لِكُلِّ
مَلِكٍ مِنْهُمْ حِمًى يَحْمِيهِ عَنِ النَّاسِ
وَيَمْنَعُهُمْ دُخُولَهُ فَمَنْ دَخَلَهُ أَوْقَعَ بِهِ
الْعُقُوبَةَ وَمَنِ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ لَا يُقَارِبُ
ذَلِكَ الْحِمَى خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ وَلِلَّهِ
تَعَالَى أَيْضًا حِمًى وَهِيَ مَحَارِمُهُ أَيْ
الْمَعَاصِي الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ كَالْقَتْلِ
وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالْخَمْرِ
وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَأَكْلِ
الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَذَا
حِمَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْ دَخَلَهُ بِارْتِكَابِهِ
شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَمَنْ
قَارَبَهُ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَمَنِ احْتَاطَ
لِنَفْسِهِ لم يقاربه ولا يتعلق بشئ يقربه من المعصية فلا
يدخل في شئ مِنَ الشُّبُهَاتِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً
إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ
فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) قَالَ
أَهْلُ اللُّغَةِ يقال صلح الشئ
(11/28)
وَفَسَدَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالسِّينِ
وَضَمِّهِمَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ
وَالْمُضْغَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ سُمِّيَتْ
بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُمْضَغُ فِي الْفَمِ لِصِغَرِهَا
قَالُوا الْمُرَادُ تَصْغِيرُ الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى بَاقِي الْجَسَدِ مَعَ أَنَّ صَلَاحَ الْجَسَدِ
وَفَسَادَهُ تَابِعَانِ لِلْقَلْبِ وَفِي هذا الحديث
التأكيد عَلَى السَّعْيِ فِي صَلَاحِ الْقَلْبِ
وَحِمَايَتِهِ مِنَ الْفَسَادِ وَاحْتُجَّ بِهَذَا
الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ لَا فِي
الرَّأْسِ وَفِيهِ خِلَافٌ مشهور مذهب أَصْحَابِنَا
وَجَمَاهِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ فِي الْقَلْبِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ فِي الدِّمَاغِ وَقَدْ
يُقَالُ فِي الرَّأْسِ وَحَكَوُا الْأَوَّلَ أَيْضًا عَنِ
الْفَلَاسِفَةِ وَالثَّانِي عَنِ الْأَطِبَّاءِ قَالَ
الْمَازِرِيُّ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فِي
الْقَلْبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ
كان له قلب وَبِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ
تَابِعًا لِلْقَلْبِ مَعَ أَنَّ الدِّمَاغَ مِنْ جُمْلَةِ
الْجَسَدِ فَيَكُونُ صَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ تَابِعًا
لِلْقَلْبِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَحِلًّا لِلْعَقْلِ
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فِي الدِّمَاغِ
بِأَنَّهُ إِذَا فَسَدَ الدِّمَاغُ فَسَدَ الْعَقْلُ
وَيَكُونُ مِنْ فَسَادِ الدِّمَاغِ الصَّرَعُ فِي
زَعْمِهِمْ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ
بِفَسَادِ الْعَقْلِ عِنْدَ فَسَادِ الدِّمَاغِ مَعَ أَنَّ
الْعَقْلَ لَيْسَ فِيهِ وَلَا امْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ
قَالَ الْمَازِرِيُّ لَا سِيَّمَا عَلَى أُصُولِهِمْ فِي
الِاشْتِرَاكِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ بَيْنَ الدِّمَاغِ
والقلب وهم يجعلون بين رأس المعدة وَالدِّمَاغِ
اشْتِرَاكًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنِ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَأَهْوَى
النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ) هَذَا
تَصْرِيحٌ بِسَمَاعِ النُّعْمَانِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ
الَّذِي قَالَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَجَمَاهِيرُ
الْعُلَمَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ يَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يُصِحُّونَ سَمَاعَ
النُّعْمَانِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهَذِهِ حِكَايَةٌ ضَعِيفَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي
الْحَرَامِ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ
مِنْ كَثْرَةِ تَعَاطِيهِ الشُّبُهَاتِ يُصَادِفُ
الْحَرَامَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ وَقَدْ يَأْثَمُ
بِذَلِكَ إِذَا نُسِبَ إِلَى تَقْصِيرٍ وَالثَّانِي
أَنَّهُ يَعْتَادُ التَّسَاهُلَ وَيَتَمَرَّنُ عَلَيْهِ
وَيَجْسُرُ عَلَى شُبْهَةٍ ثُمَّ شُبْهَةٍ أَغْلَظَ
مِنْهَا ثُمَّ أُخْرَى أَغْلَظَ وَهَكَذَا حَتَّى يَقَعَ
فِي الْحَرَامِ عَمْدًا وَهَذَا نَحْوَ قَوْلِ السَّلَفِ
الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ أَيْ تَسُوقُ إِلَيْهِ
عَافَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الشَّرِّ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ)
يُقَالُ أَوْشَكَ يُوشِكُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ
الشِّينِ أَيْ
(11/29)
يُسْرِعُ وَيَقْرَبُ قَوْلُهُ أَتَمُّ مِنْ
حَدِيثِهِمْ وَأَكْبَرُ هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ
وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ بِالْمُثَلَّثَةِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
(بَاب بَيْعِ الْبَعِيرِ وَاسْتِثْنَاءِ رُكُوبِهِ فِيهِ
حَدِيثُ جَابِرٍ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ احتج بِهِ
أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الدَّابَّةِ
وَيَشْتَرِطُ الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ رُكُوبَهَا وَقَالَ
مَالِكٌ يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَسَافَةُ
الرُّكُوبِ قَرِيبَةً وَحُمِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى
هَذَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ
لَا يَجُوزُ ذَلِكَ سَوَاءٌ قَلَّتِ الْمَسَافَةُ أَوْ
كَثُرَتْ وَلَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَاحْتَجُّوا
بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ
الثُّنْيَا وَبِالْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي النَّهْيِ عَنْ
بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ
بِأَنَّهَا قَضِيَّةُ عين تتطرق إليهااحتمالات قَالُوا
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ وَلَمْ يُرِدْ
حَقِيقَةَ الْبَيْعِ قَالُوا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّرْطَ
لَمْ يَكُنْ)
(11/30)
فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَضُرُّ
الشَّرْطُ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَلَعَلَّ
الشَّرْطَ كَانَ سَابِقًا فَلَمْ يُؤَثِّرْ ثُمَّ
تَبَرَّعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِإِرْكَابِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ
بِوُقِيَّةٍ وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ سَبَقَتْ مِرَارًا
وَيُقَالُ أُوقِيَّةٌ وَهِيَ أَشْهَرُ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا
بَأْسَ بِطَلَبِ الْبَيْعِ مِنْ مَالِكِ السِّلْعَةِ
وَإِنْ لَمْ يَعْرِضْهَا لِلْبَيْعِ قَوْلُهُ
(وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلَانَهُ) هُوَ بِضَمِّ
الْحَاءِ أَيِ الْحَمْلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى الله
عليه وسلم (أتراني ما كستك) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ
الْمُمَاكَسَةُ هِيَ الْمُكَالَمَةُ فِي النَّقْصِ مِنَ
الثَّمَنِ وَأَصْلُهَا النَّقْصُ وَمِنْهُ مَكْسُ
الظَّالِمِ وَهُوَ مَا يَنْتَقِصُهُ وَيَأْخُذُهُ مِنْ
أَمْوَالِ النَّاسِ قَوْلُهُ (فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ)
وَفِي رِوَايَةٍ بِخَمْسِ أَوَاقٍ وَزَادَنِي أُوقِيَّةً
وَفِي بَعْضِهَا بِأُوقِيَّتَيْنِ وَدِرْهَمٍ أو درهمين
وفي بعضها بأوقية ذهب وَفِي بَعْضِهَا بِأَرْبَعَةِ
دَنَانِيرَ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا اخْتِلَافَ
الرِّوَايَاتِ وَزَادَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَفِي
رِوَايَةٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَفِي رِوَايَةٍ
أَحْسِبُهُ بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ
وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ بِوُقِيَّةٍ أَكْثَرُ قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّاوُدِيُّ
أُوقِيَّةُ الذَّهَبِ قَدْرُهَا مَعْلُومٌ وَأُوقِيَّةُ
الْفِضَّةِ
(11/31)
أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا قَالَ وَسَبَبُ
اخْتِلَافِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ رَوَوْا
بِالْمَعْنَى وَهُوَ جَائِزٌ فَالْمُرَادُ وُقِيَّةُ
ذَهَبٍ كَمَا فَسَّرَهُ فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا رِوَايَةُ
مَنْ رَوَى أُوقِيَّةً مُطْلَقَةً وَأَمَّا مَنْ رَوَى
خَمْسَ أَوَاقٍ فَالْمُرَادُ خَمْسُ أَوَاقٍ مِنَ
الْفِضَّةِ وَهِيَ بِقَدْرِ قِيمَةِ أُوقِيَّةِ الذَّهَبِ
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِأُوقِيَّةِ
الذَّهَبِ عَمَّا وَقَعَ بِهِ الْعَقْدُ وعَنْ أَوَاقِ
الْفِضَّةِ عَمَّا حَصَلَ بِهِ الْإِيْفَاءُ وَلَا
يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا
كُلُّهُ زِيَادَةً عَلَى الْأُوقِيَّةِ كَمَا قَالَ فَمَا
زَالَ يَزِيدُنِي وَأَمَّا رِوَايَةُ أَرْبَعَةِ
دَنَانِيرَ فَمُوَافِقَةٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ
أَنْ تَكُونَ أُوقِيَّةُ الذَّهَبِ حِينَئِذٍ وَزْنَ
أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَأَمَّا رِوَايَةُ أُوقِيَّتَيْنِ
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِحْدَاهُمَا وَقَعَ بِهَا الْبَيْعُ
وَالْأُخْرَى زِيَادَةٌ كَمَا قَالَ وَزَادَنِي أُوقِيَّةً
وقوله ودرهم أَوْ دِرْهَمَيْنِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ
وَزَادَنِي قِيرَاطًا وَأَمَّا رِوَايَةُ عِشْرِينَ
دِينَارًا فَمَحْمُولَةٌ عَلَى دَنَانِيرَ صِغَارٍ كَانَتْ
لَهُمْ وَرِوَايَةُ أَرْبَعُ أَوَاقٍ شَكَّ فِيهَا
الرَّاوِي فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ (عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ) هُوَ بِفَاءٍ
مفتوحة ثم قاف وهي خرازاته أَيْ مَفَاصِلُ عِظَامِهِ
وَاحِدَتُهَا فَقَارَةٌ قَوْلُهُ (فَقُلْتُ لَهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَرُوسٌ) هَكَذَا يُقَالُ
لِلرَّجُلِ عَرُوسٌ كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ
لَفْظُهَا وَاحِدٌ لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي الْجَمْعِ
فَيُقَالُ رَجُلٌ عَرُوسٌ وَرِجَالٌ عُرُسٌ بِضَمِّ
الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَامْرَأَةٌ عَرُوسٌ وَنِسْوَةٌ
عَرَائِسُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(أَفَلَا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ
(11/32)
سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ
وَضَبْطُ لَفْظِهِ وَالْخِلَافُ فِي مَعْنَاهُ مَعَ شَرْحِ
مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْلُهُ (فَإِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ
أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ فَهُوَ لَكَ بِهَا قَالَ قَدْ
أَخَذْتُهُ بِهِ) هَذَا قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُنَا
فِي اشْتِرَاطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ
وَأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْمُعَاطَاةِ وَلَكِنَّ
الْأَصَحَّ الْمُخْتَارَ انْعِقَادُهُ بِالْمُعَاطَاةِ
وَهَذَا لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ بِالْمُعَاطَاةِ
فَإِنَّهُ لَمْ يَنْهَ فِيهِ عَنِ الْمُعَاطَاةِ
وَالْقَائِلُ بِالْمُعَاطَاةِ يُجَوِّزُ هَذَا فَلَا
يُرَدُّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْمُعَاطَاةَ إِنَّمَا
تَكُونُ إِذَا حَضَرَ الْعِوَضَانِ فَأَعْطَى وَأَخَذَ
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْضُرِ الْعِوَضَانِ أَوْ
أَحَدُهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ
لِأَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ
انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالْكِنَايَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذْتُهُ بِهِ مَعَ
قَوْلِ جَابِرٍ هُوَ لَكَ وَهَذَانِ اللَّفْظَانِ
كِنَايَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِبِلَالٍ (أَعْطِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ وَزِدْهُ)
فِيهِ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ
وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الزِّيَادَةِ
فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ وَإِرْجَاحِ الْوَزْنِ قَوْلُهُ
(فَأَخَذَهُ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الْحَرَّةِ) يَعْنِي
حَرَّةَ الْمَدِينَةِ كَانَ قِتَالٌ وَنَهْبٌ مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ هُنَاكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ مِنَ
الْهِجْرَةِ
(11/33)
قَوْلُهُ (فَبِعْتُهُ مِنْهُ بِخَمْسِ
أَوَاقٍ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فَبِعْتُهُ
مِنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ يُقَالُ
بِعْتُهُ وَبِعْتُ مِنْهُ وَقَدْ كَثُرَ ذِكْرُ
نَظَائِرِهِ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي
تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ
مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ) هُوَ مُكْرَمٌ بِضَمِّ الْمِيمِ
وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَأَمَّا
الْعَمِّيُّ فَبِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي
الْعَمِّ مِنْ تَمِيمٍ قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي
الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ) هُوَ بِالنُّونِ والجيم
(11/34)
مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي نَاجِيَةَ وَهُمْ
مِنْ بَنِي أُسَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ
الْغَسَّانِيُّ هُمْ أَوْلَادُ نَاجِيَةَ امْرَأَةٌ
كَانَتْ تَحْتَ أُسَامَةَ بن لؤي قوله (فلما قدم صرار)
هُوَ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمَكْسُورَةٍ
وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ واشهر ولم يذكر الا كثرون غَيْرَهُ
قَالَ الْقَاضِي وَهُوَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ
وَالْخَطَّابِيِّ وغيرهما وعند أكثر شيوخنا صرار بِصَادٍ
مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَهُوَ
مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ هِيَ بِئْرٌ قَدِيمَةٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ
أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى طَرِيقِ الْعِرَاقِ
قَالَ الْقَاضِي وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّهُ مَوْضِعٌ
لَا بِئْرٌ قَالَ وَضَبَطَهُ بَعْضُ الرواة في مسلم وبعضهم
في البخاري ضرار بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ
خَطَأٌ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ
فَلَمَّا قَدِمَ صِرَارَ غَيْرَ مَصْرُوفٍ وَالْمَشْهُورُ
صَرْفُهُ قَوْلُهُ (أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَذُبِحَتْ) فِيهِ
أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْبَقَرِ الذَّبْحُ لَا النَّحْرُ
وَلَوْ عُكِسَ جَازَ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَنُحِرَتْ فَالْمُرَادُ
بِالنَّحْرِ الذَّبْحُ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ
قَوْلُهُ (أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْمَسْجِدَ فَأُصَلِّيَ
رَكْعَتَيْنِ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَادِمِ مِنَ
السَّفَرِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيُصَلِّيَ فِيهِ
رَكْعَتَيْنِ وَفِيهِ أَنَّ نَافِلَةَ النَّهَارِ
يُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ
كَصَلَاةِ اللَّيْلِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ
الْجُمْهُورِ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا فَوَائِدَ
كَثِيرَةً إِحْدَاهَا هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
انْبِعَاثِ جَمَلِ جَابِرٍ وَإِسْرَاعِهِ بَعْدَ
إِعْيَائِهِ الثَّانِيَةُ جَوَازُ طَلَبِ الْبَيْعِ
مِمَّنْ لَمْ يَعْرِضْ سِلْعَتَهُ لِلْبَيْعِ الثَّالِثَةُ
جَوَازُ الْمُمَاكَسَةِ فِي الْبَيْعِ وَسَبَقَ
تَفْسِيرُهَا الرَّابِعَةُ اسْتِحْبَابُ سُؤَالِ الرَّجُلِ
الْكَبِيرِ أَصْحَابَهُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَالْإِشَارَةِ
عَلَيْهِمْ بِمَصَالِحِهِمْ الْخَامِسَةُ اسْتِحْبَابُ
نِكَاحِ الْبِكْرِ السَّادِسَةُ اسْتِحْبَابُ مُلَاعَبَةِ
الزَّوْجَيْنِ السَّابِعَةُ
(11/35)
فَضِيلَةُ جَابِرٍ فِي أَنَّهُ تَرَكَ
حَظَّ نَفْسِهِ مِنْ نِكَاحِ الْبِكْرِ وَاخْتَارَ
مَصْلَحَةَ أَخَوَاتِهِ بِنِكَاحِ ثَيِّبٍ تَقُومُ
بِمَصَالِحِهِنَّ الثَّامِنَةُ اسْتِحْبَابُ الِابْتِدَاءِ
بِالْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فِيهِ عِنْدَ
الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ التَّاسِعَةُ اسْتِحْبَابُ
الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ الْعَاشِرَةُ اسْتِحْبَابُ
ارجاح الميزان فيما يدفعه الحادية عشر أَنَّ أُجْرَةَ
وَزْنِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ
التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ لِقَوْلِهِ لَا
تُفَارِقُهُ زِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ جَوَازُ
تَقَدُّمِ بَعْضِ الْجَيْشِ الرَّاجِعِينَ بِإِذْنِ
الْأَمِيرِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ
فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ
مِمَّا سبق والله أعلم
(باب جواز اقتراض الحيوان
واستحباب توفيته خيرا مما عليه
[1600] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ
مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ
إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ
الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ
فَقَالَ مَا أَجِدُ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا
فَقَالَ أَعْطِهِ إِيَّاهُ فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ
أَحَسَنُهُمْ قَضَاءً) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لَهُمْ اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ
فَقَالُوا إِنَّا لَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا هُوَ خَيْرٌ
مِنْ سِنِّهِ قَالَ فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ
فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَوْ خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ
قَضَاءً وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنًّا فَأَعْطَاهُ
سِنًّا)
(11/36)
فَوْقَهُ وَقَالَ خِيَارُكُمْ
مَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً أَمَّا الْبَكْرُ مِنَ الْإِبِلِ
فَبِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ الصَّغِيرُ كَالْغُلَامِ مِنَ
الْآدَمِيِّينَ وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ وَقَلُوصٌ وَهِيَ
الصَّغِيرَةُ كَالْجَارِيَةِ فَإِذَا اسْتَكْمَلَ سِتَّ
سِنِينَ وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ وَأَلْقَى رَبَاعِيَةً
بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ فَهُوَ رَبَاعٌ وَالْأُنْثَى
رَبَاعِيَةٌ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَأَعْطَاهُ رَبَاعِيًا
بِتَخْفِيفِهَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خِيَارُكُمْ مَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً قَالُوا
مَعْنَاهُ ذَوُو الْمَحَاسِنِ سَمَّاهُمْ بِالصِّفَةِ
قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ مَحْسَنٍ بِفَتْحِ
الْمِيمِ وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ أَحَاسِنُكُمْ جَمْعُ
أَحْسَنَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الِاقْتِرَاضِ
وَالِاسْتِدَانَةِ وَإِنَّمَا اقْتَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَاجَةِ وَكَانَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ
الْمَغْرَمِ وَهُوَ الدَّيْنُ وَفِيهِ جَوَازُ اقْتِرَاضِ
الْحَيَوَانِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ الشَّافِعِيُّ
وَمَالِكٌ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ
إِلَّا الْجَارِيَةَ لِمَنْ يَمْلِكُ وَطْأَهَا فَإِنَّهُ
لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ إِقْرَاضُهَا لِمَنْ لَا يَمْلِكُ
وَطْأَهَا كَمَحَارِمِهَا وَالْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مذهب المزني وبن جَرِيرٍ
وَدَاوُدَ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُ الْجَارِيَةِ وَسَائِرِ
الْحَيَوَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَالثَّالِثُ مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَرْضُ
شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَرُدُّ
عَلَيْهِمْ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمُ النَّسْخَ بِغَيْرِ
دَلِيلٍ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ السَّلَمِ فِي
الْحَيَوَانِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَرْضِ وَفِيهَا
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ قَرْضٍ
وَغَيْرِهِ أَنْ يَرُدَّ أَجْوَدَ مِنَ الَّذِي عَلَيْهِ
وَهَذَا مِنَ السُّنَّةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَإِنَّهُ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا كَانَ
مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ فِي الْأَدَاءِ عَمَّا عَلَيْهِ
وَيَجُوزُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُهَا سَوَاءٌ زَادَ فِي
الصِّفَةِ أَوْ فِي الْعَدَدِ بِأَنْ أَقْرَضَهُ عَشَرَةً
فَأَعْطَاهُ أَحَدَ عَشَرَ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ
الزِّيَادَةَ فِي الْعَدَدِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَحُجَّةُ
أَصْحَابِنَا عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً قَوْلُهُ
(فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلُ الصَّدَقَةِ إِلَى آخِرِهِ)
هَذَا مِمَّا يُسْتَشْكَلُ فَيُقَالُ فَكَيْفَ قَضَى مِنْ
إِبِلِ الصَّدَقَةِ أَجْوَدَ مِنَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ
الْغَرِيمُ مَعَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي الصَّدَقَاتِ لَا
يَجُوزُ تَبَرُّعُهُ مَنْهَا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(11/37)
اقْتَرَضَ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا جَاءَتْ
إِبِلُ الصَّدَقَةِ اشْتَرَى مِنْهَا بَعِيرًا رَبَاعِيًّا
مِمَّنِ اسْتَحَقَّهُ فَمَلَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَمَنِهِ وَأَوْفَاهُ
مُتَبَرِّعًا بِالزِّيَادَةِ مِنْ مَالِهِ وَيَدُلُّ عَلَى
مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي
قَدَّمْنَاهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَهَذَا هُوَ
الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ أَجْوِبَةٌ
غَيْرُهُ مِنْهَا أَنَّ الْمُقْتَرِضَ كَانَ بَعْضَ
الْمُحْتَاجِينَ اقْتَرَضَ لِنَفْسِهِ فَأَعْطَاهُ مِنَ
الصَّدَقَةِ حِينَ جَاءَتْ وَأَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ
قَوْلُهُ
[1601] (كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ
أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا) فِيهِ أَنَّهُ
يُحْتَمَلُ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْكَلَامُ
الْمُعْتَادُ فِي الْمُطَالَبَةِ وَهَذَا الْإِغْلَاظُ
الْمَذْكُورُ مَحْمُولٌ عَلَى تَشَدُّدٍ فِي
الْمُطَالَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ فِيهِ
قَدْحٌ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا يَقْتَضِي الْكُفْرَ
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَائِلَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ
كَانَ كَافِرًا مِنَ الْيَهُودِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَاللَّهُ
أعلم
(11/38)
(باب جواز بيع
الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلا
[1602] قَوْلُهُ (جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهِجْرَةِ
وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ عَبْدٌ فَجَاءَ سَيِّدُهُ
يُرِيدُهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعْنِيهِ فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ
أَسْوَدَيْنِ ثُمَّ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا بَعْدُ حَتَّى
يَسْأَلَهُ أَعَبْدٌ هُوَ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ
سَيِّدَهُ كَانَ مُسْلِمًا وَلِهَذَا بَاعَهُ
بِالْعَبْدَيْنِ الْأَسْوَدَيْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا
كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ
الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ
كَافِرًا أو أنها كَانَا كَافِرَيْنِ وَلَا بُدَّ مِنْ
ثُبُوتِ مِلْكِهِ للعبد الذي بايع على الهجرة أما بينة
وَإِمَّا بِتَصْدِيقِ الْعَبْدِ قَبْلَ إِقْرَارِهِ
بِالْحُرِّيَّةِ وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ وَالْإِحْسَانِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ كَرِهَ
أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ خَائِبًا بِمَا قَصَدَهُ
مِنَ الْهِجْرَةِ وَمُلَازَمَةِ الصُّحْبَةِ فَاشْتَرَاهُ
لِيُتِمَّ لَهُ مَا أَرَادَ وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ عَبْدٍ
بِعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِيمَةُ مُتَّفِقَةً أَوْ
مُخْتَلِفَةً وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِذَا بِيعَ
نَقْدًا وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْحَيَوَانِ فَإِنْ بَاعَ
عَبْدًا بِعَبْدَيْنِ أَوْ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إِلَى
أَجَلٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ جَوَازُهُ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ لَا يَجُوزُ
وَفِيهِ مَذَاهِبُ لِغَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)
بَاب الرَّهْنِ وَجَوَازِهِ فِي الْحَضَرِ كَالسَّفَرِ فِي
الْبَابِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى
مِنْ يَهُودِيٍّ طعاما
(11/39)
إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ
حَدِيدٍ) فِيهِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ
وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ املاكهم على مافي أَيْدِيهِمْ
وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّقَلُّلِ مِنَ
الدُّنْيَا وَمُلَازَمَةِ الْفَقْرِ وَفِيهِ جَوَازُ
الرَّهْنِ وَجَوَازُ رَهْنِ آلَةِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَهْلِ
الذِّمَّةِ وَجَوَازُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ وَبِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً إِلَّا مُجَاهِدًا
وَدَاوُدَ فَقَالَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي السَّفَرِ
تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة وَاحْتَجَّ
الْجُمْهُورُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى
دَلِيلِ خِطَابِ الْآيَةِ وَأَمَّا اشْتِرَاءُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ مِنَ
الْيَهُودِيِّ وَرَهْنُهُ عِنْدَهُ دُونَ الصَّحَابَةِ
فَقِيلَ فَعَلَهُ بَيَانًا لِجَوَازِ ذَلِكَ وَقِيلَ
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ
حَاجَةِ صَاحِبِهِ إِلَّا عِنْدَهُ وَقِيلَ لِأَنَّ
الصَّحَابَةَ لَا يَأْخُذُونَ رَهْنَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقْبِضُونَ مِنْهُ الثَّمَنَ
فَعَدَلَ إِلَى مُعَامَلَةِ الْيَهُودِيِّ لِئَلَّا
يُضَيِّقَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مُعَامَلَةِ أَهْلِ
الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا لم يتحقق
تحريم مَا مَعَهُ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ
يبيع أهل الحرب سلاحا وآلة حرب ولا يَسْتَعِينُونَ بِهِ
فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَلَا بَيْعَ مُصْحَفٍ وَلَا
الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لِكَافِرٍ مُطْلَقًا وَاللَّهُ أعلم
(11/40)
(بَابُ السَّلَمِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ
يُقَالُ السَّلَمُ وَالسَّلَفُ وَأَسْلَمَ وَسَلَّمَ
وَأَسْلَفَ وَسَلَّفَ وَيَكُونُ السَّلَفُ أَيْضًا قَرْضًا
وَيُقَالُ اسْتَسْلَفَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَشْتَرِكُ
السَّلَمُ وَالْقَرْضُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
إِثْبَاتُ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ بِمَبْذُولٍ فِي الْحَالِ
وَذَكَرُوا فِي حَدِّ السَّلَمِ عِبَارَاتٍ أَحْسَنُهَا
أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ بِبَذْلٍ
يُعْطَى عَاجِلًا سُمِّيَ سَلَمًا لِتَسْلِيمِ رَأْسِ
الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَسُمِّيَ سَلَفًا لِتَقْدِيمِ
رَأْسِ الْمَالِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ
السَّلَمِ
[1604] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
سَلَّفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ
وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) فِيهِ جَوَازُ
السَّلَمِ وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُهُ
مَعْلُومًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا
يُضْبَطُ بِهِ فَإِنْ كَانَ مَذْرُوعًا كَالثَّوْبِ
اشْتُرِطَ ذِكْرُ ذُرْعَانٍ مَعْلُومَةٍ وَإِنْ كَانَ
مَعْدُودًا كَالْحَيَوَانِ اشْتُرِطَ ذِكْرُ عَدَدٍ
مَعْلُومٍ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ فِي
مَكِيلٍ فَلْيَكُنْ كَيْلُهُ مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ فِي
مَوْزُونٍ فَليَكُنْ وَزْنًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ
مُؤَجَّلًا فَلْيَكُنْ أَجَلُهُ مَعْلُومًا وَلَا يَلْزَمُ
مِنْ هَذَا اشْتِرَاطُ كَوْنِ السَّلَمِ مُؤَجَّلًا بَلْ
يَجُوزُ حَالًّا لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ مؤجلا مع الغرر
فجراز الْحَالِّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ
الْغَرَرِ وَلَيْسَ ذِكْرُ الْأَجَلِ فِي الْحَدِيثِ
لِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ بَلْ مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ أَجَلٌ
فَليَكُنْ مَعْلُومًا كَمَا أَنَّ الْكَيْلَ لَيْسَ
بِشَرْطٍ بَلْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ
بِالذَّرْعِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكَيْلَ بِمَعْنَى
أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيَكُنْ كَيْلًا
مَعْلُومًا أَوْ فِي مَوْزُونٍ فَلْيَكُنْ وَزْنًا
مَعْلُومًا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ
السَّلَمِ الْحَالِّ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ
الْمُؤَجَّلِ فَجَوَّزَ الْحَالَّ الشَّافِعِيُّ
وَآخَرُونَ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَآخَرُونَ وَأَجْمَعُوا عَلَى اشْتِرَاطِ وَصْفِهِ بِمَا
يُضْبَطُ بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ
مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ
الْأُصُولِ تَمْرٌ بِالْمُثَنَّاةِ وَفِي بَعْضِهَا
ثَمَرٌ)
(11/41)
بِالْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ أَعَمُّ وَهَكَذَا
فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ بِالْوَاوِ لَا
بِأَوْ وَمَعْنَاهُ إِنْ أَسْلَمَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا
فَليَكُنْ مَعْلُومًا وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ السَّلَمِ
فِي الْمَكِيلِ وَزْنًا وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ
وَفِي جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَوْزُونِ كَيْلًا
وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا جَوَازُهُ
كَعَكْسِهِ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ
سَالِمٍ جَمِيعًا عن بن عُيَيْنَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي
نُسَخِ بِلَادِنَا عَنِ بن عُيَيْنَةَ وَكَذَا وَقَعَ فِي
رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الجلودي ووقع في رواية بن
مَاهَانَ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ شُيُوخِهِ هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةِ عن بن عُلَيَّةَ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ
وَآخَرُونَ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ بن
مَاهَانَ قَالُوا وَمَنْ تَأَمَّلَ الْبَابَ عَرَفَ ذَلِكَ
قَالَ الْقَاضِي لِأَنَّ مُسْلِمًا ذَكَرَ أَوَّلًا
حَدِيثَ بن عيينه عن بن أَبِي نَجِيحٍ وَفِيهِ ذِكْرُ
الْأَجَلِ ثُمَّ ذَكَرَ حديث عبد الوارث عن بن أَبِي
نَجِيحٍ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَجَلِ ثُمَّ ذكر حديث
بن علية عن بن أَبِي نَجِيحٍ وَقَالَ بِمِثْلِ حَدِيثِ
عَبْدِ الْوَارِثِ وَلَمْ يَذْكُرْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ
ثُمَّ ذَكَرَ حديث سفيان الثوري عن بن أبي نجيح وقال بمثل
حديث بن عُيَيْنَةَ يَذْكُرُ فِيهِ الْأَجَلَ
(11/42)
(بَاب تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ فِي
الْأَقْوَاتِ
[1605] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ
احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ) وفي رِوَايَةٍ لَا يَحْتَكِرُ
إِلَّا خَاطِئٌ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْخَاطِئُ
بِالْهَمْزِ هُوَ الْعَاصِي الْآثِمُ وَهَذَا الْحَدِيثُ
صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ قَالَ أَصْحَابُنَا
الِاحْتِكَارُ الْمُحَرَّمُ هُوَ الِاحْتِكَارُ فِي
الْأَقْوَاتِ خَاصَّةً وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ
فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ لِلتِّجَارَةِ وَلَا يَبِيعُهُ فِي
الْحَالِ بَلْ يَدَّخِرُهُ ليغلوا ثَمَنُهُ فَأَمَّا إِذَا
جَاءَ مِنْ قَرْيَتِهِ أَوِ اشْتَرَاهُ فِي وَقْتِ
الرُّخْصِ وَادَّخَرَهُ أَوِ ابْتَاعَهُ فِي وَقْتِ
الْغَلَاءِ لِحَاجَتِهِ إِلَى أَكْلِهِ أَوِ ابْتَاعَهُ
لِيَبِيعَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَيْسَ بِاحْتِكَارٍ وَلَا
تَحْرِيمَ فِيهِ وَأَمَّا غَيْرُ الْأَقْوَاتِ فَلَا
يَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ فِيهِ بِكُلِّ حَالٍ هَذَا
تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ
فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ
عَامَّةِ النَّاسِ كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ واضطر الناس
إليه ولم يجدوا غيره أجير عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي
الْكِتَابِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَعْمَرٍ
رَاوِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ فقال
بن عبد البر وآخرون إنما كان يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ
وَحَمَلَا الْحَدِيثَ عَلَى احْتِكَارِ الْقُوتِ عِنْدَ
الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَالْغَلَاءِ وَكَذَا حَمَلَهُ
الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وآخرون وهو الصحيح قَوْلُ
مُسْلِمٍ (وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ عَمْرِو
بْنِ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ)
(11/43)
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ) قَالَ الْغَسَّانِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا
أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ الْمَقْطُوعَةِ
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَدَّمْنَا
أَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى مَقْطُوعًا إِنَّمَا هُوَ مِنْ
رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي
وَلَا يَضُرُّ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ
مُتَابَعَةً وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ
مُتَّصِلَةٍ بِرِوَايَةِ مَنْ سَمَّاهُمْ مِنَ الثِّقَاتِ
وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَقَدْ جَاءَ مُسَمًّى فِي
رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ فَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ عَنْ
خَالِدِ بن عبد الله عن عمر بن يحيى إسناده وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ
[1606] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ
لِلرِّبْحِ)
[1607] وَفِي رِوَايَةٍ إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ
فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يمحق المنفقة
والممحقة بفتح أولهما وثالثهما واسكان ثانيهما وَفِيهِ
النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ
الْحَلِفَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ وَيَنْضَمُّ إليه
هنا تَرْوِيجُ السِّلْعَةِ وَرُبَّمَا)
(11/44)
اغتر المشتري باليمين والله أعلم
(باب الشفعة
[1608] قَوْلُهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ
رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ) وَفِي رِوَايَةٍ
قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ
أَوْ حَائِطٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى
يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَ فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ
بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ
فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ
يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ فَيَأْخُذَ أَوْ
يَدَعَ فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى
يُؤْذِنَهُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الشُّفْعَةُ مِنْ
شَفَعْتُ الشَّيْءَ إِذَا ضَمَمْتُهُ وَثَنَيْتُهُ
وَمِنْهُ شَفَعَ الْأَذَانَ وَسُمِّيَتْ شُفْعَةً لِضَمِّ
نَصِيبٍ إِلَى نَصِيبٍ وَالرَّبْعَةُ وَالرَّبْعُ بِفَتْحِ
الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الباء والربع الدار والمسكن
وَمُطْلَقُ الْأَرْضِ وَأَصْلُهُ الْمَنْزِلُ الَّذِي
كَانُوا يَرْتَبِعُونَ فِيهِ وَالرَّبْعَةُ تَأْنِيثُ
الرَّبْعِ وَقِيلَ وَاحِدَةٌ وَالْجَمْعُ الذي هو اسم
الجنس ربع كثمرة وتمر وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ فِي العقار مالم
يُقْسَّمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي ثُبُوتِ
الشُّفْعَةِ إزالة الضرر عن الشريك وحصت بِالْعَقَارِ
لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْوَاعِ ضَرَرًا وَاتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِي الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ
وَالْأَمْتِعَةِ وَسَائِرِ الْمَنْقُولِ قَالَ الْقَاضِي
وَشَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَأَثْبَتَ الشُّفْعَةَ فِي
الْعُرُوضِ وَهِيَ)
(11/45)
رواية عن عطاء وتثبت في كل شئ حتى في الثوب
وكذا حكاها عنه بن الْمُنْذِرِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ
أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْبِنَاءِ
الْمُنْفَرِدِ وَأَمَّا الْمَقْسُومُ فَهَلْ تَثْبُتُ فيه
الشفعة بالجواز فِيهِ خِلَافٌ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ العلماء لا تثبت
بالجوار وحكاه بن الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى
الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي الزِّيَادِ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ تَثْبُتُ بِالْجِوَارِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِهَذَا
الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا
فِي عَقَارٍ مُحْتَمِلٍ لِلْقِسْمَةِ بِخِلَافِ
الْحَمَّامِ الصَّغِيرِ وَالرَّحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَيْضًا مَنْ يَقُولُ بِالشُّفْعَةِ
فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَأَمَّا قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَ لَهُ
شَرِيكٌ فَهُوَ عام يتناول المسلم والكافر والذمي فتثبت
للذمي الشفعة على المسلم كما تثبت للمسلم على الذمي هَذَا
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ
وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا شُفْعَةَ
لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَفِيهِ ثُبُوتُ الشفعة
للأعرابي كثبوتها للمقيم في البلدويه قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وبن الْمُنْذِرِ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا
شُفْعَةَ لِمَنْ لَا يَسْكُنُ بِالْمِصْرِ وَأَمَّا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ رَضِيَ
أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ وَفِي الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ
شَرِيكَهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى
النَّدْبِ إِلَى إِعْلَامِهِ وَكَرَاهَةِ بَيْعِهِ قَبْلَ
إِعْلَامِهِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ
وَيَتَأَوَّلُونَ الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا وَيَصْدُقُ عَلَى
الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَلَالٍ وَيَكُونُ
الْحَلَالُ بِمَعْنَى الْمُبَاحِ وَهُوَ مُسْتَوِي
الطَّرَفَيْنِ وَالْمَكْرُوهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ مُسْتَوِي
الطَّرَفَيْنِ بَلْ هُوَ رَاجِحُ التَّرْكِ وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِيمَا لَوْ أَعْلَمَ الشَّرِيكَ
(11/46)
بِالْبَيْعِ فَأَذِنَ فِيهِ فَبَاعَ ثُمَّ
أَرَادَ الشَّرِيكُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حنيفة واصحابهم وعثمان
البتي وبن أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُمْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ
بِالشُّفْعَةِ وَقَالَ الْحَكَمُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو
عُبَيْدٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسَ لَهُ
الْأَخْذُ وَعَنْ أَحْمَدَ روايتان كالمذهبين والله أعلم
(باب غرز الخشب في جدار الجار
[1609] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا
يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي
جِدَارِهِ ثم يقول أبو هريرة مالي أَرَاكُمْ عَنْهَا
مُعْرِضِينَ وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ
أَكْتَافِكُمْ) قَالَ الْقَاضِي رُوِّينَا قَوْلُهُ
خَشَبَةً فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأُصُولِ
وَالْمُصَنَّفَاتِ خَشَبَةً بالإفراد وخشبة بِالْجَمْعِ
قَالَ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ رَوْحِ بْنِ الفرج سألت
أبا زيد والحرث بْنَ مِسْكِينٍ وَيُونُسَ بْنَ عَبْدِ
الْأَعْلَى عَنْهُ فَقَالُوا كُلُّهُمْ خَشَبَةً
بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْإِفْرَادِ قَالَ عَبْدُ
الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ كُلُّ النَّاسِ يَقُولُونَهُ
بِالْجَمْعِ إِلَّا الطَّحَاوِيَّ وَقَوْلُهُ بَيْنَ
أَكْتَافِكُمْ هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ أَيْ
بَيْنَكُمْ قَالَ الْقَاضِي قَدْ رَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ
الْمُوَطَّأِ أَكْنَافَكُمْ بِالنُّونِ وَمَعْنَاهُ
أَيْضًا بَيْنَكُمْ وَالْكَنَفُ الْجَانِبُ وَمَعْنَى
الْأَوَّلِ أَنِّي أُصَرِّحُ بِهَا بَيْنَكُمْ
وَأُوجِعُكُمْ بِالتَّقْرِيعِ بِهَا كَمَا يُضْرَبُ
الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ قَوْلُهُ مالي
أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ أَيْ عَنْ هَذِهِ
السُّنَّةِ وَالْخَصْلَةِ وَالْمَوْعِظَةِ أَوِ
الْكَلِمَاتِ وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ ابي داود فنكسوا
رؤوسهم فقال مالي أَرَاكُمْ أَعْرَضْتُمْ وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ هَلْ هُوَ
عَلَى النَّدْبِ إِلَى تَمْكِينِ الْجَارِ مِنْ وَضْعِ
الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ أَمْ عَلَى الْإِيجَابِ
وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ
أَصَحُّهُمَا فِي الْمَذْهَبَيْنِ النَّدْبُ وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ وَالثَّانِي الْإِيجَابُ
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ
الْحَدِيثِ وَهُوَ ظَاهِرُ الحديث ومن)
(11/47)
قَالَ بِالنَّدْبِ قَالَ ظَاهِرُ
الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا عن العمل فلهذا قال مالي
أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ النَّدْبَ لَا الْإِيجَابَ
وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَطْبَقُوا عَلَى
الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَغَصْبِ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا
[1610] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ
اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ
اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ
أَرَضِينَ) وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ
الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ طَوَّقَهُ اللَّهُ فِي سَبْعِ
أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ
الْأَرَضُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفِيهَا لُغَةٌ قَلِيلَةٌ
بِإِسْكَانِهَا حَكَاهَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ
الْعُلَمَاءُ هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْأَرَضِينَ سَبْعُ
طَبَقَاتٍ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وَأَمَّا
تَأْوِيلُ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى الْهَيْئَةِ وَالشَّكْلِ
فَخِلَافُ الظَّاهِرِ وَكَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ
الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ سَبْعُ أَرَضِينَ مِنْ سَبْعِ
أَقَالِيمَ لِأَنَّ الْأَرَضِينَ سَبْعُ طِبَاقٍ وَهَذَا
تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ أَبْطَلَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُطَوَّقِ الظَّالِمُ بِشِبْرٍ مِنْ
هَذَا الْإِقْلِيمِ شَيْئًا مِنْ إِقْلِيمٍ آخَرَ
بِخِلَافِ طِبَاقِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِهَذَا
الشِّبْرِ فِي الْمِلْكِ فَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مِنْ
هَذِهِ الْأَرْضِ مَلَكَهُ وَمَا تَحْتَهُ مِنَ الطِّبَاقِ
قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ جَاءَ فِي غِلَظِ الْأَرَضِينَ
وَطِبَاقِهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ حَدِيثٌ لَيْسَ
بِثَابِتٍ وَأَمَّا التَّطْوِيقُ الْمَذْكُورُ فِي
الْحَدِيثِ فَقَالُوا يَحْتَمِلُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ
يَحْمِلُ مِثْلَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ وَيُكَلَّفُ
إِطَاقَةَ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يُجْعَلُ)
(11/48)
لَهُ كَالطَّوْقِ فِي عُنُقِهِ كَمَا قَالَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُطَوَّقُ
إِثْمُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ كَلُزُومِ الطَّوْقِ
بِعُنُقِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّطْوِيقِ فِي عنقه يطول
اللَّهُ تَعَالَى عُنُقُهُ كَمَا جَاءَ فِي غِلَظِ جِلْدِ
الْكَافِرِ وَعِظَمِ ضِرْسِهِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
تَحْرِيمُ الظُّلْمِ وَتَحْرِيمُ الْغَصْبِ وَتَغْلِيظُ
عُقُوبَتِهِ وَفِيهِ إِمْكَانُ غَصْبِ الْأَرْضِ وَهُوَ
مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يتصور
(11/49)
غَصْبُ الْأَرْضِ
[1612] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ) هُوَ بِكَسْرِ
الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ أَيْ قَدْرَ شِبْرٍ مِنَ
الْأَرْضِ يُقَالُ قِيدَ وَقَادَ وَقِيسَ وَقَاسَ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَفِي الْبَابِ حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ
بِفَتْحِ الْحَاءِ وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنْقَبَةٌ لَهُ وَقَبُولُ
دُعَائِهِ وجواز الدعاء على الظالم ومستدل أَهْلِ
الْفَضْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(11/50)
(بَاب قَدْرِ الطَّرِيقِ إِذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا اخْتَلَفْتُمْ
فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ) هَكَذَا
هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ سَبْعَ أَذْرُعٍ وَفِي
بَعْضِهَا سَبْعَةَ أَذْرُعٍ وَهُمَا صَحِيحَانِ
وَالذِّرَاعُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالتَّأْنِيثُ
أَفْصَحُ وَأَمَّا قَدْرُ الطَّرِيقِ فَإِنْ جَعَلَ
الرَّجُلُ بَعْضَ أَرْضِهِ الْمَمْلُوكَ طَرِيقًا
مُسَبَّلَةً لِلْمَارِّينَ فَقَدْرُهَا إِلَى خِيرَتِهِ
وَالْأَفْضَلُ تَوْسِيعُهَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ
مُرَادَةَ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَ
أَرْضٍ لِقَوْمٍ وَأَرَادُوا إِحْيَاءَهَا فَإِنِ
اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ فَذَاكَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي
قَدْرِهِ جُعِلَ سَبْعَ أَذْرُعٍ وَهَذَا مُرَادُ
الْحَدِيثِ أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا طَرِيقًا مَسْلُوكًا
وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ فَلَا يَجُوزُ
لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ
قَلَّ لَكِنْ لَهُ عِمَارَةُ مَا حَوَالَيْهِ مِنَ
الْمَوَاتِ وَيَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ بِحَيْثُ لَا
يَضُرُّ الْمَارِّينَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَمَتَى
وَجَدْنَا جَادَّةً مُسْتَطْرَقَةً وَمَسْلَكًا مَشْرُوعًا
نَافِذًا حَكَمْنَا بِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ
بِظَاهِرِ الْحَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ مُبْتَدَأُ مَصِيرِهِ
شَارِعًا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَلَا
يَحْتَاجُ مَا يَجْعَلُهُ شَارِعًا إِلَى لَفْظٍ فِي
مَصِيرِهِ شَارِعًا وَمُسَبَّلًا هَذَا مَا ذَكَرَهُ
أَصْحَابُنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
وَقَالَ آخَرُونَ هَذَا فِي الْأَفْنِيَةِ إِذَا أَرَادَ
أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَيُجْعَلُ طَرِيقُهُمْ عَرْضُهُ
سَبْعَةَ أَذْرُعٍ لِدُخُولِ الْأَحْمَالِ وَالْأَثْقَالِ
وَمَخْرَجِهَا وَتَلَاقِيهَا قَالَ الْقَاضِي هَذَا
كُلُّهُ عِنْدَ الاختلاف كما نص عليه في الحديث فأما إذا
اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى قِسْمَتِهَا وَإِخْرَاجِ
طَرِيقٍ منها كيف شاؤا فَلَهُمْ ذَلِكَ وَلَا اعْتِرَاضَ
عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ) |