شرح النووي على مسلم

(كِتَاب الْإِمَارَةِ)
(بَاب النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ وَالْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ

[1818] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النَّاسُ

[1819] تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ لِكَافِرِهِمْ) وَفِي رِوَايَةٍ النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَفِي رِوَايَةٍ

[1820] لَا يَزَالُ هَذَا)

(12/199)


الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَشْبَاهُهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّ الْخِلَافَةَ مُخْتَصَّةٌ بِقُرَيْشٍ لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِأَحَدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُمْ وَمَنْ خَالَفَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ أَوْ عَرَّضَ بِخِلَافٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَالَ الْقَاضِي اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ قُرَشِيًّا هُوَ مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً قَالَ وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ فِيهَا قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ قَالَ وَلَا اعْتِدَادَ بِقَوْلِ النَّظَّامِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ وَلَا بِسَخَافَةِ ضِرَارِ بْنِ عمرو في قوله أن غير القرشي من النبط وغيرهم يقدم على القرشي لهو أن خَلْعِهِ إِنْ عَرَضَ مِنْهُ أَمْرٌ وَهَذَا الَّذِي قاله من باطل القول وزخرفه مع ماهو عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَمَعْنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْجَاهِلِيَّةِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ رُؤَسَاءَ الْعَرَبِ وَأَصْحَابَ حَرَمِ اللَّهِ وَأَهْلَ حَجِّ بَيْتِ اللَّهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَنْظُرُ إِسْلَامَهُمْ فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَفُتِحَتْ مَكَّةُ تَبِعَهُمُ النَّاسُ وَجَاءَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَكَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ هُمْ أَصْحَابُ الْخِلَافَةِ وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُسْتَمِرٌّ إِلَى آخِرِ الدُّنْيَا مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ وقد ظهر

(12/200)


مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآنَ الْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ مِنْ غَيْرِ مُزَاحَمَةٍ لَهُمْ فيها وتبقى كذلك ما بقي اثْنَانِ كَمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى فَضِيلَةِ الشَّافِعِيِّ قَالَ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيمُ قُرَيْشٍ فِي الْخِلَافَةِ فَقَطْ قُلْتُ هُوَ حُجَّةٌ فِي مَزِيَّةِ قُرَيْشٍ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ قُرَشِيٌّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[1821] (إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنان عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) وَفِي رِوَايَةٍ لا يزال أمر الناس ماضيا ماوليهم اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ الْقَاضِي قَدْ تَوَجَّهَ هُنَا سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً إِلَّا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ وَالْأَشْهُرُ الَّتِي بُويِعَ فِيهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ فِي حَدِيثِ الخلافة ثلاثون سنة خلافة النبوة وقد جاءمفسرا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا وَلَمْ يُشْتَرَطْ هَذَا فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ السُّؤَالُ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ وَلِيَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ قَالَ وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل لا يلي إلا اثنى عَشَرَ خَلِيفَةً وَإِنَّمَا قَالَ يَلِي وَقَدْ وَلِيَ هذا العدد ولا يضركونه وُجِدَ بَعْدَهُمْ غَيْرُهُمْ

(12/201)


هَذَا إِنْ جُعِلَ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ كُلُّ وَالٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُسْتَحِقَّ الْخِلَافَةِ الْعَادِلِينَ وَقَدْ مَضَى مِنْهُمْ مَنْ عُلِمَ وَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْعَدَدِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ يَتَّبِعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَالَ الْقَاضِي وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَدْ وُجِدَ إِذَا تَتَبَّعْتَ التَّوَارِيخَ فَقَدْ كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ وَحْدَهَا مِنْهُمْ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَرْبَعمِائَةِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ يَدَّعِيهَا وَيُلَقَّبُ بِهَا وَكَانَ حِينَئِذٍ فِي مِصْرَ آخَرُ وَكَانَ خَلِيفَةَ الْجَمَاعَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِبَغْدَادَ سِوَى مَنْ كَانَ يَدَّعِي ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ قَالَ وَيُعِضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ بَعْدَ هَذَا سَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قالوا فما تأمرنا قال فوا بيعة الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ

(12/202)


مَنْ يَعِزُّ الْإِسْلَامُ فِي زَمَنِهِ وَيَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ كُلُّهُمْ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَهَذَا قَدْ وُجِدَ قَبْلَ اضْطِرَابِ أَمْرِ بَنِي أُمَيَّةَ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي زَمَنِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ وَخَرَجَ عَلَيْهِ بَنُو الْعَبَّاسِ وَيَحْتَمِلُ أَوْجُهًا أُخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ (فَقَالَ كَلِمَةً صَمَّنِيهَا النَّاسُ) هُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ أَصَمُّونِي عَنْهَا فَلَمْ أَسْمَعْهَا لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ صَمَّتَنِيهَا النَّاسُ أَيْ سَكَّتُونِي عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[1822] (عُصَيْبَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَفْتَتِحُونَ الْبَيْتَ الْأَبْيَضَ بَيْتَ كِسْرَى) هَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَتَحُوهُ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ

(12/203)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْعُصَيْبَةُ تَصْغِيرُ عُصْبَةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ وَكِسْرَى بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدَكُمْ خَيْرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ) هُوَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا الْفَرَطُ عَلَى الْحَوْضِ) الْفَرَطُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ السَّابِقُ إِلَيْهِ وَالْمُنْتَظِرُ لِسَقْيِكُمْ مِنْهُ وَالْفَرَطُ وَالْفَارِطُ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ إِلَى الْمَاءِ لِيُهَيِّئَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ (عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلى بن سَمُرَةَ الْعَدَوِيِّ) كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْعَدَوِيُّ قَالَ الْقَاضِي هَذَا تَصْحِيفٌ فَلَيْسَ هُوَ بِعَدَوِيٍّ إِنَّمَا هُوَ عَامِرِيٌّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَيُصَحَّفُ بِالْعَدَوِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَاب الاستخلاف وتركه

[1823] قوله (راغب وراهب) أي راج وَخَائِفٌ وَمَعْنَاهُ النَّاسُ صِنْفَانِ أَحَدُهُمَا يَرْجُو وَالثَّانِي يَخَافُ أَيْ رَاغِبٌ فِي حُصُولِ شَيْءٍ مِمَّا عندي أو راهب مني وقيل أَرَادَ أَنِّي رَاغِبٌ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَاهِبٌ مِنْ عَذَابِهِ فَلَا أُعَوِّلُ عَلَى مَا أَتَيْتُمْ بِهِ عَلَيَّ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْخِلَافَةُ أَيِ النَّاسُ فِيهَا ضِرْبَانِ رَاغِبٌ فِيهَا فَلَا أُحِبُّ)

(12/204)


تَقْدِيمَهُ لِرَغْبَتِهِ وَكَارِهٌ لَهَا فَأَخْشَى عَجْزَهُ عَنْهَا قَوْلُهُ (إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي إِلَى آخِرِهِ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أجمعوا علىأن الْخَلِيفَةَ إِذَا حَضَرَتْهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ وَقَبْلَ ذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ وَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ فَإِنْ تَرَكَهُ فَقَدِ اقْتَدَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا وَإِلَّا فَقَدِ اقْتَدَى بِأَبِي بَكْرٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى انْعِقَادِ الْخِلَافَةِ بِالِاسْتِخْلَافِ وَعَلَى انْعِقَادِهَا بِعَقْدِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِإِنْسَانٍ إِذَا لَمْ يَسْتَخْلِفِ الْخَلِيفَةُ وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْخَلِيفَةِ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ جَمَاعَةٍ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِالسِّتَّةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَصْبُ خَلِيفَةٍ وَوُجُوبُهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْأَصَمِّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَجِبُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَجِبُ بِالْعَقْلِ لَا بِالشَّرْعِ فَبَاطِلَانِ أَمَّا الْأَصَمُّ فَمَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي بَقَاءِ الصَّحَابَةِ بِلَا خَلِيفَةٍ فِي مُدَّةِ التَّشَاوُرِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ وَأَيَّامَ الشُّورَى بَعْدَ وَفَاةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ لِنَصْبِ الْخَلِيفَةِ بَلْ كَانُوا سَاعِينَ فِي النَّظَرِ فِي أَمْرِ مَنْ يُعْقَدُ لَهُ وَأَمَّا الْقَائِلُ الْآخَرُ فَفَسَادُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَا يُحَسِّنُهُ وَلَا يُقَبِّحُهُ وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ لَا بِذَاتِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى خَلِيفَةٍ

(12/205)


وَهُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْقَاضِي وخالف في ذلك بكر بن أُخْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَزَعَمَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أبي بكر وقال بن رَاوَنْدِيِّ نَصَّ عَلَى الْعَبَّاسِ وَقَالَتِ الشِّيعَةُ وَالرَّافِضَةُ عَلَى عَلِيٍّ وَهَذِهِ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ وَجَسَارَةٌ عَلَى الِافْتِرَاءِ وَوَقَاحَةٌ فِي مُكَابَرَةِ الْحِسِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى اخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى تَنْفِيذِ عَهْدِهِ إِلَى عُمَرَ وَعَلَى تَنْفِيذِ عَهْدِ عُمَرَ بِالشُّورَى وَلَمْ يُخَالِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَحَدٌ وَلَمْ يَدَّعِ عَلِيٌّ وَلَا الْعَبَّاسُ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَصِيَّةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَقَدِ اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ عَلَى جَمِيعِ هَذَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ ذِكْرِ وَصِيَّةٍ لَوْ كَانَتْ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَصِيَّةٌ فَقَدْ نَسَبَ الْأُمَّةَ إِلَى اجْتِمَاعِهَا عَلَى الْخَطَأِ وَاسْتِمْرَارِهَا عَلَيْهِ وَكَيْفَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنْ يَنْسِبَ الصَّحَابَةَ إِلَى الْمُوَاطَأَةِ عَلَى الْبَاطِلِ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ لَنُقِلَ فَإِنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ قَوْلُهُ (آلَيْتُ أَنْ أَقُولَهَا) أَيْ حَلَفْتُ

(12/206)


(بَاب النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ الْإِمَارَةِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا قَوْلُهُ

[1652] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَسَألِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ أُكِلْتَ عَلَيْهَا) هَكَذَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ أَوْ أَكْثَرِهَا أُكِلْتَ بِالْهَمْزِ وَفِي بَعْضِهَا وُكِلْتَ قَالَ الْقَاضِي هُوَ فِي أَكْثَرِهَا بِالْهَمْزِ قَالَ والصواب بالواو أي أسلمت إليها ولم يَكُنْ مَعَكَ إِعَانَةٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ قَوْلُهُ

[1733] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ) يُقَالُ حَرَصَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا أَكْثَرُ الناس ولو حرصت بمؤمنين قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لَا يُوَلَّى مَنْ سَأَلَ الْوِلَايَةَ أَنَّهُ يُوكَلُ إِلَيْهَا وَلَا)

(12/207)


تَكُونُ مَعَهُ إِعَانَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ السَّابِقِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ إِعَانَةٌ لَمْ يَكُنْ كُفْئًا وَلَا يُوَلَّى غَيْرُ الْكُفْءِ وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً لِلطَّالِبِ وَالْحَرِيصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً) فِيهِ إِكْرَامُ الضَّيْفِ بِهَذَا وَنَحْوِهِ قَوْلُهُ فِي الْيَهُودِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ (ثُمَّ ارْتَدَّ فَقَالَ لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ) فِيهِ وُجُوبُ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ وَفِي قَدْرِهَا وَفِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَفِي أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجَمَاهِيرُ من السلف والخلف يستتاب ونقل بن الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَقَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَالْمَاجِشُونُ الْمَالِكِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ لَا يُسْتَتَابُ وَلَوْ تَابَ نَفَعَتْهُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَسْقُطُ قَتْلُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وقال عطاء إن كان ولد مسلما لم يستتب وإن كان ولد كافرا فأسلم ثم ارتد يستتاب واختلفوا في أن الِاسْتِتَابَةُ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّهَا فِي الْحَالِ وَلَهُ قَوْلٌ إِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا أَنَّهُ يُسْتَتَابُ شَهْرًا قَالَ الْجُمْهُورُ

(12/208)


وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي أَنَّهَا تُقْتَلُ إِذَا لَمْ تَتُبْ وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْجَمَاهِيرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ تُسْجَنُ الْمَرْأَةُ وَلَا تُقْتَلُ وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وفيه أن لِأُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ لَا يُقِيمُهُ إِلَّا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَلَا يُقِيمُهُ عَامِلُ السَّوَادِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَضَاءِ إِذَا كَانَتْ وِلَايَتُهُمْ مُطْلَقَةً لَيْسَتْ مختبصة بِنَوْعٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ تُقِيمُ الْقُضَاةُ الْحُدُودَ وَيَنْظُرُونَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا يَخْتَصُّ بِضَبْطِ الْبَيْضَةِ مِنْ إِعْدَادِ الْجُيُوشِ وَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا وِلَايَةَ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ قَوْلُهُ (أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي) مَعْنَاهُ أَنِّي أَنَامُ بِنِيَّةِ الْقُوَّةِ وَإِجْمَاعِ النفس للعبادة وتنشيطها لِلطَّاعَةِ فَأَرْجُو فِي ذَلِكَ الْأَجْرَ كَمَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي أَيْ صَلَوَاتِي

(بَاب كَرَاهَةِ الْإِمَارَةِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ قَوْلُهُ

[1825] (حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ بَكْرِ بن عمرو عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن بن حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْإِسْنَادُ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ بَكْرٍ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ نُسْخَةِ الْجُلُودِيِّ الَّتِي هِيَ طَرِيقُ بلادنا قال ووقع عند بن مَاهَانَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ وَبَكْرٌ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ قَالَهُ عَبْدُ الغني قلت)

(12/209)


وَلَمْ يَذْكُرْ خَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَافِ غَيْرَهُ واسم بن حُجَيْرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَهُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَاسْمُ أَبِي حَبِيبٍ سُوَيْدٌ وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَرْبَعَةٌ تَابِعِيُّونَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهُمْ يَزِيدُ وَالثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي بَعْدَهُ

[1826] (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حرب وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن المقرئ قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِهِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أبي جعفر في هذا الاسناد فرواه سعيد بن أبي أيوب عنه كما سبق ورواه بن لهيعة عنه عن مسلم بن أبي مريم عَنْ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَلَمْ يَحْكُمِ الدَّارَقُطْنِيُّ فِيهِ بِشَيْءٍ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ إِسْنَادًا وَمَتْنًا وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَحْفَظُ من بن لَهِيعَةَ وَأَمَّا الْمُقْرِئُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمَذْكُورُ عَقِبَهُ وَاسْمُ أَبِي أَيُّوبَ وَالِدِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ مِقْلَاصٌ الْخُزَاعِيُّ الْمِصْرِيُّ وَاسْمُ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ سُفْيَانُ بْنُ هَانِئٍ مَنْسُوبٌ إِلَى جَيْشَانَ بِفَتْحِ الْجِيمِ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي اجْتِنَابِ الْوِلَايَاتِ لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ تِلْكَ الْوِلَايَةِ وَأَمَّا الْخِزْيُ والندامة فهو في حَقُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِلْ فِيهَا فَيُخْزِيهِ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَفْضَحُهُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَعَدَلَ فِيهَا فَلَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ تَظَاهَرَتْ بِهِ

(12/210)


الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَحَدِيثِ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ هُنَا عَقِبَ هَذَا أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَلِكَثْرَةِ الْخَطَرِ فِيهَا حَذَّرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَكَذَا حَذَّرَ الْعُلَمَاءُ وَامْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِينَ امْتَنَعُوا

(بَاب فَضِيلَةِ الأمير الْعَادِلِ وَعُقُوبَةِ الْجَائِرِ وَالْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ (بِالرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ)

[1827] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) أَمَّا قَوْلُهُ وَلُوا فَبِفَتْحِ الْوَاوِ وَضَمِّ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ كَانَتْ لَهُمْ عليه ولاية والمقسطون هم العادلون وقد فسره في آخر الحديث والأقساط والقسط بكسر القاف العدل يقال أقسط أقساطا فَهُوَ مُقْسِطٌ إِذَا عَدَلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وأقسطوا إن الله يحب المقسطين وَيُقَالُ قَسَطَ يَقْسِطُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ قسوطا وَقَسْطًا بِفَتْحِ الْقَافِ فَهُوَ قَاسِطٌ وَهُمْ قَاسِطُونَ إِذَا جَارُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فكانوا لجهنم حطبا وَأَمَّا الْمَنَابِرُ فَجَمْعُ مِنْبَرٍ سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَنَابِرَ حقيقة عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ قُلْتُ الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ وَيَكُونُ متضمنا للمنازل الرفيعة فهم على منابر حقيقة وَمَنَازِلُهُمْ رَفِيعَةٌ أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ فَهُوَ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَتَكَلَّمُ فِي تَأْوِيلِهِ وَلَا نَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَكِنْ نَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَأَنَّ لَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ)

(12/211)


السلف وطوائف من المتكلمين والثاني أنها تؤول عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَعَلَى هَذَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ عَنِ الْيَمِينِ الْحَالَةُ الحسنة والمنزلة الرفيعة قال قال بن عَرَفَةَ يُقَالُ أَتَاهُ عَنْ يَمِينِهِ إِذَا جَاءَهُ مِنَ الْجِهَةِ الْمَحْمُودَةِ وَالْعَرَبُ تَنْسِبُ الْفِعْلَ الْمَحْمُودَ وَالْإِحْسَانَ إِلَى الْيَمِينِ وَضِدَّهُ إِلَى الْيَسَارِ قَالُوا واليمين مأخوذة مِنَ الْيُمْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ فَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ جَارِحَةً تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْفَضْلَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ عَدَلَ فِيمَا تَقَلَّدَهُ مِنْ خِلَافَةٍ أَوْ إِمَارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ حِسْبَةٍ أَوْ نَظَرٍ عَلَى يَتِيمٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَقْفٍ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ

[1828] عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَمَاسَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الشِّينِ وَضَمِّهَا وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ قَوْلُهُ (مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا) أَيْ مَا كَرِهْنَا وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهَا (أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِيَّ محمد بن أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ) فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فَضْلُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ لِسَبَبِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ قَتْلِ مُحَمَّدٍ هَذَا قِيلَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَقِيلَ بَلْ قُتِلَ أَسِيرًا بَعْدَهَا وَقِيلَ وُجِدَ بَعْدَهَا فِي خَرِبَةٍ فِي جَوْفِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَأَحْرَقُوهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرَ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ

(12/212)


هَذَا مِنْ أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ عَنِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّاسِ وَأَعْظَمِ الْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ بِهِمْ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى

[1829] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الرَّاعِي هُوَ الْحَافِظُ الْمُؤْتَمَنُ الْمُلْتَزِمُ صَلَاحَ مَا قَامَ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ تَحْتَ نَظَرِهِ فَفِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ تَحْتَ نَظَرِهِ شَيْءٌ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ قوله

(12/213)


[142] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي بَعْدَهُ سَبَقَ شَرْحُهُمَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لِغِشِّهِمْ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَيَخْلُدُ فِي النَّارِ وَالثَّانِي)

(12/214)


أَنَّهُ لَا يَسْتَحِلُّهُ فَيَمْتَنِعُ مِنْ دُخُولِهَا أَوَّلَ وَهْلَةٍ مَعَ الْفَائِزِينَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ أَيْ وَقْتَ دُخُولِهِمْ بَلْ يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ عُقُوبَةً لَهُ إِمَّا فِي النَّارِ وَإِمَّا فِي الْحِسَابِ وَإِمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وُجُوبُ النَّصِيحَةِ عَلَى الْوَالِي لِرَعِيَّتِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَالنَّصِيحَةِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ قَبْلَ حَالَةِ الْمَوْتِ نَافِعَةٌ قَوْلُهُ (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ بِيَ حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَوْلَا أَنِّي فِي الْمَوْتِ لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ

(12/215)


قَبْلَ هَذَا الْحَالِ وَرَأَى وُجُوبَ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِئَلَّا يَكُونَ مُضَيِّعًا لَهُ وَقَدْ أُمِرْنَا كُلُّنَا بِالتَّبْلِيغِ

[1830] قَوْلُهُ (إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَتِهِمْ) يَعْنِي لَسْتَ مِنْ فُضَلَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَأَهْلِ الْمَرَاتِبِ مِنْهُمْ بَلْ مِنْ سَقْطِهِمْ وَالنُّخَالَةُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ مِنْ نُخَالَةِ الدَّقِيقِ وَهِيَ قُشُورُهُ وَالنُّخَالَةُ وَالْحُقَالَةُ وَالْحُثَالَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَوْلُهُ (وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي غَيْرِهِمْ) هَذَا مِنْ جَزْلِ الْكَلَامِ وَفَصِيحِهِ وَصِدْقِهِ الَّذِي يَنْقَادُ لَهُ كُلُّ مُسْلِمٍ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلُّهُمْ هُمْ صَفْوَةُ النَّاسِ وِسَادَاتُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ قُدْوَةٌ لَا نُخَالَةَ فِيهِمْ وَإِنَّمَا جَاءَ التَّخْلِيطُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَفِيمَنْ بَعْدَهُمْ كَانَتِ النُّخَالَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ) قَالُوا هُوَ الْعَنِيفُ فِي رعيته لايرفق بِهَا فِي سَوْقِهَا وَمَرْعَاهَا بَلْ يَحْطِمُهَا فِي ذَلِكَ وَفِي سَقْيِهَا وَغَيْرِهِ وَيَزْحَمُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ بِحَيْثُ يُؤْذِيهَا وَيَحْطِمُهَا

(بَاب غِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ

[1831] قَوْلُهُ (ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِغِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ وَأَصْلُ الْغُلُولِ الْخِيَانَةُ مُطْلَقًا ثُمَّ غَلَبَ اخْتِصَاصُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِالْخِيَانَةِ فِي الْغَنِيمَةِ قَالَ نَفْطَوَيْهِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَيْدِي مغلولة عنه أي محبوسة يقال غل غلولاوأغل إِغْلَالًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ أُلْفِيَنَّ بِضَمِّ الهمزة وبالفاء المكسورة أىلاأجدن أَحَدَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَمَعْنَاهُ لَا تَعْمَلُوا عَمَلًا أَجِدُكُمْ بِسَبَبِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ قَالَ الْقَاضِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ لَا أَلْقَيَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْقَافِ وَلَهُ وَجْهٌ كَنَحْوِ مَا سبق لكن المشهور الأول والرغاء بِالْمَدِّ صَوْتُ الْبَعِيرِ وَكَذَا الْمَذْكُورَاتُ بَعْدَ وَصْفِ)

(12/216)


كُلِّ شَيْءٍ بِصَوْتِهِ وَالصَّامِتُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ وَيَكُونُ ذَلِكَ أَوَّلًا غَضَبًا عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ ثُمَّ يَشْفَعُ فِي جَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي شَفَاعَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الْعُرُوضِ وَالْخَيْلِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْغُلُولِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ غَصْبًا فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالزَّكَاةِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ مَا غَلَّهُ فَإِنْ تَفَرَّقَ الْجَيْشُ وَتَعَذَّرَ إِيصَالُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَيْهِ فَفِيهِ خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ كَسَائِرِ الأموال الضائعة وقال بن مسعود وبن عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ يَدْفَعُ خُمُسَهُ إِلَى الْإِمَامِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ عُقُوبَةِ الْغَالِّ فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ يُعَزَّرُ عَلَى

(12/217)


حَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ وَلَا يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ وَالْأَوْزَاعِيُّ يُحَرَّقُ رَحْلُهُ وَمَتَاعُهُ كُلُّهُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَّا سِلَاحَهُ وَثِيَابَهُ الَّتِي عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ إِلَّا الْحَيَوَانَ وَالْمُصْحَفَ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي تَحْرِيقِ رَحْلِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سَالِمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَلَوْ صَحَّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ إِذَا كَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِالْأَمْوَالِ كَأَخْذِ شَطْرِ الْمَالِ مِنْ مَانِعِ الزَّكَاةِ وَضَالَّةِ الْإِبِلِ وَسَارِقِ التَّمْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَاب تَحْرِيمِ هَدَايَا الْعُمَّالِ

[1832] قَوْلُهُ (اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا من الأسد يقال له بن اللُّتْبِيَّةِ) أَمَّا الْأَسْدُ فَبِإِسْكَانِ)

(12/218)


السِّينِ وَيُقَالُ لَهُ الْأَزْدِيُّ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَيُقَالُ لَهُمْ الْأَزْدُ وَالْأَسْدُ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ في الرواية الثانية وأما اللُّتْبِيَّةُ فَبِضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ التَّاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَهَا قَالُوا وَهُوَ خَطَأٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِفَتْحِهَا وَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا قَالُوا وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا وَالصَّوَابُ اللُّتْبِيَّةُ بِإِسْكَانِهَا نِسْبَةً إِلَى بني لتب قبيلة معروفة وإسم بن اللُّتْبِيَّةِ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ حَرَامٌ وَغُلُولٌ لِأَنَّهُ خَانَ فِي وِلَايَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ فِي عُقُوبَتِهِ وَحَمْلِهِ مَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ذَكَرَ مِثْلَهُ فِي الْغَالِّ وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ السَّبَبَ فِي تَحْرِيمِ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهِ وَأَنَّهَا بِسَبَبِ الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ الْهَدِيَّةِ لِغَيْرِ الْعَامِلِ فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ مَا يقبضه العالم وَنَحْوِهِ بِاسْمِ الْهَدِيَّةِ وَأَنَّهُ يَرُدُّهُ إِلَى مُهْدِيهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَإِلَى بَيْتِ الْمَالِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْ شَاةٍ تَيْعِرُ) هُوَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَمَفْتُوحَةٍ وَمَعْنَاهُ تَصِيحُ وَالْيُعَارُ صَوْتُ الشَّاةِ قَوْلُهُ (ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبِطَيْهِ) هِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا وَالْفَاءُ سَاكِنَةٌ فِيهِمَا وَمِمَّنْ ذَكَرَ اللُّغَتَيْنِ فِي الْعَيْنِ الْقَاضِي هُنَا وَفِي الْمَشَارِقِ وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَالْأَشْهَرُ الضَّمُّ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَآخَرُونَ عُفْرَةُ الْإِبِطِ هِيَ الْبَيَاضُ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ

(12/219)


بَلْ فِيهِ شَيْءٌ كَلَوْنِ الْأَرْضِ قَالُوا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَفَرِ الْأَرْضِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْفَاءِ وَهُوَ وَجْهُهَا قَوْلُهُ (فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ) فِيهِ مُحَاسَبَةُ الْعُمَّالِ لِيُعْلَمَ مَا قَبَضُوهُ وَمَا صَرَفُوا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا) هَكَذَا هُوَ ببعض النسخ فلا عرفن وَفِي بَعْضِهَا لَا أَعْرِفَنَّ بِالْأَلِفِ عَلَى النَّفْيِ قَالَ الْقَاضِي هَذَا أَشْهَرُ قَالَ وَالْأَوَّلُ هُوَ رِوَايَةُ أَكْثَرِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ (بَصَرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي) مَعْنَاهُ أَعْلَمُ هَذَا الْكَلَامَ يَقِينًا وَأَبْصَرَتْ عَيْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين

(12/220)


تَكَلَّمَ بِهِ وَسَمِعَتْهُ أُذُنِي فَلَا شَكَّ فِي عِلْمِي بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاللَّهِ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ تَوْكِيدُ الْيَمِينِ بِذِكْرِ اسْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ (وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مَعِي) فِيهِ اسْتِشْهَادُ الرَّاوِي وَالْقَائِلِ بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقُهُ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ السامع وأبلغ في طمأنينته قوله (وحدثناه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ إِلَى قَوْلِهِ قَالَ عُرْوَةُ فَقُلْتُ لِأَبِي حُمَيْدٍ أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا حُمَيْدٍ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي هُنَا عَنْ رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ وَوَقَعَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النُّسَخِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَهَذَا وَاضِحٌ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مُتَّصِلٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ قَالَ عُرْوَةُ فَقُلْتُ لِأَبِي حُمَيْدٍ أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ عُرْوَةَ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي حُمَيْدٍ فَاتَّصَلَ الْحَدِيثُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالطُّرُقِ الْكَثِيرَةِ السَّابِقَةِ قَوْلُهُ (فَجَاءَ بِسَوَادٍ كَثِيرٍ) أَيْ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَأَشْخَاصٍ بَارِزَةٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ وَالسَّوَادُ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ

(12/221)


[1833] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَتَمَنَا مِخْيَطًا) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ وَهُوَ الْإِبْرَةُ قَوْلُهُ (عَدِيُّ بْنُ عَمِيرَةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ قَالَ الْقَاضِي وَلَا يُعْرَفُ مِنَ الرِّجَالِ أَحَدٌ يُقَالُ لَهُ عُمَيْرَةُ بِالضَّمِّ بَلْ كُلُّهُمْ بِالْفَتْحِ وَوَقَعَ فِي النَّسَائِيِّ الْأَمْرَانِ

(بَاب وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ (وَتَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِهَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَعَلَى تَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا القاضي)

(12/222)


عِيَاضٌ وَآخَرُونَ

[1834] قَوْلُهُ (نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَطِيعُوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم في عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ هَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ هُمُ الْعُلَمَاءُ وَقِيلَ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ الصَّحَابَةُ خَاصَّةً فَقَطْ فَقَدْ أَخْطَأَ

[1835] قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أميري فقد

(12/223)


أَطَاعَنِي) وَقَالَ فِي الْمَعْصِيَةِ مِثْلَهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاعَةِ الْأَمِيرِ فَتَلَازَمَتِ الطَّاعَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[1836] (عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ تَجِبُ طَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِيمَا يَشُقُّ وَتَكْرَهُهُ النُّفُوسُ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ كَانَتْ لِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ فَتُحْمَلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُطْلِقَةُ لِوُجُوبِ طَاعَةِ وُلَاةِ

(12/224)


الْأُمُورِ عَلَى مُوَافَقَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ لا سمع ولا طاعة في المعصية والأثرة بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ وَيُقَالُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ حَكَاهُنَّ فِي الْمَشَارِقِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الِاسْتِئْثَارُ وَالِاخْتِصَاصُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ أَيْ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اخْتَصَّ الْأُمَرَاءُ بِالدُّنْيَا وَلَمْ يُوصِلُوكُمْ حَقَّكُمْ مِمَّا عِنْدَهُمْ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الْحَثِّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَسَبَبُهَا اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أجوالهم فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ قَوْلُهُ

[1837] (إِنَّ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ) يَعْنِي مَقْطُوعَهَا وَالْمُرَادُ أَخَسُّ الْعَبِيدِ أَيْ أَسْمَعُ وَأُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ كَانَ دَنِيءَ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ مَقْطُوعَ الْأَطْرَافِ فَطَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ وَتُتَصَوَّرُ إِمَارَةُ الْعَبْدِ إِذَا وَلَّاهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أَوْ إِذَا تَغَلَّبَ عَلَى الْبِلَادِ بِشَوْكَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْوِلَايَةِ لَهُ مَعَ الِاخْتِيَارِ بل شرطها

(12/225)


الْحُرِّيَّةُ قَوْلُهُ

[1840] (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ

(12/226)


ادْخُلُوهَا إِلَى قَوْلِهِ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) هَذَا مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ أَنَّهُ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا هِيَ فِي الْمَعْرُوفِ وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ هَذَا الْأَمِيرُ قِيلَ أَرَادَ امْتِحَانَهُمْ وَقِيلَ كَانَ مَازِحًا قِيلَ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا إِنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) هَذَا مِمَّا عَلِمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ وَهَذَا التَّقْيِيدُ بِيَوْمِ القيامة مبين

(12/227)


لِلرِّوَايَةِ الْمُطْلَقَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا لَوْ دَخَلُوهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ) هَكَذَا هُوَ لِمُعْظَمِ الرُّوَاةِ وَفِي مُعْظَمِ النُّسَخِ بَوَاحًا بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِهَا

(12/228)


بَرَاحًا وَالْبَاءُ مَفْتُوحَةٌ فِيهِمَا وَمَعْنَاهُمَا كُفْرًا ظَاهِرًا وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي وَمَعْنَى عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ أَيْ تَعْلَمُونَهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورَ فِي وِلَايَتِهِمْ وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالْفِسْقِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَنْعَزِلُ وَحُكِيَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا فَغَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَبَبُ عَدَمِ انْعِزَالِهِ وَتَحْرِيمِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَتَكُونُ الْمَفْسَدَةُ فِي عَزْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي بَقَائِهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنْعَقِدُ لِكَافِرٍ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ انْعَزَلَ قَالَ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَةَ الصَّلَوَاتِ وَالدُّعَاءَ إِلَيْهَا قَالَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمُ الْبِدْعَةُ قَالَ وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ تَنْعَقِدُ لَهُ وَتُسْتَدَامُ لَهُ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ قَالَ الْقَاضِي فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ كُفْرٌ وَتَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ أَوْ بِدْعَةٌ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْوِلَايَةِ وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ وَخَلْعُهُ وَنَصْبُ إِمَامٍ عَادِلٍ إِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ إِلَّا لِطَائِفَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِيَامُ بِخَلْعِ الْكَافِرِ وَلَا يَجِبُ فِي الْمُبْتَدِعِ إِلَّا إِذَا ظَنُّوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ تَحَقَّقُوا الْعَجْزَ لَمْ يَجِبِ الْقِيَامُ وَلْيُهَاجِرِ الْمُسْلِمُ عَنْ أَرْضِهِ إِلَى غَيْرِهَا وَيَفِرَّ بِدِينِهِ قَالَ وَلَا تَنْعَقِدُ لِفَاسِقٍ ابْتِدَاءً فَلَوْ طَرَأَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِسْقٌ قَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ خَلْعُهُ إِلَّا أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ وَحَرْبٌ وَقَالَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ وَتَعْطِيلِ الْحُقُوقِ وَلَا يُخْلَعُ وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَلْ يَجِبُ وَعْظُهُ وَتَخْوِيفُهُ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَقَدِ ادَّعَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا الْإِجْمَاعَ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ هَذَا بِقِيَامِ الحسن وبن الزُّبَيْرِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَبِقِيَامِ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى الحجاج مع بن الأشعث وتأول هذا القائل قوله أن لا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ فِي أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ قِيَامَهُمْ عَلَى الْحَجَّاجِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْفِسْقِ بَلْ لِمَا غَيَّرَ مِنَ الشَّرْعِ وَظَاهَرَ مِنَ الْكُفْرِ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْخِلَافَ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[1709] قَوْلُهُ (بَايَعْنَا عَلَى السَّمْعِ) الْمُرَادُ بِالْمُبَايَعَةِ الْمُعَاهَدَةُ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْبَيْعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ كَانَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَكَذَا هَذِهِ البيعة

(12/229)


تَكُونُ بِأَخْذِ الْكَفِّ وَقِيلَ سُمِّيَتْ مُبَايَعَةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُعَاوَضَةِ لِمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى من عَظِيمَ الْجَزَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة الْآيَةَ قَوْلُهُ (وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ مَعْنَاهُ نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كل زمان ومكان الكبار والصفار لَا نُدَاهِنُ فِيهِ أَحَدًا وَلَا نَخَافُهُ هُوَ وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى الْأَئِمَّةِ فَفِيهِ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَإِنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ سَقَطَ الْإِنْكَارُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ وَوَجَبَتْ كَرَاهَتُهُ بِقَلْبِهِ هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ وَحَكَى الْقَاضِي هُنَا في بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْإِنْكَارِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَبَسَطْتُهُ بَسْطًا شافيا

(باب الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ) هَذَا الْحَدِيثُ أَوَّلُ الْفَوَاتِ الثَّالِثِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ مُسْلِمٍ بَلْ رَوَاهُ عَنْهُ بِالْإِجَازَةِ وَلِهَذَا قَالَ عَنْ مُسْلِمٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي الْفُصُولِ السَّابِقَةِ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْإِمَامُ جُنَّةٌ) أَيْ كَالسِّتْرِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَيَمْنَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَحْمِي بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ وَيَتَّقِيهِ النَّاسُ وَيَخَافُونَ سَطْوَتَهُ وَمَعْنَى يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ أَيْ يُقَاتَلُ مَعَهُ الْكُفَّارُ وَالْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ مُطْلَقًا وَالتَّاءُ فِي يُتَّقَى مُبْدَلَةٌ من الواو)

(12/230)


(باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ قَوْلُهُ
[1842] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ) أَيْ يَتَوَلَّوْنَ أُمُورَهُمْ كَمَا تَفْعَلُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ بِالرَّعِيَّةِ وَالسِّيَاسَةُ الْقِيَامُ عَلَى الشيء بما يصلحه وفي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ قَوْلِ هَلَكَ فُلَانٌ إِذَا مَاتَ وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ بِهِ وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ قَوْلُهُ تَعَالَى حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَتَكُونُ خُلَفَاءُ فتكثر قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ فُوابَيْعَةَ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ) قَوْلُهُ فَتَكْثُرُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مِنَ الْكَثْرَةِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ قَالَ الْقَاضِي وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ فَتَكْبُرُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ كَأَنَّهُ مِنْ إِكْبَارِ قَبِيحِ أَفْعَالِهِمْ وَهَذَا تَصْحِيفٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَةٍ بَعْدَ خَلِيفَةٍ فَبَيْعَةُ الْأَوَّلِ صَحِيحَةٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا وَبَيْعَةُ الثَّانِي بَاطِلَةٌ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ طَلَبُهَا وَسَوَاءٌ عَقَدُوا لِلثَّانِي عَالِمِينَ بِعَقْدِ الأول جَاهِلِينَ وَسَوَاءٌ كَانَا فِي بَلَدَيْنِ أَوْ بَلَدٍ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي بَلَدِ الْإِمَامِ الْمُنْفَصِلِ)

(12/231)


وَالْآخَرُ فِي غَيْرِهِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقِيلَ تَكُونُ لِمَنْ عُقِدَتْ لَهُ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ وَهَذَانِ فَاسِدَانِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ لِخَلِيفَتَيْنِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ اتَّسَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ الْإِرْشَادِ قَالَ أصحابنا لا يجوز عقدها شخصين قَالَ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِاثْنَيْنِ فِي صُقْعٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَالَ فَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ وَتَخَلَّلَتْ بَيْنَهُمَا شُسُوعٌ فَلِلِاحْتِمَالِ فِيهِ مَجَالٌ قَالَ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْقَوَاطِعِ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَصْلِ وَأَرَادَ بِهِ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَلِظَوَاهِرِ إِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[1843] (سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ قَالَ تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ) هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْإِخْبَارُ مُتَكَرِّرًا وَوُجِدَ مُخْبَرُهُ مُتَكَرِّرًا وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا فَيُعْطَى حَقَّهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ وَلَا يُخْلَعُ بَلْ يُتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ أَذَاهُ وَدَفْعِ شَرِّهِ وَإِصْلَاحِهِ وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا ذِكْرُ اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْأَثَرَةِ وَتَفْسِيرِهَا وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا اسْتِئْثَارُ الْأُمَرَاءِ بِأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ

(12/232)


[1844] (وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ) هُوَ مِنَ الْمُنَاضَلَةِ وَهِيَ الْمُرَامَاةُ بِالنُّشَّابِ قَوْلُهُ (وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ) هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالشِّينِ وَهِيَ الدَّوَابُّ الَّتِي تَرْعَى وَتَبِيتُ مَكَانَهَا قَوْلُهُ (الصَّلَاةَ جَامِعَةً) هُوَ بِنَصْبِ الصَّلَاةِ عَلَى الْإِغْرَاءِ وَجَامِعَةً عَلَى الْحَالِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا) هَذِهِ اللَّفْظَةُ رُوِيَتْ عَلَى أَوْجُهٍ أَحَدُهَا وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ الرُّوَاةِ يُرَقِّقُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِقَافَيْنِ أَيْ يَصِيرُ بَعْضُهَا رَقِيقًا أَيْ خَفِيفًا لِعِظَمِ مَا بَعْدَهُ فَالثَّانِي يَجْعَلُ الْأَوَّلَ رَقِيقًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَقِيلَ يَدُورُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَيَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَسُوقُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِتَحْسِينِهَا وَتَسْوِيلِهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي فَيَرْفُقُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا فَاءٌ مَضْمُومَةٌ وَالثَّالِثُ فَيَدْفِقُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ وَبِالْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ يَدْفَعُ وَيَصُبُّ وَالدَّفْقُ الصَّبُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلْيَأْتِ إلى الناس الذي يجب أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) هَذَا مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَدِيعِ حِكَمِهِ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهَا وَأَنَّ الْإِنْسَانَ يلزم أن لا يَفْعَلَ مَعَ النَّاسِ إِلَّا مَا يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلُوهُ مَعَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(12/233)


(فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ) مَعْنَاهُ ادْفَعُوا الثَّانِيَ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَلَى الْإِمَامِ فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِحَرْبٍ وَقِتَالٍ فَقَاتِلُوهُ فَإِنْ دَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ إِلَى قَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ فِي قتاله قوله (فقلت له هذا بن عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ وَلَا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إِلَى آخِرِهِ) الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْروِ بْنِ الْعَاصِ وَذِكْرَ الْحَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ مُنَازَعَةِ الْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ الثَّانِيَ يُقْتَلُ فَاعْتَقَدَ هَذَا الْقَائِلُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُعَاوِيَةَ لِمُنَازَعَتِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَةُ عَلِيٍّ فَرَأَى هَذَا أَنَّ نَفَقَةَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَجْنَادِهِ وَأَتْبَاعِهِ فِي حَرْبِ عَلِيٍّ وَمُنَازَعَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ إِيَّاهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ قَتْلِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ قِتَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مَالًا فِي مُقَاتَلَتِهِ قَوْلُهُ (أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ) هَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْمُتَوَلِّينَ لِلْإِمَامَةِ بِالْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ إِجْمَاعٍ وَلَا عَهْدٍ قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ

(12/234)


الْكَعْبَةِ الصَّائِدِيِّ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالصَّادِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جَمِيعِ النُّسَخِ قال وَهُوَ غَلَطٌ وَصَوَابُهُ الْعَائِذِيِّ بِالْعَيْنِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قاله بن الحباب والنسابة هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تاريخه والسمعاني في الأنساب فقالا هُوَ الصَّائِدِيُّ وَلَمْ يَذْكُرَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدِ اجْتَمَعَ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَالسَّمْعَانِيُّ عَلَى الصَّائِدِيِّ قَالَ السَّمْعَانِيُّ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى صَائِدٍ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ قَالَ وَصَائِدٌ اسْمُ كَعْبِ بْنِ شُرَحْبِيلَ بن شراحبيل بْنِ عَمْرِو بْنِ حُشَمِ بْنِ حَاسِدِ بْنِ حشَيمِ بْنِ حَوَانَ بْنِ نَوْفِ بْنِ هَمْدَانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَحْبَارِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ

(بَاب الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عِنْدَ ظُلْمِ الْوُلَاةِ وَاسْتِئْثَارِهِمْ

[1845]

[1846] تَقَدَّمَ شَرْحُ أَحَادِيثِهِ فِي الْأَبْوَابِ قَبْلَهُ وَحَاصِلُهُ الصَّبْرُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَأَنَّهُ لَا تَسْقُطُ طَاعَتُهُمْ بِظُلْمِهِمْ والله أعلم)

(12/235)


(باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (وفي كل حال وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة) قَوْلُهُ

[1847] (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ قَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَاكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ الدَّخَنُ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَصْلُهُ أَنْ تَكُونَ فِي لَوْنِ الدَّابَّةِ كُدُورَةٌ إلى سواد قالوا والمراد)

(12/236)


هنا أن لا تَصْفُوَ الْقُلُوبُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَلَا يَزُولُ خُبْثُهَا وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الصفا قَالَ الْقَاضِي قِيلَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ بَعْدَ الشَّرِّ أَيَّامُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ الْمُرَادُ الْأَمْرُ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَيَهْتَدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي) الْهَدْيُ الْهَيْئَةُ وَالسِّيرَةُ وَالطَّرِيقَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمِ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَدْعُو إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ ضَلَالٍ آخَرَ كَالْخَوَارِجِ والقزامطة وَأَصْحَابِ الْمِحْنَةِ وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ هَذَا لُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامِهِمْ وَوُجُوبُ طَاعَتِهِ وَإِنْ فَسَقَ وَعَمِلَ الْمَعَاصِيَ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَفِيهِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا وَقَدْ وَقَعَتْ كُلُّهَا قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي سَلَّامٍ قَالَ قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا عِنْدِي مُرْسَلٌ لِأَنَّ أَبَا سَلَّامٍ لَمْ يَسْمَعْ حُذَيْفَةَ وَهُوَ كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَكِنَّ الْمَتْنَ صَحِيحٌ متصل بالطريق

(12/237)


الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا أَتَى مُسْلِمٌ بِهَذَا مُتَابِعَةً كَمَا تَرَى وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ إِذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مُتَّصِلًا تَبَيَّنَّا بِهِ صِحَّةَ الْمُرْسَلِ وَجَازَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَيَصِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ

[1848] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي قَيْسِ بْنِ رِيَاحٍ) هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمُثَنَّاةِ وَهُوَ زِيَادُ بْنُ رِيَاحٍ الْقَيْسِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ بَعْدَهُ وَقَالَهُ الْبُخَارِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَقَالَهُ الْجَمَاهِيرُ بِالْمُثَنَّاةِ لَا غَيْرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) هِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ عَلَى صِفَةِ مَوْتِهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ فَوْضَى لَا إِمَامَ لَهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ) هِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَالْمِيمُ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ وَالْيَاءُ مُشَدَّدَةٌ أَيْضًا قَالُوا هِيَ الْأَمْرُ الْأَعْمَى لَا يَسْتَبِينُ وَجْهُهُ كَذَا قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْجُمْهُورُ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ هَذَا كَتَقَاتُلِ الْقَوْمِ لِلْعَصَبِيَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً) هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ بِالْعَيْنِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَغَيْرِهَا وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ بِالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ

(12/238)


فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ يُقَاتِلُ لِشَهْوَةِ نَفْسِهِ وَغَضْبَةٍ لَهَا وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهَا يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ وَمَعْنَاهُ إِنَّمَا يُقَاتِلُ عَصَبِيَّةً لِقَوْمِهِ وَهَوَاهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَتَحَاشَى بِالْيَاءِ وَمَعْنَاهُ لَا يَكْتَرِثُ بِمَا يَفْعَلُهُ فِيهَا وَلَا يَخَافُ وَبَالَهُ

(12/239)


وَعُقُوبَتَهُ

[1851] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يوم القيامة) لا حجة له) أي لاحجة لَهُ فِي فِعْلِهِ وَلَا عُذْرَ لَهُ يَنْفَعُهُ

(12/240)


(بَاب حُكْمِ مَنْ فَرَّقَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُجْتَمِعٌ

[1852] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ) الْهَنَاتُ جَمْعُ هَنَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْفِتَنُ وَالْأُمُورُ الْحَادِثَةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ أَرَادَ تَفْرِيقَ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ قُوتِلَ وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ شَرُّهُ إِلَّا بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ)

(12/241)


كَانَ هَدَرًا فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَاقْتُلُوهُ مَعْنَاهُ إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ) معناه يفرق جماعتكم كما تفرق العصاة االمشقوقة وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَتَنَافُرِ النُّفُوسِ

(بَاب إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[1853] (إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِقَتْلِهِ وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحُ هَذَا فِي الْأَبْوَابِ السَّابِقَةِ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عقدها لخليفتين وقد سبق قريبا نقل الْإِجْمَاعُ فِيهِ وَاحْتِمَالُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ)
بَاب وُجُوبِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ (وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ مَا صَلَّوْا وَنَحْوِ ذَلِكَ) قَوْلُهُ

[1854] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ

(12/242)


سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا أَفَلَا نقاتلهم قال لا ماصلوا) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالْإِخْبَارِ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَوَقَعَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ بَرِئَ وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ فَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ فَظَاهِرَةٌ وَمَعْنَاهُ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ إِثْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَهُ بِيَدِهِ ولَا لِسَانِهِ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ وَلْيَبْرَأْ وَأَمَّا مَنْ رَوَى فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ بَرِئَ فَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَمَنْ عَرَفَ الْمُنْكَرَ وَلَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ فَقَدْ صَارَتْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ إِثْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ بِأَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدَيْهِ أَوْ بِلِسَانِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ مَعْنَاهُ ولَكِنَّ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ عَلَى مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ لَا يأثم بمجرد السكوت بل إنما يأثم بالرضى به أو بأن لا يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِالْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ أفلا نقاتلهم قال لا ماصلوا فَفِيهِ مَعْنَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَى الْخُلَفَاءِ

(12/243)


بمجرد الظلم أو الفسق مالم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام

(باب خيار الأئمة وشرارهم قوله

[1855] (عن رزيق بْنِ حَيَّانَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزاي وتأخيرها على وجهين) ذكره البخاري وبن أبي حاتم والدارقطني وعبد الغني بن سعيد المصري وبن مَاكُولَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمُؤْتَلِفِ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَالدِّمَشْقِيُّ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَبِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ شَرْحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ)

(12/244)


وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ) مَعْنَى يُصَلُّونَ أَيْ يَدْعُونَ قَوْلُهُ (فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ فَجَثَا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْضِهَا فَجَذَا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَأَمَّا بِالثَّاءِ فَيُقَالُ مِنْهُ جَثَا على ركبتيه يجثو وجثا يجثى جثوا وَجُثِيًّا فِيهِمَا وَأَجْثَاهُ غَيْرُهُ وَتَجَاثَوْا عَلَى الرُّكَبِ جثى وجثى بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا وَأَمَّا جَذَا فَهُوَ الْجُلُوسُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ نَاصِبَ الْقَدَمَيْنِ وَهُوَ الْجَاذِي وَالْجَمْعُ جَذَا مِثْلَ نَائِمٍ وَنِيَامٍ قَالَ الْجُمْهُورُ الْجَاذِي أَشَدُّ اسْتِيفَازًا مِنَ الْجَاثِي وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو هُمَا لُغَتَانِ

(12/245)


بَاب اسْتِحْبَابِ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ الْجَيْشَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْقِتَالِ وَبَيَانِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَوْلُهُ

[1856] (كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ) وَفِي رِوَايَةٍ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ

[1857] وَفِي رِوَايَةٍ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ فِي صحيحهما وَأَكْثَرُ رِوَايَتِهِمَا أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَكَذَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ أَلْفًا وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ وَكَسْرًا فَمَنْ قَالَ أَرْبَعُمِائَةٍ لَمْ يَعْتَبِرِ الْكَسْرَ وَمَنْ قَالَ خَمْسُمِائَةٍ اعْتَبَرَهُ وَمَنْ قَالَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ تَرَكَ بَعْضَهُمْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُتْقِنِ الْعَدَّ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ وَرِوَايَةِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ

[1858] (بَايَعْنَاهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ على أن لا نَفِرَّ وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ) وَفِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ

(13/2)


يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَوْتِ وَهُوَ مَعْنَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ وَفِي رِوَايَةِ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ الْبَيْعَةُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْبَيْعَةُ على الاسلام والجهاد وفى حديث بن عمر وعبادة بايعنا على السمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله وفى رواية عن بن عُمَرَ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ الْبَيْعَةُ عَلَى الصَّبْرِ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَجْمَعُ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا وَتُبَيِّنُ مَقْصُودَ كُلِّ الرِّوَايَاتِ فَالْبَيْعَةُ عَلَى أن لا نَفِرَّ مَعْنَاهُ الصَّبْرُ حَتَّى نَظْفَرَ بِعَدُوِّنَا أَوْ نُقْتَلَ وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْعَةِ عَلَى الْمَوْتِ أَيْ نَصْبِرُ وَإِنْ آلَ بِنَا ذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ لَا أَنَّ الْمَوْتَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَكَذَا الْبَيْعَةُ عَلَى الْجِهَادِ أَيْ وَالصَّبْرُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَجِبُ عَلَى الْعَشَرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصْبِرُوا لِمِائَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا يَفِرُّوا مِنْهُمْ وَعَلَى الْمِائَةِ الصَّبْرُ لِأَلْفِ كَافِرٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَصَارَ الْوَاجِبُ مصابرة المثلين فقط هذا مذهبنا ومذهب بن عباس ومالك

(13/3)


وَالْجُمْهُورِ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مُجَرَّدُ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ يُرَاعَى وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ بَايَعْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا إِلَى آخِرِهِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ وَقَبْلَ فَرْضِ الْجِهَادِ قَوْلُهُ (سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ) هَذَا مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لما وصلوا الحديبية وجدوا بئرها إنما تنزه مِثْلَ الشِّرَاكِ فَبَسَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فيها ودعا فيها

(13/4)


بالبركة فجاست فَهِيَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّ السَّائِلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلِمَ أَصْلَ الْحَدِيثِ وَالْمُعْجِزَةِ فِي تَكْثِيرِ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَى فِيهَا وَلَمْ يَعْلَمْ عَدَدَهُمْ فَقَالَ جَابِرٌ كُنَّا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَلَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ أَوْ أَكْثَرَ لَكَفَانَا وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ دَعَا عَلَى بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ أَيْ دَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ قَوْلُهُ فِي الشَّجَرَةِ

[1859] (إِنَّهَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَكَانُهَا فِي العام المقبل) قال العلماء سبب خفائها أن لا يُفْتَتَنَ النَّاسُ بِهَا لِمَا جَرَى تَحْتَهَا مِنَ الْخَيْرِ وَنُزُولِ الرِّضْوَانِ وَالسَّكِينَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَوْ بَقِيَتْ ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً لَخِيفَ تَعْظِيمُ الْأَعْرَابِ وَالْجُهَّالِ إِيَّاهَا وَعِبَادَتُهُمْ لَهَا فَكَانَ خَفَاؤُهَا رَحْمَةً مِنَ الله تعالى

(13/5)


(باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه

[1862] قَوْلُهُ (إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ تَعَرَّبْتَ قَالَ لَا وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِي فِي الْبَدْوِ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ تَرْكِ الْمُهَاجِرِ هِجْرَتَهُ وَرُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ وَعَلَى أَنَّ ارتداد المهاجر أعرابيا من الكبائر قال ولهذا أَشَارَ الْحَجَّاجُ إِلَى أَنْ أَعْلَمَهُ سَلَمَةُ أَنَّ خُرُوجَهُ إِلَى الْبَادِيَةِ إِنَّمَا هُوَ بِإِذْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَلَعَلَّهُ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ وَطَنِهِ أَوْ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي مُلَازَمَةِ الْمُهَاجِرِ أَرْضَهُ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا وَفَرْضَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنُصْرَتِهِ أَوْ لِيَكُونَ مَعَهُ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ وَأَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَأَذَلَّ الْكُفْرَ وَأَعَزَّ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَقَالَ مَضَتِ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا أَيِ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لِمُوَاسَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُؤَازَرَتِهِ)

(13/6)


وَنُصْرَةِ دِينِهِ وَضَبْطِ شَرِيعَتِهِ قَالَ الْقَاضِي وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمْ فَقِيلَ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى غَيْرِهِمْ بَلْ كَانَتْ نَدْبًا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرِ الْوُفُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَتْحِ بِالْهِجْرَةِ وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى مَنْ لَمْ يُسْلِمْ كُلُّ أهل بلدة لئلا يبقى فى طلوع أَحْكَامِ الْكُفَّارِ

(بَاب الْمُبَايَعَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ وَالْخَيْرِ وَبَيَانِ مَعْنَى لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ

[1863] قَوْلُهُ (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَايِعُهُ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ مَضَتْ لِأَهْلِهَا وَلَكِنْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ وَالْخَيْرِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْهِجْرَةَ الْمَمْدُوحَةَ الْفَاضِلَةَ الَّتِي لِأَصْحَابِهَا الْمَزِيَّةُ الظَّاهِرَةُ)

(13/7)


إِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ فَإِنَّ الْخَيْرَ أَعَمُّ مِنَ الْجِهَادِ وَمَعْنَاهُ أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ

[1353] قَوْلِهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ مَكَّةَ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ فَلَا تُتَصَوَّرُ مِنْهَا الْهِجْرَةُ وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْهِجْرَةَ الْفَاضِلَةَ الْمُهِمَّةَ الْمَطْلُوبَةَ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا أَهْلُهَا امْتِيَازًا ظَاهِرًا انْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَمَضَتْ لِأَهْلِهَا الَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ قَوِيَ وَعَزَّ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ عِزًّا ظَاهِرًا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[1864] (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ تَحْصِيلَ الْخَيْرِ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ قَدِ انْقَطَعَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَلَكِنْ حَصِّلُوهُ بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَفِي هَذَا الْحَثُّ عَلَى نِيَّةِ الْخَيْرِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ يُثَابُ عَلَى النِّيَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) مَعْنَاهُ إِذَا طَلَبَكُمُ الْإِمَامُ لِلْخُرُوجِ إلى الجهاد

(13/8)


فَاخْرُجُوا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ فَرْضَ عَيْنٍ بَلْ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا فَعَلَهُ مَنْ تَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلُّهُمْ أَثِمُوا كُلُّهُمْ قَالَ أَصْحَابُنَا الْجِهَادُ الْيَوْمَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ الْكُفَّارُ بِبَلَدِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ كِفَايَةٌ وَجَبَ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ تَتْمِيمُ الْكِفَايَةِ وَأَمَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ كَانَ أَيْضًا فَرْضَ كِفَايَةٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ بِأَنَّهُ كَانَ تَغْزُو السَّرَايَا وَفِيهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ

[1865] (إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ من عملك شيئا) أما يترك فَبِكَسْرِ التَّاءِ مَعْنَاهُ لَنْ يُنْقِصَكَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكَ شَيْئًا حَيْثُ كُنْتَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُرَادُ بِالْبِحَارِ هُنَا الْقُرَى وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْقُرَى الْبِحَارَ وَالْقَرْيَةَ الْبُحَيْرَةَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُرَادُ بِالْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هَذَا الْأَعْرَابِيُّ مُلَازَمَةُ الْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكُ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ فَخَافَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن لا يَقْوَى لَهَا وَلَا يَقُومَ بِحُقُوقِهَا وَأَنْ يَنْكُصَ عَلَى عَقِبَيْهِ فَقَالَ لَهُ إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا لَشَدِيدٌ وَلَكِنِ اعْمَلْ بِالْخَيْرِ فِي وَطَنِكَ وَحَيْثُ مَا كُنْتَ فَهُوَ يَنْفَعُكَ ولاينقصك اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(13/9)


(بَاب كَيْفِيَّةِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ

[1866] قَوْلُهَا (كَانَ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ يُمْتَحَنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أيها النبى إذا جاءك المؤمنات إِلَى آخِرِه مَعْنَى يُمْتَحَنَّ يُبَايِعُهُنَّ عَلَى هَذَا الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَقَوْلُهَا (فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ) مَعْنَاهُ فَقَدْ بَايَعَ الْبَيْعَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَوْلُهَا (وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلَامِ) فِيهِ أَنَّ بَيْعَةَ النِّسَاءِ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ كَفٍّ وَفِيهِ أَنَّ بَيْعَةَ الرِّجَالِ بِأَخْذِ الْكَفِّ مَعَ الْكَلَامِ وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الْأَجْنَبِيَّةِ يُبَاحُ سَمَاعُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنَّ صَوْتَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وأنه لايلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطبب وقصد وَحِجَامَةٍ وَقَلْعِ ضِرْسٍ وَكَحْلِ عَيْنٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا تُوجَدُ امْرَأَةٌ تَفْعَلُهُ جَازَ لِلرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ فِعْلُهُ لِلضَّرُورَةِ وَفِي قَطُّ خَمْسُ لُغَاتٍ)

(13/10)


فَتْحُ الْقَافِ وَتَشْدِيدُ الطَّاءِ مَضْمُومَةً وَمَكْسُورَةً وَبِضَمِّهِمَا وَالطَّاءُ مُشَدَّدَةٌ وَفَتْحِ الْقَافِ مَعَ تَخْفِيفِ الطَّاءِ سَاكِنَةً وَمَكْسُورَةً وَهِيَ لِنَفْيِ الْمَاضِي قَوْلُهَا فِي الرواية الأخرى (مَا مَسَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا فَإِذَا أَخَذَ عَلَيْهَا فَأَعْطَتْهُ قَالَ اذْهَبِي فَقَدْ بَايَعْتُكِ) هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَا مَسَّ امْرَأَةً قَطُّ لَكِنْ يَأْخُذُ عَلَيْهَا الْبَيْعَةَ بِالْكَلَامِ فَإِذَا أَخَذَهَا بِالْكَلَامِ قَالَ اذْهَبِي فقد بايعتك وهذا التقدير مضرح بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَلَا بُدَّ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَاب الْبَيْعَةِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ

[1867] قَوْلُهُ (كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا فِيمَا اسْتَطَعْتَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ فِيمَا اسْتَطَعْتَ أَيْ قُلْ فِيمَا اسْتَطَعْتُ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْفَتِهِ بِأُمَّتِهِ يُلَقِّنُهُمْ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ فِيمَا اسْتَطَعْتُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي عُمُومِ بيعة مالا يُطِيقُهُ وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ مَنْ يلتزم مالا يُطِيقُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ لَا تَلْتَزِمْ مالا تطيق فيترك بَعْضَهُ وَهُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ)

(13/11)


(باب بيان سن البلوغ وَهُوَ السِّنُّ الَّذِي يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ وغير ذلك

[1868] قوله (عن بن عُمَرَ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد وهو بن أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ يوم الخندق وهو بن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ) هَذَا دَلِيلٌ لِتَحْدِيدِ الْبُلُوغِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ والأوزاعى وبن وَهْبٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَصِيرُ مُكَلَّفًا وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ فَتَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ مِنْ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهِ وَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجُلِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَيُقْتَلُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ وَهَذَا الْحَدِيثِ يَرُدُّهُ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أُحُدًا كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ فَيَكُونُ الْخَنْدَقُ سَنَةَ أَرْبَعٍ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَهُ بِسَنَةٍ قَوْلُهُ (لَمْ يُجِزْنِي وَأَجَازَنِي) الْمُرَادُ جَعَلَهُ رَجُلًا لَهُ حُكْمُ الرِّجَالِ المقاتلين)

(13/12)


(بَاب النَّهْيِ أَنْ يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ إِلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ إِذَا خِيفَ وُقُوعُهُ بِأَيْدِيهِمْ)

[1869] قَوْلُهُ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُسَافَرَةِ بِالْمُصْحَفِ إِلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ وَهِيَ خَوْفُ أَنْ يَنَالُوهُ فَيَنْتَهِكُوا حُرْمَتَهُ فَإِنْ أُمِنَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بِأَنْ يَدْخُلَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرِينَ عَلَيْهِمْ فَلَا كَرَاهَةَ وَلَا مَنْعَ مِنْهُ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَآخَرُونَ وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ من أصحابنا بالنهى مطلقا وحكى بن الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْجَوَازَ مُطْلَقًا وَالصَّحِيحُ عَنْهُ مَا سَبَقَ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَلِطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَزَعَمَ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ

(13/13)


إِلَيْهِمْ كِتَابٌ فِيهِ آيَةٌ أَوْ آيَاتٌ وَالْحُجَّةُ فِيهِ كِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ قَالَ الْقَاضِي وَكَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

(بَابُ الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْخَيْلِ وَتَضْمِيرِهَا)
فِيهِ ذِكْرُ حَدِيثِ مُسَابَقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ وَغَيْرِ الْمُضَمَّرَةِ وَفِيهِ جَوَازُ الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْخَيْلِ وَجَوَازُ تَضْمِيرِهَا وَهُمَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا لِلْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ وَتَدْرِيبِ الْخَيْلِ وَرِيَاضَتِهَا وَتَمَرُّنِهَا عَلَى الْجَرْي وَإِعْدَادِهَا لِذَلِكَ لِيُنْتَفَعَ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْقِتَالِ كَرًّا وَفَرًّا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أن المسابقة بينهما مُبَاحَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَيْنَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَيْلِ قَوِيِّهَا مَعَ ضَعِيفِهَا وَسَابِقِهَا مَعَ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا ثَالِثٌ أَمْ لَا فَأَمَّا الْمُسَابَقَةُ بِعِوَضٍ فَجَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَسَابِقَيْنِ أَوْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَيَكُونَ مَعَهُمَا مُحَلِّلٌ وَهُوَ ثَالِثٌ عَلَى فَرَسٍ مُكَافِئٍ لِفَرَسَيْهِمَا وَلَا يُخْرِجُ الْمُحَلِّلُ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا لِيَخْرُجَ هَذَا الْعَقْدُ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ عِوَضٍ فِي الْمُسَابَقَةِ

[1870] قَوْلُهُ (سَابَقَ بِالْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ) يُقَالُ أُضْمِرَتْ وَضُمِّرَتْ وَهُوَ أَنْ يُقَلَّلَ عَلَفُهَا مُدَّةً وَتُدْخَلَ بَيْتًا كَنِينًا وَتُجَلَّلَ فِيهِ لِتَعْرَقَ وَيَجِفَّ عَرَقُهَا فَيَجِفَّ لَحْمُهَا وَتَقْوَى عَلَى الْجَرْيِ قَوْلُهُ (مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ) هِيَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ سَاكِنَةٍ وَبِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي وَآخَرُونَ الْقَصْرُ أَشْهَرُ وَالْحَاءُ مَفْتُوحَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ وَهُوَ خَطَأٌ قَالَ الْحَازِمِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَيُقَالُ فِيهَا أَيْضًا الْحَيْفَاءُ بِتَقْدِيمِ الْيَاءِ عَلَى الْفَاءِ وَالْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا الْحَفْيَاءُ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بَيْنَ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَالْحَفْيَاءِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ وَأَمَّا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ فَهِيَ عِنْدَ الْمَدِينَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْمَدِينَةِ يَمْشِي مَعَهُ الْمُوَدِّعُونَ إِلَيْهَا

(13/14)


قَوْلُهُ (مَسْجِدُ بَنِي زُرَيْقٍ) بِتَقْدِيمِ الزَّايِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ قَوْلِ مَسْجِدِ فُلَانٍ وَمَسْجِدِ بَنِي فُلَانٍ وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عن بن عُمَرَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ وَذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ إسماعيل بن علية عن أيوب عن بن نافع عن نافع عن بن عمر فزاد بن نَافِعٍ قَالَ وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو مَسْعُودٍ مَحْفُوظٌ عن الجماعة من أصحاب بن عُلَيَّةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَرْوِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَلِيُّ بن المديني وداود عن بن علية عن أيوب عن بن نافع عن نافع عن بن عُمَرَ وَهَذَا شَاهِدٌ لِمَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ ورواه جماعة عن زهير عن بن عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ كَمَا رَوَاهُ مسلم من غير ذكر بن نافع قوله

(13/15)


(عن بن عُمَرَ فَجِئْتُ سَابِقًا فَطَفَّفَ بِيَ الْفَرَسُ الْمَسْجِدَ) أى علا وثب إِلَى الْمَسْجِدِ وَكَانَ جِدَارُهُ قَصِيرًا وَهَذَا بَعْدَ مجاوزته الغاية لأن الغاية هي هذا الْمَسْجِدُ وَهُوَ مَسْجِدُ بَنِي زُرَيْقٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب فضيلة الخيل وأن الخير معقود بنواصيها)

[1871] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَأجْرُ وَالْغَنِيِمَةُ) وَفِي رِوَايَةٍ الْخَيْرُ مَعْقُوصٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ وَفِي رِوَايَةٍ الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ الْمَعْقُودُ وَالْمَعْقُوصُ بِمَعْنًى وَمَعْنَاهُ مَلْوِيٌّ مَضْفُورٌ فِيهَا وَالْمُرَادُ بِالنَّاصِيَةِ هُنَا الشَّعْرُ الْمُسْتَرْسِلُ عَلَى الْجَبْهَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا وَكَنَّى بِالنَّاصِيَةِ عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْفَرَسِ يُقَالُ فُلَانٌ مُبَارَكُ النَّاصِيَةِ وَمُبَارَكُ الْغُرَّةِ أَيِ الذَّاتِ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اسْتِحْبَابُ رِبَاطِ الْخَيْلِ وَاقْتِنَائِهَا لِلْغَزْوِ وَقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ فَضْلَهَا وَخَيْرَهَا وَالْجِهَادَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الشُّؤْمُ قَدْ يَكُونُ فِي الْفَرَسِ فَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْخَيْلِ الْمُعَدَّةِ لِلْغَزْوِ وَنَحْوِهِ أَوْ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشُّؤْمَ يَجْتَمِعَانِ فِيهَا فإنه فسر الخير بالأجر والمغنم ولايمتنع مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ

(13/16)


الْفَرَسُ مِمَّا يُتَشَاءَمُ بِهِ

[1872] قَوْلُهُ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْوِي نَاصِيَةَ فَرَسٍ بِإِصْبَعِهِ) قَالَ الْقَاضِي فِيهِ اسْتِحْبَابُ خِدْمَةِ الرَّجُلِ فَرَسَهُ الْمُعَدَّةَ لِلْجِهَادِ

[1873] قَوْلُهُ (عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ) هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ

(13/17)


وَالْقَافِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى بَارِقٍ وَهُوَ جَبَلٌ بِالْيَمَنِ تَرَكَتْهُ الْأَزْدُ وَهُمُ الْأَسْدُ بِإِسْكَانِ السِّينِ فَنُسِبُوا إِلَيْهِ وَقِيلَ إِلَى بَارِقِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَدِيٍّ وَيُقَالُ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَعُرْوَةِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَعُرْوَةِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ أَبِي الجعد

(باب ما يكره من صفات الخيل)

[1875] قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنَ الْخَيْلِ) وَفَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ يَكُونَ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى أَوْ يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الشِّكَالِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ثَلَاثُ قَوَائِمَ محجلة وواحدة

(13/18)


مُطْلَقَةً تَشْبِيهًا بِالشِّكَالِ الَّذِي تُشَكَّلُ بِهِ الْخَيْلُ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي ثَلَاثِ قَوَائِمَ غَالِبًا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَدْ يَكُونُ الشِّكَالُ ثَلَاثَ قَوَائِمَ مطلقة وواحدة محجلة قال ولاتكون الْمُطْلَقَةُ مِنَ الْأَرْجُلِ أَوِ الْمُحَجَّلَةُ إِلَّا الرِّجْلَ وقال بن دُرَيْدٍ الشِّكَالُ أَنْ يَكُونَ مُحَجَّلًا مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ فِي يَدِهِ وَرِجْلِهِ فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قِيلَ الشِّكَالُ مُخَالِفٌ قَالَ الْقَاضِي قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمُطَرِّزِ قِيلَ الشِّكَالُ بَيَاضُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى وَالْيَدِ الْيُمْنَى وَقِيلَ بَيَاضُ الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَالْيَدِ الْيُسْرَى وَقِيلَ بَيَاضُ الْيَدَيْنِ وَقِيلَ بَيَاضُ الرِّجْلَيْنِ وَقِيلَ بَيَاضُ الرِّجْلَيْنِ وَيَدٍ وَاحِدَةٍ وَقِيلَ بَيَاضُ الْيَدَيْنِ وَرِجْلٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا كَرِهَهُ لِأَنَّهُ عَلَى صُورَةِ الْمَشْكُولِ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ الْجِنْسُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَجَابَةٌ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَغَرَّ زَالَتِ الْكَرَاهَةُ لِزَوَالِ شَبَهِ الشِّكَالِ

(بَاب فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
[1876] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا إِلَى قَوْلِهِ أَنْ أُدْخِلَهُ

(13/19)


الْجَنَّةَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى تَكَفَّلَ اللَّهُ وَمَعْنَاهُمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذَا الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأموالهم بأن لهم الجنة الْآيَةَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ جِهَادًا بِالنَّصْبِ وَكَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَتَقْدِيرُهُ لَا يُخْرِجُهُ الْمُخْرِجُ وَيُحَرِّكُهُ الْمُحَرِّكُ إِلَّا لِلْجِهَادِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ قَوْلُهُ (لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي) مَعْنَاهُ لَا يُخْرِجُهُ إِلَا مَحْضُ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (وَتَصْدِيقَ كَلِمَتِهِ) أَيْ كَلِمَةُ الشَّهَادَتَيْنِ وَقِيلَ تَصْدِيقُ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا لِلْمُجَاهِدِ مِنْ عَظِيمِ ثَوَابِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ) ذَكَرُوا فِي ضَامِنٌ هُنَا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بِمَعْنَى مَضْمُونٌ كَمَاءٍ دَافِقٍ وَمَدْفُوقٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ بِمَعْنَى ذُو ضَمَانٍ قَوْلُهُ تَعَالَى (أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَدْخُلَ عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الشُّهَدَاءِ أَحْيَاءٌ عند ربهم يرزقون

(13/20)


وَفِي الْحَدِيثِ أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ دُخُولَهُ الْجَنَّةَ عِنْدَ دُخُولِ السَّابِقِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ وَلَا مُؤَاخَذَةٍ بِذَنْبٍ وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مُكَفِّرَةً لِذُنُوبِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلُهُ (أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ نَائِلًا مَا نَالَ مِنَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) قَالُوا مَعْنَاهُ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ بِلَا غَنِيمَةٍ إِنْ لَمْ يَغْنَمْ أَوْ مِنَ الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ مَعًا إِنْ غَنِمُوا وَقِيلَ إِنَّ أَوْ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ أَيْ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَكَذَا وَقَعَ بِالْوَاوِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ بِالْوَاوِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَمِنَ أَنَّ الْخَارِجَ لِلْجِهَادِ يَنَالُ خَيْرًا بِكُلِّ حَالٍ فَإِمَّا أَنْ يُسْتَشْهَدَ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ بِأَجْرٍ وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ بِأَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده مامن كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ) أَمَّا الْكَلْمُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ فَهُوَ الْجُرْحُ وَيُكْلَمُ بِإِسْكَانِ الْكَافِ أَيْ يُجْرَحُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ لايزول عنه الدم بغسل ولاغيره وَالْحِكْمَةُ فِي مَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَاهِدَ فَضِيلَتِهِ وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْيَمِينِ وَانْعِقَادِهَا بِقَوْلِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَنَحْوِ هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنَ الْحَلِفِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا الْيَمِينُ تَكُونُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ أَوْ مَا دَلَّ عَلَى ذَاتِهِ قَالَ الْقَاضِي واليد هنا

(13/21)


بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ قَوْلُهُ (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ خَلْفَهَا وَبَعْدَهَا وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ وَأَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ بَعْضَ مَا يَخْتَارُهُ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتِ الْمَصَالِحُ بَدَأَ بِأَهَمِّهَا وَفِيهِ مُرَاعَاةُ الرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَالسَّعْيِ فِي زَوَالِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ قَوْلُهُ (لوددت أن أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ) فِيهِ فَضِيلَةُ الْغَزْوِ وَالشَّهَادَةِ وَفِيهِ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَالْخَيْرِ وَتَمَنِّي مَا لايمكن فِي الْعَادَةِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَفِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ فرض كفاية لافرض عَيْنٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ) هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْغَزْوِ وَأَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَخْلَصَ فِيهِ وَقَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا قَالُوا وَهَذَا الْفَضْلُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَفِي إِقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ هُوَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ بَيْنَهُمَا وَمَعْنَاهُ يَجْرِي مُتَفَجِّرًا أَيْ كَثِيرًا وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَتَفَجَّرُ دَمًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذَا طُعِنَتْ) الضَّمِيرُ فِي كَهَيْئَتِهَا يعود على الجراحة وإذا طُعِنَتْ بِالْأَلِفِ بَعْدَ الذَّالِ كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ) هُوَ

(13/22)


بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُوَ الرِّيحُ

(بَاب فَضْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى)
[1877] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ وَحُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ ظَاهِرُ هَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ شُعْبَةَ ترويه عَنْ قَتَادَةَ وَحُمَيْدٍ جَمِيعًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ وَصَوَابُهُ أَنَّ أَبَا خَالِدٍ يَرْوِيهِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ وَيَرْوِيهِ أَبُو خَالِدٍ أَيْضًا عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ وَهَكَذَا قَالَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ الْقَاضِي فَيَكُونُ حُمَيْدٌ مَعْطُوفًا عَلَى شُعْبَةَ لَا عَلَى قتادة قال وقد ذكره بن أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ عَنْ حُمَيْدٍ وَشُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ فَبَيَّنَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَيْضًا إِيهَامٌ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ حُمَيْدًا يَرْوِيهِ عَنْ قَتَادَةَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ كَذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ

(13/23)


حُمَيْدًا يَرْوِيهِ عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَبَقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مامن نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أنها ترجع إلى الدنيا ولاأن لها الدنيا وما فيها الاالشهيد إِلَى آخِرِهِ) هَذَا مِنْ صَرَائِحِ الْأَدِلَّةِ فِي عَظِيمِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ الْمَشْكُورُ وَأَمَّا سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ شَهِيدًا فَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ لِأَنَّهُ حَيٌّ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ شَهِدَتْ وَحَضَرَتْ دَارَ الاسلام وَأَرْوَاحَ غَيْرِهِمْ إِنَّمَا تَشْهَدُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ بن الْأَنْبَارِيِّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ وَقِيلَ لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ يَشْهَدُونَهُ فَيَأْخُذُونَ رُوحَهُ وَقِيلَ لِأَنَّهُ شُهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَخَاتِمَةِ الْخَيْرِ بِظَاهِرِ حَالِهِ وَقِيلَ لِأَنَّ عَلَيْهِ شَاهِدًا بِكَوْنِهِ شَهِيدًا وَهُوَ الدَّمُ وَقِيلَ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلَاغِ الرُّسُلِ الرِّسَالَةَ إِلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُشَارِكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي هَذَا الْوَصْفِ

[1878] قَوْلُهُ (مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ لَا تَسْتَطِيعُوهُ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ لاتستطيعوه وَفِي بَعْضِهَا لَا تَسْتَطِيعُونَهُ

(13/24)


بِالنُّونِ وَهَذَا جَارٍ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ أَيْضًا وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ حَذْفُ النُّونُ من غير ناصب ولاجازم وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا وَنَظَائِرُهَا مَرَّاتٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ) مَعْنَى الْقَانِتِ هُنَا الْمُطِيعُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَظِيمُ فَضْلِ الْجِهَادِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْقِيَامَ بِآيَاتِ اللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَقَدْ جعل المجاهد مثل من لايفتر عَنْ ذَلِكَ فِي لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحَظَاتِ وَمَعْلُومٌ أن هذا لايتأتى لِأَحَدٍ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاتستطيعونه وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[1879] قَوْلُهُ (إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَجَرَ الرِّجَالَ الَّذِينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ) فِيهِ كَرَاهَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ فى المساجد يوم الجمعة وغيره وأنه لايرفع الصوت بعلم ولاغيره عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْوِيشِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(13/25)


(بَاب فَضْلِ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
[1880] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) الْغَدْوَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ السَّيْرُ أَوَّلَ النهار إلى الزوال والروحة السير من الزوال إلى آخر النهار وأو هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّوْحَةَ يَحْصُلُ بِهَا هَذَا الثَّوَابُ وَكَذَا الْغَدْوَةُ وَالظَّاهِرُ أنه لايختص ذَلِكَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ مِنْ بَلْدَتِهِ بَلْ يَحْصُلُ هَذَا الثَّوَابُ بِكُلِّ غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ فِي طريقه إلى الغزو وكذا غدوه وَرَوْحَةٍ فِي مَوْضِعِ الْقِتَالِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُسَمَّى غَدْوَةً وَرَوْحَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَضْلَ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَثَوَابَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا لو ملكها انسان وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمَهُ بِهَا كُلِّهَا لِأَنَّهُ زَائِلٌ وَنَعِيمَ الْآخِرَةِ بَاقٍ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَمَعْنَى نَظَائِرِهِ مِنْ تَمْثِيلِ

(13/26)


أمور الآخرة وثوابها بأمور الدنيا أنها خيرمن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ مَلَكَهَا إِنْسَانٌ وَمَلَكَ جَمِيعَ مَا فِيهَا وَأَنْفَقَهُ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ وَلَيْسَ تَمْثِيلُ الْبَاقِي بِالْفَانِي عَلَى ظَاهِرِ إِطْلَاقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[1882] قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنَا بن أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٌ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ عَنْ رِوَايَةِ الْجُلُودِيِّ قَالَ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ بن مَاهَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مروان فذكر بن أبى شيبة بدل بن أبي عمر قال والصواب الأول

(13/27)


(باب بيان ما أعده الله تعالى للمجاهد فى الجنة من الدرجات)

[1884] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ الدَّرَجَاتِ هُنَا الْمَنَازِلُ الَّتِي بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ فِي الظَّاهِرِ وَهَذِهِ صِفَةُ مَنَازِلِ الْجَنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي أَهْلِ الْغُرَفِ أَنَّهُمْ يَتَرَاءَوْنَ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ الرِّفْعَةُ بِالْمَعْنَى مِنْ كَثْرَةِ النَّعِيمِ وَعَظِيمِ الْإِحْسَانِ مِمَّا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ولابصفة مَخْلُوقٍ وَأَنَّ أَنْوَاعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ يَتَفَاضَلُ تَفَاضُلًا كَثِيرًا وَيَكُونُ تَبَاعُدُهُ فِي الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي الْبُعْدِ قَالَ الْقَاضِي وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(13/28)


(بَاب مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُفِّرَتْ خَطَايَاهُ إِلَّا الدَّيْنَ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ تَكْفِيرِ خَطَايَاهُ إِنْ قُتِلَ

[1885] (نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ ثُمَّ أَعَادَهُ فَقَالَ إِلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ) فِيهِ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ الْعَظِيمَةُ لِلْمُجَاهِدِ وهى تكفير خطاياه كلها إلاحقوق الْآدَمِيِّينَ وَإِنَّمَا يَكُونُ تَكْفِيرُهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مدبر وفيه أن الأعمال لاتنفع إلابالنية وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ) لَعَلَّهُ احْتِرَازٌ مِمَّنْ يُقْبِلُ فِي وَقْتٍ وَيُدْبِرُ فِي وَقْتٍ وَالْمُحْتَسِبُ هُوَ الْمُخْلِصُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قَاتَلَ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ لِغَنِيمَةٍ أَوْ لِصِيتٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فليس له هذا الثواب ولاغيره وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا الدَّيْنَ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَأَنَّ الْجِهَادَ وَالشَّهَادَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الدَّيْنَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهِ فِي الْحَالِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلاالدين فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[1886] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قيس قال

(13/29)


وحدثنا بن عَجْلَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ) الْقَائِلِ وَحَدَّثَنَا بن عَجْلَانَ هُوَ سُفْيَانُ قَوْلُهُ (عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ) الْأَوَّلُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّانِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقِتْبَانِيُّ بِالْقَافِ مَكْسُورَةً ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَنْسُوبٌ إِلَى قِتْبَانَ بَطْنٍ مِنْ رعين

(باب فى بيان أن أرواح الشهداء فى الجنة وأنهم احياء عند ربهم يرزقون)

[1887] قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَذَكَرَ إِسْنَادَهَ إِلَى مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ

(13/30)


عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ ربهم يرزقون قالَ أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ) قَالَ الْمَازِرِيُّ كَذَا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ينسبه فيقول عبد الله بن عمرو وذكره أبومسعود الدمشقى فى مسند بن مَسْعُودٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قُلْتُ وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ بِلَادِنَا الْمُعْتَمَدَةِ وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مَنْسُوبًا فِي مُعْظَمِهَا وَذَكَرَهُ خَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ وَالْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِي مسند بن مسعود وهوالصواب وَهَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعٌ لِقَوْلِهِ إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّهَدَاءِ (أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ) فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ وَهِيَ الَّتِي يُنَعَّمُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ هَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَة أَيْضًا وَغَيْرُهُمْ إِنَّهَا لَيْسَتْ مَوْجُودَةً وَإِنَّمَا تُوجَدُ بَعْدَ الْبَعْثِ فِي الْقِيَامَةِ قَالُوا وَالْجَنَّةُ الَّتِي أُخْرِجَ مِنْهَا آدَمُ غَيْرُهَا وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ وَفِيهِ إِثْبَاتُ مُجَازَاةِ الْأَمْوَاتِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قَبْلَ الْقِيَامَةِ قَالَ الْقَاضِي وَفِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ لاتفنى فَيُنَعَّمُ الْمُحْسِنُ وَيُعَذَّبُ الْمُسِيءُ وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ قَالَتْ تَفْنَى قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ هُنَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ وَالنَّسَمَةُ تُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الْإِنْسَانِ جِسْمًا وَرُوحًا وَتُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ مفردة وهو المراد بها فى هذا التَّفْسِيرِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِالرُّوحِ وَلِعِلْمِنَا بِأَنَّ الْجِسْمَ يَفْنَى وَيَأْكُلُهُ التُّرَابُ وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ حتى

(13/31)


يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الْقَاضِي وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ وَقَالَ هُنَا الشُّهَدَاءُ لِأَنَّ هَذِهِ صِفَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أَحْيَاءٌ عِنْدَ ربهم يرزقون وَكَمَا فَسَّرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّمَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ كَمَا جاء فى حديث بن عُمَرَ وَكَمَا قَالَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ النَّارُ يعرضون عليها غدوا وعشيا قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ فَيَدْخُلُونَهَا الْآنَ بِدَلِيلِ عُمُومِ الْحَدِيثِ وَقِيلَ بَلْ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَفْنِيَةِ قُبُورِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ وَفِي غَيْرِ مُسْلِمٍ بِطَيْرٍ خُضْرٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ بِحَوَاصِلِ طَيْرٍ وَفِي الْمُوَطَّأِ إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ فِي صُورَةِ طَيْرٍ أَبْيَضَ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْأَشْبَهُ صِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ طَيْرٌ أَوْ صُورَةُ طَيْرٍ وَهُوَ أَكْثَرُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرواية لاسيما مَعَ قَوْلِهِ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ قَالَ الْقَاضِي وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ هَذَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ آخَرُونَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْكَرُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بَلْ رِوَايَةُ طَيْرٍ أَوْ جَوْفِ طَيْرٍ أَصَحُّ مَعْنًى وَلَيْسَ لِلْأَقْيِسَةِ وَالْعُقُولِ فِي هَذَا حُكْمٌ وَكُلُّهُ مِنَ الْمُجَوَّزَاتِ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الرُّوحَ إِذَا خَرَجَتْ من المؤمن أوالشهيد فِي قَنَادِيلَ أَوْ أَجْوَافِ طَيْرٍ أَوْ حَيْثُ يشاء كان ذلك ووقع ولم يبعد لاسيما مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْسَامٌ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْمُنَعَّمَ أَوِ الْمُعَذَّبَ مِنَ الْأَرْوَاحِ جُزْءٌ مِنَ الْجَسَدِ تَبْقَى فِيهِ الرُّوحُ وَهُوَ الَّذِي يَتَأَلَّمُ وَيُعَذَّبُ وَيَلْتَذُّ وَيُنَعَّمُ وَهُوَ الذى يقول رب ارجعون وَهُوَ الَّذِي يَسْرَحُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يُصَوَّرَ هَذَا الْجُزْءُ طَائِرًا أَوْ يُجْعَلَ فِي جَوْفِ طَائِرٍ وَفِي قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ الْقَاضِي وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الروح ما هي اختلافا لايكاد يُحْصَرُ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْمَعَانِي وَعِلْمِ الباطن المتكلمين لاتعرف حقيقته ولايصح وَصْفُهُ وَهُوَ مِمَّا جَهِلَ الْعِبَادُ عِلْمَهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَغَلَتِ الْفَلَاسِفَةُ فَقَالَتْ بِعَدَمِ الرُّوحِ وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَطِبَّاءِ هُوَ الْبُخَارُ اللَّطِيفُ السَّارِي فِي الْبَدَنِ وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ شُيُوخِنَا هُوَ الْحَيَاةُ وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مُشَابِكَةٌ لِلْجِسْمِ يَحْيَى لِحَيَاتِهِ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِمَوْتِ الْجِسْمِ عِنْدَ فِرَاقِهِ وَقِيلَ هُوَ بَعْضُ الْجِسْمِ وَلِهَذَا وُصِفَ بِالْخُرُوجِ وَالْقَبْضِ وَبُلُوغِ الْحُلْقُومِ وَهَذِهِ صِفَةُ الأجسام لاالمعانى وَقَالَ بَعْضُ مُقَدَّمِي أَئِمَّتِنَا هُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُتَصَوَّرٌ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ دَاخِلَ الْجِسْمِ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَغَيْرُهُمْ إِنَّهُ النَّفَسُ الدَّاخِلُ

(13/32)


وَالْخَارِجُ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الدَّمُ هَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الرُّوحَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مُتَخَلِّلَةٌ فِي الْبَدَنِ فَإِذَا فَارَقَتْهُ مَاتَ قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا فِي النَّفْسِ وَالرُّوحِ فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَهُمَا لَفْظَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَقِيلَ إِنَّ النَّفْسَ هِيَ النَّفَسُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ وَقِيلَ هِيَ الدَّمُ وَقِيلَ هِيَ الْحَيَاةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ تَعَلَّقَ بِحَدِيثِنَا هَذَا وَشِبْهِهِ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِالتَّنَاسُخِ وَانْتِقَالِ الْأَرْوَاحِ وَتَنْعِيمِهَا فِي الصُّوَرِ الْحِسَانِ الْمُرَفَّهَةِ وَتَعْذِيبِهَا فِي الصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ الْمُسَخَّرَةِ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَهَذَا ضَلَالٌ بَيِّنٌ وَإِبْطَالٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ مِنَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ يَعْنِي يَوْمَ يَجِيءُ بِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا إِلَخْ) هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي إِكْرَامِهِمْ وَتَنْعِيمِهِمْ إِذْ قَدْ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا لايخطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ثُمَّ رَغَّبَهُمْ فِي سُؤَالِ الزِّيَادَةِ فَلَمْ يَجِدُوا مَزِيدًا عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ فسألوه حين رأوه أنه لابد مِنْ سُؤَالٍ أَنْ يُرْجِعَ أَرْوَاحَهُمْ إِلَى أَجْسَادِهِمْ ليجاهدوا ويبذلوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْتَلِذُّوا بِالْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَاب فَضْلِ الحهاد وَالرِّبَاطِ)
[1888] قَوْلُهُ (أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ فَقَالَ رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ) قَالَ الْقَاضِي هَذَا عَامٌّ

(13/33)


مَخْصُوصٌ وَتَقْدِيرُهُ هَذَا مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ وَإِلَّا فَالْعُلَمَاءُ أَفْضَلُ وَكَذَا الصِّدِّيقُونَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْعُزْلَةِ عَلَى الِاخْتِلَاطِ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاخْتِلَاطَ أَفْضَلُ بِشَرْطِ رَجَاءِ السَّلَامَةِ مِنَ الْفِتَنِ وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ أَنَّ الِاعْتِزَالَ أَفْضَلَ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاعْتِزَالِ فِي زَمَنِ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ أَوْ هُوَ فِيمَنْ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ وَلَا يَصْبِرُ عَلَيْهِمْ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْخُصُوصِ وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ مُخْتَلِطِينَ فَيُحَصِّلُونَ مَنَافِعَ الِاخْتِلَاطِ كَشُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَحِلَقِ الذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا الشِّعْبُ فَهُوَ مَا انْفَرَجَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ الشِّعْبِ خُصُوصًا بَلِ الْمُرَادُ الِانْفِرَادُ وَالِاعْتِزَالُ وَذَكَرَ الشِّعْبَ مِثَالًا لِأَنَّهُ خَالٍ عَنِ النَّاسِ غَالِبًا وَهَذَا الْحَدِيثُ نَحْوُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ حِينَ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّجَاةِ فَقَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ

[1889] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ

(13/34)


عِنَانَ فَرَسِهِ) الْمَعَاشُ هُوَ الْعَيْشُ وَهُوَ الْحَيَاةُ وَتَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ خَيْرِ أَحْوَالِ عَيْشِهِمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَى مَتْنِهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ) مَعْنَاهُ يُسَارِعُ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ مَتْنُهُ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً وَهِيَ الصَّوْتُ عِنْدَ حُضُورِ العدو وهى بفتح الهاء وإسكان الياء والفزعة بِإِسْكَانِ الزَّايِ وَهِيَ النُّهُوضُ إِلَى الْعَدُوِّ وَمَعْنَى يَبْتَغِي الْقَتْلَ مَظَانَّهُ يَطْلُبُهُ فِي مَوَاطِنِهِ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي الشَّهَادَةِ وَفِي هذا الحديث فضيلة الجهاد والرباط وَالْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ) الْغُنَيْمَةُ بِضَمِّ الْغَيْنِ تَصْغِيرُ الْغَنَمِ أَيْ قطعة منها والشعفة بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْعَيْنِ أَعْلَى الْجَبَلِ

(13/35)


(بَاب بَيَانِ الرَّجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ)
[1890] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُسْتَشْهَدُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْلِمُ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُسْتَشْهَدُ) قَالَ الْقَاضِي الضَّحِكُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ الضَّحِكُ الْمَعْرُوفُ فِي حَقِّنَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ مِنَ الْأَجْسَامِ وَمِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ تَغَيُّرُ الْحَالَاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الرِّضَا بِفِعْلِهِمَا وَالثَّوَابُ عَلَيْهِ وَحَمْدُ فِعْلِهِمَا وَمَحَبَّتُهُ وَتَلَقِّي رُسُلِ اللَّهِ لَهُمَا بِذَلِكَ لِأَنَّ الضَّحِكَ مِنْ أَحَدِنَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ مُوَافَقَتِهِ مَا يَرْضَاهُ وَسُرُورِهِ وَبِرِّهِ لِمَنْ يَلْقَاهُ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا ضَحِكُ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يُوَجِّهُهُمْ لِقَبْضِ رُوحِهِ وَإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ كَمَا يُقَالُ قَتَلَ السُّلْطَانُ فُلَانًا أَيْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ

(13/36)


(باب من قتل كافرا ثم سدد)

[1891] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا) وَفِي رِوَايَةٍ لايجتمعان فِي النَّارِ اجْتِمَاعًا يَضُرُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ قِيلَ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مُؤْمِنٌ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ قَالَ الْقَاضِي فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ قَتَلَ كَافِرًا فِي الْجِهَادِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُكَفِّرًا لِذُنُوبِهِ حَتَّى لَا يُعَاقَبَ عَلَيْهَا أَوْ يَكُونُ بِنِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِقَابُهُ إِنْ عُوقِبَ بِغَيْرِ النَّارِ كَالْحَبْسِ فِي الْأَعْرَافِ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوَّلًا وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَوْ يَكُونَ إِنْ عُوقِبَ بِهَا فى غير موضع عقاب الكفار ولايجتمعان فِي إِدْرَاكِهَا قَالَ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ (اجْتِمَاعًا يَضُرُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ) فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اجْتِمَاعٌ مَخْصُوصٌ قَالَ وَهُوَ مُشْكِلُ الْمَعْنَى وأوجه مافيه أن يكون معناه ماأشرنا إليه أنهما لايجتمعان فِي وَقْتٍ إِنِ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ فَيُعَيِّرُهُ بِدُخُولِهِ مَعَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْفَعْهُ إِيمَانُهُ وَقَتْلُهُ إِيَّاهُ وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ لَكِنْ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُؤْمِنٌ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَدَّدَ وَمَعْنَاهُ اسْتَقَامَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَلَمْ يَخْلِطْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ أَصْلًا سَوَاءٌ قَتَلَ كَافِرًا أَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ قَالَ الْقَاضِي وَوَجْهُهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ثُمَّ سَدَّدَ عَائِدًا عَلَى الْكَافِرِ الْقَاتِلِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ تَغَيَّرَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَأَنَّ صَوَابَهُ مُؤْمِنٌ قَتَلَهُ كَافِرٌ ثُمَّ سَدَّدَ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ لايجتمعان فِي النَّارِ اجْتِمَاعًا يَضُرُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَيْ لايدخلانها لِلْعِقَابِ وَيَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنِ اجْتِمَاعِ الْوُرُودِ وَتَخَاصُمِهِمْ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ هَذَا آخِرُ كَلَامِ القاضي

(13/37)


(باب فضل الصدقة فى سبيل الله تعالى وتضعيفها)

[1892] قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ) مَعْنَى مَخْطُومَةٌ أَيْ فِيهَا خِطَامٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الزِّمَامِ وَسَبَقَ شَرْحُهُ مَرَّاتٍ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ لَهُ أَجْرُ سَبْعِمِائَةِ نَاقَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكُونَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ بِهَا سَبْعُمِائَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَخْطُومَةٌ يَرْكَبُهُنَّ حَيْثُ شَاءَ لِلتَّنَزُّهِ كَمَا جَاءَ فِي خَيْلِ الْجَنَّةِ وَنَجْبِهَا وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَاب فَضْلِ إِعَانَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَرْكُوبٍ وَغَيْرِهِ وَخِلَافَتِهِ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ)

[1893] قَوْلُهُ (أُبْدِعَ بِي) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بُدِّعَ بى بحذف الهمزة وبتشديد الدَّالِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ قَالَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ وَمَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَآخَرُونَ

(13/38)


بِالْأَلِفِ وَمَعْنَاهُ هَلَكَتْ دَابَّتِي وَهِيَ مَرْكُوبِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ) فِيهِ فَضِيلَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ وَالْمُسَاعَدَةِ لِفَاعِلِهِ وفيه فضيلة تعليم العلم ووظائف العبادات لاسيما لِمَنْ يَعْمَلُ بِهَا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالْمُرَادُ بِمِثْلِ أَجْرِ فَاعِلِهِ أَنَّ لَهُ ثَوَابًا بِذَلِكَ الفعل كما أن لفاعله ثوابا ولايلزم أَنْ يَكُونَ قَدْرُ ثَوَابِهِمَا سَوَاءً

[1894] قَوْلُهُ (إِنَّ فتى من أسلم قال يارسول اللَّهِ إِنِّي أُرِيدَ الْغَزْوَ وَلَيْسَ مَعِي مَا أَتَجَهَّزُ بِهِ قَالَ ائْتِ فُلَانًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَهَّزَ فَمَرِضَ إِلَى آخِرِهِ) فِيهِ فَضِيلَةُ الدلالة على الخير وفيه أن مانوى الْإِنْسَانُ صَرْفَهُ فِي جِهَةِ بِرٍّ فَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجِهَةُ يُسْتَحَبُّ لَهُ بَذْلُهُ فِي جِهَةٍ أُخْرَى مِنَ الْبِرِّ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالنَّذْرِ قَوْلُهُ صَلَّى

(13/39)


اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[1895] (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا) أَيْ حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ بِسَبَبِ الْغَزْوِ وَهَذَا الْأَجْرُ يَحْصُلُ بِكُلِّ جِهَادٍ وَسَوَاءٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَلِكُلِّ خَالِفٍ لَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةٍ لَهُمْ وَإِنْفَاقٍ عَلَيْهِمْ أَوْ مُسَاعَدَتِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ الثَّوَابِ بِقِلَّةِ ذَلِكَ وَكَثْرَتِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ فَعَلَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ قَامَ بِأَمْرٍ مِنْ مُهِمَّاتِهِمْ قَوْلُهُ

[1896] (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي لِحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا) أَمَّا بَنُو لِحْيَانَ فَبِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ بَنِي لِحْيَانَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُفَّارًا فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بَعْثًا يَغْزُونَهُمْ وَقَالَ لِذَلِكَ الْبَعْثِ لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ نِصْفُ عَدَدِهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَأَمَّا كَوْنُ الْأَجْرِ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا خَلَفَ الْمُقِيمُ الْغَازِيَ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ كَمَا شَرَحْنَاهُ قَرِيبًا وَكَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَاقِي الْأَحَادِيثِ قوله (فى

(13/40)


إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ) هُوَ بِالرَّاءِ وَاسْمُهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْنَصْرِيُّ بِالنُّونِ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى شَدَّادِ بْنِ الْهَادِي وَيُقَالُ مَوْلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ وَيُقَالُ مَوْلَى دَوْسٍ وَيُقَالُ لَهُ سَالِمُ سَبَلَاتٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ وَهُوَ سَالِمُ الْبُرْدِ بِالرَّاءِ وَآخِرُهُ دَالٌ وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ بِالنُّونِ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى شَدَّادٍ وَهُوَ سَالِمٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى الْمَهْرَبَيْنِ وَهُوَ سَالَمٌ مَوْلَى دَوْسٍ وَهُوَ سَالِمٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيُّ وَلِسَالِمٍ هَذَا نَظَائِرُ فِي هَذَا وهو أن يكون للانسان أسماء أوصفات وَتَعْرِيفَاتٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ بِوَاحِدٍ مِنْهَا وَصَنَّفَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ فِي هذا كتابا حسنا وصنف فيه غيره

(باب حرمة نساء المجاهدين وإثم من خانهم فيهن)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[1897] (حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ) هَذَا فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا تَحْرِيمُ التَّعَرُّضِ لَهُنَّ بِرِيبَةٍ مِنْ نَظَرٍ مُحَرَّمٍ وَخَلْوَةٍ وَحَدِيثٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالثَّانِي فِي بِرِّهِنَّ

(13/41)


وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِنَّ الَّتِي لَا يَتَرَتَّبُ عليها مفسدة ولايتوصل بِهَا إِلَى رِيبَةٍ وَنَحْوِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَخُونُ الْمُجَاهِدَ فِي أَهْلِهِ (إِنَّ الْمُجَاهِدَ يَأْخُذُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُمْ) مَعْنَاهُ مَا تَظُنُّونَ فِي رَغْبَتِهِ فِي أَخْذِ حَسَنَاتِهِ وَالِاسْتِكْثَارِ منها فى ذلك المقام أى لايبقى مِنْهَا شَيْئًا إِنْ أَمْكَنَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَاب سُقُوطِ فَرْضِ الْجِهَادِ عَنْ الْمَعْذُورِينَ)
[1898] قَوْلُهُ (فَجَاءَ بِكَتِفٍ يَكْتُبُهَا) فِيهِ جَوَازُ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَلْوَاحِ وَالْأَكْتَافِ وَفِيهِ طَهَارَةُ عَظْمِ الْمُذَكَّى وَجَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من المؤمنين غير أولى الضرر الْآيَةَ فِيهِ دَلِيلٌ لِسُقُوطِ الْجِهَادِ عَنِ الْمَعْذُورِينَ ولكن لايكون ثَوَابُهُمْ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ بَلْ لَهُمْ ثَوَابُ نِيَّاتِهِمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَفِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ

(13/42)


كِفَايَةٍ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ عَيْنٍ وَبَعْدَهُ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَرْضَ كِفَايَةٍ مِنْ حِينِ شُرِعَ وَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عظيما وقوله تعالى غير أولى الضرر قُرِئَ غَيْرَ بِنَصْبِ الرَّاءِ وَرَفْعِهَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فى السبع قرأ نافع وبن عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِنَصْبِهَا وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ بِجَرِّهَا فَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَمَنْ رَفَعَ فَوَصْفٌ لِلْقَاعِدِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ وَمَنْ جَرَّ فَوَصْفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ قَوْلُهُ (فشكا إليه بن أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ) أَيْ عَمَاهُ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا ضَرَارَتَهُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أنه ضبط ضررا به والصواب الأول

(باب ثبوت الجنة للشهيد)

[1899] (قال رجل أين أنا يارسول اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ قَالَ فِي الْجَنَّةِ فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فِيهِ ثُبُوتُ

(13/43)


الجنة للشهيد وفيه المبادرة بالخير وأنه لايشتغل عَنْهُ بِحُظُوظِ النُّفُوسِ

[1900] قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ) بِالْجِيمِ وَالنُّونِ وَأَمَّا الْمِصِّيصِيُّ فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَالصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمِصِّيصَةِ الْمَدِينَةِ الْمَعْرُوفَةِ قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ هُوَ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ

[1901] قَوْلُهُ (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُسَيْسَةَ عَيْنًا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بُسَيْسَةَ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَبِسِينَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتُ سَاكِنَةٌ قَالَ الْقَاضِي هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ قَالَ وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ بَسْبَسُ بِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا سِينٌ سَاكِنَةٌ وَهُوَ بسبس بن عمرو ويقال بن بِشْرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْخَزْرَجِ وَيُقَالُ حَلِيفٌ لَهُمْ قُلْتُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ اسْمًا لَهُ وَالْآخَرُ لَقَبًا وَقَوْلُهُ (عَيْنًا) أَيْ مُتَجَسِّسًا وَرَقِيبًا قَوْلُهُ (مَا صَنَعَتْ عَيرُ أَبِي سُفْيَانَ) هِيَ الدَّوَابُّ الَّتِي تَحْمِلُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ الْعَيرُ هِيَ الْإِبِلُ وَالدَّوَابُّ تَحْمِلُ

(13/44)


الطعام وغيره من التجارات قال ولاتسمى عيرا إلااذا كَانَتْ كَذَلِكَ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ الْعَيْرُ الْإِبِلُ تَحْمِلُ الْمِيرَةَ وَجَمْعُهَا عِيَرَاتٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْيَاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ) هِيَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ شيئا نطلبه والظهر الدَّوَابُّ الَّتِي تُرْكَبُ قَوْلُهُ (فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهْرَانِهِمْ) هُوَ بِضَمِّ الظَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ أَيْ مَرْكُوبَاتِهِمْ فِي هَذَا اسْتِحْبَابُ التَّوْرِيَةِ فِي الحرب وأن لايبين الْإِمَامُ جِهَةَ إِغَارَتِهِ وَإِغَارَةِ سَرَايَاهُ لِئَلَّا يَشِيعَ ذَلِكَ فَيَحْذَرَهُمُ الْعَدُوُّ قَوْلُهُ (فِي عُلُوِّ الْمَدِينَةِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لايتقدمن أحد منكم إلى شئ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ) أَيْ قُدَّامَهُ مُتَقَدِّمًا فى ذلك الشئ لئلا يفوت شئ من المصالح التى لاتعلمونها قَوْلُهُ (عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ قَوْلُهُ (بَخٍ بَخٍ) فِيهِ لُغَتَانِ إِسْكَانُ الْخَاءِ وَكَسْرُهَا مُنَوَّنًا وَهِيَ كَلِمَةٌ تُطْلَقُ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَتَعْظِيمِهِ فِي الْخَيْرِ قَوْلُهُ (لَا والله يارسول الله الارجاءة أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ رَجَاءَةَ بِالْمَدِّ وَنَصْبِ التَّاءِ وفى بعضها رجاء بلاتنوين وَفِي بَعْضِهَا بِالتَّنْوِينِ

(13/45)


مَمْدُودَانِ بِحَذْفِ التَّاءِ وَكُلُّهُ صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ وَمَعْنَاهُ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُهُ لِشَيْءٍ إِلَّا لِرَجَاءِ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَوْلُهُ (فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ) هُوَ بِقَافٍ وَرَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ نُونٍ أَيْ جُعْبَةِ النُّشَّابِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَغَارِبَةِ فِيهِ تَصْحِيفٌ قَوْلُهُ (لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التمرثم قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ) فِيهِ جَوَازُ الِانْغِمَارِ فِي الْكُفَّارِ وَالتَّعَرُّضِ لِلشَّهَادَةِ وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ

[1902] قَوْلُهُ (وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ وَيُقَالُ أَيْضًا بِحَضَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالضَّادِ بِحَذْفِ الْهَاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ إِنَّ الْجِهَادَ وَحُضُورَ مَعْرَكَةِ الْقِتَالِ طَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَسَبَبٌ لِدُخُولِهَا قَوْلُهُ (كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ) هُوَ بِفَتْحِ

(13/46)


الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَبِالنُّونِ وَهُوَ غِمْدُهُ

[677] قَوْلُهُ (وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ) مَعْنَاهُ يَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ مُسَبَّلًا لِمَنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَهُ لِطَهَارَةٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَفِيهِ جَوَازُ وَضْعِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ كَانُوا يَضَعُونَ أَيْضًا أَعْذَاقَ التَّمْرِ لِمَنْ أَرَادَهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاخلاف فِي جَوَازِ هَذَا وَفَضْلِهِ قَوْلُهُ (وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ) أَصْحَابُ الصُّفَّةِ هُمُ الْفُقَرَاءُ الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ لَهُمْ فِي آخِرِهِ صُفَّةٌ وَهُوَ مَكَانٌ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْمَسْجِدِ مُظَلَّلٌ عَلَيْهِ يَبِيتُونَ فِيهِ قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَالْقَاضِي وَأَصْلُهُ مِنْ صُفَّةِ الْبَيْتِ وهى شئ كَالظُّلَّةِ قُدَّامَهُ فِيهِ فَضِيلَةُ الصَّدَقَةِ وَفَضِيلَةُ الِاكْتِسَابِ مِنَ الْحَلَالِ لَهَا وَفِيهِ جَوَازُ الصُّفَّةِ فِي الْمَسْجِدِ وَجَوَازُ الْمَبِيتِ فِيهِ بِلَا كَرَاهَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا) فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلشُّهَدَاءِ وَثُبُوتُ الرِّضَا مِنْهُمْ وَلَهُمْ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى رَضِيَ الله عنهم ورضوا عنه

(13/47)


قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِطَاعَتِهِمْ وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ وَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالرِّضَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِفَاضَةُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى إِرَادَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ

[1903] قَوْلُهُ (لِيَرَانِي اللَّهُ مَا أَصْنَعُ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ لِيَرَانِي بِالْأَلِفِ وَهُوَ صَحِيحٌ ويكون ما أصنع بدلامن الضَّمِيرِ فِي أَرَانِي أَيْ لِيَرَى اللَّهُ مَا أَصْنَعُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ بِيَاءٍ بَعْدَ الرَّاءِ ثُمَّ نُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَهَكَذَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَعَلَى هَذَا ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَيَرَيَنَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ يَرَاهُ اللَّهُ وَاقِعًا بَارِزًا وَالثَّانِي لَيُرِيَنَّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ لَيُرِيَنَّ اللَّهُ النَّاسَ ما أصنعه وَيُبْرِزُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ قَوْلُهُ (فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا) مَعْنَاهُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُبْهَمَةِ أَيْ قَوْلُهُ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ مَخَافَةَ أَنْ يُعَاهِدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِهَا فَيَعْجَزَ عَنْهُ أَوْ تَضْعُفَ بِنْيَتُهُ عَنْهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلِيَكُونَ إِبْرَاءً لَهُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ قَوْلُهُ (وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ وَاهًا كَلِمَةُ تَحَنُّنٍ وَتَلَهُّفٍ قَوْلُهُ (أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ) مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَهُ رِيحَهَا مِنْ مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ وَقَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ من مسيرة خمسمائة عام

(13/48)


(بَاب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العليا فهو فِي سَبِيلِ اللَّهُ)

[1904] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْأَعْمَالَ إِنَّمَا تُحْسَبُ بِالنِّيَّاتِ الصَّالِحَةِ وَأَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَخْتَصُّ بِمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العليا قَوْلُهُ (الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ) أَيْ لِيَذْكُرَهُ النَّاسُ بِالشَّجَاعَةِ وَهُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ قَوْلُهُ (وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً) هِيَ الْأَنَفَةُ وَالْغَيْرَةُ وَالْمُحَامَاةُ عَنْ عَشِيرَتِهِ

(13/49)


قَوْلُهُ (فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ إليه الا أنه كان قائما) فيه أنه لابأس أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفْتِي وَاقِفًا إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ مِنْ ضِيقِ مَكَانٍ أَوْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ طَالِبُ الْحَاجَةِ وَفِيهِ إِقْبَالُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَنْ يُخَاطِبُهُ

(بَاب مَنْ قَاتَلَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ اسْتَحَقَّ النَّارَ)
[1905] قَوْلُهُ (تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ أَيُّهَا الشَّيْخُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ لَهُ نَاتِلٌ الشَّامِّيُّ هُوَ بِالنُّونِ فِي أَوَّلِهِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ فَوْقُ وَهُوَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ الْحِزَامِيُّ الشَّامِيُّ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ وَهُوَ تَابِعِيٌّ وَكَانَ أَبُوهُ صَحَابِيًّا وَكَانَ نَاتِلٌ كَبِيرَ قَوْمِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَازِي وَالْعَالِمِ وَالْجَوَّادِ وَعِقَابِهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِدْخَالِهِمُ النَّارَ دَلِيلٌ عَلَى

(13/50)


تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الرِّيَاءِ وَشِدَّةِ عُقُوبَتِهِ وَعَلَى الْحَثِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مخلصين له الدين وفيه أن العمومات الْوَارِدَةَ فِي فَضْلِ الْجِهَادِ إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ مُخْلِصًا وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَعَلَى الْمُنْفِقِينَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى مُخْلِصًا قَوْلُهُ (تَفَرَّجَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَيْ تَفَرَّقُوا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ

(بَاب بَيَانِ قَدْرِ ثَوَابِ مَنْ غَزَا فَغَنِمَ وَمَنْ لَمْ يَغْنَمْ)
[1906] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ

(13/51)


أَجْرِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيَّةٍ تُخْفِقُ وَتُصَابُ إِلَّا تَمَّ أُجُورُهُمْ قَالَ أَهْلُ اللغة الاخفاق أن يغزو فَلَا يَغْنَمُوا شَيْئًا وَكَذَلِكَ كُلُّ طَالِبِ حَاجَةٍ إِذَا لَمْ تَحْصُلْ فَقَدْ أَخْفَقَ وَمِنْهُ أَخْفَقَ الصَّائِدُ إِذَا لَمْ يَقَعْ لَهُ صَيْدٌ وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَالصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَنَّ الْغُزَاةَ إِذَا سَلِمُوا أَوْ غَنِمُوا يَكُونُ أَجْرُهُمْ أَقَلَّ مِنْ أَجْرِ مَنْ لَمْ يَسْلَمْ أَوْ سَلِمَ وَلَمْ يَغْنَمْ وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنْ أَجْرِ غَزْوِهِمْ فَإِذَا حَصَلَتْ لَهُمْ فَقَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمُ الْمُتَرَتَّبَ عَلَى الْغَزْوِ وَتَكُونُ هَذِهِ الْغَنِيمَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْرِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِهِ مِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا أَيْ يَجْتَنِيهَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَأْتِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ يُخَالِفُ هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدِ اخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مَعْنَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَعْدَ حِكَايَتِهِ فِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالًا فَاسِدَةً مِنْهَا قَوْلُ مَنْ زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح ولايجوز أَنْ يَنْقُصَ ثَوَابُهُمْ بِالْغَنِيمَةِ كَمَا لَمْ يَنْقُصْ ثَوَابُ أَهْلِ بَدْرٍ وَهُمْ أَفْضَلُ الْمُجَاهِدِينَ وَهِيَ أَفْضَلُ غَنِيمَةٍ قَالَ وَزَعَمَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ أَنَّ أَبَا هَانِئٍ حُمَيْدَ بْنَ هَانِئٍ رَاوِيَةٌ مَجْهُولٌ وَرَجَّحُوا الْحَدِيثَ السَّابِقَ فِي أَنَّ الْمُجَاهِدَ يَرْجِعُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ فَرَجَّحُوهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِشُهْرَتِهِ وَشُهْرَةِ رِجَالِهِ وَلِأَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا فِي مُسْلِمٍ خَاصَّةً وَهَذَا الْقَوْلٌ بَاطِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ فَإِنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ رُجُوعُهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْغَنِيمَةَ تَنْقُصُ الْأَجْرَ أَمْ لَا وَلَا قَالَ أَجْرُهُ كَأَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ فَهُوَ مُطْلَقٌ وَهَذَا مُقَيَّدٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَبُو هَانِئٍ مَجْهُولٌ فَغَلَطٌ فَاحِشٌ بَلْ هُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ رَوَى عنه الليث بن سعد وحيوة وبن وَهْبٍ وَخَلَائِقُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَيَكْفِي فِي تَوْثِيقِهِ احْتِجَاجُ مُسْلِمٍ بِهِ فِي صَحِيحِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أنه

(13/52)


لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَلَيْسَ لَازِمًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ كَوْنُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي أَحَدِهِمَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ فَلَيْسَ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ نَصٌّ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا لَكَانَ أَجْرُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَجْرِهِمْ وَقَدْ غَنِمُوا فَقَطْ وَكَوْنُهُمْ مَغْفُورًا لَهُمْ مَرَضِيًّا عَنْهُمْ وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَلْزَمُ أَلَّا تَكُونَ وَرَاءَ هَذَا مَرْتَبَةٌ أُخْرَى هِيَ أَفْضَلُ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ شَدِيدُ الْفَضْلِ عَظِيمُ الْقَدْرِ وَمِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لَعَلَّ الَّذِي تَعَجَّلَ ثُلُثَيْ أَجْرِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي غَنِيمَةٍ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ إِذْ لَوْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ وَجْهِهَا لَمْ يَكُنْ ثُلُثُ الْأَجْرِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الَّتِي أَخْفَقَتْ يَكُونُ لَهَا أَجْرٌ بِالْأَسَفِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ فَيُضَاعَفُ ثَوَابُهَا كَمَا يُضَاعَفُ لِمَنْ أُصِيبَ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ مُبَايِنٌ لِصَرِيحِ الْحَدِيثِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ الْغَزْوِ وَالْغَنِيمَةِ مَعًا فَنَقَصَ ثَوَابُهُ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَابُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ)

[1907] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) الْحَدِيثَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَصِحَّتِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ هُوَ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَدْخُلُ فِي سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْفِقْهِ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ رُبْعُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ يَنْبَغِي لِمَنْ صَنَّفَ كِتَابًا أَنْ يَبْدَأَ فِيهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهًا لِلطَّالِبِ عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا

(13/53)


عَنِ الْأَئِمَّةِ مُطْلَقًا وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وغيره فابتدؤا به قبل كل شئ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ الْحُفَّاظُ وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَا عَنْ عُمَرَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ وَلَا عَنْ عَلْقَمَةَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَلَا عَنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَعَنْ يَحْيَى انْتَشَرَ فَرَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ إِنْسَانٍ أَكْثَرُهُمْ أَئِمَّةٌ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ لَيْسَ هُوَ مُتَوَاتِرًا وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ التَّوَاتُرِ فِي أَوَّلِهِ وَفِيهِ طُرْفَةٌ مِنْ طُرَفِ الْإِسْنَادِ فَإِنَّهُ رَوَاهُ ثَلَاثَةٌ تَابِعِيُّونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ يَحْيَى وَمُحَمَّدٌ وَعَلْقَمَةُ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرُهُمْ لَفْظَةُ إِنَّمَا مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ وَتَنْفِي مَا سِوَاهُ فَتَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الأعمال تحسب بنية ولاتحسب إِذَا كَانَتْ بِلَا نِيَّةٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أن الطهارة وهى الوضوء والغسل والتيمم لاتصح الا بالنية وكذلك الصلوة والزكوة وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالِاعْتِكَافُ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ وَأَمَّا إِزَالَةُ النجاسة فالمشهور عندنا أنها لاتفتقر إِلَى نِيَّةٍ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التُّرُوكِ والتَّرْكُ لايحتاج إِلَى نِيَّةٍ وَقَدْ نَقَلُوا الْإِجْمِاعَ فِيهَا وَشَذَّ بعض أصحابنا فأوجبها وهو باطل وَتَدْخُلُ النِّيَّةُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْقَذْفِ وَمَعْنَى دُخُولِهَا أَنَّهَا إِذَا قَارَنَتْ كِنَايَةً صَارَتْ كَالصَّرِيحِ وان أتى بصريح طلاق ونوى طلقتين أوثلاثا وَقَعَ مَا نَوَى وَإِنْ نَوَى بِصَرِيحٍ غَيْرِ مُقْتَضَاهُ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ولايقبل مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (وانما لامرىء مَا نَوَى) قَالُوا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ بَعْدَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ بَيَانُ أَنَّ تَعْيِينَ الْمَنَوِيِّ شَرْطٌ فلو كان على انسان صلوة مقضية لايكفيه أن ينوى الصلوة الْفَائِتَةَ بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ كَوْنَهَا ظُهْرًا أَوْ غَيْرَهَا وَلَوْلَا اللَّفْظُ الثَّانِي لَاقْتَضَى الْأَوَّلُ صِحَّةَ النِّيَّةِ بِلَا تَعْيِينٍ أَوْ أَوْهَمَ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَمَنْ كَانَ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ ورسوله

(13/54)


مَعْنَاهُ مَنْ قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ قَصَدَ بِهَا دُنْيَا أَوِ امْرَأَةً فَهِيَ حَظُّهُ وَلَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْهِجْرَةِ وَأَصْلُ الْهِجْرَةِ) 55 التَّرْكُ وَالْمُرَادُ هُنَا تَرْكُ الْوَطَنِ وَذِكْرُ الْمَرْأَةِ مَعَ الدُّنْيَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَاءَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَقِيلَ لَهُ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى زِيَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَاب اسْتِحْبَابِ طَلَبِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهُ تَعَالَى)
[1908] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ)

[1909] وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُفَسَّرٌ مِنَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا أَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ أُعْطِيَ مِنْ ثَوَابِ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى فِرَاشِهِ وَفِيهِ استحباب سؤال الشهادة واستحباب نية الخير

(13/55)


(باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو)

[1910] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ مَاتَ ولم يغزو ولم يحدث نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَنُرَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَوْلُهُ نَرَى بِضَمِّ النُّونِ أَيْ نظن وهذا الذى قاله بن الْمُبَارَكِ مُحْتَمَلٌ وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ إِنَّهُ عَامٌّ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَشْبَهَ المنافقين المتخلفين عن الجهاد فى هذاالوصف فَإِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ أَحَدُ شُعَبِ النِّفَاقِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ نَوَى فِعْلَ عِبَادَةٍ فمات قبل فعلها لايتوجه عَلَيْهِ مِنَ الذَّمِّ مَا يُتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَنْوِهَا وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَأَخَّرَهَا بِنِيَّةِ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي أَثْنَائِهِ فَمَاتَ قَبْلَ فِعْلِهَا أَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ بَعْدَ التَّمَكُّنِ إِلَى سَنَةٍ أُخْرَى فَمَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ هَلْ يَأْثَمُ أَمْ لَا وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَأْثَمُ فِي الحج دون الصلوة لان مدة الصلوة قَرِيبَةٌ فَلَا تُنْسَبُ إِلَى تَفْرِيطٍ بِالتَّأْخِيرِ بِخِلَافِ الحج وقيل يأثم فيهما وقيل لايأثم فِيهِمَا وَقِيلَ يَأْثَمُ فِي الْحَجِّ الشَّيْخُ دُونَ الشَّابِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(13/56)


(بَاب ثَوَابِ مَنْ حَبَسَهُ عَنْ الْغَزْوِ مَرَضٌ أَوْ عُذْرٌ آخَرُ)
[1911] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا ولا قطعتم واديا الاكانوا معكم حبسهم المرض) وفى رواية الاشركوكم فِي الْأَجْرِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ شَرِكَهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ بِمَعْنَى شَارَكَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ النِّيَّةِ فِي الْخَيْرِ وَأَنَّ مَنْ نَوَى الْغَزْوَ وَغَيْرَهَ مِنَ الطَّاعَاتِ فَعَرَضَ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ نِيَّتِهِ وَأَنَّهُ كُلَّمَا أَكْثَرَ مِنَ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ وَتَمَنَّى كَوْنَهُ مَعَ الْغُزَاةِ وَنَحْوِهُمْ كَثُرَ ثَوَابُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(بَاب فَضْلِ الْغَزْوِ فِي الْبَحْرِ)
[1912] قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَتَفْلِي رَأْسَهَ وَيَنَامُ عِنْدَهَا) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واختلفوا فى كيفية ذلك فقال بن عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ كَانَتْ إِحْدَى خَالَاتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَتْ خَالَةً لِأَبِيهِ

(13/57)


أَوْ لِجَدِّهِ لِأَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَوْلُهُ (تَفْلِي) بِفَتْحِ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ فِيهِ جَوَازُ فَلْيِ الرَّأْسِ وَقَتْلِ الْقَمْلِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا قَتْلُ الْقَمْلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْذِيَاتِ مُسْتَحَبٌّ وَفِيهِ جَوَازُ مُلَامَسَةِ الْمَحْرَمِ فِي الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَجَوَازُ الْخَلْوَةِ بِالْمَحْرَمِ وَالنَّوْمِ عِنْدَهَا وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الضَّيْفِ عِنْدَ الْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ مِمَّا قَدَّمَتْهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَكْلَهُ مِنْ طَعَامِهِ قَوْلُهَا (فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ) هَذَا الضَّحِكُ فَرَحًا وَسُرُورًا بِكَوْنِ أُمَّتِهِ تَبْقَى بَعْدَهُ مُتَظَاهِرَةً بِأُمُورِ الْإِسْلَامِ قَائِمَةً بِالْجِهَادِ حَتَّى فِي الْبَحْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ) الثَّبَجُ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ جِيمٍ وَهُوَ ظَهْرُهُ وَوَسَطُهُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) قِيلَ هُوَ صِفَةٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ صِفَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيْ يَرْكَبُونَ مَرَاكِبَ الْمُلُوكِ لِسَعَةِ حَالِهِمْ وَاسْتِقَامَةِ أَمْرِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ قَوْلُهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ (ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِيَ مِنْهُمْ وَكَانَ دَعَا لَهَا فِي الْأُولَى قَالَ أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَاهُ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى وَأَنَّهُ عَرَضَ فِيهَا غَيْرَ الْأَوَّلِينَ وَفِيهِ مُعْجِزَاتٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا إِخْبَارُهُ بِبَقَاءِ أُمَّتِهِ بَعْدَهُ وَأَنَّهُ تَكُونُ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَقُوَّةٌ وَعَدَدٌ وَأَنَّهُمْ يَغْزُونَ وَأَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ وَأَنَّ أُمَّ حَرَامٍ تَعِيشُ إِلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ وَأَنَّهَا تَكُونُ مَعَهُمْ وَقَدْ وُجِدَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ ذَلِكَ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ

(13/58)


لِتِلْكَ الْجُيُوشِ وَأَنَّهُمْ غُزَاةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَتَى جَرَتِ الْغَزْوَةُ الَّتِي تُوُفِّيَتْ فِيهَا أُمُّ حَرَامٍ فِي الْبَحْرِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي مُسْلِمٍ أَنَّهَا رَكِبَتِ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا فَهَلَكَتْ قَالَ الْقَاضِي قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْأَخْبَارِ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّ فِيهَا ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرص فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا هُنَاكَ فَتُوُفِّيَتْ وَدُفِنَتْ هُنَاكَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ مَعْنَاهُ فِي زَمَانِ غَزْوِهِ فِي الْبَحْرِ لَا فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ قَالَ وَقِيلَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَتِهِ قَالَ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي دَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي زَمَانِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَكَرِهَ مَالِكٌ رُكُوبَهَ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُنَّ غَالِبًا التَّسَتُّرُ فِيهِ وَلَا غَضُّ الْبَصَرِ عن المتصرفين فيه ولايؤمن انْكِشَافُ عَوْرَاتِهِنَّ فِي تَصَرُّفِهِنَّ لَا سِيَّمَا فِيمَا صَغُرَ مِنَ السُّفْيَانِ مَعَ ضَرُورَتِهِنَّ إِلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنْعُ رُكُوبِهِ وَقِيلَ إِنَّمَا مَنَعَهُ الْعُمَرَانِ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الدنيا لا للطاعات وقد روى عن بن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ إِلَّا لِحَاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ أَوْ غَازٍ وَضَعَّفَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ رُوَاتُهُ مَجْهُولُونَ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ

(13/59)


فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَوْتَ فِيهِ سَوَاءٌ فِي الْأَجْرِ لِأَنَّ أُمَّ حَرَامٍ مَاتَتْ وَلَمْ تُقْتَلْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ شُهَدَاءُ إِنَّمَا يَغْزُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ حَدِيثَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى (وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْعَمَتْهُ) وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَتَزَوَّجَهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بَعْدُ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِعُبَادَةَ حَالَ دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتُحْمَلُ الْأُولَى عَلَى مُوَافَقَةِ الثَّانِيَةِ وَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَمَّا صار حالا لها بعد ذلك قوله (وحدثناه مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هَكَذَا

(13/60)


هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ نُسَخِهِمْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ فَزَادَ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ رُمْحٍ

(بَاب فَضْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)
[1913] قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا قَوْلُهُ (شُرَحْبِيلُ بْنِ السَّمِطِ) يُقَالُ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَيُقَالُ بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ) هَذِهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُرَابِطِ وَجَرَيَانُ عَمَلِهِ عليه بَعْدَ مَوْتِهِ فَضِيلَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وَالْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَمِنَ الْفُتَّانَ) ضَبَطُوا أَمِنَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَمِنَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ والثانى أو من بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِوَاوٍ وَأَمَّا الْفُتَّانُ فَقَالَ الْقَاضِي رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ بِضَمِّ الْفَاءِ جَمْعُ فَاتِنٍ قَالَ وَرِوَايَةُ الطَّبَرِيِّ بِالْفَتْحِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أُومِنَ مِنْ فَتَّانِي الْقَبْرِ

(13/61)


(بَاب بَيَانِ الشُّهَدَاءِ)
[1914] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ) فِيهِ فَضِيلَةُ إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَهُوَ كُلُّ مُؤْذٍ وَهَذِهِ الْإِمَاطَةُ أَدْنَى شُعَبِ الْإِيمَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ الله) وفى رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَذَكَرَ الْمَطْعُونَ وَالْمَبْطُونَ وَالْغَرِقَ وَصَاحِبَ الْهَدْمِ وَصَاحِبَ ذَاتِ الْجَنْبِ وَالْحَرِقَ وَالْمَرْأَةَ تَمُوتُ بِجُمْعٍ

[1915] وَفِي رِوَايَةِ لِمُسْلِمٍ مَنْ قُتِلَ فِي سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لَمْ يُخَرِّجَاهُ فَأَمَّا الْمَطْعُونُ فَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الطَّاعُونِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَأَمَّا الْمَبْطُونُ فَهُوَ صَاحِبُ دَاءِ الْبَطْنِ وَهُوَ الْإِسْهَالُ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ هُوَ الَّذِي بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ وَانْتِفَاخُ البطن وقيل

(13/62)


هُوَ الَّذِي تَشْتَكِي بَطْنُهُ وَقِيلَ هُوَ الَّذِي يَمُوتُ بِدَاءِ بَطْنِهِ مُطْلَقًا وَأَمَّا الْغَرِقُ فَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ من يموت تحته وصاحب ذَاتِ الْجَنْبِ مَعْرُوفٌ وَهِيَ قُرْحَةٌ تَكُونُ فِي الْجَنْبِ بَاطِنًا وَالْحَرِيقُ الَّذِي يَمُوتُ بِحَرِيقِ النَّارِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ فَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا وَالضَّمُّ أَشْهَرُ قِيلَ الَّتِي تَمُوتُ حَامِلًا جَامِعَةً وَلَدَهَا فِي بَطْنِهَا وَقِيلَ هِيَ الْبِكْرُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ فَمَعْنَاهُ بِأَيِّ صِفَةٍ مَاتَ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوْتَاتُ شَهَادَةً بِتَفَضُّلِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ شِدَّتِهَا وَكَثْرَةِ أَلَمِهَا وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الصَّحِيحِ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ صَحِيحٍ مَنْ قُتِلَ دُونَ سَيْفِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ غَيْرِ الْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابُ الشُّهَدَاءِ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بَيَانُ هَذَا وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ شَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ وَشَهِيدٌ فِي الْآخِرَةِ دُونَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ هُنَا وَشَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَنْ غَلَّ فِي الْغَنِيمَةِ أَوْ قُتِلَ مُدْبِرًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَيَانٍ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُقْسِمٍ أَشْهَدُ عَلَى أَخِيكَ أَنَّهُ زَادَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَنْ غَرِقَ فَهُوَ شَهِيدٌ) هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا عَلَى أَخِيكَ بِالْخَاءِ

(13/63)


وَفِي بَعْضِهَا عَلَى أَبِيكَ بِالْبَاءِ وَهَذَا هُوَ الصواب قال القاضي وقع فى رواية بن مَاهَانَ عَلَى أَبِيكَ وَهُوَ الصَّوَابُ وَفِي رِوَايَةِ الْجُلُودِيِّ عَلَى أَخِيكَ وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ عَلَى أَبِيكَ كَمَا سَبَقَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ وَإِنَّمَا قاله بن مُقْسِمٍ لِسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(باب فضل الرمى والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه)

[1917] قَوْلُهُ (ثُمَامَةَ بْنَ شُفَيٍّ) هُوَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُشَدَّدَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قوة أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ قَالَهَا ثَلَاثًا) هَذَا تَصْرِيحٌ بِتَفْسِيرِهَا وَرَدَ لِمَا يَحْكِيهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ سِوَى هَذَا وَفِيهِ وَفِي الْأَحَادِيثِ بَعْدَهُ فَضِيلَةُ الرَّمْيِ وَالْمُنَاضَلَةِ وَالِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْمُشَاجَعَةُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ اسْتِعْمَالِ السِّلَاحِ وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ التَّمَرُّنُ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّدَرُّبُ وَالتَّحَذُّقُ فِيهِ وَرِيَاضَةُ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ

[1918] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ وَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ) الْأَرَضُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ على المشهور

(13/64)


وحكى الجوهرى لغة شاذة بإسكانها ويعجز بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبِفَتْحِهَا فِي لُغَةٍ ومعناه الندب إلى الرمى

[1919] قوله (بن شَمَاسَةَ) بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ (لَمْ أُعَانِيهِ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ لَمْ أُعَانِيهِ بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضِهَا لَمْ أُعَانِهِ بِحَذْفِهَا وَهُوَ الْفَصِيحُ وَالْأَوَّلُ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى) هَذَا تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ فِي نِسْيَانِ الرَّمْيِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً لِمَنْ تركه بلاعذر وسبق تفسير فليس منافى كِتَابِ الْإِيمَانِ

(بَاب قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ)

[1920] قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (ولا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى

(13/65)


يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ) هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ مَعَ مَا يُشْبِهُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي تَأْتِي فَتَأْخُذُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَيْ تَقْرُبَ السَّاعَةُ وَهُوَ خُرُوجُ الرِّيحِ وَأَمَّا هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَقَالَ

(13/66)


أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إِنَّمَا أَرَادَ أَحْمَدُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ قُلْتُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مُفَرَّقَةٌ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ شُجْعَانٌ مُقَاتِلُونَ وَمِنْهُمْ فُقَهَاءُ وَمِنْهُمْ مُحَدِّثُونَ وَمِنْهُمْ زُهَّادٌ وَآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفَ وَنَاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الْخَيْرِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ بَلْ قَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ مَا زَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآنَ وَلَا يَزَالُ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ وَفِيهِ دَلِيلُ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَهُوَ أَصَحُّ مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لَهُ مِنَ الْحَدِيثِ وَأَمَّا حَدِيثُ لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ) هُوَ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ أَيْ عَادَاهُمْ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَأَى إِلَيْهِمْ وَنَأَوْا إِلَيْهِ أَيْ نَهَضُوا لِلْقِتَالِ قَوْلُهُ (مسلمة بن مُخَلَّدٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَزَالُ أهل

(13/67)


[1925] الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيُّ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْغَرْبِ الْعَرَبُ وَالْمُرَادُ بِالْغَرْبِ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا غَالِبًا وَقَالَ آخَرُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْغَرْبُ مِنَ الأرض وقال معاذهم بِالشَّامِ وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخِرُهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقِيلَ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْغَرْبِ أَهْلُ الشِّدَّةِ وَالْجَلَدِ وَغَرْبُ كُلِّ شَيْءٍ حَدُّهُ

(بَاب مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الدَّوَابِّ فِي السَّيْرِ وَالنَّهْيِ عَنْ التَّعْرِيسِ فِي الطَّرِيقِ)

[1926] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الْأَرْضِ وإِذَا سَافَرْتُمْ

(13/68)


بِهَا فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا) الْخِصْبُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَهُوَ كَثْرَةُ الْعُشْبِ وَالْمَرْعَى وَهُوَ ضِدُّ الْجَدْبِ وَالْمُرَادُ بِالسَّنَةِ هُنَا الْقَحْطُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أى بالقحوط ونقيها بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَهُوَ الْمُخُّ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الرِّفْقِ بِالدَّوَابِّ وَمُرَاعَاةُ مَصْلَحَتِهَا فَإِنْ سَافَرُوا فِي الْخِصْبِ قَلَّلُوا السَّيْرَ وَتَرَكُوهَا تَرْعَى فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَفِي أَثْنَاءِ السَّيْرِ فَتَأْخُذُ حَظَّهَا مِنَ الْأَرْضِ بِمَا تَرْعَاهُ مِنْهَا وَإِنْ سَافَرُوا فِي الْقَحْطِ عَجَّلُوا السَّيْرَ لِيَصِلُوا الْمَقْصِدَ وَفِيهَا بَقِيَّةٌ مِنْ قُوَّتِهَا وَلَا يُقَلِّلُوا السَّيْرَ فَيَلْحَقَهَا الضَّرَرُ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ مَا تَرْعَى فَتَضْعُفُ وَيَذْهَبُ نِقْيُهَا وَرُبَّمَا كَلَّتْ وَوَقَفَتْ وَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا عَرَّسْتُمْ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ التَّعْرِيسُ النُّزُولُ فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ لِلنَّوْمِ وَالرَّاحَةِ هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَالْأَكْثَرِينَ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ هُوَ النُّزُولُ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْأَوَّلُ وَهَذَا أَدَبٌ مِنْ آدَابِ السَّيْرِ وَالنُّزُولِ أَرْشَدَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْحَشَرَاتِ وَدَوَابَّ الْأَرْضِ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ وَالسِّبَاعِ تَمْشِي فِي الليل على الطرق لِسُهُولَتِهَا وَلِأَنَّهَا تَلْتَقِطُ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ مِنْ مَأْكُولٍ وَنَحْوِهِ وَمَا تَجِدُ فِيهَا مِنْ رِمَّةٍ وَنَحْوِهَا فَإِذَا عَرَّسَ الْإِنْسَانُ فِي الطَّرِيقِ رُبَّمَا مَرَّ بِهِ مِنْهَا مَا يُؤْذِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنِ الطَّرِيقِ

(13/69)


(بَاب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ وَاسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْمُسَافِرِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ شُغْلِهِ)

[1927] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) مَعْنَاهُ يَمْنَعُهُ كَمَالَهَا وَلَذِيذَهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ وَمُقَاسَاةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالسُّرَى وَالْخَوْفِ وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَخُشُونَةِ الْعَيْشِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) النَّهْمَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ هِيَ الْحَاجَةُ وَالْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ بَعْدَ قَضَاءِ شُغْلِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِمُهِمٍّ

(بَاب كَرَاهَةِ الطُّرُوقِ وَهُوَ الدُّخُولُ لَيْلًا لِمَنْ وَرَدَ مِنْ سَفَرٍ)
[1928] قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا وَكَانَ يَأْتِيهِمْ غَدْوَةً أَوْ عشية) وفى

(13/70)


رِوَايَةٍ إِذَا قَدِمَ أَحَدُكُمْ لَيْلًا فَلَا يَأْتِيَنَّ أَهْلَهُ طُرُوقًا حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أن يأتى أهله طروقا وفى الرواية الأخرى نَهَى أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يطلب عثراتهم أما قوله صلى الله عليه وسلم في الأخيرة يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ فَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ أَيْ فِي اللَّيْلِ وَالطُّرُوقُ بِضَمِّ الطَّاءِ هُوَ الْإِتْيَانُ فِي اللَّيْلِ وَكُلُّ آتٍ فِي اللَّيْلِ فَهُوَ طَارِقٌ وَمَعْنَى تَسْتَحِدُّ الْمُغِيبَةُ أَيْ تُزِيلُ شَعْرَ عَانَتِهَا وَالْمَغِيبَةُ الَّتِي غَابَ زَوْجُهَا وَالِاسْتِحْدَادُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْحَدِيدَةِ وَهِيَ الْمُوسَى وَالْمُرَادُ إِزَالَتُهُ كَيْفَ كَانَ وَمَعْنَى يَتَخَوَّنُهُمْ يَظُنُّ خِيَانَتَهُمْ وَيَكْشِفُ أَسْتَارَهُمْ وَيَكْشِفُ هَلْ خَانُوا أَمْ لَا وَمَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ يكوه لِمَنْ طَالَ سَفَرُهُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَيْلًا بَغْتَةً فَأَمَّا مَنْ كَانَ سَفَرُهُ قَرِيبًا تَتَوَقَّعُ امْرَأَتُهُ إِتْيَانَهُ لَيْلًا فَلَا بَأْسَ كَمَا قَالَ فِي إِحْدَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ إِذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ وَإِذَا كَانَ فِي قَفْلٍ عَظِيمٍ أَوْ عَسْكَرٍ وَنَحْوِهِمْ وَاشْتُهِرَ قُدُومُهُمْ وَوُصُولُهُمْ وَعَلِمَتِ امْرَأَتُهُ وَأَهْلُهُ أَنَّهُ

(13/71)


قَادِمٌ مَعَهُمْ وَأَنَّهُمُ الْآنَ دَاخِلُونَ فَلَا بَأْسَ بِقُدُومِهِ مَتَى شَاءَ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي نَهَى بِسَبَبِهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَتَأَهَّبُوا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْدَمْ بَغْتَةً وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا جَاءَ فِي

[715] الْحَدِيثِ الْآخِرِ أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا أَيْ عِشَاءً كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ فَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ وَهُوَ مَفْرُوضٌ فِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا الدُّخُولَ فِي أَوَائِلِ النَّهَارِ بَغْتَةً فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ لِيَبْلُغَ قُدُومُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَتَأَهَّبَ النِّسَاءُ وَغَيْرُهُنَّ والله أعلم

(13/72)