شرح النووي على
مسلم (كِتَاب صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ
وَالنَّارِ)
[2785] قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (لايزن عند الله
جناح بعوضة) أى لايعدله فى القدر والمنزلة أى لاقدر له
وفيه ذم السمن والحبر بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا
وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَهُوَ الْعَالِمُ
[2786] قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكَ السَّمَاوَاتِ
عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ إِلَى
قَوْلِهِ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ) هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ
الصِّفَاتِ وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا الْمَذْهَبَانِ
التَّأْوِيلُ وَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ مَعَ الْإِيمَانِ
بِهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا غَيْرَ
مُرَادٍ فَعَلَى قَوْلِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَتَأَوَّلُونَ
الْأَصَابِعَ هُنَا عَلَى الِاقْتِدَارِ أَيْ خَلَقَهَا
مَعَ عِظَمِهَا بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَلَلٍ وَالنَّاسُ
يَذْكُرُونَ الْإِصْبَعَ فِي مِثْلِ هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ
وَالِاحْتِقَارِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ بِأُصْبُعِي
أَقْتُلُ زيدا أى
(17/129)
لَا كُلْفَةَ عَلَيَّ فِي قَتْلِهِ وَقِيلَ
يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَصَابِعَ بَعْضِ
مَخْلُوقَاتِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَالْمَقْصُودُ
أَنَّ يَدَ الْجَارِحَةِ مُسْتَحِيلَةٌ قَوْلُهُ (فَضَحِكَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ تَصْدِيقًا لَهُ ثُمَّ
قَرَأَ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ
جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) ظَاهِرُ
الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَدَّقَ الْحَبْرَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقْبِضُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ
وَالْمَخْلُوقَاتِ بِالْأَصَابِعِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ
الَّتِي فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى نَحْوِ مَا يَقُولُ
قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينِ لَيْسَ
ضَحِكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَجُّبُهُ
وتلاوته للآية تَصْدِيقًا لِلْحَبْرِ بَلْ هُوَ رَدٌّ
لِقَوْلِهِ وَإِنْكَارٌ وَتَعَجُّبٌ مِنْ سُوءِ
اعْتِقَادِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَ الْيَهُودِ التَّجْسِيمُ
فَفُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ تَصْدِيقًا لَهُ
(17/130)
إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي
عَلَى مَا فُهِمَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
[2788] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ
يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَطْوِي
الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ) وفى رواية أن بن مقسم نظر إلى
بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ يَأْخُذُ اللَّهُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِيهِ
بِيَدَيْهِ وَيَقُولُ أَنَا اللَّهُ وَيَقْبِضُ
أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أَنَا الْمَلِكُ حَتَّى
نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ من أسفل شيء منه
قال
(17/131)
العلماءالمراد بِقَوْلِهِ يَقْبِضُ
أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلم ولهذا قال ان بن مقسم نظر إلى بن عمر كيف يحكي
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْيَدَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى
فَمُتَأَوَّلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ وَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ
بِالْيَدَيْنِ لِأَنَّ أَفْعَالِنَا تَقَعُ بِالْيَدَيْنِ
فَخُوطِبْنَا بِمَا نَفْهَمُهُ لِيَكُونَ أَوْضَحَ
وَأَوْكَدَ فِي النُّفُوسِ وَذَكَرَ الْيَمِينَ
وَالشِّمَالَ حَتَّى يَتِمَّ الْمِثَالُ لِأَنَّا
نَتَنَاوَلُ بِالْيَمِينِ مَا نُكْرِمُهُ وَبِالشِّمَالِ
مَا دُونَهُ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ فِي حَقِّنَا يَقْوَى
لِمَا لَا يَقْوَى لَهُ الشمال ومعلوم أن السماوات
أَعْظَمُ مِنَ الْأَرْضِ فَأَضَافَهَا إِلَى الْيَمِينِ
وَالْأَرَضِينَ إِلَى الشِّمَالِ لِيُظْهِرَ التَّقْرِيبَ
فِي الِاسْتِعَارَةِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لَا يُوصَفُ بِأَنَّ شَيْئًا أَخَفَّ عَلَيْهِ
مِنْ شَيْءٍ وَلَا أَثْقَلَ مِنْ شَيْءٍ هَذَا مُخْتَصَرُ
كَلَامِ الْمَازِرِيِّ فِي هَذَا قَالَ الْقَاضِي وَفِي
هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ يَقْبِضُ وَيَطْوِي
وَيَأْخُذُ كُلُّهُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ لِأَنَّ
السَّمَاوَاتِ مَبْسُوطَةٌ وَالْأَرَضِينَ مَدْحُوَّةٌ
وَمَمْدُودَةٌ ثُمَّ يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى
الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ وَتَبْدِيلِ الْأَرْضِ غَيْرِ
الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ فَعَادَ كُلُّهُ إِلَى ضَمِّ
بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَرَفْعِهَا وَتَبْدِيلِهَا
بِغَيْرِهَا قَالَ وَقَبْضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَبَسْطَهَا تَمْثِيلٌ
لِقَبْضِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَمْعِهَا بَعْدَ
بَسْطِهَا وَحِكَايَةٌ لِلْمَبْسُوطِ وَالْمَقْبُوضِ
وَهُوَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُونَ لَا إِشَارَةً إِلَى
الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْقَابِضُ
وَالْبَاسِطُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا تَمْثِيلَ
لِصِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى السَّمْعِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ
بِالْيَدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ وَقَوْلُهُ فِي
الْمِنْبَرِ (يَتَحَرَّكَ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ)
أَيْ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ لِأَنَّ بِحَرَكَةِ
الْأَسْفَلِ يَتَحَرَّكُ الْأَعْلَى ويحتمل
(17/132)
أَنَّ تَحَرُّكَهُ بِحَرَكَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ
قَالَ الْقَاضِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِنَفْسِهِ
هَيْبَةً لَسَمْعِهِ كَمَا حَنَّ الْجِذْعُ ثُمَّ قَالَ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ مِنْ مُشْكِلٍ وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَلَا نُشَبِّهُ شَيْئًا بِهِ وَلَا
نُشَبِّهُهُ بِشَيْءٍ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَمَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ عَنْهُ فَهُوَ
حَقٌّ وَصِدْقٌ فَمَا أَدْرَكْنَا عِلْمَهُ فَبِفَضْلِ
اللَّهِ تَعَالَى وَمَا خَفِيَ عَلَيْنَا آمَنَّا بِهِ
وَوَكَّلْنَا عِلْمَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَحَمَلْنَا لَفْظَهُ عَلَى مَا احْتُمِلَ فِي لِسَانِ
الْعَرَبِ الَّذِي خُوطِبْنَا بِهِ وَلَمْ نَقْطَعْ عَلَى
أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ بَعْدَ تَنْزِيهِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ
ظَاهِرِهِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ قَوْلُهُ
(وَالشَّجَرُ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ) الثَّرَى هُوَ
التُّرَابُ النَّدِيُّ قَوْلُهُ (بَدَتْ نَوَاجِذُهُ)
بالذال المعجمة أى أنيابه
(باب ابتداء الخلق وخلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام
[2789] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(خُلِقَ الْمَكْرُوهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) كَذَا رَوَاهُ
ثَابِتُ بْنُ قَاسِمٍ قَالَ وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ
الْمَعَاشُ وَيَصْلُحُ بِهِ التَّدْبِيرُ كَالْحَدِيدِ
وَغَيْرِهِ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ وَكُلُّ شَيْءٍ
يَقُومُ بِهِ صَلَاحُ شَيْءٍ فَهُوَ تِقْنُهُ وَمِنْهُ
إِتْقَانُ الشَّيْءِ وَهُوَ إِحْكَامُهُ قُلْتُ وَلَا
مُنَافَاةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَكِلَاهُمَا خُلِقَ
يَوْمَ)
(17/133)
الثُّلَاثَاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ) كَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ النُّورُ
بِالرَّاءِ وَرِوَايَاتُ ثَابِتِ بْنِ قَاسِمٍ النُّونُ
بِالنُّونِ فِي آخِرِهِ قَالَ الْقَاضِي وَكَذَا رَوَاهُ
بَعْضُ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ الْحُوتُ وَلَا
مُنَافَاةَ أَيْضًا فَكِلَاهُمَا خُلِقَ يَوْمُ
الْأَرْبِعَاءِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ
وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ حَكَاهُنَّ
صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَجَمْعُهُ أَرْبَعَاوَاتُ وَحُكِيَ
أَيْضًا أَرَابِيعُ
(بَاب فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَصِفَةِ الْأَرْضِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ
[2790] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ
بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ لَيْسَ فِيهَا
عَلَمٌ لِأَحَدٍ) الْعَفْرَاءُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ
وَالْمَدِّ بَيْضَاءُ إِلَى حمرة والنقى بِفَتْحِ النُّونِ
وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدُ الْيَاءِ هُوَ الدَّقِيقُ
الْحُورِيُّ وَهُوَ الدَّرْمَكُ وَهُوَ الْأَرْضُ
الْجَيِّدَةُ قَالَ الْقَاضِي كَأَنَّ النَّارَ غَيَّرَتْ
بَيَاضَ وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَى الْحُمْرَةِ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ
لِأَحَدٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ أَيْ لَيْسَ
بِهَا عَلَامَةٌ سُكْنَى أو بناء ولا أثر)
(17/134)
(باب نزل أهل الجنة
[2792] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً
وَاحِدَةً يَكْفَأهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ
أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ
الْجَنَّةِ) أَمَّا النُّزُلُ فَبِضَمِّ النُّونِ
وَالزَّايِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الزَّايِ وَهُوَ مَا
يُعَدُّ لِلضَّيْفِ عِنْدَ نُزُولِهِ وَأَمَّا الْخُبْزَةُ
فَبِضَمِّ الْخَاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هِيَ
الظُّلْمَةُ الَّتِي تُوضَعُ فِي الْمَلَّةِ وَيَكْفَأُهَا
بِالْهَمْزَةِ وَرُوِيَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ يتكفأها
بِالْهَمْزِ أَيْضًا وَخُبْزَةُ الْمُسَافِرِ هِيَ الَّتِي
يَجْعَلُهَا فى الملة ويتكفأها بِيَدَيْهِ أَيْ يُمِيلُهَا
مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ حَتَّى تَجْتَمِعَ وَتَسْتَوِيَ
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْبَسِطَةً كَالرُّقَاقَةِ
وَنَحْوِهَا وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْيَدِ فِي
حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَتَأْوِيلِهَا قَرِيبًا مَعَ
الْقَطْعِ بِاسْتِحَالَةِ الْجَارِحَةِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَجْعَلُ الْأَرْضَ كَالظُّلْمَةِ وَالرَّغِيفِ الْعَظِيمِ
وَيَكُونُ ذَلِكَ طَعَامًا نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ
وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَوْلُهُ
(إِدَامُهُمْ بَالَامُ وَنُونٌ قَالُوا وَمَا هَذَا قَالَ
ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدِ كَبِدِهِمَا
سَبْعُونَ أَلْفًا) أَمَّا النُّونُ فَهُوَ الْحُوتُ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا بالام فبباء)
(17/135)
مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَبِتَخْفِيفِ
اللَّامِ وَمِيمٍ مَرْفُوعَةٍ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ وَفِي
مَعْنَاهَا أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ الصَّحِيحُ مِنْهَا
الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنَ
الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهَا لَفْظَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ
مَعْنَاهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ ثَوْرٌ وَفَسَّرَهُ
بِهَذَا ولهذاسألوا الْيَهُودِيَّ عَنْ تَفْسِيرِهَا
وَلَوْ كَانَتْ عَرَبِيَّةٌ لَعَرَفَتْهَا الصَّحَابَةُ
وَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى سُؤَالِهِ عَنْهَا فَهَذَا هُوَ
الْمُخْتَارُ فِي بَيَانِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ لَعَلَّ الْيَهُودِيَّ أَرَادَ
التَّعْمِيَةَ عَلَيْهِمْ فَقَطَعَ الْهِجَاءَ وَقَدَّمَ
أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَهِيَ لَامُ أَلِفٍ
وَيَاءٍ يُرِيدُ لِأَي عَلَى وَزْنِ لَعَا وَهُوَ
الثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ فَصَحَّفَ الرَّاوِي الْيَاءَ
الْمُثَنَّاةَ فَجَعَلَهَا مُوَحَّدَةً قَالَ
الْخَطَّابِيُّ هَذَا أَقْرَبُ مَا يَقَعُ فِيهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا زَائِدَةُ الْكَبِدِ وَهِيَ
الْقِطْعَةُ الْمُنْفَرِدَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ فِي
الْكَبِدِ وَهِيَ أَطْيَبُهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ يَأْكُلُ
مِنْهَا سَبْعُونَ أَلْفًا فَقَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ
أَنَّهُمُ السَّبْعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ فَخُصُّوا بِأَطْيَبِ النُّزُلِ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَبَّرَ بِالسَّبْعِينَ أَلْفًا عَنِ
الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَلَمْ يُرِدِ الْحَصْرَ فِي ذَلِكَ
الْقَدْرِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[2793] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ
بَايَعَنِي عَشْرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَمْ يَبْقَ عَلَى
ظَهْرِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا أَسْلَمَ) قَالَ صَاحِبُ
التَّحْرِيرِ الْمُرَادُ عَشْرَةٌ مِنْ أَحْبَارِهِمْ
(بَاب سُؤَالِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرُّوحِ وقوله تعالى يسألونك عن
الروح
[2794] قَوْلُهُ (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حرث وهو متكىء عَلَى
عَسِيبٍ) فَقَوْلُهُ فِي)
(17/136)
حَرْثِ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ وَهُوَ
مَوْضِعُ الزَّرْعِ وَهُوَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ فِي
الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي نَخْلِ وَاتَّفَقَتْ نُسَخُ
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّهُ حَرْثٌ بِالثَّاءِ
الْمُثَلَّثَةِ وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي
مَوَاضِعِ وَرَوَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي بَابِ
وَمَا أوتيتم من العلم إلا قليلا خَرِبٌ بِالْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ خَرَابٍ
قَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ وَلِلْآخَرِ
وَجْهٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ فِيهِ
الْوَصْفَانِ وَأَمَّا الْعَسِيبُ فهو جريدة النخل وقوله
(متكىء عَلَيْهِ) أَيْ مُعْتَمِدٌ قَوْلُهُ (سَلُوهُ عَنِ
الرُّوحِ فَقَالُوا مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ لَا
يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ) هَكَذَا فِي
جَمِيعِ النُّسَخِ مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ أَيْ مَا
دَعَاكُمْ إِلَى سُؤَالِهِ أَوْ مَا شَكَّكُمْ فِيهِ
حَتَّى احْتَجْتُمْ إِلَى سُؤَالِهِ أَوْ مَا دَعَاكُمْ
إِلَى سُؤَالٍ تَخْشَوْنَ سُوءَ عُقْبَاهُ قَوْلُهُ
(فَأَسْكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) أَيْ سَكَتَ وَقِيلَ أَطْرَقَ وَقِيلَ أَعْرَضَ
عنه قوله (فلما نزل الوحى قال يسئلونك عَنِ الرُّوحِ)
وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِهِ
قَالَ الْقَاضِي وَهُوَ وَهَمٌ وَصَوَابُهُ مَا سبق فى
رواية بن مَاهَانَ فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ وَكَذَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ وَفِي مَوْضِعٍ
فَلَمَّا صَعِدَ الْوَحْيُ وقال وهذا وَجْهُ الْكَلَامِ
لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ نُزُولُ الْوَحْيِ
عَلَيْهِ قُلْتُ وَكُلُّ الرِّوَايَاتِ صَحِيحَةٌ
وَمَعْنَى رِوَايَةُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ
الْوَحْيُ وَتَمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِلَّا قليلا هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ
أُوتِيتُمْ عَلَى وَفْقِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ
وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ ومسلم وما أوتوا مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ الْمَازِرِيُّ الْكَلَامُ
فِي الرُّوحِ وَالنَّفْسِ مِمَّا يَغْمُضُ وَيَدِقُّ
وَمَعَ هَذَا فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ الْكَلَامَ
وَأَلَّفُوا
(17/137)
فيه التآليف قال أبوالحسن الأشعرى هو النفس
الداخل والخارج وقال بن الْبَاقِلَانِيُّ هُوَ مُتَرَدِّدٌ
بَيْنَ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ وَبَيْنَ
الْحَيَاةِ وَقِيلَ هُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُشَارِكٌ
لِلْأَجْسَامِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا يعلم الروح إلاالله تَعَالَى
لِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ ربى
وَقَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ مَعْلُومَةٌ وَاخْتَلَفُوا
فِيهَا عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ هِيَ الدَّمُ
وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهَا لاتعلم وَلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا
وَإِنَّمَا أَجَابَ بِمَا فِي الآية الكريمة
(17/138)
لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِنْ
أَجَابَ بِتَفْسِيرِ الرُّوحِ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ وَفِي
الرُّوحِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (كُنْتُ قَيْنًا فِي
الجاهلية) أى حدادا
(باب قوله تعالى إن الانسان
ليطغى أن رآه استغنى
[2797] قَوْلُهُ (هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ) أَيْ
يَسْجُدُ وَيُلْصِقُ وَجْهَهُ بِالْعَفَرِ وَهُوَ
التُّرَابُ قَوْلُهُ (فَمَا)
(17/139)
فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ
عَلَى عَقِبَيْهِ) أَمَّا فَجِئَهُمْ فَبِكَسْرِ الْجِيمِ
وَيُقَالُ أَيْضًا فَجَأَهُمْ لُغَتَانِ وَيَنْكِصُ
بِكَسْرِ الْكَافِ رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ يَمْشِي عَلَى
وَرَائِهِ قَوْلُهُ (إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لخندقا من
نار وهو لا وَأَجْنِحَةً كَأَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ)
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي عِصْمَتِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِي جَهْلٍ
وَغَيْرِهِ مِمَّنْ أَرَادَ بِهِ ضَرَرًا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وَهَذِهِ
الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب الدُّخَانِ
[2798] قَوْلُهُ (إِنَّ قَاصًّا عِنْدَ أَبْوَابِ كنودة)
هُوَ بَابٌ بِالْكُوفَةِ قَوْلُهُ (فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ
حَصَّتْ كل شيء)
(17/140)
السَّنَةُ الْقَحْطُ وَالْجَدْبُ وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ
بالسنين وحصت بِحَاءٍ وَصَادٍ مُشَدَّدَةٍ مُهْمَلَتَيْنِ
أَيْ اسْتَأْصَلَتْهُ قَوْلُهُ (أَفَيَكْشِفُ عَذَابَ
الْآخِرَةِ) هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى من يقول
ان الدخان يكون يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ
فِي الرِّوَايَةِ الثانية فقال بن مَسْعُودٍ هَذَا قَوْلٌ
بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال إنا كاشفوا العذاب
قليلا إنكم عائدون وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَشْفَ الْعَذَابِ
ثُمَّ عَوْدَهُمْ لَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ إِنَّمَا
هُوَ
(17/141)
فِي الدُّنْيَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَسِنِي يُوسُفَ) بِتَخْفِيفِ
الْيَاءِ قَوْلُهُ (فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ)
بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ وَحُكِي
ضَمُّهَا قَوْلُهُ (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
اسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِمُضَرَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ
نُسَخِ مُسْلِمِ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِمُضَرَ وَفِي
الْبُخَارِيِّ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ قَالَ الْقَاضِي
قَالَ بَعْضُهُمْ اسْتَسْقِ هو الصواب اللائق بالحال لأنهم
كفار لايدعى لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ قُلْتُ كِلَاهُمَا
صَحِيحٌ فَمَعْنَى اسْتَسْقِ اُطْلُبْ لَهُمُ الْمَطَرَ
وَالسُّقْيَا وَمَعْنَى اسْتَغْفِرْ ادْعُ لَهُمْ
بِالْهِدَايَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا
الِاسْتِغْفَارُ قَوْلُهُ
(17/142)
(مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ وَالْبَطْشَةِ
وَاللِّزَامِ وَآيَةُ الرُّومِ) وَفَسَّرَهَا كُلَّهَا فِي
الْكِتَابِ إِلَّا اللِّزَامَ وَالْمُرَادُ بِهِ قَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أَيْ
يَكُونُ عَذَابُهُمْ لَازِمًا قَالُوا وَهُوَ مَا جَرَى
عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ
وَهِيَ الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى
(بَابُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ
[2800] قَالَ الْقَاضِي انْشِقَاقُ الْقَمَرِ مِنْ
أُمَّهَاتِ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَاهَا عِدَّةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ ظَاهِرِ
الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَسِيَاقِهَا قَالَ الزَّجَّاجُ
وَقَدْ أَنْكَرَهَا بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُضَاهِينَ
الْمُخَالِفِي الْمِلَّةِ وَذَلِكَ لَمَّا أَعْمَى اللَّهُ
قَلْبَهُ وَلَا إِنْكَارَ لِلْعَقْلِ فِيهَا لِأَنَّ
الْقَمَرَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُ فِيهِ مَا
يَشَاءُ كَمَا يُفْنِيهِ وَيُكَوِّرُهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ لَوْ وَقَعَ هَذَا
لَنُقِلَ مُتَوَاتِرًا وَاشْتَرَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ
كُلُّهُمْ فِي مَعْرِفَتِهِ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ
مَكَّةَ فَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ هَذَا)
(17/143)
الِانْشِقَاقَ حَصَلَ فِي اللَّيْلِ
وَمُعْظَمُ النَّاسِ نِيَامٌ غَافِلُونَ وَالْأَبْوَابُ
مُغْلَقَةٌ وَهُمْ مُتَغَطُّونَ بِثِيَابِهِمْ فَقَلَّ
مَنْ يَتَفَكَّرُ فِي السَّمَاءِ أَوْ يَنْظُرُ إِلَيْهَا
إِلَّا الشَّاذُّ النَّادِرُ وَمِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ
مُعْتَادٌ أَنْ كُسُوفَ الْقَمَرِ وَغَيْرَهُ مِنَ
الْعَجَائِبِ وَالْأَنْوَارِ الطَّوَالِعِ وَالشُّهُبِ
الْعِظَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْدُثُ فِي
السَّمَاءِ فِي اللَّيْلِ يَقَعُ وَلَا يَتَحَدَّثُ بِهَا
إِلَّا الْآحَادُ وَلَا عِلْمَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ لِمَا
ذَكَرْنَاهُ وَكَانَ هَذَا الِانْشِقَاقُ آيَةً حَصَلَتْ
فِي اللَّيْلِ لِقَوْمٍ سَأَلُوهَا وَاقْتَرَحُوا
رُؤْيَتَهَا فَلَمْ يَتَنَبَّهْ غَيْرُهُمْ لَهَا قَالُوا
وَقَدْ يَكُونُ الْقَمَرُ كَانَ حِينَئِذٍ فِي بَعْضِ
الْمَجَارِي وَالْمَنَازِلِ الَّتِي تَظْهَرُ لِبَعْضِ
الْآفَاقِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا يَكُونُ ظَاهِرًا لِقَوْمٍ
غَائِبًا عَنْ قَوْمٍ كَمَا يَجِدُ الْكُسُوفَ أَهْلُ
بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قوله
(17/144)
(وحدثنا محمد بن بشار حدثنا بن أبى عدى
كلاهما عن شعبة باسناد بن مُعَاذٍ) هَكَذَا هُوَ فِي
عَامَّةِ النُّسَخِ بِإِسْنَادِ بن مُعَاذٍ وَفِي
بَعْضِهَا بِإِسْنَادَيْ مُعَاذٍ قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُ
هَذَا أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِمُعَاذٍ
إِسْنَادَيْنِ قَبْلَ هَذَا وَالْأَوَّلُ أَيْضًا صَحِيحٌ
لِأَنَّ الاسنادين من رواية بن معاذ عن أبيه
(17/145)
(باب فى الكفار
[2804] قال صلى الله عليه وسلم (لاأحد أَصْبَرَ عَلَى
أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّهُ
يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ ثُمَّ
يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) قَالَ الْعُلَمَاءُ
مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاسِعُ الْحِلْمِ
حَتَّى عَلَى الْكَافِرِ الذى يكسب إِلَيْهِ الْوَلَدَ
وَالنِّدَّ قَالَ الْمَازِرِيُّ حَقِيقَةُ الصَّبْرِ
مَنْعُ النَّفْسِ مِنَ الِانْتِقَامِ أَوْ غَيْرِهِ
فَالصَّبْرُ نَتِيجَةُ الِامْتِنَاعِ فَأُطْلِقَ اسْمُ
الصَّبْرِ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
لِذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَالصَّبُورُ مِنْ أَسْمَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي لَا يُعَاجِلُ الْعُصَاةَ
بِالِانْتِقَامِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْحَلِيمِ فِي
أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْحَلِيمُ هُوَ
الصَّفُوحُ مع القدرةعلى الانتقام)
(17/146)
(باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبا
[2805] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ
عَذَابًا لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ
قَدْ أَرَدْتُ مِنْكُمْ أَهْوَنَ من هذا وأنت فى صلب آدم
أن لا تُشْرِكَ إِلَى قَوْلِهِ فَأَبَيْتَ إِلَّا
الشِّرْكَ) وَفِي رِوَايَةٍ فَيُقَالُ قَدْ سُئِلْتُ
أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ فَيُقَالُ كَذَبْتَ
قَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمُرَادُ أَرَدْتُ
فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى طَلَبْتُ مِنْكَ وَأَمَرْتُكَ
وَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ
بِقَوْلِهِ قَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ فَيَتَعَيَّنُ
تَأْوِيلُ أَرَدْتُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ
الرِّوَايَاتِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عِنْدَ أَهْلِ
الْحَقِّ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا فَلَا
يَقَعُ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا
وَمِنْهَا الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى مُرِيدٌ لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِ وَمُرِيدٌ
لِكُفْرِ الْكَافِرِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي
قَوْلِهِمْ إِنَّهُ أَرَادَ إِيمَانَ الْكَافِرِ وَلَمْ
يُرِدْ كُفْرَهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمُ
الْبَاطِلِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِثْبَاتُ
الْعَجْزِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَأَنَّهُ وَقَعَ)
(17/147)
فِي مُلْكِهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ وَأَمَّا
هَذَا الْحَدِيثُ فَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَهُ وَأَمَّا
قَوْلُهُ فَيُقَالُ لَهُ كَذَبْتَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ
مَعْنَاهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ لَوْ رَدَدْنَاكَ إِلَى
الدُّنْيَا وَكَانَتْ لَكَ كُلُّهَا أَكُنْتَ تَفْتَدِي
بِهَا فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ كَذَبْتَ قَدْ
سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ فَأَبَيْتَ وَيَكُونُ هَذَا
مِنْ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا
لِمَا نُهُوا عنه وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ
لِيُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ
أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا به من سوء العذاب يوم
القيامة أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ وَأَمْكَنَهُمْ
الِافْتِدَاءُ لَافْتَدَوْا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ
اللَّهُ يَقُولُ وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ السَّلَفِ
وَقَالَ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ يَقُولُ وَإِنَّمَا
يُقَالُ قَالَ اللَّهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا فَسَادَ هَذَا
الْمَذْهَبِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ جَوَازُهُ
وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ فِي
قَوْلِهِ تعالى والله يقول الحق وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِثْلُ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(17/148)
[2807] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً) الصَّبْغَةُ
بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ يُغْمَسُ غَمْسَةً وَالْبُؤْسُ
بِالْهَمْزِ هُوَ الشِّدَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب جَزَاءِ الْمُؤْمِنِ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَتَعْجِيلِ حَسَنَاتِ الْكَافِرِ فِي
الدُّنْيَا)
[2808] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ
اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا
فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ
(17/149)
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ
بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا
حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ
حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ الْكَافِرَ
إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَةً مِنَ
الدُّنْيَا وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُعْقِبُهُ
رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ أَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي مَاتَ عَلَى
كُفْرِهِ لَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُجَازَى
فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا
مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصَرَّحَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ بِأَنْ يُطْعَمَ فِي الدُّنْيَا بِمَا عَمِلَهُ
مِنَ الْحَسَنَاتِ أَيْ بِمَا فَعَلَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَفْتَقِرُ صِحَّتُهُ
إِلَى النِّيَّةِ كَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْعِتْقِ وَالضِّيَافَةِ وَتَسْهِيلِ الْخَيْرَاتِ
وَنَحْوِهَا وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُدَّخَرُ لَهُ
حَسَنَاتُهُ وَثَوَابُ أَعْمَالِهِ إِلَى الْآخِرَةِ
وَيُجْزَى بها مع ذلك أيضا فى الدنيا ولامانع مِنْ
جَزَائِهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَدْ
وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ قَوْلُهُ
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً
مَعْنَاهُ لَا يَتْرُكَ مُجَازَاتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ
حَسَنَاتِهِ وَالظُّلْمُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى النَّقْصِ
وَحَقِيقَةُ الظُّلْمِ مُسْتَحِيلَةٌ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَمَعْنَى أَفْضَى إِلَى
الْآخِرَةِ صَارَ إِلَيْهَا وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ
الْكَافِرُ مِثْلَ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ ثُمَّ أَسْلَمَ
فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى
الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ وقد سبقت المسألة فى كتاب الايمان
(17/150)
(باب مثل
المؤمن كالزرع والمنافق والكافر كالأرزة)
[2809] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ
الرِّيحُ تُمِيلُهُ وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ
الْبَلَاءُ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شجرة الأرزلا
تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ) وَفِي رِوَايَةٍ مَثَلُ
الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ
تُفِيئُهَا الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا
أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ
الْأَرْزَةِ الْمُجْذِبَةِ عَلَى أَصْلِهَا لَا يُفِيئُهَا
شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً
أَمَّا الْخَامَةُ فَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفُ
الْمِيمِ وَهِيَ الطَّاقَةُ وَالْقَصَبَةُ اللَّيِّنَةُ
مِنَ الزَّرْعِ وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ
وَأَمَّا تُمِيلُهَا وَتُفِيئُهَا فَمَعْنًى وَاحِدٌ
وَمَعْنَاهُ تُقَلِّبُهَا الرِّيحُ يَمِينًا وَشِمَالًا
وَمَعْنَى تَصْرَعُهَا تَخْفِضُهَا وتعدلها بِفَتْحِ
التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ أَيْ تَرْفَعُهَا وَمَعْنَى
تَهِيجُ تَيْبَسُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تستحصد بفتح أوله وكسرالصاد كذا ضَبَطْنَاهُ
وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ
وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الصَّادِ
عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَالْأَوَّلُ
(17/151)
أجود أى لاتتغير حَتَّى تَنْقَلِعَ مَرَّةً
وَاحِدَةً كَالزَّرْعِ الَّذِي انْتَهَى يُبْسُهُ وَأَمَّا
الْأَرْزَةُ فَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ ثم
زاى هذا هو المشهورفى ضَبْطِهَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي
الرِّوَايَاتِ وَكُتُبِ الْغَرِيبِ وَذَكَرَ
الْجَوْهَرِيُّ وَصَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ أَنَّهَا
تُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ الْآرِزَةُ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ
الرَّاءِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ وَأَنْكَرَهَا أَبُو
عُبَيْدٍ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْآرِزَةُ
(17/152)
بِالْمَدِّ هِيَ الثَّابِتَةُ وَهَذَا
الْمَعْنَى صَحِيحٌ هُنَا فَإِنْكَارُ أَبِي عُبَيْدٍ
مَحْمُولٌ عَلَى إِنْكَارِ رِوَايَتِهَا كَذَلِكَ لَا
إِنْكَارَ لِصِحَّةِ مَعْنَاهَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ
وَالْغَرِيبِ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ يُقَالُ لَهُ الْأَرْزَنُ
يُشْبِهُ شَجَرَ الصَّنَوْبَرِ بِفَتْحِ الصَّادِ يَكُونُ
بِالشَّامِ وَبِلَادِ الْأَرْمَنِ وَقِيلَ هُوَ
الصَّنَوْبَرُ وَأَمَّا الْمُجْذَبَةُ فَبِمِيمٍ
مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ
مَكْسُورَةٍ وَهِيَ الثَّابِتَةُ الْمُنْتَصِبَةُ يُقَالُ
مِنْهُ جَذَبَ يَجْذِبُ وَأَجْذِبُ يَجْذِبُ
وَالِانْجِعَافُ الِانْقِلَاعُ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى
الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ كَثِيرُ الْآلَامِ فِي
بَدَنِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ وَذَلِكَ مُكَفِّرٌ
لِسَيِّئَاتِهِ وَرَافِعٌ لِدَرَجَاتِهِ وَأَمَّا
الْكَافِرُ فَقَلِيلُهَا وَإِنْ وَقَعَ بِهِ شَيْءٌ لَمْ
يُكَفِّرْ شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاتِهِ بَلْ يَأْتِي بِهَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ كاملة
(باب مثل المؤمن مثل النخلة)
[2811] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ
مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا
وَإِنَّهَا مِثْلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ
فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شجرة الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا
النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا
هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ هِيَ النَّخْلَةُ قَالَ
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَ
هِيَ النَّخْلَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا)
أَمَّا قَوْلُهُ لَأَنْ تَكُونَ فَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ
وَوَقَعَ فِي بَعْضِ
(17/153)
النُّسَخِ الْبَوَادِي وَفِي بَعْضِهَا
الْبَوَادِ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا اسْتِحْبَابُ إِلْقَاءِ
الْعَالِمِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ
أَفْهَامَهُمْ وَيُرَغِّبَهُمْ فِي الْفِكْرِ
وَالِاعْتِنَاءِ وَفِيهِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ
وَالْأَشْبَاهِ وَفِيهِ تَوْقِيرُ الْكِبَارِ كَمَا فَعَلَ
بن عُمَرَ لَكِنْ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْكِبَارُ
الْمَسْأَلَةَ فَيَنْبَغِي لِلصَّغِيرِ الَّذِي
يَعْرِفُهَا أَنْ يَقُولَهَا وَفِيهِ سُرُورُ الْإِنْسَانِ
بِنَجَابَةِ وَلَدِهِ وَحُسْنِ فَهْمِهِ وَقَوْلُ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَ هِيَ
النَّخْلَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَدْعُو لِابْنِهِ وَيَعْلَمُ حُسْنَ فَهْمِهِ
وَنَجَابَتِهِ وَفِيهِ فَضْلُ النَّخْلِ قَالَ
الْعُلَمَاءُ وَشَبَّهَ النَّخْلَةَ بِالْمُسْلِمِ فِي
كَثْرَةِ خَيْرِهَا وَدَوَامِ ظِلِّهَا وَطِيبِ ثَمَرِهَا
وَوُجُودِهِ عَلَى الدَّوَامِ فَإِنَّهُ مِنْ حِينِ
يَطْلُعُ ثَمَرُهَا لايزال يُؤْكَلُ مِنْهُ حَتَّى
يَيْبَسَ وَبَعْدَ أَنْ يَيْبَسَ يُتَّخَذُ مِنْهُ
مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْ خَشَبِهَا وَوَرَقِهَا
وَأَغْصَانِهَا فَيُسْتَعْمَلُ جُذُوعًا وَحَطَبًا
وَعِصِيًّا وَمَخَاصِرَ وَحُصْرًا وَحِبَالًا وَأَوَانِيَ
وَغَيْرَ ذَلِكَ ثُمَّ آخِرُ شَيْءٍ مِنْهَا نَوَاهَا
وَيُنْتَفَعُ بِهِ عَلَفًا لِلْإِبِلِ ثُمَّ جَمَالُ
نَبَاتِهَا وَحُسْنُ هَيْئَةِ ثَمَرِهَا فَهِي مَنَافِعُ
كُلُّهَا وَخَيْرٌ وَجَمَالٌ كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ
خَيْرٌ كُلُّهُ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَاتِهِ وَمَكَارِمِ
أَخْلَاقِهِ وَيُوَاظِبُ عَلَى صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ
وَقِرَاءَتِهِ وَذِكْرِهِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ
وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ قِيلَ وَجْهُ
الشَّبَهِ أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ رَأْسَهَا مَاتَتْ
بِخِلَافِ بَاقِي الشَّجَرِ وقيل لأنها لاتحمل حَتَّى
تُلَقَّحَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (فَوَقَعَ
النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي) أَيْ ذَهَبَتْ
أَفْكَارُهُمْ إِلَى أَشْجَارِ الْبَوَادِي وَكَانَ كُلُّ
إِنْسَانٍ يُفَسِّرُهَا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ شَجَرِ
الْبَوَادِي وَذَهِلُوا عَنِ النَّخْلَةِ قوله (قال بن
عُمَرَ وَأُلْقِي فِي نَفْسِي أَوْ رُوعِي أَنَّهَا
النَّخْلَةُ فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ
(17/154)
أَقُولَهَا فَإِذَا أَسْنَانُ الْقَوْمِ
فَأَهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ) الرُّوعُ هُنَا بِضَمِّ
الرَّاءِ وَهُوَ النَّفْسُ وَالْقَلْبُ وَالْخَلَدُ
وَأَسْنَانُ الْقَوْمِ يَعْنِي كِبَارُهُمْ وَشُيُوخُهُمْ
قَوْلُهُ (فَأُتِي بِجُمَّارٍ) هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ
وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهُوَ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْ قَلْبِ
النَّخْلِ يَكُونُ لَيِّنًا قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سَيْفٌ
قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا (هَكَذَا صَوَابُهُ سَيْفٌ
قَالَ الْقَاضِي وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ سُفْيَانَ وَهُوَ
غَلَطٌ بَلْ هُوَ سَيْفٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَكِيعٌ
يَقُولُ هُوَ سَيْفٌ أَبُو سليمان وبن الْمُبَارَكَ
يَقُولُ سَيْفُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَيَحْيَى بْنُ
الْقَطَّانِ يَقُولُ سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَتَحَاتَّ
وَرَقُهَا) أَيْ لَا يَتَنَاثَرَ وَيَتَسَاقَطَ قَوْلُهُ
لَا يَتَحَاتَّ وَرَقُهَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَعَلَّ
مُسْلِمًا قَالَ وَتُؤْتِي وكذا وجدت عند غيرى أيضا
ولاتؤتى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ
وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُفْيَانَ صَاحِبِ
مُسْلِمٍ ورواية غيره أيضا من مسلم لايتحات ورقها ولاتؤتى
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ وَاسْتَشْكَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
سُفْيَانَ هذا لقوله ولاتؤتى أُكُلَهَا خِلَافُ بَاقِي
الرِّوَايَاتِ فَقَالَ لَعَلَّ مُسْلِمًا رواه وتؤتى
باسقاط لاوأكون أنا وغيرى غلطنا فى اثبات لاقال الْقَاضِي
وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَلَيْسَ
(17/155)
هُوَ بِغَلَطٍ كَمَا تَوَهَّمَهُ
إِبْرَاهِيمُ بَلِ الَّذِي فى مسلم صحيح باثبات لاوكذا
رواه البخارى باثبات لاووجهه أن لفظة لاليست متعلقة بتؤتى
بل متعلقة بمحذوف تقديره لايتحات ورقها ولامكرر أى
لايصيبها كذا ولاكذا لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ الرَّاوِي
تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْمَعْطُوفَةَ ثُمَّ ابْتَدَأَ
فَقَالَ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ
(بَاب تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ
لِفِتْنَةِ النَّاسِ وَأَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ
قَرِينًا
[2812] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ
الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ
فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ
بَيْنَهُمْ) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُعْجِزَاتِ
النُّبُوَّةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ
وَمَعْنَاهُ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ أَهْلُ جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ وَلَكِنَّهُ سَعَى فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ
بِالْخُصُومَاتِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ
وَنَحْوِهَا
[2813] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ
عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ)
(17/156)
يَفْتِنُونَ النَّاسَ) الْعَرْشُ هُوَ
سَرِيرُ الْمُلْكِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَرْكَزَهُ الْبَحْرُ
وَمِنْهُ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ
قَوْلُهُ (فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ)
هُوَ بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ
نِعْمَ الْمَوْضُوعَةُ لِلْمَدْحِ فَيَمْدَحُهُ
لِإِعْجَابِهِ بِصُنْعِهِ وَبُلُوغِهِ الْغَايَةَ الَّتِي
أَرَادَهَا قَوْلُهُ (فَيَلْتَزِمُهُ) أَيْ يَضُمُّهُ
إِلَى نَفْسِهِ وَيُعَانِقُهُ
[2814] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (ما منكم من
أحد إلاوقد وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ قَالُوا
وَإِيَّاكَ قَالَ وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ
أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا
بِخَيْرٍ) فَأَسْلَمَ بِرَفْعِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا
وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فَمَنْ رَفَعَ قَالَ
مَعْنَاهُ أَسْلَمُ أَنَا مِنْ شَرِّهِ وَفِتْنَتِهِ
وَمَنْ فَتَحَ قَالَ إِنَّ الْقَرِينَ أَسْلَمَ مِنَ
الاسلام وصار مؤمنا لايأمرنى إِلَّا بِخَيْرٍ
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَرْجَحِ مِنْهُمَا فَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الرَّفْعُ
وَرَجَّحَ
(17/157)
الْقَاضِي عِيَاضُ الْفَتْحَ وَهُوَ
الْمُخْتَارُ لِقَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وسلم فلا يأمرنى
الابخير وَاخْتَلَفُوا عَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ قِيلَ
أَسْلَمَ بِمَعْنَى اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ وَقَدْ جَاءَ
هَكَذَا فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَاسْتَسْلَمَ
وَقِيلَ مَعْنَاهُ صَارَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا وَهَذَا هُوَ
الظَّاهِرُ قَالَ الْقَاضِي وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ
مُجْتَمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّيْطَانِ فِي جِسْمِهِ
وَخَاطِرِهِ وَلِسَانِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ
إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَرِينِ
وَوَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ فَأَعْلَمَنَا بِأَنَّهُ
مَعَنَا لِنَحْتَرِزَ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ
[2815] قَوْلُهُ (حدثنا بن وهب قال أخبرنى أبو صخر عن بْنِ
قُسَيْطٍ) هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ السِّينِ
الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَاسْمُهُ يَزِيدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ
عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ الْمَدَنِيُّ أَبُو عَبْدٍ
التَّابِعِيُّ وَاسْمُ أَبِي صَخْرٍ هَذَا حُمَيْدُ بْنُ
زِيَادٍ الْخَرَّاطُ الْمَدَنِيُّ سَكَنَ مِصْرَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(17/158)
(بَاب لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ
بِعَمَلِهِ بَلْ بِرَحْمَةِ اللَّهُ تَعَالَى)
[2816] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَنْ
يُنْجِي أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالَ رَجُلٌ وَلَا
إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ولااياى إِلَّا أَنْ
يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَلَكِنْ
سَدِّدُوا) وَفِي رِوَايَةٍ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٌ
وَفِي رواية بمغفرة ورحمة وفى رواية الاأن يَتَدَارَكَنِي
اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أهل
السنة أنه لايثبت بالعقل ثواب ولاعقاب ولا أيجاب ولاتحريم
ولاغيرها من أنواع التكليف ولاتثبت هذه كلها ولا
(17/159)
غيرها الابالشرع وَمَذْهَبُ أَهْلِ
السُّنَّةِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ شَيْءٌ تَعَالَى اللَّهُ بَلِ الْعَالَمُ
مُلْكُهُ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ فِي سُلْطَانِهِ
يَفْعَلُ فيهما ما يشاء فلوا عَذَّبَ الْمُطِيعِينَ
وَالصَّالِحِينَ أَجْمَعِينَ وَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ
كَانَ عَدْلًا مِنْهُ وَإِذَا أَكْرَمَهُمْ وَنَعَّمَهُمْ
وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ وَلَوْ
نَعَّمَ الْكَافِرِينَ وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ كَانَ
لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ
أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا بَلْ يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ وَيُعَذِّبُ
الْمُنَافِقِينَ وَيُخَلِّدُهُمْ فى النار عدلامنه
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَيُثْبِتُونَ الْأَحْكَامَ
بِالْعَقْلِ وَيُوجِبُونَ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ
وَيُوجِبُونَ الْأَصْلَحَ وَيَمْنَعُونَ خِلَافَ هَذَا فِي
خَبْطٍ طَوِيلٍ لَهُمْ تَعَالَى اللَّهُ عَنِ
اخْتِرَاعَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الْمُنَابِذَةِ لِنُصُوصِ
الشَّرْعِ وَفِي ظَاهِرِ هَذِهِ الأحاديث دلالة لأهل الحق
أنه لايستحق أَحَدٌ الثَّوَابَ وَالْجَنَّةَ بِطَاعَتِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا
(17/160)
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كنتم تعملون وَنَحْوُهُمَا
مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ
يُدْخَلُ بِهَا الْجَنَّةُ فَلَا يُعَارِضُ هَذِهِ
الْأَحَادِيثَ بَلْ مَعْنَى الْآيَاتِ أَنَّ دُخُولَ
الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ ثُمَّ التَّوْفِيقِ
لِلْأَعْمَالِ وَالْهِدَايَةِ لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا
وَقَبُولِهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ
فَيَصِحُّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ
وَهُوَ مُرَادُ الْأَحَادِيثِ وَيَصِحُّ أَنَّهُ دَخَلَ
بِالْأَعْمَالِ أَيْ بِسَبَبِهَا وَهِيَ مِنَ الرَّحْمَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَعْنَى يَتَغَمَّدُنِي
بِرَحْمَتِهِ يُلْبِسُنِيهَا وَيُغَمِّدُنِي بِهَا
وَمِنْهُ أَغْمَدْتُ السَّيْفَ وَغَمَدْتُهُ اذا جعلته
(17/161)
فِي غِمْدِهِ وَسَتَرْتُهُ بِهِ وَمَعْنَى
سَدِّدُوا وَقَارِبُوا اطْلُبُوا السَّدَادَ وَاعْمَلُوا
بِهِ وَإِنَّ عَجَزْتُمْ عَنْهُ فَقَارِبُوهُ أَيْ
اقْرَبُوا مِنْهُ وَالسَّدَادُ الصَّوَابُ وَهُوَ بين
الافراط والتفريط فلا تغلوا ولا تفصروا
(باب إكثارالأعمال والاجتهاد فى العبادة
[2819] قوله (ان صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَفَخَتْ
قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ أَتُكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ
اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
قَالَ أَفَلَا أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا) وَفِي رِوَايَةٍ
حَتَّى تَفَطَّرَتْ رِجْلَاهُ مَعْنَى تَفَطَّرَتْ
تَشَقَّقَتْ قَالُوا وَمِنْهُ فَطَّرَ الصَّائِمُ
وَأَفْطَرَهُ لِأَنَّهُ خَرَقَ صَوْمَهُ وَشَقَّهُ قَالَ
الْقَاضِي الشُّكْرُ مَعْرِفَةُ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِ
وَالتَّحَدُّثُ بِهِ وَسُمِّيَتِ الْمُجَازَاةُ عَلَى
فِعْلِ الْجَمِيلِ شُكْرًا لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ
الثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَشُكْرُ الْعَبْدِ اللَّهَ تَعَالَى
اعْتِرَافُهُ بِنِعَمِهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَتَمَامُ
مُوَاظَبَتِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَمَّا شُكْرُ اللَّهِ
تَعَالَى)
(17/162)
أَفْعَالَ عِبَادِهِ فَمُجَازَاتُهُ
إِيَّاهُمْ عَلَيْهَا وَتَضْعِيفُ ثَوَابِهَا وَثَنَاؤُهُ
بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ الْمُعْطِي
وَالْمُثْنِي سُبْحَانَهُ وَالشَّكُورُ مِنْ أَسْمَائِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا المعنى والله أعلم
(باب الاقتصاد فى الموعظة
[2821] قوله (ما يمنعنى أن أخرج عليكم الاكراهية أَنْ
أُمِلَّكُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ
فِي الْأَيَّامِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا)
السَّآمَةُ بِالْمَدِّ الْمَلَلُ وَقَوْلُهُ أُمِلُّكُمْ
بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أُوقِعُكُمْ فِي الْمَلَلِ)
(17/163)
وَهُوَ الضَّجَرُ وَأَمَّا الْكَرَاهِيَةُ
فَبِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَمَعْنَى يَتَخَوَّلنَا
يَتَعَاهَدُنَا هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِهَا
قال القاضي وقيل يصلحنا وقال بن الْأَعْرَابِيِّ مَعْنَاهُ
يَتَّخِذُنَا خَوَلًا وَقِيلَ يُفَاجِئُنَا بِهَا وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ يَدْلُلْنَا وَقِيلَ يَحْبِسُنَا كَمَا
يَحْبِسُ الْإِنْسَانُ خَوَلَهُ وَهُوَ يَتَخَوَّلُنَا
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ إِلَّا أَبَا
عَمْرٍو فَقَالَ هِيَ بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ يَطْلُبُ
حَالَاتِهِمْ وَأَوْقَاتِ نَشَاطِهِمْ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ الِاقْتِصَادُ فِي الْمَوْعِظَةِ لِئَلَّا
تَمَلَّهَا القلوب فيفوت مقصودها
(17/164)
|