شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَاب الْعِلْمِ
قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة 11] وَقَوْلِهِ: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه 114] . قال المؤلف: جاء فى كثير من الآثار أن درجات العلماء تتلو درجات الأنبياء، ودرجات أصحابهم، والعلماء ورثة الأنبياء، وإنما ورثوا العلم وبينوه للأمة، وذبوا عنه، وحموه من تخريف الجاهلين وانتحال المبطلين. وروى ابن وهب، عن مالك، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول فى قوله تعالى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء) [يوسف: 76] ، قال: بالعلم. وذكر عن الأوزاعى قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن، أى الأعمال أفضل؟ قال: العلم، ثم سأله أى الأعمال أفضل؟ قال: العلم، قال: أنا أسألك عن أفضل الأعمال، وأنت تقول: العلم؟ قال: ويحك، إن مع العلم بالله ينفعك قليل العمل وكثيره، ومع الجهل بالله لا ينفعك قليل العمل ولا كثيره. وقال ابن عيينة فى قوله تعالى: (وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) [مريم: 31] ، قال: معلمًا للخير. وفى فضل العلم آثار كثيرة، ومن أحسنها ما حدثنى يونس بن عبد الله، قال: حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله، قال: حدثنا سعيد بن

(1/133)


فحلون، قال: حدثنا أبو العلاء عبد الأعلى ابن معلى، قال: حدثنا عثمان بن أيوب، قال: حدثنى يحيى بن يحيى، قال: أول ما حدثنى مالك بن أنس حين أتيته طالبًا لما ألهمنى الله إليه فى أول يوم جلست إليه قال لى: اسمك؟ قلت له: أكرمك الله يحيى، وكنت أحدث أصحابى سنًا، فقال لى: يا يحيى، الله الله، عليك بالجدِّ فى هذا الأمر، وسأحدثك فى ذلك بحديث يرغبك فيه، ويرهدك فى غيره، قال: قدم المدينة غلام من أهل الشام بحداثة سنك فكان معنا يجتهد ويطلب حتى نزل به الموت، فلقد رأيت على جنازته شيئًا لم أر مثله على أحد من أهل بلدنا، لا طالب ولا عالم، فرأيت جميع العلماء يزدحمون على نعشه، فلما رأى ذلك الأمير أمسك عن الصلاة عليه، وقال: قدموا منكم من أحببتم، فقدم أهل العلم ربيعة، ثم نهض به إلى قبره، قال مالك: فألحده فى قبره ربيعة، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد، وابن شهاب، وأقرب الناس إليهم محمد بن المنذر، وصفون بن سليم، وأبو حازم وأشباههم وبنى اللَّبِن على لحده ربيعة، وهؤلاء كلهم يناولوه اللَّبِن، قال مالك: فلما كان اليوم الثالث من يوم دفنه رآه رجل من خيار أهل بلدنا فى أحسن صورة غلام أمرد، وعليه بياض، متعمم بعمامة خضراء، وتحته فرس أشهب نازل من السماء فكأنه كان يأتيه قاصدًا ويسلم عليه، ويقول: هذا بَلَّغنى إليه العلم، فقال له الرجل: وما الذى بلغك إليه؟ فقال: أعطانى الله بكل باب تعلمته من العلم درجة فى الجنة، فلم تبلغ بى الدرجات إلى درجة أهل العلم، فقال الله تعالى: زيدوا ورثة أنبيائى، فقد ضمنت على نفسى أنه من مات وهو عالم سنتى، أو سنة أنبيائى، أو طالب لذلك أن أجمعهم

(1/134)


فى درجة واحدة فأعطانى ربى حتى بلغت إلى درجة أهل العلم، وليس بينى وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا درجتان، درجة هو فيها جالس وحوله النبيون كلهم، ودرجة فيها جميع أصحابه، وجميع أصحاب النبيين الذين اتبعوهم، ودرجة من بعدهم فيها جميع أهل العلم وطلبته، فسيرنى حتى استوسطتهم فقالوا لى: مرحبًا، مرحبًا، سوى ما لى عند الله من المزيد، فقال له الرجل: ومالك عند الله من المزيد؟ فقال: وعدنى أن يحشر النبيين كلهم كما رأيتهم فى زمرة واحدة، فيقول: يا معشر العلماء، هذه جنتى قد أبحتها لكم، وهذا رضوانى قد رضيت عنكم، فلا تدخلوا الجنة حتى تتمنوا وتشفعوا، فأعطيكم ما شئتم، وأشفعكم فيمن استشفعتم له، ليرى عبادى كرامتكم علىَّ، ومنزلتكم عندى. فلما أصبح الرجل حدث أهل العلم، وانتشر خبره بالمدينة، قال مالك: كان بالمدينة أقوام بدءوا معنا فى طلب هذا الأمر ثم كفوا عنه حتى سمعوا هذا الحديث، فلقد رجعوا إليه، وأخذوا بالحزم، وهم اليوم من علماء بلدنا، الله الله يا يحيى جد فى هذا الأمر. قال المؤلف: غير أن فضل العلم إنما هو لمن عمل به، ونوى بطلبه وجه الله تعالى. ذكر مالك أن عبد الله بن سلام قال لكعب: مَن أرباب العلم؟ قال: هم أهله الذين يعملون بعلمهم، قال: صدقت، قال: فما ينفى العلم من صدور العلماء بعد إذ علموه؟ قال: الطمع. وعن ابن عيينة عمن حدثه، عن عبد الله بن المسور، قال: جاء

(1/135)


رجل إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: أتيتك لتعلمنى من غرائب العلم، فقال له النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما صنعت فى رأس العلم؟ - قال: وما رأس العلم؟ قال: تمت هل عرفت الرب؟ - قال: نعم، قال: تمت فما صنعت فى حقه؟ - قال: ما شاء الله، قال: تمت هل عرفت الموت؟ - قال: نعم، قال: تمت فما أعددت له؟ - قال: ما شاء الله، قال: تمت فاذهب فأحكم ما هناك، ثم تعال أعلمك من غرائب العلم -. وعن الحسن البصرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت العلم علمان: علم على اللسان، فتلك حجة الله على ابن آدم، وعلم فى القلب فذلك العلم النافع -. وذكر ابن وهب، عن أبى الدرداء أنه كان يقول: لست أخاف أن يقال لى: يا عويمر، ماذا علمت؟ ولكن أخاف أن يقال لى: يا عويمر، ماذا عملت فيما علمت؟ ولم يؤت الله أحدًا علمًا فى الدنيا إلا سأله يوم القيامة. ومن تعلم الحديث ليصرف به وجوه الرجال إليه، صرف الله وجهه يوم القيامة إلى النار. وقال مسروق: بحسب المرء من العلم أن يخشى الله، وبحسبه من الجهل ألا يخشى الله. وقوله تعالى:: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْمًا) [طه 114] ، قال قتادة: إن الشيطان لم يدع أحدكم حتى يأتيه من كل وجه، حتى يأتيه من باب العلم، فيقول: ما تصنع بطلب العلم؟ ليتك تعمل بما قد سمعت، ولو كان أحد مكتفيًا لاكتفى موسى، (صلى الله عليه وسلم) ، حيث يقول: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف: 66] .

(1/136)


وذكر الطبرانى عن ابن عباس: تمت أن موسى سأل ربه، فقال: أى رب، أى عبادك أعلم؟ قال: الذى يبتغى علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تقربه إلى هدى أو ترده عن ردى -.
- باب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ، فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ، ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: تمت أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ - قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تمت فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ -، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟

(1/137)


قَالَ: تمت إِذَا وُسِّدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ -. قال المهلب: فيه: أن من أدب المتعلم ألا يسأل العالم ما دام مشتغلا بحديث أو غيره، لأن من حق القوم الذين بدأ بحديثهم ألا يقطعه عنهم حتى يتمه. وفيه: الرفق بالمتعلم، وإن جفا فى سؤاله أو جهل، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوبخه على سؤاله قبل كمال حديثه. وفيه: وجوب تعليم السائل والمتعلم، لقوله النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت أين السائل؟ - ثم أخبره عن الذى سأله عنه. وفيه: مراجعة العالم إذا لم يفهم السائل، لقوله: كيف إضاعتها؟ . وفيه: جواز استماع العالم فى الجواب وأن ينتقى منه إذا كان ذلك لمعنى. وقوله: تمت إذا وسد الأمر إلى غير أهله - معناه أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، لقوله، (صلى الله عليه وسلم) : تمت كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته -، فينبغى لهم تولية أهل الدين والأمانة للنظر فى أمر الأمة، فإذا قلدوا غير أهل الدين، واستعملوا من يعينهم على الجور والظلم فقد ضيعوا الأمانة التى فرض الله عليهم. وقد جاء عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: تمت لا تقوم الساعة حتى يؤتمن الخائن ويستخون الأمين، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهل، وضعف أهل الحق عن القيام به ونصرته -.
3 - باب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ
/ 2 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. وهذا حجة فى جواز رفع الصوت فى المناظرة فى العلم وذكر ابن عيينة قال: مررت بأبى حنيفة وهو مع أصحابه، وقد ارتفعت أصواتهم بالعلم.

(1/138)


وقال ابن السكيت: أرهقتنا الصلاة: استأخرنا عنها حتى دنا وقت الأخرى، وأرهقنا الليل: دنا منا، وأرهقنا القوم: لحقونا. وقال المؤلف: إنما ترك أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) الصلاة فى الوقت الفاضل، والله أعلم، لأنهم كانوا على طمع من أن يأتى الرسول ليصلوا معه، لفضل الصلاة معه، فلما ضاق عليهم الوقت وخشوا فواته توضئوا مستعجلين، ولم يبالغوا فى وضوئهم فأدركهم (صلى الله عليه وسلم) وهم على ذلك فزجرهم، وأنكر عليهم نقصهم للوضوء بقوله: تمت ويل للأعقاب من النار -. ففيه من الفقه: أن للعالم أن ينكر ما رآه من التضييع للفرائض والسنن، وأن يغلظ القول فى ذلك، ويرفع صوته بالإنكار. وفيه: تكرار المسألة توكيدًا لها ومبالغة فى وجوبها.
4 - باب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا
وَقَال الْحُمَيْدِىُّ: كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ. وَقَالَ أيضًا: سَمِعْتُ من النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَلِمَةً. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ حَدِيثَيْنِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.

(1/139)


وَقَالَ أَنَسٌ وأَبُو هُرَيْرَةَ مثله. / 3 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِى مَا هِىَ؟ . . . - وذكر الحديث. اختلف العلماء فى هذا الباب، فروى ابن وهب عن مالك أن حدثنا وأخبرنا سواء، وهو قول الكوفيين، وذهبت طائفة إلى الفرق بينهما، وقالوا: حدثنا لا يكون إلا مشافهة، وأخبرنا قد يكون مشافهةً وكتابًا وتبليغًا، لأنك تقول: أخبرنا الله بكذا فى كتابه، وأخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولا تقول: حدثنا إلا أن يشافهك المخبر بذلك. فقال الطحاوى: فنظرنا فى ذلك فلم نجد بين الخبر، والحديث فرقًا فى كتاب الله، ولا سنة رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) . فأمَّا كتاب الله وقوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا) [الزمر: 23] ، وقوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة: 4] فجعل الحديث والخبر واحدًا. وقال تعالى: (نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) [التوبة: 94] وهى الأشياء التى كانت منهم. وقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) [البروج: 17] ،) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) [النساء: 42] . قال أبو جعفر الطحاوى: وكأن المراد فى هذا كله، أن الخبر

(1/140)


والحديث واحد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت حدثونى عن شجرة مثلها مثل المؤمن -، وقال: تمت ألا أخبركم بخير دور الأنصار -، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت أخبرنى تميم الدارى -، فذكر قصة الدَّجال.
5 - باب طَرْحِ الإمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
/ 4 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِى مَا هِىَ -؟ قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ الْبَوَادِى، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِىَ، قَالَ: تمت هِىَ النَّخْلَةُ -. قال المهلب: معنى طرح المسائل على التلاميذ لترسخ فى القلوب وتثبت، لأن ما جرى منه فى المذاكرة لا يكاد ينسى. وفيه: ضرب الأمثال بالشجر وغيرها، وشبه (صلى الله عليه وسلم) النخلة بالمسلم، كما شبهها الله فى كتابه، وضرب بها المثل للناس، فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء (يعنى النخلة التى) تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم: 26] ، وكذلك المسلم يأتى الخير كل حين من الصلاة، والصوم، وذكر الله تعالى، فكأن الخير لا ينقطع منه، فهو دائم كما تدوم أوراق النخلة فيها، ثم الثمر الكائن منها فى أوقاته.

(1/141)


6 - باب الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ
، وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِىُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِى الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّىَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ؟ قَالَ: تمت نَعَمْ -، قَالَ: فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ، يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلانٌ، وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ، فَيَقُولُ الْقَارِئُ: أَقْرَأَنِى فُلانٌ. وَقَالَ: سُفْيَانَ وَمَالِكٍ: الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ. / 5 - فيه: أَنَس، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ - وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ - فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ (صلى الله عليه وسلم) : تمت قَدْ أَجَبْتُكَ -، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنِّى سَائِلُكَ، فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِى الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدْ عَلَىَّ فِى نَفْسِكَ، فَقَالَ: تمت سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ -، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -،

(1/142)


قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّىَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا، فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِى مِنْ قَوْمِى، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَخُو بَنِى سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. واختلف العلماء فى هذا الباب، فذهب الجمهور إلى أن القراءة على العالم وقراءته سواء فى استباحة الرواية وجوازها، وهو قول مالك والكوفيين، إلا أن مالكًا استحب القراءة على العالم. ذكر الدارقطنى فى كتاب الرواة عن مالك، عن محمد بن المحبر بن على الرعينى، لما قدم هارون الرشيد المدينة، حضر مالك بن أنس، فسأله أن يسمع منه محمد الأمين والمأمون، فبعثوا إلى مالك فلم يحضر، فبعث إليه أمير المؤمنين، فقال: العلم يؤتى أهله ويوقر، فقال: صدق أبو عبد الله سيروا إليه، فساروا إليه هم ومؤدبهم، فسألوه أن يقرأ هو عليهم فأبى، وقال: إن علماء هذا البلد، قالوا: إنما يُقرأ على العالم ويفتيهم مثل ما يُقرأ القرآن على المعلم ويرد.

(1/143)


سمعت ابن شهاب - بحر العلماء - يحكى عن سعيد، وأبى سلمة، وعروة، والقاسم، وسالك أنهم كانوا يقرءون على العلماء. وذكر الدارقطنى عن كادح بن رحمة، قال: قال مالك بن أنس: العرض خير من السماع وأثبت. وقالت طائفة: نقول فى العرض والقراءة على العالم: أخبرنا ولا يجوز أن نقول: حدثنا، إلا فى ما سمعت من لفظ العالم. وذهب قوم فيما قُرئ على العالم فأقرَّ به أن يقول فيه: قرئ على فلان، ولا يقول: حدثنا ولا أخبرنا، ولا وجه لهذين القولين، والقول الأول هو الصحيح، لأن ضمام بن ثعلبة قرأ على النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأخبر بذلك قومه فأجازوه. وما احتج مالك فى الصَّك يقرأ على القوم فيقولون: أشهدنا حجة قاطعة، لأن الإشهاد أقوى حالات الإخبار، وكذلك القراءة على المقرئ. وفى حديث ضمام: قبول خبر الواحد، لأن قومه لم يقولوا له: لا نقبل خبرك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى يأتينا من طريق آخر. وفيه: جواز إدخال البعير فى المسجد، وعقله فيه، وهو دليل على طهارة أبوال الإبل وأرواثها، إذا لا يُؤمن ذلك فى البعير مدة كونه فى المسجد. وفيه: جواز تسمية الأَدْوَن للأعلى دون أن يكنيه، ويناديه بحطة إلا أن ذلك منسوخ فى الرسول لقوله: (لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا) [النور: 63] .

(1/144)


قال أبو الزناد: وفيه جواز الاتكاء بين الناس فى المجالس. وقال غيره: وقولهم: تمت هذا الأبيض - يجوز أن يُعرَّف الرجل بصفته من البياض والحمرة، والطول والقصر. وقال أبو الزناد: وقوله: تمت إنى سائلك فمشدد عليك -، فيه من الفقه أن يقدم الإنسان بين يدى حديثه مقدمة يعتذر فيها، ليحسن موقع حديثه عند المحدث ويصبر له على ما يأتى منه، وهو من حسن التوصل. قال المهلب: وقوله: تمت أسألك بربك - فيه جواز الاستحلاف على الحق ليحكم باليقين. وقد قال على: ما حدثنى أحد إلا استحلفته، فإذا حلف لى صدقته إلا أبو بكر، وحدثنى أبو بكر، وصدق أبو بكر. وقد جاء فى كتاب الله الحلف على الخبر فى ثلاثة مواضع: قال الله: (وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ) [يونس: 53] ، وقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ: 3] ، وقال: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ) [التغابن: 7] . قال المؤلف: فوافق هذا الأعرابى مذهب علىِّ فى تصديقه من حلف له على خبره، فكيف وقد كان النبى (صلى الله عليه وسلم) عندهم فى الجاهلية معروفًا بالصدق فى أحاديث الناس، فلم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله كما قال هرقل لأبى سفيان، وجعل ذلك من دلائل نبوته، فلذلك صَدَّقَهُ ضمام.

(1/145)


7 - باب مَا يُذْكَرُ فِى الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَان
وَقَالَ أَنَسُ: نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآفَاقِ. وَرَأَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ذَلِكَ جَائِزًا. وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِى الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حَيْثُ كَتَبَ لأمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا، وَقَالَ: تمت لا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا -. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ، قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 6 - فيه: ابن عَبَّاس، أَنَّ النّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ [أَنَّ] ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. / 7 - وفيه: أَنَس، كَتَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كِتَابًا - أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ - فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: تمت مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -. قال المؤلف: فيه أن المناولة تجرى مجرى الرواية، ألا ترى أن أمير السرية ناوله كتابه، وأمر بقراءته على الناس، وجاز له الإخبار بما فيه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) . وفيه أن الذين قُرئ عليهم الكتاب يجوز أن يرووه عن الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن كتابه إليهم يقوم مقامه، وجائز للرجل أن يقول: حدثنى فلان إذا كتب إليه، والمناولة فى معنى الإجازة، واختلف العلماء فى الإجازة، فأجازها قوم، وكرهها آخرون.

(1/146)


وذكر ابن أبى خيثمة، عن ابن معين، قال: حدثنا ضمرة، عن عبد الله بن عمر، قال: كنت أرى الزهرى يأتيه الرجل بالكتاب لم يقرأه عليه، ولم يُقرأ عليه، فيقول له: أروى عنك؟ فيقول: نعم. وهذا معناه أنه كان يعرف ثقة صاحبه، ويعرف أنه من حديثه، وإنما كره الإجازة من كرهها، خشية أن يُحدث الذى أجيز له عن العالم بما ليس فى حديثه، أو ينقص من إسناد الحديث أو يزيد فيه. وروى ابن وهب، وابن القاسم، عن مالك أنه سُئل عن الرجل يقول له العالم: هذا كتابى فاحمله عنى، وحدث بما فيه عنى، قال: لا أرى هذا يجوز، ولا يعجبنى، لأن هؤلاء إنما يريدون الحمل الكثير بالإقامة اليسيرة، فلا يعجبنى ذلك. وفى حديث ابن عباس: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث بكتابه رجلاً، ففقْهُ ذلك: أن الرجل الواحد يجزئ حمله لكتاب الحاكم إلى حاكم آخر إذا لم يشك الحاكم فى الكتاب ولا أنكره، كما لم ينكر كسرى كتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولا شك فيه، وليس من شرط ذلك أن يحمله شاهدان كما يصنع اليوم القضاة والحكام، وإنما حمل الحكام على شاهدين فى ذلك لما دخل الناس من الفساد، واستعمال الخطوط، ونقوش الخواتم، فاحتيط لتحصين الدماء والأموال بشاهدين. وسيأتى زيادة على هذا المعنى فى باب الشهادة على الخط، وكتاب الحاكم إلى عامله، وكتاب القاضى إلى القاضى فى كتاب الأحكام، إن شاء الله. وفى حديث ابن عباس: بركة دعوة الرسول، لأنه استجيب فى كسرى وطائفته، فمزقوا كل ممزق.

(1/147)


وفى حديث أنس: أن ختم كتب السلطان والقضاة والحكام، سُنَّة متبعة، وإنما كانوا لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا خوفًا على كشف أسرارهم، وإذاعة تدبيرهم، فصار الختم للكتاب سُنَّة بفعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وقيل فى قوله: (إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) [النمل: 29] إنه كان مختومًا.
8 - باب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِى بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا
/ 8 - فيه: أَبُو وَاقِد اللَّيْثِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ، فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال المهلب: فيه من الفقه: أن من جلس إلى حلقة فيها علم - أو ذكر - أنه فى كنف الله وفى إيوائه، وهو ممن تضع له الملائكة أجنحتها، وكذلك يجب على العالم أن يُؤوى من جلس إليه متعلمًا لقوله: تمت فآواه الله -. وفيه من الفقه أن من قصد العلم، ومجالسه، فاستحيا ممن قصده،

(1/148)


ولم يمنعه الحياء من التعلم، ومجالسة العلماء، أن الله يستحى منه فلا يعذبه جزاء استحيائه. وقد قالت عائشة: تمت نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقه فى الدين -، فالحياء المذموم فى العلم هو الذى يبعث على ترك التعلم. وفيه أيضًا أن من قصد العلم ومجالسه، ثم أعرض عنها، فإن الله يعرض عنه، ومن أعرض الله عنه فقد تعرض لسخطه، ألا ترى قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِىَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا) [الأعراف: 175] ، وهذا انسلخ من إيواء الله بإعراضه عنه.
9 - باب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ
- / 9 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَعَدَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ - أَوْ بِزِمَامِهِ - قَالَ: تمت أَىُّ يَوْمٍ هَذَا -؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيَرِ اسْمِهِ، قَالَ: تمت أَلَيْسَ بَيَوْمَ النَّحْرِ -؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: تمت فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا -؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: تمت أَلَيْسَ بِذِى الْحِجَّةِ -؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: تمت فَأَىُّ بَلد هَذَا -؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: تمت أَلَيْسَ البلدة -؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: تمت فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ -.

(1/149)


قال المهلب: فيه من الفقه: أن العالم واجب عليه تبليغ العلم لمن لم يبلغه، وتبيينه لمن لا يفهمه، وهو الميثاق الذى أخذه الله، عزَّ وجلَّ، على العلماء ليُبيننَّهُ للناس ولا يكتمونه. قال المؤلف: وسيأتى بعض شرح هذا المعنى فى باب قوله: ليبلغ الشاهد الغائب بعد هذا، إن شاء الله. قال المهلب: وفيه أنه قد يأتى فى آخر الزمان من يكون له من الفهم فى العلم ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون فى الأقل، لأن تمت رُبّ - موضوعة للتقليل، وتمت عسى - موضوعة للطمع، وتمت ليست - لتحقيق الشىء. وفيه: أن حامل الحديث والعلم يجوز أن يُؤخذ عنه وإن كان جاهلاً معناه، وهو مأجور فى تبليغه، محسوب فى زمرة أهل العلم، إن شاء الله. وقال أبو الزناد: وفيه جواز القعود على ظهور الدواب، إذا احتيج إلى ذلك، ولم يكن لأَشَرٍ، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تتخذوا ظهور الدواب مجالس -، وإنما خطب على البعير ليُسمع الناس، وإنما أمسك إنسان بخطامه ليتفرغ للحديث، ولا يشتغل بإمساك البعير. قال المهلب: وفيه أن ما كان حرامًا، فيجب على العالم أن يؤكد حرمته، ويغلظ فى التحظير عليه بأبلغ ما يجد، بالمعنى، والمعنيين، والثلاثة، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) فى قوله: تمت كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا -.

(1/150)


- باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
لِقَوْلِ اللَّهِ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) [محمد: 19] فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] وَقَالَ: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43] ) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10] وَقَالَ: (هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9] . وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ -، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ - ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّى أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَىَّ لأنْفَذْتُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) [آل عمران: 79] حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ. وَيُقَالُ: الرَّبَّانِىُّ الَّذِى يُرَبِّى النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. قال المهلب: العمل لا يكون إلا مقصودًا لله معنًى متقدمًا، وذلك المعنى هو علم ما وعد الله عليه من الثواب وإخلاص العمل لله تعالى، فحينئذٍ يكون العمل مرجوَّ النفع إذ تقدمه العلم، ومتى خلا العمل من النية، ورجاء الثواب عليه، وإخلاص العمل لله تعالى، فليس بعمل، وإنما هو كفعل المجنون الذى رُفِعَ عنه القلم. وقد بيَّن ذلك (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: تمت الأعمال بالنيات -.

(1/151)


قال: وإنما سمى العلماء ورثة الأنبياء، لقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا) [فاطر: 32] . قال أبو الزناد: وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت أتيت بقدح لبن فشربت، ثم أَعْطَيْتُ فضلى عمر بن الخطاب -، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: تمت العلم -. وقول أبى ذر: تمت لو وضعتم الصمصامة على هذه، ثم ظننت أنى أنفذُ كلمةً سمعتها من النبى (صلى الله عليه وسلم) - فإنه يعنى ما سمع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الفرائض، والسنن، وما ينتفع الناس به فى دينهم مما أخذ الله به الميثاق على العلماء ليُبيننه للناس ولا يكتمونه، وإنما أراد أبو ذرٍ بقوله هذا الحضَّ على العلم والاغتباط بفضله، حين سهل عليه قتل نفسه فى جنب ما يرجو من ثواب نشره وتبليغه. ففى هذا من الفقه أنه يجوز للعالم أن يأخذ فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالشدة، والعزيمة مع الناس، ويحتسب ما يصيبه فى ذلك على الله تعالى، ومباح له أن يأخذ بالرخصة فى ذلك، ويسكت إذا لم يطق على حمل الأذى فى الله، كما قال أبو هريرة: لو حدثتكم بكل ما سمعت من رسول الله لَقُطِعَ هذا البلعوم. وقال صاحب العين: تمت الربانى - نسبة إلى معرفة الربوبية.

(1/152)


- باب مَا كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَىْ لا يَنْفِرُوا
/ 10 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: تمت كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِى الأيَّامِ كَرَاهَيَة السَّآمَةِ عَلَيْنَا -. / 11 - وفيه: أَنَسِ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا -.
- باب مَنْ جَعَلَ لأهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً
/ 12 - فيه: أَبُو وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِى كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، لَوَدَدْنَا أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا فِى كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِى مِنْ ذَلِكَ أَنِّى أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّى أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. قال ابن السكيت: معنى قوله: تمت يتخولنا بالموعظة - أى يصلحنا ويقوم علينا بها، ومنه قول العرب: إنه لخال مال، وخائل مال، وقد خال المال يخوله: أحسن القيام عليه. قال أبو الزناد: أراد (صلى الله عليه وسلم) الرفق بأمته ليأخذوا الأعمال بنشاط وحرص عليها، وقد وصفه الله بهذه الصفة، فقال: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128] .

(1/153)


ومثل هذا الحديث: أمره (صلى الله عليه وسلم) أن لا يصلى أحد وهو ضام بين وركيه، وقوله: تمت ابدءوا بالعَشاء قبل الصلاة -، لئلا يشتغل عن الإقبال على الصلاة، وإخلاص النية فيها. وفى حديث عبد الله: ما كان عليه الصحابة من الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) والمحافظة على استعمال سُننه على حسب معاينتهم لها منه، وتجنب مخالفته لعلمهم بما فى موافقته من عظيم الأجر، وما فى مخالفته من شديد الوعيد والزجر.
- باب مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ
/ 13 - فيه: مُعَاوِيَةَ، سَمِعْتُ الرسول يَقُولُ: تمت مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ -. فيه فضل العلماء على سائر الناس. وفيه فضل الفقه فى الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله، لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنب معاصيه، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] وقال ابن عمر - للذى قال له: فقيه -: إنما الفقيه الزاهد فى الدنيا، الراغب فى الآخرة. ولمعرفة العلماء بما وعد الله به الطائعين، وأوعد العاصين، ولعظيم نعم الله على عباده اشتدت خشيتهم.

(1/154)


وقوله: تمت إنما أنا قاسم - يدل على أنه لم يستأثر من مال الله دونهم، وكذلك قوله: تمت مالى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم -، وإنما قال: تمت إنما أنا قاسم -، تطييبًا لنفوسهم، لمفاضلته فى العطاء. وقوله: تمت والله يعطى -، أى والله يعطيكم ما أقسمه عليكم لا أنا، فمن قسمت له قليلاً فذلك بقدر الله له، ومن قسمت له كثيرًا بقدرٍ أيضًا، وبما سبق له فى أمِّ الكتاب، فلا يزاد أحدٌ فى رزقه، كما لا يزاد أحدٌ فى أجله. وقوله: تمت ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله -، يريد أن أمته آخر الأمم، وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها، وضعف الدين، فلابد أن يبقى من أمته من يقوم به، والدليل على ذلك قوله: تمت لا يضرهم من خالفهم -، وفيه أن الإسلام لا يذل، وإن كثر مطالبوه. فإن قيل: فقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: تمت لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد الله الله -، وروى ابن مسعود، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تقوم الساعة إلا على

(1/155)


شرار الناس -، رواه شعبة، عن على بن الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، وهذه معارضة لحديث معاوية. قال الطبرى: ولا معارضة بينهما بحمد الله، بل يحقق بعضها بعضًا، وذلك أن هذه الأحاديث خرج لفظها على العموم، والمراد منها الخصوص، ومعناه لا تقوم الساعة على أحدٍ يُوحد الله إلا بموضع كذا، فإن به طائفة على الحق، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس بموضع كذا، لأن حديث معاوية ثابت، ولا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحق التى توحد الله التى هى شرار الناس. فثبت أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير الموصوفين بأنهم على الحق مقيمون. وقد جاء ذلك بَيِّنًا فى حديث أبى أمامة الباهلى، وحديث عمران بن حصين، قال الطبرى: حدثنا محمد بن الفرج، حدثنا ضمرة بن ربيعة، حدثنا يحيى بن أبى عمرو الشيبانى، عن عمرو بن عبد الله الحمصى، عن أبى أمامة الباهلى، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم -، قيل: فأين هى يا رسول الله؟ قال: تمت ببيت المقدس، أو أكناف بيت المقدس -. وروى قتادة عن مطرف بن الشخير، عن عمران بن حصين، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال -. قال مطرف: وكانوا يرون أنهم أهل الشام.
- باب الْفَهْمِ فِى الْعِلْمِ
/ 14 - فيه: مُجَاهِدٍ، قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النِّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلا حَدِيثًا وَاحِدًا: كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأُتِىَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: تمت إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ -، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت هِىَ النَّخْلَةُ -.

(1/156)


قال المؤلف: التفهم للعلم هو التفقه فيه، ولا يتم العلم إلا بالفهم، وكذلك قال على: والله ما عندنا إلا كتاب الله، أو فهم أُعطيه رجل مؤمن. فجعل الفهم درجة أخرى بعد حفظ كتاب الله، لأن بالفهم له تبين معانيه وأحكامه. وقد نفى (صلى الله عليه وسلم) العلم عمن لا فهم له بقوله: تمت رب حامل فقهٍ لا فقه له -. وقال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يضعه الله فى القلوب، يعنى بذلك فهم معانيه واستنباطه. فمن أراد التفهم فليحضر خاطره، وبفرغ ذهنه، وينظر إلى نشاط الكلام، ومخرج الخطاب، ويتدبر اتصاله بما قبله، وانفصاله منه، ثم يسأل ربه أن يلهمه إلى إصابة المعنى، ولا يتم ذلك إلا لمن علم كلام العرب، ووقف على أغراضها فى تخاطبها وأُيِّدَ بِجَوْدَةِ قريحة، وثاقب ذهن، ألا ترى أن عبد الله بن عمر فهم من نشاط الحديث فى نفس القصة أن الشجرة هى النخلة، لسؤاله (صلى الله عليه وسلم) لهم عنها حين أُتى بالجمار، وقوى ذلك عنده بقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ) [إبراهيم: 24] . وقال العلماء: هى النخلة، شبهها الله بالمؤمن. وقول مجاهد: تمت إنه صحب ابن عمر إلى المدينة، فلم يحدّث

(1/157)


إلا حديثًا واحدًا -، فذلك، والله أعلم، لأنه كان متوقِّيًا للحديث عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد كان عَلِمَ قول أبيه، رضى الله عنهما: أَقِلُّو الحديث عن رسول الله، وأنا شريككم.
- باب الاغْتِبَاطِ فِى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ
وَقَالَ عُمَرُ، رضِى اللَّه عنه: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا / 15 - فيه: ابن مَسْعُودٍ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا -. قال المفسر: هذا الحسد الذى أباحه (صلى الله عليه وسلم) ليس من جنس الحسد المذموم، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) ذلك فى بعض طرق هذا الحديث، فقال فيه: تمت فرآه رجل - يعنى ينفق المال ويتلو الحكمة، فيقول: ليتنى أوتيت مثل ما أوتى ففعلت مثل ما يفعل، فلم يتمنَّ أن يسلب صاحب المال ماله، أو صاحب الحكمة حكمته، وإنما تمنى أن يصير فى مثل حاله، من تفعّل الخير، وتمنى الخير والصلاح جائز وقد تمنى ذلك الصالحون والأخيار، ولهذا المعنى ترجم البخارى لهذا الباب باب الاغتباط فى العلم والحكمة، لأن من أوتى مثل هذه الحال فينبغى أن يغتبط بها وينافس فيها. وفيه من الفقه أن الغنى إذا قام بشروط المال، وفعل فيه ما يرضى الله، فهو أفضل من الفقير الذى لا يقدر على مثل حاله. وقول عمر: تمت تفقهوا قبل أن تسودوا -، فإن من سوده الناس يستحيى أن يقعد مقعد المتعلم خوفًا على رئاسته عند العامة.

(1/158)


وقال مالك: كان الرجل إذا قام من مجلس ربيعة إلى خطبة أو حكم، لم يرجع إليه بعدها. وقال يحيى بن معين: من عاجل الرئاسة فاته علم كثير.
- بَاب مَا ذُكِرَ فِى ذَهَابِ مُوسَى (صلى الله عليه وسلم) فِى الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ
وَقَوْلِهِ: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف: 66] / 16 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِىُّ فِى صَاحِبِ مُوسَى، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّى تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِى هَذَا فِى صَاحِبِ مُوسَى الَّذِى سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ: تمت بَيْنَمَا مُوسَى فِى مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ -. وذكر الحديث. فيه: من الفقه السفر والرحلة فى طلب العلم فى البرِّ والبحر. وقد ترجم له بذلك، وزاد فيه: تمت أن جابر بن عبد الله رَحَلَ مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس فى حديث واحد، يعنى حديث الستر على المسلم -.

(1/159)


وفيه: جواز التمارى فى العلم إذا كان كل واحدٍ يطلب الحقيقة ولم يكن متعنتًا. وفيه: الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع. وفيه: أنه يجب على العالم الرغبة فى التزيد من العلم، والحرص عليه، ولا يقنع بما عنده، كما فعل موسى ولم يكتف بعلمه. وفيه: أنه يجب على حامل العلم لزوم التواضع فى علمه، وجميع أحواله، لأن الله تعالى عتب على موسى حين لم يرد العلم إليه، وأراه من هو أعلم منه. وفيه: حمل الزاد وإعداده فى السفر بخلاف قول الصوفية.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ
- / 17 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، ضَمَّنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: تمت اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ -. والكتاب هاهنا القرآن عند أهل التأويل، قالوا: كل موضع ذكر الله فيه الكتاب فالمراد به القرآن. وفيه: بركة دعوة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن ابن عباس كان من الأخيار الراسخين فى علم القرآن والسنة، أجيبت فيه الدعوة. وفيه: الحض على تعلم القرآن والدعاء إلى الله فى ذلك. وروى البخارى هذا الحديث فى فضائل الصحابة، وقال فيه: تمت اللهم علمه الحكمة -، ووقع فى كتاب الوضوء: تمت اللهم فقه فى الدين -، وتأوَّل جماعة من الصحابة والتابعين فى قوله تعالى:

(1/160)


) يُؤتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيراً) [البقرة: 269] . وتأولوا فى قوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران: 48] أنها السنة التى سنها الرسول بوحى من الله، وكلا التأويلين صحيح، وذلك أن القرآن حكمة أحكم الله فيه لعباده حلاله وحرامه، وبَيَّن لهم فيه أمره ونهيه، فهو كما وصفه تعالى فى قوله: (وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) [القمر: 4، 5] وكذلك سنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حكمة، فصل بها بين الحق والباطل، وبيَّن لهم مجمل القرآن، ومعانى التنزيل، والفقه فى الدين، فهو كتاب الله وسنة نبيه، (صلى الله عليه وسلم) ، فالمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ.
- باب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ؟
/ 18 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تمت أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ - وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَىْ بَعْضِ الصَّفوف، وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِى الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَىَّ -. / 19 - وفيه: مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: تمت عَقَلْتُ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مَجَّةً مَجَّهَا فِى وَجْهِى وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ -. قال صاحب العين: مَجَّ الشَراب من فيه: رمى به.

(1/161)


وقال المهلب: فيه جواز سماع الصغير وضبطه للسُّنن. وفيه: جواز شهادة الصبيان بعد أن يكبروا، فيما علموه فى حال الصغر. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: أخرج البخارى فى هذا الباب حديث ابن عباس، ومحمود بن الربيع، وأصغر سنا منهما عبد الله بن الزبير، ولم يخرجه يوم رأى أباه يختلف إلى بنى قريظة فى غزوة الخندق، فقال لأبيه: يا أبتاه، رأيتك تختلف إلى بنى قريظة، فقال: يا بنى إن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمرنى أن آتيه بخبرهم، والخندق على أربع سنين من الهجرة، وعبد الله أول مولود ولد فى الهجرة. قال المهلب: فيه أن التقدم إلى القعود لسماع الخطبة، إذا لم يضر أحدًا، والخطيب يخطب، جائز بخلاف إذا تخطى رقابهم. وفيه: أن الصاحب إذا فعل بين يدى الرسول شيئًا ولم ينكره، فهو حجة يُحكم به. وفيه: جواز الركوب إلى صلاة الجماعة والعيدين. وفيه: أن الإمام يجوز أن يصلى إلى غير سُترة، وذلك يدل أن الصلاة لا يقطعها شىء. وسيأتى اختلاف العلماء فى المرور بين يدى المصلى، فى كتاب الصلاة، إن شاء الله.

(1/162)


- باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ
/ 20 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِى دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ -. وَقَالَ إِسْحَاقُ: تمت قَيَّلَتِ الْمَاءَ -، مكان تمت قَبِلَت -. قال المهلب: فيه ضرب الأمثال فى الدين، والعلم، والتعليم. وفيه: أنه لا يقبل ما أنزل الله من الهدى والدين إلا من كان قبله نقيا من الإشراك والشك. فالتى قَبِلَت العلم والهُدى كالأرض المتعطشة إليه، فهى تنتفع به فتحيا فتنبت. فكذلك هذه القلوب البريئة من الشك والشرك، المتعطشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وَعَت العلم حَيَتْ به، فعملت وأنبتت بما تحيا به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه. ومن الناس من قلوبهم متهيئة لقبول العلم لكنها ليس لها رسوخ، فهى تقبل وتمسك حتى يأتى متعطش فيروىَ منها ويَرِدُ على

(1/163)


منهل يحيا به، وتسقى به أرض نقيَّة فتنبت وتثمر، وهذه حال من ينقل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه. تمت ومنها قيعان - يعنى قلوبًا تسمع الكلام، فلا تحفظه، ولا تفهمه، فهى لا تنتفع به، ولا تنبت شيئًا، كالسِّباخ المالحة التى لا تمسك الماء ولا تنبت كلأ. وكان يصلح أن يُخرج تحت هذه الترجمة قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت خيركم من تعلم القرآن وعلمه -. وقوله: تمت أجادب - جمع جدب على غير لفظه، وكان القياس أن يكون جمع تمت أجدب - لو قيل، وقد جاء مثل هذا كثير، قالوا: محاسن جمع حسن، وكان القياس أن يكون جمع تمت محسن - لو قيل. وقالوا: متشابه جمه تمت شبه - على غير لفظه، وكان القياس أن يكون مشتبه. وقول إسحاق: تمت قيَّلت الماء مكان قبلت - فهو تصحيف وليس بشىءٍ.
- باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ
وَقَالَ رَبِيعَةُ: لا يَنْبَغِى لأحَدٍ عِنْدَهُ شَىْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ. / 21 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِى، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: تمت إِن مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ -. يحتمل

(1/164)


قول أنس: تمت لا يحدثكم أحدٌ بعدى -، أن يكون لأجل طول عمره، وأنه لم يبق من أصحاب النبى غيره، ويمكن أن يكون قاله لما رأى من التغيير ونقص العلم، فوعظهم بما سمع من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى نقص العلم أنه من أشراط الساعة، ليحضهم على طلب العلم، ثم أتى بالحديث على نصه. ومعنى قول ربيعة: أن من كان له قبول للعلم وفهم له، فقد لزمه من فرض طلب العلم ما لا يلزم غيره، فينبغى له أن يجتهد فيه، ولا يضيع طلبه فيضيع نفسه.
- باب فَضْلِ الْعِلْمِ
/ 22 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) يقول: تمت بَيْنَما أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ، حَتَّى إِنِّى لأرَى الرِّىَّ يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِى، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالُوا: مَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْمَ -. وقد تقدم فى أول تمت كتاب العلم - من فضل العلم ما يرغب فى طلبه، وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى تمت كتاب الرؤيا - إن شاء الله.
- باب الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا
/ - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، تمت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: تمت اذْبَحْ وَلا حَرَجَ. وَجَاءَ آخَرُ. . . - الحديث.

(1/165)


فيه من الفقه: أن العالم يجوز سؤاله راكبًا وماشيًا، وواقفًا، وعلى كل أحواله، وقد تقدم أن الجلوس على الدابة للضرورة جائز، كما كان جلوسه (صلى الله عليه وسلم) عليها فى حجته ليشرف على الناس، ولا يخفى عليهم كلامه لهم. وترجم البخارى لهذا الحديث بعد هذا الباب. 23 - باب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ / 24 - وذكر: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تمت أَنَّ نَبِىُّ اللَّهِ سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ، وزاد فيه، فَأَوْمَأَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، بِيَدِهِ، وَقَالَ: وَلا حَرَجَ -. / 25 - وذكر: حديث أَبَى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت يَكْثُرُ الْهَرْجُ - قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا - كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ. / 26 - وذكر: حديث أَسْمَاءَ فى الْكُسُوفِ: وأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، أَن نَعَمْ - وذكر الحديث. ففى حديث ابن عباس، وأبى هريرة الإشارة باليد عند الفتوى وفى حديث أسماء الإشارة بالرأس، كما ترجم. قال أبو الزناد فيه من الفقه: أن الرجل إذا أشار بيده أو برأسه، أو بشىء يفهم به إشارته أنه جائز عليه. وفيه: حجة لمالك فى إجازة لعان المرأة الصماء البكماء ومبايعتها ونكاحها، إذ الإشارة تقوم مقام الكلام، ويفهم بها المعنى المقصود، وسيأتى فى كتاب الطلاق، فى باب الإشارة فى الطلاق والأمور، اختلف الفقهاء فى ذلك، ويأتى شىء منه أيضًا فى باب اللعان، إن شاء الله.

(1/166)


وفى حديث أسماء أن المؤمنين فى قبورهم، وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان، لأنه لا يمثل به إلا مخلوق.
- باب تَحْرِيضِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَفْدَ عَبْدِالْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ لَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ -. / 27 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: تمت إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوُا النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نصل إليك إِلا فِي الشَهْرٍ الحَرَامٍ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ. . . -، وذكر الحديث، وَقَالَ: تمت احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوا بهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ -. فيه من الفقه: أن من علم علمًا يلزمه تبليغه لمن لا يعلمه، وهو اليوم من فروض الكفاية، لظهور الإسلام وانتشاره، وأما فى أول الإسلام فكان فرضًا معينًا على كل من علم علما أن يبلغه، حتى يكمل الإسلام ويظهر على جميع الأديان، ويبلغ مشارق الأرض ومغاربها، كما أنذر به أمته (صلى الله عليه وسلم) ، فلزم العلماء فى بدء الإسلام من فرض التبليغ فوق ما يلزمهم اليوم. وفيه: أنه يلزم المؤمن تعليم أهله الإيمان، والفرائض لعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وأخبروا به من وراءكم -، ولقوله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] ، ولأن الرجل راع على أهله ومسئول

(1/167)


عنهم، وقد تقدم الكلام فى حديث وفد عبد القيس فى باب أداء الخمس من الإيمان فى آخر كتاب الإيمان فأغنى عن إعادته، وسيأتى شىء منه فى باب خبر الواحد إن شاء الله.
- باب الرِّحْلَةِ فِى الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ، وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ
/ 28 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبِى إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّى قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ، وَالَّتِى تَزَوَّجَ بِهَا، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِى، وَلا أَخْبَرْتِنِى، فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ -؟ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. فيه: الرحلة فى المسألة النازلة، كما ترجم، وهذا يدل على حرصهم على العلم، وإيثارهم ما يقربهم إلى الله تعالى والازدياد من طاعته عز وجل لأنهم إنما كانوا يرغبون فى العلم للعمل به، ولذلك شهد الله لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس. وقال الشعبى: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن لحفظ كلمة تنفعه فيما بقى من عمره، لم أَرَ سفره يضيع. فيه: فضل المدينة، وأنها معدن العلم، وإليها كان يفزع فى العلم من سائر البلاد. وسيأتى الكلام فى حديث عقبة فى كتاب الرَّضاع، والبيوع وغيره، إن شاء الله.

(1/168)


- باب التَّنَاوُبِ فِى الْعِلْمِ
/ 29 - فيه: عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِى مِنَ الأنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِىَ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْىِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. . - وذكر الحديث. فيه: الحرص على طلب العلم. وفيه: أن لطالب العلم أن ينظر فى معيشته وما يستعين به على طلب العلم. وفيه: قبول خبر الواحد. وفيه: أن الصحابة كان يخبر بعضهم بعضًا بما يسمع من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ويقولون: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ويجعلون ذلك كالمسند، إذ ليس فى الصحابة من يكذب، ولا غير ثقةٍ. هذا قول طائفة من العلماء، وهو قول من أجاز العمل بالمراسيل، وبه قال أهل المدينة، وأهل العراق. وقالت طائفة: لا نقبل مرسل الصاحب، لأنه مرسل عن صاحب مثله، وقد يجوز أن يسمع ممن لا يضبط كوافد وأعرابى لا صحبة له، ولا تعرف عدالته، ألا ترى أن عمر لما وَقَّف أبا هريرة على روايته عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له -، قال: لا علم لى بذلك، وإنما أخبرنيه مخبر، هذا قول الشافعى، واختاره القاضى ابن الطيب.

(1/169)


- باب الْغَضَبِ فِى الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ
/ 30 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِىِّ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلانٌ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غَضب فِى مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ: تمت أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ -. / 31 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: تمت اعْرِفْ وِكَاءَهَا، أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ -، قَالَ: فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، أَوْ قَالَ: وَجْهُهُ، وَقَالَ: تمت مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا. . . -، وذكر الحديث. / 32 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: سُئِلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: تمت سَلُونِى عَمَّا شِئْتُمْ -، قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِى؟ قَالَ: تمت أَبُوكَ حُذَافَةُ -، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: تمت أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ -، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وترجم لهذا الحديث: 28 - باب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ وذكر باقى الحديث. قال أبو الزناد: قول الرجل: تمت لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان - يدل أنه كان رجلاً مريضًا أو ضعيفًا، فكان إذا طوَّل به الإمام فى القيام لا يكاد يبلغ الركوع والسجود، إلا وقد زاد ضعفًا عن

(1/170)


اتباعه، فلا يكاد يركع معه ولا يسجد، وإنما غضب عليه، لأنه كره التطويل فى الصلاة من أجل أن فيهم المريض، والضعيف وذا الحاجة، فأراد الرفق والتيسير بأمته، ولم يكن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الطول فى الصلاة من أجل أنه لا يجوز ذلك، لأنه كان (صلى الله عليه وسلم) يصلى فى مسجده، ويقرأ بالسور الطوال، مثل سورة يوسف وغيرها، وإنما كان يفعل هذا، لأنه كان يصلى معه جلةُ أصحابه، ومن أكثر همه طلب العلم والصلاة، وكذلك غضبه حين سُئل عن ضالة الإبل، لأنه لا يخشى عليها ضياع، ففارق المعنى الذى أُبيح من أجله أخذ اللقطة، وهو خوف تلفها. وقول الرجل للرسول: تمت مَنْ أَبِى -؟ فإنما سأله عن ذلك، والله أعلم، لأنه كان نُسب إلى غير أبيه إذا لاحى أحدًا فنسبه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى أبيه. وفيه: فهم عمر وفضل علمه، لأنه خشى أن يكون كثرة سؤالهم له كالتعنيت له، والشَّك فى أمره (صلى الله عليه وسلم) ألا ترى قول عمر: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، فخاف أن تحل بهم العقوبة، لتعنيتهم له (صلى الله عليه وسلم) ولقول الله تعالى: (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] . وقد جاء معنى هذا الحديث بَيِّنًا عن ابن عباس، قال: تمت كان قوم يسألون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استهزاءً، فيقول الرجل: من أبى؟ ويقول الرجل يَضل ناقته: أين ناقتى؟ فنزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ (الآية كلها، ذكره البخارى فى تفسير القرآن.

(1/171)


وفيه: أنه لا يجب أن يُسأل العالم إلا فيما يحتاج إليه. وفى بروك عمر عند النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الاستجداء للعالم، والتواضع له، وسيأتى حديث ابن حذافة فى باب التعوذ من الفتنة فى كتاب الفتن، وفى باب ما يكره من كثرة السؤال، وتكلف ما لا يعنى فى كتاب الاعتصام. فيه شىء من الكلام فى معناه.
- باب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلاثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا يَزَالَ يُكَرِّرُهَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت هَلْ بَلَّغْتُ -، ثَلاثًا. / 33 - فيه: أَنَس، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا، حَتَّى يُفْهَمَ عَنْهُ، فَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاثًا. / 34 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا، وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلاةَ، صَلاةَ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -، مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا. قال أبو الزناد: إنما كان يكرر الكلام ثلاثًا، والسلام ثلاثًا

(1/172)


إذا خشى أن لا يفهم عنه، أو لا يسمع سلامه، أو إذا أراد الإبلاغ فى التعليم، أو الزجر فى الموعظة. وفيه: أن الثلاث غاية ما يقع به البيان والإعذار به.
30 - باب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ
/ 35 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: تمت ثَلاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يطأها فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ -. ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِىِّ: أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وقَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت مؤمن أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين - هو كقوله: تمت إذا أسلم فحسن إسلامه كتبت له كل حسنة كان ذلفها -، وكقوله لحكيم بن حزام: تمت أسلمت على ما سلف من خير -، والعبد المملوك له أجر عبادته لله، تعالى، وأجر طاعته لسيده، وتحمله مضض العبودية، والإذعان لحقوق الرق، والذى يعتق أمته فيتزوجها فله أجر العتق والتزويج، وأجر التأديب والتعليم. ومن فعل هذا فهو مفارق للكبر، آخذ بحظٍ وافرٍ من التواضع، وتارك للمباهاة بنكاح ذات شرفٍ ومنصب.

(1/173)


وقول الشعبى: تمت أعطيناكها بغير شىء -، فيه أن للعالم أن يُعرِّف المتعلم منه قدر ما أفاده من العلم، وما خصه به، ليكون ذلك أدعى لحفظه، وأجلب لحرصه. وقوله: تمت وقد كان يرحل فى مثلها إلى المدينة - فيه إثبات فضل المدينة، وأنها معدن العلم وموطنه، وإليها كان يرحل فى طلبه ويقصد فى التماسه. فإن احتج بقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت ثم أعتقها فتزوجها - من قال: إن عتق الأمة صداقها. فيقال له: إن الأمة لما عتقت لحقت بالحرائر. فكما لا يجوز أن تتزوج حرة غير معتقة دون صداق، كذلك لا يجوز أن تتزوج المعتقة بغير صداق، لأن الصداق من فرائض النكاح وإنما لم يذكر فى الحديث للعلم به.
31 - باب عِظَةِ الإمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ
/ 36 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَوْ قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الرَسُولَ خَرَجَ وَمَعَهُ بِلالٌ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ النساء، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ، وَبِلالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ.

(1/174)


فيه: أنه يجب على الإمام افتقاد أمور رعيته، وتعليمهم ووعظهم، الرجال والنساء فى ذلك سواء، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الإمام راع ومسئول، ثم عن رعيته - فدخل فى ذلك الرجال والنساء، وأمر النساء بالصدقة لما رآهن أكثر أهل النار، ففيه دليل أن الصدقة تنجى من النار. وقيل: إنما أمرهن بالصدقة، لأنه كان وقت حاجة إلى المواساة، وكانت الصدقة يومئذ أفضل وجوه البِرّ.
32 - باب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ
/ 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلُنِى عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ -. قال المهلب: فيه أن الحريص على الخير والعلم يبلغ بحرصه إلى أن يسأل عن غامض المسائل، ودقيق المعانى، لأن المسائل الظاهرة إلى الناس كافة يستوى الناس فى السؤال عنها، لاعتراضها فى أفكارهم، وما غمض من المسائل، ولطف من المعانى، لا يسئل عنها إلا راسخ بَحَّاث، يبعَثُه على ذلك الحرص، فيكون ذلك سببًا إلى إثارة فائدة يكون له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

(1/175)


وفيه: أن للعالم أن يتفرس فى متعلميه، فيظن فى كل واحد مقدار تقدمه فى فهمه، وأن ينبهه على تفرسه فيه، ويعرفه ذلك، ليبعثه على الاجتهاد فى العلم والحرص عليه. وفيه: أن للعالم أن يسكت إذا لم يسأل عن العلم حتى يسأل عنه، ولا يكون كاتمًا، لأن على الطالب أن يسأل، قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] ، وليس للعالم أن يسكت إذا رأى تغييرا فى الدين إذا علم أن ذلك لا يضره، ثم على العالم أن يبين إذا سئل، فإن لم يبين بعد أن يسأل فقد كتم، إلا أن يكون له عذر فيعذر. وفيه: أن الشفاعة إنما تكون فى أهل الإخلاص خاصة، وهم أهل التصديق بوحدانية الله، ورسله، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت خالصًا من قلبه، أو نفسه -. وقوله: تمت أول منك - يعنى قبلك. وقال سيبويه: هى بمنزلة أقدم منك. وقال السيرافى: يقال: هذا أول منك، ورأيت أول منك، ومررت بأول منك، فإذا حذفوا تمت منك - قالوا: هو الأول، ولا يقولوا: الأول منك، لأن الألف واللام تعاقب منك.

(1/176)


33 - باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ؟
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: تمت انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ، وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلا تَقْبَلْ إِلا حَدِيثَ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لا يَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا -. / 38 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو، قَالَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا -. قال المؤلف: فى أمر عمر بن عبد العزيز بكتاب حديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خاصَّة، وأن لا يقبل غيره الحض على اتباع السنن وضبطها، إذ هى الحجةُ عند الاختلاف، وإليها يلجأ عند التنازع، فإذا عدمت السنن ساغ لأهل العلم النظر، والاجتهاد على الأصول. وفيه: أنه ينبغى للعلماء نشر العلم وإذاعته. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن الله لا ينزع العلم من العباد -، فمعنى ذلك أن الله لا يهب العلم لخلقه، ثم ينتزعه بعد أن تفضَّل به عليهم، والله يتعالى أن يسترجع ما وهب لعباده من علمه الذى يؤدى إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بتضييع التعلُّم فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر (صلى الله عليه وسلم) بقبض الخير كله، ولا ينطق عن الهوى.

(1/177)


34 - باب هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فِي الْعِلْمِ
/ 39 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَتِ النِّسَاءُ: يَا رسول اللَّه غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: تمت مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ -، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ؟ قَالَ: تمت وَاثْنَيْنِ -. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تمت يَبْلُغُوا الْحِنْثَ -. فيه: الترجمة. وفيه: سؤال النساء عن أمر دينهن، وجواز كلامهن مع الرجال فى ذلك، فيما لهن الحاجة إليه. وقد أُخِذَ العلم عن أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وعن غيرهن من نساء السلف. وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الجنائز فى باب فضل من مات له ولدٌ فاحتسبه، إن شاء الله.
35 - باب لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ
/ 40 - فيه: أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِى أَيُّهَا الأمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَاىَ، وَوَعَاهُ قَلْبِى، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَاىَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تمت إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ،

(1/178)


وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِى فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ -. فَقِيلَ لأبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، لا تُعِيذُ عَاصِيًا وَلا فَارًّا بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. / 41 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ -. قال المؤلف: لما أخذ الله على أنبيائه الميثاق فى تبليغ دينه، وتبيينه لأمتهم، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، وجب عليهم تبليغ الدين، ونشره حتى يظهر على جميع الأديان، وقد بينا قبل هذا أن كل من خاطبه (صلى الله عليه وسلم) بتبليغ العلم فيمن كان فى عصره فقد تَعَيَّن عليه فرض التبليغ، وأما اليوم فهو من فروض الكفاية، لانتشار الدين وعمومه. وفى قول أبى شريح لعمرو حين رآه يبعث البعوث إلى مكة لقتال ابن الزبير: تمت ائذن لى أحدثك -، فيه من الفقه: أنه يجب على العالم الإنكار على الأمير إذا غَيَّر شيئًا من الدين، وإن لم يسأل العالم عن ذلك. واختلف أبو شريح، وعمرو بن سعيد فى تأويل هذا الحديث،

(1/179)


فحمله أبو شريح على العموم، وحمله عمرو على الخصوص، فكلاهما ذهب إلى غير مذهب صاحبه، فذهب أبو شريح إلى أن حُرْمة مكة ثابتة، لا يجوز أن تستباح بفتنة، ولا تُنْصَبُ عليها حرب لقتال أحدٍ أبدًا بعدما حرمها الله عزَّ وجلَّ، لأنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) حين نصب الحرب عليها لقتال المشركين، وفرغ من أمرهم أنها لله حَرَمٌ، ولم تحل لأحدٍ كان قبله، ولا تحل لأحد بعده، وإنما حلت له ساعة من نهار، وهى الساعة التى فتحها، ثم عادت حرمتها كما كانت قبل ذلك. فاحتج أبو شريح بالحديث على وجهه. ونهى عمرو بن سعيد عن بعث الخيل إلى قتال ابن الزبير بمكة خشية أن تستباح حرمتها، وابن الزبير عند علماء أهل السنة أولى بالخلافة من يزيد، وعبد الملك، لأنه بُويع لابن الزبير قبل هؤلاء، وهو من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد قال مالك: إن ابن الزبير أولى من عبد الملك. وأما قول عمرو لأبى شريح: تمت أنا أعلم منك، إن مكة لا تعيذ عاصيًا، ولا فارًا بدمٍ، ولا فارًا بخربة -، فليس هذا بجواب لأبى شريح، لأنه لم يختلف معه فى أن من أصاب حدًا فى غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يجوز أن يقام عليه فى الحرم، أم لا؟ وإنما أنكر عليه أبو شريح بعثه الخيل إلى مكة، واستباحة حُرمتها، ونصب الحرب عليها، فأحسن فى استدلاله، وحَاد عمرو عن الجواب، وجاوبه عن غير سؤاله، وهو الرجل يصيب حدًا فى غير الحرم، هل يعيذه الحرم؟ وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحج، إن شاء الله.

(1/180)


وأما قول عمرو بن سعيد لأبى شريح: تمت أنا أعلم منك -، فإن العلماء اخنلفوا فى الصاحب إذا روى الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، هل يكون أولى بتأويله ممن يأتى بعده أم لا؟ فقالت طائفة: تأويل الصحابى أولى، لأنه الراوى للحديث، وهو أعلم بمخرجه وسببه. وقالت طائفة: لا يلزم تأويل الصاحب إذا لم يصب التأويل واحتجوا بحديث أبى القعيس فى تحريم لبن الفحل، وقالوا: قد أفتت عائشة بخلافه، وهى راوية الحديث، فكان يدخل عليها من أرضعته أخواتها، ولا يدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها، وهذا ترك منها للقول بما روته من تحريم لبن الفحل، فلم يلتفت مالك ولا الكوفويون، والشافعى إلى تأويلها، وأخذوا بحديثها. وكذلك فعلوا فى حديث ابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خَيَّر بريرة بعد أن اشترتها عائشة وأعتقتها. وكان ابن عباس يفتى بأن بيع الأمة طلاقها، وحديثه هذا مخالف لفتواه، لأنه لو كان بيعها طلاقها لم تُخَيَّر وهى مطلقة فى أن تطلق نفسها بعده. وذهب أئمة الفتوى إلى أن بيع الأمة ليس بطلاق لها على ما جاء فى الحديث. وكذلك حديث عائشة: تمت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين -، ترك الكوفيون، وإسماعيل ابن إسحاق فتوى عائشة بخلاف روايتها، وأخذوا بالحديث، وقالوا: القصر فى السفر فريضة، ورواه أشهب، عن مالك.

(1/181)


وقالت طائفة: هو مخير بين القصر والإتمام، وهو قول الشافعى، والأبهرى، وابن القصار. وروى أبو مصعب عن مالك، أنه قال: قصر الصلاة فى السفر سُنَّة. ومن روى فى حديث أبى شريح تمت بخُربةٍ - بضم الخاء، فالخربة: الفساد فى الدين، عن صاحب العين. ومن رواه بفتح الخاء، فمعناه السرقة، قال صاحب الأفعال: خرب الرجل خربًا، وخرابة: سرق الإبل. قال الأصمعى: الخرابة: سرقة الإبل خاصة.
36 - باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِىِّ - (صلى الله عليه وسلم)
- / 42 - فيه: عَلىّ بن أَبِى طَالب، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تَكْذِبُوا عَلَىَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ -. / 43 - وفيه: ابن الزُّبَيْرِ أنَّه قَالَ لأَبِيهِ: إِنِّى لا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا يُحَدِّثُ فُلانٌ وَفُلانٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّى لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تمت مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -.

(1/182)


/ 44 - وفيه: أَنَس، قَالَ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت مَنْ تَعَمَّدَ عَلَىَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. / 45 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. / 46 - وفيه: سَلَمَةَ بن الأكوع، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ تَقَوَّل عَلَىَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. قال الطبرى: إن قيل: معنى قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : تمت فليتبوأ مقعده من النار - أهو إلى الكاذب بتبوء مقعده من النار فيؤمر بذلك، أم ذلك إلى الله؟ فإن يكن ذلك إليه فلا شك أنه لا يُبَوِّء نفسه ذلك، وله إلى تركه سبيل. وإن يكن ذلك إلى الله، فكيف أمر بتبوء المقعد، وأمرُ العبدِ بما لا سبيل إليه غَيْرُ جائز؟ . قيل: معنى ذلك غير ما ذكرت، وهو بمعنى الدعاء منه (صلى الله عليه وسلم) على من كذب عليه، كأنه قال: مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتعمدًا بَوَّأَهُ اللهُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، ثم أخرج الدعاء عليه مخرج الأمر له به وذلك كثير فى كلام العرب. فإن قيل: ذلك عامٌ فى كل كذب فى أمر الدين، وغيره أو فى بعض الأمور؟ . قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فقال بعضهم: معناه الخصوص، والمراد: من كذب عليه فى الدين، فنسب إليه تحريم حلال، أو تحليل حرام متعمدًا.

(1/183)


وقال آخرون: بل كان ذلك منه (صلى الله عليه وسلم) فى رجل بعينه كذب عليه فى حياته، وادَّعى عند قوم أنه بعثه إليهم ليحكم فى أموالهم ودمائهم. فأمر (صلى الله عليه وسلم) بقتله إن وجد، أو بإحراقه إن وُجِد ميتًا. وقال آخرون: ذلك عام فيمن تعمد عليه كذبًا فى دين أو دنيا، واحتجوا بتهيب الزبير، وأنس كثرة الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وبقول عمر: أقلوا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا شريككم. وقالوا: لو كان ذلك فى شخص بعينه لم يكن لاتقائهم ما اتقوا من ذلك، ولا لحذرهم ما حذروا من الزلل فى الرواية والخطأ وجه مفهوم، والصواب فى ذلك أن قوله على العموم فى كل من تعمد عليه كذبًا فى دين أو دنيا، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان ينهى عن معانى الكذب كلها إلا ما رخَّص فيه من كذب الرجل لامرأته، وكذلك فى الحرب، والإصلاح بين الناس، وإذا كان الكذب لا يصلح فى شىءٍ إلا فى هذه الثلاث، فالكذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أجدر ألا يصلح فى دين ولا دنيا، إذْ الكذب عليه ليس كالكذب على غيره. وأن الدعاء الذى دعا على من كذب عليه لأحق بمن كذب عليه فى كل شىء. وقال الشيخ أبو الحسن بن القابسى: من أجل حديث على، وحديث الزبير هاب من سمع الحديث أن يحدث الناس بما سمع،

(1/184)


وهو بيِّن فى اعتذار الزبير من تركه الحديث، لأنهما لم يذكرا عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : تمت متعمدًا -. ولقد دار بين الزهرى وربيعة مُعاتبة، فقال ربيعة للزهرى: أنا إنما أُخبرُ الناسَ بِرَأْى إن شَاءوا أخذوا، وإن شاءوا تركوا، وأنت إنما تخبرهم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فانظر ما تخبرهم به. وإنما امتنع الناس فى الرواية، لما فى حديث أبى هريرة: تمت من كذب علىَّ متعمدًا -، وكرهوا الإكثار لقول أنس: إنه ليمنعنى أن أحدثكم حديثًا كثيرًا. وقد كره الإكثار من الرواية عمر بن الخطاب، وقال: أَقِلُّوا الحديث عن رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) ، وأنا شريككم. قال مالك: معناه وأنا أيضًا أقلِّ الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . رواه ابن وهب عنه. وإنما كره ذلك لما يُخَاف على المُكْثِر من دخول الوهم عليه، فيكون متكلفًا فى الإكثار، فلا يعذر فى الوهم، ولذلك قال مالك لابنى أخته: إن أردتما أن ينفعكما الله بهذا العلم فأقلا منه، وتفقَّها. وقال شعبة لكتبة الحديث: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ وإنما يريد شعبة عيب الإكثار، لما يدخل فى ذلك من اختلاط الأحاديث. وقد سهل مالك فى إصلاح الحرف الذى لا يشك فى سقوطه، مثل الألف والواو يسقط أحدهما من الهجاء، وأما اللحن فى الحديث فهو شديد.

(1/185)


وقال الشعبى: لا بأس أن يعرب الحديث إذا كان فيه اللحن. وقال أحمد بن حنبل: يجب إعراب اللحن، لأنهم لم يكونوا يلحنون، وإنما جاء اللحن بعدهم. وقال ابن القابسى: أخبرنى محمد بن هشام المصرى، أنه سأل أبا عبد الرحمن النسائى، عن اللحن فى الحديث، فقال: إن كان شيئًا تقولُهُ العربُ، وإن كان فى غير لغة قريش فلا يُغَيَّر، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يكلم الناس بلسانهم، وإن كان لا يوجد فى كلام العرب، فرسول الله لا يلحن. واختلفوا فى رواية الحديث على المعنى، فقال أبو بكر بن الطيب: ذهب كثير من السلف إلى أنه لا تجوز رواية الحديث على المعنى، بل يجب تأدية لفظهِ بعينه من غير تقديم ولا تأخير، ولم يفصلوا بين العالم بمعنى الحديث وغيره. وذهب مالك، والكوفيون، والشافعى إلى أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب، ومعانى الألفاظ، رواية الحديث على المعنى. وليس بين العلماء خلاف، أنه لا يجوز ذلك للجاهل. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الواجب على المحدث، أن يروى الحديث على لفظه إذا خاف وقوع لبس فيه متى غَيَّر لفظه، وذلك بأن يكون معناه غامضًا محتملاً للتأويل، فأما إن كان معناه ظاهرًا معلومًا فلا بأس أن يرويه على المعنى.
37 - باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ
/ 47 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِىِّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لا،

(1/186)


إِلا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. / 48 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِى لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ لهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ: تمت إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، أَوِ الْقَتْلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى -، وذكر الحديث. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اكْتُبْ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: تمت اكْتُبُوا لأبِى فُلانٍ -. / 49 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّى، إِلا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلا أَكْتُبُ. / 50 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَجَعُهُ، قَالَ: تمت ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ [كِتَابًا] لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ -، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: تمت قُومُوا عَنِّى، وَلا يَنْبَغِى عِنْدِى التَّنَازُعُ -، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ كِتَابِهِ. قال المؤلف: فى آثار هذا الباب إباحة كتابة العلم وتقييده، ألا ترى أن الرسول أمر بكتابه؟ فقال: تمت اكتبوا لأبى فلان -، وقد كتب على الصحيفة التى قرنها بسيفه، وكتب عبد الله بن عمرو.

(1/187)


وقد كره قوم كتابة العلم، واعتلوا بأن كتابة العلم سبب لضياع الحفظ. والقول الأول أولى للآثار الثابته بكتابة العلم. ومن الحجة لذلك أيضًا ما اتفقوا عليه من كتاب المصحف الذى هو أصل العلم، فكتبته الصحابة فى الصحف التى جمع منها المصحف، وكان للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كُتَّاب يكتبون الوحى. وإنما كره كتابه من كرهه، لأنهم كانوا حفاظًا، وليس كذلك من بعدهم، فلو لم يكتبوه ما بقى منه شىء لنبوِّ طباعهم عن الحفظ، ولذلك قال الشعبى: إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو فى الحائط. وقال المهلب: فى حديث علىِّ من الفقه ما يقطع بدعة المتشيعة المدعين على علىِّ أنه الوصى، وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يخص به غيره، لقوله ويمينه: أن ما عنده إلا ما عند الناس من كتاب الله تعالى، ثم أحل على الفهم الذى الناس فيه على درجاتهم، ولم يخص نفسه بشىء غير ما هو ممكن فى غيره فصح بهذا وثبت من إقراره على نفسه أنه ليس بوصى للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقد جاء حديث أبى جحفة عند على لفظ العهد، فقال له: هل عهد إليك رسول الله بشىء لم يعهده إلى الناس؟ فأجابه بالحديث. وحديث ابن عباس يشهد لهذا المعنى، لأنه (صلى الله عليه وسلم) رَامَ أن

(1/188)


يعهد فى مرضه بقوله: تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم لا تضلوا بعده - فاختلفوا فترك ذلك، فلو كان عند علىٍّ عهد منه أو وصية لأحال عليها، وكشف أمرها. واحتج من قال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، دخل مكة عنوة، بقوله: تمت إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين -، وهو قول الجمهور، وإنما خالفه فى ذلك الشافعى وحده. وسيأتى ذكر ذلك فى كتاب الحج عند حديث ابن خطل إن شاء الله. وفى قول عمر: حسبنا كتاب الله، حين قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم - فيه من فقه عمر وفضله أنه خشى أن يكتب النبى أمورًا ربما عجز عنها فاستحق عليها العقوبة، وإنما قال: حسبنا كتاب الله، لقوله: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [الأنعام: 38] ، فعلم أن الله تعالى لا يتوفى نبيه حتى يكمل لهم دينهم، لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3] ، فقنع عمر بهذا، وأراد الترفيه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لاشتداد مرضه وغلبة الوجع عليه. فعمر أفقه من ابن عباس حين اكتفى بالقرآن الذى أكمل الله فيه الدين، ولم يكتف بذلك ابن عباس، وسيأتى هذا المعنى أيضًا فى باب النهى على التحريم إلا ما يعرف إباحته، فى كتاب الاعتصام، إن شاء الله. وفى قوله: تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم - دليل على أن للإمام أن

(1/189)


يوصى عند موته بما يراه نظرًا للأمة، وفى تركه الكتاب إباحة الاجتهاد، لأنه أوكلهم إلى أنفسهم واجتهادهم.
38 - باب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ
/ 51 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ أَيْقِظُوا صواحب الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَة -. قال المهلب: فيه دليل أن الفتن تكون فى المال، وغيره لقوله: تمت ماذ أنزل من الفتن، وماذا فتح من الخزائن -، وكذلك قال حذيفة لعمر: فتنة الرجل فى أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة. وقوله: تمت أيقظوا صواحب الحُجَر - يعنى أزواجه للصلاة والاستعاذة مما نزل ليكونوا أولى من استعاذ من فتن الدنيا. وفيه: أن للرجل أن يوقظ أهله بالليل لذكر الله وللصلاة، ولا سيما عند آية تحدث، أو مأثور رؤيا مخوفة، وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من رأى رؤيا مخوفة فكرها أن ينفث عن يساره، ويستعيذ بالله من شرها، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه: 132] . وقوله: تمت رب كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة - يحتمل أن تكون

(1/190)


الكاسيات مما لا يسترهن من واصف الثياب ورقيقه، فهى كاسية عارية، فربما عوقبت فى الآخرة بالتعرية والفضيحة التى كانت تبتغى فى الدنيا، ويحتمل أن تكون رُبَّ كاسيةٍ فى الدنيا لها المال تكتسى به رفيع الثياب وتكون عارية من الحسنات فى الآخرة، فَنَدَبَهَن إلى الصدقة، وحضهن على ترك السرف فى الدنيا، بأن يأخذن منها بأقل الكفاية ويتصدقن بما سوى ذلك. وسيأتى هذا المعنى فى كتاب الصلاة، فى باب تحريض النبى (صلى الله عليه وسلم) على صلاة الليل، وفى كتاب الفتنة، فى باب لا يأتى زمان إلا الذى بعده شر منه بزيادة فيه، إن شاء الله.
39 - باب السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ
/ 52 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، صَلَّى الرَّسُولُ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، فَقَالَ: تمت أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَحَدٌ -. / 53 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِىُّ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: نَامَ الْغُلَيِّمُ - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا - ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، أَوْ خَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ.

(1/191)


فيه: أن السَّمَر بالعلم والخير مباح، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) أخبرهم بعد العشاء أنه لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد إلى رأس مائة سنة، وإنما أراد - والله أعلم - أنه هذه المدة تخترم الجيل الذى هم فيه، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أنها ليست تطول أعمارهم كأعمار من تقدم من الأمم ليجتهدوا فى العبادة. وقد سمر السلف الصالح فى مذاكرة العلم. وقد روى شريك، عن ليث، عن أبى بردة، عن أبى موسى الأشعرى، قال: أتيت عمر أكلمه فى حاجة بعد العشاء، فقال: هذه الساعة؟ فقلت: إنه شىء من الفقه، قال: نعم، فكلمته، فذهبت لأقوم فقال: اجلس، فقلت: الصلاة، فقال: إِنَّا فى صلاة، فلم نزل جلوسًا حتى طلع الفجر. حدثنا به محمد بن حسان، قال: حدثنا محمد بن معاوية القرشى، قال: حدثنا ابن يحيى المروزى، قال: حدثنا عاصم بن علقمة، عن شريك. واختلف قول مالك فى هذه المسألة، فقال مرة: الصلاة أحبُّ إلىَّ من مذاكرة العلم، وقال فى موضع آخر: إن العناية بالعلم أفضل إذا صحت النية. ويذكر عن سحنون أنه قال: يلتزم أثقلهما عليه. وقال أبو الزناد: السَّامِر فى بيت ميمونة، كان ابن عباس. وفيه: من فضل ابن عباس، وحدقه على صغر سِنِّه أنه رصد الرسول (صلى الله عليه وسلم) طول ليلته، يدل على ذلك قوله فى الحديث: تمت فصلى

(1/192)


أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغُلَيِّمُ؟ - مستفهمًا لميمونة، وذكر أنه عاين أفعال النبى (صلى الله عليه وسلم) كلها طول ليلته، وقد جاء هذا المعنى فى بعض طرق الحديث. ذكر فى كتاب الدعاء، فى باب الدعاء إذا انتبه من الليل، عن ابن عباس، قال: نام النبى (صلى الله عليه وسلم) عند ميمونة، ثم قام فتوضأ وضوءًا بين وضوئين لم يكثر، وقد أبلغ فصلى فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أنى كنت أرصده، فتوضأت فقمت عن يساره. . . وذكر الحديث. وقيل: إن العباس كان أوصاه بمراعاة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ليطلع على عمله بالليل. وإنما يكره السَّمَرُ إذا كان فى غير طاعة، وأحبوا أن يجعلوا الصلاة آخر أعمالهم بالليل، وكرهوا الحديث بعد العتمة، لأن النوم وفاة، فأحبوا أن يناموا على خير أعمالهم. وقد كان ابن عمر إذا تكلم أو قضى شيئًا من أموره قبل نومه قام فصلى ثم نام، ولم يفعل بين نومه وصلاته شيئًا. وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب الصلاة. وتمت الغطيط - صوت النائم، قال صاحب العين: غَطّ النائم يَغُطُّ غطيطًا. وقال ابن دريد: غطيط النائم أعلى من النخير، وكذلك المخنوق والمذبوح. وقوله: تمت أو خطيطه - شك من المحدث، ولم أجدها عند أهل اللغة بالخاء، والله أعلم.

(1/193)


42 - باب حِفْظِ الْعِلْمِ
/ 54 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى (إِلَى قَوْلِهِ: (الرَّحِيمُ) [البقرة 159 - 160] إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ شَغَلَهُمْ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأنْصَارِ كَانَ شَغَلَهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ لشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لا يَحْفَظُونَ. (1) / 55 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ، قَالَ: تمت ابْسُطْ رِدَاءَكَ -. فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تمت ضُمَّهُ -. فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ. (2) / 56 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. قال أبو الزناد: فيه حفظ العلم والدءوب عليه، والمواظبة على طلبه، وهى فضيلة لأبى هريرة، فضله (صلى الله عليه وسلم) بها بأن قال له: تمت ابسط رداءك، ثم قال: ضمه -، فما نسى شيئًا بعد. وجاء هذا الحديث فى كتاب البيوع، وقال فيه: تمت فما نسيتُ من مقالته تلك من شىء -، وهذا من بركة النبى (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: فضل التقلل من الدنيا، وإيثار طلب العلم على طلب المال. وفيه: أنه جائز للإنسان أن يخبر عن نفسه بفضله إذا اضطر إلى

(1/194)


ذلك، لاعتذار من شىء، أو لتبيين ما يلزمه تبيينه إذا لم يقصد بذلك الفخر. وقوله: تمت وأما الآخر لو بثثته قطع هذا البلعوم -، قال المهلب، وأبو الزناد: يعنى أنها كانت أحاديث أشراط الساعة، وما عرف به (صلى الله عليه وسلم) من فساد الدين، وتغيير الأحوال، والتضييع لحقوق الله تعالى، كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت يكون فساد هذا الدين على يدى أغيلمة سفهاء من قريش -، وكان أبو هريرة يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم، فخشى على نفسه، فلم يُصَرِّح. وكذلك ينبغى لكل من أمر بمعروف إذا خاف على نفسه فى التصريح أن يُعَرِّض. ولو كانت الأحاديث التى لم يحدث بها من الحلال والحرام ما وَسِعَهُ تركها، لأنه قال: لولا آيتان فى كتاب الله ما حدثتكم، ثم يتلو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) [البقرة: 159] . فإن قال قائل: قول أبى هريرة: تمت حفظت من النبى (صلى الله عليه وسلم) وعاءين -، يعارض قوله: تمت ما كان أحد من أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أكثر حديثًا منى إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب -، فقوله: تمت لا أكتب -، خلاف قوله: تمت حفظت وعاءين -، لأن الوعاء فى كلام العرب: الظرف الذى يجمع فيه الشىء. قيل: لقوله هذا معنًى صحيح لا يخالف بعضه بعضًا، وذلك أنه

(1/195)


يجوز أن يريد أبو هريرة أن الذى حفظ من النبى من السنن التى حدث بها وحملت عنه لو كتبت لاحتملت أن يملأ منها وعاء، وما كتم من أحاديث الفتن لو حدث بها يخشى أن ينقطع منه البلعوم، يحتمل أن تملأ وعاء آخر، ولهذا المعنى قال: وعاءين، ولم يقل: وعاء واحدًا، لاختلاف حكم المحفوظ فى الإعلام به والستر له. وقال ثابت: البلعوم هو الحلقوم، وهو مجرى النفس إلى الرئة. قال أبو عبيد: هو البَلْعَمُ والبُلْعُوم. قال ثابت: والمرىء مجرى الطعام والشراب إلى المعدة متصل بالحلقوم، وهو المبتلع والمسترط.
41 - باب الإنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ
/ 57 - فيه: جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: تمت اسْتَنْصِتِ النَّاسَ -، فَقَالَ: تمت لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ -. قال أبو الزناد: الإنصات للعلماء، والتوقير لهم، لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء، وقد أمر الله عباده المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يجهروا له بالقول خوف حبوط أعمالهم، وكان عبد الرحمن بن مهدى إذا قرأ حديث

(1/196)


الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر الناس بالسكوت، وقرأ: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ) [الحجرات: 2] ، ويتأول أنه يجب من الإنصات والتوقير عند قراءة حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) مثل ما يجب له (صلى الله عليه وسلم) ، فكذلك يجب توقير العلماء والإنصات لهم، لأنهم الذين يحيون سنته، ويقومون بشريعته. وقال شريك: كان الأعمش لا يتجاوز صوته مجلسهُ إجلالاً للعلم. وقال مطرف: كان مالك إذا أراد الحديث عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، اغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا، ثم تحدث، إجلالاً لحديثه (صلى الله عليه وسلم) . وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: كان يُستحب أن لا يُقرأ أحاديث النبى إلا على وضوءٍ. قال شعبة: كان قتادة لا يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا وهو على طهارة. وحكى مالك عن جعفر بن محمد، مثله. وكان الأعمش إذا أراد أن يحدث، وهو على غير وضوء تَيَمَّمَ. وقال ابن أبى الزناد: ذكر سعيد بن المسيب حديثًا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو مريض، فقال: أجلسونى، فإنى أُعْظِمُ أن أحدث حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا مضطجع. وقال ابن أبى أويس: كان مالك إذا جلس للحديث يقول: ليلينى منكم ذووا الأحلام والنهى، فربما قعد الفعنبى عن يمينه، وهذا كله من إجلال النبى (صلى الله عليه وسلم) وتوقيره.

(1/197)


42 - باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ أَن يَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
/ 58 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: عن أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَطِيبًا فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِى بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَثَمَّ هُوَ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ ابْنِ نُونٍ، وَحَمَلا حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا، فَنَامَا، فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا -. قال المؤلف: روى عن أُبىّ بن كعب أنه قال: أعجب موسى بعلمه فعاقبه الله بما لقى مع الخضر، وكان ينبغى أن يقول: الله أعْلَمُ أىُّ الناس أعلم، لأنه لم يُحِط علمًا بكل عالم فى الدنيا، وقد قالت الملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا. وسئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الروح وغيره، فقال: لا أدرى حتى أسأل الله تعالى، وقد قال تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36] فيجب على من سئل عما لا يعلم، أن يقول: لا أعلم. وقد قال مالك: جُنَّة العالم لا أدرى، فإذا أخطأها أصيبت مقاتله. قال مالك: وكان الصديق يُسأل فيقول: لا أدرى، وأحدهم اليوم

(1/198)


يأنف أن يقول: لا أدرى، فليس المجترئ لحدود الإسلام كالذى يموج ويلعب. وقال مالك: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغى للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدرى، حتى يكون أصلاً فى أيديهم. وقوله تعالى: (نَسِيَا حُوتَهُمَا) [الكهف: 61] إنما نَسِيَهُ يوشع فتى موسى ومتعلمه، فأضيف النسيان إليهما جميعًا، والدليل على أن فتاهُ نسيهُ قوله: (فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف: 63] كما قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) [الأنعام: 130] ، وإنما الرسل من الإنس. وقوله: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا) [الكهف: 66] لم يسأله موسى عن شىء من دينه، لأن الأنبياء لا تجهل شيئًا من دينها الذى تعبدت به أمتها، وإنما سأله عما لم يكن عنده علمه مما ذكر فى السورة. قال المهلب: وقوله: (لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ) [الكهف: 74] روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: تمت كان طبع الغلام كافرًا، ولو أدرك أبويه لأرهقهما طغيانًا وكفرًا -، وهو معنى قوله: (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) [الكهف: 80] فدل أنه لو بلغ لكان كذلك. فإن قيل: فقد روى البخارى عن ابن عباس أنه كان يقرأ: وكان أبواه مؤمنين، وكان كافرًا فأوجب الله له الكفر فى الحال. فالجواب: أنه إنما سماه كافرًا لما يئول إليه أمره لو عاش، وهذا

(1/199)


جائز فى اللغة أن يسمى الشىء بما يئول إليه، قال تعالى: (إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا) [يوسف: 36] ، وإنما يعصر العنب لا الخمر. ووجه استباحة القتل لا يعلمهُ إلا الله تعالى ولله أن يميت من شاء من خلقه قبل البلوغ وبعده، ولا فرق بين قتله وموته، كل ذلك لا اعتراض عليه فيه، لا يُسأل عما يفعل. قال المؤلف: وفى قصة الخضر أصل عظيم من أصول الدين، وذلك أن ما تعبَّدَ الله به خلقه من شريعته ودينه، يجب أن يكون حجة على العقول، ولا تكون العقول حجةً عليه، ألا ترى أن إنكار موسى على الخضر خرق السفينة، وقتل الغلام، كان صوابًا فى الظاهر، وكان موسى غير ملوم فى ذلك، فلما بَيَّن الخضر وجه ذلك ومعناه، صار الصواب الذى ظهر لموسى من إنكاره خطأ، وصار الخطأ الذى ظهر لموسى من فعل الخضر صوابًا، وهذا حجةٌ قاطعة فى أنه يجب التسليم لله فى دينه، ولرسوله فى سنته، وبيانه لكتاب ربه، واتهام العقول إذا قصرت عن إدراك وجه الحكمة فى شىء من ذلك، فإن ذلك محنة من الله لعباده، واختبار لهم ليتم البلوى عليهم. ولمخالفة هذا ضل أهل البدع حين حكموا عقولهم وَرَدُّوا إليها ما جهلوه من معانى القدر وشبهه، وهذا خطأ منهم، لأن عقول العباد لها نهاية، وعلم الله لا نهاية له، قال الله عز وجل: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة: 255] ، فما أخفاه عنهم فهو سِرُّ الله الذى استأثر به، فلا يحل تعاطيه، ولا يُكلَّف طلبه، فإن المصلحة للعباد فى إخفائه منهم، والحكمة فى طَيَّه عنهم إلى يوم تُبلى السرائر، والله هو

(1/200)


الحكيم العليم، قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71] . وقوله: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى) [الكهف: 82] يدل أنه فعله بوحى من الله بذلك إليه، ويشهد لهذا وجوهٌ من نفس القصة، منها: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتل نفسًا لما يتوقع وقوعه منها بعد حين مما يوجب عليها القتل، لأن الحدود لا تجب إلا بعد وقوعها. وأيضًا فإنه لا يقطع على فعل أحد قبل بلوغه، ولا يعلمه إلا الله، لأن ذلك إخبار عن الغيب. وكذلك الإخبار عن أخذ الملك السفينة غصبًا، والإخبار أيضًا عن بنيانه الجدار من أجل الكنز الذى تحته ليكون سببًا إلى استخراج الغلامين له إذا احتاجا إليه مراعاة لصلاح أبيهما، وهذا كله لا يدرك إلا بوحى من الله تعالى. وفى هذا الحديث: أن الخضر أقام الجدار بيده، وفى كتاب الأنبياء، قال سفيان: فأومأ بيده، وهذه آية عظيمة لا يقدر الناس على مثلها، وهى تشبه آية الأنبياء. وهذا كله حجة لمن قال بنبوة الخضر. وذكر الطبرى عن ابن عباس، قال: فكان قول موسى فى الجدار لنفسه، ولطلب شىء من الدنيا، وكان قوله فى السفينة والغلام لله. قال المهلب: وهو حجة لمن قال بنبوة الخضر.

(1/201)


وفى هذا الحديث من الفقه استخدام الصاحب لصاحبه ومتعلمه إذا كان أصغر منه. وفيه: أن العالم قد يكرم، بأن تقضى له حاجة، أو يوهب له شىء، ويجوز له قبول ذلك، لأن الخضر حُمِل بغير أجر وهذا إذا لم يتعرض لذلك. وفيه: أنه يجوز للعالم، والرجل الصالح أن يُعِيبَ شيئًا لغيره إذا علم أن لصاحبه فى ذلك مصلحة. وأما قول أُبىِّ بن كعب لنوف: تمت كذب عدو الله - فإنما خرج ذلك على طريق الغضب، والإبلاغ فى التقريع، لأنه أراد بذلك خروجه عن ولاية الله وعن الدين، وألفاظ الغضب يؤتى بها على غير طريق الحقيقة فى الأكثر، وكان نوف قاضيًا. وذكر سعيد بن جبير: أن نوفًا ابن أخى كعب الأحبار. وقوله: بغير نول، يرد بغير جُعْلٍ، والنول والنَّال، والنَالة، كله الجُعْل، فأما النيل والنوال فإنهما العطية ابتداءً، يقال: رجل نال إذا كان كثير النول، ورجلان نالان، وقوم أنوال، كما قالوا: رجل مال: أى كثير المال، وكبش صاف: كثير الصوف، ويقال: نلت الرجل أنوله نولا، ونلت الشىء أناله نيلا، عن الخطابى. وقال صاحب تمت العين -: أنلته المعروف ونلته ونولته، والاسم: النوال، والنَّيْل، ويقال: نال يَنال منالا، ونَالَهُ، والنَّوْلَة اسم للقبلة.

(1/202)


43 - باب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا
/ 59 - فيه: أَبُو مُوسَى، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ ، فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا، قَالَ: تمت مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -. فيه: جواز سؤال العالم وهو واقف، كما ترجم، لعذر، أو لشغل، ولا يكون ذلك تركًا لتوقير العالم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر ذلك عليه، ولا أمره بالجلوس. وجواب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بغير لفظ سؤاله، والله أعلم، من أجل أن الغضب والحمية قد يكونان لله عز وجل، ولعرض الدنيا، وهو كلام مشترك، فجاوبه النبى (صلى الله عليه وسلم) بالمعنى لا بلفظ الذى سأله به السائل، إرادة إفهامه وخشية التباس الجواب عليه لو قسم له وجوه الغضب والحمية، وهذا من جوامع الكلم الذى أوتيه (صلى الله عليه وسلم) .
44 - باب السُّؤَالِ وَالْفُتوى عِنْدَ رَمْىِ جِمَارِ العَقَبة
/ 60 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: تمت ارْمِ وَلا حَرَجَ -، قَالَ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ: تمت انْحَرْ وَلا حَرَجَ -، فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلا قَالَ: تمت افْعَلْ وَلا حَرَجَ -.

(1/203)


ومعنى هذا الباب أنه يجوز أن يسأل العالم عن العلم ويجيب وهو مشتغل فى طاعة الله، لأنه لا يترك الطاعة التى هو فيها إلا إلى طاعةٍ أخرى.
45 - باب قَوْلِ اللَّه: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) [الإسراء 85]
/ 61 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ، لا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ: تمت) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (-[الأسراء: 85] قَالَ الأعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا. قال المهلب: هذا يدل على أن من العلم أشياء لم يُطلع الله عليها نبيًا، ولا غيره، أراد الله تعالى أن يختبر بها خلقه فيوقفهم على العجز عن علم ما لا يدركون حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه، ألا تسمع قوله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة: 255] ، فعلم الروح مما لم يشأ تعالى أن يُطْلعِ عليه أحد من خلقه.

(1/204)


46 - باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقعُ فِى أَشَدَّ مِنْهُ
/ 62 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَوْلا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ منه، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ - فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. قال المهلب: فيه أنه قد يترك شيئًا من الأمر بالمعروف إذا خشى منه أن يكون سببًا لفتنة قوم ينكرونه ويسرعون إلى خلافه واستبشاعه. وفيه: أن النفوس تحب أن تساس بما تأنس إليه فى دين الله من غير الفرائض، بأن يترك ويرفع عن الناس ما ينكرون منها. قال أبو الزناد: إنما خشى أن تنكره قلوب الناس لقرب عهدهم بالكفر، ويظنون أنما يفعل ذلك لينفرد بالفخر دونهم. وقد روى أن قريشًا حين بنت البيت فى الجاهلية تنازعت فى من يجعل الحجر الأسود فى موضعه، فحكموا أول رجل يطلع عليهم، فطلع النبى (صلى الله عليه وسلم) فرأى أن يجعل الحجر فى ثوب، وأمر كل قبيلة تأخذ بطرف الثوب، فرضوا بذلك، ولم يروا أن ينفرد بذلك واحد منهم خشية أن ينفرد بالفخر. فلما ارتفعت الشبهة فعل ابن الزبير فيه ما فعل، فجاء الحجاج فَرَدَّهُ كما كان، فتركه من بعده خشية أن يتلاعب الناس بالبيت، ويكثر هدمه وبنيانه.

(1/205)


وقد استدل أبو محمد الأصيلى من هذا الحديث فى مسألة من النكاح، وذلك أن جارية يتيمة غنية كان لها ابن عم، وكان فيه ميل إلى الصبا فخطب ابنة عمه وخطبها رجل غنى، فمال إليه الوصى وكانت اليتيمة تحب ابن عمها ويحبها، فأبى وصيها أن يزوجها منه ورفع ذلك إلى القاضى وشاور فقهاء وقته فكلهم أفتى أن لا تزوج من ابن عمها، وأفتى الأصيلى أن تزوج منه، خشية أن يقعا فى المكروه، استدلالا بهذا الحديث، فزوجت منه.
47 - باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهَةَ أَلا يَفْهَمُوا
/ 63 - وَقَالَ عَلِىٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. / 64 - فيه: أَنَسُ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) - قَالَ لِمُعَاذِ - وهو رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، فَقَالَ: تمت يَا مُعَاذَ -، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلاثًا، قَالَ: تمت مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ -، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُون؟ قَالَ: تمت إِذًا يَتَّكِلُوا -. وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.

(1/206)


(1) / 65 - وفيه: أَنَسَ، قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لِمُعَاذِ: تمت مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ -، قَالَ: أَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ تمت لا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا -. قال المهلب: فيه أنه يجب أن يُخَصَّ بالعلم قوم لما فيهم من الضبط وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لقصير فهمه، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) ، وقد قال مالك بن أنس: تمت من إذالة العالم أن يجيب كل من سأله -، وإنما أراد ألا يوضع العلم إلا عند من يستحقه ويفهمه. وفيه: أن من عِلَمَ علمًا - والناس على غيره من أخذٍ بشدة، أو ميلٍ إلى رخصة - كان عليه أن يودعه مستأهله ومن يظن أنه يضبطه كما فعل معاذ حين حدث به بعد أن نهاه النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أن يخبر به خوف الاتكال، فأخبر به عند موته خشية أن يدركه الإثم فى كتمانه. ومعنى قوله: تمت حرمه الله على النار - أى حرمه الله على الخلود فى النار، لثبوت قوله: تمت أخرجوا من النار من فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان -، ولإجماعهم أنه لا تسقط عنه مظالم العباد، هذا تأويل أهل السنة، والحديث عندهم على الخصوص، وهو خلاف مذهب الخوارج الذين يقولون بتخليد المؤمنين بذنوبهم فى النار. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت من لقى الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة -

(1/207)


تمت ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة - فروى عن السلف فى تأويله ما ذكر الطبرى، قال: حدثنا محمد بن على بن الحسن ابن شقيق، قال: سمعت أبى يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن الحسين بن عمران، عن الزهرى، أنه سئل عن الحديث تمت من قال لا إله إلا الله دخل الجنة - قال: حدثنى سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، أن ذلك كان قبل نزول الفرائض. وذكر أبو عبيد، عن ابن أبى خيثمة، قال: حدثنا أبى، قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، قال: سأل هشام بن عبد الملك، الزهرى، فقال: حدثنا بحديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق -، فقال الزهرى: أين يذهب بك يا أمير المؤمنين؟ كان هذا قبل الأمر والنهى. وذكر الطبرى، حدثنا ابن حميد، حدثنا حماد بن سلمة، عن الحسن بن عميرة، قال: قيل للحسن: من قال: تمت لا إله إلا الله دخل الجنة؟ - فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفريضتها دخل الجنة. وذكر أبو عبيد، عن عطاء بن أبى رباح أنه قيل له: إن فى المسجد عمر بن ذر، ومسلم النحات، وسالم الأفطس يقولون: من زنى، وسرق، وقذف المحصنات، وأكل الربا، وعمل بالمعاصى أنه مؤمن كإيمان البر التقى الذى لم يعص الله، فقال عطاء: أبلغهم ما حدثنى به أبو هريرة: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا يقتل المؤمن حين يقتل وهو مؤمن، ولا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو

(1/208)


مؤمن - فذكرت ذلك لسالم الأفطس وأصحابه، فقالوا: أين حديث أبى الدرداء تمت وإن زنى وإن سرق - فذكرت ذلك لعطاء، فقال: كان هذا ثم نزلت الحدود والأحكام بعد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا إيمان لمن لا أمانة له - وتمت لايفتك مؤمن. . . -. وذكر البخارى حديث أبى الدرداء، وحديث أبى ذر فى كتاب الاستئذان، فى باب من أجاب بلبيك وسعديك، وذكر حديث أبى ذر أيضًا فى كتاب اللباس، فى باب الثياب البيض. قال أبو ذر: قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة - قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: تمت وإن زنى وإن سرق، ثلاث مرات، وإن رغم أنف أبى ذر -، وفسره البخارى قال: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله غفر له. وقول البخارى: تمت إذا تاب - يعنى إذا تحلل من مظالم العباد، وتاب من ذنوبه التى بينه وبين الله تعالى. والتأثم: إلغاء الإثم عن نفسه، وقد تقدم فى كتاب بدء الوحى، وسيأتى ما للعلماء فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يزنى الزانى وهو مؤمن - فى أول كتاب الحدود، إن شاء الله.

(1/209)


48 - باب الْحَيَاءِ فِى الْعِلْمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْىٍ وَلا مُسْتَكْبِرٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِى الدِّينِ. / 66 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ -، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: تمت نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟ -. / 67 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: تمت مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا هِىَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِى مَا هِيَ؟ - فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِى بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِى، فَقَالَ: لأنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِى كَذَا وَكَذَا -. قال المؤلف: إنما أراد البخارى بهذا الباب ليبين أن الحياء المانع من طلب العلم مذموم، ولذلك بدأ بقول مجاهد وعائشة، وأما إذا كان الحياء على جهة التوقير والإجلال فهو حسن كما فعلت أم سلمة حين غطت وجهها، وقولها: إن الله لا يستحيى من الحق، فإن الاستحياء من الله غير الاستحياء من المخلوقين، وهو من الله تعالى الترك، وكذا قال أهل التفسير فى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً) [البقرة: 26] ، بمعنى لا يترك أن يضرب مثلا، وإنما قالوا ذلك،

(1/210)


لأن الحياء هو الانقباض بتغيير الأحوال، وحدوث الحوادث فيمن يتغير به، لا يجوز على الله. وقولها: تمت لا يستحيى من الحق - يقتضى أن الحياء لا يمنع من طلب الحقائق. وفيه: أن المرأة تحتلم، غير أن ذلك نادر فى النساء، ولذلك أنكرته أم سلمة. وقوله: تمت تربت يمينك - هى كلمة تقولها العرب ولا تريد وقوع الفقر فيمن تخاطبه بها إذا لم يكن أهلا لذلك، كما يقول: قاتله الله ما أسعده، وهو لا يريد قتله الله، وسيأتى تفسيرها لأهل اللغة فى كتاب الأدب إن شاء الله. وقوله: تمت فبم يشبهها ولدها - يعنى إذا غلب ماء المرأة ماء الرجل أشبهها الولد، وكذلك إذا غلب ماء الرجل أشبهه الولد، ومن كان منه إنزال الماء عند الجماع أمكن منه إنزال الماء عند الاحتلام. قال المهلب: فى تمنى عمر، رضى الله عنه، أن يجاوب ابنه النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بما وقع فى نفسه فيه من الفقه أن الرجل مباح له الحرص على ظهور ابنه فى العلم على الشيوخ، وسروره بذلك. وقيل: إنما تمنى له عمر ذلك رجاء أن يسر النبى بإصابته، فيدعو له، فينفعه الله بدعائه. وقد كان عمر بن الخطاب يسأل ابن عباس، وهو صغير مع شيوخ الصحابة. وذكر ابن سلام أن الحطيئة أتى مجلس عمر بن الخطاب فنظر إلى ابن عباس قد قرع الناس بلسانه، فقال: من هذا الذى نزل عن القوم فى سنه ومدته وتقدمهم فى قوله وعلمه.

(1/211)


وقالت العلماء: العالم كبير وإن كان حدثًا، والجاهل صغير وإن كان شيخًا. وفيه: أن الابن الموفق العالم أفضل مكاسب الدنيا، لقوله: تمت لأن كنت قلتها أحب إلى من كذا وكذا -. وفى سماع أشهب، عن مالك أنه سئل عن المصلى لله يقع فى نفسه أنه يجب أن يعلم، ويجب أن يلقى فى طريق المسجد، ويكره أن يلقى فى طريق غيره، فقال: إذا كان أول فعله لله فلا أرى بذلك بأسا، وإن المرء ليحب أن يكون صالحًا، وإن هذا ليكون من الشيطان مصدق فيقول: إنك لتحب أن يعلم ليمنعه ذلك، وهذا أمر يكون فى القلب لا يملك، فإذا كان أصله لله لم أر بذلك بأسا، قد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما شجرة لا يسقط ورقها - فقال ابن عمر: فوقع فى نفسى أنها النخلة، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا، وقال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى) [طه: 39] ، وقال: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) [الشعراء: 84] .
49 - باب مَنِ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ
/ 68 - فيه: عَلِىِّ، كُنْتُ رَجُلا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: تمت فِيهِ الْوُضُوءُ -. إنما استحيا على أن يسأل رسول الله لمكان ابنته، وهذا الحياء محمود، لأنه لا يمتنع به من تعلم ما جهل وبعث من يقوم مقامه فى ذلك، ففيه: الحياء من الأصهار فى ذكر أمور الجماع وشبهه.

(1/212)


وفيه: قبول خبر الواحد.
50 - باب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ
/ 69 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا سَأَل النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: تمت لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعِمَامَةَ، وَلا السَّرَاوِيلَ، وَلا الْبُرْنُسَ، وَلا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرانُ أو الْوَرْسُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا، حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ -. قال المهلب: فيه من الفقه أنه يجوز للعالم إذا سئل عن الشىء أن يجيب بخلافه، إذا كان فى جوابه بيان ما سئل عنه وتحديده، ألا ترى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سئل عما يلبس المحرم، فأجاب بما لا يلبس؟ إذ معلوم أن ما سوى ذلك مباح للمحرم، فأما الزيادة على سؤال السائل فقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين - فهذه زيادة وإنما زاده لعلمه بمشقة السفر وقلة وجود ما يحتاج إليه من الثياب فيه، ولما يلحق الناس من الحفى بالمشى، رحمة لهم وتنبيهًا على منافعهم، وكذلك يجب للعالم أن ينبه الناس فى المسائل على ما ينتفعون به، ويتسعون فيه، ما لم يكن ذريعة إلى ترخيص شىء من حدود الله. ونهيه له عن الوَرْسِ والزعفران، قطع للذريعة إلى الطيب للمحرم لما فيهما من دواعى النساء، وتحريك اللذة والله الموفق. آخر كتاب العلم

(1/213)