شرح صحيح
البخارى لابن بطال بسم الله الرحمن الرحيم
4 - كِتَاب الْوُضُوءِ
- باب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ
وَقَوْلِ اللَّهِ: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة: 6] . قَالَ أَبُو عَبْد
اللَّهِ: وَبَيَّنَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ
فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَتَوَضَّأَ أَيْضًا
مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلاثًا وَثَلاثًا، وَلَمْ
يَزِدْ عَلَى ثَلاثٍ، وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ
الإسْرَافَ فِيهِ، وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) . قال المؤلف: قال الطحاوى وغيره:
اختلف أهل العلم فى القيام المذكور فى هذه الآية، فقال
بعضهم: كل قائم إلى صلاة مكتوبة فقد وجب عليه الوضوء قبل
قيامه إليها، قالوا: وهذا كقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ) [النحل: 98] ، أى إذا أردت أن تقرأ القرآن
فاستعذ بالله. ورووا ذلك عن على بن أبى طالب منقطعًا. وروى
شعبة، عن مسعود بن على، أن على بن أبى طالب، كان يتوضأ لكل
صلاة ويتلو: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ)
[المائدة: 6] الآية. وممن كان يتوضأ لكل صلاة وإن كان
طاهرًا: ابن عمر، وعبيد بن عمير، وعكرمة، وابن سيرين.
(1/214)
وقال جمهور أهل العلم: ليس على من أراد
القيام إلى صلاة مكتوبةٍ أن يتوضأ، إلا أن يكون محدثًا
فيتوضأ لحدثه، لأنه إذا كان متوضئًا للصلاة فلا معنى
لتوضئه وضوءًا لا يخرجه من حدث إلى طهارة. وممن روى عنه
الجمع بين صلوات بوضوء واحد: سعد بن أبى وقاص، وأبو موسى
الأشعرى، وأنس بن مالك، وابن عباس. إلا أن بعض قائلى هذه
المقالة قالوا: إن الوضوء لكل صلاة نسخ بما رواه الثورى عن
علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: صلى
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة خمس صلوات
بوضوء واحد، فقال له عمر: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: تمت
عمدًا صنعته يا عمر -. وبما روى ابن وهب، عن ابن جريج، عن
محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن امرأة من
الأنصار دعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى شاة
مصلية، ومعه أصحابه، فصلى الظهر والعصر بوضوء واحد. وقال
أكثر أهل هذه المقالة: إن جَمْع الرسول (صلى الله عليه
وسلم) الصلوات بوضوء واحد يوم الفتح، وعند المرأة التى
دعته للشاة المصلية، لم يكن ناسخًا لما تقدم من وضوئه (صلى
الله عليه وسلم) لكل صلاة، وإنما بيَّن بفعله يوم الفتح أن
وضوءه لكل صلاة كان من باب الفضل والازدياد فى الأجر، فمن
اقتدى به فى ذلك فله فيه الأسوة الحسنة.
(1/215)
قالوا: ومما يدل على صحة ذلك ما رواه ابن
وهب، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبى عطية الهذلى، قال:
صليت مع ابن عمر الظهر والعصر والمغرب، فتوضأ لكل صلاة،
فقلت له: ما هذا؟ فقال: ليست بسنةٍ ولكنى سمعت رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) يقول: تمت من توضأ على طهر كتب له
عشر حسنات -. فبان بما ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) من
سنته أن الوضوء لا يجب إلى القيام للصلوات إلا عن الأحداث
الموجبة للطهارة، وهذا قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة،
وأصحابه، والأوزاعى، والشافعى، وعامة فقهاء الأمصار، ومن
بعدهم إلى وقتنا هذا. وقوله: تمت وبين رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) أن فرض الوضوء مرةً مرةً -، وذلك أنه صلى به
فَعُلِمَ أنه الفرض، إذ لا ينقص (صلى الله عليه وسلم) من
فرضه، وهو المُبَيِّن عن الله لأمته دينهم. ووضوءه (صلى
الله عليه وسلم) مرتين وثلاثًا هو من باب الرفق بأمته
والتوسعة عليهم ليكون لمن قصر فى المرة الواحدة عن عموم
غسل أعضاء الوضوء أن يستدرك ذلك فى المرة الثانية
والثالثة، ومن أكمل أعضاءه فى المرة الواحدة فهو مخير فى
الاقتصار عليها أو الزيادة على المرة الواحدة. وكان تنويع
وضوئه (صلى الله عليه وسلم) من باب التخيير، كما ورد
التخيير فى كفارات الأَيْمَان بالله، وعقوبة المحاربين.
وقال أبو الحسن بن القصار: نسق الأعضاء فى الآية بالواو
بعضها على بعض دليل أن الرتبة غير واجبة فى الوضوء، لأن
حقيقة الواو فى لسان العرب الجمع والاشتراك دون التعقيب،
والتقديم، والتأخير، هذا قول سيبويه.
(1/216)
واختلف العلماء فى ذلك. فروى عن على، وابن
مسعود، وابن عباس، أنهم قالوا: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل
يديك فى الوضوء، وهذا قول عطاء، وسعيد بن المسيب، والنخعى،
وإليه ذهب مالك، والليث، والثورى، وسائر الكوفيين،
والأوزاعى، والمزنى. وقال الشافعى، وأحمد وإسحاق، وأبو
ثور: لا يجزئه الوضوء غير مرتب حتى يغسل كلا فى موضعه،
واحتجوا بأن الواو قد تكون للترتيب كقوله تعالى:
(ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج: 77] ، وقوله: (إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ) [البقرة: 58]
، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت نبدأ بما بدأ الله به
-. فأجابهم أهل المقالة الأولى فقالوا: إنا لا ننكر إذا
صحب الواو بيان يدل على التقدمة أنها تصير إليه بدلالته،
وإلا فالظاهر أن موضعها للجمع، ولو كانت الواو توجب رتبة
لما احتاج (صلى الله عليه وسلم) إلى تبيين الابتداء
بالصفا، وإنما بيَّن ذلك إعلامًا لمراد الله من الواو فى
ذلك الموضع، وليس وضوءه (صلى الله عليه وسلم) على نسق
الآية أبدًا بيانًا لمراد الله من آية الوضوء كبيانه
لركعات الصلوات، لأن آية الوضوء بينة مستغنية عن البيان،
والصلوات مختلفة مفتقرة إليه، ومما جاء فى القرآن مما لا
توجب الواو فيه النسق قوله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ، فبدأ بالحج قبل
العمرة، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل الحج، وكذلك
قوله: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ)
[البقرة: 110] جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة فى حين صلاة
أن يبدأ بالزكاة، ثم يصلى الصلاة فى وقتها عند الجميع،
وكذلك قوله
(1/217)
فى قتل الخطأ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ)
[النساء: 92] لا يختلف العلماء أن من وجب عليه إعطاء
الدية، وتحرير الرقبة أن يعطى الدية قبل تحرير الرقبة،
ومثله كثير فى القرآن وكلام العرب، لو قال: أعط زيدًا
وعمرًا دينارًا تبادر الفهم من ذلك: الجمع بينهما فى
العطاء، ولم يفهم منه تقديم أحدهما على الآخر فى العطاء.
- باب لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : تمت لا تُقْبَلُ صَلاةُ مَنْ أَحْدَثَ
حَتَّى يَتَوَضَّأَ -. قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ:
مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ
ضُرَاطٌ. أجمعت الأمة على أنه لا تجزئ صلاة إلا بطهارة،
على ما جاء فى الحديث. وأما قول أبى هريرة: تمت الحدث
فُساءٌ أو ضُرَاطٌ -، فإنما اقتصر على بعض الأحداث، لأنه
أجاب سائلاً سأله عن المصلى يحدث فى صلاته، فخرج جوابه على
ما يسبق المصلى من الإحداث فى صلاته، لأن البول، والغائط،
والملامسة غير معهودة فى الصلاة، وهو نحو قوله للمصلى إذْ
أمره باستصحاب اليقين فى طهارته، أى لا ينصرف حتى يسمع
صوتًا أو يجد ريحًا، ولم يقصد به إلى تعيين الأحداث
وتعدادها، والأحداث التى أجمع العلماء على أنها تنقض
(1/218)
الوضوء سوى ما ذكره أبو هريرة: البول،
والغائط، والمذى، والودى، والمباشرة، وزوال العقل بأى حال
زال، والنوم الكثير. والأحداث التى اختُلف فى وجوب الوضوء
منها: القُبْلَة، والجَسَّة، ومس الذكر، والرعاف، ودم
الفصد، وما يخرج من السبيلين نادرًا غير معتاد مثل سلس
البول، والمذى، ودم الاستحاضة، والدود يخرج من الدبر وليس
عليه أذى. فممن أوجب الوضوء فى القُبلة: ابن عمر، وهو قول
مكحول، وربيعة، والأوزاعى، والشافعى. وذهب مالك إلى أنه إن
قبلها بالشهوة انتقض وضوءه وهو قول الثورى، وأحمد، وإسحاق.
وشرط أبو حنيفة، وأبو يوسف فى القبلة للشهوة الانتشار،
وكذلك ينتقض عنده الوضوء، فإن قَبَّل لشهوة ولم ينتشر فلا
وضوء عليه. وقال محمد بن الحسن: لا وضوء عليه فى القبلة،
وإن انتشر حتى يمذى. وقال ابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن:
لا وضوء عليه فى القبلة. فأمَّا مَسُّ المرأة، فقال مالك،
والثورى: إن مسَّها لشهوة انتقض وضوءه. وقال أبو حنيفة،
وأبو يوسف: لابد مع الشهوة من الانتشار، وإلا فلا وضوء.
(1/219)
وقال محمد بن الحسن: لابد أن يمذى مع
الانتشار. وقال الشافعى: ينتقض وضوءه بكل حال، وبمسها بكل
عضوٍ من أعضائه إذا كان بغير حائل. وأما مس الذكر، فقال
مالك فى المدونة: إذا مسه لشهوة من فوق ثوب، أو تحته، بيده
أو بسائر أعضائه انتقض وضوءه. وفى العتبية: قيل لمالك: إن
مس ذكره على غلالة خفيفة؟ قال: لا وضوء عليه. ومن سماع أبى
زيد: سئل مالك عن الوضوء من مسِّ الذكر، فقال: حسن وليس
بسنة، وقال مرة أخرى: أحب إلىَّ أن يتوضأ. وذهب الثورى
وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا ينتقض وضوءه على أى حال
مسه. وذهب الليث، والأوزاعى، والشافعى إلى أنه إن مسه
بباطن يده من غير حائل ففيه الوضوء وإن مسه لغير شهوة، وبه
قال إسحاق، وأبو ثور. وأما الأحداث المختلف فيها، فسيأتى
مذاهب العلماء فيها فى مواضعها، إن شاء الله.
(1/220)
3 - باب فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالْغُرُّ
الْمُحَجَّلينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ
/ 2 - فيه: نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، قَالَ: رَقِيتُ مَعَ
أَبِى هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ،
ثم قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، يَقُولُ: تمت إِنَّ أُمَّتِى يُدْعَوْنَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ،
فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ،
فَلْيَفْعَلْ -. قال أبو محمد الأصيلى: هذا الحديث يدل أن
هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم. قال غيره:
وإذا تقرر هذا بطل ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم)
: أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، فقال: تمت هذا وضوئى ووضوء
الأنبياء قبلى -، وهو حديث لا يصح سنده، ومداره على زيد
العمى، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر، وزيد ضعيف. وقوله:
تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل -، تأوله أبو
هريرة على الزيادة على حد الوضوء، فكان يتوضأ إلى نصف
ساقيه، وإلى منكبيه، ويقول: إنى أحب أن أطيل غرتى، وربما
قال: هذا موضع الحلية. وهذا شىء لم يتابع عليه أبو هريرة،
والمسلمون مجمعون على أنه لا يتعدى بالوضوء ما حد الله
ورسوله، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو
أبدر الناس إلى الفضائل، وأرغبهم فيها، لم يجاوز قط موضع
الوضوء فيما بلغنا.
(1/221)
ويُحتج على أبى هريرة بقوله تعالى: (وَمَن
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)
[الطلاق: 1] . وروى سفيان، عن موسى بن أبى عائشة، عن عمرو
بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلاً سأل النبى، (صلى الله
عليه وسلم) ، عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا،
وقال: تمت هكذا الطهور، فمن زاد على هذا فقد تعدَّى وظلم
-. ويحمل قوله: تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته -، يعنى
يديمها، فالطول والدوام بمعنى متقارب، أى من استطاع أن
يواظب على الوضوء لكل صلاة فإنه يطيل غرته، أى يقوِّى
نوره، ويتضاعف بهاؤه، فَكَنَّى بالغرة عن نور الوجه يوم
القيامة. وقال أبو الزناد: قوله: تمت فمن استطاع منكم أن
يطيل غرته - فإنه كنى بالغرة عن الحجلة، لأن أبا هريرة كان
يتوضأ إلى نصف ساقيه، والوجه فلا سبيل إلى الزيادة فى
غسله، فكأنه، والله أعلم، أراد الحجلة فكنى بالغرة عنها.
وفيه: جواز الوضوء على ظهر المسجد، وهو من باب الوضوء فى
المسجد، وقد كرهه قوم وأجازه الأكثر، وإنما ذلك تنزيه
للمسجد، كما ينزه عن البصاق والنخامة، وحرمة أعلى المسجد،
كحرمة داخله، وممن أجاز الوضوء فى المسجد: ابن عباس، وابن
عمر، وعطاء، والنخعى، وطاوس، وهو قول ابن القاسم صاحب
مالك، وأكثر العلماء. وكرهه ابن سيرين، وهو قول مالك،
وسحنون.
(1/222)
وقال ابن المنذر: إذا توضأ فى مكان من
المسجد يبلّه ويتأذى به الناس فإنى أكرهه، وإن فحص عن
الحصى ورده عليه، فإنى لا أكرهه، وكذلك كان يفعل عطاء
وطاوس.
4 - باب مَنْ لا يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى
يَسْتَيْقِنَ
(1) / 3 - فيه: عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ عبد
اللَّه بنِ زيد، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) الرَّجُلُ الَّذِى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
أَنَّهُ يَجِدُ الشَّىْءَ فِى الصَّلاةِ، فَقَالَ: تمت لا
تَنْفَتِلْ - أَوْ لا تَنْصَرِفْ - حَتَّى تَسْمَعَ
صَوْتًا، أَوْ تَجِدَ رِيحًا -. على هذا جماعة من العلماء:
أن الشك لا يزيل اليقين، ولا حكم له، وأنه ملغى مع اليقين،
وقد اختلفوا فى ذلك، فروى ابن القاسم، عن مالك، أن من شك
فى الحدث بعد تيقن الطهارة فعليه الوضوء. وروى عنه ابن وهب
أنه قال: أحب إلىَّ أن يتوضأ. وروى ابن نافع، عن مالك أنه
لا وضوء عليه. وقال الثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعى:
يبنى على يقينه، هو على وضوء بيقين، قالوا: وكذلك يبنى على
الأصل حدثًا كان أو طهارة، وحجتهم قوله (صلى الله عليه
وسلم) : تمت لا تنصرف حتى تسمع صوتًا، أو تجد ريحًا -، ولم
يفرق بين أول مرة أو بين ما يعتاده من ذلك. قالوا: والأصول
مبينة على اليقين، كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا
شك أحدكم فى صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا، أو أربعًا، فليبن
على يقينه -، وكذلك لو شك هل طلق أم لا؟ لم يلزمه الطلاق،
لأنه على يقين
(1/223)
نكاحه، وهكذا لو شك هل أصاب ثوبه أو بدنه
نجاسة أم لا؟ فإنه يبنى على يقين طهارته. والحجة لرواية
ابن القاسم، عن مالك أنه قال: قد تعبدنا بأداء الصلاة
بيقين الطهارة، فإذا طرأ الشك عليها فقد أبطلها، كالمتطهر
إذا نام مضطجعًا، فإن الطهارة واجبة عليه بإجماع، وليس
النوم فى نفسه حدثًا، وإنما هو من أسباب الحدث الذى ربما
كان، وربما لم يكن، وكذلك إذا شك فى الحدث، فقد زال عنه
يقين الطهارة. وقال المهلب: لا حجة للكوفيين فى حديث عبد
الله بن زيد هذا، لأن الحديث إنما ورد فى المستنكح الذى
يشك فى الحدث كثيرًا، ومن استنكحه ذلك فلا وضوء عليه عند
مالك وغيره، والدليل على ذلك قوله فيه: تمت شكا إلى رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) - والشكوى لا تكون إلا من علة،
ويؤيد هذا قوله: تمت إنه يخيل إلىَّ -، لأن التخييل لا
يكون حقيقة، وقد بين ذلك حماد بن سلمة فى حديث عن سهيل بن
أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) ، قال: تمت إذا كان أحدكم فى الصلاة فوجد حركة
فى دبره فأَشكل عليه، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد
ريحًا -. قال أحمد بن خالد: هذا حديث جيد ذكر القصة كيف
هى، إنما هى فى الشك، لأن غيره اختصره، فقال: لا وضوء إلا
أن يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، وإنما هذا إذا شك وهو فى
الصلاة كما قال هاهنا، لأنه
(1/224)
من الشيطان. ومما يدل على ذلك أيضًا ما
رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن
أبى سعيد الخدرى، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال:
تمت إن الشيطان يأتى أحدكم فى صلاته، فيأخذ شعرة من دبره
فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا
-. وقد قال بعض أهل العلم: إن قوله (صلى الله عليه وسلم) :
تمت فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا - معارض
لقوله، (صلى الله عليه وسلم) : تمت من شك فى صلاته فلم يدر
أصلى ثلاثًا، أم أربعًا، فليأت بركعة -، لأنه حين أمره أن
لا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، فقد أمره
بالحكم لليقين وإلغاء الشك، وفى حديث الشك فى الصلاة أمره
بالحكم للشك وإلغاء اليقين حين أمره بالإتيان بركعة. وليس
كما ظنه بل الحديثان متفقان فى إلغاء الشك والحكم لليقين،
وذلك أنه أمر الذى يخيل إليه أنه يجد الشىء فى الصلاة أن
لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، لأنه كان على يقين
من الوضوء فأمره (صلى الله عليه وسلم) بإطراح الشك، وأن لا
يترك يقينه إلا بيقين آخر، وهو سماع الصوت، أو وجود الريح،
والذى يشك فى صلاته فلا يدرى أثلاثًا صلى، أو أربعًا لم
يكن على يقين من الركعة الرابعة، كما كان فى الحديث الآخر
على يقين من الوضوء، بل كان على يقين من ثلاث ركعات شاكًا
فى الرابعة، فوجب أن يترك شكه فى الرابعة، ويرجع إلى يقين
من الإتيان بها، فصار حديث الشك فى الصلاة مطابقًا لحديث
الشك فى الحدث، مشبهًا له فى أن اليقين يقدح فى الشك، ولا
يقدح الشك فى اليقين، والحمد لله.
(1/225)
5 - باب التَّخْفِيفِ فِى الْوُضُوءِ
/ 4 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، بِتُّ عِنْدَ خَالَتِى
مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) ، مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ
اللَّيْلِ، قَامَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ،
فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا -
يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ - وَقَامَ يُصَلِّى،
فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ
فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ:
عَنْ شِمَالِهِ - فَحَوَّلَنِى، فَجَعَلَنِى عَنْ
يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ
اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ
الْمُنَادِى، فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى
الصَّلاةِ، فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا
لِعَمْرٍو: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَنَامُ عَيْنُهُ، وَلا
يَنَامُ قَلْبُهُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ
عُمَيْرٍ يَقُولُ: رُؤْيَا الأنْبِيَاءِ وَحْىٌ، ثُمَّ
قَرَأَ: (إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ)
[الصافات: 102] . قال المهلب: قوله: تمت وضوءًا خفيفًا -
يريد تمام غسل الأعضاء دون التكثر من إمرار اليد عليها،
وهو مرة سابغة، وهو أدنى ما تجزئ به الصلاة، وإنما خففه
المحدِّث لعلمه بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان
يتوضأ ثلاثًا ثلاثًا للفضل، والواحدة بالإضافة إلى الثلاث
تخفيف. وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب التفسير وبينه،
فقال: تمت فقام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه -،
وذكره فى كتاب الدعاء، وقال: تمت فتوضأ وضوءًا بين وضوئين
لم يكثر وقد أبلغ -. فهذا كله يفسر قوله: تمت وضوءًا
خفيفًا - أنه وضوء تجوز به الصلاة. وقوله: تمت فنام حتى
نفخ، ثم صلى - هو مما خص به (صلى الله عليه وسلم) من أنه
تنام عينه، ولا ينام قلبه.
(1/226)
وفيه: دليل على أن من نام من سائر البشر
حتى نفخ لا يصلى حتى يتوضأ، والنوم إنما يجب منه الوضوء
إذا خامر القلب وغلب عليه، ورسول الله (صلى الله عليه
وسلم) لا ينام قلبه، فلذلك لم يتوضأ. وفيه: أنه توضأ بعد
نوم نامه، ثم نومًا آخر، ولم يتوضأ، فدل ذلك على اختلاف
أحواله فى النوم، فمرة يستثقل نومًا، ولا يعلم حاله، ومرةً
يعلم حاله من حدث وغيره. وفيه: جواز العمل الخفيف فى
الصلاة. وفيه: رد على أبى حنيفة فى قوله: إن الإمام إذا
صلى مع رجل واحد إنه يقوم خلفه لا عن يمينه، وهذا مخالف
لفعل النبى (صلى الله عليه وسلم) .
6 - باب إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
الإِسْبَاغُ الإنْقَاءُ
. / 5 - فيه: أُسَامَةَ، قَالَ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ
بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ
يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ: الصَّلاةَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَقَالَ: تمت الصَّلاةُ أَمَامَكَ -، فَرَكِبَ،
فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، نَزَلَ فَتَوَضَّأَ،
فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ،
فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ
بَعِيرَهُ فِى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ،
فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. قال المهلب: قوله:
تمت فتوضأ ولم يسبغ الوضوء -، يريد توضأ مرة
(1/227)
سابغة، وقد رواه إبراهيم ابن عقبة، عن
كريب، قال: تمت فتوضأ وضوءًا ليس بالبالغ -، وإنما فعل
ذلك، والله أعلم، لأنه أعجله دفعه الحاج إلى المزدلفة،
فأراد أن يتوضأ وضوءًا يرفع به الحدث، لأنه كان (صلى الله
عليه وسلم) لا يبقى بغير طهارة، ذكره مسلم فى الحديث، وقد
جاء فى باب الرجل يوضئ صاحبه هذا الحديث مبينًا. قال
أسامة: تمت إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عدل إلى
الشعب يقضى حاجته، فجعلت أصب عليه ويتوضأ -، ولا يجوز أن
يصب عليه إلا وضوء الصلاة لا وضوء الاستنجاء كما زعم من
فسر قوله: تمت ولم يسبغ الوضوء - أنه استنجى فقط، وهذا لا
يجوز على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه كان لا
يقرب منه أحدٌ، وهو على حاجته، والدليل على صحة ما تأولناه
قول أسامة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين صب عليه
الماء: تمت الصلاة يا رسول الله -، لأنه محال أن يقول له:
الصلاة، ولم يتوضأ وضوء الصلاة. وقوله: تمت الصلاة أمامك
-، أى سنة الصلاة لمن دفع عن عرفة أن يصلى المغرب والعشاء
بالمزدلفة، وإن تأخر الأمر عن العادة، ولم يعلم أسامة أن
سنة الصلاة بالمزدلفة، إذ كان ذلك فى حجة الوداع، وهى أول
سنة سنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الجمع بين
الصلاتين بالمزدلفة، فلما أتى المزدلفة أسبغ الوضوء أخذًا
بالأفضل والأكمل على عادته فى سائر الأيام. وقال أبو
الزناد: توضأ ولم يسبغ لذكر الله تعالى، لأنهم يكثرون ذكر
الله عند الدفع من عرفة. وقال غيره: وقوله: تمت الصلاة يا
رسول الله - فيه من الفقه أن الأدون قد يُذَكِّر الأعلى،
وإنما خشى أسامة أن ينسى الصلاة لما كان فيه
(1/228)
من الشغل، فأجابه (صلى الله عليه وسلم) :
أن للصلاة تلك الليلة موضعًا لا يتعدى إلا من ضرورة، مع أن
ذلك كان فى سفر، ومن سنته (صلى الله عليه وسلم) أن يجمع
بين صلاتى ليله، وصلاتى نهاره فى وقت إحداهما، ولم يختلف
العلماء أن الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة سنة مؤكدة لمن
دفع مع الإمام أو بعده. قال المهلب: وفيه اشتراك وقت صلاة
المغرب والعشاء، وأن وقتهما واحد. وقوله: تمت صلى المغرب
والعشاء ولم يصل بينهما - فيه حجة لمن لا ينتفل فى السفر،
وكذلك قال ابن عمر: لو تنفلت لأتممت، يعنى فى السفر. وقال
غيره: ليس فى ترك التنفل بين الصلاتين فى وقت جمعهما ما
يدل على ترك النافلة فى السفر، لأنه إذا جمع بينهما فلا
مدخل للنافلة هناك، لأن الوقت بينهما لا يتسع لذلك، ألا
ترى أن من أهل العلم من يقول: لا يحطون رواحلهم تلك الليل
حتى يجمعوا؟ ومنهم من يقول: يصلون الأولى، ثم يحطون
رواحلهم، مع ما فى ترك الرواحل بأوقارها مما نهى عنه من
تعذيبها؟ . وأما ترك التنفل فى السفر، فإن ابن عمر لم
يتابع على قوله فى ذلك، والفقهاء متفقون على اختيار التنفل
فى السفر، وقد تنفل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) راجلاً
وراكبًا.
(1/229)
7 - باب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ،
وَعِنْدَ الْوِقَاعِ
/ 6 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىَّ، (صلى الله
عليه وسلم) : تمت لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى
أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا
الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا،
فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ -. هذا الحديث
مطابق لقوله تعالى، حاكيًا عن مريم: (وِإِنِّى أُعِيذُهَا
بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل
عمران: 36] . وفى هذا الحديث حث وندب على ذكر الله فى كل
وقت على حال طهارة وغيرها، ورد قول من أنكر ذلك، وهو قول
يروى عن ابن عمر أنه كان لا يذكر الله إلا وهو طاهر، وروى
مثله عن أبى العالية والحسن. وروى عن ابن عباس، أنه كره أن
يذكر الله على حالتين: على الخلاء، والرجل يواقع أهله. وهو
قول عطاء ومجاهد، قال مجاهد: يجتنب الملك الإنسان عند
جماعه، وعند غائطه، وهذا الحديث خلاف قولهم. وفيه: أن
التسمية عند ابتداء كل عمل مستحبة، تبركًا بها واستشعارًا
أن الله سبحانه هو الميسر لذلك العمل، والمعين عليه. وكذلك
استحب مالك وعامة أئمة الفتوى التسمية عند الوضوء. وذهب
بعض من زعم أنه من أهل العلم إلى أن التسمية فرض فى
(1/230)
الوضوء، وحجة الجماعة قوله تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)
[المائدة: 6] الآية، ولم يذكر تسمية، فلا توجب غير ما
أوجبته الآية إلا بدليل. فإن قيل: فقد روى عن النبى (صلى
الله عليه وسلم) ، أنه قال: تمت لا وضوء لمن لم يذكر اسم
الله عليه -. قيل: قد قال أحمد بن حنبل: لا يصح فى ذلك
حديث، ولو صح لكان معناه لا وضوء كاملاً كما قال: تمت لا
صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد -. وتمت لا إيمان لمن لا
أمانة له -. وهذا الذى أوجب التسمية عند الوضوء لا يوجبها
عند غسل الجنابة والحيض، وهذا مناقض لإجماع العلماء أن من
اغتسل من الجنابة، ولم يتوضأ وصلى أن صلاته تامة.
8 - باب غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ
وَاحِدَةٍ
/ 7 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، تمت أَنَّهُ تَوَضَّأَ
فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ،
فَتَمَضْمَضَ منهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً
مِنْ مَاءٍ، فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى
يَدِهِ الأخْرَى، فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ
غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى،
ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ
الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ. . .، وذكر الحديث.
فيه: الوضوء مرة مرة. وفيه: أن الماء المستعمل فى الوضوء
طاهر مطهر، وهو قول مالك،
(1/231)
والثورى، والحجة لذلك أن الأعضاء كلها إذا
غسلت مرة مرة، فإن الماء إذا لاقى أول جزء من أجزاء العضو
فقد صار مستعملاً، ثم يمر به على كل جزء بعده، وهو مستعمل
فيجزئه، فلو كان الوضوء بالماء المستعمل لا يجوز لم يجز
الوضوء مرةً مرةً، ولما أجمعوا أنه جائز استعماله فى العضو
الواحد كان فى سائر الأعضاء كذلك، وسنذكر اختلاف العلماء
فى هذه المسألة فى بابها بعد هذا، إن شاء الله.
9 - باب مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلاءِ
/ 8 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ، قَالَ: تمت اللَّهُمَّ إِنِّى
أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ -. ورواه
غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ: تمت إِذَا أَتَى
الْخَلاءَ -. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: عَنْ
عَبْدُالْعَزِيزِ: تمت إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ
الْخَلاءَ -. قال المؤلف: فيه جواز ذكر الله على الخلاء،
وهذا مما اختلفت فيه الآثار فروى عن النبى، (صلى الله عليه
وسلم) : تمت أنه أقبل من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم
عليه، فلم يرد (صلى الله عليه وسلم) حتى تيمم بالجدار -.
واختلف فى ذلك أيضًا العلماء، فروى عن ابن عباس، أنه كره
أن يذكر الله عند الخلاء، وهو قول عطاء، ومجاهد، والشعبى،
(1/232)
وعكرمة، وقال عكرمة: لا يذكر الله فى
الخلاء بلسانه، ولكن بقلبه. وأجاز ذلك جماعة من العلماء،
وروى ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص، كان يذكر الله
فى المرحاض. وقال العرزمى: قلت للشعبى: أعطسُ وأنا فى
الخلاء، أحمد الله؟ قال: لا، حتى تخرج، فأتيت النخعى
فسألته عن ذلك، فقال لى: أحمد الله، فأخبرته بقول الشعبى،
فقال النخعى: الحمد يصعد ولا يهبط. وهو قول ابن سيرين،
ومالك بن أنس، وهذا الحديث حجة لمن أجاز ذلك. وذكر البخارى
فى كتاب تمت خلق أفعال العباد -: قال عطاء فى الخاتم فيه
ذكر الله: لا بأس أن يدخل به الإنسان الكنيف، أو يلم
بأهله، وهو فى يده لا بأس به. وهو قول الحسن. وذكر وكيع،
عن سعيد بن المسيب مثله. قال البخارى: وقال طاوس فى
المنطقة تكون على الرجل تكون فيها الدراهم يقضى حاجته: لا
بأس بذلك. وقال إبراهيم: لابد للناس من نفقاتهم. وأحب بعض
التابعين ألا يدخل الخلاء بالخاتم فيه ذكر الله. قال
البخارى: وهذا من غير تحريم يصح. وذكر وكيع عن سعيد بن
المسيب مثل قول عطاء. وأما اختلاف ألفاظ الرواة فى قوله:
تمت إذا دخل -، وتمت إذا أراد أن
(1/233)
يدخل -، فالمعنى فيه متقارب، ألا ترى قوله
تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98] ، والمراد إذا
أردت أن تقرأ؟ غير أن الاستعاذة بالله متصلة بالقراءة، لا
زمان بينهما، وكذلك الاستعاذة بالله من الخبث والخبائث لمن
أراد دخول الخلاء متصلة بالدخول، فلا يمنع من إتمامها فى
الخلاء، مع أن من روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ،
أنه كان يقول ذلك إذا أتى الخلاء أولى من رواية من روى إذا
أراد أن يدخل الخلاء، لأنها زيادة، والأخذ بالزيادة أولى.
وأما حديث بئر جمل فإنما هو على الاختيار، والأخذ بالفضل،
لأنه ليس من شرط رد السلام أن يكون على وضوء، قاله
الطحاوى. وقال الطبرى: وأما حديث بئر جمل وشبهه، فإن ذلك
كان منه (صلى الله عليه وسلم) على وجه التأديب للمُسَلِّم
عليه ألا يُسَلِّم بعضهم على بعض على حال كونهم على الحدث،
وذلك نظير نهيه وهم كذلك أن يحدث بعضهم بعضًا بقوله: تمت
لا يتحدث المتغوطان على طوفهما، فإن الله يمقتهما -. وروى
أبو عبيدة الباجى، عن الحسن، عن البراء، أنه سلم على
الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يتوضأ، فلم يرد عليه
شيئًا حتى فرغ. وفسر أبو عبيد تمت الخبث والخبائث -، فقال:
الخبث يعم الشر، والخبائث الشياطين. وقال أبو سليمان
الخطابى: أصحاب الحديث يروونه: الخُبْث، ساكنة الباء،
وإنما هو الخُبُث، مضموم الباء، جمع خبائث، والخبائث جمع
خبيثة، استعاذ بالله من مردة الجن ذكورهم وإناثهم، فأما
الخُبْث، ساكن الباء، فهو مصدر خَبُثَ الشىء يخبثُ خبثًا،
وقد جعل اسمًا.
(1/234)
قال ابن الأعرابى: وأصل الخبث فى كلام
العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من
المِلَلْ فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن
كان من الشراب فهو الضار. وقال الحسن: تمت إن هذه الحشوش
محتضرة، فإذا دخل أحدكم فليقل: اللهم إنى أعوذ بك من
الرجس، والنجس، الخبيث، المخبث، الشيطان الرجيم -. وقال
الحسن البصرى: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت
إذا خرج أحدكم من الغائط، فليقل: الحمد الله الذى عافانى،
وأذهب عنى الأذى -. وقوله: تمت طوفهما -، يعنى حاجتهما.
- باب وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلاءِ
/ 9 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله
عليه وسلم) ، دَخَلَ الْخَلاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا،
فَقَالَ: تمت مَنْ وَضَعَ هَذَا -؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ:
تمت اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ -. قال المؤلف:
معلوم أن وضع الماء عند الخلاء إنما هو للاستنجاء به عند
الحدث. وفيه: رد قول من أنكر الاستنجاء بالماء، وقال: إنما
ذلك وضوء النساء، وقال: إنما كانوا يتمسحون بالحجارة. وقال
المهلب: فيه: خدمة العالم. قال أبو الزناد: دعا له النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، أن يفقهه الله فى الدين، سرورًا
منه بانتباهه إلى وضع الماء، وهو من أمور الدين.
(1/235)
وفيه: المكافأة بالدعاء لمن كان منه إحسان،
أو عون، أو معروف.
- باب لا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ
إِلا عِنْدَ الْبِنَاءِ، جِدَارًا أَوْ نَحْوِهِ
/ 10 - فيه: أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ
الْغَائِطَ، فَلا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، وَلا
يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا -. أما
قوله فى الترجمة: تمت إلا عند البناء - فليس مأخوذًا من
الحديث، ولكنه لما علم فى حديث ابن عمر استثناء البيوت،
بوب فيه، لأن حديثه (صلى الله عليه وسلم) كله كأنه شىء
واحد، وإن اختلفت طرقه، كما أن القرآن كله كالآية الواحدة
وإن كثر. قال المهلب: إنما نهى عن استقبال القبلة،
واستدبارها بالغائط والبول فى الصحارى، والله أعلم، من أجل
من يصلى فيها من الملائكة، فيؤذيهم بظهور عورته مستقبلاً
أو مستدبرًا، وأما فى البيوت والمبانى، وما يستتر فيه من
الصحارى، وعمن فيها فليس ذلك عليه، ويحتمل أن يكون النهى
عن ذلك، والله أعلم، إكرامًا للقبلة، وتنزيهًا لها، كما
روى ابن جريج عن عطاء قال: يكره أن ينكشف الإنسان مستقبل
القبلة يتخلى، أو يبول، أو يأتزر إلا أن يأتزر تحت ردائه
أو قميصه.
(1/236)
- باب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ
/ 11 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِذَا
قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ
وَلا بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ
عُمَرَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ
لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ،
بِحَاجَتِهِ، وَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنِ الَّذِينَ
يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ؟ فَقُلْتُ: لا أَدْرِى
وَاللَّهِ. قال المؤلف: أما قول ابن عمر: تمت إن ناسًا
يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة، ولا بيت
المقدس -، فرواه سعيد بن أبى مريم، قال: ثنا دواد بن عبد
الرحمن، قال: ثنا عمرو ابن يحيى المازنى، قال: ثنا أبو زيد
مولى بنى ثعلبة، عن معقل بن أبى معقل الأسدى، أن رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) نهى أن تستقبل القبلتان بغائط، أو
بول. ولم يقل بهذا الحديث أحد من الفقهاء إلا النخعى، وابن
سيرين، ومجاهد، فإنهم كرهوا أن يستقبل أحدٌ القبلتين أو
يستدبرهما بغائط، أو بول، الكعبة وبيت المقدس. وهؤلاء غاب
عنهم حديث ابن عمر، وهو يدل على أن النهى إنما أريد به
الصحارى لا البيوت، ولم يرو أحد عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) أنه فعل ذلك فى الصحارى، وإنما روى أنه فعله فى
البيوت. وقال أحمد بن حنبل: حديث ابن عمر ناسخ للنهى عن
استقبال بيت المقدس، واستدباره بالغائط والبول، والدليل
على هذا ما روى مروان الأصفر، عن ابن عمر، أنه أناخ راحلته
مستقبل بيت المقدس، ثم
(1/237)
جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن،
أليس قد نهى عن هذا؟ قال: إنما نهى عن هذا فى الفضاء، وأما
إذا كان بينك وبين القبلة شىء يسترك فلا بأس. وروى وكيع،
وعبيد الله بن موسى، عن عيسى بن أبى عيسى الحناط، قال: قلت
للشعبى: إن أبا هريرة يقول: لا تستقبلوا القبلة ولا
تستدبروها. وقال ابن عمر: كانت منى التفاتة فرأيت النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، فى كنيفه مستقبل القبلة. فقال
الشعبى: صدق ابن عمر، وصدق أبو هريرة، قول أبى هريرة فى
البَرِّية، وقول ابن عمر فى الكنيف، وأما كنفكم هذه فلا
قبلة لها. ودلت هذه الآثار على أن حديث أبى أيوب مخصص
بحديث ابن عمر لا منسوخ به، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه
الأحاديث فى أبواب القبلة فى كتاب الصلاة عند ذكر حديث أبى
أيوب، إن شاء الله. وأما قوله: تمت إن ناسًا يقولون كذا -،
ففيه دليل على أن الصحابة كانوا يختلفون فى معانى السنن،
وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن هاهنا وقع
بينهم الاختلاف. وقال ابن القصار: إن قيل: كيف جاز لابن
عمر أن ينظر إلى مقعد النبى (صلى الله عليه وسلم) ؟
فالجواب: أنه يجوز أن تكون كانت منه التفاتة فرآه، ولم يكن
قاصدًا لذلك، فنقل ما رأى، وقصد ذلك لا يجوز كما لا يتعمد
الشهود النظر إلى الزنا، ثم قد يجوز أن تقع أبصارهم عليه،
ويجوز أن يتحملوا الشهادة بعد ذلك، وقد يجوز أن يكون ابن
عمر قصد لذلك ورأى رأسه دون ما عدا ذلك من بدنه، ثم تأمل
قعوده، فعرف كيف هو جالس ليستفيد فعله فنقل ما شاهد
(1/238)
وقوله: تمت لعلك من الذين يُصَلُّون على
أوراكهم - يعنى الذى يسجد ولا يرتفع عن الأرض لاصقًا بها.
- باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْبَرَازِ
/ 12 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا
تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ - وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ
- فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) : احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ
بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِى عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً
طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا
سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْحِجَابِ. / 13 - وفيه: عَائِشَةَ
أنَّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت قَدْ
أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِى حَاجَتِكُنَّ -. قَالَ
هِشَامٌ: يَعْنِى الْبَرَازَ. قال المؤلف: البَراز، بفتح
الباء، فى اللغة ما برز من الأرض واتسع، كنى به عن الحدث،
كما كنى عن الغائط، والغائط المطمئن من الأرض. وقال
المهلب: فيه مراجعة الأدون للأعلى فى الشىء يتبين للأدون.
وفيه: فضل المراجعة إذا لم يقصد به التعنيت، وأنه قد تبين
فيها من العلم ما يخفى، لأن نزول الآية كان سببه المراجعة.
وفيه: فضل عمر، وهذه من إحدى الثلاث الذى وافق فيها ربه.
وفيه: كلام الرجال مع النساء فى الطرق.
(1/239)
وفيه: جواز وعظ الرجل أمه فى البِرِّ، لأن
سودة من أمهات المؤمنين. وفائدة هذا الباب أنه يجوز التصرف
للنساء فيما بهن الحاجة إليه، لأن الله أذن لهن فى الخروج
إلى البراز بعد نزول الحجاب، فلما جاز لهن ذلك جاز لهن
الخروج إلى غيره من مصالحهن، أو صلة أرحامهن التى أوجبها
الله عليهن، وقد أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) النساء
بالخروج إلى العيدين. وفى قوله: تمت قد عرفناك يا سودة -
دليل أنه قد يجوز الإغلاظ فى القول والعتاب إذا كان قصده
الخير. قال عبد الواحد: فى قول عمر: تمت احجب نساءك -
التزام النصحية لله ورسوله.
- باب الاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ
/ 14 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَجِىءُ أَنَا وَغُلامٌ
مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، يَعْنِى يَسْتَنْجِي بِهِ.
قال المهلب: قال أبو محمد الأصيلى: الاستنجاء بالماء ليس
بالبين فى هذا الحديث، لأن قوله: تمت يعنى يستنجى به -،
ليس من قول أنس، وإنما هو من قول أبى الوليد الطيالسى. وقد
رواه سليمان بن حرب، عن شعبة، وقال شعبة: تمت تبعته أنا
(1/240)
وغلام، معنا إداوة من ماء -، ولم يذكر:
فيستنجى به، فيحتمل أن يكون الماء لطهوره أو لوضوئه، فقال
له أبو عبد الله بن أبى صفرة: قد تابع أبا الوليد النضرُ،
وشاذان عن شعبة، وقالا: تمت يستنجى بالماء -، فقال: تواترت
الآثار عن أبى هريرة، وأسامة وغيرهما من الصحابة على
الحجارة. قال المؤلف: وقد اختلف السلف فى الاستنجاء بالماء
فأما المهاجرون فكانوا يستنجون بالأحجار، وأنكر الاستنجاء
بالماء سعد بن أبى وقاص، وحذيفة، وابن الزبير، وسعيد بن
المسيب، وقال: إنما ذلك وضوء النساء. وكان الحسن لا يغسل
بالماء، وقال عطاء: غسل الدبر محدث. وكان الأنصار يستنجون
بالماء، وكان ابن عمر يرى الاستنجاء بالماء بعد أن لم يكن
يراه، وهو مذهب رافع بن خديج، وروى ذلك عن حذيفة، وعن أنس
أنه كان يستنجى بالخرص، واحتج الطحاوى للاستنجاء بالماء،
فقال: قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:
222] ، فطلبنا تأويل ذلك، فوجدنا السلف قد تأولوا معنى
الآية على قولين: فقال عطاء: إن الله يحب التوابين، يعنى
من الذنوب، والمتطهرين بالماء، وروى عن على بن أبى طالب
مثله. وعن أبى الجوزاء: ففى هذا أن الطهارة التى أحب الله
أهلها عليها فى هذه الآية هى الطهارة بالماء. وقال أبو
العالية: إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين من الذنوب.
(1/241)
ولما اختلفوا فى التأويل طلبنا الوجه فيه
من كتاب الله، فوجدنا الله قال: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ
أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)
[التوبة: 108] ، وقال الشعبى: لما نزلت هذه الآية، قال
(صلى الله عليه وسلم) : تمت يا أهل قباء، ما هذا الثناء
الذى أثنى الله عليكم -؟ قالوا: ما منا أحد إلا وهو يستنجى
بالماء. وروى سفيان، عن يونس بن خباب، عن عبد الرحمن بن
أبى الزناد، عن عبد الله بن خباب، أن أهل قباء ذكروا
للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الاستنجاء بالماء، فقال:
تمت إن الله قد أثنى عليكم فدوموا -. وقال محمد بن عبد
الله بن سلام: أما تجدوه مكتوبًا علينا فى التوراة
الاستنجاء بالماء -، فدل ذلك أن الطهارة المذكورة فى الآية
الأولى هى هذه الطهارة. وقال غيره: روت معاذة، عن عائشة،
قالت: مُرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول والماء،
فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يفعله. وروى مالك
فى موطأه، عن عمر بن الخطاب، أنه كان يتوضأ بالماء وضوءًا
لما تحت إزاره. قال مالك: يريد الاستنجاء بالماء، وترجم
لحديث أنس باب من حمل معه الماء لطهوره، وباب حمل
العَنَزَة مع الماء فى الاستنجاء. قال المهلب: معنى حمل
العنزة، والله أعلم، أنه كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ
صلى، فكانت العنزة لسترته فى الصلاة. وفيه: أن خدمة
العالم، وحمل ما يحتاج إليه من إناء وغيره، شرف للمتعلم،
ومستحب له، ألا ترى قول أبى الدرداء: أليس
(1/242)
فيكم صاحب النعلين والطهور، والوسادة. يعنى
عبد الله بن مسعود، فأراد بذلك الثناء عليه والمدح له،
لخدمة النبى (صلى الله عليه وسلم) .
- باب النَّهْىِ عَنِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ
/ 15 - فيه: ابن أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا
شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَفَّسْ فِى الإنَاءِ، وَإِذَا
أَتَى الْخَلاءَ فَلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلا
يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ -. قال المؤلف: التنفس فى الإناء
منهى عنه كما نُهى عن النفخ فى الإناء، وإنما السنة إراقة
القذى من الإناء لا النفخ فيه، ولا التنفس، لئلا يتقذره
جلساؤه. وقوله: تمت لا يمس ذكره بيمينه -، فهو فى معنى
النهى عن الاستنجاء باليمين، لأن القبل والدبر عورة، وموضع
الأذى، وهذا إذا كان فى الخلاء، وأما على الإطلاق على ما
روى عن عثمان أنه قال: ما تغنيت، ولا تمنيت، ولا مسست ذكرى
بيمينى مذ بايعت بها رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) .
فهذا على إكرام اليمين، وإجلا النبى (صلى الله عليه وسلم)
فى مباشرته، وهذا كله عند الفقهاء نهى أدب. قال المهلب:
وفيه: فضل الميامن، وقد قال على: يمينى لوجهى، يعنى للأكل
وغيره، وشمالى لحاجتى، وقد نزع لهذا الكلام ابنه
(1/243)
الحسن حين امتخط بيمينه عند معاوية، فأنكر
عليه معاوية، وقال: بشمالك. وأما الاستنجاء باليمين، فمذهب
مالك، وأكثر الفقهاء أن من فعل ذلك فبئس ما فعل ولا شىء
عليه. وقال بعض أصحاب الشافعى، وأهل الظاهر: لا يجزئه
الاستنجاء بيمينه لمطابقة النهى. والصواب فى ذلك قول
الجمهور، لأن النهى عن الاستنجاء باليمين من باب الأدب،
كما أن النهى عن الأكل بالشمال من باب أدب الأكل، فمن أكل
بشماله فقد عصى، ولا يحرم عليه طعامه بذلك، وكذلك من
استنجى بيمينه، وأزل الغائط فقد خالف النهى، ولم يقدح ذلك
فى وضوئه ولا صلاته، ولم يأت حرامًا. وترجم الحديث ابن أبى
قتادة باب لا يمس ذكره بيمينه إذا بال، وهذا كله من باب
الأدب، وتفضيل الميامن، ألا ترى قول عثمان: ولا مسست ذكرى
بيمينى مذ بايعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فينبغى
التأدب بأدب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وسلف الصحابة،
وتنزيه اليمنى عن استعمالها فى الأقذار ومواضعها.
- باب الاسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ
/ 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: - اتَّبَعْتُ
النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ
فَكَانَ لا يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: تمت
ابْغِنِى أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، أَوْ
(1/244)
نَحْوَهُ، وَلا تَأْتِنِى بِعَظْمٍ وَلا
رَوْثٍ -، فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِى،
فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ،
فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ. قال المؤلف: الاستنجاء
هو إزالة النجو من المخرج بالأحجار أو بالماء، واختلف
العلماء فى ذلك هل هو فرض أو سنة؟ فذهب مالك والكوفيون إلى
أنه سنة لاينبغى تركها، فإن صلى كذلك فلا إعادة عليه، إلا
أن مالكًا يستحب له الإعادة فى الوقت، وذهب الشافعى،
وأحمد، وأبو ثور إلى أن الاستنجاء فرض، ولا تجزئ صلاة من
صلى بغير استنجاء بالأحجار أو بالماء، واحتجوا بأن النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، أمر بالاستنجاء بثلاثة أحجار، فكل
نجاسة قرنت فى الشرع بعدد، فإن إزالتها واجبة، كولوغ
الكلب، وسيأتى الكلام على من أوجب العدد فى أحجار
الاستنجاء فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، فأما غسل
الولوغ عند مالك وأصحابه فليس لنجاسة، وسيأتى بعد هذا، إن
شاء الله تعالى. والحجة لقول مالك، والكوفيين أنه معلوم أن
الحجر لا ينقى إنقاء الماء، فلما وجب أن يقتصر على الحجر
فى ذلك مع بقاء أثر الغائط علم أن إزالة النجاسة سنة، وقد
سئل ابن سيرين عن رجل صلى بغير استنجاء، فقال: لا أعلم به
بأسًا. وقيل لسعيد بن جبير: إزالة النجاسة فرض؟ فقال: اتل
علىَّ به قرآنًا. قال ابن القصار: فرأى أن الفرض لا يكون
إلا بقرآن، وقد يكون ببيان الرسول (صلى الله عليه وسلم)
لمجمل القرآن، فأما ما يبتدئه (صلى الله عليه وسلم) ، فليس
بفرض.
(1/245)
ومن الاستنجاء بالأحجار جعل أهل العراق
أصلاً أن مقدار الدرهم من النجاسات فما دون، معفو عنه،
قياسًا على دود الدبر، لأن الحجر لا يزيل أثر الغائط منه
إزالة صحيحة. واختلفوا هل يجوز الاستنجاء بكل ما يقوم مقام
الأحجار من الآجر والخزف، والتراب وقطع الخشب؟ . فأجاز
مالك، وأبو حنيفة، والشافعى الاستنجاء بكل ما يقوم مقام
الحجارة فى إزالة الأذى ما لم يكن مأكولاً أو نجسًا. وقال
أهل الظاهر: لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار، قاله ابن
القصار. وحجة الفقهاء أنه (صلى الله عليه وسلم) لما نهى عن
العظم والروث دل أن ما عداهما بخلافهما، وإلا لم يكن
لتخصيصهما بالنهى فائدة. فإن قيل: إنما نص عليهما تنبيهًا
أن ما عداهما فى معناهما. قيل: هذا لا يجوز، لأن التنبيه
إنما يفيد إذا كان فى المنبه عليه معنى المنبه له وزيادة.
فأما أن يكون دونه فى المعنى فلا يفيد كقوله تعالى: (فَلاَ
تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ) [الإسراء: 23] دخل فيه الضرب، لأن
الضرب فيه أف، وأبلغ منه، ولو نص على الضرب لم يكن فيه
التنبيه على المنع من أف، لأنه ليس فى أف معنى الضرب، وقد
قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ
بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن
تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل
عمران: 75] ، فعلم أن من أدى الأمانة فى القنطار كان أولى
أن يؤديها فى الدينار، ومن لم يؤدها فى الدينار كان أولى
ألا يؤديها فى القنطار، وكذلك ما عدا الروث
(1/246)
والرَّمة من الطاهرات، لأنه ليس فى
الطاهرات معنى الروث والرَّمة، فلم يقع التنبيه عليها، بل
وقع على ما فى معناها من سائر النجاسات التى هى أعظم منها.
- باب لا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ
/ 17 - فيه: عَبْدَاللَّهِ يَقُولُ: أَتَى النَّبِىُّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِى أَنْ
آتِيَهُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ
وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ، فَلَمْ أَجِدْهُ فَأَخَذْتُ
رَوْثَةً، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ،
وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: تمت هَذَا رِكْسٌ -.
واختلف العلماء فى عدد الأحجار، فذهب مالك، وأبو حنيفة إلى
أنه إن اقتصر على دون ثلاثة أحجار مع الإنقاء جاز. وقال
الشافعى: لا يجوز الاقتصار على دون ثلاثة أحجار وإن أنقى.
قال الطحاوى: وفى هذا الحديث دليل على أن عدد الأحجار ليس
فرض، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) ، قعد للغائط فى مكان
ليس فيه أحجار، لقوله لعبد الله: تمت ناولنى ثلاثة أحجار
-، ولو كان بحضرته من ذلك شىء لما احتاج أن يناوله من غير
ذلك المكان، فلما أتاه عبد الله بحجرين وروثة فألقى
الروثة، وأخذ الحجرين دل ذلك على أن الاستنجاء بهما يجزئ
مما يجزئ منه الثلاثة، لأنه لو لم يجز إلا الثلاثة لما
اكتفى بالحجرين، ولأمر عبد الله أن يبغيه ثالثًا. وقال ابن
القصار: وقد روى فى بعض الآثار التى لا تصح
(1/247)
أنه أتاه بثالث فأى الأمرين كان فالاستدلال
لنا به صحيح، لأنه (صلى الله عليه وسلم) اقتصر للموضعين
على ثلاثة أحجار، فحصل لكل واحد منهما أقل من ثلاثة، لأنه
لم يقتصر على الاستنجاء لأحد الموضعين ويترك الآخر. قال:
ويحتمل أن يكون أراد بذكر الثلاثة أن الغالب وجود
الاستنقاء بها كما ذكر فى المستيقظ من النوم أن يغسل يده
ثلاثًا قبل إدخالها الإناء على غير وجه الشرط، والدليل على
أن الثلاثة ليست بحدّ أنه لو لم ينق بها لزاد عليها،
فنستعمل الأخبار كلها فنحمل أخبارنا على جواز الاقتصار على
الثلاثة إذا أنقت ولا يقتصر عليها إذا لم تنق، فعلم أن
الفرض الإنقاء. ويجوز أن تحمل الثلاثة على الاستحسان، وإن
أنقى بما دونها، لأن الاستنجاء مسح، والمسح فى الشرع لا
يوجب التكرار، دليه مسح الرأس والخفين، وأيضًا فإنها نجاسة
عفى عن أثرها، فوجب ألا يجب تكرار المسح فيها. وأيضًا فإن
الحجر الواحد لو كان له ثلاثة أحرف قام مقام الثلاثة
الأحجار فكذلك يقوم الحجر والحجران مقام الثلاثة إذا حصل
بها قلع النجاسة. وقوله: تمت هذا ركس - يمكن أن يريد معنى
الرجس، ولم أجد لأهل النحو شرح هذه الكلمة والرسول (صلى
الله عليه وسلم) أعظم الأمة فى اللغة.
(1/248)
- باب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً
/ 18 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً.
- باب الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ
/ 19 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
- باب الْوُضُوءِ ثَلاثًا ثَلاثًا
/ 20 - فيه: عُثْمَانَ، أنّه تَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا،
ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
: تمت مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا، ثُمَّ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ -. وَقَالَ مرةٌ:
لأُحَدِّثَنكُمْ حَدِيثًا لَوْلا آيَةٌ فِى كَتاب اللَّه
مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) يَقُولُ: تمت لا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مسلمٌ فيُحْسِنُ
وُضُوءَهُ وَيُصَلِّى الصَّلاةَ، إِلا غُفِرَ لَهُ مَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا -. قَالَ
عُرْوَةُ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنزَلَ اللهُ) [البقرة: 174] . قال الطحاوى: فى هذه
الأحاديث دليل أن المفترض من الوضوء هو مرة مرة، وما زاد
على ذلك فهو لإصابة الفضل لا الفرض، وأن المرتين والثلاثة
من ذلك على الإباحة، فمن شاء توضأ مرة، ومن شاء مرتين، ومن
شاء ثلاثًا وهذا قول أهل العلم جميعًا، لا نعلم بينهم فى
ذلك اختلافًا.
(1/249)
وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الوضوء والحمد
لله. وفى حديث عثمان من الفقه أنه فرضٌ على العالم تبليغ
ما عنده من العلم وبثه فى الناس، لأن الله قد توعد الذين
يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة من الله
وعباده، وأخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا
يكتمونه، وهذه الآية وإن كانت نزلت فى أهل الكتاب، فقد دخل
فيها كل من علم علمًا تعبد الله العباد بمعرفته، ولزمه من
بثَّه وتبلغيه ما لزم أهل الكتاب من ذلك، والله الموفق.
قال المهلب: فيه: أن الإخلاص لله فى العبادة، وترك الشغل
بأسباب الدنيا يوجب الله عليه الغفران، ويتقبله من عبده،
وإذا صح هذا وجب أن يكون من لها فى صلاته عما هو فيه، وشغل
نفسه بالأمانى، فقد أتلف أجر عمله، وقد وبخ الله بذلك
أقوامًا: (لاهية قلوبهم) [الأنبياء: 3] وقد جاء أن الله لا
يقبل الدعاء من قلبٍ لاهٍ. قال غيره: وأما من وسوس له
الشيطان وحدث نفسه فى صلاته بأشياء دون قصد منه لذلك، فإنه
يرجى أن تقبل صلاته، ولا تبطل، وتكون دون صلاة الذى لم
يحدث نفسه، بدليل أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد
اشتغل باله فى الصلاة حتى سها، وهذا قل ما يسلم منه أحد،
وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن الشيطان لا يزال
بالمرء فى صلاته يذكره ما لم يكن يذكر حتى لا يدرى كم صلى
-. وقوله فى حديث عثمان: تمت لا يحدث فيها نفسه -، يدل على
هذا المعنى، لأنه ما ضمنه لمراعى ذلك فى صلاته من الغفران
يدل على أنه قل ما تسلم صلاته من حديث نفس.
(1/250)
- باب الاسْتِنْثَارِ فِى الْوُضُوءِ
/ 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم)
: تمت مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ
اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ -. الاستنثار هو دفع الماء الحاصل
فى الأنف بالاستنشاق، ولا يكون الاستنثار إلا بعد
الاستنشاق، والاستنشاق هو أخذ الماء بريح الأنف، وإنما لم
يذكر هاهنا الاستنشاق، لأن ذكر الاستنثار دليل عليه إذ لا
يكون إلا منه، وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار بظاهر هذا
الحديث، وحمل ذلك أكثر العلماء على الندب، واستدلوا بأن
غسل باطن الوجه غير مأخوذ علينا فى الوضوء، وسيأتى زيادة
فى هذا المعنى فى باب المضمضة بعد هذا، إن شاء الله.
- باب الاسْتِجْمَارِ وِتْرًا
/ 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : تمت إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَجْعَلْ فِى أَنْفِهِ ماءً ثُمَّ لِيَنْثُرْ، وَمَنِ
اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ
مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ
يُدْخِلَهَا فِى وَضُوئِهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِى
أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ -. بعض الرواة يقول فى هذا الحديث:
تمت فليجعل فى أنفه ماء -، وهو الاستنشاق، وبعضهم لا يذكر
ذلك، والمعنى مفهوم فى رواية من قصر عن ذلك.
(1/251)
وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت من
استجمر فليوتر - فالاستجمار عند العرب: إزالة النجو من
المخرج بالجمار، والجمار عندهم الحجارة الصغار، واحتج
الفقهاء بهذا الحديث أن عدة الأحجار فى الاستجمار غير
واجب. قال الطحاوى: والدليل على ذلك ما قال إبراهيم بن
مروان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، قال: حدثنا
حصين الحبرانى، قال: حدثنا أبو سعيد الخير، عن أبى هريرة،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت من استجمر
فليوتر، من فعل هذا فقد أحسن، ومن لا فلا حرج -. فدل فى
الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إنما أمر بالوتر
فى الآثار الأولى استحبابًا منه للوتر، لا أن ذلك من طريق
الفرض الذى لا يجوز إلا هو. واختلف العلماء فى غسل اليد
قبل إدخالها الإناء للوضوء فذهب مالك والكوفيون،
والأوزاعى، والشافعى إلى أن ذلك مندوب إليه، وليس بواجب.
وقال أحمد: إن كان من نوم الليل دون النهار وجب غسلهما.
وذهب قوم إلى أنه واجب فى كل نوم لا لنجاسة، فإن أدخلها
قبل غسلهما لم يفسد الماء. وقال الحسن البصرى: إن أدخلهما
الإناء قبل غسلهما نجس الماء
(1/252)
سواء كان على يده نجاسة أم لا. واحتج الذين
أوجبوا غسلهما بأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر
بغسلهما قبل إدخالهما الإناء أمرًا مطلقًا. قال ابن
القصار: فيقال لهم: الحديث يدل على أنه استحباب، لأن
الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، علل ونبه بقوله: تمت فإن
أحدكم لا يدرى أين باتت يده -. فعلمنا انه على طريق
الاحتياط، وأعلمنا أنه ليس لأجل الحدث بالنوم، لأنه لو كان
ذلك لم يحتج إلى الاعتلال، لأن قائلاً لو قال: اغسل ثوبك
فإنك لا تدرى أى شىء حدث فيه، وهل أصابه نجس أم لا؟ لعلم
أن ذلك على الاحتياط، ولم يجب غسله إلا أن تظهر فيه نجاسة.
وقال النخعى: كان أصحاب عبد الله إذا ذكر عندهم حديث أبى
هريرة، قالوا: كيف يصنع أبو هريرة بالمهراس الذى بالمدينة؟
. وقال أعمش: عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن البراء بن
عازب، أنه كان يدخل يده فى المطهرة قبل أن يغسلها.
- باب الْمَضْمَضَةِ والاسْتَنْشَاقِ فِى الْوُضُوء
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ
رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه
وسلم) . / 23 - فيه: عُثْمَانَ، أنًّه دَعَا بِوَضُوءٍ،
فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ،
ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الْوَضُوءِ، ثُمَّ
تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ،
(1/253)
ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، وَيَدَيْهِ
إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ،
ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاثًا. . .، الحديث. قال ابن
القصار: واختلف العلماء فى المضمضة والاستنشاق على أربعة
مذاهب: فذهب ربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى
إلى أنهما سنتان فى الوضوء، وفى غسل الجنابة جميعًا. وذهب
إسحاق، وابن أبى ليلى إلى أنهما واجبتان فى الطهارتين
جميعًا: الوضوء وغسل الجنابة. وذهب الثورى، وأبو حنيفة،
وأصحابه إلى أنهما واجبتان فى غسل الجنابة، وغير واجبتين
فى الوضوء، وهو قول إسحاق وحماد بن أبى سليمان. وذهب أحمد،
وأبو ثور إلى أن الاستنشاق واجب فيهما، والمضمضة غير واجبة
فيهما. وحجة القول الأول أنه لا فرض فى الوضوء إلا ما ذكر
الله تعالى فى القرآن، وذكر غسل الوجه واليدين إلى
المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. قالوا: وما لم يوجبه
الله فى كتابه، ولا أوجبه رسوله، ولا اتفق الجميع عليه
فليس بواجب، والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه، وقالوا:
الوجه ما ظهر لا ما بطن، وقد أجمعوا أنه ليس عليه غسل باطن
عينيه، فكذلك المضمضة والاستنشاق، ورى عن ابن عمر أنه كان
يدخل الماء فى عينيه فى وضوئه، ولم يتابع عليه.
(1/254)
وحجة الكوفيين قوله (صلى الله عليه وسلم) :
تمت تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر، وأنقوا البشرة -، وفى
الأنف ما فيه من الشعر، ولا يُوصَل إلى غسل الأسنان
والشفتين إلا بالمضمضة، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) :
تمت العينان تزنيان والفم يزنى -. وحجة من أوجبهما فى
الوضوء والغسل قوله تعالى: (وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِى
سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43] كما قال فى
الوضوء: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ) [المائدة: 6] ، فما وجب
فى الواحد من الغسل وجب فى الآخر، ولم يحفظ أحد عن النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، أنه ترك ذلك فى وضوئه ولا غسله،
وهو المُبَيِّن عن الله تعالى مراده. وحجة من فرق بين
المضمضة والاستنشاق أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) [فعل]
المضمضة ولم يأمر بها، وفعل الاستنشاق وأمر به، وأمره أقوى
من فعله.
- باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلا يَمْسَحُ عَلَى
الْقَدَمَيْنِ
/ 24 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ
النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنَّا فِى سَفْرَةٍ
سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا
الْعَصْرَ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ، وَنَمْسَحُ عَلَى
أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ
لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا.
هذا الحديث تفسير لقوله: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) [المائدة: 6] ،
والمراد منه غسل الأرجل لا مسحها. قال الطحاوى: وقد ذهب
قوم من السلف إلى خلاف هذا، وقالوا: الغرض فى الرجلين هو
المسح لا الغسل وقرءوا: تمت وأرجلِكم -
(1/255)
بالخفض، روى ذلك عن الحسن البصرى، ومجاهد،
وعكرمة، والشعبى. وقال الشعبى: نزل القرآن بالمسح والسنة
الغسل، واحتجوا من طريق النظر بالتيمم، وقالوا: لما كان
حكم الوجه واليدين فى الوضوء الغسل، وحكم الرأس المسح
بإجماع، كان التيمم على الوجه واليدين المغسولين، وسقط عن
الرأس الممسوح، كان حكم الرجلين بحكم الرأس أشبه، إذ سقط
التيمم عنهما كما سقط عن الرأس. وقال أخرون: تمت أرجلَكم -
بالنصب، وقالوا: عاد إلى الغسل، روى ذلك عن ابن مسعود،
وابن عباس، والتقدير: اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق،
وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم. قال غيره:
والقراءتان صحيحتان ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح وغير جائز
أن تَبطُل إحدى القراءتين بالأخرى، فلم يبق إلا أن يكون
المعنى الغسل، وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار، وإتباع
اللفظ، والمراد عندهم المعنى، كما قال امرؤ القيس: كبير
أناس فى بجاد مزمل فخفض بالجوار، والمزمل الرجل، وإعرابه
الرفع، ومثله كثير. وقد تقول العرب: تمسحت للصلاة، والمراد
الغسل. وروى أشهب، عن مالك أنه سُئل عن قراءة من قرأ: تمت
وأرجلِكم - بالخفض؟ فقال: هو الغسل.
(1/256)
قال الطحاوى: وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم،
وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى
وغيرهم، واحتجوا بحديث هذا الباب، وقالوا: لما توعدهم
النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، على مسح أرجلهم علم أن
الوعيد لا يكون إلا فى ترك مفروض عليهم، وأن المسح الذى
كانوا يفعلونه لو كان هو المراد بالآية، على ما قال الشعبى
لكان منسوخًا بقوله: تمت ويل للأعقاب من النار - ويدل على
صحة هذا أن كل من روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صفة
الوضوء روى أنه غسل رجليه، لا أنه مسحهما، وقد روى عنه
(صلى الله عليه وسلم) ما يدل على أن حكمهما الغسل. روى
مالك عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت إذا توضأ العبد المسلم
فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع
الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه
مع الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه -.
فهذا يدل على أن الرجلين فرضهما الغسل، لأن فرضهما لو كان
المسح لم يكن فى غسلهما ثواب، ألا ترى أن الرأس الذى فرضه
المسح لا ثواب فى غسله، والحجة على من قال بالمسح، ما
أدخلوه من طريق النظر، أن يقال لهم: إنا رأينا أشياء يكون
فرضها الغسل فى حال وجود الماء ثم يسقط ذلك الفرض فى حال
عدم الماء، لا إلى فرض من ذلك الجنب عليه أن يغسل سائر
جسده بالماء، فإذا
(1/257)
عدم الماء وجب عليه التيمم فى وجهه ويديه،
وسقط حكم سائر بدنه بعد الوجه واليدين لا إلى بدل، فلم يدل
ذلك أن ما سقط فرضه كان فرضه فى حال وجود الماء المسح
فبطلت علة المخالف إذ كان قد لزمه فى قوله مثل ما لزم
خصمه، وهذه معارضة صحيحة، قاله الطحاوى.
- باب غَسْلِ الأعْقَابِ
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ
إِذَا تَوَضَّأَ. / 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أنه قَال
للنَّاس، وهم يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ:
أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ
النَّارِ -. قد تقدم القول فى معنى هذا الحديث فى الباب
الذى قبل هذا، ونزيده بيانًا، وذلك أنه (صلى الله عليه
وسلم) لما أمرهم بإسباغ الوضوء دل أن فرض الرجلين الغسل،
لأنه لما قال: تمت ويل للأعقاب من النار -، والأعقاب غير
ممسوحة عند من يقول بالمسح كما لا تمسح من الخفين كان
دليلاً أن فرض الرجلين غير المسح، لأنه لما قال لهم:
أسبغوا الوضوء، لما تركوا من أرجلهم دل أن الأرجل توضأ،
ولا يكون ذلك إلا بالغسل، ولما أراد منهم عموم الرجلين،
حتى لا يبقى منها لُمعة كان ذلك دليلا على الغسل لا على
المسح، قاله الطحاوى. واختلفوا فى تحريك الخاتم فى الوضوء
فممن روى عنه تحريكه على بن أبى طالب، وعبد الله بن عمرو
بن العاص، وهو قول
(1/258)
ابن سيرين، والحسن، وعروة، وميمون بن
مهران، وحماد الكوفى، وإليه ذهب أبو ثور. ورخص فى ترك
تحريكه سالم، وهو قول مالك، والأوزاعى. وقال أحمد بن حنبل:
إن كان ضيقًا يخلله، وإن كان سلسًا يدعه، وقاله عبد العزيز
بن أبى سلمة.
- باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِى النَّعْلَيْنِ، وَلا
يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ
/ 26 - فيه: ابن عُمَرَ، أنه كان يَصنَع أَرْبَعًا لَمْ
يكن أَحَد مِنْ أَصْحَابِه يَصْنَعُهَا، قَالَ: وَأَمَّا
النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِى
لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا
أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. . . .، وذكر باقى الحديث. فى
ترجمة البخارى لهذا الباب رد لما روى عن الرسول (صلى الله
عليه وسلم) : تمت أنه كان يمسح على النعلين فى الوضوء -،
وروى أيضًا عن على بن أبى طالب أنه أجاز ذلك، وعن أبى
مسعود الأنصارى، والبراء مثله، وروى أيضًا عن النخعى. وحجة
هذا القول ما روى حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن أوس
بن أبى أوس، عن أبيه، أنه كان فى سفر فمسح على نعليه، فقيل
له: لم تفعل هذا؟ قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) يمسح على النعلين. فأراد البخارى أن يعرفك من حديث
ابن عمر أن
(1/259)
رواية من روى عن الرسول (صلى الله عليه
وسلم) المسح على النعلين كان وهمًا، وأنه كان غسلاً بدليل
هذا الحديث، ولم يصح عند البخارى حديث المسح على النعلين.
وأوس بن أبى أوس من الشيوخ الذين لا يوازون بعبيد بن جريج،
عن ابن عمر. وبترك المسح على النعلين قال أئمة الفتوى
بالأمصار. فإن قال قائل: فقد روى الثورى عن يحيى بن أبى
حية، عن أبى الجلاس، عن ابن عمر، أنه كان يمسح على جوربيه
ونعليه. فدل أن قوله فى حديث عبيد بن جريج: تمت أن رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ فى النعال السبتية -
أنه كان يمسح رجليه فى نعليه فى الوضوء لا أنه كان
يغسلهما. قيل له: ليس الأمر كما توهمت، ولا يصح عن ابن عمر
أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه، لأن يحيى بن أبى حية
ضعيف، ولا حجة فى نقله، والصحيح عن ابن عمر بنقل الأئمة:
تمت أنه كان يغسل رجليه ولا يمسح عليهما -. روى أبو عوانة،
عن أبى بشر، عن مجاهد أنه ذكر له المسح على القدمين، فقال:
تمت كان ابن عمر يغسل رجليه غسلا، وكنت أسكب عليه الماء
سكبًا -. وروى عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله بن
دينار، عن ابن عمر مثله. وقال عطاء: لم يبلغنى عن أحد من
أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه مسح على نعليه.
فهذا أبو هريرة مما روى عن ابن عمر أنه مسح على نعليه.
(1/260)
قال الطحاوى: ونظرنا فى اختلاف هذه الآثار
لنعلم صحيح الحكم فى ذلك، فرأينا الخفين الذين جوز المسح
عليهما إذا تخرقا حتى بدت القدمان منهما أو أكثرهما، فكل
قد أجمع أنه لا يمسح عليهما فلما كان المسح على الخفين
إنما يجوز إذا غيبا القدمين، ويبطل إذا لم يغيبا القدمين،
وكانت النعلان غير مغيبة للقدمين ثبت أنها كالخفين اللذين
لا يغيبان القدمين، فلا يجوز المسح عليهما. والنعال
السبتية هى التى لا شعر فيها. قال صحاب العين: سبت رأسه
إذا حلقه، وسأزيد فى شرحه فى كتاب اللباس، فى باب النعال
السبتية إن شاء الله.
- باب التَّيَمُّنِ فِى الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ
/ 27 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ أَن النَّبِىُّ قَالَ لَهُنَّ
فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: تمت ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا،
وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا -. / 28 - فيه: عَائِشَةَ
قَالَتْ: أن النَّبِىُّ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي
تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ
كُلِّهِ. قال المهلب: فيه فضل اليمين على الشمال، ألا ترى
قوله (صلى الله عليه وسلم) حاكيا عن ربه: تمت وكلتا يديه
يمين -، وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ) [الحاقة: 19] ، وهم أهل الجنة، وقال (صلى
الله عليه وسلم) : تمت لا يبصق أحد فى المسجد عن يمينه -
فهذا كله يدل على فضل الميامن.
(1/261)
واستحب جماعة فقهاء الأمصار أن يبدأ
المتوضئ بيمينه، قبل يساره، فإن بدأ بيساره قبل يمينه فلا
إعادة عليه. وقد روى عن على، وابن مسعود أنهما قالا: لا
تبالى بأى يديك ابتدأت. وبدؤه (صلى الله عليه وسلم)
بالميامن فى شأنه كله، والله أعلم، هو على وجه التفاؤل من
أهل اليمين باليمين، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعجبه
الفأل الحسن. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وكلتا يديه
يمين -، أراد نفى النقص عنه، عز وجل، لأن الشمال أنقص من
اليمين.
- باب الْتِمَاسِ الْوَضُوءِ إِذَا حَانَتِ الصَّلاةُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتُمِسَ
الْمَاءُ، فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ. / 29 -
فيه: أَنَسِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) ، وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ
الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَأُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) فِى ذَلِكَ الإنَاءِ يَدَهُ،
وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، قَالَ:
فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ
حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. قال: الصلاة لا
تجب إلا بدخول الوقت بإجماع الأمة، وعند وجوبها يجب التماس
الماء للوضوء لمن كان على غير طهارة، والوضوء قبل الوقت
حسن، لأنه من التأهب للصلاة، ألا ترى أن
(1/262)
التأهب للعدو قبل لقائه حسن؟ وليس التيمم
هكذا، ولا يجوز عند أهل الحجاز التيمم للصلاة قبل وقتها،
وأجازه أهل العراق، ولهذا أجازوا صلوات كثيرة بتيمم واحد.
قال المهلب: وفيه أن الأملاك ترتفع عند الضرورة، لأنه إذا
أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالماء لم يكن أحد أحق
به من غيره بل كانوا فيه سواء. فعرضته على بعض أهل العلم،
فقال: ليس فى الحديث ما يدل على ارتفاع مالك مالكه، ولا فى
الأصول ما يرفع الأملاك عن أربابها إلا برضى منهم، ولعله
أراد أن المواساة لازمة عند الضرورة لمن كان فى مائه فضل
عن وضوئه. قال عبد الواحد: مما يدل على أن ليس فى إتيانهم
بالماء ارتفاع ملك مالكه أنه لو لم يكن فى ذلك الماء غير
ما يفوت وضوء الآتى به لم يجز له أن يعطيه لغيره ويتيمم،
لأنه كان يكون واجدًا للماء، فلا يجزئه التيمم إلا أن يكون
الرسول أو إمام المسلمين فينبغى أن يفضله به على نفسه،
لحاجة الإمام إلى كمال الطهارة، وأنها فيه أوكد من سائر
الناس، والماء الذى أتى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
لم يرتفع ملك أحد عنه، لأن من أتى به فقد توضأ به، والماء
الذى ينبع وعم الناس كان ببركة النبى، (صلى الله عليه
وسلم) ، ومن أجله، فلم يكن لأحد تملكه. وقال المزنى: ما
أعطى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من هذه الآية
العظيمة، والعلم الجسيم فى نبع الماء من بين أصابعه أعظم
مما أوتيه موسى حين
(1/263)
ضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة
عينًا، لأن الماء معهود أن تنفجر من الحجارة، وليس بمعهود
أن يتفجر من بين أصابع أحد غير نبينا. وقال المهلب مثله،
وزاد: أن الماء كان بمقدار وضوء رجل واحد، وعم أهل العسكر
أجمعين ببركته (صلى الله عليه وسلم) . وهذا الحديث شهده
جماعة كثيرة من أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلا
أنه لم يرو إلا من طريق أنس، وذلك، والله أعلم، لطول عمره،
ولطلب الناس العلو فى السند.
- باب الْمَاءِ الَّذِى يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإنْسَانِ
وَكَانَ عَطَاءٌ لا يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ
مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ. وَسُؤْرِ الْكِلابِ
وَمَمَرِّهَا فِى الْمَسْجِدِ، قَالَ الزُّهْرِىُّ: إِذَا
وَلَغَ فِى إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ
يَتَوَضَّأُ بِهِ. قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الْفِقْهُ
بِعَيْنِهِ، لقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) [المائدة: 6] وَهَذَا
مَاءٌ، وَفِى النَّفْسِ مِنْهُ شَىْءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ
وَيَتَيَمَّمُ. / 30 - فيه: ابْنِ سِيرِينَ، قُلْتُ
لِعَبِيدَةَ: عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِىِّ، (صلى الله
عليه وسلم) ، أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ، فَقَالَ:
لأنْ تَكُونَ عِنْدِى شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَىَّ
مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. / 31 - وفيه: أَنَسٍ، أَنَّ
النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ،
كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ.
(1/264)
قال المهلب: هذه الترجمة أراد بها البخارى
رد قول الشافعى أن شعر الإنسان إذا فارق الجسد نجس، وإذا
وقع فى الماء نجسه، وذكر قول عطاء: أنه لا بأس باتخاذ
الخيوط منها والحبال، ولو كان نجسًا لَمَا جاز اتخاذه.
ولمَّا جاز اتخاز شعر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ،
والتبرك به، علم أنه طاهر، وعلى قول عطاء جمهور العلماء.
قال المهلب: وفى حديث أنس دليل على أن ما أخذ من جسد
الإنسان من شعر أو ظفر أنه ليس بنجس، وقد جعل خالد بن
الوليد فى قلنسوته من شعر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ،
فكان يدخل بها فى الحرب فسقطت له يوم اليمامة، فاشتد عليها
شدة أنكر عليه أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لقتله
من قتل فيها من المسلمين، فقال: إنى لم أفعل ذلك لقيمتها،
لكنى كرهت أن تقع بأيدى المشركين وفيها من شعر الرسول (صلى
الله عليه وسلم) . وأما قوله: تمت إن أبا طلحة أول من أخذ
من شعر النبى -، فإنه (صلى الله عليه وسلم) ، لما حلق رأسه
ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس، ذكر ذلك ابن المنذر.
قال: ومن قول أصحابنا: أن من مس عضوًا من أعضاء زوجته أن
عليه الوضوء، وليس على من مس شعرها طهارة. وذكر فى الباب
أربعة أحاديث فى الكلب: / 32 - أولها: حديث أَبِى
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) : تمت إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِى إِنَاءِ
أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا -.
(1/265)
/ 33 - وحديثه (صلى الله عليه وسلم) : تمت
أَنَّ رَجُلا رَأَى كَلْبًا يَأْخُذُ الثَّرَى مِنَ
الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ
لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ،
فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ -. / 34 - وحديث حَمْزَةُ بْنُ
عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتِ الْكِلابُ
تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِى الْمَسْجِدِ فِى
زَمَانِ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ
يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. / 35 - وحديث
عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم)
، قَالَ: تمت إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ
فَقَتَلَ، فَكُلْ -. وهذه الأحاديث معلقة بقوله فى
الترجمة: وسؤر الكلاب وممرها فى المسجد، فتقدير الترجمة
باب الماء الذى يغسل به شعر الإنسان، وباب سؤر الكلاب،
وغرضه فى ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره. واختلف
العلماء فى الماء الذى ولغ فيه الكلب: فقالت طائفة: الماء
طاهر يتطهر به للصلاة ويغتسل به إذا لم يجد غيره. هذا قول
الزهرى، ومالك والأوزاعى. وقال الثورى، وابن الماجشون،
وابن مسلمة من أصحاب مالك، يتوضأ به ويتيمم، جعلوه كالماء
المشكوك فيه. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والليث، والشافعى،
وأبو ثور إلى أن كل ما ولغ فيه الكلب نجس، ذكره ابن
المنذر.
(1/266)
وحكى الطحاوى عن الأوزاعى: أن سؤر الكلب فى
الإناء نجس، وفى الماء المستنقع ليس بنجس. قال ابن القصار:
والدليل على طهارته أمره (صلى الله عليه وسلم) بغسل الإناء
سبعًا، ولو كان منه نجاسة لأمر بغسله مرة واحدة، إذا
التعبد فى غسل النجاسة إزالتها لا بعدد من المرات، وقد
يجوز أن يؤمر بغسل الطاهر مرارًا لمعنى كغسل أعضاء الوضوء
مرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، والغرض منها مرة واحدة، وقد
قال مالك: إذا ولغ فى الطعام أكل الطعام، ويغسل الإناء
سبعًا، اتباعًا للحديث. قال ابن القصار: والدليل على طهارة
الكلب أيضًا أنه قد ثبت فى الشرع أن الطاهر هو الذى أبيح
لنا الانتفاع به مع القدرة على الامتناع منه لا لضرورة،
والنجس ما نهى عن الانتفاع به مع القدرة عليه، وقد قامت
الدلالة على جواز الانتفاع بالكلب لا لضرورة كالصيد وشبهه،
وإنما أمر بغسل الإناء سبعًا على وجه التغليظ عليهم، لأنهم
نهوا عنها لترويعها الضيف، والمجتاز كذلك. قال ابن عمر،
والحسن البصرى: فلما لم ينتهوا، غلظ عليهم فى الماء لقلة
المياه عندهم فى البادية حتى يشتد عليهم، فيمتنعون من
اقتنائها، لا لنجاسة. قال المهلب: وأما حديث الذى سقى
الكلب، فغفر له، ففيه دليل على طهارة سؤره، لأن الرجل ملأ
خفه وسقاه به، ولا شك أن سؤره بقى فيه واستباح لباسه فى
الصلاة وغيرها دون غسله، إذا لم يذكر فى الحديث أنه غسله.
(1/267)
قال غيره: وفيه وجه آخر، وذلك قوله: تمت
فجعل يغرف حتى أرواه -. وذلك يدل أنه تكرر فعله فى تناوله
الماء من البئر حتى أرواه مرة بعد أخرى، ولو كان سؤره
نجسًا لأفسد البئر بذلك. قال المهلب: وفى هذا الحديث دليل
أن فى كل كبد رطبة أجر، كان مأمورًا بقتله أو غير مأمور،
فكذلك يجب أن يكون فى الأسرى من الكفار، لأن التعطيش،
والتجويع تعذيب، والله تعالى لا يريد أن يعذب خلقه بل تمثل
فيهم فضله من الإحسان على عصيانهم. وفى حديث حمزة أن الكلب
طاهر، لأن إقبالها وإدبارها فى الأغلب أن تجر فيه أنوفها
وتلحس فيه الماء وفتات الطعام، لأنه كان مبيت الغرباء
والوفود، وكانوا يأكلون فيه، وكان مسكن أهل الصفة، ولو كان
الكلب نجسًا لمنع من دخول المسجد لاتفاق المسلمين أن
الأنجاس تجنب المساجد، قال الله تعالى: (إنما المشركون نجس
فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) [التوبة: 28] .
وقوله: تمت تقبل وتدبر - يدل على تكررها على ذلك، وتركهم
لها يدل على أنه لا نجاسة فيها، لأنه ليس فى حىٍّ نجاسة.
وقد روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب زيادة فى هذا
الحديث عن ابن عمر، قال: تمت كانت الكلاب تبول، وتقبل
وتدبر فى المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك -. ورواه
أبو داود. وأما حديث عدى، فهو أدل شىء على طهارة الكلب
ولعابه، وقد
(1/268)
احتج مالك على طهارته بقوله تعالى: (فكلوا
مما أمسكن عليكم) [المائدة: 4] ، ومعلوم أنه إذا أمسك
علينا فلابد من وصول لعابه مع أسنانه إلى جسم الصيد،
ومعلوم أنهم فى مواضع الصيد يسمطونه ويشوونه بغشل وبغير
غسل، ولو كان لعابه نجسًا لبيَّن النبى، (صلى الله عليه
وسلم) ، لمن صاده فى مكان لا ماء فيه أن لا يحل له أكله،
فلما لم يأت فى هذا بيان منه، علم أنه مباح أكله، وإن لم
يغسل من لعاب الكلب، إذ تداخله وغاص فيه. وقال ابن القصار:
وأيضًا فإن الله تعالى جعل الكلب المعلم مذكيًا للصيد،
ومحال أن يبيحنا تزكية نجس العين، وكل حى حصلت منه التذكية
فهو طاهر العين كابن آدم. وقال محمد بن الجهم، ومحمد بن
سحنون: اختلف قول مالك فى غسل الإناء من ولوغ الكلب، فقيل:
إنه جعل معنى الحديث فى الكلب الذى لم يؤذن فى اتخاذه،
وقيل: إنه جعله عامًا فى كل كلب، فالقول الأول هو قول محمد
بن المعدل، وغسله عند مالك مسنون إذا أريد استعماله، فإن
لم يرد استعماله لم يجب غسله. قال ابن القصار: وهذا مذهب
الفقهاء إلا قوامًا من المتأخرين حكى عنهم أنه يجب غسله
سبعًا سواء أريد استعماله أو لم يرد. قال المؤلف: ومن جعل
سؤر الكلب نجسًا فغسل الإناء من ولوغه عنده فرض، ولا يُغسل
الإناء عند مالك إذا ولغ فى لبن، أو طعام يؤكل الطعام
واللبن، وإنما يُغسل فى الماء وحده، هذا قوله فى
(1/269)
المدونة، وذكر ابن حبيب عن مالك أن الإناء
يغسل، وإن ولغ فى ماء أو لبن أو طعام. واختلفوا فى عدد غسل
الإناء من ولوغه: فذهب ابن عباس، وعروة، وطاوس، ومالك،
والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أن يغسل
سبعًا اتباعًا لحديث أبى هريرة. وقال الحسن البصرى: يغسل
سبعًا والثامنة بالتراب، واحتج فى ذلك بما رواه شعبة عن
أبى التياح، عن مطرف بن عبد الله، عن عبد الله بن مغفل، أن
النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بقتل الكلاب، ثم قال:
تمت ما لى وللكلاب -، ثم قال: تمت إذا ولغ الكلب فى إناء
أحدكم فليغسله سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب -. وروى
عطاء عن أبى هريرة فى الإناء يلغ فيه الكلب، قال: يُغسل
ثلاثًا، وهو قول الزهرى. وقال عطاء: كلا، قد سمعت: سبعًا،
وخمسًا، وثلاث مرات. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُغسل من
ولوغ الكلب كما يُغسل من سائر النجاسات ولا عدد فى ذلك.
وأولى ما قيل به فى هذا الباب حديث أبى هريرة فى الغسل
سبعًا، فهو أصح من حديث ابن مغفل، ومن كل ما روى فى ذلك،
فقد اضطرب حديث ابن مغفل، فروى مرة عن شعبة، عن أبى
التياح، عن مطرف، عن ابن مغفل، أن النبى، (صلى الله عليه
وسلم) : تمت أمر بقتل الكلاب، ورخص فى كلب الزرع والصيد -.
وروى مرة على خلاف هذا.
(1/270)
وروى أبو شهاب، عن يونس بن عبيد، عن الحسن،
عن ابن مغفل، قال: تمت لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها،
فاقتلوا منها الأسود البهيم -. ومثل هذا الاضطراب يوجب
سقوط الحديث.
30 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلا مِنَ
الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ
بِقَوْلُهِ تَعَالَى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ) [المائدة: 6] . وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ
يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ، أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ
نَحْوُ الْقَمْلَةِ: يُعِيدُ الْوُضُوءَ. وَقَالَ جَابِرُ
بْنُ عَبْدِاللَّهِ: إِذَا ضَحِكَ فِى الصَّلاةِ أَعَادَ
الصَّلاةَ وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ، أَوْ مِنْ أَظْفَارِهِ، أَوْ
خَلَعَ خُفَّيْهِ، فَلا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: لا وُضُوءَ إِلا مِنْ حَدَثٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ
جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ
فِى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَرُمِىَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ،
فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ، وَسَجَدَ، وَمَضَى فِى
صَلاتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ
يُصَلُّونَ فِى جِرَاحَاتِهِمْ.
(1/271)
وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِىٍّ
وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ: لَيْسَ فِى الدَّمِ
وُضُوءٌ. وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً، فَخَرَجَ
مِنْهَا دَمُ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَبَزَقَ ابْنُ أَبِى
أَوْفَى دَمًا، فَمَضَى فِى صَلاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ
عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنْ احْتَجم: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا
غَسْلُ مَحَاجِمِهِ. هكذا رواه المستملى وحده بإثبات تمت
إلا -، ورواه الكشميهنى وأكثر الرواة بغير تمت إلا -،
فالمعروف عن ابن عمر، والحسن أن عليّا غسل محاجمه، ذكره
ابن المنذر، فرواية المستملى هى الصواب. / 36 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه
وسلم) : تمت لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِى صَلاةٍ مَا دام فِى
الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ -.
فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِىٌّ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْتُ، يَعْنِى الضَّرْطَةَ. / 37
- فيه: عبد اللَّه بن زيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) :
تمت لا تَنْصَرِفْ حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ تَجِدَ
رِيحًا -. / 38 - وفيه: الْمِقْدَادَ، أنه سأل النبِى،
(صلى الله عليه وسلم) ، عن المذى، فَقَالَ: - فِيهِ
الْوُضُوءُ -. / 39 - وفيه: عُثْمَانَ، عن النبِى، (صلى
الله عليه وسلم) : تمت إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُمْنِ؟
يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ
ذَكَرَهُ -. وقال ذلك: عَلِىًّ، وَطَلْحَةَ،
وَالزُّبَيْرَ، وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ. / 40 - وفيه: أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ
(1/272)
الأنْصَارِ، فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ،
فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَعَلَّنَا
أَعْجَلْنَاكَ -؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ (صلى الله عليه
وسلم) : تمت إِذَا أُعْجِلْتَ، أَوْ أُقُحِطْتَ،
فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ -. قال المؤلف: أما المخرجان فعند
أبى حنيفة والشافعى أن كل ما يخرج منهما حدث ينقض الوضوء،
نادرًا أو معتادًا، وعند مالك أن ما يخرج من المخرجين
معتادًا أنه ينقض الوضوء، وما خرج نادرًا على وجه المرض لا
ينقض الوضوء، كالاستحاضة، وسلس البول، والمذى، والحجر،
والدود، والدم، وأما ما خرج من بدن الإنسان من الأنجاس من
غير المخرجين كالقىء والرعاف، أو دم فصاد، أو دمل فلا وضوء
عليه فيه عند جماعة العلماء، لا وضوء فى الجشاء المتغير،
وهذا مذهب جماعة من الصحابة، وهو قول الحسن، وربيعة
ومكحول، ومالك، والشافعى، وأبى ثور. وذهب أبو حنيفة
وأصحابه إلى أن الوضوء فيما سال من ذلك وكثر، وإن لم يسل
فلا وضوء عليه فيه، وكذلك القىء إن ملأ الفم ففيه الوضوء
عنده، وإن كان دون ذلك فلا وضوء فيه، وممن كان يوجب فى
الدم الوضوء. قال مجاهد فى الخدش يخرج منه الدم: يتوضأ وإن
لم يسل. وقال سعيد بن جبير: لا يتوضأ حتى يسيل. وممن أوجب
الوضوء فى الرعاف: سعيد بن المسيب، وعطاء، والثورى، وأبو
حنيفة، وأحمد بن حنبل. وذكر ابن المنذر عن ابن عمر،
والحسن، وعطاء، أنهم كانوا يرون من الحجامة الوضوء وغسل
أثر المحاجم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه وأحمد.
(1/273)
قال ابن المنذر: وقد روينا عن غير واحد
أنهم كانوا يغتسلون من الحجامة، روى ذلك عن على، وابن
عباس، ومجاهد، وابن سيرين. وذكر عن ابن عمر، والحسن
البصرى، رواية أخرى: أنه لا وضوء من الحجامة، وإنما عليه
غسل مواضعها فقط، وهو قول مالك، وأهل المدينة، والليث،
والشافعى، وأبى ثور. وقال الليث: يجزئه أن يمسحه ويصلى ولا
يغسله. وعلى هذا الفصل بوِّب البخارى هذا الباب رادًا
عليه، أن لا وضوء إلا من المخرجين وذكر قول الصحابة
والتابعين، أنه لا وضوء من الدم، ولا من الحجامة، واحتج
بقوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) [النساء: 43،
المائدة: 6] ، وحديث الذى رمى بسهم فنزفه الدم، ومضى فى
صلاته حجة فى أن الدم لا ينقض الوضوء. وسائر أحاديث الباب
حجة فى أن لا وضوء إلا من المخرجين. وقول عطاء فيمن خرج من
دبره الدود، ومن ذكره نحو القملة، يعيد الوضوء، فهو مذهب
أبى حنيفة والشافعى، فأما مالك فلا يوجب فى شىء من ذلك
وضوءًا إلا أن يخرج معهما شىء من حدث. وقول جابر: إذا ضحك
فى الصلاة أعاد الصلاة. فهو إجماع من العلماء، وإنما
الخلاف هل ينقض وضوءه أم لا؟ . فذهب مالك والليث والشافعى
إلى أنه لا ينقض وضوءه. وذهب الحسن والنخعى إلى أن الضحك
فى الصلاة ينقض الوضوء، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه،
والثورى، والأوزاعى.
(1/274)
وحجة من لم ير الوضوء من الضحك: أنه لما لم
يكن حدثًا فى غير الصلاة لم يكن حدثًا فى الصلاة. وقول
الحسن: من أخذ من شعره أو أظفاره، فلا وضوء عليه، هو قول
أهل الحجاز والعراق. وروى عن أبى العالية، والحكم، ومجاهد،
وحماد إيجاب الوضوء فى ذلك. وقال عطاء والشافعى والنخعى
يمسه بالماء. وأما من خلع خفيه بعد المسح عليهما ففيهما
أربعة أقوال: قال مكحول، والنخعى، والزهرى، وابن أبى ليلى،
والأوزاعى، وأحمد وإسحاق: يستأنف الوضوء من أوله، وهو قول
الشافعى القديم. وقال مالك والليث: يغسل رجليه مكانه، فإن
لم يغسل استأنف الوضوء. وقال الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى
فى الجديد، والمزنى، وأبو ثور: يغسل رجليه إذا أراد
الصلاة، ومن جعل الرتبة مستحبة فى الوضوء من أصحاب مالك
يقول مثل هذا. وقال الحسن البصرى: لا شىء عليه ويصلى كما
هو، وهو قول مالك، وروى مثله عن النخعى. وحديث الذى نزفه
الدم من السهم، ومضى فى صلاته، يدل أن الرعاف والدم لا
ينقضان الوضوء، وهو قول أهل الحجاز، وهو رد على أبى حنيفة.
(1/275)
وفى الحجامة عند أبى حنيفة وأصحابه:
الوضوء، وهو قول أحمد بن حنبل. وعند ربيعة، ومالك، والليث،
وأهل المدينة: لا وضوء فى الحجامة، وهو قول الشافعى، وأبى
ثور، وقالوا: ليس فى الحجامة إلا غسل مواضعها فقط. وقال
الليث: يجزئ أن يمسحه ويصلى ولا يغسله وسائر ما ذكره
البخارى فى هذا الباب من أقوال الصحابة والتابعين أنه لا
وضوء من الدم والحجامة مطابق للترجمة أنه لا وضوء فى غير
المخرجين، وكذلك أحاديث الباب حجة فى ذلك أيضًا. وقوله:
تمت الحدث الضرطة، ولا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا
-، هو إجماع من العلماء. وحديث المقداد فى المذى، مجمع
عليه أن فيه الوضوء أظنه إلا أن يسلس منه عند مالك فهو
مرض، ولا يكون فيه الوضوء، وحجته فى مراعاة المعتاد من
المخرجين قوله (صلى الله عليه وسلم) فى دم الاستحاضة: تمت
إنما ذلك عرق، وليس بالحيض -، فعلل (صلى الله عليه وسلم)
دم الاستحاضة بأنه عرق، ودم العرق لا يوجب وضوءًا، وسيأتى
هذا المعنى مبينًا فى مواضعه، إن شاء الله. وأما حديث
عثمان وأبى سعيد فأقل أحوالهما حصول المذى لمن جامع ولم
يمن، فهما فى معنى حديث المقداد من وجه إلا أن جماعة
العلماء، وأئمة الفتوى مجمعون على الغسل من مجاوزة الختان،
لأمر
(1/276)
رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) ، بذلك،
وهو زيادة بيان على حديث عثمان وأبى سعيد، يجب الأخذ بها
إذ الأغلب فى ذلك سبق الماء للمولج وهو لا يشعر به لمغيب
العضو، إذ ذلك بدء اللذة، وأول العسيلة، فالتزم المسلمون
الغسل من مَغيِب الحشفة بالسنة الثابتة فى ذلك، وشذ عن
جماعتهم جاهل، خرق الإجماع وخالف سبيل المؤمنين الذين
أمرنا باتباعهم، فلا يلتفت إليه ولا يعد خلافًا، وسيأتى
الكلام فى هذا المعنى مستوعبًا فى باب الغسل، إن شاء الله.
وقوله: تمت أو قحطت - هكذا وقع فى الأمهات وذكر صاحب
الأفعال قال: يقال: أقحط الرجل إذا أكسل فى الجماع عن
الإنزال، ولم يذكر قحط، والله أعلم.
31 - باب الرَّجُلُ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ
/ 41 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ، أَنَّ
النبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا أَفَاضَ مِنْ
عَرَفةَ عَدَلَ إِلَى الشِّعْبِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، قَالَ
أُسَامَةُ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ، وَيَتَوَضَّأُ،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّى؟ فَقَالَ: تمت
الْمُصَلَّى أَمَامَكَ -. / 42 - وفيه: الْمُغِيرَةِ
أَنَّهُ كَانَ مَعَ النبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، فِي
سَفَرٍ وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجته، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ
جَعَلَ يَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ
وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى
الْخُفَّيْنِ. قوله: تمت فجعلت أصب الماء عليه ويتوضأ -،
(1/277)
فيه ما تُرجم به وهو قول جماعة العلماء،
وهذا الباب رد لما روى عن عمر، وعلى، أنهما نهيا أن يستقى
لهما الماء لوضوئهما، وقالا: نكره أن يشركنا فى الوضوء
أحد، ورويا ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولما روى
عن ابن عمر أنه قال: ما أبالى أعاننى رجل على طهورى، أو
على ركوعى وسجودى. وهذا كله مردود بآثار هذا الباب. قال
الطبرى: وقد صح عن ابن عمر أن ابن عباس صب على يدى عمر
الوضوء بطريق مكة، حين سأله عن المرأتين اللتين تظاهرتا
على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وثبت عن ابن عمر
خلاف ما ذُكر عنه، وروى شعبة، عن أبى بشير، عن مجاهد أنه
كان يسكب على ابن عمر الماء، فيغسل رجليه. وهذا أصح مما
خالفه عن ابن عمر، لأن راويه أيفع، وهو مجهول. والحديث عن
على لا يصح، لأن راويه النضر بن ميمون، عن أبى الجنوب، عن
على، وهما غير حجة فى الدين، فلا يعتد بنقلهما، ولو صح ذلك
عن عمر لم يكن بالذى يبيح لابن عباس صب الماء على يديه
للوضوء إذ ذاك أقرب للمعونة من استقاء الماء له، ومحال أن
يمنع عمر استقاء الماء له ويبيح صب الماء عليه للوضوء مع
سماعه من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الكراهية لذلك.
وممن كان يستعين على وضوئه بغيره من السلف، قال الحسن:
رأيت عثمان أمير المؤمنين يصب عليه من إبريق، وفعله عبد
الرحمن بن أبزى، والضحاك بن مزاحم، وقال أبو الضحى: لا بأس
للمريض أن توضئه الحائض. قال غيره: واستدل البخارى من صب
الماء عليه عند الوضوء أنه
(1/278)
يجوز للرجل أن يوضئه غيره، لأن لما لزم
المتوضئ اغتراف الماء من الإناء لأعضائه وجاز له أن يكفيه
ذلك غيره، بدليل صب أسامة الماء على رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) لوضوئه، والاغتراف بعض عمل الوضوء، فكذلك يجوز
سائر الوضوء، وهذا من باب القربات التى يجوز أن يعملها
الرجل عن غيره بخلاف الصلاة. ولما أجمعوا أنه جائز للمريض
أن يوضئه غيره وييممه غيره إذا لم يستطع، ولا يجوز أن يصلى
عنه إذا لم يستطع، دل أن حكم الوضوء بخلاف حكم الصلاة.
32 - باب قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ
وَغَيْرِهِ
قَالَ إِبْرَاهِيمَ: لا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِى
الْحَمَّامِ، وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ
وُضُوءٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ
إِزَارٌ فَسَلِّمْ، وَإِلا فَلا تُسَلِّمْ. / 43 - فيه:
ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ
مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) -
وَهِيَ خَالَتُهُ - فَاضْطَجَعْتُ فِى عَرْضِ
الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) وَأَهْلُهُ فِى طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) ، حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ،
أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ،
اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ،
ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ
مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ. .
. . وذكر باقى الحديث. فى هذا الحديث من الفقه رد على من
كره قراءة القرآن على غير طهارة لمن لم يكن جنبًا، وهو
الحجة الكافية فى ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قرأ
العشر الآيات من آخر آل عمران بعد قيامه من نومه قبل
(1/279)
وضوئه، وقد قال عمر بن الخطاب لأبى مريم
الحنفى، حين قال له: أتقرأ يا أمير المؤمنين على غير وضوء؟
فقال له عمر: من أفتاك بهذا أمسيلمة؟ وحسبك بعمر فى جماعة
الصحابة، وهم القدوة الذين أُمرنا باتباعهم، ومن الحجة
لهذه المقالة أيضًا أن الله لم يوجب فرض الطهارة على عباده
المؤمنين إلا إذا قاموا إلى الصلاة، وقد صح عنه (صلى الله
عليه وسلم) أنه خرج من الخلاء فأتى بطعام، فقيل له: ألا
تتوضأ، فقال: تمت أريد أن أصلى فأتوضأ -؟ فرأى (صلى الله
عليه وسلم) تأخير الطهارة بعد الحدث إلى حال إرادته
الصلاة. وكره جمهور العلماء مس المصحف على غير وضوء،
وأجازه الشعبى، ومحمد بن سيرين. واختلف العلماء فى قراءة
الجنب للقرآن، فروى عن جماعة من السلف أنه ممنوع من ذلك،
وأجاز ذلك آخرون، وسيأتى ذكر ذلك بعد هذا، إن شاء الله.
واختلفوا فى القراءة فى الحمام، فأجازه النخعى ومالك،
وكرهه أبو وائل، والشعبى ومكحول، والحسن.
33 - باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلا مِنَ الْغَشْىِ
الْمُثْقِلِ
/ 44 - فيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّهَا
قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ، (صلى الله
عليه وسلم) ، حِينَ كسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ
قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِىَ قَائِمَةٌ تُصَلِّى،
فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ
السَّمَاءِ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ،
(1/280)
فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ،
فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلانِى الْغَشْىُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ
فَوْقَ رَأْسِى مَاءً. . . . . وذكر باقى الحديث. قال عبد
الواحد: الغشى: مرض يَعْرِض من طول التعب والوقوف، يقال
فيه: غشى عليه، وهو ضرب من الإغماء، إلا أنه أخف منه إذا
كان خفيفًا، ولا ينقض الوضوء، ولا الصلاة، وإنما صَبت
أسماء الماء على رأسها مدافعة للغشى، ولو كان كثيرًا لقطعت
الصلاة، لأنه إذا كثر صار كالإغماء، ونقض الوضوء بإجماع.
وقال صاحب العين: غشى عليه: ذهب عقله، وفى القرآن) كالذى
يغشى عليه من الموت) [الأحزاب: 19] ، وقال: (فأغشيناهم فهم
لا يبصرون) [يس: 9] .
34 - باب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) [المائدة: 6]
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ
الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا. وَسُئِلَ مَالِكٌ:
أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ؟ فَاحْتَجَّ
بِحَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. / 45 - فيه:
عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أن رجلاً قَالَ لهُ:
أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِى كَيْفَ كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا
بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيه
مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ
غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى
الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ
رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ،
بَدَأَ بِمُقَدَّمِ
(1/281)
رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى
قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى
بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. اختلف أهل
التأويل فى قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) [المائدة: 6] .
فقالت طائفة: المراد منه مسح جميع الرأس، واحتجوا فى ذلك
بحديث عبد الله بن زيد، قالوا: وهذا الحديث يدل على عموم
الرأس بالمسح كعموم ما سواه من الأعضاء بالغسل، هذا قول
مالك. وقال آخرون: بل الفرض مسح بعضه، واختلف أهل هذه
المقالة فى مقدار الممسوح منه، فقال أبو حنيفة وأصحابه: إن
مسح ربع رأسه أجزأه، ويبدأ بمقدم رأسه. وقال الحسن بن حى:
يبدأ بمؤخر رأسه، وقال محمد بن مسلمة صاحب مالك: يجزئه أن
يمسح ثلثى رأسه. وقال أشهب: إن اقتصر على ثلثه أجزأه. ذكره
عنه ابن القصار، وروى البرقى، عن أشهب فيمن مسح مقدم رأسه:
يجزئه، وهو قول الأوزاعى، والليث. قال: وذكر ابن القصار عن
الثورى والشافعى: يجزئه مسح ما يقع عليه الاسم، وقالوا:
المسح فى لسان العرب ليس من شأنه الاستيعاب، واحتج الطحاوى
لأصحابه، قال: لما احتمل قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم)
[المائدة: 6] مسح جميع الرأس واحتمل مسح بعضه، ودلت السنة
فى حديث المغيرة أن بعضه يجزئ دل أن ذلك هو الفرض. وروى
حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عمرو بن
(1/282)
وهب الثقفى، عن المغيرة ابن شعبة، أن
النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مسح بناصيته، وعلى عمامته.
ورواه ابن عون، عن ابن سيرين، عن المغيرة. وقالوا فى حديث
عبد الله بن زيد، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مسح
رأسه كله، وليس فى ذلك ما يدل على أنه الفرض لأنا رأيناه
(صلى الله عليه وسلم) توضأ مرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا لا
على أن ذلك هو الفرض، ولكن منه فرض، ومنه فضل، ولما اكتفى
(صلى الله عليه وسلم) بمسح الناصية عن مسح بقية الرأس، دل
أن الفرض فى مسحه هو مقدار الناصية وأن ما فعله فى حديث
عبد الله بن زيد وغيره مما جاوز به الناصية، كان على الفضل
لا على الوجوب لا تَتضادّ الأحاديث. قالوا: ومن طريق
النظر: أنَّا ومخالفونا نمسح على الخفين ونُجمعُ على أن
المسح عليهما لا يعمهما، لأن من كان منا يمسح عليهما
خطوطًا بالأصابع يقول: لا يمسح جانبيهما، ولا أعقابهما،
ولا بطونهما، ومن كان منا يمسح على ظهورهما، وعلى بطونهما
لا يمسح على جوانبهما، ولا على أعقابهما، فدل ذلك على أن
ما فرضه المسح لا يراد عمومه، وإنما يراد بعضه. فأدخل
عليهم الآخرون، وقالوا: وجدنا المتيمم يعم بالمسح الوجه
واليدين، فكذلك المسح فى الوضوء، ينبغى أن يعم به العضو
الممسوح قياسًا ونظرًا، ولأن الأمة مجمعة أن من مسح برأسه
كله فهو مؤَدٍّ لفرضه، واختلفوا فيمن مسح بعضه، فالواجب أن
لا يؤدى فرض الوضوء إلا بيقين، وهو مسح الرأس كله. فكان من
حجة الآخرين عليهم أن التيمم يشبه بعضه بعضًا، ومنه التيمم
على الوجه يعم به، ومن التيمم على اليدين تُعَمَّان،
والوضوء
(1/283)
ليس كذلك، فمنه المسح على الخفين اللذين لا
يُعمَّان به، والمسح على الرأس الذى منه أشبه بالمسح على
الخفين الذى منه، من مسح التيمم الذى ليس منه، وقياس مسح
الوضوء على مسح الوضوء أصح من قياسه على مسح التيمم، هذا
قول الطحاوى. وقال غيره: ويقال لمن زعم أن مسح الوجه فى
التيمم لا يجزئ بعضه: فكذلك مسح الرأس، لأن مسح الوجه فى
التيمم بدل من عموم غسله، فلابد أن يأتى بالمسح على جميع
مواضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل، فهذا فرق ما بينهما.
واحتج الذين قالوا بمسح جميع الرأس بأن الباء فى قوله:
(برءوسكم) [المائدة: 6] للإلصاق لا للتبعيض، وهو قول
سيبويه وغيره، لا اختلاف فى ذلك بين بصرى وكوفى كقوله:
(وليطوفوا بالبيت العتيق) [الحج: 29] ، وقد أجمعوا أنه لا
يجوز الطواف ببعضه، فكذلك مسح الرأس. قال ابن القصار:
ويقال لمن احتج بأنه (صلى الله عليه وسلم) ، مسح بناصيته:
يحتمل أن يراد البعض، وأن يرد الكل، كقوله تعالى: (فيؤخذ
بالنواصى والأقدام) [الرحمن: 41] ، فالنواصى هاهنا الرءوس،
ولا يجوز أن يراد بعضها، والحديث غير صحيح، لأن راويه عن
أنس معقل بن مسلم، وصحيحه مرسل عن المغيرة، ولو صح كانت
لنا فيه حجة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما لم
يقتصر على مسح الناصية حتى قرن إلى ذلك مسح العمامة عُلِمَ
أنه لا يجوز الاقتصار على الناصية، ويصرف مسحه على العمامة
إلى العذر.
(1/284)
وأيضًا فإن الصحابة بأجمعها نقلت وضوء رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) قولاً وفعلاً أنه مسح رأسه كله،
وشذت رواية أنه مسح بناصيته، وحكت منه فعلة وقعت فى بعض
الأوقات، فكان حملها على العذر أولى، لأنه لو أراد أن
يُعَلِّم الناس الواجب لبين ذلك، كما قال لما توضأ مرة
مرة: تمت هذا صفة الوضوء الذى لا يقبل الله الصلاة إلا به
-. قال عبد الواحد: ولا حجة للحسن بن حى فى قوله فى
الحديث: تمت فأقبل بهما وأدبر - على جواز أن يبدأ بمؤخر
رأسه بالمسح، لأن قوله: تمت فأدبر بهما وأقبل - يحتمل
التقديم والتأخير، إذ لا توجب الواو رتبة، وقد خرج البخارى
هذا الحديث فى باب الوضوء من التور، وقال فيه: تمت فأدبر
بهما وأقبل -. وهذا نص أنه بدأ بمقدم رأسه، وقد بين ذلك ما
رواه مالك فى حديث هذا الباب، قال: تمت فأقبل بهما وأدبر
بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى
المكان الذى بدأ منه -. وفى حديث هذا الباب جواز غسل بعض
أعضاء الوضوء مرتين، وبعضهما ثلاثًا فى وضوء واحد، دليل
على جواز غسل بعض أعضاء الوضوء مرة، وبعضها أكثر من ذلك.
وقوله: تمت ثم - فى جميع الحديث لم يرد بها المهلة، وإنما
أراد بها الإخبار عن صفة الغسل، وتمت ثم - هاهنا بمعنى تمت
الواو -.
(1/285)
35 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ
/ 46 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ زَيْدٍ أنه تَوَضَّأَ
لَهُمْ وُضُوءَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ،
فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِيهِ
مِنَ التَّوْرِ، وَغَسَلَهما ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ
يَدَهُ فِى التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ
وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَغَسَلَ
وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهِ اليمنى إِلَى
الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ،
فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ
غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. قد تقدم القول فى
غسل الرجلين، وما للعلماء فى ذلك، فأغنى عن إعادته، ونذكر
فى هذا الباب من ذلك ما لم يتقدم، وذلك قوله: تمت فغسل
يديه إلى المرفقين وغسل رجليه إلى الكعبين -. فذهب جمهور
العلماء إلى أن المرفقين يدخلان فى غسل الذراعين فى
الوضوء، وهو قول مالك فى رواية ابن القاسم، وقول الكوفيين
والشافعى وأحمد وجماعة. وخالف زفر أصحابه، وقال: لا يجب
غسل المرفقين. وروى أشهب وابن نافع، عن مالك فى المجموع
قال: ليس عليه مجاوزة المرفقين ولا الكعبين فى الغسل،
وإنما عليه أن يبلغ إليهما. واحتج زفر بأن الله تعالى أمر
بغسلهما إلى المرافق وجعل المرافق حدًا والحد لا يدخل فى
المحدود، كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل)
[البقرة: 187] ، فجعل الليل حدا للصوم، ولم يدخل شىء من
الليل فيه، وكما نقول: دار فلان تنتهى إلى دار فلان، فتكون
دار فلان حدًا لها، ولا تدخل دار فلان فى داره وكذلك
هاهنا. وقال الطبرى: كل غاية حُدَّتْ ب تمت إلى -، فقد
تحتمل فى كلام
(1/286)
العرب دخول الغاية فى الحد وخروجها منه،
وإذا احُتمِلَ ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيها
إلا لمن لا يُجوِّز خلافه، ولا حكم فى ذلك عندنا ممن يجب
التسليم لحكمه. وحجة الجماعة: أن قوله تعالى: (إلى
المرافق) [المائدة: 6] بمعنى مع، وبمعنى الواو وتقديره:
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم والمرافق، أو مع المرافق، كما قال
تعالى: (من أنصارى إلى الله) [آل عمران: 52] ، أى مع الله)
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) [النساء: 2] ، أى مع
أموالكم. وقد قال بعض أهل الفقه: لا يحتاج إلى هذا
التأويل، ولو كما تأوله لوجب غسل اليد من أطراف الأصابع
إلى أصل الكتف، ولا يجوز أن تخرج تمت إلى - عن بابها، وذلك
لأنها بمعنى الغاية أبدًا وجائز أن تكون بمعنى الغاية،
وتدخل المرافق فى الغسل، لأن الثانى إذا كان من الأول كان
ما بعد تمت إلى - داخلاً فيما قبله، فدخلت المرافق فى
الغسل لأنها من اليدين، ولم يدخل الصيام فى الليل فى قوله:
(ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 117] ، لأن الليل
ليس من النهار. قال ابن القصار: واليد يتناولها الاسم إلى
الإبط، بدليل ما روى عن عمار أنه كان يتيمم إلى الإبط،
امتثالاً لما اقتضاه اسم اليد، وعمار من وجوه أهل اللغة،
فما استثنى الله بعض ذلك بقوله: (إلى المرافق (بقى المرفق
مغسولاً مع الذراعين نحو الاسم، ومن أوجب غسل المرفقين،
فقد أدى فرضه بيقين، واليقين فى أداء الفرض واجب.
(1/287)
والخلاف فى غسل الكعبين مع الرجلين كالخلاف
فى غسل المرفقين مع الذراعين والحجة فيها واحدة. وأما قول
مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عنه أنه إن ذهب المرفقان مع
الذراعين فى القطع لم يكن عليه غسل موضع القطع، وأما
الأقطع الكعبين، فلابد أن يغسل ما بقى منهما لأن الكعبين
يبقيان فى الساقين بعد القطع. واختلف العلماء فى حد
الكعبين اللذين يجب إليهما الوضوء، فروى أشهب عن مالك،
قال: الكعب هو الملصق بالساق، المحاذى للعقب، وهو قول
الشافعى وأحمد. وقال أبو حنيفة: هو الشاخص فى ظهر القدم،
وأهل اللغة لا يعرفون ما قال. قال الأصمعى: الكعبان من
الإنسان العظمان الناشزان من جانبى القدم، وأنكر قول
العامة أنه الذى فى ظهر القدم. والكعب عند العرب ما نشز
واستدار. وقال أبو زيد: فى كل رِجْلٍ كعبان، وهما عظما طرف
الساق ملتقى القدمين، يقال لهما: منجمان، والدليل على صحة
هذا قول النعمان بن بشير حين قال لهم النبى، (صلى الله
عليه وسلم) : تمت أقيموا صفوفكم -، قال النعمان: فلقد رأيت
الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وهذا لا يصح إلا مع القول
بأنهما الناتئان فى جانبى الساقين.
(1/288)
36 - باب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ
النَّاسِ
وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ
يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ. / 47 - فيه: أَبُو
جُحَيْفَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِىَ بِوَضُوءٍ،
فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ
وَضُوئِهِ، فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى:
دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِقَدَحٍ فِيهِ
مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ،
ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: تمت اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا
عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا -. / 48 - وفيه:
مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، أن الرَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) مَجَّ فِى وَجْهِهِ وَهُوَ غُلامٌ مِنْ
بِئْرِهِمْ. / 49 - وفيه: الْمِسْوَرِ، أن النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا توضأ يَقْتَتِلُونَ عَلَى
وَضُوئِهِ. / 50 - وفيه: السَّائِبَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِى
خَالَتِى إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى
وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى، وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ،
ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ. . . . .
الحديث. قال المهلب: هذا الباب كله يقتضى طهارة فضل
الوضوء، وهو الماء الذى يتطاير عن المتوضئ ويجمع بعدما غسل
به أعضاء الوُضُوء. وفضل السواك هو الماء الذى ينقع فيه
السواك ليرطب، وسواكهم الأراك وهو لا يغير الماء. فأراد
البخارى أن يعرفك أن كل ما لا يتغير، فإنه يجوز الوضوء به،
والماء المستعمل غير متغير فهو طاهر، واختلف العلماء فى
ذلك:
(1/289)
فأجاز النخعى، والحسن البصرى، والزهرى
الوضوء بالماء الذى قد توضئ به، وهو قول مالك، والثورى،
وأبى ثور. وقال محمد بن الحسن، والشافعى: هو طاهر غير
مُطَهِّر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: هو نجس، واحتجوا
بأنه ماء الذنوب. قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا مَثَلٌ
ضربه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أى كما يغسل الدرن من
الثوب، كذلك تتحات الذنوب بالغسل، لا أن الذنوب شىء ينماع
فى الماء ولا يؤثر فى حكمه، ثم إننا نعلم أن الذنوب تتحات
من كل جزء عند أول جزء من الوجه، أو اليد ثم كلما انحدر
على جزء آخر هو كذلك، فينبغى أن لا يجزئه ما مر على الجزء
الثانى لأنه ماء الذنوب. ونقول: إن الإجماع حاصل على جواز
استعمال الماء المستعمل، وذلك أن الماء إذا لاقى أول جزء
من أجزاء العضو فقد صار مستعملا، ثم يُمرُّه على كل جزء
بعده فيجزئه، ولو لم يجز الوضوء بالماء المستعمل لم يجز
إمراره على باقى العضو، ولوجب عليه أن يأخذ لكل جزء من
العضو ماءً جديدًا. فإن قالوا: الماء المستعمل عندنا هو
إذا سقط عن جميع العضو، فأما ما دام على العضو فليس
بمستعمل، قيل: يلزمكم أن لا يكون مستعملاً الأعضاء كلها،
لأنه لا يصح أن تكون متوضئًا بغسل بعض الأعضاء وترك البعض
مع القدرة، لأن الأعضاء كلها كالعضو الواحد فى حكم الوضوء.
(1/290)
وقد أجمعوا أن الإنسان غير مأخوذ عليه أن
يوقى ثوبه، أو بدنه مما يترشش عليه من الماء المستعمل، وقد
أخذ عليه أن يتحرز من ترشش البول، فلو كان نجسًا لوجب
التحرز منه. فصح أنه طاهر، لأنه ماء لم يتغير طعمه ولا
لونه ولا ريحه، ولم يؤثر الاستعمال فى عينه، فلم يؤثر فى
حكمه، وهو طاهر لاقى جسمًا طاهرًا، فجاز أن يسقط به الفرض
مرة أخرى كالماء الذى غسل به ثوب طاهر، فمن أين تحدث فيه
نجاسة؟ . وقد روى عن على، وابن عمر، وأبى أمامة، وعطاء،
ومكحول، والنخعى، والحسن أنهم قالوا فيمن نسى مسح رأسه
فوجد فى لحيته بللاً: يجزئه أن يمسحه بذلك البلل، فدل أنهم
كانوا يرون استعمال الماء المستعمل. وقال غيره: يقال لمن
قال: إن ماء الذنوب نجس، بل هو ماء طاهر مبارك، لأنه الماء
الذى رفع الله بالغسل به الخطايا، وقد رفع الله ما كانت
فيه هذه البركة عن النجاسة، وبالله التوفيق. قال المهلب:
ففى أحاديث هذا الباب دليل على أن لعاب أحد من البشر ليس
بنجس ولا بقية شربه، وذلك يدل أن نهيه، (صلى الله عليه
وسلم) ، عن النفخ فى الطعام والشراب ليس على سبيل أن ما
تطاير فيه من اللعاب ينجسه، وإنما هو خشية أن يتقذره الآكل
منه، فأمر بالتأديب فى ذلك، وهذا التقذر الذى نهى عن النفخ
من أجله مرتفع عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بل كانت
نخامته أطيب عند المسلمين من المسك، لأنهم كانوا يتدافعون
عليها، ويدلكون بها وجوههم لبركتها
(1/291)
وطيبها، وأنها مخالفة لخلوف أفواه البشر،
وذلك لمناجاته الملائكة فطيب الله لهم نكهته، وخلوف فيه،
وجميع رائحته. وفى قصة محمود: ممازحة الطفل بما يصعب عليه،
لأن مج الماء قد يصعب عليه، وإن كان قد يستلذه. وحديث أبى
موسى يحتمل أن يكون أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالشرب
من وضوئه الذى مج فيه، وأن يفرغا منه على نحورهما ووجوهما
من أجل مرض، أو شىء أصابهما، وهو حديث مختصر لم يذكر فيه
اللذان أمرهما بذلك. وفى حديث السائب: بركة الاسترقاء.
وقوله فى حديث السائب: تمت إن ابن أختى وقع -، فمعناه أنه
وقع فى المرض، وإن كان روى وقع بكسر القاف، وأهل اللغة
يقولون: وقع الرجل، إذا اشتكى لحم قدمه، قال الراجز: كلَّ
الحِذَاءِ يَحْتَذِى الحَافِى الوَقِعْ والمعروف عندنا وقع
بفتح القاف والعين.
37 - باب مَنْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ
وَاحِدَةٍ
/ 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ غَسَلَ
يَدَيْهِ، ثُمَّ تمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ
وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ
يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا
أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) .
(1/292)
وترجم له: باب مَسْحِ الرَّأْسِ مسحة واحدة
/ 52 - وقال فيه: فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَه
وَأَدْبَرَ بِهِا. فى هذا الحديث أنه مضمض واستنشق ثلاثًا،
بخلاف ما رواه عثمان، وابن عباس فى صفة وضوء النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، ولم يذكرا مرتين ولا ثلاثًا، فدل أن
المرة الواحدة تجزئ فى ذلك، وإنما اختلف فعله فى ذلك ليرى
أمته التيسير فيه، وأن الوضوء لا حَدَّ فى المفروض منه
والمسنون إلا بالإسباغ. واختلف العلماء فى المستحب
والمسنون من مسح الرأس: فذهب جمهور العلماء أن مسح الرأس
مسحة واحدة، وقال مالك: رَدُّ يديه من مؤخر رأسه إلى مقدمه
مسنون، لأن مسح جميع الرأس هو أن يبدأ من مقدمه إلى مؤخره،
فرده يديه بعد ذلك إلى مقدمه مسنون، ولو بدأ بالمسح من
مؤخر رأسه إلى مقدمه لكان المسنون أن يرد يديه من المقدم
إلى المؤخر. قال ابن القصار: وهذا مذهب ابن عمر، والحسن
البصرى، وأحمد، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعى: المسنون
ثلاث مسحات لمن توضأ ثلاثًا ثلاثًا. والحجة على الشافعى أن
المستحب والمسنون يحتاجان إلى شرع. وفى حديث عبد الله بن
زيد، وابن عباس أنه مسح، (صلى الله عليه وسلم) ، رأسه مرة
واحدة. وفى حديث عثمان، وإن كان فيه أنه توضأ ثلاثًا
ثلاثًا، فيه أنه مسح برأسه مرتين: بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب
بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى حيث بدأ، وهو خلاف قول
الشافعى.
(1/293)
وقد توهم بعض الناس فى حديث عبد الله بن
زيد أن قوله فيه: تمت ثم مسح رأسه فأقبل بهما وأدبر - أنه
بدأ من مؤخر رأسه فأقبل بهما، قاله الحسن بن حى. وتوهم
غيره: أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر، وهذه كلها
ظنون. وفى قوله: تمت بدأ بمقدم رأسه - ما يرفع الإشكال،
وقد تقدم هذا المعنى فى باب مسح الرأس. وقوله: تمت من كفة
واحدة - أراد من غرفة واحدة أو حفنة واحدة فاشتق لذلك من
اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى كما يسمى الشىء باسم ما كان
منه سبب، ولا يعرف فى كلام العرب إلحاق هاء التأنيث فى
الكف، والله أعلم.
38 - باب وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَفَضْلِ
وَضُوءِ الْمَرْأَةِ
وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ وَمِنْ بَيْتِ
نَصْرَانِيَّةٍ. / 53 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ:
كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُون جَمِيعًا فِى
زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن
القصار: ذهب أئمة الفتوى بالأمصار إلى أنه لا بأس بالوضوء
من فضل الحائض والجنب، مثل أن يفضل فى إنائهما ماء بعد
فراغهما من غُسلهما، فيجوز للرجل أن يتوضأ بفضل وضوء
المرأة وغسلها، إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: لا يجوز أن
يتوضأ من فضل
(1/294)
ما توضأت به المرأة أو اغتسلت به متفردة،
ووافقنا على أنه يجوز لها أن تتوضأ من فضل الرجل، والرجل
من فضل الرجل، والمرأة من فضل المرأة، وكذلك إذا استعملاه
جميعًا جاز أن يتوضأ الرجل منه. قال ابن القصار: وحديث ابن
عمر يسقط مذهبه، لأن الرجال والنساء إذا توضئوا من ماء
واحد فإن الرجل يكون مستعملا لفضل المرأة لا محالة. قال
غيره: وحديث ابن عمر هذا يعارض ما روى عن النبى، (صلى الله
عليه وسلم) : تمت أنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة -.
رواه شعبة عن عاصم الأحول، سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم
الغفارى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . ورواه عاصم
الأحول، عن عبد الله بن سرجس، عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) مثله. وأحاديث الإباحة أصح. وقد سئل ابن عباس عن فضل
وضوء المرأة، فقال: هن ألطف منا بنانا، وأطيب ريحًا. وهو
قول زيد بن ثابت وجمهور الصحابة والتابعين، إلا ابن عمر
فإنه كره فضل وضوء الجنب والحائض. وكره سعيد بن المسيب،
والحسن البصرى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة. قال الطحاوى:
فإن قيل: فإن حديث ابن عمر وعائشة ليس فيهما بيان لمن أجاز
للرجل الوضوء من فضل المرأة، لأنه يجوز أن يكونا يغتسلان
جميعًا، وإنما التنازع بين الناس إذا ابتدأ أحدهما قبل
الآخر.
(1/295)
فنظرنا فى ذلك، فحدثنا سليمان بن شعيب،
قال: حدثنا الحصيب، حدثنا همام، عن هشام بن عروة، عن
عائشة، أنها والنبى (صلى الله عليه وسلم) كانا يغتسلان من
إناء واحد يغترف قبلها وتغترف قبله. وروى حماد بن زيد، عن
أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا
ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) من إناء واحد تختلف فيه
أيدينا من الجنابة. ففى هذه الآثار يتطهر كل واحد من الرجل
والمرأة بسؤر صاحبه، فضادّ ذلك أحاديث النهى، فوجب النظر
لنخرج به من المعنيين المتضادين معنى صحيحًا، فوجدنا الأصل
المتفق عليه أن الرجل والمرأة إذا أخذا بأيديهم الماء معًا
من إناء واحد أن ذلك لا ينجس الماء، ورأينا النجاسات كلها
إذا وقعت فى الماء قبل أن يتوضأ منه أو مع التوضؤ منه أن
حكم ذلك سواء، فلما كان ذلك كذلك، وكان وضوء كل واحد من
الرجل والمرأة مع صاحبه لا ينجس الماء، كان وضوءه بعده من
سؤره فى النظر أيضًا كذلك. قال الطبرى: والحميم الماء
الساخن، وهو فعيل بمعنى مفعول، كما قيل: فتيل بمعنى مفتول،
ورأس خضيب بمعنى مخضوب، ومن سمى الحمَّام حَمَّامًا
لإسخانه من دخله، وقيل للمحموم محمومًا لسخونة جسده
بالحرارة، ومنه قوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن: 44] يراد به ماء قد أسخن فَأَنَّ
حَرُّه، واشتد حتى انتهى إلى غايته. قال ابن السكيت:
الحميم: ماء ساخن، يقال: احم لنا الماء.
(1/296)
قال ابن المنذر: وأجمع أهل الحجاز والعراق
جميعًا على الوضوء به غير مجاهد، فإنه كره الوضوء بالماء
الساخن. وأما وضوء عمر من بيت نصرانية، فإنه كان يرى سؤرها
طاهرًا. وممن كان لا يرى بسؤر النصرانى بأسًا: الأوزاعى،
والثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعى، وأبو ثور. قال ابن
المنذر: ولا أعلم أحدًا كره ذلك غيرأحمد وإسحاق، واختلف
قول مالك فى ذلك، فقال فى المدونة: لا يتوضأ بسؤر
النصرانى، ولا بما أدخل يده فيه. وفى العتبية لابن القاسم،
عن مالك مرة أجازه، ومرة كرهه. والسؤر: بقية الماء فى
الإناء عند العرب.
39 - باب صَبِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَضُوءَهُ
عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ
/ 54 - فيه: جَابِر، قَالَ: جَاءَ الرَسُول (صلى الله عليه
وسلم) يَعُودُنِى، وَأَنَا مَرِيضٌ لا أَعْقِلُ،
فَتَوَضَّأ، َ وَصَبَّ عَلَىَّ مِنْ وَضُوئِه، ِ
فَعَقَلْتُ. . . الحديث. قال المهلب: فيه دليل على طهور
الماء الذى توضأ به، لأنه لو كان نجسًا لم يصبه عليه، وقد
أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الذى عَانَ سهلا أن
يتوضأ له، ويغسل داخلة إزاره ويصبه عليه، ولو
(1/297)
كان نجسًا لم يأمر سهلا أن يغتسل منه، بل
رجاء بركته، وأن يحمل عنه شر العين. وفيه: رقية الصالحين
للماء، ومباشرتهم إياه، وذلك مما يرجى بركته.
40 - باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِى الْمِخْضَبِ
وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ
/ 55 - فيه: أَنَسٍ، أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ،
فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ،
فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، قُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟
قَالَ: ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً. / 56 - وفيه: أَبُو
مُوسَى، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَعَا
بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ،
وَمَجَّ. / 57 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَتَانا
النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْرَجْنَا لَهُ
مَاءً فِى تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ. / 58 - وفيه:
عَائِشَةَ، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِى أَنْ يُمَرَّضَ فِى
بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ، فَقَالَ: تمت أهَرِيقُوا عَلَىَّ
مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ،
لَعَلِّى أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ -، وَأُجْلِسَ فِى
مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ. الحديث. قال المؤلف: فائدة هذا الباب
أن الأوانى كلها من جواهر الأرض ونباتها طاهرة، إذا لم يكن
فيها نجاسة. والمخضب يكون من حجارة ومن صفر، والذى فى حديث
أنس كان من حجارة، وأما الذى فى حديث عائشة كان من صفر.
(1/298)
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن
عروة، أو غيره، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) فى مرضه الذى مات فيه: تمت صبوا علىّ من سبع
قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلِّى أستريح فأعهد إلى الناس -،
قالت عائشة: فأجلسناه فى مخضب لحفصة من نحاس. .، وذكر
الحديث. قال ابن المنذر: روى عن على بن أبى طالب أنه توضأ
فى طست، وعن أنس مثله. وقال الحسن البصرى: رأيت عثمان
يُصبُّ عليه من إبريق، وهو يتوضأ. قال: وما علمت أحدًا كره
النحاس والرصاص وشبهه إلا ابن عمر، فإنه كره الوضوء فى
الصفر، وكان يتوضأ فى حجر، أو فى خشب أو فى أدم. وروى عن
معاوية أنه كان يصلى بهم، وقال: نهيت أن أتوضأ فى النحاس.
ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأسوة الحسنة، والحجة
البالغة. وقال ابن جريج: ذكرت لعطاء كراهية ابن عمر
للصفُر، فقال: أنا أتوضأ فى النحاس، وما يكره منه شىء إلا
رائحته فقط. قال المؤلف: وقد وجدت عن ابن عمر أنه توضأ
فيه، فهذه الرواية عنه أشبه بالصواب، وما عليه الناس. وقال
بعض الناس: يحتمل أن تكون كراهية ابن عمر للنحاس،
(1/299)
والله أعلم، لما كان جوهرًا مسنخرجًا من
معادن الأرض، شبهه بالذهب والفضة، فكرهه لنهى الرسول (صلى
الله عليه وسلم) عن الشرب فى آنية الفضة. وقد روى عن جماعة
من العلماء أنهم أجازوا الوضوء فى آنية الفضة، وهم يكرهون
الأكل والشرب فيها. وفى وضوء الثمانين رجلاً من مخضب صفُرٍ
لم يبسط النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كفه فيه علَمٌ كبير
من أعلام النبوة. وقال المهلب: إنما أمر، والله أعلم، أن
يهراق عليه من سبع قرب على وجه التداوى، كما صب (صلى الله
عليه وسلم) وضوءه على المغمى عليه، وكما أمر المعين أن
يغتسل به، وليس كما ظن وغلط من زعم أن النبى، (صلى الله
عليه وسلم) ، اغتسل من إغمائه. وذكر عبد الوهاب بن نصر، عن
الحسن البصرى، أنه قال: على المغمى عليه الغسل. وقال ابن
حبيب: عليه الغسل إذا طال ذلك به. والعلماء متفقون، غير
هؤلاء، أن من أغمى عليه فلا غسل عليه إلا أن يجنب. وقصده
إلى سبع قرب تبركًا بهذا العدد، لأن الله تعالى خلق كثيرًا
من مخلوقاته سبعًا سبعًا. وترجم لحديث عبد الله بن زيد.
(1/300)
41 - باب الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ
/ 59 - وفيه: تمت فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بيديه
وَأَدْبَرَ. . . -، وذكر الحديث. / 60 - وفيه: أَنَس،
أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَعَا بِإِنَاءٍ
مِنْ مَاءٍ، فَأُتِىَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ
مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، فَجَعَلْتُ
أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ
أَصَابِعِهِ. قال المؤلف: بهذا الحديث احتج الحسن بن حىّ
ومن أجاز أن يبدأ المتوضئ بمسح الرأس من مؤخره، وليس كما
ظن، لأن الواو لا توجب رتبة، لأن قوله: تمت فأدبر بيديه
وأقبل - يحتمل التقديم والتأخير، ولو بدأ (صلى الله عليه
وسلم) فى مسح رأسه بمؤخره - على ما جاء فى هذا الحديث - لم
يدل ذلك على أن سنةَ مسح الرأس أن يبدأ بمؤخره، لأن هذه
الفعلة إنما كانت نادرة منه (صلى الله عليه وسلم) وفعلها
ليرى أمته السعة فى ذلك، وقد كان يفعل طوال دهره ما روى
مالك فى حديث عبد الله بن زيد: أن رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) مسح رأسه فبدأ بمقدمه، ثم ذهب بهما إلى قفاه.
وهذا يرفع الإشكال فى ذلك على ما بيناه. وقوله: تمت قد
رحراح - هو القصير الجدار القريب القعر. وقال ابن قتيبة:
يقال إناء رحراح ورحرح إذا كان واسعًا. قال الحربى: ومنه
الرحرح فى حافر الفرس، وهو أن يتسع حافره ويقل عمقه، قال
الأصمعى: ويكره فى الخيل. وقال أبو عبيد: المخضب مثل
الإجانة التى تغسل فيها الثياب، وقد يقال لها: المركن
أيضًا.
(1/301)
42 - باب الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ
/ 61 - فيه: أَنَس، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَغْتَسِلُ
بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ
بِالْمُدِّ. قال أبو عبيد: اختلف أهل العراق، وأهل الحجاز
فى مبلغ المد والصاع كم هو؟ فذهب أهل العراق إلى أن الصاع:
ثمانية أرطال، والمُدّ: رطلان، واحتجوا بما رواه سهل ابن
عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن حميد، عن أنس بن مالك،
قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ برطلين
ويغتسل بالصاع. قالوا: فإذا ثبت أن المُدّ رطلان ثبت أن
الصاع ثمانية أرطال. وذهب أهل المدينة إلى أن المُدّ ربع
الصاع، وهو رطل وثلث، والصاع خمسة أرطال وثلث. وهو قول أبى
يوسف وإليه رجع حين ناظره مالك فى زنة المُدّ وأتاه
بِمُدِّ أبناء المهاجرين والأنصار وراثة عن النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، بالمدينة. وهو قول إسحاق بن راهويه.
وحديث أنس لا حجة لأهل العراق فيه، لأنه قد روى بخلاف ما
ذكروه، رواه شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبير أنه سمع
أنس بن مالك يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمسة مكاكى. وهذا بخلاف ما رواه عن
أنس، والمكوك عندهم: نصف رطل إلى ثمانى أواقى. واختلفوا هل
يجزئ الوضوء بأقل من المد، والغسل بأقل من الصاع؟ . فقال
قوم: لا يجزئ أقل من ذلك لورود الخبر به، هذا قول الثورى
والكوفيون.
(1/302)
وقال آخرون: ليس المد والصاع فى ذلك بحتم،
وإنما ذلك إخبار عن القدر الذى كان يكفيه (صلى الله عليه
وسلم) لا أنه حد لا يجزئ دونه، وإنما قصد به التنبيه على
فضيلة الاقتصاد وترك السرف. والمستحب لمن يقدر على الإسباغ
بالقليل أن يقلل ولا يزيد على ذلك، لأن السرف ممنوع فى
الشريعة. وقد روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: تمت
سيكون فى هذه الأمة قوم يعتدون فى الطهور والدعاء -. وإلى
هذا ذهب مالك وطائفة من السلف، وهو قول الشافعى، وإسحاق.
وقال سعيد بن المسيب: إن لى ركوة، أو قداحًا، يسع نصف
المد، أو نحوه وأنا أتوضأ منه وربما فضل فضل. وعن سليمان
بن يسار مثله. وتوضأ القاسم بن محمد بقدر نصف المد وزيادة
قليل. وقيل لأحمد بن حنبل: إن الناس فى الأسفار ربما ضاق
عليهم الماء أفيجزئ الرجل أن يتوضأ بأقل من المد؟ فقال:
إذا أحسن أن يتوضأ به وغسل فلم يمسح يجزئه. وقال ابن أبى
زيد: القليل من الماء مع إحكام الوضوء سنة، والإسراف فيه
غلو وبدعة. وهذا كله رد على الإباضية، ومن رأى أن قليل
الماء لا يجزئ، والسنة حجة على من خالفها.
(1/303)
43 - باب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
/ 62 - فيه: سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، أَن النَّبِىّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ أَبَاه عَنْ
ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِذَا حَدَّثَكَ سَعْدٌ عَنِ النَّبِىّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، فَلا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ. /
63 - وفيه: الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ،: أَن النَّبِىّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَاتَّبَعَهُ
الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ
حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى
الْخُفَّيْنِ. / 64 - وفيه: عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ
الضَّمْرِىِّ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ رَأَى
رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَمْسَحُ عَلَى
الْخُفَّيْنِ. رواه شيبان، وأبان، وحرب، عَنْ يَحْيَى بن
أَبِى كثير. / 65 - ورواه: الأوْزَاعِىُّ، عَنْ يَحْيَى،
عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ
وَخُفَّيْهِ. وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ
أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرٍو، رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى
الله عليه وسلم) . اتفق العلماء على جواز المسح على
الخفين، ورويت فيه عن مالك روايات، والذى استقر عليه مذهبه
جوازه. وقالت الخوارج: لا يجوز أصلاً، لأن القرآن لم
يَرِدْ به.
(1/304)
وقالت الشيعة: لا يجوز، لأن عليًّا امتنع
منه. وحجة الجماعة ما روى فيه عن الرسول (صلى الله عليه
وسلم) من الطرق التى اشتهرت، وعن الصحابة الذين كانوا لا
يفارقونه فى الحضر، ولا فى السفر. فممن نقل ذلك عنه (صلى
الله عليه وسلم) : عمر بن الخطاب، وعلى، وسعد، وابن مسعود،
والمغيرة، وخزيمة بن ثابت، وابن عباس، وجرير بن عبد الله،
وأنس، وعمرو بن العاص، وأبو أيوب، وأبو أمامة الباهلى،
وسهل بن سعد، وقيس بن سعد، وأبو موسى الأشعرى، وجابر، وأبو
سعيد، وحذيفة، وعمار، وأبو مسعود الأنصارى، وجابر بن سمرة،
والبراء بن عازب، وأبو بكرة، وبلال، وصفوان بن عسال،
وغيرهم حتى قال الحسن البصرى: حدثنى سبعون من أصحاب محمد
أنه مسح على الخفين، فجرى مجرى التواتر. وحديث المغيرة كان
فى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، فسقط بهذا قول من يقول:
آية الوضوء مدنية والمسح منسوخ بها، لأنه متقدم وغزوة تبوك
آخر غزوة كانت بالمدينة، والمائدة نزلت بالمدينة قبل هذا.
وقد تأول جماعة من الفقهاء قوله عز وجل: (وَامْسَحُواْ
بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [النساء: 43، المائدة: 6]
فى قراءة من خفض، أراد إذا كانا فى الخفين. ومما يدل أيضًا
أن المسح غير منسوخ: حديث جرير أنه: رأى النبى، (صلى الله
عليه وسلم) ، مسح على الخفين، وكان يعجبهم، لأن جريرًا
أسلم بعد المائدة فأعجبهم حين رأوا المسح عن النبى،
(1/305)
(صلى الله عليه وسلم) ، بعد نزول المائدة،
ولم يقل لهم النبى (صلى الله عليه وسلم) عند نزول المائدة
أن هذه الآية قد نسخت المسح على الخفين. وأيضًا فإن حديث
المغيرة فى المسح كان فى السفر، فأعجبهم استعمال جرير له
فى الحضر، وأنه لم ينسخه شىء ذكره البخارى فى كتاب الصلاة.
ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن
ابن عباس، وقد روى عن علىّ، وعائشة، وأبى هريرة، وأبى
أيوب. فأما ابن عباس وأبو هريرة فقد روى عنهما خلاف ذلك فى
موافقة سائر أصحابه. وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيما روى
عن ابن عباس، وعائشة، وأبى أيوب فى إنكار المسح؟ إنما روى
عن أبى أيوب أنه قال: حبب إلىّ الغسل. فإن ذهب ذاهب إلى
مثل هذا القول ولم ينكر المسح لم نعبه وصلينا خلفه. وقد
كان مالك يذهب إلى ذلك، ولم ينكر المسح، وإن ترك المسح،
ولم يره كما صنع أهل البدع، فلا نصلى خلفه. وقال أبو محمد
الأصيلى: ذكر العمامة فى هذا الحديث من خطأ الأوزاعى، لأن
شيبان روى الحديث عن يحيى بن أبى كثير، ولم يذكر العمامة،
وتابعه حرب بن شداد، وأبان العطار، فهؤلاء ثلاثة من رواة
يحيى بن أبى كثير خالفوا الأوزاعى، فوجب تغليب الجماعة على
الواحد، وأما متابعة معمر للأوزاعى، فهى مرسلة، وليس فيها
ذكر العمامة.
(1/306)
روى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبى
كثير، عن أبى سلمة، عن عمرو بن أمية، قال: رأيت رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) يمسح على خفيه. هكذا وقع فى مصنف عبد
الرزاق، ولم يذكر العمامة، وأبو سلمة لم يسمع من عمرو،
وإنما سمع من ابنه جعفر، فلا حجة فيهما. وذكر ابن أبى
خيثمة عن ابن معين أن حديث عمرو بن أمية فى المسح على
العمامة مرسل. واختلف العلماء فى المسح على العمامة، فممن
كان يمسح عليها: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأنس بن
مالك، وأبو أمامة، وسعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، وبه
قال الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وممن كان
لا يرى المسح عليها: عَلىّ، وابن عمر، وجابر. ومن
التابعين: عروة، والنخعى، والشعبى، والقاسم، وبه قال مالك،
وأبو حنيفة، والشافعى، واحتجوا بقوله تعالى: (وَامْسَحُواْ
بِرُؤُوسِكُمْ) [النساء: 43، المائدة: 6] ، ومن مسح على
العمامة لم يمسح برأسه. وأجمعوا أنه لا يجوز مسح الوجه فى
التيمم على حائل دونه، فكذلك الرأس. وقال ابن وهب، عن ابن
جريج، عن عطاء بلغنا: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
كان يتوضأ وعليه العمامة يؤخرها عن رأسه ولا يحلها، ثم
يمسح برأسه، ثم يعيد عمامته.
(1/307)
وقال ابن وهب: حدثنا معاوية بن صالح، عن
عبد العزيز بن مسلم، عن أبى معقل، عن أنس بن مالك، قال:
رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ وعليه عمامة قطرية،
فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض
العمامة. واختلف العلماء فى صفة المسح على الخفين، فذهب
ابن عمر، وسعد بن أبى وقاص إلى أنَّ الكمال والسنة: مسح
أعلاهما وأسفلهما، وبه قال مالك، والشافعى. وقال ابن
القاسم: لو مسح رجل ظاهر الخف، ثم صلى فأَحَبُّ إلىّ أن
يعيد فى الوقت، لأن عروة كان لا يمسح بطونهما. فهذا يدل
على أنه إن اقتصر على الظهور دون البطون أنه يجزئه فى مذهب
مالك. وقالت طائفة: إن الممسوح أعلى الخف، فإن أسفله ليس
بمحل للمسح لا مسنونًا ولا جائزًا، وذكر أنه قول أنس بن
مالك، وهو مذهب الشعبى، والنخعى، والأوزاعى، والثورى، وأبى
حنيفة. واحتجوا بما رووه عن المغيرة: أن النبى (صلى الله
عليه وسلم) مسح على ظهور خفيه. والذى ذكر البخارى فى هذا
الباب عن سعد، والمغيرة: أن النبى مسح على الخفين. دون ذكر
أعلاهما أو أسفلهما، وهذا لفظ محتمل للتأويل أن يفعل فى
الخف ما يسمى مسحًا إلا أن الصحابة مجمعة أنه إن مسح أسفله
دون أعلاه لم يجزئه، وهو قول فقهاء الأمصار. وذكر المزنى
عن الشافعى أنه يجوز الاقتصار على أسفل الخف دون أعلاه،
وذكره ابن عبد الحكم، عن أشهب.
(1/308)
واختلفوا فى الخف المخرق يمسح عليه؟ . فقال
مالك: يمسح إذا كان خَرْقًا يسيرًا لا يظهر منه القدم.
وقال بعض أصحابه: معناه أن يكون الخرق لا يمنع من لبسه
والانتفاع به. وهو قول الليث، والشافعى. وقال الثورى: يمسح
وإن تفاحش خرقه، وما دام يسمى خُفّا، وقد كانت خفاف
المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخرق، وهو قول أبى ثور،
وإسحاق. وقال الأوزاعى: يمسح الخُفَّ وما ظهر من القدم،
وهو قول الطبرى فى جواز المسح على القدمين. وقال الحسن بن
حى: يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب، فإن
ظهر شىء من القدم لم يمسح. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمسح
إذا ظهر من الرِّجْل أقل من ثلاثة أصابع، ولا يمسح إذا ظهر
ثلاثة أصابع.
44 - باب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ
/ 66 - فيه: الْمُغِيرَةِ، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى
الله عليه وسلم) ، فِى سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأنْزِعَ
خُفَّيْهِ، فَقَالَ: تمت دَعْهُمَا فَإِنِّى
أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ -، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
قال المؤلف: من هذا الحديث قال مالك وجميع الفقهاء أنه من
لبس خفيه على غير طهارة أنه لا يمسح عليهما، لقوله: تمت
دعهما، فإنى أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما -. وهذا تعليم
منه (صلى الله عليه وسلم) السبب الذى يبيح المسح على
الخفين، وهو إدخاله لرجليه وهما طاهرتان بطهر الوضوء.
(1/309)
واختلفوا فيمن قدم غسل رجليه ولبس خفيه، ثم
أتم وضوءه هل له أن يمسح عليهما إن أحدث؟ . فقال مالك،
والشافعى، وأحمد، وإسحاق: لا يجوز له أن يمسح عليهما حتى
يكون طاهرًا الطهارة التامة قبل لبسهما، أو لبس أحدهما،
وحجتهم ظاهر الحديث. وقال أبو حنيفة، والثورى، والمزنى:
يجوز له المسح عليهما، وكذلك إذا غسل إحدى رجليه ولبس، وهو
قول مطرف من أصحاب مالك. وحديث المغيرة يرد هذا القول،
لقوله: تمت دعهما، فإنى أدخلتهما طاهرتين -. فجعل العلة فى
جواز المسح وجود اللبس والرجلان طاهرتان بطهر الوضوء.
واحتج الطحاوى للكوفيين، فقال: يجوز أن يقال: إن رجليه
طاهرتان إذا غسلهما، وإن لم يكمل الطهارة، كما يقال: صلى
ركعة، وإن لم تتم صلاته. وقال آخرون منهم: وإنما يراعى
الحدث، والحدث لا يرد إلا على طهارة كاملة، فهو كمن لم
يقدم رجليه. وحجة مالك أن من لبس خفيه قبل كمال طهارته،
فكأنه لبسهما قبل غسل الرجلين بدليل الحديث. ومن هذه
المسألة تفرع الجواب، فيمن لبس الخف اليمنى قبل أن يغسل
الرجل اليسرى. فعند مالك والشافعى، وأحمد وإسحاق: لا يمسح،
لأنه لبس الخف الأولى قبل تمام طهارته.
(1/310)
وقال الثورى، وأبو حنيفة، والمزنى: يجوز له
أن يمسح عليهما، وهو قول مطرف. وقال سحنون: لا يمسح إلا أن
يخلع اليمنى فقط. وأجمعوا أنه لو نزع الخف الأولى، ثم
لبسهما بعد، جاز له المسح. واختلفوا فيمن نزع خفيه بعد
المسح عليهما: فقال النخعى، ومكحول، والأوزاعى فى رواية:
يعيد الوضوء، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال الكوفيون،
والمزنى، وأبو ثور: يغسل قدميه، وعن الأوزاعى مثله. واختلف
قول الشافعى مثل قول الأوزاعى، فمرة قال: يتوضأ، ومرة قال:
يغسل قدميه. وقال مالك، والليث: يغسل رجليه مكانه، فإن
تطاول أعاد الوضوء. وقال الحسن البصرى، وابن أبى ليلى،
وقتادة، ورواية عن النخعى: إذا نزع خفيه بعد المسح صلى،
وليس عليه شىء. وحجة هذا القول: الإجماع على أنه من مسح
برأسه فى الوضوء، ثم حلقه أنه لا يستأنف مسحه فكذلك رجليه.
وإن نزع أحد خفيه بعد المسح، فقال مالك والليث، والكوفيون،
والأوزاعى، والشافعى: يغسل رجليه جميعًا. وروى عن الثورى
أنه قال: كان بعضهم يقول: يغسل إحدى رجليه، وهى رواية
المعافري، عن الثوري.
(1/311)
وروى أشهب، عن مالك: أنه يجزئه غسل تلك
الرجل فقط، وروى عيسى، عن ابن القاسم مثله. قال المهلب:
وفيه المسح فى السفر بغير توقيت، واختلف العلماء فى ذلك،
فقال مالك، والليث: لا وقت للمسح على الخفين، وللمسافر
والمقيم أن يمسح ما بدا له، وروى هذا عن عمر بن الخطاب،
وسعد بن أبى وقاص، وعقبة بن عامر، وابن عمر، وبه قال الحسن
البصرى. وقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، والشافعى،
وأحمد: يمسح المقيم يومًا وليلة، ويمسح المسافر ثلاثة أيام
ولياليهن، ورووا فى ذلك آثارًا كثيرة عن النبى، (صلى الله
عليه وسلم) ، وصححها قوم، ودفعها آخرون. وقال عبد الرحمن
بن مهدى: حديثان لا أصل لهما: التوقيت فى المسح،
والتسليمتان. قال المهلب: فى حديث المغيرة خدمة العالم،
وأن للخادم أن يقصد إلى ما يعرف من خدمته دون أن يؤمر بها،
لقوله: تمت أهويت لأنزع خفيه -. قال غيره: وفيه إمكان
الفهم عن الإشارة، ورد الجواب بالعلم على ما يفهم من
الإشارة، لأن المغيرة أهوى لينزع الخفين، ففهم عنه (صلى
الله عليه وسلم) ما أراد فأفتاه بأنه يجزئه المسح.
(1/312)
45 - باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ
لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ،
وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ لحمًا، وَلَمْ يَتَوَضَّئُوا
. / 67 - فيه: ابن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى،
وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. رواه عمرو بن أمية عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) . واختلف السلف قديمًا فى هذه المسألة، فذهب
قوم إلى إيجاب الوضوء من أكل ما غيرت النار وهم: عائشة وأم
حبيبة زوجا النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأبو هريرة، وزيد
بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، واختلف فى ذلك عن ابن عمر،
وأبو طلحة، وأنس، وبه قال خارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد
الرحمن، وابن المنكدر، وابن شهاب، وعمر بن عبد العزيز،
وهؤلاء كلهم مدنيون. وقال به أهل العرق: أبو قلابة، والحسن
البصرى، وأبو مجلز، وذهبوا فى ذلك إلى ما روى ابن أبى ذئب،
عن الزهرى، عن عبد الملك بن أبى بكر، عن خارجة بن زيد بن
ثابت، عن أبيه، قال: قال رسول الله: تمت توضئوا مما غيرت
النار -. وبما رواه ابن شهاب، عن سعيد بن خالد بن عمرو بن
عثمان أنه سأل عروة عن ذلك فقال: سمعت عائشة تقول: قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت توضئوا مما غيرت
النار -. وقال آخرون: لا يتوضأ مما مست النار، وممن قال
بذلك: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطابن وعثمان بن عفان،
وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو أمامة،
وأُبىّ بن كعب، وأبو الدرداء.
(1/313)
وهو قول مالك، والثورى فى أهل الكوفة،
والأوزاعى فى أهل الشام، والشافعى، وأحمد، وأسحاق، وأبى
ثور، واحتجوا بحديث هذا الباب أن النبى (صلى الله عليه
وسلم) أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ، وقالوا: هذا كان آخر
الأمرين من رسول الله. قال الطحاوى: والدليل على ذلك ما
حدثنا أبو زرعة الدمشقى، حدثنا على بن عياش، حدثنا سعيد بن
أبى حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال:
كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار.
وحدثنا ابن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا عبد العزيز بن مسلم،
عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن النبى
(صلى الله عليه وسلم) أكل ثور أقط يومًا فتوضأ، ثم أكل
كتفًا فصلى ولم يتوضأ. فثبت أن آخر الأمرين منه (صلى الله
عليه وسلم) ترك الوضوء مما غيرت النار وأنه ناسخ لما قبله.
وقال حماد بن زيد: سمعت خالدًا الحذاء يقول: كانوا يرون أن
الناسخ من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما كان
عليه أبو بكر وعمر. وقال حماد: سمعت أيوب، قلت لعثمان
البتى: إذا سمعت أبدًا اختلافًا عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) فانظر ما كان عليه أبو بكر وعمر فشد عليه يدك.
(1/314)
وروى محمد بن الحسن، عن مالك، قال: إذا جاء
عن النبى (صلى الله عليه وسلم) حديثان مختلفان وبلغنا أن
أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، كان فى ذلك
دلالة على أن الحق فيما عملا به. وقال الأوزاعى: كان محكول
يتوضأ مما مست النار، فلقى عطاء بن أبى رباح فأخبره أن أبا
بكر الصديق أكل كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ، فترك مكحول الوضوء
فقيل له: تركت الوضوء؟ فقال: لأن يقع أبو بكر من السماء
إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله. وقد ذهب قوم
ممن تكلم فى غريب الحديث إلى أن قوله (صلى الله عليه وسلم)
: تمت توضئوا مما غيرت النار - أنه عنى به غسل اليد، وهذا
لا معنى له، ولو كان كما ظن لكان دسم ما لم تغيره النار
وغيره لا تغسل منه اليد، وهذا يدل على قلة علمه بما جاء عن
السلف فى ذلك من التنازع فى إيجاب الوضوء واختلاف الآثار
فى ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقال الطحاوى:
والحجة فى ذلك من جهة النظر أنا رأينا أن كل ما مسته النار
أن أكلها قبل مماسة النار إياها لا ينقض الوضوء، فأردنا أن
ننظر هل للنار حكم يجب فى الأشياء إذا مستها النار فينقل
حكمها إليها؟ فرأينا الماء طاهرًا يؤدى به الفرض، ثم
رأيناه إذا سخن أن حكمه فى الطهارة على ما كان عليه قبل
مماسة النار له، فكان فى النظر أن الطعام الطاهر الذى لا
يكون أكله قبل مماسة النار حدثا، إذا
(1/315)
مسته النار لا تنقله عن حاله ولا تغير
حكمه، ويكون حكمه بعد مسيس النار كحكمه قبل ذلك، قياسًا
ونظرًا. وفرق أحمد بن حنبل وإسحاق بين أكل لحوم الإبل
وغيرها، فقالا: إن أكل لحوم الإبل نيئًا أو مطبوخًا فعليه
الوضوء. واحتج أحمد بما رواه سفيان، عن سماك، عن جعفر بن
أبى ثور، عن جابر بن سمرة، قال: سئل النبى (صلى الله عليه
وسلم) أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فقال: تمت نعم - فقيل:
أفنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: تمت لا -. وهذا لو صح، لكان
منسوخًا بما ذكرنا أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست
النار. وقد يحتمل أن يكون الوضوء محمولا على الاستحباب
والنظافة لشهوكة الإبل لا على الإيجاب، لأن تناول الأشياء
النجسة مثل الميتة والدم ولحم الخنزير لا ينقص الوضوء فلأن
لا توجبه الأشياء الطاهرة أولى.
46 - باب مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ وَلَمْ
يَتَوَضَّأْ
/ 68 - فيه: سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَنَّهُ خَرَجَ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَامَ
خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ، وَهِيَ
أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا
بِالأزْوَادِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ
بِهِ فَثُرِّىَ، فَأَكَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى
الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى،
وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. / 69 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) أَكَلَ عَنْدَ
مَيْمُونَةَ كَتِفًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
(1/316)
قال المهلب: فى حديث سويد أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) مضمض من السويق، وليس فى حديث ابن عباس
ذكر المضمضة ولا فى واحد من الحديثين، أنه (صلى الله عليه
وسلم) غسل يده من ذلك، فمباح للإنسان أن يغفل من ذلك ما
شاء. قال: ومعنى المضمضة من السويق، وإن كان لا دسم له،
أنه تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحى الفم، فيشتغل تتبعه
بلسانه المصلى عن صلاته. قال غيره: فى حديث سويد من الفقه
إباحة اتخاذ الزاد فى السفر، وفى ذلك رد على الصوفية الذين
يقولون: لا يدخر لغده. وفيه من الفقه: نظر الإمام لأهل
العسكر عن قلة الأزواد وجمعها، ليقوت من لا زاد معه من
أصحابه. وفيه: أن القوم إذا فنى أكثر زادهم فوجب أن
يتواسوا فى زاد من بقى من زاده شىء، فإن أراد الذى بقى من
زاده أن يأخذ فيه الثمن فذلك له إن كان عند القوم ثمن، وإن
كان ثمنه قدرًا اجتهد فيه بلا بدل، فإن لم يكن عندهم ثمن
فواجب عليهم أن يتواسوا إلى أن يخرجوا من سفرهم إلى موضع
يجدون الزاد فيه، لأن على المسلم أن يواسى أخاه، وقد جاء
فى الحديث: تمت لا يحل لمسلم أن يعلم أن جاره طاوٍ إلى
جنبه وهو شبعان لا يرفقه بما يمسك مهجته -. وفيه: أن
للسلطان أن يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام إلى الأسواق عند
قلته، فيبيعونه من أهل الحاجة بسعر ذلك اليوم. وقوله: تمت
فثرى - يعنى بُلَّ بالماء، لما كان لحقه من اليبس والقدم،
(1/317)
ومنه قيل للثرى: ثرى، لرطوبته. وقال صاحب
تمت الأفعال - يقال: ثريت الأرض وأثرت إذا وصل ندى المطر
إلى ثراها.
47 - باب هَلْ يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَنِ
/ 70 - فيه: ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) شَرِبَ لَبَنًا، فَمَضْمَضَ، وَقَالَ: تمت
إِنَّ لَهُ دَسَمًا -. قال: المهلب: تمت إن له دسمًا - قد
بين العلة التى من أجلها أمروا بالوضوء مما مست النار فى
أول الإسلام، وذلك، والله أعلم، على ما كانوا عليه من قلة
التنظف فى الجاهلية، فلما تقررت النظافة وشاعت فى الإسلام،
نسخ الوضوء، تيسيرًا على المؤمنين. وفيه: أن مضمضة الفم
عند أكل الطعام من أدب الأكل.
48 - باب الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنَ
النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ أَوِ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا
/ 71 - فيه عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: تمت إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ
يُصَلِّى فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ،
فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ رَاقِدٌ،
لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ -. / 72 -
وفيه: أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ،
قَالَ: تمت إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ [فِى الصَّلاةِ] ،
فَلْيَنَمْ، حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ -.
(1/318)
قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) :
تمت إذا نعس أحدكم فليرقد -، هو فى صلاة الليل، لأن صلوات
الفرض ليست من نهاية الطول، ولا فى أوقات النوم فيحدث فيها
مثل هذا، وقد ذكر (صلى الله عليه وسلم) العلة الموجبة لقطع
الصلاة، وذلك أنه خاف عليه إذا غلب عليه النوم أن يخلط
الاستغفار بالسب. قال المهلب: ومن صار فى مثل هذه الحال من
ثِقَلِ النوم فقد انتقض وضوءه بإجماع، فأشبه من نهاه الله
تعالى عن مقاربة الصلاة فى حال السكر بقوله تعالى: (لاَ
تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ
تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [النساء: 43] . وقد قال
الضحاك فى تأويل قوله تعالى: (وَأَنتُمْ سُكَارَى (أنه
النوم. والأكثر أنها نزلت فى سكر الخمر، وبَيَّن حديث
عائشة، وحديث أنس فى هذا أن المعنى واحد، لأن من أراد أن
يستغفر ربه فيسب نفسه، فقد حصل من فقد العقل فى منزلة من
لا يعلم ما يقول من سكر الخمر التى نهى الله تعالى عن
مقاربة الصلاة فيها، ومن كان كذلك فلا تجوز صلاته، لأنه
فقد عقله الذى خاطب الله أهله بالصلاة والفرائض، ورفع
الخطاب بذلك والتكليف عمن عدمه. ودلت الآية على ما دل عليه
الحديثان، أنه لا ينبغى للمصلى أن يقرب الصلاة مع شاغل له
عنها، أو حائل بينه وبينها، لتكون همه لا هم له غيرها، وأن
من استثقل نومه فعليه الوضوء، وهذا يدل أن النوم اليسير
بخلاف ذلك.
(1/319)
وأجمع الفقهاء على أن النوم القليل الذى لا
يزيل العقل لا ينقض الوضوء، إلا المزنى وحده، فإنه جعل
قليل النوم وكثيره حدثًا، وخرق الإجماع. وكذلك أجمعوا أن
نوم المضطجع ينقض الوضوء. واختلفوا فى هيئات النائمين،
فقال مالك: من نام قائمًا أو راكعًا، أو ساجدًا فعليه
الوضوء. وفرق الشافعى بين نومه فى الصلاة وغيرها، فقال: إن
كان فى الصلاة لا ينقض، كما لا ينقض نوم القاعد، وله قول
آخر كقول مالك. وعند الثورى وأبى حنيفة: لا ينقض الوضوء
إلا نوم المضطجع فقط، واحتجوا بما روى أبو خالد الدالانى،
عن قتادة، عن أبى العالية، عن ابن عباس، أن النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، نام فى سجوده ونفخ، فقيل له: يا رسول
الله، نمت فى سجودك وصليت، ولم تتوضأ؟ فقال: تمت إنما
الوضوء على من نام مضطجعًا -. وهذا حديث منكر، قد ضعفه ابن
حنبل وأبو داود، وقال أحمد: ما لأبى خالد يُدخِل نفسه فى
أصحاب قتادة، ولم يلقه؟ . وأيضًا لم يروه أحد من أصحاب
قتادة عنه، وقيل: لم يسمع قتادة من أبى العالية إلا أربعة
أحاديث ليس هذا منها. والقائم والراكع والساجد يمكن خروج
الريح منه، لانفراج موضع الحدث منه، ولا يشبه القاعد
المنضم الأطراف إلا أن يطول
(1/320)
نومه جدًا فى حال قعوده، فعليه الوضوء عند
مالك، والأوزاعى، وأحمد. ولم يفرق أبو حنيفة والشافعى بين
نوم الجالس فى القِلَّة والكَثْرَة، وقالا: لا ينتقض وضوءه
وإن طال. ويرد قولهم: أنه إذا طال نومه جدًا فى حال قعوده
فهو شاك فى الطهارة، وقد أُخِذَ عليه أن يدخل الصلاة بيقين
طهارة، وهذا قد زال يقينه، فعليه الوضوء، وسيأتى إن شاء
الله فى كتاب الصلاة، فى باب النوم قبل العشاء لمن غلب
عليه شىء من معنى هذا الباب. قال عبد الواحد: فإن قال
قائل: فمن أين يخرج من هذا الباب قوله فى الترجمة: ومن لم
ير من النعسة والنعستين والخفقة وضوءًا؟ قيل له: يخرج من
معنى الحديث، لأنه لما أوجب، (صلى الله عليه وسلم) ، قطع
الصلاة بغلبة النوم والاستغراق فيه، دل أنه إذا كان النعاس
أقل من ذلك ولم يغلب عليه أنه معفو عنه، لا وضوء فيه، على
ما يذهب إليه الجمهور.
49 - باب الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ
/ 73 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ
كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدَنَا
الْوُضُوءُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ. / 74 - وفيه: سُوَيْدُ
بْنُ النُّعْمَانِ، أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ،
صَلَّى الْعَصْرَ يوم خَيْبَرَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ،
وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. فيه: أن الوضوء من غير حدث ليس بواجب،
وقد بين ذلك أنس بقوله: تمت يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث
-. وعليه الفقهاء
(1/321)
والناس، ويشهد لصحة قول أنس فى ذلك صلاته
(صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد
فى حديث سويد، وإنما فعل ذلك ليُرى أمته أن ما يلتزمه (صلى
الله عليه وسلم) فى خاصته من الوضوء لكل صلاة ليس بلازم،
وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الوضوء. وقال بعض
العلماء: الوضوء عن غير حدث نور على نور. فمن أراد
الاقتداء به (صلى الله عليه وسلم) فى جميع ذلك فمباح، وكان
ابن عمر يلتزم اتباعه (صلى الله عليه وسلم) فى جميع
أفعاله، ويتوخى المواضع التى صلى فيها، فيصلى فيها حتى أنه
كان يدير ناقته فى المواضع التى كان رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) يدير ناقته فيها، حبًا للاقتداء به ورغبةً فى
امتثال أفعاله (صلى الله عليه وسلم) .
50 - باب مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ لا يَسْتَتِرَ مِنْ
بَوْلِهِ
/ 75 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىُّ، (صلى الله
عليه وسلم) ، بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، أَوْ
مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِى
قُبُورِهِمَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت
يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ -، ثُمَّ
قَالَ: تمت بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لا يَسْتَتِرُ مِنْ
بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ. . . .
. - الحديث. قال المهلب: قوله: تمت وما يعذبان فى كبير -،
يعنى عندكم، وهو كبير عند الله يدل على ذلك قوله: تمت بلى
- أى بلى إنه لكبير عند الله وهو كقوله: تمت إن الرجل
ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ حيث ما بلغت،
يكتب له بها سخطه إلى يوم يلقاه -. ومصداق هذا المعنى فى
كتاب الله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ
اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15] .
(1/322)
واختلف أهل التأويل فى الكبائر التى تُغْفر
الصغائر باجتنابها، فقال بعضهم: الكبائر سبع، وقال آخرون:
هى تسع، وقال آخرون: كل ما نهى الله عنه فهو كبير. وقيل:
كل ما عُصى الله به فهو كبير. هذا قول الأشعرية، ويحتمل أن
يحتجوا بهذا الحديث، لأن ترك التحرز من البول لم يتقدم فيه
وعيد من الله ولا من رسوله، (صلى الله عليه وسلم) ، حتى
أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كبير، وأن صاحبه يعذب
عليه، فكذلك يجوز أن يكون كثير من الذنوب كبائر، وإن لم
يتقدم عليها وعيد. وخالفهم الفقهاء وأهل تأويل القرآن فى
ذلك، وفرَّقوا بين الكبائر والصغائر. وقد تقصيت مذاهب
العلماء فيه، وما نزع به كل فريق فى كتاب الأدب، فهو أولى
به. وروى هذا عن على بن أبى طالب، وعبيد بن عمير، وعطاء،
واحتجوا بآثار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك. فقال
بعضهم: الكبائر تسع، روى هذا عن عبد الله بن عمر. وقال
آخرون: كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب،
فهو كبير. روى هذا عن ابن عباس. وروى عنه: كل ما نهى الله
عنه فهو كبير، قال: ومنها النظرة. وقال مرة: كل شىء عُصى
الله به فهو كبير.
(1/323)
وقال طاوس: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟
قال: هى إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير: قال رجل
لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى سبع مائة أقرب منها
إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع
إصرار. وذهب أهل التأويل إلى أن الصغائر تُغفر باجتناب
الكبائر، وخالفهم فى ذلك الأشعرية، وسيأتى بيان قولهم وما
نزع إليه كل فريق منهم فى كتاب الأدب، إن شاء الله. إلا أن
قوله: تمت يُعذبان وما يُعذبان فى كبير - حجة لقول ابن
عباس، أن ما عُصى الله به فهو كبير، لأن ترك التحرز من
البول لم يتقدم فيه وعيد من الله ولا من رسوله (صلى الله
عليه وسلم) حتى أخبر أنه كبير، وأن صاحبه يُعذب عليه،
فكذلك يجوز أن يكون كثير من الذنوب كبائر، وإن لم يتقدم
عليها وعيد. قال أبو بكر الصديق: إن الله يغفر الكبير فلا
تيئسوا، ويُعذب على الصغير فلا تغتروا. وفى حديث ابن عباس:
أن عذاب القبر حق، يجب الإيمان به والتسليم له، وهو مذهب
أهل السنة. وسيأتى فى كتاب الجنائز شىء من معنى هذا
الحديث، إن شاء الله.
(1/324)
51 - باب مَا جَاءَ فِى غَسْلِ الْبَوْلِ
قَالَ (صلى الله عليه وسلم) لِصَاحِب الْقَبْرِ: تمت كَانَ
لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ -، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى
بَوْلِ النَّاسِ. / 76 - فيه: أَنَس، كَانَ (صلى الله عليه
وسلم) إِذَا تَبَرَّزَ، أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ، فَيَغْسِلُ
بِهِ. / 77 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أن النَّبِىّ، (صلى
الله عليه وسلم) ، مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: تمت
إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى
كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ
الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى
بِالنَّمِيمَةِ. . . . - الحديث. أجمع الفقهاء على نجاسة
البول والتنزه عنه. وقوله: تمت كان لا يستتر من بوله -،
يعنى أنه كان لا يستر جسده ولا ثيابه من مماسة البول، فلما
عُذب على استخفافه لغسله والتحرز منه، دل أنه من ترك البول
فى مخرجه، ولم يغسله أنه حقيق بالعذاب. وقد روى غير
البخارى فى مكان تمت يستتر من بوله -: تمت يستبرئ من بوله
-، معنى لا يستبرئ: لا يستفرغ البول جهده بعد فراغه منه،
فيخرج منه بعد وضوئه فيصل غير متطهر. ذكر عبد الرزاق هذا
الحديث وقال فيه: تمت أما أحدهما فكان لا يتنزه عن البول
-. ورواه أيضًا: تمت أما هذا كان لا يتأذى ببوله -. هذه
الروايات كلها معناها متقارب، واختلف الفقهاء فى إزالة
النجاسة من الأبدان والثياب، فقال مالك: إزالتها ليست
بفرض. وقال بعض أصحابه: إزالتها فرض، وهو قول أبى حنيفة،
والشافعى،
(1/325)
إلا أن أبا حنيفة يعتبر فى النجاسات ما زاد
على مقدار الدرهم. وحجة من أوجب إزالة النجاسة: أنه أخبر
(صلى الله عليه وسلم) عن صاحب القبر: أنه يُعذب بسب البول،
وذلك وعيد وتحذير، فثبت أن الإزالة فرض. واحتج ابن القصار
بقول مالك، فقال: يحتمل صاحب القبر الذى عُذب فى البول أنه
كان يدع البول يسيل عليه، فيصلى بغير طهر، لأن الوضوء لا
يصح مع وجوده، ومحتمل أن يفعله على عمد لغير عذر، لأنه قد
روى تمت لا يستبرئ -، وتمت لا يستنزه -، وعندنا أن من تعمد
ترك سنن النبى (صلى الله عليه وسلم) بغير عذر ولا تأويل
أنه مُتَوَعَّد مأثوم، فأما إذا لم يتعمد ذلك، وتركها
متأولا أو لعذر، فصلاته صحيحة تامة. وقول البخارى: تمت ولم
يذكر سوى بول الناس -، فإنه أراد أن يبين أن معنى روايته
فى هذا الباب: تمت أما أحدهما فكن لا يستتر من البول -، أن
المراد بول الناس لا بول سائر الحيوان، لأنه قد روى الحديث
فى هذا الباب قبل هذا وغيره تمت لا يستتر من بوله -، فلا
تعلق فى حديث هذا الباب لمن احتج به فى نجاسة بول سائر
الحيوان.
(1/326)
52 - باب تَرْكِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) وَالنَّاسِ الأعْرَابِىَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ
بَوْلِهِ فِى الْمَسْجِدِ
/ 78 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ،
فَقَالَ: تمت دَعُوهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ، دَعَا
بِمَاءٍ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ -. قال المهلب: فيه الرفق
بالجاهل، لأنه لو قطع عليه بوله لأصاب ثوبه البول وتنجس،
وكذلك وصَفهُ الله أنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وأنه على خلق
عظيم، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إنما بعثتم مُيسرين
-، وفعل ذلك استئلافًا للأعراب الذين أخبر الله عنهم أنهم
أشد كفرًا ونفاقًا، وأيضًا فإن ما جناه الأعرابى
اسْتُدرِكَ غسله بالماء. وفيه: تطهير المساجد من النجاسات
وتنزيهها عن الأقذار.
53 - باب صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ فِى الْمَسْجِدِ
/ 79 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ أَعْرَابِىٌّ،
فَبَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ
لَهُمُ (صلى الله عليه وسلم) : تمت دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا
عَلَى بَوْلِهِ سَجْلا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ
مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ
تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ -. / 80 - فيه: أَنَس، عَنِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، مثله. فى هذا الحديث من
الفقه: أن الماء إذا غلب على النجاسة، ولم يظهر فيه شىء
منها فقد طهرها، وأنه لا يضر ممازجة الماء لها إذا غلب
عليها، سواء كان الماء قليلاً، أو كثيرًا.
(1/327)
واختلف العلماء فى ذلك، فذهب مالك فى رواية
المدنيين عنه: أن الماء الذى تحله النجاسة إذا لم يتغير
طعمه، أو لونه، أو ريحه، فهو طاهر، قليلاً كان الماء، أو
كثيرًا، وبه قال النخعى، والحسن، وابن المسيب، وربيعة،
وابن شهاب، وفقهاء المدينة. وذهب الكوفيون إلى أن النجاسة
تفسد قليل الماء وكثيره، إلا الماء المستبحر الكثير الذى
لا يقدر أحد على تحريك جميعه قياسًا على البحر الذى قال
فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت هو الطهور ماؤه
الحل ميتته -. وذهب الشافعى إلى أن الماء إن كان دون قلتين
نجَس، وإن لم يتغير، وإن كان قلتين فصاعدًا لم ينجُس إلا
بالتغير، وبه قال أحمد، وإسحاق. ولابن القاسم، عن مالك أن
قليل النجاسة يُفسد قليل الماء، وإن لم تغيره، ولم يعتبر
القلتين. وحديث بول الأعرابى فى المسجد يرد حديث القلتين،
لأن الدلو أقل من القلتين، وقد طهر موضع بول الأعرابى،
ويرد أيضًا على أبى حنيفة أصله فى اعتباره الماء المستبحر.
وقال النسائى: لا يثبت فى انتجاس الماء إلا حديث بول
الأعرابى فى المسجد، إلا أن أصحاب الشافعى لما لزمتهم
الحجة به فزعوا إلى التفريق بين ورود الماء على النجاسة،
وبين ورود النجاسة على الماء، فراعوا فى ورودها عليه مقدار
القلتين، ولم يراعوا فى وروده عليها ذلك المقدار.
(1/328)
قال ابن القصار: وهذا لا معنى له، لأنه قد
تقرر أن الماء إذا ورد على النجاسة لم ينجس إلا أن يتغير،
فكذلك يجب إذا وردت النجاسة على الماء لا ينجس إلا أن
يتغير، إذ لا فرق بين الموضعين. قال: ومما يَردُّ اعتبار
الكوفيين والشافعى، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر بصب
الذنوب على بول الأعرابى فى المسجد، وقد علمنا أنه إنما
أراد تطهير المكان بهذا المقدار من الماء ولا يطهر إلا
بزوال النجاسة ولم تزُل إلا بغلبة الماء الذى هو دون
المقدار الذى يعتبره أبو حنيفة، والشافعى، ومعلوم أن هذا
المقدار من الماء لا يزيل النجس إلا وقد حل فيه النجس أو
بعضه، وإذا حصل فيه النجس لم يكن بد أن يُحكم له بالطهارة،
لأنه لو لم يطهر لكان نجسًا، ولو كان نجسًا لما أزال
النجاسة عن الموضع، لأنه كلما لاقى النجسُ الماءَ نَجَّسه،
فأدى ذلك إلى أن لا تزول نجاسة ولا يطهر المكان. واختلفوا
فى تطهير الأرض من البول والنجاسة، فقال مالك والشافعى
وأبو ثور: لا يطهرها إلا الماء، واحتجوا بحديث بول
الأعرابى. وروى عن أبى قلابة، والحسن البصرى، وابن
الحنفية، أنهم قالوا: جفوف الأرض طهورها، وهو قول أبى
حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد، قالوا: الشمس تزيل النجاسة، فإذا
ذهب أثرها صل فيها ولا تتيمم. وقال الثورى: إذا جف فلا بأس
بالصلاة عليه. وعند مالك وزفر: لا يجزئه أن يصلى عليها إلا
أن مالكًا، قال: يعيد فى الوقت، وكذلك قال إذا تيمم به.
(1/329)
قال الطحاوى: واختلفوا فيما يجوز به إزالة
النجاسة من الأبدان والثياب، فقال مالك: لا يطهر ذلك إلا
الماء الذى يجوز به الوضوء. وهو قول زفر، ومحمد بن الحسن،
والشافعى. والحجة لهم قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ
السَّمَاء مَاء طَهُورًا) [الفرقان: 48] ، وأمرُهُ (صلى
الله عليه وسلم) بصب الدلو على بول الأعرابى فى المسجد.
قالوا: فكذلك حكم الأبدان والثياب. وقال أبو حنيفة، وأبو
يوسف: تجوز إزالة النجاسة بكل مائع، وكل طاهر، والنار،
والشمس، ولو أن جلد الميتة جف فى الشمس طهر من غير دباغ،
واحتجوا على إزالة النجاسات بالمائعات، فقالوا: الخمر إذا
انقلبت خلا فقد طهرت هى والدن جميعًا. ونحن نعلم أن الخمر
كانت نجسة، والدن نجس، ولم يطهره إلا الخل. قال ابن
القصار: فيقال لهم: إن الدن جامد وكان طاهرًا قبل حدوث
الشدة فى الخمر، وإنما حصلت على وجهه أجزاء نجاسة من
الخمر، فإذا انقلبت الخمر خلا انقلبت تلك الأجزاء خلا، فلم
تزل بالخل، وإنما انقلبت كما انقلب نفس الخمر. ونظير
مسألتنا أن يصب الثوب نجاسة فتنقلب عينها فتصير طاهرة،
(1/330)
فنقول: إن هذا لا يحتاج إلى غسل، ثم نقول:
إن الدن لو كان إنما طهر بالخل على طريق الغسل لوجب ألا
يحكم بطهارته ولا بطهارة الخل، ألا ترى لو أن إناء فيه بول
أو دم فصب عليه الخل حتى ملأ الدن، فإن الخل ينجس ولا يطهر
الإناء؟ . فعلمنا أن الدن لم يطهر يكون الخل فيه، وإنما
طهر بانقلاب عينه، ومن مذهبهم أن الماء الذى تغسل به
النجاسة يكون نجسًا، فكيف بالخلِّ؟ ولو طهر الدن بغسل الخل
له لنجس الخل، ألا ترى أنه لو كان الدن نجسًا بالخمر، ثم
غسل بخلِّ آخر لم يطهر ولنجس الخل؟ . وقال أبو حاتم: تمت
السَّجْل -، مذكر الدلو ملأى ماءً، ولا يقال لها وهى
فارغة: سجل، فإذا لم يكن فيها ماء فهى دلو، وثلاثة أسجل،
وهو السجال. ابن دريد: ودلو: سجل واسعة. يعقوب، عن ابن
مهدى: دلو سجيلة، والذنوب الدلو الملأى، عن الخليل.
54 - باب بَوْلِ الصِّبْيَانِ
/ 81 - فيه: عَائِشَة، قَالَتْ: أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) بِصَبِىٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ،
فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ. / 82 - وفيه:
أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ، أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ
لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى
ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
(1/331)
قال الأصيلى: انتهى آخر حديث أم قيس إلى
قوله: تمت فنضحه -، وقوله: تمت فلم يغسله - من قول ابن
شهاب، وقد رواه معمر، عن ابن شهاب، فقال فيه: تمت فنضحه -،
ولم يزد، وروى ابن أبى شيبة، عن ابن عيينة، عن ابن شهاب،
فقال فيه: تمت فدعا بماءٍ فرشه -، ولم يزد. واختلف العلماء
فى بول الصبى، فقالت طائفة: بوله طاهر قبل أن يأكل الطعام،
روى هذا عن على بن أبى طالب، وأم سلمة، وعطاء، والحسن،
والزهرى. وهو قول الأوزاعى، وابن وهب صاحب مالك، والشافعى،
وأحمد، وإسحاق. والحجة لهم قوله فى حديث أم قيس: تمت
فنضحه، ولم يغسله -. وفرق هؤلاء الفقهاء بين بول الصبى
والصبية، فقالوا: بول الصبية نجس، وإن لم تأكل الطعام
بخلاف بول الصبى. واحتجوا فى ذلك بما رواه هشام، عن قتادة،
عن أبى حرب بن أبى الأسود، عن أبيه، عن على بن أبى طالب،
عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال فى الرضيع: تمت
يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام -. وقالت طائفة أخرى:
بول الصبى والصبية نجس، سواء أكلا الطعام أم لا، هذا قول
النخعى، وإليه ذهب مالك، والكوفيون، وأبو ثور.
(1/332)
واحتج لهم الطحاوى فقال: أراد بالنضح فى
هذا الحديث الغسل وصب الماء عليه، وقد تسمى العرب ذلك
نضحًا، ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إنى لأعرف
مدينة يقال لها: عُمان ينضح البحر بناحيتها لو جاءهم رسولى
ما رموه بحجر -. فلم يعن بذلك النضح، الرش، ولكنه أراد
يلزق بناحيتيها. والدليل على صحة هذا: أن عائشة روت حديث
بول الصبى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقالت فيه:
تمت فدعا بماءٍ فأتبعه إياه -، ولم تقل: فلم يغسله. رواه
مالك، وأبو معاوية، عن هشام بن عروة. وهكذا رواه زائدة، عن
هشام بن عروة، وقال فيه: تمت فدعا بماءٍ، فنضحه عليه -.
قال الطحاوى: وإتباع الماء حكمه حكم الغسل، ألا ترى لو أن
رجلاً أصاب ثوبه عذرة، فأتبعها الماء حتى ذهب بها أن ثوبه
قد طهر؟ . قال ابن القصار: والنضح فى معنى الغسل فى قوله
(صلى الله عليه وسلم) للمقداد: تمت انضح فرجك -، وكما قال
فى حديث أسماء فى غسل الدم: تمت انضحيه -، فجعل النضح
عبارة عن الغسل. قال المهلب: والدليل على أن النضح يراد به
كثرة الصب والغسل، قول العرب للجمل الذى يستخرج به الماء
من الأرض: ناضح. قال ابن القصار: وقد أجمع المسلمون على
أنه لا فرق بين بول الرجل، وبول المرأة فى نجاسته، كذلك
بول الغلام والجارية. قال المهلب: واللبن الذى قد رضعه
الصبى هو طعام، وإنما قال فى الحديث: تمت لم يأكل الطعام
-، ليحكى القصة كما وقعت، لا للفرق بين اللبن والطعام.
(1/333)
وقال جماعة من العلماء: حديث عائشة، وحديث
أم قيس أصل فى غسل البول من الثياب والجسد وغيرهما.
55 - باب الْبَوْلِ قَائِمًا وَقَاعِدًا
/ 83 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: أَتَى النَّبِىُّ، (صلى
الله عليه وسلم) ، سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا،
فَدَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ. فى نص
الحديث جواز البول قائمًا، وأما البول قاعدًا فمن دليل
الحديث، لأنه إذا جاز البول قائمًا فقاعدًا أجوز، لأنه
أمكن. واختلف العلماء فى البول قائمًا، فروى عن عمر بن
الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسهل
بن سعد، وأنس بن مالك، وأبى هريرة، وسعد بن عبادة: أنهم
بالوا قيامًا. وروى مثله عن ابن المسيب، وابن سيرين، وعروة
بن الزبير. وكرهت طائفة البول قائمًا، ذكر ابن أبى شيبة،
فى مصنفه إنكار عائشة أن يكون رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) بال قائمًا. وعن عمر بن الخطاب، أنه قال: ما بلت
قائمًا منذ أسلمت. وعن مجاهد أنه قال: ما بال رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) قائمًا قط إلا مرة فى كثيب أعجبه.
وروى عن ابن مسعود أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم.
وهو قول الشعبى. وكرهه الحسن، وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز
شهادة من بال قائمًا.
(1/334)
وفيه قول ثالث: أن البول إذا كان فى مكان
لا يتطاير عليه منه شىء فلا بأس به، وإن كان فى مكان
يتطاير عليه، فهو مكروه. هذا قول مالك، وهو دليل الحديث،
لأنه (صلى الله عليه وسلم) أتى سباطة قوم فبال قائمًا.
والسباطة: المزبلة، والبول فيها لا يكاد يتطاير منه كبير
شىء، فلذلك بال قائمًا (صلى الله عليه وسلم) . ومن كره
البول قائمًا، فإنما كرهه خشية ما يتطاير إليه من بوله،
ومن أجازه قائمًا، فإنما أجازه خوف ما يُحدثه البائل
جالسًا فى الأغلب من الصوت الخارج عنه إذا لم يمكنه
التباعد عمن يسمعه. وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال:
البول قائمًا أحصن للمدبر. وكان رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) إذا بال قائمًا لم يبعد عن الناس، ولا أبعدهم عن
نفسه، بل أمر حذيفة بالقرب منه إذ بال قائمًا. وروى عنه
(صلى الله عليه وسلم) من مرسل عطاء، وعبيد بن عمير، أنه
بال جالسًا، فدنا منه رجل، فقال: تمت تنح، فإن كل بائلة
تُفِيخُ -. ويُروَى: تمت تفيس -. وقال إسحاق بن راهويه: لا
ينبغى لأحد يتقرب من الرجل يتغوط أو يبول جالسًا لقول
النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت تنح، فإن كل بائلة
تُفيخُ -.
(1/335)
56 - باب الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ
وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ
/ 84 - فيه: حُذَيْفَةَ، رَأَيْتُنِى أَنَا وَالنَّبِىُّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ
قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ، كَمَا يَقُومُ
أَحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ
إِلَىَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ، حَتَّى
فَرَغَ. قال المروزى: من السنة أن يقرب من البائل إذا كان
قائمًا، لحديث حذيفة هذا، إذا أمن أن يرى منه عورة، وأما
إن كان قاعدًا، فالسنة أن تبتعد عنه لئلا يفيخ كما رُوى
عنه (صلى الله عليه وسلم) . وقوله: تمت فانتبذت منه -،
إنما فعل ذلك حذيفة لئلا يسمع منه (صلى الله عليه وسلم)
شيئًا مما يجرى فى الحدث، فلما بال قائمًا، وأمن عليه ما
خشيه حذيفة أمره بالتقرب منه. وفى قوله: تمت فأشار إلىَّ
فجئته -، يدل أنه لم يبعد منه بحيث لا يراه، وإنما بعد عنه
وعينه تراه، لأنه كان يحرسه، (صلى الله عليه وسلم) . وفيه:
خدمة العالم، قاله المهلب. وفيه: أنه (صلى الله عليه وسلم)
كان إذا أراد قضاء حاجة الإنسان توارى عن أعين الناس بما
يستره من حائطٍ أو شجر، وبذلك كان يأمر أمته (صلى الله
عليه وسلم) .
57 - باب الْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
/ 85 - فيه: أَبُو وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى
الأشْعَرِىُّ يُشَدِّدُ فِى الْبَوْلِ، وَيَقُولُ: إِنَّ
بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ
قَرَضَهُ،
(1/336)
فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَيْتَهُ أَمْسَكَ،
أَتَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سُبَاطَةَ
قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا. تمت السباطة -: المزبلة، والبول
قائمًا لا يكاد يسلم مما يتطاير منه، قال أبو عبيد:
السباطة نحو الكناسة. ابن دريد: الكناسة: ما كنس. واختلف
العلماء فى مقدار رءوس الإبر تتطاير من البول، فقال مالك،
والشافعى، وأبو ثور: يغسل قليله وكثيره. وقال إسماعيل بن
إسحاق: غسل ذلك عند مالك على سبيل الاستحسان والتنزه. وقال
الكوفيون: ليس مقدار رءوس الإبر بشىء، وسهلوا فى يسير
النجاسة. وقال الثورى: كانوا يرخصون فى القليل من البول.
وقول حذيفة: تمت ليته أمسك -، يرد عليه تشديده فى البول،
وهو حجة لمن رخص فى يسيره، لأن المعهود ممن بال قائمًا أن
يتطاير إليه مثل رءوس الإبر. وفيه: يسر وسماحة، إذْ كان من
قبلنا يقرض ما أصاب البول من ثوبه. وحديث حذيفة موافق
لمذهب الكوفيين.
(1/337)
58 - باب غَسْلِ الدَّمِ
/ 86 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلى
النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ
إِحْدَانَا تَحِيضُ فِى الثَّوْبِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟
قَالَ: تمت تَحُتُّهُ وَتَقْرُصُهُ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ
بِالْمَاءِ وَتُصَلِّى فِيهِ -. / 87 - وفيه: عَائِشَةَ،
قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِى حُبَيْشٍ إِلَى
النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ، فَلا
أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : تمت لا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ،
وَلَيْسَ بِالْحَيْضٍ -، إلى قوله: تمت فَاغْسِلِى عَنْكِ
الدَّمَ وَصَلِّى -. حديث أسماء أصل عند العلماء فى غسل
النجاسات من الثياب. وقوله: تمت تَحُتُّ - يعنى تقرصه
وتنقضه. قال أبو عبيد: وقوله: تمت تقرصه - يعنى تقطعه
بالماء، وكل مقطع مقرص، يقال منه: قرصت العجين إذا قطعته.
وقال غيره: والنضح فى هذا الحديث يراد به الغسل. وذلك
معروف فى لغة العرب على ما تقدم بيانه فى باب بول الصبيان،
والدليل على أن النضح فيه يراد به الغسل، قوله (صلى الله
عليه وسلم) لفاطمة بنت أبى حُبيش: تمت فاغسلى عنك الدم
وصلِّى -. وهذا الحديث محمول عند العلماء على الدم الكثير،
لأن الله تعالى شرط فى نجاسته أن يكون مسفوحًا، وكنى به عن
الكثير الجاري.
(1/338)
إلا أن الفقهاء اختلفوا فى مقدار ما يتجاوز
عنه من الدم، فاعتبر الكوفيون فيه وفى سائر النجاسات: دون
الدرهم فى الفرق بين قليله وكثيره، قياسًا على دور المخرج
فى الاستنجاء بالحجارة. وقال مالك: قليل الدم معفو عنه،
ويغسل قليل سائر النجاسات. وروى عنه ابن وهب أن قليل دم
الحيض يُغسل ككثيره، كسائر الأنجاس، بخلاف سائر الدماء.
وقال أشهب: لم يحد مالك فى الدم قدر الدرهم. وقال على بن
زياد عنه: إن قدر الدرهم ليس بواجب أن تعاد منه الصلاة،
ولكن الكثير الفاشى. وعند الشافعى: أن يسير الدم يغسل
كسائر النجاسات إلا دم البراغيث، فإنه لا يمكن التحرز منه.
والحجة لقول مالك: أن يسير دم الحيض ككثيره قوله (صلى الله
عليه وسلم) لأسماء فى دم الحيض: تمت حتيه ثم اقرصيه بالماء
-، ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره، وقوله
لفاطمة بنت أبى حُبيش: تمت فاغسلى عنك الدم وصلِّى -، ولم
يحدّ فيه مقدار درهم من غيره. ووجه الرواية الأخرى: أن
قليل الدم معفو عنه هو أن يسير الدم موضع ضرورة، لأن
الإنسان لا يخلو فى غالب حاله من بثرة، أو دمل، أو برغوث،
أو ذباب، فعفى عن القليل منه، ولهذا حرم الله تعالى
المسفوح منه، فدل أن غيره ليس بمحرم، ولم يستثن فى سائر
النجاسات غير الدم أن تكون مسفوحة.
(1/339)
وقالت عائشة: لو حرم الله قليل الدم لتتبع
الناس ما فى العروق، ولقد كنا نطبخ اللحم والبرمة تعلوها
الصفرة. وليس الغالب من الناس كون الغائط، والبول فى
ثيابهم، وأبدانهم، لأن التحرز يمكن منه. وقال مجاهد: كان
أبو هريرة لا يرى بالقطرة والقطرتين بأسًا فى الصلاة.
وتنخم ابن أبى أوفى دمًا فى صلاته. وعصر ابن عمر بثرة فخرج
منها دم وقيح، فمسحه بيده، وصلى ولم يتوضأ. وروى ابن
المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن أن النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، كان يقتل القملة فى الصلاة. ومعلوم أن
فيها دمًا يسيرًا.
59 - باب غَسْلِ الْمَنِىِّ وَفَرْكِهِ وَغَسْلِ مَا
يُصِيبُ مِنَ الْمَرْأَةِ
/ 88 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ
الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَإِنَّ بُقَعَ
الْمَاءِ فِى ثَوْبِهِ. واختلف العلماء فى المنى هل هو نجس
أم طاهر؟ . فذهب مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبو
حنيفة، وأصحابه إلى أن المنى نجس.
(1/340)
إلا أن مالكًا لا يجزئ عنده فى رطبه ويابسه
إلا الغسل، والفرك عنده باطل. وعند أبى حنيفة يغسل رطبه،
ويفرك يابسه. وقال الثورى: إن لم يفركه أجزأته صلاته. وقال
الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: المنى طاهر ويفركه من
ثوبه، وإن لم يفركه فلا بأس. وممن رأى فرك المنى: سعد بن
أبى وقاص، وابن عباس. قال ابن عباس: امسحه بإذخر أو خرقة،
ولا تغسله إن شئت. قال الطحاوى: واحتج الذين قالوا بنجاسته
من قول عائشة: تمت كنت أغسل الجنابة من ثوب النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، فيخرج إلى الصلاة، وإن بقع الماء فى
ثوبه. واحتج الذين قالوا أنه طاهر بآثار عن عائشة مخالفة
لهذا الحديث، وذلك ما رواه شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن
همام، عن الحارث، أنه نزل على عائشة، رضى الله عنها،
فاحتلم، فرأته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه،
فأخبرت بذلك عائشة، فقالت عائشة: لقد رأيتنى مع النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، وما أزيد على أن أفركه فى ثوب
النبى (صلى الله عليه وسلم) . وروى الأوزاعى، عن يحيى بن
سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كنت أفرك المنى من ثوب
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا كان يابسًا، وأغسله
إذا كان رطبًا. وقال لهم أهل المقالة الأولى: لا حجة لكم
فى هذه الآثار، لأنها
(1/341)
إنما جاءت فى ثياب ينام فيها، ولم تأت فى
ثياب يصلى فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول
لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها، وإنما تكون هذه
الآثار حجة علينا لو كنا نقول: لا يصلح النوم فى الثوب
النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم عن النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، فيه ونقول من بعد: لا تصلح الصلاة
فيها، فلم نخالف شيئًا مما روى عن النبى، (صلى الله عليه
وسلم) ، فى ذلك، وقد قالت عائشة: تمت كنت أغسل المنى من
ثوب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيخرج إلى الصلاة، وإن
بقع الماء فى ثوبه -. فكانت تغسل المنى من ثوبه الذى يصلى
فيه وتفركه من ثوبه الذى لا يصلى فيه. واحتج عليهم الآخرون
بما رواه حماد بن سلمة، عن حماد بن زيد، عن إبراهيم، عن
الأسود، عن عائشة، قالت: كنت أفركه من ثوب النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، ثم يصلى فيه. قالوا: فدل ذلك على
طهارته. قال الطحاوى: ولا يدل ذلك على طهارته كما زعموا،
فقد يجوز أن يفعل ذلك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ،
فيتطهر بذلك الثوب. والمنى فى نفسه نجس كما روى فيما أصاب
النعلين من الأذى. روى محمد بن عجلان، عن المغيرة، عن أبى
هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا
وطئ أحدكم الأذى بخفيه، أو بنعليه، فطهورهما التراب -.
فكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما وليس ذلك دليل على طهارة
(1/342)
الأذى فى نفسه، فكذلك المنى يطهر الثوب
بالفرك، والمنى فى نفسه نجس. قال ابن القصار: وأما دلائل
القياس: فقد اتفقنا على نجاسة المذى، فكذلك المنى بعلة أنه
خارج من مخرج البول. فإن قالوا: هو طاهر، لأنه خلق منه
حيوان طاهر. قيل: قد يكون الشىء طاهرًا ويكون متولدًا عن
نجس كاللبن، فإنه يتولد عن الدم. فإن قالوا: خلق منه
الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا. قيل: وكذلك خلق منه
الفراعنة والطغاة فوجب أن يكون نجسًا، يتولد عن الشهوة يجب
فيه الغسل. فإن قالوا: يعارض قياسكم بقياس آخر، فتقول:
اتفقنا على محة البيضة أنها طاهرة، فكذلك المنى بعلة أنه
مائع خلق منه حيوان طاهر. قيل: ذلك لا يلزم، لأنا قد
اتفقنا أنه يكون الشىء طاهرًا ويكون متولدًا عن نجس
كاللبن، فإنه متولد عن الدم، وقيل: إنه دم كما يكون طاهرًا
ويستحيل إلى النجس كالغذاء والماء فى جوف ابن آدم، وقد
قيل: إن العلقة المتولدة عن المنى من دم نجس. فإن قالوا:
خلق منه الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا. قيل: لو جاز أن
يكون طاهرًا، لأن الأنبياء خلقوا منه لوجب أن يكون نجسًا،
لأن الفراعنة والطغاة خلقوا منه. فإن قيل: فإن الله خلق
آدم من ماء وطين، وهما طاهران فوجب أن يكون طاهرًا.
(1/343)
قيل: هذا لا يلزم لأنه لما لم يشاركه أحد
فى ابتداء خلقه لم تجب مساواته له فيما ذكرتم، لأن آدم لم
يتنقل فى رحم فيكون نطفة ثم علقة، والعلقة دم حكم لها
بالنجاسة إذا انفصلت، ووجدنا الخارجات من البدن على ضربين:
فضرب مائع طاهر ليس خروجه بحدث ولا ينقض الوضوء كاللبن،
والعرق، والدموع، والبصاق، والمخاط. وضرب آخر نجس وخروجه
حدث ينقض الطهارة ويجب غسله، كالبول، والغائط، ودم الحيض،
والمذى. وثبت بالإجماع: أن المذى ينقض الطهر ويوجبه، فكذلك
المنى.
60 - باب إِذَا غَسَلَ الْجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَهَا فَلَمْ
يَذْهَبْ أَثَرُهُ
/ 89 - فيه: عَائِشَةُ: كُنْتُ أَغْسِل الْمَنِىّ مِنْ
ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ
يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ
بُقَعُ الْمَاءِ. / 90 - وقال مرة: إن عَائِشَة كَانَتْ
تَغْسِلُ الْمَنِىَّ مِنْ ثَوْبِ النَّبِىِّ، (صلى الله
عليه وسلم) ، ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا.
قوله: تمت وأثر الغسل - يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون
معناه: بلل الماء الذى غُسل به الثوب، والضمير راجع فيه
إلى أثر الماء، فكأنه قال: وأثر الغسل بالماء بقع الماء
فيه، يعنى لا بقع الجنابة. ويحتمل أن يكون معناه: وأثر
الغسل يعنى أثر الجنابة التى
(1/344)
غسلت بالماء فيه بقع الماء التى غسلت به
الجنابة، والضمير فيه راجع إلى أثر الجنابة لا إلى أثر
الماء. وكلا الوجهين جائز، لكن قوله فى الحديث الآخر: تمت
أنها كانت تغسل المنى من ثوب رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) ثم أراه فيه بقعة أو بقعًا. يدل أن تلك البقع كانت
بقع المنى، وطبعه لا محالة، لأن العرب أبدًا ترد الضمير
إلى أقرب مذكور، وضمير المنى فى الحديث الآخر أقرب من ضمير
الغسل. قال المهلب: وفيه من الفقه: أن أثر النجاسات بعد
الغسل لا يضر، وأن تلك الآثار والطباع هى طبع النجاسة،
وذلك باق فى الثوب، وإذا ثبت هذا، ثبت أن غسل النجاسات ليس
بفرض، لعدم استئصال أثرها، وسائر النجاسات فى ذلك حكمها
حكم الجنابة، وأنها إذا غسلت أعيانها وبقيت آثارها لم يضر
ذلك، ولذلك قال البخارى: باب إذا غسل الجنابة. أو غيرها لم
يذهب أثرها، قياسًا لسائر النجاسات على الجنابة، ولا أعلم
خلافًا لهذا إلا ما يروى عن ابن عمر أنه كان إذا وجد دمًا
فى ثوبه، فغسله فبقى أثره دعا بحلمين فقطعه. وقد روى عن
عائشة أنها صلت فى ثوب كان فيه دم فبقى أثره. وروى مثله عن
علقمة، وهو مذهب مالك، والشافعى، وجماعة. وفيه: خدمة
المرأة لزوجها فى غسل ثيابه وشبه ذلك.
(1/345)
61 - باب أَبْوَالِ الإبِلِ وَالْغَنَمِ
وَالدَّوَابِّ وَمَرَابِضِهَا
وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِى دَارِ الْبَرِيدِ،
وَالسِّرْقِينِ، وَالْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ:
هَاهُنَا، وَثَمَّ سَوَاءٌ. / 91 - فيه: أَنَس أَن نَاسًا
مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، قَدِموا الْمَدِينَةَ
فَاجْتَوَوُهَا، فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا
وَأَلْبَانِهَا. . .، الحديث. / 92 - وفيه: أَنَس، أَن
النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ يُصَلِّى فِى
مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ.
اختلف العلماء فى طهارة أبوال ما يؤكل لحمه: فذهب عطاء،
والنخعى، والزهرى، وابن سيرين، والحكم، والشعبى إلى أنها
طاهرة، وهو قول مالك، والثورى، والليث، ومحمد بن الحسن،
وزفر، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة،
وأبو يوسف، والشافعى، وأبو ثور: الأبوال كلها نجسة. وروى
مثله عن ميمون بن مهران، والحسن، وحماد. وقال ابن القصار:
وحجة أهل المقالة الأولى: حديث أنس أن النبى، (صلى الله
عليه وسلم) ، أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها،
فجعل ذلك بمنزلة اللبن، فلو كانت نجسة ما أباح لهم ذلك.
وقال أهل المقالة الثانية: لا حجة لكم فى هذا الحديث، لأنه
(صلى الله عليه وسلم) إنما أباح لهم شرب البول للمرض،
لأنهم استوخموا المدينة، فأباحهم ذلك.
(1/346)
فعارضهم الأولون، فقالوا: محال أن يأمرهم
(صلى الله عليه وسلم) بشرب أبوالها وهى نجسة، لأن الأنجاس
محرمة علينا، وقد سئل (صلى الله عليه وسلم) عن الاستشفاء
بالخمر، فقال: تمت ذلك داء، وليس بشفاء -. وقال ابن مسعود:
ما كان الله ليجعل فيما حرم شفاء. فثبت أن بول الإبل الذى
جعله دواء، أنه طاهر غير محرم. قاله الطحاوى. وقال ابن
القصار: ومن جهة النظر أنا قد اتفقنا أن ريق ما يؤكل لحمه
وعرقه طاهر، والمعنى فيه أنه مائع مستحيل من حيوان مأكول
اللحم ليس بدم ولا قيح، فكذلك بوله. وذهب ابن علية، وأهل
الظاهر إلى أن بول كل حيوان، وإن كان لا يؤكل لحمه طاهر
غير ابن آدم. وروى مثله عن الشعبى، ورواية عن الحسن،
وخالفهم سائر العلماء. وقول البخارى فى الترجمة: تمت باب
أبوال الإبل والدواب -. وافق فيه أهل الظاهر، وقاس أبوال
ما لا يؤكل لحمه على أبوال الإبل ولذلك قال: تمت وصلى أبو
موسى فى دار البريد، والسرقين -، ليدل على طهارة أرواث
الدواب وأبوالها، ولا حجة له فيه بينة، لأنه يمكن أن يصلى
فى دار البريد على ثوب بَسطه فيه، أو فى مكان يابس لا تعلق
به نجاسة منه. وقد قال عامة الفقهاء: إن من بسط على موضع
نجس بُساطًا وصلى عليه أن صلاته جائزة.
(1/347)
ولو صلى على السرقين بغير بساط لكان مذهبًا
له، ولم تجز مخالفة الجماعة به. وذهب أبو حنيفة، وأبو
يوسف، ومحمد، والشافعى، إلى أن الأرواث كلها نجسة. وقال
مالك، والثورى، وزفر، والحسن بن حى: ما أكل لحمه فروثه
طاهر كبوله. وقال الثورى فى خرو الدجاج: ليس فيه إعادة
وغسله أحسن. تمت اجتووا المدينة - واجتويت البلاد، إذا
كرهتها، وإن كانت مرافقة لك فى بدنك. واستوبلتها، إذا لم
توافقك فى بدنك وإن أحببتها. وتمت سمل -، وتمت سمر - بمعنى
واحد. وقال صاحب الأفعال: سمر العين: فقأها. والسِّرْقِين،
والسرجين: زبل الدواب.
62 - باب مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِى السَّمْنِ
وَالْمَاءِ
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ
يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ، أَوْ رِيحٌ، أَوْ لَوْنٌ. وَقَالَ
حَمَّادٌ: لا بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ. وَقَالَ
الزُّهْرِىُّ فِى عِظَامِ الْمَوْتَى نَحْوَ الْفِيلِ
وَغَيْرِهِ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ
يَمْتَشِطُونَ بِهَا، وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا، لا يَرَوْنَ
فيها بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ:
وَلا بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ. / 93 - فيه:
مَيْمُونَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِى سَمْنٍ، فَقَالَ: تمت
أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ -.
(1/348)
/ 94 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ:
قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت كُلُّ
كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ،
تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالْعَرْفُ
عَرْفُ مِسْكِ -. قال المؤلف: قول الزهرى: لا بأس بالماء
ما لم يغيره لون، أو طعم، أو ريح. هو قول الحسن، والنخعى،
والأوزاعى، ومذهب أهل المدينة، وهى رواية أبى مصعب، عن
مالك. وقد روى عنه ابن القاسم أن قليل الماء ينجس بقليل
النجاسة، وإن لم تطهر فيه، وهو قول الشافعى. قال المهلب:
وهذا عند أصحاب مالك على سبيل الاستحسان والكراهية لعين
النجاسة، وإن قلّت، وهذا القول يستنبط من حديث الفأرة تموت
فى السمن، لأنه (صلى الله عليه وسلم) منع من أكل السمن لما
خشى أن يكون يسرى شىء من الميتة المحرمة، وإن لم يتغير لون
السمن، أو ريحه، أو طعمه بموت الفأرة فيه. قال المؤلف:
وأما رواية أبى مصعب عن مالك الذى هو مذهب أهل المدينة،
فإنه يستنبط من حديث الدم، ووجه الدلالة منه أنه لما انتقل
حكم الدم بطيب الرائحة من النجاسة إلى الطهارة حين حكم له
فى الآخرة بحكم المسك الطاهر، وجب أن ينتقل الماء الطاهر
بخبيث الرائحة إذا حلت فيه نجاسة من حكم الطهارة إلى
النجاسة. وإنما ذكر البخارى حديث الدم فى باب نجاسة الماء،
لأنه لم يجد حديثًا صحيح السند فى الماء، فاستدل على حكم
الماء المائع بحكم الدم المائع، إذْ ذلك المعنى الجامع
بينهما.
(1/349)
فإن قال قائل: لما حكم للدم من النجاسة إلى
حكم الطهارة بطيب رائحته، وحكم له فى الآخرة بحكم المسك
الطاهر، إذ لا يوصف فيها بطيب الرائحة شىء نجس، وجب أن
يحكم للماء إذا تغير ريحه، أو لونه، أو طعمه بنجس حل فيه
بحكم النجاسة لانتقاله من الطهارة إلى النجاسة، وخروجه عن
حكم الماء الذى أباح الله به الطهارة، وهو الماء الذى لا
يخالطه شىء يغيره عن صفته. فإن قال قائل: إنه لما حكم للدم
بالطهارة بتغير ريحه إلى الطيب وبقى فيه اللون، والطعم،
ولم يذكر تغيرهما إلى الطيب، وجب أن يكون الماء إذا تغير
منه وصفان بالنجاسة، وبقى وصف واحد طاهر وجب أن يكون
طاهرًا يجوز الوضوء به. قيل: ليس كما توهمت، لأن ريح المسك
حكم للدم بالطهارة، فكان اللون، والطعم تبعًا للطاهر، وهو
الريح الذى انقلب ريح مسك، فكذلك الماء إذا تغير منه وصف
واحد بنجاسة حلت فيه، كان الوصفان الباقيان تبعًا للنجاسة،
وكان الماء بذلك خارجًا عن حد الطهارة لخروجه عن صفة الماء
الذى جعله الله طهورًا، وهو الماء الذى لا يخالطه شىء.
وأما ريش الميتة وعظام الفيل ونحوه فهو طاهر عند أبى
حنيفة، نجس عند مالك والشافعى، لا يدهن فيها، ولا يمتشط،
إلا أن مالكًا قال: إذا ذكى الفيل فعظمه طاهر، والشافعى
يقول: إن الذكاة لا تعمل فى السباع. وقال الليث، وابن وهب:
إن غلى العظم فى ماءٍ سخن فطبخ جاز الإدهان به، والامتشاط.
(1/350)
ورخص عروة فى بيع العاج. وقال ابن المواز:
ونهى مالك عن الانتفاع بعظم الميتة والفيل والإدهان به،
ولم يطلق تحريمها، لأن عروة، وابن شهاب، وربيعة أجازوا
الامتشاط فيها. قال ابن حبيب: وأجاز الليث، وابن الماجشون،
ومطرف، وابن وهب، وأصبغ الامتشاط بها والإدهان، فأما بيعها
فلم يرخص فيه إلا ابن وهب، قال: إذا غليت جاز بيعها، وجعلت
كالدباغ لجلد الميتة يدبغ أنه يباع. وقال مالك، وأبو
حنيفة: إن ذكى الفيل فعظمه طاهر. والشافعى يقول: إن الذكاة
لا تعمل فى السباع، ومن أجاز تجارة العاج فهو عنده طاهر.
وأما ريش الميتة، فطاهر عند أبى حنيفة فى عظام الفيل،
بناءً على أصله، أن لا روح فيها، وعند مالك والشافعى نجسة.
وقال ابن حبيب: لا خير فى ريش الميتة، لأنه له سنخ إلا ما
لا سنخ له مثل الزغب وشبهه، فلا بأس به إذا غُسل.
63 - باب لاَ يَبُول فِى الْمَاءِ الدَّائِمِ
/ 95 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولَ اللَّه (صلى
الله عليه وسلم) : تمت نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ -.
/ 96 - وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: تمت لا يَبُولَنَّ
أَحَدُكُمْ فِى الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِى لا يَجْرِى،
ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ -.
(1/351)
قال المهلب وغيره: النهى عن البول فى الماء
الدائم مردود إلى الأصول، فإن كان الماء كثيرًا فالنهى عن
ذلك على وجه التنزه لأن الماء على الطهارة حتى يتغير أحد
أوصافه، فإن كان الماء قليلاً فالنهى عن ذلك على الوجوب،
لفساد الماء بالنجاسة المغيرة له. ولم يأخذ أحد من الفقهاء
بظاهر هذا الحديث إلا رجل جاهل نسب إلى العلم وليس من
أهله، اسمه داود بن على، فقال: من بال فى الماء الدائم فقد
حرم عليه الوضوء به، قليلاً كان الماء أو كثيرًا، فإن بال
فى إناء وصبه فى الماء الدائم جاز له الوضوء به، لأنه إنما
نهى عن البول فقط بزعمه، وصبه للبول من الإناء ليس ببول
فلم ينه عنه، قال: ولو بال خارجًا من الماء الدائم فسال
فيه جاز له أن يتوضأ به، قال: ويجوز لغير البائل أن يتوضأ
فيما بال فيه غيره، لأن النبى إنما نهى البائل ولم ينه
غيره، وقال ما هو أشنع من هذا: أنه إذا تغوط فى الماء
الدائم كان له ولغير أن يتوضأ منه، لأنه إنما ورد فى البول
فقط، ولم ينه عن الغائط. وهذا غاية فى السقوط وإبطال
المعقول، ومن حمله طرد أصله فى إنكار القياس إلى التزام
مثل هذا النظر، فلا يشك فى عناده وقلة ورعه، نعوذ بالله من
الخذلان، وقد فطر الله العقول السليمة على منافرة قوله هذا
ومضادته.
(1/352)
وإنما أتى الرجل من جهله بالأسباب التى خرج
عليها معنى الخطاب، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد جمع فى
هذا الخبر معانى: أحدها: تحريم الوضوء بالماء النجس.
والآخر: تأديبهم بأن يتنزهوا عن البول فى الماء الذى لا
يجرى فيحتاجون إلى الوضوء منه، وهم على يقين من استقرار
البول فيه، لأن من سنته (صلى الله عليه وسلم) النظافة وحسن
الأدب، فدعا الناس إلى ذلك. والآخر: أنه زجرهم عن ذلك، إذ
لو أطاق لهم البول فى الماء الدائم لأوشك أن يفسد الماء
القيل ويتغير فيضيق وجود ماء طاهر على كثير من الناس.
فيقال له: خبرنا عن البائل فى البحر أو الحوض الكبير أو
الغدير الواسع الذى لا يتحرك بتحرك طرفه، هل يجوز أن يتوضأ
منه؟ فإن قال: لا، قال: ما تعرف أن الحق فى خلافه؟ وإن
أجاز ذلك قيل له: فقد تركت ظاهر الحديث، وفى ضرورتك إلى
تركك ظاهره ما يوجب عليك أن تقول، إن معنى الحديث ما
ذكرنا، قاله بعض أصحاب أبى حنيفة. وأما إدخال البخارى فى
أول الحديث: تمت نحن الآخرون السابقون يوم القيامة -
فيمكن، والله أعلم، سمع أبو هريرة ذلك من النبى فى نسق
واحد فحدث بهما جميعًا كما سمعهما. وقد ذكر مثل ذلك فى
كتاب الجهاد، وفى كتاب العبارة، وفى كتاب الأيمان والنذور،
وفى كتاب قصص الأنبياء، وفى كتاب الاعتصام، ذكر فى أوائل
الأحاديث كلها: تمت نحن الآخرون السابقون يوم القيامة -،
ويمكن أن يكون همام سمع ذلك، لأنع سمع من أبى هريرة أحاديث
ليست بكثيرة، وفى أوائلها:
(1/353)
تمت نحن الآخرون السابقون -، فذكرها على
الرتبة سمعها من أبى هريرة، والله أعلم. وقد روى مالك فى
موطئه مثل هذا فى موضعين: أحدهما: قول عبد الكريم بن أبى
المخارق: وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: تمت
إذا لم تستحى فاصنع ما شئت، ووضع اليد اليمنى على اليسرى
فى الصلاة -، فحدث بهما جميعًا كما سمعهما. وفى الموضع
الثانى: قول أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) :
تمت بينما رجل يمشى بطريق إذ وجد غصن شوك فأخذه فشكر الله
له، فغفر له -. قال: تمت الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون،
والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد فى سبيل الله -. ورواه
جماعة، عن مالك، فزاد فيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم)
، قال: تمت لو يعلم الناس ما فى النداء والصف الأول ثم لم
يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما
فى التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح
لأتوهما ولو حَبْوًا -. قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت
بينما رجل يمشى بطريق وجد غصن شوك - إلى آخر الحديث، فى
ذكر الشهداء، وهى ثلاثة أحاديث فى حديث واحد.
(1/354)
64 - باب إِذَا أُلْقِىَ عَلَى ظَهْرِ
الْمُصَلِّى قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ صَلاتُهُ
قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ
دَمًا، وَهُوَ يُصَلِّى، وَضَعَهُ، وَمَضَى فِي صَلاتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ: إِذَا صَلَّى،
وَفِى ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ، أَوْ لِغَيْرِ
الْقِبْلَةِ، أَوْ تَيَمَّمَ وصَلَّى، ثُمَّ أَدْرَكَ
الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ لا يُعِيدُ. / 97 - وفيه: ابْنَ
مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ
يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ
جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ
يَجِىءُ بِسَلا جَزُورِ بَنِى فُلانٍ، فَيَضَعُهُ عَلَى
ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى
الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى إِذَا سَجَدَ
النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ
بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لا أُغْنِى شَيْئًا،
لَوْ كَانَتْ لِى مَنَعَةٌ، فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ
وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) سَاجِدٌ لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى
جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ
رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: تمت اللَّهُمَّ عَلَيْكَ
بِقُرَيْشٍ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ
دَعَا عَلَيْهِمْ. فذكر الحديث إلى قوله: فَلَقَدْ
رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) صَرْعَى فِى قَلِيبِ بَدْرٍ. قال المهلب: إنما جعل
السلا جيفة، لأنهم لم يكونوا أهل كتابن فتكون ذبائحهم
طاهرة، وإنما كانوا مشركين لا كتاب لهم يذبحون به، فكانت
ذبائحهم ميتة. وأيضًا لو كان السَّلا من ذبائح المسلمين
لكان نجسًا، لكثرة الدم فيه، ذكره مبينًا فى كتاب الصلاة،
فقال: تمت أيكم يقوم إلى سلا جزور
(1/355)
آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها؟
فانبعث أشقى القوم - وذكر الحديث. ومعلوم أنهم كانوا
مجوسًا لا كتاب لهم، ففيه من الفقه: أن غسل النجاسات فى
الصلاة سنة على ما قاله مالك والأوزاعى وجماعة من
التابعين. وقد ذكر البخارى بعضهم فى أول هذا الباب، ولو
كانت فرضًا ما تمادى النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فى
صلاته والفرس والدم على ظهره، ولقطع الصلاة. فإن قيل: فإن
هذه الصلاة كانت فى أول الإسلام، ويحتمل أن تكون قبل أن
تفرض عليه الصلاة، وتكون نافلة فلم يحتج إلى إعادتها. قيل:
لا نعلم ما كانت، ولو كانت نافلة لكان سبيلها سبيل
الفرائض، وأى وقت كانت هذه الصلاة، فلا شك أنها كانت بعد
نزول قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 4] لأن
هذه الآية أول ما نزل عليه من القرآن قبل كل صلاة فريضة أو
نافلة، وتأولها جمهور السلف أنها فى غير الثياب، وأن
المراد بها طهارة القلب ونزاهة النفس عن الدناءة والآثام.
وقالوا: وقول ابن سيرين أنه أراد بذلك الثياب شذوذ ولم
يقله غيره. وفى هذا الحديث من الفقه: أن من صلى بثوب نجس
وأمكنه طرحه فى الصلاة أنه يتمادى فى صلاته ولا يقطعها،
على ما قاله الكوفيون، وهى رواية ابن وهب، عن مالك. وسأذكر
اختلاف قول مالك
(1/356)
وأصحابه فى هذه المسألة، فى كتاب الصلاة،
فى باب المرأة تطرح عن المصلى شيئًا من الأذى، إن شاء
الله. وقد روى عن أبى مجلز أنه سئل عن الدم يكون فى الثوب،
فقال: إذا كبرت ودخلت فى الصلاة ولم تر شيئًا ثم رأيته بعد
فأتم الصلاة، وعن أبى جعفر مثله. واختلفوا فيمن صلى بثوب
نجس ثم علم به بعد الصلاة. فقال ابن مسعود، وابن عمر،
وعطاء، وابن المسيب، وسالم، والشعبى، والنخعى، ومجاهد،
وطاوس، والزهرى: لا إعادة عليه، وهو قول الأوزاعى، وإسحاق،
وأبى ثور. وقال ربيعة ومالك: يعيد فى الوقت. وقال الشافعى
وأحمد: يعيد أبدًا. وأما من تعمد الصلاة بالنجاسة فإنه
يعيد أبدًا عند مالك وكثير من العلماء، لاستخفافه بالصلاة
إلا أشهب فقال: لا يعيد المتعمد إلا فى الوقت فقط. قال
المهلب: وفيه أن من أوذى فله أن يدعو على من آذاه، كما دعا
النبى (صلى الله عليه وسلم) على كفار قريش. قال المؤلف:
هذا إذا كان الذى آذاه كافرًا، فإن كان مسلمًا فالأحسن ألا
يدعو عليه، لقول النبى لعائشة حين دعت على السارق: تمت
لاتسبخى عنه بدعائك عليه -. ومعنى لا تسبخى عنه أى: لا
تخففى عنه. والتسبيخ: التخفيف،
(1/357)
عن صاحب تمت العين -. وقال المهلب: وفيه
بركة دعوة النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنها أجيبت فيمن
دعا عليه. وقال أبو عبيد: السلا: الجلدة التى يكون فيها
الولد. قال ابن دريد: وهى المشيمة. وقوله: تمت لو كانت لي
منعة - يريد قوة أمتنع بها. قال صاحب تمت العين - يقال:
رجل منيع فى عز ومنعة، وقد منع مناعة ومنعًا. وقوله: تمت
ويحيل بعضهم على بعض - يعنى ينسب ذلك بعضهم إلى بعض من
قولك: أحلت الغريم إذا جعلت له أن يتقاضى ماله عليك من
غيرك، ويحتمل أن يكون من قول العرب: حال الرجل على ظهر
الدابة حولا، وأحال: وثب. وفى الحديث أن النبى (صلى الله
عليه وسلم) لما صبح أهل خيبر غدوة فرآه أهلها، أحالوا إلى
الحصن أى وثبوا إليه. وتمت القليب - البئر قبل أن تطوى.
وإنما سميت بدر بدرًا، ببدر بن قريش بن الحارث بن مخلد بن
النضر بن كنانة، وهو الذى احتفرها، فنسبت إليه عن الخشنى.
65 - باب البصاق وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْبِ
قَالَ عُرْوَةُ عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ: خَرَجَ
رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) زَمَنَ
(1/358)
الْحُدَيْبِيَةَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ
فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ. (1) / 98 - فيه: أنس
قال: بصق النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ثوبه. هذا الباب
يدل على أن البزاق والمخاط طاهر، وهو أمر مجمع عليه لا
أعلم فيه اختلافًا، إلا ما روى عن سليمان الفارسى صاحب
رسول الله أنه جعله غير طاهر، وأن الحسن بن حى كرهه فى
الثوب وذكر الطحاوى، عن الأوزاعى أنه كره أن يدخل سواكه فى
وضوئه. وما ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من خلافهم
هى السنة المتبعة والحجة البالغة، فلا معنى لقولهم وقد أمر
النبى المصلى أن يبزق عن يساره أو تحت قدمه، ويبزق (صلى
الله عليه وسلم) فى طرف ردائه، ثم رد بعضه على بعض وقال:
تمت أو تفعل هكذا -. قال الطحاوى: وهذا حجة فى طهارته،
لأنه لا يجوز أن يقوم المصلى على نجاسة، ولا أن يصلى وفى
ثوبه نجاسة.
66 - باب لا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ وَلا
الْمُسْكِرِ
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ
عَطَاءٌ: التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْوُضُوءِ
بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ. / 99 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ
(صلى الله عليه وسلم) : تمت كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ
حَرَامٌ -. اختلف العلماء فى الوضوء بالنبيذ.
(1/359)
فقال مالك وأبو يوسف والشافعى وأحمد: لا
يجوز الوضوء بالنبيذ، نَيِّهِ ومطبوُخِهِ، مع عدم الماء
ووجوده، تمرًا كان أو غيره، فإن كان مع ذلك مشتدًا فهو نجس
لا يجوز شربه ولا الوضوء به. وأجاز الحسن الوضوء بالنبيذ.
قال الأوزاعى: يجوز الوضوء بسائر الأنبذة، وروى هذا عن
على. قال أبو حنيفة: لايجوز الوضوء به مع وجود الماء، فإذا
عدم فيجوز بمطبوخ التمر خاصة إذا أسكر، فاما النيئ والنقيع
فلا يجوز الوضوء به. وقال محمد بن الحسن: يتوضأ به ثم
يتيمم. قال الطحاوى: واحتج الذين أجازوا الوضوء بالنبيذ
بما رواه ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعانى،
عن ابن عباس، أن ابن مسعود خرج ليلة الجن مع رسول الله،
فسأله رسول الله: تمت أمعك ماء؟ - قال: معى نبيذ فى
إداوتى، فقال رسول الله: تمت أصبب علىَّ - فتوضأ به، وقال:
تمت شراب وطهور -. وبما رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد
بن جدعان، عن أبى رافع مولى ابن عمر، عن ابن مسعود، أنه
كان مع رسول الله ليلة الجن، وأنه احتاج (صلى الله عليه
وسلم) إلى ماء يتوضأ به، ولم يكن معه إلا النبيذ، فقال:
تمت تمرة طيبة وماء طهور - وتوضأ به.
(1/360)
واحتج عليهم مخالفوهم بأن هذه الآثار لا
تثبتن ولا تقوم بها حجة. قال الطحاوى: وقد روى عن ابن
مسعود من الطرق الثابته أنه لم يشهد ليلة الجن مع النبى،
حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا يحيى بن زكريان حدثنا
ابن ابى زائدة، حدثنا داود بن أبى هند، عن عامر، عن علقمة،
قال: سألت ابن مسعود هل كان مع النبى (صلى الله عليه وسلم)
ليلة الجن أحد؟ فقال: لم يصحبه من أحد، ولكن فقدناه تلك
الليلة، فقلنا استطير أو اغتيل، فتفرقنا فى الشعاب
والأودية نلتمسه، فقال: تمت إنى أتانى داعى الجن فذهبت
أقرئهم القرآن - فارانا آثارهم. وهذا الإسناد أصح من
آثارهم. وأما من طريق النظر فإنا رأينا الأصل المتفق عليه
أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب ولا الخل، وكان النظر على ذلك
أن يكون نبيذ التمر كذلك. وأجمع العلماء أن نبيذ التمر إذا
كان موجودًا مع الماء أنه لا يتوضأ به، لأنه ليس بماء،
فلما كان خارجًا من حكم المياه فى حال وجود الماء كان
خارجًا من حكم المياه فى حال عدم الماء. ووجه احتجاج
البخارى رحمه الله فى هذا الباب بقوله (صلى الله عليه
وسلم) : تمت كل شراب أسكر فهو حرام - هو أنه إذا أسكر
الشراب فقد وجب اجتنابه لنجاسته، وحرم استعماله فى كل حال،
ولم يحل شربه، وما لم يحل شربه لا يجوز الوضوء به، لخروجه
عن اسم الماء فى اللغة والشريعة، وكذلك النبيذ غير المسكر
أيضًا فهو فى معنى
(1/361)
المسكر من جهة أنه لا يقع عليه اسم الماء،
ولو جاز أن يسمى النبيذ ماء لأن فيه ماء، جاز أن يسمى الخل
ماء، لأن فيه ماء. وهذا أبو عبيد وهو إمام فى اللغة يقول:
النبيذ لا يكون طهورًا أبدًا لأن الله شرط الطهور بشرطين
ولم يجعل لهما ثالثًا وهما: الماء، والصعيد، والنبيذ ليس
بواحد منهما. قال ابن المنذر: وما رواه عن على فليس بثابت
عنه. قال ابن القصار: ولو صح خبرهم لكان منسوخًا، لأن ليلة
الجن كانت بمكة فى صدر الإسلام، وقوله: (فَلَمْ تَجِدُواْ
مَاء) [النساء: 43، المائدة: 6] نزلت فى غزوة المريسيع،
حيث فقدت عائشة عقدها بالمدينة.
67 - باب غَسْلِ الْمَرْأَةِ أَبَاهَا الدَّمَ عَنْ
وَجْهِهِ
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: امْسَحُوا عَلَى رِجْلِى
فَإِنَّهَا مَرِيضَةٌ. / 100 - وفيه: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ
سئل بِأَىِّ شَىْءٍ دُووِىَ جُرْحُ النَّبِيِّ (صلى الله
عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ
مِنِّى كَانَ عَلِىٌّ يَجِىءُ بِتُرْسِهِ فِيهِ مَاءٌ،
وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَأُخِذَ
حَصِيرٌ، فَأُحْرِقَ، فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ. فيه: غسل
الدم من الجسد، وهو إجماع. قال المهلب: وفيه دليل على جواز
مباشرة المرأة أباها وذوى محارمها، وإلطافها إياهم،
ومداواة أمراضهم. ولذلك قال أبو العالية لأهله: امسحوا على
رجلى، فإنها مريضة
(1/362)
ولم يخص بعضهم دون بعض بل عمهم جميعًا.
وفيه: إباحة التداوى، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد
داوى جرحه بالحصير المحرق.
68 - باب السِّوَاكِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِتُّ عِنْدَ خالتى ميمونة
فَاسْتَنَّ رسول الله / 101 - فيه: أبو موسى، قَالَ:
أَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَوَجَدْتُهُ
يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ، يَقُولُ: تمت أُعْ أُعْ -
وَالسِّوَاكُ فِي يده، كَأَنَّه يَتَهَوَّعُ. / 102 -
وفيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم)
إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ.
فيه: أن السواك سنة مؤكدة لمواظبته عليه بالليل، والليل لا
يناجى فيه أحد من الناس، وإنما ذلك لمناجاة الملائكة،
وتلاوته القرآن. وقد جاء فى الحديث تمت طيبوا طرق القرآن -
يعنى بالسواك. وقد روى مالك: عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن
أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت
لولا أن أشق على امتى لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء -. وعن
ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، أنه قال:
تمت لولا أن يشق على أمته، لأمرهم بالسواك مع كل وضوء -.
وقال ابن عباس: ما زال رسول الله يأمرنا بالسواك حتى ظننت
أنه سينزل عليه فيه.
(1/363)
وقالت عائشة: كان (صلى الله عليه وسلم) إذا
دخل على أول ما يبدأ بالسواك. وقال: تمت السواك مطهرة للفم
مرضاة للرب -. والعلماء كلهم يندبون إليه، وليس بواجب
عندهم، ولو كان واجبًا عليهم لأمرهم به، يشق عليهم أو لم
يشق. وقوله: تمت يشوص فاه -. قال ابن دريد الشوص: الاستياك
من سفل إلى علو، وبه سمى هذا الداء الشوصة، لأنه ريح يرفع
القلب عن موضعه.
69 - باب دَفْعِ السِّوَاكِ إِلَى الأكْبَرِ
/ 103 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: تمت أَرَانِى أَتَسَوَّكُ، بِسِوَاكٍ
فَجَاءَنِي رَجُلانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ،
فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِى:
كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأكْبَرِ مِنْهُمَا -. فيه:
تقديم ذى السن فى السواك، وكذلك ينبغى تقديم ذى السن فى
الطعام والشراب والكلام والمشى والكتاب وكل منزلة قياسًا
على السواك واستدلالا من قوله (صلى الله عليه وسلم) لحويصة
ومحيصة: تمت كبر كبر - يريد ليتكلم الأكبر، وهذا من باب
أدب الإسلام. وقال المهلب: تقديم ذى السن أولى فى كل شى ما
لم يترتب القوم فى الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة تقديم
الأيمن فالأيمن من الرئيس أو العالم، على ما جاء فى حديث
شرب اللبن.
(1/364)
70 - باب فَضْلِ مَنْ بَاتَ عَلَى
الْوُضُوءِ
/ 104 - قَالَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: قَالَ النَّبِيُّ
(صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ
فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى
شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى
أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي
إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً
وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ
إِلا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي
أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ
مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ،
وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ -، قَالَ:
فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَلَمَّا بَلَغْتُ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي
أَنْزَلْتَ، قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: تمت لا،
وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ -. فيه: أن الوضوء عند
النوم مندوب إليه مرغب فيهن وكذلك الدعاء، لأنه قد تقبض
روحه فى نومه، فيكون قد ختم عمله بالوضوء والدعاء الذى هو
أفضل الأعمال، ولذلك كان ابن عمر يجعل آخر عمله الوضوء
والدعاء، فإذا تكلم بعد ذلك استأنف الصلاة والدعاء، ثم
ينام على ذلك اقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) لقوله:
تمت اجعلهن آخر ما تتكلم به -. وقوله: تمت ونبيك الذى
أرسلت -. حجة لمن قال: إنه لا يجوز نقل حديث النبى (صلى
الله عليه وسلم) ، على المعنى دون اللفظ، وهو قول ابن
سيرين، ومالك وجماعة من أصحاب الحديث. وقال المهلب: إنما
لم تبدل ألفاظه (صلى الله عليه وسلم) ، لأنها ينابيع
الحكمة، وجوامع الكلام، فلو جوز أن يعبر عن كلامه بكلام
غيره سقطت فائدة النهاية فى البلاغة التى أعطيها (صلى الله
عليه وسلم) .
(1/365)
وقال بعض العلماء: لم يرد النبى برده على
البراء تحرى قوله فقط وإنما أراد بذلك ما فى قوله: تمت
ونبيك الذى أرسلت - من المعنى الذى ليس فى قوله: تمت
ورسولك الذى أرسلت - وذلك أنه إذا قال: ورسولك الذى أرسلت
يدخل فيه جبريل وغيره من الملائكة الذين هم رسل الله إلى
أنبيائه وليسوا بأنبياء، كما قال تعالى فى كتابه: (اللَّهُ
يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ)
[الحج: 75] فأراد بقوله: تمت ونبيك الذى أرسلت - تلخيص
الكلام من اللبس أنه المراد (صلى الله عليه وسلم) بالتصديق
بنبوته بعد التصديق بكتابه الذى أوحى الله تعالى إليه
وأمرهم بالإيمان به، وإن كان غيره من رسل الله أيضًا واجب
الإيمان بهم، وهذه شهادة الإخلاص والتوحيد الذى من مات
عليها دخل الجنة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت
فإن مت مت على الفطرة - يعنى فطرة الإيمان. كمل كتاب
الوضوء بحمد الله وعونه
(1/366)
|