شرح صحيح
البخارى لابن بطال بسم الله الرحمن الرحيم
أَبْوَاب صَلاةِ الْجَمَاعَةِ وَالإمَامَةِ
- باب وُجُوبِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ
الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا. /
37 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قال النبى (صلى الله عليه
وسلم) : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ
أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ ليحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ
فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا فَيَؤُمَّ
النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ
عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي
(2/268)
بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ
أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ
حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) . وقوله: (لقد هممت أن
آمر بحطب ليحطب. . .) ، دليل على تأكيد الجماعة، وعظيم
أمرها، وقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات بقوله:
(حافظوا على الصلوات) [البقرة: 238] ، ومن تمام محافظتها
صلاتها فى جماعة. وأجمع الفقهاء أن الجماعة فى الصلوات سنة
إلا أهل الظاهر، فإنها عندهم فريضة، واحتجوا بهذا الحديث،
وقالوا: هى كل صلاة. واختلفوا فى الصلاة التى هم النبى
عليه السلام، بأن يأمر فيحطب فيحرق رجلٌ من تخلف عنها،
فقالت طائفة: هى صلاة العشاء، واحتجوا بما رواه ابن وهب،
عن ابن أبى ذئب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبى هريرة قال:
قال رسول الله: (لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون
العشاء، أو لأحرقن حول بيوتهم) ، ويشهد لهذا القول قوله:
(لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا، لشهد العشاء) ، هذا
قول سعيد بن المسيب، وقال آخرون: هى الجمعة، رواه أبو
إسحاق، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) ، قال: (هى الجمعة) ، وهو قول الحسن البصرى،
وقاله يحيى بن معين: أن الحديث فى الإحراق على من تخلف عن
الرسول: يوم الجمعة لا فى غيرها. ومما يدل أن صلاة الجماعة
سنة ما روى عن ابن مسعود أنه قال:
(2/269)
(عليكم بالصلوات الخمس حيث ينادى بهن،
فإنهن من سنن نبيكم، ولو تركتم سنته لضللتم، ولقد عهدتنا،
وإن الرجل ليهادى بين رجلين حتى يقام فى الصف) ، ومما يدل
على أنها سنة أن نبى الله لم يقل لهم حين توعدهم بالإحراق
عليهم، أنه من تخلف عن الجماعة، فلا تجزئه صلاته، ولو كانت
فرضًا ما سكت عن ذلك؛ لأن البيان منه لأمته فرض عليه. قال
المهلب: وقد قيل إن هذا الحديث أريد به المنافقون، وإليهم
توجه الوعيد فيه، واحتج قائل ذلك بأن الرسول أقسم أنه لو
يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد
العشاء، وليس هذا من صفات المؤمنين، وقيل: إن الحديث فى
المؤمنين والوعيد إليهم متوجه، والدليل على ذلك قصة كعب بن
مالك وصاحبيه، وأن الله سبحانه وبخهم بذلك ولم يوبخ
المنافقين، ولا ذكرهم، ولا عُنى بإخراجهم إلى الصلاة، ولا
التفت إلى شىء من أمرهم، بل كان معرضًا عنهم عالمًا بسوء
طويتهم، فكيف كان يعنى بتأديبهم على ترك الصلاة فى
الجماعة، وهو يعلم أنه لا صلاة لهم، ولا يلزمه التهمم
بأمرهم، لما كان أطلعه الله عليه من فساد نياتهم.
والعِرْقُ: العظم إذا كان عليه لحم، وقد تَعَرَّقْتُ العظم
واعترقْتُه، وعَرَقْتُه، وأعرقه عرقًا: أكلت ما عليه، ورجل
معروق، ومعترق: خفيف اللحم، فإذا كان العظم لا لحم عليه
فهو عِرَاق، من كتاب (العين) .
(2/270)
وفيه: العقوبة فى الأموال على ترك السنن؛
لأن نبى الله لم يهم من الإحراق إلا بما يجوز له فعله،
وسيأتى هذا الحديث فى أبواب الإشخاص والملازمة، وفى كتاب
الأحكام، وترجم له فيها: باب إخراج الخصوم وأهل الريب من
البيوت، وفيه شىء من الكلام على حسب ما يقتضيه التبويب.
وأما ضربه عليه السلام المثل بالعظم السمين والمرماتين،
فإنه أراد الشىء الحقير، وقال أبو عبيد: (المرماتين: ما
بين ظلفى الشاة، وهذا حرف لا أدرى ما وجهه) . وقال الحربى:
وهو قول الخليل، ولا أحسب هذا معنى الحديث، ولكنه كما
أخبرنى أبو نصر، عن الأصمعى قال: المرماة: سهم الهدف،
ويصدق هذا ما حدثنى به عبيد الله بن عمر، عن معاذ، عن
أبيه، عن قتادة، عن الحسن، عن أبى رافع، عن أبى هريرة أن
الرسول قال: (لو أن أحدكم إذا شهد الصلاة معى كان له عظم
من شاة سمينة أو سهمان، لفعل) ، وقال أبو عمرو: مرماة
ومرام، وهى الدقاق من السهام المستوية.
- باب فَضْلِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ
وَكَانَ الأسْوَدُ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ذَهَبَ
إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. وَجَاءَ أَنَسُ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ
صُلِّيَ فِيهِ فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً. /
38 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الرَسُولَ قَالَ: (صَلاةُ
الْجَمَاعَةِ، تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) .
(2/271)
/ 39 - وفيه: أبو سعيد مثله. / 40 - وفيه:
أَبَو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (صَلاةُ
الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي
بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا،
وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ،
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إِلا
الصَّلاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا
دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا
صَلَّى، لَمْ تَزَلِ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا
دَامَ فِي مُصَلاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ،
اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ
مَا انْتَظَرَ الصَّلاةَ) . قوله: بسبع وعشرين درجة، وخمس
وعشرين ضعفًا، وخمس وعشرين جزءًا، يدل على تضعيف ثواب
المصلى فى جماعة على ثواب المصلى وحده بهذه الأجزاء وهذه
الأوصاف المذكورة، وقد استدل قوم بهذا الحديث على أن
الأفضل لكثير الجماعة على قليلها، وبما عليه أكثر العلماء
فيمن صلى جماعة اثنين فما فوقهما، أن لا يعيد فى جماعة
أخرى أكثر منها، وقد روينا آثار مرفوعة عن أبى بن كعب
وغيره أن كلما كثرت الجماعة كان ثواب المصلى أكثر، وليست
بالقوية، ولا مدخل للقياس فى الفضائل، وإنما يقال لما صح
التوقيف فيه. قال ابن القصار: وهذه الأحاديث تدل على أن
الصلاة فى جماعة سنة، كما قال الفقهاء، وخالف ذلك أهل
الظاهر، وقالوا: صلاة الجماعة فريضة، والدلالة عليهم منها
فى وجهين اثنين: أحدهما: أنه أثبت صلاة الفذ وسماها صلاة،
وهم يقولون: ليست بصلاة، والثانى: أنه عليه السلام فاضل
بينهما، فأثبت للجماعة فضلاً، فدل أن المنفردة فاضلة إلا
أن مرتبتها أنقص. وهذه الدرجات والأجزاء التى تفضل بها
صلاة الجماعة، منها فى حديث أبى هريرة: أربع؛ لقوله: (وذلك
أنه إذا توضأ، ثم خرج
(2/272)
إلى المسجد) ؛ لأن قوله: (وذلك) إشارة إلى
تفسير الجمل المذكورة فى أول الكلام، فقوله: (ثم خرج إلى
المسجد لا يخرجه إلا الصلاة) ، هذه درجة وهى نية الصلاة فى
جماعة، وقوله: (لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت
عنه بها خطيئة) ، فهذه درجة ثانية، وقوله: (فإذا صلى لم
تزل الملائكة تصلى عليه مادام فى مصلاه) ، وهذه درجة
ثالثة، والدرجة الرابعة قوله: (إن أحدكم فى صلاة ما انتظر
الصلاة) . وفى حديث آخر لأبى هريرة قال عليه السلام: (لو
يعلم الناس ما فى النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن
يستهموا عليه لاستهموا) ، فهاتان درجتان، و (لو يعلمون ما
فى التهجير، لاستبقوا إليه) ، فهذه درجة، وقوله: (لو
يعلمون ما فى العتمة والصبح) يريد فضل اجتماع ملائكة الليل
وملائكة النهار فى الصبح، لقوله تعالى: (إن قرآن الفجر كان
مشهودًا) [الإسراء: 78] ، وقال عليه السلام: (تجتمع فيكم
ملائكة الليل وملائكة النهار فى العصر والفجر) ، فهاتان
درجتان، وتمام الدرجات الباقية من جنس هذه المذكورة لا
محالة، فطلبنا فى الآثار والقرآن، ما جانس هذه الدرجات،
مما تختص به صلاة الجماعة، وليست للفذ، فوجدنا منها: إجابة
النداء إلى الصلاة، لقوله تعالى: (أجيبوا داعى الله)
[الأحقاف: 31] ، ولقوله: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة
فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] . ومنها: لزوم الخشوع فى
السير إلى المسجد، لقوله عليه السلام: (ائتوا الصلاة
وعليكم السكينة) . ومنها: لزوم الذكر فى سيره، وقد روى
وكيع، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد الخدرى،
قال: (من
(2/273)
قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إنى أسألك
بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، لم أخرجه أشرا، ولا
بطرًا، ولا رياءً، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، واتباع
مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تدخلنى الجنة، وأن
تغفر لى ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ خرج معه
سبعون ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى
يقضى صلاته) . ومثل هذا لا يدرك بالرأى، ولا يكون إلا عن
الرسول. ومنها: السلام على الرسول، والدعاء عند دخوله فى
المسجد، وعند خروجه، فهاتان درجتان، روى النسائى من حديث
المقبرى، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال: (إذا
دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبى، عليه السلام، وليقل:
اللهم افتح لى أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبى،
وليقل: اللهم اعصمنى من الشيطان) . ومنها: السلام عند
دخوله فى المسجد، إن كان خاليًا، فقد روى عن ابن عباس فى
قوله تعالى: (فسلموا على أنفسكم) [النور: 61] ، قال: هو
المسجد إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين. ومنها: الركوع فى المسجد عند دخوله، فقد أمر
الرسول بذلك وهو تحية المسجد. ومنها: ترك الخوض فى أمر
الدنيا؛ لحرمة المسجد والصلاة، وذكر الله تعالى، فيه لقوله
تعالى: (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)
[النور: 36] ، وكان عمر يضرب الناس على ذكر الدنيا فى
المسجد، واتخذ البطحاء لمن أراد اللغط فيه.
(2/274)
ومنها: إجابة الدعاء بحضرة النداء للصلاة،
فقد قال عليه السلام: (ساعتان لا يرد فيهما الدعاء: حضرة
النداء، والصف فى سبيل الله) . ومنها: اعتدال الصفوف،
وإقامتها، والتراصص فيها، وإلزاق المنكب بالمنكب، والقدم
بالقدم، فقد جاء فى الحديث أن ذلك من تمام الصلاة. ومنها:
استماع قراءة الإمام والتدبر لها، وقد جاء فى قوله تعالى:
(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراف: 204] ،
أن ذلك فى الصلاة. ومنها: قوله: ربنا ولك الحمد إذا قال
الإمام: سمع الله لمن حمده، كما جاء فى الحديث. ومنها:
شهادة الملائكة لمن حضر الجماعة؛ لقوله عليه السلام:
(أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون) . ومنها: تحرى
موافقة الإمام فى الجماعة، فلا يختلف على الإمام فى القرآن
والعمل؛ لقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به،
فلا تختلفوا عليه) . ومنها: فضل تسليمه على الإمام وعلى من
بجنبه. ومنها: فضل دعاء الجماعة. ومنها: الاعتصام بالجماعة
من سهو الشيطان؛ لقوله عليه السلام: (أَصَدَقَ ذُو اليدين)
، ولا يجوز على الجماعة كلها السهو، فتمت سبعةً وعشرين
درجة.
(2/275)
فإن قال قائل: فما معنى اختلاف الدرجات
والأجزاء فى الآثار، فمرة قال: (بسبع وعشرين درجة) ، ومرة
قال: (بخمسة وعشرين جزءًا؟) . فالجواب: أن الفضائل لا تدرك
بالرأى، وإنما تدرك بالتوقيف، وهذا الاختلاف له معنى صحيح
يؤيد بعضه بعضًا، وذلك أنه يحتمل أن يكون عليه السلام
أعلمه الله عز وجل، أن فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ
بخمسة وعشرين جزءًا، ثم زاد تعالى فى فضل الجماعة على صلاة
الفذ، فكمله سبعًا وعشرين، ومثل هذا المعنى كثير فى شريعته
عليه السلام. فقد أخبر عليه السلام أنه من (صلى عليه مائة
من المؤمنين، شفعوا فيه) ، وفى حديث آخر: (من صلى عليه
أربعون) . وفى حديث آخر: (ما من مسلم يشهد له أربعة بخير
إلا أدخله الله الجنة، فقيل: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، قيل:
واثنان؟ قال: واثنان) . وهذا كله إنما كان ينزل على النبى
فيه الوحى، ويعلم بما لم يعلم قبل ذلك، كما قال له تعالى:
(قل ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم) [الأحقاف: 46] ، ثم أعلمه
بعد ذلك أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكان يخبر
أمته على حسب ما يوحى إليه، ولم ينطق عن الهوى، فكذلك
تضعيف ثواب صلاة الجماعة، والله أعلم. وفيه وجه آخر يحتمل
أن يكون السبع والعشرون الدرجة للعشاء والصبح، ويكون لسائر
الصلوات خمس وعشرون درجة، وسأذكر وجه ذلك فى الباب بعد هذا
إن شاء الله.
(2/276)
وأما ما روى عن الأسود أنه كان يتبع
المساجد إذا فاتته الجماعة، فقد روى ذلك عن حذيفة، وسعيد
بن جبير، وذكر الطحاوى، عن الكوفيين ومالك: إن شاء صلى فى
مسجده وحده، وإن شاء أتى مسجدًا آخر فطلب فيه الجماعة، إلا
أن مالكًا قال: إلا أن يكون فى المسجد الحرام، أو مسجد
الرسول فلا يخرجوا منه، ويصلوا فيه وحدانًا؛ لأن هذين
المسجدين للفذ أعظم أجرًا ممن صلى فى جماعة. وقال الحسن
البصرى: ما رأينا المهاجرين يتبعون المساجد، قال الطحاوى:
والحجة لمالك أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين
درجة، والصلاة فى المسجد الحرام، ومسجد الرسول أفضل من
الصلاة فى غيرهما؛ فلذلك لا يتركهما ابتغاء الصلاة فى
غيرهما، وفى مختصر ابن شعبان عن مالك: أنه من صلى فى جماعة
فلا يعيد فى جماعة إلا فى مسجد مكة والمدينة. وأما صلاة
اثنين جماعة فى مسجد قد جمع فيه، فإن العلماء اختلفوا فى
ذلك، فروى عن ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فى مسجد قد
جمع فيه، وهو قول عطاء، والحسن البصرى فى رواية، وإليه ذهب
أحمد، وإسحاق، وأشهب صاحب مالك. وروى ابن مزين عن أصبغ
قال: دخلت المسجد مع أشهب وقد صلى الإمام، فقال: يا أصبغ
ائتم بى وتنحى إلى زاوية، فائتممت به، واحتج أحمد فى ذلك
بقوله عليه السلام: (صلاة الجمع تزيد على صلاة الفذ بسبع
وعشرين درجة) . وقالت طائفة: لا تجمع فى مسجد مرتين، روى
ذلك عن سالم،
(2/277)
والقاسم، وأبى قلابة، وهو قول مالك،
والليث، والثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى. وقال
بعضهم: إنما كره ذلك خشية افتراق الكلمة، وأن أهل البدع
يتطرقون إلى مخالفة الجماعة، وقال مالك، والشافعى: إذا كان
مسجد على طريق ولا إمام له، أنه لا بأس أن يجمع فيه قوم
بعد قوم.
- باب فَضْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ
/ 41 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ أن نبى الله قَالَ:
(تَفْضُلُ صَلاةُ الْجَمْعِ صَلاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ
بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ
اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ)
، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ
شِئْتُمْ: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)
[الإسراء 78] . / 42 - وفيه: أَبُو الدَّرْدَاء قال: مَا
أَعْرِفُ مِنْ مُحَمَّدٍ عليه السلام، شَيْئًا إِلا
أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. / 43 - وفيه: أَبِي
مُوسَى، قَالَ رسول الله: (أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي
الصَّلاةِ أَبْعَدُهُمْ مَمْشًى) . قال المؤلف: قد بيَّن
فى هذا الباب المعنى الذى أوجب التفضيل لشهود الفجر فى
جماعة، وهو اجتماع ملائكة الليل، والنهار
(2/278)
فيها، ولقد قال عمر بن الخطاب: لأن أشهد
الفجر فى جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة، وقد روى أبو
هريرة عن الرسول أن ملائكة الليل والنهار يجتمعون فى صلاة
العصر أيضًا. قال المهلب: فلما خص الفجر بشهود الملائكة
لها، وكان مثل ذلك فى صلاة العصر، وأشبهت الفجر فى هذه
الفضيلة، أمر الرسول بالمحافظة على العصر ليكون من حضرهما
ترفع الملائكة عمله، وتشفع له. قال المؤلف: ويمكن أن يكون
اجتماع الملائكة فى الفجر والعصر هُما الدرجتان الزائدتان
على الخمسة والعشرين جزءًا فى سائر الصلوات التى لا تجتمع
الملائكة فيها، والله أعلم، وإنما قلت هذا من قول أبى
هريرة: سمعت الرسول يقول: (تفضل صلاة الجماعة صلاة أحدكم
وحده بخمسة وعشرين جزءًا، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة
النهار فى صلاة الفجر) ، فذكر اجتماع الملائكة فى الفجر
بواو فاصلة، واستأنف الكلام، وقطعه من الجملة المتقدمة،
فدل ذلك على أن اجتماع الملائكة يوجب فضلاً ودرجة زائدة
على الخمسة وعشرين، فصارتا درجتين للفجر والعصر، ليستا
لغيرهما من الصلوات. وقال المهلب: وفى حديث أبى الدرداء
جواز الغضب عند تغير الدين وتغير أحوال الناس فى معاشرتهم،
وإنكار المنكر بالغضب إذا لم يستطع على أكثر من ذلك، وهو
أضعف الإيمان. وقوله: (ما أعرف من محمد شيئًا) ، يريد من:
شريعة محمد شيئًا لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة فى
جماعة، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
(2/279)
وقوله: (أعظم الناس فى الصلاة أجرًا أبعدهم
ممشى) ، فذلك لكثرة الخطا، وقد روى هذا عن الرسول.
- باب فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ
/ 44 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال عليه السلام:
(بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ
شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ
لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) ، ثُمَّ قَالَ: (الشُّهَدَاءُ
خَمْسَ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ،
وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ،
وَقَالَ: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ،
وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ
يَسْتَهِمُوا لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ
مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ
يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأتَوْهُمَا
وَلَوْ حَبْوًا) . والتهجير: السير فى الهاجرة، وهى شدة
الحر، ويدخل فى معنى التهجير المسارعة إلى الصلوات كلها
قبل دخول أوقاتها؛ ليحصل له فضل الانتظار قبل الصلاة. قال
المؤلف: قوله: (ولو يعلمون ما فى التهجير لا ستبقوا إليه)
، يدل أن صلاة الظهر عند الزوال أفضل، يدل على ذلك قوله
عليه السلام، حين سئل: أى العمل أفضل؟ قال: (الصلاة لأول
وقتها) وقد تقدم أن الآثار التى وردت بالإبراد، ليست
بمعارضة لهذا الحديث، بل هى رخصة لفضل الجماعة، وليتسع
الناس فى الاجتماع، وهذا الحديث فيه ثلاثة أحاديث جمعها
أبو هريرة فى مساق واحد، وقد يمكن أن يكون سمعها من الرسول
فى وقت واحد، والله أعلم، فأتى بها كما سمعها.
(2/280)
وفيه من الفقه: أن نزع الأذى من الطريق من
الأعمال الصالحة التى يرجى بها الغفران من الله تعالى، وقد
قال عليه السلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة
أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق) .
- باب احْتِسَابِ الآثَارِ
وقال مجاهد: خطاكم آثار المشى فى الأرض بأرجلكم. / 45 -
وفيه: أَنَس قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام: (يَا
بَنِي سَلِمَةَ، أَلا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ) . قال
المؤلف: قوله: (ألا تحتسبون آثاركم) ، إنما قال لهم ذلك؛
لأنهم كانوا على بُعدٍ من مسجده عليه السلام، فأرادوا أن
يتحولوا بقرب المسجد فكره النبى، عليه السلام، أن يعرى
المدينة. قال المهلب: فحضهم على البقاء واحتساب الآثار،
واستشعارهم النية والإخلاص لله تعالى، فى مشيهم، ودخل فى
معنى ذلك كل ما يصنع لله تعالى من قليل أو كثير، أن يراد
به وجهه، تعالى، ويخلص له فيه، وهو الذى يزكوا ثوابه
وأجره، وقال ابن عباس: فى الأنصار نزلت حين أرادوا أن
ينتقلوا: (ونكتب ما قدموا (أعمالهم،) وآثارهم) [يس: 12] ،
فيما مشوا أبعدهم مكانًا.
(2/281)
قال الطبرى: وفيه من الفقه صحة قول القائل:
تفضل المقاربة بين الخطا فى المشى إلى الصلاة على الإسراع
إليها، وذلك أن ابن عباس ذكر أن قول الله: (ونكتب ما قدموا
وآثارهم) [يس: 12] ، نزلت إعلامًا من الله تعالى نبيه أنه
يكتب خطا المشائين إلى الصلاة، ويوجب لهم ثوابًا؛ حضًا منه
تعالى للذين أرادوا النقلة إلى قرب مسجده على الثبات فى
مواضعهم، وإن نأتْ، وترغيبًا لهم فى احتساب خطاهم، ومشيهم
إلى الصلاة، وقد روى عن الرسول أن من بعد من المسجد أفضل.
وروى ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن ابن أبى ذئب، عن عبد
الرحمن بن مهران، عن عبد الرحمن بن سعيد، عن أبى هريرة
قال: قال رسول الله: (الأبعد فالأبعد من المساجد أعظم
أجرًا) . وروى عن أنس أنه كان يتجاوز المساجد المحدثة إلى
المساجد القديمة، وفعله مجاهد وأبو وائل، وقد روى عن بعضهم
خلاف هذا، سئل الحسن: أيدع الرجل مسجد قومه ويأتى غيره؟
قال: كانوا يحبون أن يكثر الرجل قومه بنفسه. وسئل أبو عبد
الله بن لبابة عن الذى يدع مسجده ويصلى فى الجامع للفضل فى
كثرة الناس فقال: لا يدع مسجده، وإنما فضل الجامع فى صلاة
الجمعة فقط.
30 - باب فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ
/ 46 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسول الله:
(لَيْسَ صَلاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ
الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا،
لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، ولَقَدْ
(2/282)
هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ
فَيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ
آخُذَ شُعَلا مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لا
يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ بَعْدُ) . قد تقدم الكلام فى
معنى هذا الحديث فى باب (الاستهام للأذان) ، فلا معنى
لإعادته، وبهذا الحديث احتج من قال: إن الوعيد بالإحراق
لمن تخلف عن صلاة الجماعة أريد به المنافقون؛ لذكرهم فى
أول الحديث، وهذا ليس ببيِّن؛ لأنه يحتمل أن يكون عليه
السلام، أخبر المؤمنين أن من شأن المنافقين ثقل الفجر
والعشاء عليهم فى الجماعة، فحذر المؤمنين من التشبه بهم فى
ذلك، وامتثال طريقتهم، والله أعلم، وإنما ثقلت صلاة العشاء
على المنافقين للزومها فى وقت ثقيل متصل بالنوم، فأشبهت
صلاة الفجر فى ذلك، وقد قال عثمان بن عفان: من شهد العشاء،
فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح، فكأنما قام ليلة، وهو
بيِّن فى ذلك.
31 - باب اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ
/ 47 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قال النَّبِيِّ
عليه السلام: (إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَأَذِّنَا
وَأَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) . اختلف
العلماء فى أقل اسم الجمع، فذهب قوم إلى أن الاثنين جمع،
واستدلوا بهذا الحديث، وقالوا: كل جماعة قليلة كانت أو
كثيرة، فالمصلى فيها له سبع وعشرون درجة، قال إبراهيم
النخعى: إذا صلى الرجل مع الرجل لهما أجر التضعيف خمس
وعشرون درجة، وهما جماعة.
(2/283)
وقالت طائفة: الثلاثة جماعة، روى ذلك عن
الحسن البصرى، وقال إسماعيل بن إسحاق: فى حديث أبى بن كعب،
أن النبى، عليه السلام، قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من
صلاة الرجل وحده) دليل أن صلاة الرجل مع الرجل فى معنى
الجماعة.
32 - باب مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ
الصَّلاةَ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ
/ 48 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ:
(الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي
مُصَلاهُ، مَا لَمْ يُحْدِثِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ،
اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ،
مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ، لا يَمْنَعُهُ أَنْ
يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلا الصَّلاةُ) . / 49 - وفيه:
أَبو هُرَيْرَةَ، قال عليه السلام: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ
اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ) ، وذكر
منهم: (رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالْمَسَاجِدِ) . قوله
عليه السلام: (الملائكة تصلى على أحدكم ما دام فى مصلاه) ،
تفسير لقوله: (ويستغفرون للذين آمنوا) [غافر: 7] ، يريد
المصلين، والمنتظرين للصلاة، ويدخل فى ذلك من أشبههم فى
المعنى، ممن حبس نفسه على أفعال البرِّ كلها، والله أعلم.
قال المهلب: فالصلاة من الملائكة استغفار ودعاء، وهى من
الله رحمة، وقد فسر أبو هريرة الحدث فقال: فساء أو ضراط،
وقد روى عنه: (ما لم يحدث) : ما لم يؤذ أحدًا، فتأول
العلماء فى ذلك الأذى أنه الغيبة وشبهها، وإنما هو، والله
أعلم، أذى الحدث، يفسر ذلك حديث النوم، لكن النظر يدل أنه
إذا آذى أحدًا بلسانه أنه
(2/284)
ينقطع عنه استغفار الملائكة؛ لأن أذى السب
والغيبة فوق أذى رائحة الحدث، فإذا انقطع عنه استغفار
الملائكة بأذى الحدث، فأولى أن ينقطع بأذى السب وشبهه.
33 - باب فَضْلِ مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ
/ 50 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قال نَّبِيِّ الله: (مَنْ
غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أوَ رَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ
نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ) .
فيه: الحض على شهود الجماعات، ومواظبة المساجد للصلوات؛
لأنه إذا أعد الله له نزله فى الجنة بالغدو والرواح، فما
ظنك بما يُعِدُّ له ويتفضل عليه بالصلاة فى الجماعة
واحتساب أجرها والإخلاص فيها لله تعالى.
34 - باب إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إِلا
الْمَكْتُوبَةَ
/ 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ رَأَى رَجُلاً من الأزد، وَقَدْ أُقِيمَتِ
الصَّلاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ
رَسُولُ اللَّهِ لاثَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ: (الصُّبْحَ أَرْبَعًا، الصُّبْحَ أَرْبَعًا) .
اختلف الناس فى تأويل هذا الحديث، فكرهت طائفة للرجل أن
يركع ركعتى الفجر فى المسجد والإمام فى صلاة الفجر،
واحتجوا بهذا الحديث، روى هذا عن سعيد بن جبير، وعروة بن
الزبير، وابن سيرين، وهو قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى
ثور.
(2/285)
وقالت طائفة: لا بأس أن يصليها خارج المسجد
ما تيقن أنه يدرك الركعة الأخيرة مع الإمام، هذا قول أبى
حنيفة وأصحابه والأوزاعى، إلا أن الأوزاعى أجاز أن يركعهما
فى المسجد. وقال الثورى: إن خشى فوت ركعة دخل معه ولم
يصلهما، وإلا صلاهما فى المسجد. وقال مالك: إن خشى أن
تفوته الركعة الأولى فلا يصليهما، وليدخل مع الإمام، كقول
الثورى، إلا أنه قال: وإن لم يخف فوت ركعة، فليركعهما خارج
المسجد فى غير أفنيته اللاصقة به. وحجة من أجاز أن يصليهما
فى المسجد، ما روى عن ابن مسعود أنه دخل المسجد، وقد أقيمت
الصلاة، فصلى إلى أسطوانة فى المسجد ركعتى الفجر، وذلك
بمحضر حذيفة وأبى موسى، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وأبى
الدرداء، وابن عباس، ذكره الطحاوى. وحجة من قال: يُصلى
خارج المسجد، ما روى عن ابن عمر أنه صلاهما قبل أن يدخل فى
المسجد فى الطريق، ثم دخل المسجد فصلى الصبح مع الناس.
وأما حجة أهل المقالة الأولى من طريق النظر، فقالوا:
تشاغله بالفريضة أولى من تشاغله بالتطوع. واحتج الآخرون
فقالوا: قد أجمعوا أنه لو كان فى منزله، فعلم دخول الإمام
فى صلاة الفجر، أنه ينبغى له أن يركع ركعتى الفجر ما لم
يخف فوت صلاة الإمام، ولم يجعلوا تشاغله بالسعى إلى
الفريضة أفضل من تشاغله بهما فى منزله.
(2/286)
قال الطحاوى: وقد روى أن النبى، عليه
السلام، مرَّ بابن بحينة وهو يصلى بين يدى نداء الصبح،
فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة الظهر وبعدها، واجعلوا
بينهما فصلاً، فأبان فى هذا الحديث أن الذى كرهه رسول الله
لابن بحينة هو وصله إياها بالفريضة فى مكان واحدٍ دون أن
يفصل بينهما بشىء يسير؛ لأنه كره له أن يصليهما فى المسجد،
فإذا فرغ منهما تقدم إلى الصفوف فصلى الفريضة مع الناس،
وقد روى مثل هذا المعنى فى غير هذا الحديث. روى ابن جريج،
عن عمر بن عطاء، أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد
يسأله: ماذا سمع من معاوية فى الصلاة بعد الجمعة؟ فقال:
صليت معه فى المقصورة الجمعة، فلما فرغت قمت لأتطوع فأخذ
بثوبى فقال: لا تفعل حتى تتقدم أو تكلم؛ فإن رسول الله كان
يأمر بذلك. ولم يختلفوا أنه من لم يُصل العشاء فدخل المسجد
فوجدهم فى الإشفاع أنه جائز أن يصلى العشاء ناحيةً من
المسجد بحيث يأمن تخليط الإمام عليه. وقال الطحاوى: يحتمل
أن يكون النهى فى قوله: (الصبح أربعًا) ؛ لأنه جمع بين
الصلاتين من الفرض والنفل فى مكان واحد، كما نهى من صلى
الجمعة أن يصلى بعدها تطوعًا فى مكان واحدٍ حتى يتكلم أو
يتقدم. وأما قوله فى الترجمة: (إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة
إلا المكتوبة) ، فقد روى هذا اللفظ عن النبى، عليه السلام،
رواه أبو عاصم، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن
سليمان بن
(2/287)
يسار، عن أبى هريرة، عن الرسول، إلا أن ابن
عيينة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، أوقفوه على أبى
هريرة، فلذلك تركه البخارى. وأجمعوا أن من عليه صلاة
الظهر، فدخل فى المسجد ليصليها فأقيمت عليه العصر، أنه لا
يقطع صلاته، ويكملها. قال مالك: ومن أحرم بفريضة فى المسجد
فأقيمت عليه تلك الفريضة، فإن لم يركع قطع بسلام، ودخل مع
الإمام، وإن ركع صلى ثانيةً وسلم ودخل معه، وإن صلى ثالثةً
صلى رابعةً، ولا يجعلها نافلةً ويسلم ويدخل معه، وإن كانت
المغرب قطع، ودخل مع الإمام، عقد ركعةً أم لا، وإن صلى
اثنتين أتمهما ثلاثًا وخرج، فهذا يدل أن حديث مالك المرسل
عن أبى سلمة أن الرسول قال: (أصلاتان معًا؟) ، إنما هو
عندى فيمن اشتغل بنافلةٍ عن فريضةٍ، ولو كان فيمن اشتغل
بفريضة لأمرهُ بقطع الصلاة، ولو كان فى الرابعة، أو
الثالثة من المغرب. قال الخطابى: قوله: (لاث به الناس) ،
معناه: أحاطوا به، واجتمعوا عليه، وكل شىء اجتمع والتبس
بعضه ببعض فهو لائث، فقلب كما قال الله تعالى: (على شفا
جُرفٍ هارٍ) [التوبة: 109] ، أى هائر. وقال صاحب (الأفعال)
: لاث الشجر والنبات، التف بعضه ببعضٍ، ولاق بغيره كذلك،
ومنه: لاث الإزار والعمامة: إذا رد بعضها على بعض.
(2/288)
35 - باب حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ
الْجَمَاعَةَ
/ 52 - فيه: عَائِشَةَ، أَنه ذَكَر عندها الْمُوَاظَبَةَ
عَلَى الصَّلاةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، فقَالَتْ: (لَمَّا
مَرِضَ النبى، عليه السلام، مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ،
فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَأُذِّنَ، فَقَالَ: (مُرُوا أَبَا
بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَقلَت لَهُ: إِنَّ
أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، إِذَا قَامَ مَقَامِكَ لَمْ
يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَأَعَادَ،
فَأَعَادُوا لَهُ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ:
(إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ،
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ،
فَصَلَّى، فَوَجَدَ الرسول مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً،
فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ
رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنَ الْوَجَعِ، فَأَرَادَ أَبُو
بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ
أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى
جَنْبِهِ) . فقِيلَ لِلأعْمَشِ: وَكَانَ النَّبِيُّ
يُصَلِّي، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاتِهِ، وَالنَّاسُ
يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ؟ ، فَقَالَ بِرَأْسِهِ:
(نَعَمْ) . قال المؤلف: قوله: باب حدّ المريض أن يشهد
الجماعة، معناه: باب حدة المريض وحرصُه على شهود الجماعة،
كما قال عمر بن الخطاب فى أبى بكر الصديق: وكنت أدارى منه
بعض الحد، يعنى بعض الحدة، والمراد بهذا الحديث الحض على
شهود الجماعة والمحافظة عليها. قال أبو عبد الله بن أبى
صفرة: وفيه من الفقه: جواز الأخذ بالشدة لمن جازت له
الرخصة؛ لأن الرسول كان له أن يتخلف عن الجماعة لعذر
المرض، فلما تحامل على نفسه وخرج بين رجلين
(2/289)
تخط رجلاه الأرض، دلَّ على فضل الشدة على
الرخصة، ورغب أمته فى شهود الجماعات؛ لما لهم فيها من عظيم
الأجر، ولئلا يعذر أحد منهم نفسه فى التخلف عنها ما أمكنه
وقدر عليها، إذ لم يعذر نفسه عليه السلام، ولم يرخص لها فى
حال عجزه عن الاستقلال على قدميه مع علمه أن الله قد غفر
له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبذلك عمل السلف الصالحون،
فكان الربيع بن خثيم يخرج إلى الصلاة يهادى بين رجلين،
وكان أصابه الفالج، فيقال له: إنك لفى عذر، فيقول: أجل،
ولكنى أسمع المؤذن يقول: حى على الصلاة، حى على الفلاح،
فمن سمعها فليأتها ولو حبوًا. وكان أبو عبد الرحمن السلمى
يُحمل وهو مريض إلى المسجد. وقال سفيان: كان سويد بن غفلة
ابن ست وعشرين ومائة سنة يخرج إلى الصلاة. وكان أبو إسحاق
الهمدانى يهادى إلى المسجد، فإذا فرغ من صلاته لم يقدر أن
ينهض حتى يقام. وقال سعيد بن المسيب: ما أَذَّن المؤذن منذ
ثلاثين سنة إلا وأنا فى المسجد. وقول عائشة: (إن أبا بكر
رجل أسيف) ، يعنى: سريع الحزن والبكاء، والأسف عند العرب:
شدة الحزن والتندم، يقال منه: أسف فلان على كذا يأسف، إذا
اشتد حزنه، وهو رجل أسيف وأسُوف، ومنه قول يعقوب: (يا أسفى
على يوسف) [يوسف: 84] ، يعنى: يا حزنا ويا جزعا؛ توجعًا
لفقده وقيل: قال الخزاعى:
(2/290)
الأسيف، الضعيف من الرجال فى بطشه، وأما
الأسفُ، فهو الغضبان المتلهف، كما قال الله تعالى: (ولما
رجع موسى إلى قومه غضبانٍ أسفًا) [الأعراف: 150] .
36 - باب الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْعِلَّةِ أَنْ
يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ
/ 53 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: أنه أَذَّنَ بِالصَّلاةِ، فِي
لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلا صَلُّوا
فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ
يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ، إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ
بَرْدٍ وَمَطَرٍ، يَقُولُ: (أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ)
. / 54 - وفيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ: (أنه كَانَ
يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ
لِرَسُولِ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا تَكُونُ
الظُّلْمَةُ والمطر وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ
الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي،
مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى. . .) الحديث. أجمع العلماء
على أن التخلف عن الجماعات فى شدة المطر والظلمة والريح،
وما أشبه ذلك مباح بهذه الأحاديث، ألا ترى أن عتبان بن
مالك سأل النبى، عليه السلام، أن يصلى فى بيته مكانًا
يتخذه مصلى إذا كان المطر والسيْل، ففعل ذلك؛ فدل أن شهود
الجماعات سُّنَّة؛ لأنه لما سقط عنه الإتيان إلى الجماعة،
وجاز له أن يصليها فى بيته منفردُا، وبقوله: (ألا صلوا فى
الرِّحَال) علم أنها سُّنة، ولو كانت الصلاة لا تجوز فى
البيوت إلا جماعة، لما ترك الرسول بيانه لأمته؛ لأن الله
أخذ عليهم ميثاق البيان لهم، ولقال لعتبان: لا تصح لك فى
مصلاك هذا صلاة منفردة حتى
(2/291)
يجتمع معك فيه غيرك، فصح قول الجماعة أن
الجمع سُنَّة، وإذا وسع التخلف عن الجماعة للظلمة والمطر،
فالتخلف لعذر المرض مثله، وقد قال إبراهيم النخعى: ما
كانوا يرخصون فى ترك الجماعة إلا لخائف أو مريض.
37 - باب هَلْ يُصَلِّي الإمَامُ بِمَنْ حَضَرَ، وَهَلْ
يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَطَرِ
/ 55 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أنه خَطَبَ فِي يَوْمٍ ذِي
رَدْغٍ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ (حَيَّ عَلَى
الصَّلاةِ) ، قَالَ: قُلِ: الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ،
فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، كَأَنَّهُمْ
أَنْكَرُوا، فَقَالَ: كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا،
إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، يَعْنِي
رسول الله، إِنَّهَا عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ
أُحْرِجَكُمْ. / 56 - وفيه: أَبَو سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ
قَالَ: (جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ، حَتَّى سَالَ
السَّقْفُ - وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ - فَأُقِيمَتِ
الصَّلاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْجُدُ فِي
الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي
جَبْهَتِهِ) . / 57 - وفيه: أَنَسَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ
الأنْصَارِ: إِنِّي لا أَسْتَطِيعُ الصَّلاةَ مَعَكَ،
وَكَانَ رَجُلا ضَخْمًا، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ طَعَامًا،
فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا،
وَنَضَحَ طَرَفَ الْحَصِيرِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ
رَكْعَتَيْنِ. . . . الحديث. فيه من الفقه: أن الجماعات
تقام بمن حضرها فى المساجد وفى البيوت. وفيه: أن المساجد
لا تعطل فى المطر والطين ولا غيره.
(2/292)
وفيه: أن الجمعة ليس لها عدد من الناس لا
تجوز الصلاة دونهم. وأجمعوا أنه لا يخطب يوم الجمعة على
واحدٍ، ولا يصلى معه جمعة. واختلفوا فى الاثنين: فقال
الليث: يخطب الإمام باثنين، وقاله أبو حنيفة. وقال بعض
أصحابه: لا يخطب إلا مع ثلاثة سوى الإمام. وفيه: أن الجمعة
يُتخلف عنها فى المطر، كما يتخلف عن سائر الصلوات، وسيأتى
ذلك فى كتاب الجمعة، إن شاء الله. والدَّوْسُ: الدرس، داست
الخيل القتلى: إذا وطئتهم، ودياس البقر مثله، من كتاب
(العين) ، وقد تقدم تفسير الردغ فى باب الكلام فى الأذان.
38 - باب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ
وكان ابن عمر يبدأ بالعشاء. وقال أبو الدرداء: من فقه
المرء إقباله على حاجته حتى يُقبل على صلاته وقلبه فارغ. /
58 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ عليه السلام: (إِذَا وُضِعَ
الْعَشَاءُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَابْدَءُوا
بِالْعَشَاءِ) .
(2/293)
/ 59 - وفيه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:
(إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ
تُصَلُّوا صَلاةَ الْمَغْرِبِ، وَلا تَعْجَلُوا عَنْ
عَشَائِكُمْ) . / 60 - ورواه ابْنِ عُمَرَ، عن النبى
أيضًا، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ
الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلاةُ، فَلا يَأْتِيهَا حَتَّى
يَفْرُغَ منه، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإمَامِ.
وقال ابْنِ عُمَرَ مرةً: قَالَ رسول الله: (إِذَا كَانَ
أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلا يَعْجَلْ، حَتَّى
يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ) .
اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث: فذكر ابن المنذر أنه
قال بظاهره: عمر بن الخطاب، وابن عمر، وهو قول الثورى،
وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى: يبدأ بالطعام إذا كانت نفسه
شديدة التوقان إليه، فإن لم يكن كذلك ترك العشاء، وإتيان
الصلاة أحبُّ إلى. وذكر ابن حبيب مثل معناه. وقال ابن
المنذر: عن مالك، يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون طعامًا
خفيفًا. وقال أهل الظاهر: لا يجوز لأحدٍ حضر طعامه بين
يديه، وسمع الإقامة، أن يبدأ بالصلاة قبل العشاء، فإن فعل
فصلاته باطلة. وحجة الذين قالوا يبدأ بالصلاة، أنهم حملوا
قوله عليه السلام: (فابدءوا بالعشاء) على الندب لما يخشى
من شغل باله بالأكل فيفارقه الخشوع، وربما نقص من حدود
الصلاة، أو سها فيها، وقد بين هذا المعنى أبو الدرداء فى
قوله: (من فقه المرء إقباله على طعامه حتى يقبل على صلاته
وقبله فارغ) ، ولو كان إقباله على طعامه هو الفرض عليه لم
يقل فيه: من فقه المرء أن يبدأ به، بل كان يقول: من
(2/294)
الواجب عليه اللازم له أن يبدأ به، فبين
العلة فى قوله عليه السلام: (ابدءوا بالعشاء) أنها لما
يخاف من شغل البال، وقد رأينا شغل البال فى الصلاة لا
يفسدها؛ ألا ترى أن النبى صلى فى جُبة لها علم، فقال:
(خذوها وائتونى بأنبجانية) ، فأخبر أن قلبه اشتغل بالعلم
ولم تبطل صلاته. وقال عمر بن الخطاب: إنى لأجهز جيشى وأنا
فى الصلاة. وقال عليه السلام: (لا يزال الشيطان يأتى أحدكم
فيقول له: اذكر كذا، حتى يضل الرجل، لا يدرى كم صلى) ، ولم
يأمرنا بإعادتها لذلك، وإنما استحب أن يكون المصلى فارغ
البال من خواطر الدنيا؛ ليتفرغ لمناجاة ربه. وقد اشترط بعض
الأنبياء على من يغزو معه أن لا يتبعه من ملك بُضع امرأة
ولم يبن بها، ولا من بنى دارًا ولم يكملها؛ ليتفرغ قلبه من
شواغل الدنيا، فهذا فى الغزو، فكيف فى الصلاة التى هى أفضل
الأعمال، والمصلى واقف بين يدى الله. وقد احتج بهذا الحديث
الكوفيون، وأحمد، وإسحاق، فى أن وقت المغرب واسع، وقالوا:
لو كان لها وقت واحد، ما كان لأحدٍ أن يشتغل فيه بالأكل
حتى يفوت.
(2/295)
39 - باب إِذَا دُعِيَ الإمَامُ إِلَى
الصَّلاةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُلُ
/ 61 - فيه: عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: (رَأَيْتُ
النبى يَأْكُلُ ذِرَاعًا يَحْتَزُّ مِنْهَا، فَدُعِيَ
إِلَى الصَّلاةِ، فَقَامَ، فَطَرَحَ السِّكِّينَ،
فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) . هذا الحديث يفسر أمر
الرسول أن يبدأ بالعشاء قبل الصلاة، ويدل على أنه على
الندب لا على الوجوب؛ لأنه قام إلى الصلاة وترك الأكل. وقد
تأول أحمد بن حنبل من هذا الحديث: أن من شرع فى الأكل، ثم
أقيمت الصلاة أنه يقوم إلى الصلاة، ولا يتمادى فى الأكل؛
لأنه قد أخذ منه ما يمنعه من شغل البال، وإنما الذى أمر
بالأكل قبل الصلاة من لم يكن بدأ به لئلا يشغل به باله.
ويردُّ هذا التأويل أن ابن عمر قد روى فى الباب قبل هذا أن
الرسول قال: (إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضى
حاجته منه) ، ومن كان على الطعام يقتضى تقدم أكله منه قبل
إقامة الصلاة، وقد أمره الرسول ألا يعجل حتى يقضى حاجته
منه، وهو خلاف ما تأوله أحمد بن حنبل.
40 - باب فِيمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتِ
الصَّلاةُ فَخَرَجَ
/ 62 - فيه: الأسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا
كَانَ الرسول يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ ، قَالَتْ: (كَانَ
يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - يَعْنِى فى خِدْمَةَ
أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ خَرَجَ إِلَيها) .
لما لم يكن يذكر فى هذا الحديث أنه أزاح عن نفسه هيئة
مهنته،
(2/296)
دل أن المرء له أن يصلى مُشَمَّرًا، وكيف
كان من حالاته؛ لأنه إنما يكره له التشمير وكفت الشعر
والثياب إذا كان يقصد بذلك الصلاة، وكذلك قال مالك: أنه لا
بأس أن يقوم إلى الصلاة على هيئة جلوسه وبذلته. وفيه: أن
الأئمة والعلماء يتولون خدمة أمورهم بأنفسهم، وأن ذلك من
فعل الصالحين.
41 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ، وَهُوَ لا يُرِيدُ إِلا
أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاةَ النَّبِيِّ وَسُنَّتَهُ
/ 63 - فيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أنه قال فِي
مَسْجِدِ أبى قلابةَ: إِنِّي لأصَلِّي بِكُمْ، وَمَا
أُرِيدُ الصَّلاةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ
يُصَلِّي، فَقُلْتُ لأبِي قِلابَةَ: كَيْفَ كَانَ
يُصَلِّي؟ قَالَ: مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا، وَكَانَ الشَيْخ
يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ
أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى. قال المهلب: يجوز
للإنسان من هذا الحديث أن يعلم غيره الصلاة والوضوء عيانًا
وعملاً، كما فعل جبريل فى إمامته بالرسول حين أراهُ كيفية
الصلاة عيانًا، وبهذا الحديث أخذ الشافعى فى أن كل من سجد
السجدة الآخرة من الركعة الأولى أو الثانية، أنه لا يقوم
حتى يستوى جالسًا، وهى صفة من صفات الصلاة، وقد ثبتت صفة
أخرى عن النبى قال بها مالك وغيره: وستأتى فى موضعها، إن
شاء الله.
(2/297)
42 - باب أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ
أَحَقُّ بِالإمَامَةِ
/ 64 - فيه: أَبو مُوسَى، قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ
فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَقَالَ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ،
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ
رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ
أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَ: (مُرى أَبَا بَكْرٍ،
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَعَادَتْ، فَقَالَ: (مُرِي
أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَعَادَتْ،
فَقَالَ: (مُرِي أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ،
فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ،
فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ الرسول. / 65 - روته
عائشة. / 66 - وأنس. (1) / 67 - وحمزة الأسلمى، عن النبى
عليه السلام. اختلف العلماء فى من أولى بالإمامة، فقالت
طائفة: يؤم القوم أعلمهم وأفضلهم، قال عطاء: يؤم القوم
أفقههم، فإن كانوا فى الفقه سواء فأقرؤهم، فإن كانوا فى
الفقه والقراءة سواء فَأَسَنُّهم. قال مالك، والأزواعى،
والشافعى: يؤم القوم أفقههم، وهو قول أبى ثور. وقال الليث:
يؤمهم أفضلهم وخيرهم. وقالت طائفة: القارئ أولى من الفقيه،
هذا قول الثورى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإسحاق. واحتجوا بما
رواه الأعمش، وشعبة، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج،
عن أبى مسعود البدرى، قال: قال رسول الله: (يؤم القوم
أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم
بالسُّنَّة، فإن كانوا فى السُّنَّةِ سواء فأقدمهم
(2/298)
هجرة، فإن كانوا فى الهجرة سواء، فأقدمهم
إسلامًا) ، وزاد فيه شعبة: (ولا يؤم الرجل فى أهله، ولا فى
سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) ، والتكرمة:
فراشه، قاله إسماعيل بن رجاء، وبما رواه ابن جريج، عن
نافع، عن ابن عمر، قال: كان سالم مولى أبى حذيفة يؤم
المهاجرين والأنصار فى مسجد قباء حين أقبلوا من مكة؛ لأنه
كان أكثرهم قرآنًا، فيهم أبو سلمة بن عبد الأسود، وعمر بن
الخطاب. قالوا: وحديث أبى مسعود معارض لقوله (صلى الله
عليه وسلم) : (مروا أبا بكر يُصلى بالناس) ؛ لأنه كان فيهم
من كان أقرأ منه للقرآن. قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله،
ويحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يؤم
القوم أقرؤهم) فى أول الإسلام حين كان حفاظ القرآن قليلاً
وقت قدم عمرو بن سلمة، وهو صبى، للصلاة فى مسجد عشيرته
وفيه الشيوخ، وكان تنكشف عورته عند السجود، فدل أن إمامته
بهم فى مثل هذه الحال كانت لعدم من يقرأ من قومه، ولهذا
المعنى كان يؤم سالم المهاجرين والأنصار فى مسجد قباء، حين
أقبلوا من مكة مهاجرين، لعدم الحُفَّاظ حينئذ. فأما وقت
قوله (صلى الله عليه وسلم) : (مروا أبا بكر يصلى بالناس)
فقد كان تقرر الإسلام وكثر حفاظ القرآن وتفقهوا فيه، فلم
يكن الصديق، رضى الله عنه، على جلالته وثاقب فهمه، وتقدمه
فى كل خير، يتأخر عن مساواة القُرَّاء، بل فضلهم بعلمه،
وتقدمهم فى أمره، ألا ترى قول أبى سعيد: وكان أبو بكر
أعلمنا. وقال الطبرى: لما استخلف النبى (صلى الله عليه
وسلم) الصديق، رضى الله عنه، على الصلاة بعد إعلامه لأمته
أن أحقهم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله صح أنه
(2/299)
يَوْمَ قَدَّمَهُ للصلاة كان اقرأ أمته
لكتاب الله وأعلمهم وأفضلهم؛ لأنهم كانوا لا يتعلمون شيئًا
من القرآن حتى يتعلموا معانيه وما يراد به، كما قال ابن
مسعود: كان الرجل منَّا إذا تعلم عشر آياتٍ لم يجاوزهن حتى
يتعلم معانيهن والعمل بهن. ولما كان النبى (صلى الله عليه
وسلم) لا يستحق أن يتقدمه أحد فى الصلاة وجعل ما كان إليه
منها بمحضر جميع الصحابة لأبى بكر، رضى الله عنه، كان جميع
أمور الإسلام تبعًا للصلاة، ولهذا قدمه رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) للصلاة، والصلاة لا يقوم بها إلا الدعاة
ومن إليه السياسة وعقد الخلافة؛ كصلاة الجمع والأعياد التى
لا يصلح القيام بها إلا لمن إليه القيام بأمر الأمة وسياسة
الرعيّة. وصح أنه أفضل الأُمة بعدهُ لقيام الحجة بأن أولى
البرية بعقد الخلافة أفضلهم وأقومهم بالحق وأعدلهم وأوفرهم
أمانة وأحسنهم على محجة الحق استقامة، وكذلك كان الصديق،
رضى الله عنه. قال المهلب: إن قال قائل: إن عمر أعلم من
أبى بكر، واستدل بحديث الذَّنُوب والذَّنُوبيْن، و (فى
نزعه ضعف) ، قيل: إنه ليس كما ظننت، إنما الضعف فى المدة
التى وليها أبو بكر، لا فيه ولا فى علمه، إنما كان الضعف
فى نشر السنن لقرب مدته وضعفها عن أن يتمكن بتثبيت؛ لأنه
ابتلى بارتداد الناس ومقاتلة العرب. وأما مراجعة عائشة،
وحرصها أن يستخلف غير أبى بكر، فإنما خَشِيَتْ أن يتشاءم
الناس بإمامة أبى بكر فيقولون: مُذْ أمنَّا هذا فقدنا رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقد روى هذا عنها، رضى الله
عنها.
(2/300)
43 - باب مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإمَامِ
لِعِلَّةٍ
/ 68 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) أَبَا بَكْرٍ الصديق أَنْ يُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ، فَوَجَدَ من نَفْسِهِ خِفَّةً،
فَخَرَجَ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ،
فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ، فَأَومَأ
إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى
جَنْبِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاةِ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ
بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ) . سنة الإمامة تقديم الإمام،
وتأخير الناس عنه، ولا يجوز أن يكون أحد مع الإمام فى صف
إلا فى موضعين: أحدهما: العلة التى فى هذا الحديث وما كان
فى معناها، مثل أن يضيق الموضع، فلا يقدر على التقدم،
فيكون معهم فى صف، ومثل العراة أيضًا إذا أمن أن يرى بعضهم
بعضًا. والموضع الثانى: أن يكون رجل واحد مع الإمام، فإنه
يصلى على يمينه فى الصف معه، كما فعل النبى (صلى الله عليه
وسلم) بابن عباس إذ أدارهُ من خلفه إلى يمينه، فإن صلى
الإمام فى صف المأمومين بغير عذر، فقد أساء وخالف سنة
الإمامة وصلاته تامة. وقال الطبرى: إنما أقام النبى (صلى
الله عليه وسلم) أبا بكر إلى جنبه؛ ليعلم الناس تكبير
ركوعه وسجوده، إذ كان (صلى الله عليه وسلم) قاعدًا، وفى
القوم ممن يصلى بصلاته من لا يراه ولا يعلم ركوعه ولا
سجوده، فبان أن الأئمة إذا كانوا بحيث لا يراهم من يأتم
بهم، أن يجعلوا بينهم وبين من يأتم بهم علمًا يعلمون
بتكبيره وركوعه، تكبيرهم وركوعهم، وأن لمن لا يرى الإمام
أن يركع بركوع المؤتم به، ويسجد بسجوده، وأن ذلك لا يضره
ويجزئه أن لا يرى الإمام فى كل ذلك إذا رأى من يصلى
بصلاته.
(2/301)
وقوله: (فلما رآه أبو بكر استأخر) ، دليل
واضح أنه لم يكن عنده مستنكرًا أن يتقدم الرجل عن مقامه
الذى قام فيه فى صلاته ويتأخر، وذلك عمل فى الصلاة من
غيرها، فكلُّ ما كان نظير ذلك، فعلهُ فَاعِل فى صلاته لأمر
دعاه إليه، فذلك جائز.
44 - باب مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإمَامُ
الأوَّلُ فَتَأَخَّرَ الأوَّلُ، أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ،
جَازَتْ صَلاتُهُ
/ 69 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: (أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَهَبَ إِلَى بَنِي
عَمْرِو ابْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَانَتِ
الصَّلاةُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ،
فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ،
فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) وَالنَّاسُ فِي الصَّلاةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى
وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو
بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي صَلاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ
النَّاسُ التَّصْفِيقَ، الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ،
فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى
مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى
اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ:
(يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ
أَمَرْتُكَ؟) ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لابْنِ
أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : (مَا لِي أرَاكُمْ أَكْثَرْتُمُ
التَّصْفِيقَ؟ ، مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ،
فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ
إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ) . فى هذا
الحديث من الفقه الرد على الشافعى، وأهل الظاهر فى إنكارهم
استخلاف الإمام فى الصلاة، إذا نابه فيها ما يخرجه منها،
من يُتم بهم صلاتهم، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ،
جاء وقد صلى أبو بكر بالناس بعض الصلاة، فتقدم النبى (صلى
الله عليه وسلم) ، وصار الإمام، وصار أبو
(2/302)
بكر مأمومًا بعد أن كان إمامًا، وائتم
القوم بالنبى (صلى الله عليه وسلم) بعد أن كانوا يأتمون
بأبى بكر، وبنوا على صلاتهم، فكذلك حكم الإمام إذا سبقه
حدث أو رعاف فقدم رجلاً، أن لهم أن يأتموا به بقية صلاتهم،
ولا يضرهم خروج الإمام من موضعه، كما لم يضر الناس الذين
كانوا يأتمون بأبى بكر، خروجهم من الائتمام به حين صار
النبى (صلى الله عليه وسلم) إمامهم دون أبى بكر، قاله
الطبرى. وممن قال: يجوز الاستخلاف فى الصلاة: عمر، وعلى،
ومن التابعين: علقمة، وعطاء، والحسن، والنخعى، وهو قول
مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وقال الشافعى: الاختيار أن
يصلى القوم فُرادى، فإن قدموا رجلاً يصلى بهم أجزأهم، وهذا
الحديث حجة عليه، وهو الأصل فى جواز الاستخلاف. قال
الطبرى: وفيه من الفقه خطأ قول من زعم أنه لا يجوز لمن
أحرم بصلاة المكتوبة وصلى بعضها ثم أقيمت الصلاة أنه لا
يجوز له أن يدخل مع الجماعة فى بقية صلاته حتى يخرج منها
بتسليم، ثم يدخل معهم، فإن دخل معهم دون الإسلام فسدت
عليه، ولزمه قضاؤها. ودليل هذا الحديث خلاف لقوله؛ وذلك أن
النبى (صلى الله عليه وسلم) ابتدأ صلاته التى كان صلى أبو
بكر بعضها، وائتم به أصحابه فى بقيتها، فكان النبى مبتدئًا
والقوم متممين، فكذلك حكم الذى صلى بعض صلاته، ثم أقيمت
الصلاة، فدخل فيها مع الإمام يكون للإمام والذين أحرموا
معه ابتداء، وتكون للرجل الذى دخل معه فيها بعد ما صلى
بعضها تمامًا، إذا أتم بقيتها، وخرج من الائتمام فيما ليس
عمله منها.
(2/303)
قال المهلب: وفيه أن الإمام المعهود إذا
أتى والناس فى الصلاة أنه ليس له أن يخرج من قدم إلا أن
يأبى المستخلفُ أن يقيم فى الإمامة، وقد علم بلحوق الأفضل،
كما فعل أبو بكر، ليستكمل فضل الرسول فى الإمامة. وقد قال
كثير من العلماء: هذا موضع خصوص للرسول؛ لأنه لا يجوز
التقدم بين يديه إلا أن يُقر ذلك عليه السلام، فلا يعزل
المستخلف حتى يتم صلاته، إذ ليس من تباين الناس اليوم فى
الفضل من يجب أن يتأخر له. قال غيره: ولسنا نقول: إن أبا
بكر لو تمادى لم يجزه ذلك، بل نقول: إنه كان جائزًا له؛
لإشارة النبى: أن امكث مكانك. قال أبو عبد الله بن أبى
صفرة: وقد روى عيسى، عن ابن القاسم فى الإمام يحدث
فيستخلف، ثم ينصرف، فيأتى، ثم يخرج المستخلف، ويتم الأول
بالناس أن الصلاة تامة، قال: فإذا تمت الصلاة، فينبغى أن
يشير إليهم حتى يتم لنفسه، ثم يسلم ويسلموا، فيجوز التقدم
والتأخر فى الصلاة، وهذا القول مطابق للحديث وبه ترجم
البخارى، وأكثر الفقهاء لا يقولون بإمامين لغير عذر. قال
المهلب: وقول مالك ذلك؛ لأنه لا يجوز عندهم الاستخلاف فى
الصلاة إلا لعذر، ولا الصلاة بإمامين لغير عذر. قال
المهلب: وقول مالك: إنه من أحرم قبل إمامه أنه لا تجوز
صلاته، وعليهم الإعادة، فإنه إنما أراد من ابتداء الصلاة
بإمام واحد، فأحرموا قبله، ثم مضوا حتى أتموا الصلاة، وأما
هذه الصلاة،
(2/304)
فإن الرسول حين دخل فيها صاروا كلهم محرمين
قبله، وتمت صلاته وصلاتهم. وقال ابن المنذر: فى هذا الحديث
دلالة على أن الرجل قد يكون فى بعض صلاته إمامًا، ومأمومًا
فى بعضها، ويدل على إجازة الائتمام بصلاة من تقدم افتتاح
المأموم الصلاة قبله. قال الطبرى: وفى هذا الحديث الدلالة
الواضحة على أن من سبق إمامه بتكبيرة الإحرام، ثم ائتم به
فى صلاته، أن صلاته تامة، وبيان فساد قول من زعم أن صلاته
لا تجزئه، وذلك أن أبا بكر كان قد صلى بهم بعض الصلاة، وقد
كانوا كبروا للإحرام معه، فلما أحرم رسول الله لنفسه
للصلاة بتكبيرة الإحرام، ولم يستقبل القوم صلاتهم، بل بنوا
عليها مؤتمين به، وقد كان تقدم تكبيرهم للإحرام تكبيرهُ.
قال المؤلف: لا أعلم من يقول: إن من كبر قبل إمامه فصلاته
تامة إلا الشافعى، بناءً على أصل مذهبه أن صلاة المأموم
غير مرتبطة بصلاة الإمام، وسائر الفقهاء لا يجيزون صلاة من
كبر قبل إمامه، وسيأتى الحجة للجماعة فى ذلك فى باب: (إنما
جعل الإمام ليؤتم به) ، إن شاء الله، وأذكر هنا طرفًا
منها، وذلك أن النبى، عليه السلام، وإن كان كبر بعد تكبير
أبى بكر، وبعد تكبير الناس، فإنه صار بمنزلة من استخلف،
وصار تكبير القوم بعد تكبير الإمام الأول، وهو أبو بكر،
والرسول الإمام الثانى يقوم مقام الأول، ألا ترى أنه بنى
على صلاة أبى بكر، ولم يبتدئها، وإذا صح القول بالاستخلاف
صحت هذه المسألة، ولم يلزم فيها أن يكون تكبير المأموم قبل
إمامه، ولا يجوز أن يقضى بها على قوله عليه السلام: (فإذا
كبر الإمام فكبروا) .
(2/305)
قال غيره: وفيه من الفقه فضل أبى بكر على
سائر الصحابة وأنهم كانوا يؤهلونه فى حياة رسول الله لما
صار إليه بعد وفاته من الخلافة، ولا يرون لذلك الموضع
غيره. قال المهلب: وقول المؤذن لأبى بكر: تصلى للناس، دليل
على أن المؤذن هو الذى يقدم للصلاة؛ لأنه يخدم أمر
الإمامة، وجماعة أهل المسجد، وهى ولاية ليس لأحد أن يتقدم
إلى إمامة الجماعة إلا بأمره أو بأمر من ولى ذلك من
المؤمنين. وفيه: أن الإمام ينتظر ما لم يُخش فوات الوقت
الفاضل. قال المهلب: وفيه: جواز إعلام المصلى بما يسره.
قال غيره: وفيه: أن الالتفات فى الصلاة للحاجة ومهم الأمر
جائز. وفيه: شكر الله على الوجاهة فى الدين، وأن ذلك من
أعظم النعم قال تعالى فى عيسى: (وجيها فى الدنيا والآخرة
ومن المقربين) [آل عمران: 45] . وقال مالك: أنه من أخبر فى
صلاته بما يسرهُ، يحمد الله عليه، وله أن يتركه تواضعًا
وشكرًا لله وللمنعم به.
45 - باب إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ
فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ
/ 70 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: قَدِمْنَا
عَلَى النَّبِيِّ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ، فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ
نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ النَّبِيُّ
رَحِيمًا، فَقَالَ: (لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى
(2/306)
بِلادِكُمْ، فَعَلَّمْتُمُوهُمْ، مُرُوهُمْ
فَلْيُصَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلاةَ
كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ،
فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ
أَكْبَرُكُمْ) . قال المؤلف: لا خلاف بين العلماء أنهم إذا
استووا فى القراءة والفقه والفضل، فالأسنُّ أولى بالتقديم،
وموضع الدلالة من هذا الحديث على التساوى فى القراءة، وهو
أن مالك بن الحويرث قال: قدمنا على الرسول ونحن شببة،
فلبثنا عنده نحوًا من عشرين ليلة، فاستدل بتقاربهم فى السن
وتساويهم فى مدة التعليم، وإن كان بعضهم أقبل لها وأسرع
حفظًا من غيره، أنهم قد تساووا فى تعليم ما تجزئهم الصلاة
به، ولذلك رقَّ عليهم النبى وصرفهم إلى أهليهم، ولو لم
يتعلموا ما يجزئهم فى الصلاة ما صرفهم حتى يتعلموه. وقوله:
(فليؤمكم أكبركم) ، فيه دليل أن الإمامة تستحق بالسن إذا
كان معه علم وفضل، وأما إن تعرى السن من العلم والقراءة
والفضل، فلا حظَّ للكبير فى الإمامة، بدليل تقديم النبى
عمرو بن سلمة وهو صبى فى مسجد عشيرته، وفيهم الشيوخ
والكهول.
46 - باب إِذَا زَارَ الإمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُمْ
/ 71 - فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: (اسْتَأْذَنَ
النَّبِيُّ عليه السلام، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَقَالَ:
(أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟) ،
فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ،
فَقَامَ، وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ
فَسَلَّمْنَا) . هذا الباب رد لما روى عن النبى أنه قال:
(من زار قومًا
(2/307)
فلا يؤمهم) ، رواه وكيع عن أبان العطار، عن
بديل بن ميسرة، عن أبى عطية، عن رجل منهم قال: كان مالك بن
الحويرث يأتينا فى مصلانا هذا، فحضرت الصلاة، فقلنا له:
تقدم، فقال: لا، ليتقدم بعضكم، حتى أحدثكم لم لا أتقدم،
سمعت رسول الله يقول: (من زار قومًا فلا يؤمهم، وليؤمهم
رجل منهم) ، وهذا إسناد ليس بقائم؛ لأن أبا عطية مجهول
يرويه عن مجهول، وصلاته عليه السلام فى بيت عتبان مخالف
له، ويمكن الجمع بين الحديثين، وذلك أنه يحمل قوله عليه
السلام: (من زار قومًا فلا يؤمهم) ، لو صح، أن يكون
إعلامًا منه أن صاحب الدار أولى بالإمامة فيه من الداخلين
عليه، إلا أن يشاء صاحب الدار أن يقدم غيره ممن هو أفضل
منه، فإنه يستحب له ذلك، بدليل تقديم عتبان بن مالك فى
بيته للنبى عليه السلام، وحمل الحديثين على فائدتين أولى
من تضادهما. وقد روى ابن القاسم، عن مالك أنه: يستحب لصاحب
المنزل إذا حضر فيه من هو أفضل منه أن يقدمه للصلاة، ولا
خلاف بين العلماء فى أن صاحب الدار أولى بالإمامة منه، وقد
روى عن أبى موسى الأشعرى، أنه أم ابن مسعود وحذيفة فى
داره، وفعله ابن عمر بمولى، فصلى خلف الموالى. وقال عطاء:
صاحب الدار يؤم من جاءه، وهو قول مالك، والشافعى، ولم أجد
فيه خلافًا.
(2/308)
47 - باب إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ
لِيُؤْتَمَّ بِهِ
وَصَلَّى الرسول فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ
بِالنَّاسِ، وَهُوَ جَالِسٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإمَامِ يَعُودُ، فَيَمْكُثُ
بِقَدْرِ مَا رَفَعَ، ثُمَّ يَتْبَعُ الإمَامَ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الإمَامِ رَكْعَتَيْنِ،
وَلا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ، يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ
الآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ
الأولَى بِسُجُودِهَا، وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى
قَامَ: يَسْجُدُ. / 72 - فيه: عَائِشَةَ قَالْت: لما
مَرَضِ النبى عليه السلام، قَالَ: (ضَعُوا لِي مَاءً فِي
الْمِخْضَبِ) ، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ،
فَذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ،
فَقَالَ: (أَصَلَّى النَّاسُ؟) ، قُلْنَا: لا، هُمْ
يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (ضَعُوا لِي
مَاءً فِي الْمِخْضَبِ) ، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ
ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ
ثلاث مرات، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ،
يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ، عَلَيْهِ السَّلام، لِصَلاةِ
الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ رسول الله إِلَى أَبِي
بَكْرٍ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ،
فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ صَلِّ
بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ
بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأيَّامَ، ثُمَّ
إِنَّ الرسول وَجَدَ فى نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ
رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ، لِصَلاةِ الظُّهْرِ،
وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو
بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الرسول
بِأَنْ لا يَتَأَخَّرَ، قَالَ: أَجْلِسَانِي إِلَى
جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ،
فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي، وَهُوَ يَأْتَمُّ
بِصَلاةِ رسول الله، وَالنَّاسُ يِصَلون بصلاةِ أَبِي
بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ قَاعِدٌ. / 73 - وفيه: عَائِشَةَ
قَالَتْ: صَلَّى النبى، عليه السلام، وَهُوَ شَاكٍ فِي
بَيْتِهِ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ
قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أَنِ اجْلِسُوا،
(2/309)
فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (إِنَّمَا
جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ
فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى
جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) . / 74 - وفيه: أَنَسِ قال:
رَكِبَ رَسُولَ اللَّهِ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ،
فَجُحِشَ شِقُّهُ الأيْمَنُ، فَصَلَّى صَلاةً مِنَ
الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ قَاعِدٌ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ
قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ
الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا،
فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا
رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا
صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ) . قَالَ
الْحُمَيْدِيُّ: قَوْلُهُ: (وإِذَا صَلَّى جَالِسًا،
فَصَلُّوا جُلُوسًا) ، هُوَ فِي مَرَضِهِ الْقَدِيمِ،
ثُمَّ صَلَّى عليه السلام بَعْدَ ذَلِكَ جَالِسًا،
وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا، ولَمْ يَأْمُرْهُمْ
بِالْقُعُودِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالآخِرِ فَالآخِرِ،
مِنْ فِعْلِه عليه السلام. قال المؤلف: (إنما جعل الإمام
ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا) ، فإن
العلماء اختلفوا هل يكون عمل المأموم والإمام معًا أو
بعده، فقال ابن حبيب: قال مالك: ويفعل المأموم مع الإمام
إلا فى الإحرام والقيام من اثنتين والسلام، فلا يفعله إلا
بعده، وقال أبو حنيفة، وزفر، ومحمد، والثورى: يكبر فى
الإحرام مع الإمام. وروى سحنون، عن ابن القاسم فى العتبية:
إن أحرم معه أجزأه، وبعده أصوب، وهو قول عبد العزيز بن أبى
سلمة. وفى المجموعة عن مالك: إن أحرم معه أو سلم يعيد
الصلاة، وقاله أصبغ، وحققه ابن عبد الحكم، وقال أبو يوسف،
والشافعى: لا يكبر المأموم حتى يفرغ الإمام من التكبير،
وقال ابن أبى زيد فى
(2/310)
كتاب آخر: والعمل بعده فى كل شىء أحسن؛
لقوله عليه السلام: (إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا) ،
وقاله أحمد بن حنبل وهو معنى قول الشافعى. وحجة هذا القول،
قوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع
فاركعوا) ، فجعل فعلهم عقيب فعله، فالفاء للتعقيب، وإذا لم
يتقدمه الإمام بالتكبير، والسلام، فلا يصح الائتمام به؛
لأنه محال أن يدخل المأموم فى صلاة لم يدخل فيها إمامه،
ولا يدخل فيها الإمام إلا بالتكبير، والإمام اشتق من
التقدم، والمأموم من الاتباع، فوجب أن يتبع فعل المأموم
بعد إمامه. ووجه قول ابن أبى سلمة، وابن القاسم، وابن عبد
الحكم أنه يجزئه إحرامه معه؛ لأن الائتمام معناه الامتثال
لفعل الإمام، فهو إذا فعل مثل فعله، فسواء أوقعه معه أو
بعده، فقد حصل ممتثلاً لفعله. واختلفوا فيمن ركع أو سجد
قبل إمامه، فروى عن ابن عمر أنه قال: لا صلاة له، وهو قول
أهل الظاهر. وروى عن عمر بن الخطاب أنه من رفع رأسه قبل
الإمام فى ركوع أو سجود، فليضع رأسه بعد رفعه إياه، كقول
ابن مسعود، قال الحسن والنخعى: إذا رفع من السجود قبله
يعود فى سجدته قبل أن يرفع الإمام رأسه، وهو قول مالك،
وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى، وأبو ثور: إذا ركع أو سجد
قبله فأدركه الإمام وهو راكع أو ساجد فقد أساء، ويجزئه،
وقد شذَّ الشافعى فقال: إن كبر للإحرام قبل إمامه، فصلاته
تامة.
(2/311)
وقال مالك والكوفيون: إن كبر قبل إمامه كبر
بعده، وأجزأه وإن لم يستأنف التكبير بطلت صلاته. والحجة
على قول الشافعى قوله فى حديث أنس، وأبى هريرة: (إنما جعل
الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا) ، ذكر ذلك البخارى فى
باب (إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة) ، بعد هذا، وقد تقدم
قبل هذا أن الفاء للتعقيب، ومن مذهب الشافعى الاقتداء
بالإمام فى الفعل والمقام، وأن المأموم لو صلى قدام إمامه
لم تصح صلاته، فيلزمهم فى تكبيرة الإحرام مثله. فإن قالوا:
لو وقع منه سبق فى ركوعه لركوع الإمام لم تبطل صلاته،
فكذلك فى تكبيرة الإحرام. قيل: الفرق بينهما صحيح، وذلك
أنه لا يجوز أن يتحلل بالسلام من الصلاة قبل إمامه، فكذلك
لا يجوز أن يدخل فيها قبله، وإذا أحرم بعده فلا يضره أن
يقع سبق فى بعضها؛ لأن عقدها قد صح معه. وأما قول الحسن
فيمن ركع ولا يقدر على السجود، فإن العلماء اختلفوا فى
ذلك، فقال الكوفيون: يستحب له أن يتأخر حتى يرفع الرجل
رأسه فيسجد بالأرض، فإن لم يفعل وسجد على ظهر رجل فقد
أساء، وتجزئه وهو قول الثورى، والشافعى. وقال مالك: لا
تجزئه ويعيد. واحتج الكوفيون بما روى عن عمر قال: (من
أذاهُ الحَرُّ، فليسجد على ثوبه أو على ظهر أخيه) ، ولا
مخالف له فى الصحابة، ذكره الطحاوى.
(2/312)
وأما قوله عليه السلام: (وإذا قال: سمع
الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) ، ففيه حجة لقول
مالك، والليث، وأبى حنيفة أن المأموم يقتصر على أن يقول:
ربنا ولك الحمد، دون أن يقول: سمع الله لمن حمده، سيأتى
قول من خالف هذا فى بابه إن شاء الله، وكذلك اختلفوا فيمن
صلى أمام إمامه، فقال الكوفيون، والثورى، والشافعى فى
رواية البويطى: لا تجزئه. وقال مالك، والليث: تجزئه، ذكره
الطحاوى، وقال ابن المنذر: إن قول إسحاق، وأبى ثور، كقول
مالك، والليث، واحتج ابن القصار لمالك بأن دار آل عمر بن
الخطاب كانت أمام المسجد، وكانوا يصلون بصلاة الإمام فى
المسجد، ولا مخالف فيه، وحجة من خالف ذلك قوله (صلى الله
عليه وسلم) : (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، فإذا كان قدامه
فقد خرج عن الموضوع. قيل له: إنما قيل الإمام؛ لأن أفعاله
متقدمة لأفعالهم، ولم يرد بذلك الموضع؛ ألا ترى أن المأموم
قد يقف عن يمين الإمام، فليس الإمام أمامه، ولو وقف الإمام
عن ذراعين من الكعبة، ووقف المؤتمون به عن ذراع منها،
لأجزأتهم صلاتهم، فثبت أن المراد اتباع أفعاله فى الصلاة،
حتى توقع أفعاله بعد أفعاله، والله الموفق. وأما قوله عليه
السلام: (وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون) ، فاختلف
العلماء فى إمامة الجالس، فقالت طائفة: يجوز أن يؤم الجالس
الجلوس إذا كان الإمام مريضًا، وإن كان من خلفه قادرين على
القيام، روى هذا عن عطاء، وهو قول الأوزاعى، وأحمد،
وإسحاق. وقالت طائفة: يجوز أن يصلى القيام خلف الإمام
القاعد، ولا يسقط عنهم فرض القيام، لسقوطه عن إمامهم، هذا
قول أبى حنيفة،
(2/313)
وأبى يوسف، والأوزاعى، وزفر، والشافعى،
وأبى ثور، روى مثله الوليد بن مسلم، عن مالك، فقال: أوجب
إلى أن يقوم إلى جنبه من يُعلم الناس بصلاته، كما فعل أبو
بكر. وقالت طائفة: لا يجوز أن يؤم أحد قاعدًا، هذا قول
مالك، والثورى، ومحمد بن الحسن، قال محمد: وصلاته عليه
السلام، قاعدًا فى مرضه خاص له، لا يجوز لأحد بعده، واحتج
ابن القاسم: بأن مالك حدثه عن ربيعة بأن أبا بكر كان
الإمام بالنبى، ولا يجوز لأحد أن يؤم قاعدًا فى فريضة ولا
نافلة، وإن عرض له ما يمنعه استخلف. وحجة أهل المقالة
الأولى: قوله عليه السلام: (وإذا صلى جالسًا، فصلوا
جلوسًا) . وقال أحمد بن حنبل: وهذه سنة ثابتة ينبغى أن
يصلى القعود، وإن كانوا لا علة بهم، وراء المريض الجالس،
وقد فعل ذلك أربعة من أصحاب النبى: جابر بن عبد الله، وأبو
هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن قَهْد، فدل ذلك من فعلهم
أنه ليس بخاص بالنبى، عليه السلام، ولا منسوخ بفعله؛ إذ لو
كان هذا، لعابه سائر الصحابة على هؤلاء الأربعة الذين
فعلوه، وقد روى عبد الرزاق، عن أنس بن مالك أنه فعل مثله.
وأيضًا فإن صلاته عليه السلام، فى مرضه لا تشبه الصلاة
التى أمر فيها بالقعود، حين جُحِشَ شقه؛ لأنها صلاة ابتدأ
الإمام فيها
(2/314)
قاعدًا، فعليهم القعود، لسنته عليه السلام،
وصلاته فى مرضه هى صلاة أبى بكر ابتدأ فيها القيام، فقاموا
خلفه ثم جاء النبى، عليه السلام، بعد ذلك فقعد إلى جنبه،
وهو مريض فالصلاة على ما ابتدئت، فلا تشبه هذه هذه، ولا
تنسخ هذه هذه، والأولى سُنة على معناها، والثانية سُنة على
معناها. وحجة أهل المقالة الثانية: صلاته عليه السلام، فى
مرضه الأخير بالناس قاعدًا وهم قيام، قالوا: وهو ناسخ
لصلاته بالناس جالسًا وهم جلوس. قال ابن شهاب: كانوا
يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله كما قال الحميدى.
قال الطحاوى: واحتج أهل المقالة الثالثة وقالوا: لا حجة
لكم فى هذا الحديث؛ لأن رسول الله كان فى تلك الصلاة
مأمومًا، وقد روى شعبة، عن نعيم بن أبى هند، عن أبى وائل،
عن مسروق، عن عائشة، قالت: صلى النبى فى مرضه الذى مات فيه
خلف أبى بكر قاعدًا. وروى ابن أبى مريم، عن يحيى بن أيوب،
حدثنا حميد، عن ثابت البنانى، عن أنس ابن مالك: (أن رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) صلى خلف أبى بكر قاعدًا فى ثوب
واحد مخالف بين طرفيه، فكانت آخر صلاة صلاها) . واحتج
عليهم أهل المقالة الثانية بأنه إن كان روى هذا، فإن أفعال
النبى فى صلاته تلك تدل على أنه كان إمامًا، وذلك أن عائشة
قالت فى حديث الأسود عنها: (فقعد رسول الله عن يسار أبى
بكر) ،
(2/315)
وذلك قعود الإمام لا قعود المأموم؛ لأنه لو
كان أبو بكر إمامًا له، لكان عليه السلام يقعد عن يمينه،
فلما قعد عن يساره دل ذلك على ما قلناه، ذكره البخارى فى
باب الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم بعد هذا.
قال الطحاوى: وحجة أخرى وهى أن ابن عباس روى أن نبى الله
كان إمامًا، وقال فى حديثه، فأخذ رسول الله فى القراءة من
حيث انتهى أبو بكر، ولولا أنه كان عليه السلام الإمام ما
قرأ؛ لأن تلك الصلاة كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة، ولولا
ذلك ما علم رسول الله بالموضع الذى انتهى إليه أبو بكر،
ولا خلاف بين الناس أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام، كما
يقرأ الإمام، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. وأما
وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الأصل المجتمع عليه أن
دخول المأموم فى صلاة الإمام قد يوجب فرضًا على المأموم لم
يكن عليه قبل دخوله، ولم نره يسقط فرضًا عليه قبل دخوله،
فمن ذلك أنا رأينا المسافر يدخل فى صلاة المقيم، فيجب عليه
أن يصلى أربعًا ولم يكن ذلك واجبًا عليه قبل دخوله معه،
وإنما أوجبه عليه دخوله معه، ورأينا مقيمًا لو دخل خلف
مسافر فصلى بصلاته حتى فرغ أتى بتمام صلاة المقيم، فالنظر
على ذلك أن يكون الصحيح الذى عليه فرض القيام إذا دخل مع
المريض الذى سقط عنه فرض القيام ألا يسقط عنه فرض كان عليه
قبل دخوله فى الصلاة. قال غيره: وما روى عن عائشة أن أبا
بكر كان الإمام، فالروايات الثابتة عنها من رواية الأسود،
وعروة، وعبيد الله بن عبد الله، كلهم
(2/316)
عن عائشة أن الرسول كان الإمام أكثر وأصح،
وهو الذى صححه البخارى، ولو جعلنا ما روى عن عائشة
متعارضًا، لكانت رواية ابن عباس حجة كافية فى ذلك، فلم
يختلف عنه أن النبى، عليه السلام، كان الإمام. وأما حديث
ربيعة فلا يحتج بمثله لانقطاعه، وقد يحتمل أن يكون أبو بكر
المتقدم فى صلاة من صلوات مرضه؛ لأن مرضه كان أيامًا، وخرج
فيها مرارًا، ولا خلاف فى جواز صلاة المريض الجالس خلف
القائم. وقوله: (فذهب لينوء) ، أى: تمايل ليتحامل على
القيام، قال صاحب العين: ينوء بالدابة، أى: يميل بها، وكل
ناهض بثقل كذلك، وفى القرآن: (إن مفاتحه لتنوء بالعصبة
أولى القوة) [القصص: 76] ، وناء النجم ينوء: مال إلى
السقوط.
48 - باب مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإمَامِ
قَالَ أَنَسٌ: فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا. / 75 - فيه:
الْبَرَاءُ قَالَ: (كَانَ النبى، عليه السلام، إِذَا
قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ يَحْنِ
أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ
سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ) . وهذا الحديث
حجة لمن قال من العلماء أن فعل المأموم يقع بعد فعل الإمام
فى أفعال الصلاة كلها، وقد تقدم اختلافهم فى ذلك فى الباب
قبل هذا.
(2/317)
وقال يحيى بن معين: وقول أبى إسحاق: حدثنا
عبد الله بن يزيد، حدثنا البراء، وهو غير كذوب، يريد أن
عبد الله بن يزيد كان غير كذوب، ولا يقال للبراء: أنه غير
كذوب، قال يحيى بن معين: وعبد الله بن يزيد هذا هو الخطمى،
وهو جد الأنصارى الذى كان على الغارمين، وكان عبد الله بن
يزيد واليًا لابن الزبير على الكوفة.
49 - باب إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ
/ 76 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ النَّبِيِّ:
(أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ، إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ
الإمَامِ، أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ،
أَوْ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ) . معنى هذا الحديث الوعيد
لمن خالف إمامه فى أفعال الصلاة، ومن خالف الإمام، فقد
خالف سنة المأموم، وأجزأته صلاته عند جمهور العلماء؛ لأن
النبى، عليه السلام، لم يقل إن من فعل ذلك فصلاته فاسدة.
وفى المجموعة لابن القاسم، عن مالك: أن من رفع قبل إمامه
يظن أنه رفع، فليرجع ساجدًا أو راكعًا، ولا يقف ينتظره،
فإن عجل الإمام فليتمادى ويجزئه، وهو قول أكثر العلماء،
وقد تقدم فى (باب إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، من خالف هذا
وزيادة فيه.
(2/318)
50 - باب إِمَامَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى
وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف، وولد البغى،
والأعرابى والغلام الذى لم يحتلم، لقول النبى، عليه
السلام: (يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله) ، ولا يمنع العبد من
الجماعة لغير علة. / 77 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأوَّلُونَ الْعُصْبَةَ، مَوْضِعٌ
بِقُبَاءٍ، قَبْلَ مَقْدَمِ الرَسُولِ، كَانَ يَؤُمُّهُمْ
سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ
قُرْآنًا. / 78 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ عليه السلام:
(اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ،
كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) . قال المؤلف: أما العبد
والمولى وولد البغى والأعرابى والصبى الذى لم يحتلم
فإمامتهم جائزة؛ لأنهم كلهم دخلوا فى قوله: (يؤم القوم
أقرؤهم لكتاب الله) ، وهذا الحديث وإن كان أشار إليه
البخارى، واعتمد عليه، فلم يخرجه فى مصنفه هذا، وقد ذكرته
فى باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة وهو حديث حسن أخرجه
المصنفون، وهو أصل فى معناه. وممن أجاز إمامة العبد غير
عائشة: أبو ذر، وحذيفة، وابن مسعود، ومن التابعين: الحسن،
وابن سيرين، والنخعى، والشعبى، والحكم، ومن الفقهاء:
الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكره إمامته
أبو مجلز، وقال مالك: لا يؤم العبد الأحرار إلا أن يقرأ
وهم لا يقرءون، ولا يؤمهم فى عيد ولا جمعة، والحجة له أن
إمامة سالم للمهاجرين إنما كانت لأنه كان فى أول الإسلام،
وكان
(2/319)
أكثرهم قرآنًا، ولم تجز إمامته فى الجمعة؛
لأنها لما سقطت عنه شبهه بمن لا تجب عليه أصلاً، ومن أجاز
إمامته فيها قال: إذا حضر الجمعة صار من أهلها وأجزأت عنه
الركعتان إذا كان مأمومًا، فكذلك إذا كان إمامًا. وأما
قوله عليه السلام: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم حبشى
كأن رأسه زبيبة) ، فقد رواه أنس عن النبى وقال فيه: عبد
حبشى، ذكره البخارى فى كتاب الأحكام. ففيه حجة لمن أجاز
إمامة العبد راتبًا وفى الجمعة وغيرها؛ لأنه عليه السلام
إذا أمر بطاعة العبد الحبشى، فقد أمر بالصلاة خلفه، وقد
قال النخعى: رب عبد خير من مولاه. وممن أجاز إمامة ولد
الزنا إذا كان مرضيًا: النخعى، والشعبى، وعطاء، والحسن،
وقالت عائشة: ليس عليه من وزر أبويه شىء) ولا تزر وازرة
وزر أخرى) [الأنعام: 64] ، وهو قول الثورى، وأبو حنيفة،
والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وكره إمامته: عمر بن عبد
العزيز، ومجاهد، وقال مالك: أكره أن يكون إمامًا راتبًا،
وإنما ذلك لما يناله من الألسنة وتأثم الناس. وأما
الأعرابى، فإن كان عالمًا فهو والحضرى سواء، ولكن الكلام
خرج فيمن كره إمامته على الأغلب من جهلهم بحدود الصلاة،
وممن كره إمامته: أبو مجلز، ومالك بن أنس، وقال: لا يؤم
الأعرابى
(2/320)
وإن كان أقرأهم، لما ذكرنا من جهلهم بسنة
الصلاة، وأجاز إمامته: الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى،
وإسحاق. وأما إمامة الصبى الذى لم يحتلم فأجازها: الحسن
البصرى، وهو قول الشافعى، وإسحاق، وأبى ثور، وكرهها: عطاء،
والشعبى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة. وأجاز
الإمامة من المصحف: ابن سيرين، والحكم بن عتيبة، وعطاء،
والحسن، وكان أنس يصلى وغلامه خلفه يمسك له المصحف، فإذا
تعايا فى آية فتح عليه، وأجازه مالك فى قيام رمضان، وكرهه
النخعى، وسعيد بن المسيب، والشعبى، ورواية عن الحسن، وقال:
هكذا يفعل النصارى.
51 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الإمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ
خَلْفَهُ
/ 79 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ نبى اللَّهِ قَالَ:
(يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ
أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ) . قال المهلب: فيه جواز
الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه. وفيه: أن الإمام إذا
نقص ركوعه وسجوده أنه لا تفسد صلاة من خلفه، إلا أن ينقص
فرض الصلاة، فلا يجوز اتباعه، فإن خيف منه صلى معه بعد أن
يصلى فى بيته وتكون الصلاة نافلة، وقال غيره: قوله: (فإن
أصابوا فلكم) ، أى: أصابوا الوقت، وكذلك قوله: (وإن
أخطئوا) ، يعنى: الوقت، وكذلك كان بنو أمية يؤخرون
(2/321)
الصلاة تأخيرًا شديدًا، ويد على صحة هذا ما
رواه أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال:
قال رسول الله: (لعلكم تدركون أقوامًا يصلون الصلاة لغير
وقتها، فإذا أدركتموهم فصلوا فى بيوتكم فى الوقت الذى
تعرفون، ثم صلوا معهم، واجعلوها سبحة) ، ورواه ثوبان، وأبو
ذر، عن نبى الله. فهذا الحديث يفسر حديث أبى هريرة، ويدل
أن قوله عليه السلام: (فإن أخطئوا فلكم) ، يعنى: صلاتكم فى
بيوتكم فى الوقت، وكذلك كان جماعة من السلف يفعلون، روى عن
ابن عمر أن الحجاج لما أخر الصلاة بعرفة، صلى ابن عمر فى
رحله، وثم الناس، ووقف، قال: فأمر به الحجاج فحبس، وكان
الحجاج يؤخر الصلاة يوم الجمعة، وكان أبو وائل يأمرنا أن
نصلى فى بيوتنا، ثم نأتى المسجد، وكان إبراهيم يصلى فى
بيته، ثم يأتى الحجاج فيصلى معه، وفعله مسروق مع زياد.
وكان عطاء وسعيد بن جبير فى زمن الوليد إذا أخر الصلاة
أومأ فى مجالسهما، ثم صليا معه، وفعله مكحول مع الوليد
أيضًا، وهو مذهب مالك فى أئمة الجور إذا أخروا الصلاة عن
وقتها، وقد روى عن بعض السلف أنهم كانوا لا يعيدون الصلاة
معهم. وروى ابن أبى شيبة، عن وكيع قال: حدثنا بسام قال:
سألت أبا جعفر محمد بن على عن الصلاة خلف الأمراء، فقال:
صل معهم، قد كان الحسن والحسين يعتدان الصلاة خلف مروان،
قلت: إن الناس كانوا يزعمون أن ذلك تقية، قال: وكيف إن كان
الحسن بن على
(2/322)
ليسبُّ مروان فى وجهه وهو على المنبر حتى
يولى، وقيل لجعفر بن محمد: كان أبوك يصلى إذا رجع إلى
البيت؟ فقال: لا والله، ما كان يزيد على صلاة الأئمة، وقال
إبراهيم: كان عبد الله يصلى معهم إذا أخروا عن الوقت
قليلاً، ويرى أن مأثم ذلك عليهم.
52 - باب إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ. / 80 -
فيه: عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارٍ:
أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، وَهُوَ مَحْصُورٌ،
فَقَالَ: إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا
نَرَى، وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ، وَنَتَحَرَّجُ،
فَقَالَ: الصَّلاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ للنَّاسُ،
فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِن
أَسَاءُوا، فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ. وقَالَ
الزُّهْرِيُّ: لا نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ
إِلا مِنْ ضَرُورَةٍ لابُدَّ مِنْهَا. / 81 - وفيه: أَنَسَ
قَالَ: قال النَّبِيُّ عليه السلام، لأبِي ذَرٍّ: (اسْمَعْ
وَأَطِعْ، وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ
زَبِيبَةٌ) . اختلف العلماء فى تأويل قوله: (ويصلى لنا
إمام فتنة) ، فقال ابن وضاح: إمام الفتنى عبد الرحمن بن
عديس البلوى، هو الذى أجلب على عثمان بأهل مصر، وروى ابن
وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافرى أنه سمع أبا
ثور الفهمى أنه رأى ابن عديس صلى لأهل المدينة الجمعة وطلع
منبر الرسول فخطب.
(2/323)
والقول الثانى: قال أبو جعفر الداودى: معنى
قوله: (يصلى لنا إمام فتنة) ، أن غير إمامهم يصلى لهم فى
حين فتنة، ليس أن ذلك الإمام يدعو إلى فتنة ويسعى فيها
ويدل على ذلك قول عثمان: (الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا
أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) ، ولم
يذكر الذى أمهم بمكروه، وذكر أن فعله من أحسن الأعمال،
وحذره من الدخول فى الفتنة. وقال غيره: والدليل على صحة
هذا التأويل أنه قد صلى بالناس فى حصار عثمان جماعة من
الفضلاء منهم: أبو أيوب، وسهل بن حنيف، وابنه أبو أمامة،
ذكره عمر بن شبة بإسناد عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: صلى
بالناس يوم الجمعة سهل بن حنيف. قال عمر بن شبة: حدثنا
موسى بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن الماجشون، قال: أخبرنا
عقبة بن مسلم المزنى أن آخر خرجة عثمان يوم الجمعة، وعليه
حلة حمراء مصفرًا رأسه ولحيته بورس، فما خلص إلى المنبر
حتى ظن أن لن يخلص، فلما استوى عليه حصبه الناس، فقام رجل
من بنى غفار، فقال: والله لنغربنك إلى جبل الدخان، فلما
نزل حيل بينه وبين الصلاة، وصلى بالناس أبو أمامة بن سهل
بن حنيف. فقال عمر بن شبة: وحدثنا محمد بن جعفر، حدثنا
معمر، عن الزهرى، عن عروة، عن عبيد الله بن عدى بن خيار،
قال: دخلت على عثمان وهو محصور، وعلىّ يصلى بالناس فقلت:
يا أمير المؤمنين، إنى أتحرج الصلاة مع هؤلاء وأنت الإمام،
فقال: إن الصلاة أحسن ما عمل به. . . . الحديث. وقال
جويرية: عن نافع، لما كان يوم النحر جاء علىّ، فصلى
(2/324)
بالناس وعثمان محصور، وقال الزهرى: صلى سهل
بن حنيف، وعثمان محصور، وصلى يوم العيد على بن أبى طالب،
وقال الحلوانى: حدثنا المسيب بن واضح، قال: سمعت ابن
المبارك يقول: ما صلى علىّ بالناس حين حوصر عثمان إلا صلاة
العيد وحدها. قال يحيى بن آدم: ولعلهم قد صلى بهم رجل بعد
رجل، قال الداودى: لم يكن فى القائمين على عثمان أحد من
الصحابة إنما كانت فرقتان: فرقة مصرية، وفرقة كوفية، فلم
يعتبوا عليه شيئًا إلا خرج منه بريئًا، فطالبوه بعزل من
استعمل من بنى أمية فلم يستطع ذلك وهو على تلك الحالة، ولم
يخل بينهم وبينهم لئلا يتجاوزوا فيهم القصد، وصبر واحتسب.
وروى عنه أنه رأى النبى، عليه السلام، تلك الليلة فى
المنام، فقال له: (قد قمصك الله قميصًا، فإن أرادوك على
خلعه فلا تخلعه) ، يعنى الخلافة، وكان قد أخبر عليه السلام
أنه يموت شهيدًا على بلوى تصيبه، فلذلك لم ينخلع من
الخلافة، وأخذ بالشدة على نفسه طلبًا لعظيم الأجر، ولينال
الشهادة التى بشره الرسول بها. قال الداودى: فلما طال
الأمر صلى أبو أيوب الأنصارى بالناس مُدَّة؛ لأن الأنصار
لم يكن منهم أحد يدعى الخلافة، ثم كفَّ أبو أيوب وصلى أبو
أمامة بن سهل بن حنيف، وصلى بهم صلاة العيد على بن أبى
طالب؛ لأنه لا يقيم الجمع والأعياد إلا الأئمة ومن يستحق
الإمامة، وفعل ذلك علىّ لئلا تضاع سنة ببلد الرسول.
(2/325)
ففى هذا من الفقه: المحافظة على إقامة
الصلوات، والحض على شهود الجمعات فى زمن الفتنة؛ خشية
انخراق الأمر وافتراق الكلمة وتأكيد الشتات والبغضة، وهذا
خلاف قول بعض الكوفيين أن الجمعة بغير والٍ لا تجزئ. وقال
محمد بن الحسن: لو أن أهل مصر مات واليهم جاز لهم أن
يقدموا رجلاً منهم فيصلى بهم حتى يقدم عليهم والٍ. وقال
مالك، والأوزاعى، والشافعى: تجوز الجمعة بغير سلطان كسائر
الصلوات، قال مالك: إن لله فرائض لا ينقصها أن وليها والٍ
أو لم يلها، منها الجمعة. قال الطحاوى: فى صلاة علىّ العيد
بالناس وعثمان محصور: هذا أصل فى كل سبب يُخلف الإمام عن
الحضور أن على المسلمين إقامة رجل يقوم به، وهذا كما فعل
المسلمون يوم مؤتة، لما قتل الأمراء اجتمعوا على خالد بن
الوليد، وأيضًا فإن المتغلب والخارج على الإمام تجوز
الجمعة خلفه، فمن كان فى طاعة الإمام أحرى بجوازها خلفه.
قال المهلب: فيه أن الصلاة وراء من تكره الصلاة خلفه أولى
من تفرق الجماعة؛ لقول عثمان: فإذا أحسنوا فأحسن معهم،
فغلب الإحسان فى جماعتهم على الإحسان فى التورع عن الصلاة
فى زمن الفتنة منفردًا، وأما الإساءة التى أمرنا
باجتنابها، فهى المعاصى التى لا يلزم أحدًا فيها طاعة
مخلوق، فإذا غلب عليها كان له أن يأخذ بالرخصة أو يأخذ
بالشدة، فلا يجيب إليها، وإن كان فى ذلك إتلافه. واختلف
العلماء فى الصلاة خلف الخوارج وأهل البدع، فأجازت طائفة
الصلاة خلفهم، روى عن ابن عمر أنه صلى خلف
(2/326)
الحجاج وصلى خلفه ابن أبى ليلى، وسعيد ابن
جبير، وخرج عليه، وقال الحسن: لا يضر المؤمن صلاته خلف
المنافق، ولا تنفع المنافق صلاة المؤمن خلفه. وقال النخعى:
كانوا يصلون وراء الأمراء ما كانوا وكان أبو وائل يجمع مع
المختار. وقال جعفر بن برقان: سألت ميمون بن مهران عن
الصلاة خلف رجل يذكر أنه من الخوارج فقال: أنت لا تصلى له
إنما تصلى لله، قد كنا نصلى خلف الحجاج، وكان حروريًا
أزرقيًا، وأجاز الشافعى الصلاة خلف من أقام الصلاة، وإن
كان غير محمود فى دينه. وكرهت طائفة الصلاة خلفهم، وروى
أشهب عن مالك قال: لا أحب الصلاة خلف الإباضية، والواصلية،
ولا السكنى معهم فى بلد. وقال عنه ابن نافع: وإن كان
المسجد إمامه قدريًا، فلا بأس أن يتقدمه إلى غيره. قال ابن
القاسم: رأيت مالكًا إذا قيل له فى إعادة الصلاة خلف أهل
البدع توقف ولا يجيب. قال ابن القاسم: وأرى عليه الإعادة
فى الوقت. وقال أصبغ: يعيد أبدًا، قال ابن وضاح: قلت
لسحنون: ابن القاسم يرى الإعادة فى الوقت، وأصبغ يقول:
يعيد أبدًا، فما تقول أنت؟ قال: لقد جاء الذى رأى عليه
الإعادة أبدًا ببدعة أشد من صاحب البدعة، قال سحنون: وإنما
لم تجب عليه الإعادة؛ لأن صلاته لنفسه جائزة، وليس بمنزلة
النصرانى؛ لأن صلاة النصرانى لنفسه لا تجوز. وقال الثورى
فى القدرى: لا تقدموه، وقال أحمد: لا تصل خلف أحد من أهل
الأهواء إذا كان داعيًا إلى هواه، ومن صلى خلف الجهمى
والرافضى يعيد، وكذلك القدرى إذا ردَّ الأحاديث، قال غيره:
وقوله عليه السلام: (اسمع وأطع) يدل على أن طاعة المتغلب
(2/327)
واجبة؛ لأنه لما قال: (حبشى) ، وقد قال:
(الخلافة فى قريش) ، دل أن الحبشى إنما يكون متغلبًا،
والفقهاء مجمعون على أن طاعة المتغلب واجبة ما أقام على
الجمعات والأعياد والجهاد وأنصف المظلوم فى الأغلب، فإن
طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من تسكين الدهماء
وحقن الدماء، فضرب عليه السلام، المثل بالحبشى إذ هو غاية
فى الذم، وإذْ أمر بطاعته لم يمنع من الصلاة خلفه، فكذلك
المذموم ببدعة أو فسق. قال المهلب: قوله: اسمع وأطع لحبشى،
يريد فى المعروف لا فى المعاصى، فتسمع له وتطيع فى الحق،
وتعفو عما يرتكب فى نفسه من المعاصى ما لم يأمر بنقض
شريعة، ولا بهتك حرمة لله تعالى، فإذا فعل ذلك فعلى الناس
الإنكار عليه بقدر الاستطاعة، فإن لم يستطيعوا لزموا
بيوتهم أو خرجوا من البلدة إلى موضع الحق إن كان موجودًا.
وأما قول الزهرى: لا نصلى خلف المخنث إلا من ضرورة، فوجه
ذلك أن الإمامة عند جميع العلماء موضع للكمال واختيار أهل
الفضل، والمخنث مشبه بالنساء، فهو ناقص عن رتبة من يستحق
الإمامة. وإنما ذكر البخارى هذه المسألة فى هذا الباب،
والله أعلم؛ لأن المخنث مفتتن فى تشبهه بالنساء، كما أن
إمام الفتنة والمبتدع كل واحد منهم مفتون فى طريقته فلما
شملهم معنى الفتنة شملهم الحكم، فكرهنا إمامتهم إلا من
ضرورة.
(2/328)
53 - باب مَنْ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ
الإمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ
/ 82 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (بِتُّ عند خَالَتِي
مَيْمُونَةَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ
جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ
قَامَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي
عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ،
أَوْ قَالَ: خَطِيطَهُ، ثُمَّ قام إِلَى الصَّلاةِ) .
وترجم له: باب (إذا قام عن يسار الإمام فحوله إلى يمينه لم
تفسد صلاته) . اختلف العلماء فى الإمام إذا أم واحدًا، أين
يقيمه؟ فقالت طائفة: يقيمه عن يمينه، روى ذلك عن عمر بن
الخطاب، وابن عمر، وعروة بن الزبير، وهو قول مالك،
والثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى، وإسحاق، على ما
جاء فى هذا الحديث. وفيها: قول ثان روى عن سعيد بن المسيب
أنه قال: يقيمه عن يساره وهذا خلاف الحديث فلا معنى له.
وفيها قول ثالث، روى عن النخعى قال: إن كان خلفه رجل واحد
فليقم خلفه ما بينه وبين أن يركع، فإن جاء أحد وإلا قام عن
يمينه، ذكره ابن المنذر، وهذا يدل أنه لا تجوز صلاة
المنفرد خلف الصف وحده، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوعبًا فى
باب إذا ركع دون الصف بعد هذا، إن شاء الله، ونذكر هاهنا
منه طرفًا. قال ابن القصار: وقولهم ناقض؛ لأنه إذا صح عقده
للصلاة وحده خلف الصف، فينبغى أن يجوز له فيه عمل الصلاة؛
لأنه لا يخرجه منها إلا حدث ينقض وضوءه، وقد قام ابن عباس
عن يسار
(2/329)
النبى، فأداره عن يمينه، ولم يأمره بابتداء
الصلاة ولا بإعادتها، ولو لم يجزه لأمره بالإعادة. وفيه:
أن العمل اليسير فى الصلاة جائز. ويقال: غط النائم غطيطًا،
صوت فى نومه، والخطيط، بالخاء، لا يعرف.
54 - باب إِذَا لَمْ يَنْوِ الإمَامُ أَنْ يَؤُمَّ ثُمَّ
جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ
/ 83 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قَالَ: (بِتُّ عِنْدَ
خَالَتِي ميمونة، فَقَامَ النَّبِيُّ يُصَلِّي مِنَ
اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ، فَقُمْتُ عَنْ
يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي، فَأَقَامَنِي عَنْ
يَمِينِهِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال الثورى،
وإسحاق، ورواية عن أحمد: على المأموم الإعادة إذا لم ينو
الإمام أن يؤتم به فى صلاته. وقال أبو حنيفة: إذا نوى
الإمام جاز أن يصلى خلفه الرجال وإن لم ينوهم، ولا يجوز
للنساء أن يصلين خلفه إلا أن ينويهن. ولابن القاسم فى
العتبية نحو قول أبى حنيفة، فيمن أمَّ النساء، سئل ابن
القاسم عن إمام صلى برجال ونساء، فقام الرجل عن يمينه
والنساء خلفهما فأحدث الإمام، فقدم صاحبه هل يصلى بالنساء
اللاتى خلفه؟ قال: يصلى المستخلف بالنساء، وإن لم يستخلفه
الإمام إذا نوى أن يكون إمامهن، وقال مالك فى المدونة: ولا
بأس أن تأتم بمن لم ينو أن يؤمك فى الصلاة، وهو قول
الشافعى.
(2/330)
وذكر الطحاوى أن قول زفر كقول مالك
والشافعى: أنه يجوز للمرأة الائتمام بمن لم ينو إمامتها.
وقال ابن القصار: ولا إشكال فى أنه لا يحتاج إلى نية
الإمامة، والمراعاة فى هذا نية المأموم أن يكون مأمومًا؛
لأنه إذا كان مأمومًا سقطت عنه القراءة والسهو؛ لأن الذى
قد دخل فى الصلاة وحده قد دخل على أنه تلزمه القراءة
والسهو، وأن أحدًا لا يتحملها عنه، والمأموم يدخل مقتديًا
بغيره، فالقراءة والسهو عنه ساقطان، فهو يحتاج إلى نية
الائتمام، ولو جاز أن يحتاج الإمام إلى نية الإمامة لجاز
أن يقال: يحتاج إلى أن يُعين فى صلاته من يصلى خلفه من
الرجال والنساء حتى لو جاء أحد ممن لم ينوه لم يجز أن يصلى
خلفه. وحديث ابن عباس حجة لمالك ومن وافقه؛ لأن ابن عباس
جاء والنبى يصلى بالليل، فجعله على يمينه، فمن ادعى أن
النبى نوى أن يؤم ابن عباس فى تلك الصلاة فعليه الدليل،
وأما قول أبى حنيفة، فلو قلبه عليه قالب، فقال: إن نوى أن
يكون إمامًا جاز للنساء أن يصلين خلفه ولم يجز للرجال، لم
يكن له فرق ولم تكن الحجة لهم إلا كالحجة عليهم، وأيضًا
فإن النساء كن يصلين خلف النبى، عليه السلام، ولم ينقل عنه
أحد أنه عينهن بالنية، ولا حصل منه تعليم ذلك.
55 - باب إِذَا طَوَّلَ الإمَامُ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ
حَاجَةٌ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى
(1) / 84 - فيه: جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ: (أَنَّ
مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ثُمَّ
(2/331)
يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى
الْعِشَاءَ، فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، فَانْصَرَفَ
الرَّجُلُ، فَكَأَنَّ مُعَاذ يَنَالَ مِنْهُ، فَبَلَغَ
الرسول، فَقَالَ: (فَتَّانٌ، فَتَّانٌ، فَتَّانٌ) ، ثَلاثَ
مرَات، وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ
الْمُفَصَّلِ) . قَالَ عَمْرٌو: لا أَحْفَظُهُمَا. وترجم
له: (باب من شكا إمامه إذا طول) . لما أمر الرسول بالتخفيف
كان من طول بالناس عاصيًا، ومخالفة العاصى جائزة؛ لأنه لا
طاعة إلا فى المعروف. وقد احتج أصحاب الشافعى بأن النبى لم
ينكر على الرجل الذى خرج من صلاة معاذ ولا أمره بالإعادة،
قال ابن القصار: واختلفوا فيمن دخل مع إمام فى صلاة فصلى
بعضها هل يجوز له أن يخرج منها فيتم منفردًا؟ قال الشافعى:
يجوز له أن يخرج منها بعذر أو بغير عذر، وقال أبو حنيفة:
لا يجوز له. والأمر عندى محتمل لأن مالكًا قال فى الإمام:
إذا أحدث وقد مضى بعض صلاته أنه يستخلف من يتم بهم، فإن لم
يفعل قدموا من يتم بهم، فإن لم يفعلوا وصلوا وحدانًا، فإنه
يجزئهم إلا فى الجمعة؛ لأنها لا تكون إلا بجماعة، وهؤلاء،
فإن كان إمامهم بدأ بالخروج، فقد اختاروا ترك تمامها
بجماعة، ويجوز أن لا يجزئه إذا خرج نفسه من غير عذر. ويكون
الفرق بينهما أنه إذا كان الإمام باقيًا فى الصلاة، فإن
الصلاة متعلقة به، فما دام باقيًا فقد تعلقت صلاتهم بصلاته
فلم تجز مخالفته باختيار المأمومين الخروج منها لغير عذر؛
لأنه يؤدى إلى الشتات وإلى ترك ما ألزمه نفسه من الجماعة
التى هو مندوب إليها، وإذا دخل الإنسان فى طاعة وجب عليه
المضى فيها إلا أن يطرأ عليه عذر.
(2/332)
ويجوز أن يستدل بهذا الحديث من رأى الخروج
من إمامة الإمام إذا فعل فى صلاته ما لا يجوز له كالمصلى
خامسةً أو رابعةً فى المغرب أو ثالثة فى الصبح، فيسبح به
قيامًا. قال ابن المواز: إن قعدوا ينتظرونه حتى يتم الركعة
بطلت صلاتهم، وكذلك المسافر إن قام من اثنتين فسبحوا به
فتمادى سلموا وتركوه، وهذه رواية ابن وهب، وابن كنانة، عن
مالك؛ لأنهم إن انتظروه وهو جاهل أو عامد فسدت عليه
وعليهم، وإن كان ساهيًا لزمهم سجود السهو معه، وهذه خير من
رواية ابن القاسم عن مالك فى المدونة أنهم ينتظرونه
ويسلمون معه ويعيد هو فى الوقت، قال ابن المواز: إنما
أمرهم بذلك مالك فى هذه الرواية لاختلاف الناس فى صلاة
المسافر، وأما الحضرى فلو انتظروه لبطلت صلاتهم.
56 - باب تَخْفِيفِ الإمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
/ 85 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلا قَالَ:
وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لأتَأَخَّرُ عَنْ
صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ، مِمَّا يُطِيلُ
بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي مَوْعِظَةٍ
أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ
مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى
بِالنَّاسِ، فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ
وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ) . وترجم له: (باب إذا صلى
لنفسه، فليطول ما شاء) . وروى ذلك أبو هريرة عن الرسول.
فيه: دليل أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمر رسول الله
لهم بذلك، وقد بين فى هذا الحديث العلة الموجبة للتخفيف،
وهى غير مأمونة على أحد من أئمة الجماعة؛ فإنه وإن علم قوة
من خلفه، فإنه
(2/333)
لا يدرى ما يحدث بهم من الآفات، ولذلك قال:
وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء؛ لأنه يعلم من نفسه ما لا
يعلم من غيره، وقد ذكر الله الأعذار التى من أجلها أسقط
فرض قيام الليل عن عباده، فقال: (علم أن سيكون منكم مرضى
وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون
فى سبيل الله) [المزمل: 20] ، فينبغى للأئمة التخفيف مع
إكمال الركوع والسجود؛ ألا ترى أنه عليه السلام، قال للذى
لم يتم ركوعه ولا سجوده: (ارجع فصل، فإنك لم تصل) ، وقال:
(لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره فى الركوع والسجود) .
وممن كان يخفف الصلاة من السلف: أنس بن مالك، قال ثابت:
صليت معه العتمة، فتجوز ما شاء الله، وكان سعد إذا صلى فى
المسجد خفف الركوع والسجود وتجوز، وإذا صلى فى بيته أطال
الركوع والسجود والصلاة، فقلت له، فقال: إنا أئمة يقتدى
بنا، وصلى الزبير بن العوام صلاة خفيفة، فقيل له: أنتم
أصحاب رسول الله أخف الناس صلاة، فقال: إنا نبادر هذا
الوسواس، وقال عمار: احذفوا هذه الصلاة قبل وسوسة الشيطان،
وكان أبو هريرة يتم الركوع والسجود ويتجوز، فقيل له: هكذا
كانت صلاة رسول الله؟ فقال: نعم وأجوز، وقال عمرو بن
ميمون: لما طعن عمر تقدم عبد الرحمن ابن عوف، فقرأ بأقصر
سورتين فى القرآن: إنا أعطيناك الكوثر، وإذا جاء نصر الله،
وكان إبراهيم يخفف الصلاة،
(2/334)
ويتم الركوع والسجود، وقال أبو مجلز: كانوا
يتمون ويوجزون، ويبادرون الوسوسة، ذكر الآثار كلها ابن أبى
شيبة فى مصنفه.
57 - باب الإيجَازِ فِي الصَّلاةِ وَإِكْمَالِهَا
/ 86 - فيه: أَنَسِ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام،
يُوجِزُ الصَّلاةَ وَيُكْمِلُهَا) . وقد دخل الكلام فى
معنى هذا الباب فى الباب الذى قبله، فأغنى عن إعادته. وروى
الثورى، عن أبى إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودى قال: لو أن
رجلاً أخذ شاة عزوزًا لم يفرغ من لبنها حتى أصلى الصلوات
الخمس أتم ركوعها وسجودها. قال أبو عبد الله: وإنما أراد
التجوز فى الصلاة، قال أبو عبيد: والعزوز: الضيقة الإحليل،
يقال: عزت الشاة وتعززت: إذا صارت كذلك، وأما الواسعة
الإحليل، فإنها الثَّرُور.
58 - باب مَنْ أَخَفَّ الصَّلاةَ عِنْدَ بُكَاءِ
الصَّبِيِّ
/ 87 - فيه: أَبو قَتَادَةَ: أن نَّبِيِّ الله قَالَ:
(إِنِّي لأقُومُ فِي الصَّلاةِ، فأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ
فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي
صَلاتِي، كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ) .
(2/335)
/ 88 - وفيه: أَنَسَ قال: مَا صَلَّيْتُ
وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ، أَخَفَّ صَلاةً وَلا أَتَمَّ مِنَ
الرسول، وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ،
فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ. فيه: أنه
كان يتجوز السجود فى الصلاة لأمور الدنيا خشية إدخال
المشقة على النفوس. وقد يجوز أن يحتج بهذا الحديث من قال:
أنه جائز للإمام إذا سمع خفق النعال، وهو راكع أن يزيد فى
ركوعه شيئًا ليدركه الداخلون فيها؛ لأنه فى معنى تجوّز
النبى، عليه السلام، من أجل بكاء الصبى، وممن أجاز ذلك:
الشعبى، والحسن، وعبد الرحمن ابن أبى ليلى، وقال آخرون:
ينتظرهم ما لم يشق على أصحابه، هذا قول أحمد، وإسحاق، وأبى
ثور، وقال مالك: لا ينتظرهم؛ لأنه يضر بمن خلفه؛ لأنه لو
فعل ذلك، ولعله يسمع آخر بعد ذلك فينتظره فيضر بمن معه،
وهذا قول الأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقالوا: يركع
كما كان يركع. واستدل أهل المقالة الأولى أنه لما كان
تجوّزه فى صلاته لا يخرجه منها، دل أن الزيادة فيها شيئًا
لا تخرجه من الصلاة، ولما أجمعوا أنه جائز للإمام أن ينتظر
الجماعة ما لم يخف فوت الوقت جاز للراكع أيضًا ذلك ما لم
يخف فوت الوقت.
59 - باب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا
/ 89 - فيه: جَابِرِ قَالَ: (كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ
الرسول، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ) .
اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهبت طائفة [إلى] أنه
يجوز
(2/336)
أن يصلى الرجل نافلة، ويأتم به فيها من
يصلى الفريضة، هذا قول عطاء، وطاوس، وبه قال الأوزاعى،
والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، واحتجوا بظاهر هذا الحديث.
وقالت طائفة: لا يجوز لأحد أن يصلى فريضة خلف من يصلى
نافلة، ومن خالفت نيته نية الإمام فى شىء من الصلاة لم
يعتد بها، هذا قول الزهرى، وربيعة، ومالك، والثورى، وأبى
حنيفة، وأصحابه، واحتجوا بقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم
به، فلا تختلفوا عليه) ، ولا اختلاف أكثر من اختلاف النيات
التى عليها مدار الأعمال. قالوا: وأما حديث معاذ فيحتمل أن
يكون فى أول الإسلام وقت عدم القُراء، ووقت لا عوض للقوم
من معاذ، فكانت حال ضرورة لا تجعل أصلاً يقاس عليه، قاله
المهلب. وقال الطحاوى: يحتمل أن يكون ذلك وقت كانت الفريضة
تصلى مرتين، فإن ذلك قد كان يفعل فى أول الإسلام حتى
نهىعنه عليه السلام، حدثنا حسين بن نصر، حدثنا يزيد ابن
هارون، حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سليم مولى
ميمونة قالت: (أتيت المسجد فرأيت ابن عمر جالسًا والناس
يصلون، فقلت: ألا تصلى مع الناس؟ فقال: صليت فى رحلى، إن
رسول الله نهى أن تصلى فريضة فى يوم مرتين) ، والنهى لا
يكون إلا بعد الإباحة، فقد كان المسلمون فى بدء الإسلام
يصلون فى منازلهم، ثم يأتون المسجد، فيصلون تلك الصلاة على
أنها فريضة، فنهاهم عن
(2/337)
ذلك، وأمر بعد ذلك من جاء إلى المسجد وأدرك
تلك الصلاة أن يجعلها نافلة، وترك ابن عمر الصلاة يحتمل أن
يكون تلك الصلاة لا تطوع بعدها، فلم يجز أن يصليها؛ إذ لا
تطوع ذلك الوقت؛ لأنه قد روى عنه أنه سئل عمن صلى فى بيته،
ثم أدرك تلك الصلاة فى المسجد أيتهما صلاته؟ قال: الأولى.
حدثنا أبو بكر، حدثنا حبان، عن همام، عن قتادة، عن عامر
الأحول، عن عمرو بن شعيب، عن خالد بن أيمن المعافرى قال:
كان أهل العوالى يصلون مع الرسول، فنهاهم النبى أن يعيدوا
الصلاة فى يوم مرتين، قال عمرو: فذكرته لسعيد بن المسيب،
فقال: صدق. واحتج أهل المقالة الأولى فقالوا: ما اعتللتم
به من قوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، لا
حجة لكم فيه؛ لأنه إنما أمر بالائتمام فيما يظهر من أفعال
الإمام، وأما النية فمغيبة عنه، ومحال أن نؤمر باتباعه
فيما يخفى علينا من أفعاله، وفى الحديث نفسه دليل يدل على
ما قلناه، وذلك قوله: فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا.
وروى قتيبة عن الليث، عن ابن شهاب فى هذا الحديث: (فإذا
كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا) ، فعرفهم عليه السلام بما
يقتدى فيه بالإمام، وهو ما ظهر من أفعاله، وأما معاذ فإنه
كان يصلى مع الرسول فرضه، لا يجوز غير ذلك لقوله عليه
السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) ، فكيف
يجوز أن ينويها نافلة فيخالف أمره، عليه السلام، ويرغب عن
أداء فرضه معه، مع علمه بفضل صلاته
(2/338)
معه، وقد روى ابن جريج، عن عمرو بن دينار
قال: أخبرنى جابر أن معاذًا كان يصلى مع رسول الله العشاء،
ثم يرجع إلى قومه فيصلى بهم، هى له تطوع ولهم فريضة. قال
الطحاوى: واحتج عليهم أهل المقالة الثانية بأن هذا الحديث
قد رواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، ولم يذكر فيه: هى له
تطوع ولهم فريضة، فيجوز أن يكون ذلك من قول ابن جريج، أو
من قول عمرو، أو من قول جابر وأى هذه الثلاثة كان فليس فى
الحديث ما يدل على حقيقة فعل معاذ أنه كان بأمر رسول الله،
ولا أن رسول الله لو أُخبر به لأقره أو غيره، وهذا عمر بن
الخطاب لما أخبره رفاعة بن رافع أنهم كانوا يجامعون على
عهد رسول الله ولا يغتسلون حتى ينزلوا، قال عمر: فأخبرتم
الرسول بذلك، فرضيه لكم؟ قال: لا، فلم يجعل عمر ذلك حجة،
وكذلك هذا الفعل لم يكن فيه دليل أن معاذًا فعله بأمر نبى
الله. وقد روينا عن الرسول ما يدل على خلاف قولهم، حدثنا
يحيى بن صالح الوحاظى، حدثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن
يحيى المازنى، عن معاذ بن رفاعة الزرقى: (أن رجلاً من بنى
سلمة يقال له: سليم، لقى النبى، عليه السلام، فقال: إنا
نظل فى أعمالنا فنأتى حين نمسى، فنصلى مع معاذ، فيطول
علينا، فقال عليه السلام: (يا معاذ لا تكن فتانًا، إما أن
تصلى معى، وإما أن تخفف على قومك) ، فقوله لمعاذ هذا يدل
على أنه كان عند رسول الله يفعل أحد الأمرين: إما الصلاة
معه، وإما الصلاة مع قومه، ولم يكن يجمعهما؛ لأنه قال: إما
أن تصلى معى، ولا تصلى بقومك، وإما أن تخفف بقومك، أى ولا
تصلى معى، فثبت بهذا
(2/339)
الأثر أنه لم يكن من الرسول لمعاذ فى ذلك
شىء متقدم، ولو كان منه عليه السلام فى ذلك أمر كما قال
أهل المقالة الأولى، لاحتمل أن يكون فى وقت كانت الفريضة
تصلى مرتين. فهذا وجه من طريق الآثار، وأما من طريق النظر،
فإنا رأينا صلاة المأموم مضمنة بصلاة الإمام فى صحتها
وفسادها؛ وذلك أن الإمام إذا سها وجب على من خلفه لسهوه ما
يجب عليه، ولو سهوا هم ولم يسه هو لم يجب عليهم ما يجب
عليه إذا سها، فلما ثبت أن المأمومين يجب عليهم حكم السهو
بسهو الإمام، وينتفى عنهم حكم السهو بانتفائه عن الإمام،
ثبت أن حكمهم فى صلاتهم حكم الإمام فى صلاته، وأن صلاتهم
مضمنة بصلاته، وإذا كان كذلك لم يجز أن تكون صلاتهم خلاف
صلاته.
60 - باب مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإمَامِ
/ 90 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (لَمَّا مَرِضَ الرسول
مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وأمر أَبَا بَكْرٍ بالصلاة،
خَرَجَ النَّبِيُّ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، أراد أن
يَتَأَخَّرُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ صَلِّ، فَتَأَخَّرَ
أَبُو بَكْرٍ، وَقَعَدَ الرسول إِلَى جَنْبِهِ، وَأَبُو
بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ) . إنما قام الرسول
أبا بكر ليسمع الناس تكبيره، ويظهر إليهم أفعاله؛ لأنه كان
ضَعُف عن إسماعهم، فأقامه لهم، ليقتدوا به فى حركاته؛ إذ
كان جالسًا وهم قيام، ولم يمكنهم كلهم رؤيته. وفيه من
الفقه: جواز رفع المُذكر صوته بالتكبير والتحميد فى الركوع
(2/340)
والسجود ليسمع الناس إذا كثروا وبعدوا من
الإمام فى الجمعات وغيرها، وإذا جاز للإمام أن يجهر
بالتكبير، جاز للمأموم مثل ذلك، بدليل قوله عليه السلام:
(إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شىء من كلام الناس إنما هو
التكبير والقراءة) ، وإذا لم يجز الكلام فى الصلاة سرًا لم
يجز أن يجهر به، ولما جاز فيها التكبير سرًا جاز أن يجهر
به فيها. وذكر محمد بن حارث، عن لقمان بن يوسف قال: ذاكرنا
حماس بن مروان فى رفع المذكر صوته بالتكبير فى الجمعات،
فقال: صلاتهم باطل، فقلت له: بل هى جائزة بدليل الحديث فى
ذلك أن رجلاً صلى خلف النبى فقال: ربنا ولك الحمد حمدًا
كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فسمعه الرسول فلم يأمره
بالإعادة. قال المؤلف: وأظن أبا حنيفة لا يجيز ذلك، وستأتى
مذاهب العلماء فى الكلام فى الصلاة، والتكبير ذكر الله
وليس بكلام يفسد الصلاة، ومن أفسد الصلاة بذلك، فلا شك فى
خطئه، وفى الواضحة: وما جاز للرجل أن يتكلم به فى الصلاة
من معنى الذكر والقراءة، فرفع بذلك صوته ليُنبه به رجلاً
أو يستوقفه فذلك جائز، وقد استأذن رجل على ابن مسعود، وهو
يصلى فقال له: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) [يوسف: 99]
.
(2/341)
61 - باب الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالإمَامِ
وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ
وَيُذْكَرُ عَن الرسول: ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ
بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ. / 91 - فيه: عَائِشَةَ: فى حديث
مرض النبى، عليه السلام، قَالَتْ: (. . . فَجَاءَ
الرَسُولُ فَجَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ
أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وَكَانَ عليه السلام،
يُصَلِّي جالسًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلاةِ رَسُولِ
اللَّهِ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ) .
هذا الباب موافق لقول الشعبى، ومسروق، وذلك أنهما قالا: إن
الإمام يؤم الصفوف، والصفوف يؤم بعضها بعضًا، قال الشعبى:
فإذا كثرت الجماعات فى المسجد، فدخل رجل وهم يصلون، فأحرم
قبل أن يرفع الصف الذى يليه رءوسهم من الركعة، فإنه قد
أدركها؛ لأن بعضهم أئمة لبعض، ويجوز له الاستدلال من هذا
الحديث، وأما سائر الفقهاء فإنهم يراعون رفع الإمام وحده،
وهو أحوط.
62 - باب هَلْ يَأْخُذُ الإمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ
النَّاسِ
/ 92 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى، عليه السلام،
انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو
الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟) ،
فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ.
. . .، الحديث. اختلف العلماء فى الإمام إذا شك فى صلاته،
فأخبره من خلفه من المأمومين أنه ترك ركعة هل يرجع إلى
قولهم، ويدع يقينه أم لا؟ فقال ابن القصار: اختلفت الرواية
عن مالك فى ذلك، فقال مرة: يرجع إلى قولهم، وهو قول أبى
حنيفة؛ لأنهم يقولون: إنه يبنى
(2/342)
على غالب ظنه، وقال مرة أخرى: يعمل على
يقينه، ولا يرحع إلى قولهم، وهو قول الشافعى، قال ابن
القصار: فوجه قوله لا يرجع إلى قولهم، فإنما هو عندى إذا
كان على يقين من صلاته، فلا يجوز أن يترك يقينه، وقال
الشافعى: رجوع الرسول يوم ذى اليدين إلى قول من أخبره إنما
كان؛ لأنه ذُكِّر بذلك فَذَكر وبنى على يقينه، ووجه القول
الآخر أن يأخذ بقولهم فالذى يؤدى إلى اليقين أن يأتى بركعة
ويقبل قولهم؛ لأن يقين الاثنين أكثر من يقين الواحد، والذى
يهمهم من أمر الصلاة مثل الذى يهمه، فينبغى أن يقبل منهم؛
لأنه يشك كما يشكون، غير أن الاثنين إذا اتفقا كانوا أقوى
من الواحد، فكيف الجماعة، ولا معنى لقول الشافعى: أن
النبى، عليه السلام، ذُكِّرَ فَذَكر؛ لأنه لو ذكر لقال قد
ذكرت، حتى لا يظن أحد أنه عمل على قولهم، فمن ادعى أنه ذكر
بغير دلالة، فهو بمنزلة من قال: إن الحاكم إذا حكم بشهادة
الشهود، فإنه لم يحكم لأجل ما ثبت عنده من الشهادة، وإنما
حكم لأنه علم ذلك.
63 - باب بكاء الإمَامُ فِي الصَّلاةِ
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: سَمِعْتُ نَشِيجَ
عُمَرَ، وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ: (إِنَّمَا
أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف 86] . / 93
- فيه: عَائِشَةَ فى حديث مرض النبى قَالَتْ: (. . . إِنَّ
أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ
النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ. . .) ، الحديث. أجاز العلماء
البكاء فى الصلاة من خوف الله واحتجوا بحديث
(2/343)
عائشة وبفعل عمر، وقال أشهب: قال مالك: قرأ
عمر بن عبد العزيز فى الصلاة فلما بلغ: (فأنذرتكم نارًا
تلظى) [الليل: 14] ، خنقته العبرة فسكت، ثم قرأ فنابه ذلك،
ثم قرأ فنابه ذلك، وتركها وقرأ: (والسماء والطارق) ،
واختلفوا فى الأنين والتأوّه، فقال ابن المبارك: إذا كان
غالبًا فلا بأس به، وقال الشافعى، وأبو ثور: لا بأس به إلا
أن يكون كلامًا مفهومًا، وقالت طائفة: يعيد صلاته وهذا قول
الشعبى، والنخعى، والكوفيين.
64 - باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الإقَامَةِ
وَبَعْدَهَا
/ 94 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: قَالَ عليه
السلام: (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ
اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ) . / 95 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ
الرسول: (أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ من
وراء ظَهْرِي) . تسوية الصفوف من سنة الصلاة عند العلماء،
وإنه ينبغى للإمام تعاهد ذلك من الناس، وينبغى للناس تعاهد
ذلك من أنفسهم، وقد كان لعمر وعثمان رجال يوكلونهم بتسوية
الصفوف، فإذا استوت كبرا إلا أنه إن لم يقيموا صفوفهم لم
تبطل بذلك صلاتهم. وفيه: الوعيد على ترك التسوية، وقال
المهلب: توعد من لم يقم
(2/344)
الصفوف بعذاب من [] الذنب وهو المخالفة بين
وجوههم، لاختلافهم فى مقامهم كما أن من قتل نفسه بحديدة
عذب بها، والمرأة التى قتلت الهرة جوعًا عذبت بها. وقوله:
(إنى لأراكم من وراء ظهرى) ، خصوص له، أعطاه الله من القوة
أن يرى من خلفه كما يرى من أمامه لا أنه يخبر عنهم بخبر،
ولو كان من طريق الخبر لقال عليه السلام، إنى لأعلم بحالكم
من وراء ظهرى، وقد تقدم هذا وزيادة فيه فى باب (عظة الإمام
فى إتمام الصلاة) .
65 - باب إِقْبَالِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ
تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ
/ 96 - فيه: أَنَسُ قَالَ: (أُقِيمَتِ الصَّلاةُ،
فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ بِوَجْهِهِ،
فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي
أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي) . وفيه: جواز الكلام بين
الإقامة والإحرام، ولا بأس عند فقهاء الحجاز، وهو رد على
الكوفيين، وقد تقدم ذلك فى باب الإمام تعرض له حاجة بعد
الإقامة فى أبواب الأذان. وقوله: تراصوا فى الصلاة، أى:
انضموا، قال صاحب (العين) : رصصت البنيان رصا، أى: ضممته،
وتراصوا فى الصفوف منه، وقد ذكر الله الذين يقاتلون فى
سبيله صفًا، كأنهم بنيان مرصوص، ومدحهم بذلك، وقضى بالمحبة
للمصطفين فى طاعته، فدل أن الصف فى الصلاة كالصف فى سبيل
الله.
(2/345)
وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا ابن فضيل، عن
الوليد بن جميع، عمن حدثه، عن ابن عباس أن نبى الله قال:
(راصوا صفوفكم، فإن الشياطين تتخللكم كأنها أولاد الحذف) ،
فذكر هذا الحديث معنى أمره عليه السلام، بالتراص فى
الصلاة، وقال صاحب (العين) : الحذف: غنم سود صغار، ويقال:
هم أولاد الغنم.
66 - باب الصَّفِّ الأوَّلِ
/ 97 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسول الله:
(الشُّهَدَاءُ خمسة) إلى قوله: (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا
فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لاسْتَهَمُوا) . وقد تقدم
الكلام فى هذا الحديث فى باب الاستهام فى الأذان، فأغنى عن
إعادته، ونذكر منه هاهنا طرفًا، إنما فضل الصف الأول على
غيره، والله أعلم، للقرب من سماع القرآن إذا جهر الإمام
والتكبير عند تكبيره والتأمين عند فراغه من فاتحة الكتاب،
وقد روى نوح بن أبى مريم قال: حدثنا زيد العمى، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (من
ترك الصف الأول مخافة أن يؤذى مسلمًا أضعف الله له أجر
الصف) .
67 - باب إِقَامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ
/ 98 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السلام:
(إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلا
تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ. . . .) ، الحديث، (وَأَقِيمُوا
الصَّفَّ فِي الصَّلاةِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ
حُسْنِ الصَّلاةِ) .
(2/346)
/ 99 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِيِّ،
عليه السلام: (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ
الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ) . هذا الحديث يدل أن
إقامة الصفوف سنة مندوب إليها، وليس بفرض؛ لأنه لو كان
فرضًا لم يقل، عليه السلام، فإن إقامة الصفوف من حسن
الصلاة؛ لأن حسن الشىء زيادة على تمامه، وذلك زيادة على
الوجوب، ودل هذا على أن قوله فى حديث أنس: (فإن تسوية
الصفوف من إقامة الصلاة) ، أن إقامة الصلاة قد تقع على
السنة كما تقع على الفريضة.
68 - باب إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ
/ 100 - فيه: أَنَسِ: أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ
لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ
اللَّهِ؟ فقَالَ: (مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلا أَنَّكُمْ
لا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ) . لما كان تسوية الصف من السنة
المندوب إليها التى يستحق فاعلها المدح عليها، دل ذلك أن
تاركها يستحق الذم والعتب كما قال أنس، رحمة الله عليه،
غير أن من لم يقم الصفوف لا إعادة عليه؛ ألا ترى أن أنسًا
لم يأمرهم بإعادة الصلاة.
69 - باب إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ،
وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ
قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: ورَأَيْتُ الرَّجُلَ
مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ. / 101 -
فيه: أَنَسِ قَال النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) :
(أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ
ظَهْرِي، وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ
بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ) .
(2/347)
هذه الأحاديث تفسر قوله عليه السلام:
(تراصُّوا فى الصف) ، وهذه هيئة التراص، وفيه: أن الكعب هو
العظم الناتئ فى أثر الساق ومؤخر القدم، كما قال أهل
المدينة؛ لأنه لو كان الكعب فى مقدم القدم كما قال أهل
الكوفة لما تمكن أن يلزق أحدهم كعبه بكعب صاحبه، وهذا يدل
على أن الكعبين اللذين جعلهما الله غاية فى غسل القدمين
هما المذكوران فى حديث النعمان بن بشير، وقد تقدم هذا فى
كتاب الطهارة بزيادة.
70 - باب الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا
/ 102 - فيه: أَنَسِ قَالَ: (صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ
فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ عليه السلام، وَأُمِّي
خَلْفَنَا أُمُّ سُلَيْمٍ) . فى هذا الحديث من الفقه: أن
سنة النساء القيام خلف الرجال، ولا يقمن معهم فى صف؛ لأن
الفتنة تخشى منهن. قال المهلب: وكذلك إن كُنَّ عجائز أو
ذوات محارم للرجال، فلا يصطففن مع الرجال، وأن صفوفهن وراء
صفوف الرجال، إلا أنه إن صلت المرأة إلى جنب رجل تمت
صلاتهما عند مالك، والشافعى، والأوزاعى. وعند الكوفيين تمت
صلاة المرأة وفسدت صلاة الرجل، واحتجوا بأنها وقفت فى غير
محلها، كما أن من صلى قدام الإمام صلى فى
(2/348)
غير محله، ففسدت صلاته، فجاوبهم أهل
المقالة الأولى، وقالوا: صلاته عندنا صحيحة إذا صلى قدام
الإمام، كما لو وقف على يساره، وعلى هذا الحساب كان ينبغى
أن تبطل صلاة المرأة دون الرجل؛ لأنها وقفت فى غير محلها
فلما قلتم أن صلاة المرأة صحيحة، كانت صلاة الرجل أولى أن
تصح؛ لأنه وقف فى محله، ووقفت هى فى غير محلها، وهذا يرد
قول أحمد، وإسحاق أن من صلى خلف الصف وحده بطلت صلاته، وإن
كانت امرأة صحت صلاتها، وذلك لأنه لما صحت صلاة أم أنس
وحدها خلف الصف، وكانت صفا كان الرجل أولى بذلك، وإلى هذا
المعنى أشار البخارى فى ترجمته، وفى هذا الحديث حجة على
الكوفيين. وقولهم: أنه إذا كان مع الإمام رجلان قام
وسطهما، وإن كانوا ثلاثة قاموا خلفه، واحتجوا بأن ابن
مسعود صلى بعلقمة والأسود وقام بينهما، وهذا الحديث بخلاف
ذلك؛ لأن أنسًا ذكر أنه واليتيم صليَا خلف النبى، عليه
السلام، وصلت أمه خلفهما، والحجة فى السنة لا فيما خالفها،
وبهذا الحديث قال سائر الفقهاء. قال المهلب: وفيه أن الصبى
إذا عقل الصلاة يكون فى الصف. وفيه: أن الصف من الرجال
يكون من اثنين فصاعدًا، وأن الصف من النساء إذا صلين مع
الرجال يكون من امرأة واحدة.
(2/349)
71 - باب إِذَا كَانَ بَيْنَ الإمَامِ
وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ
قَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ وَبَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ نَهْرٌ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: يَأْتَمُّ
بِالإمَامِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ
طَرِيقٌ، إِذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الإمَامِ. / 103 - فيه:
عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي مِنَ
اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ،
فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَقَامَ
أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، فَأَصْبَحُوا،
فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ
الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ نَاسٌ يُصَلُّونَ
بِصَلاتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا،
حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، جَلَسَ رَسُولُ
اللَّهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ
ذَلِكَ النَّاسُ، فَقَالَ: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ
عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ) . / 104 - وفيه: زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ حُجْرَةً -
حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ حَصِيرٍ - فِي رَمَضَانَ،
فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ، جَعَلَ
يَقْعُدُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وقَالَ: (قَدْ عَرَفْتُ
الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا
النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاةِ
صَلاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلا الْمَكْتُوبَةَ) . قال
المؤلف: اختلف العلماء فى الإمام بينه وبين القوم طريق أو
حائط، فأجازته طائفة، روى ذلك عن أنس بن مالك، وأبى هريرة،
وسالم، وابن سيرين، وكان عروة يصلى بصلاة الإمام وهو فى
دار بينها وبين المسجد طريق، وقال مالك: لا بأس أن يصلى
وبينه وبينه طريق أو نهر صغير، وكذلك السفن المتقاربة يكون
الإمام فى إحداها تجزئهم الصلاة معه. وقال عطاء: لا بأس أن
يصلى بصلاة الإمام من علمها.
(2/350)
وكرهت ذلك طائفة روى عن عمر بن الخطاب إذا
كان بينه وبين الإمام طريق أو نهر أو حائط فليس معه، وكره
الشعبى وإبراهيم أن يكون بينهما طريق، وزاد إبراهيم: أو
نساء. وقال الكوفيون: لا تجزئه إلا أن تكون الصفوف متصلة
على الطريق، وهو قول الليث، والأوزاعى، وأشهب صاحب مالك،
وكذلك اختلفوا فيمن صلى فى دار محجور عليها بصلاة الإمام،
فأجازه عطاء، وأبو حنيفة فى الجمعة وغيرها، وبه قال ابن
نافع صاحب مالك، وجوزه مالك إذا كان يسمع التكبير إلا فى
الجمعة خاصة، فلا تصح صلاتها عنده فى موضع يمنع منه فى
سائر الأوقات، ولا تجوز إلا فى الجامع ورحابه. وقال
الشافعى: لا يجوز أن يصلى فى موضع محجور عليه فى الجمعة
وغيرها إلا أن تتصل الصفوف. وحجة من أجاز ذلك حديث عائشة،
وزيد بن ثابت أنه عليه السلام، صلى فى حجرته وصلى الناس
بصلاته، فلو لم تجزئهم لأخبرهم بذلك لأنه بُعث معلمًا. قال
ابن القصار: وقد كان أزواج الرسول يصلين فى حجرهن بصلاته،
وبعده بصلاة أصحابه إذا لم يمنع الحائل بين الإمام
والمأموم من تكبيرة الإحرام ولا استماع التكبير لم يقدح فى
الصلاة، دليله: الأعمى، ومن بينه وبين الإمام صفوف أو
سارية، فلا معنى للمنع من ذلك. قال المهلب: وفى هذا الحديث
جواز الائتمام بمن لم ينو أن يكون إمامًا فى تلك الصلاة؛
لأن الناس ائتموا برسول الله من وراء الحائط ولم يعتقد نية
معهم على الإمامة، وهو قول مالك، والشافعى وقد تقدم.
(2/351)
72 - باب إِيجَابِ التَّكْبِيرِ
وَافْتِتَاحِ الصَّلاةِ
/ 105 - فيه: أَنَسُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَكِبَ
فَرَسًا، فصرع عنه، فَجُحِشَ شِقُّهُ. . .) ، إلى قوله:
(إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كبر
فكبروا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ
فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا
سَجَدَ فَاسْجُدُوا) . / 106 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أن
رسول الله قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ
بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ
فَارْكَعُوا. . .) الحديث. اختلف العلماء فى وجوب تكبيرة
الإحرام، فذهب جمهور العلماء إلى وجوبه، وذهبت طائفة إلى
أنه سنة وممن روى ذلك عنه: سعيد بن المسيب، والحسن البصرى،
والحكم، والزهرى، والأوزاعى، وقالوا: إن تكبيرة الركوع
تجزئه من تكبيرة الإحرام، وروى عن مالك فى المأموم ما يدل
على أنه سنة، قال فى (الموطأ) فى رجل دخل مع الإمام فنسى
تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع حتى صلى ركعة، فذكر أنه لم
يكن كبر للافتتاح ولا للركوع، وكبر فى الركعة الثانية،
فقال: يبتدئ صلاته أحب إلى. وروى عنه ابن القاسم فى
(المدونة) ، أن المأموم إن نسى تكبيرة الافتتاح وكبر
للركوع ينوى بها للإحرام، أجزأه، وإن لم ينو إحرامًا تمادى
وأعاد احتياطًا للاختلاف، وذلك أنها لا تجزئه عند ربيعة،
وتجزئه عند ابن المسيب، فوجه قوله فى الموطأ: يبتدئ أحب
إلىّ، يدل على ما قال فى المدونة: إذا تمادى أجزأه، غير
أنه قال: يعيد احتياطًا للصلاة، ولم يختلف قوله فى المنفرد
والإمام أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحد منهما، وأن
من نسيها منهم يستأنف صلاته.
(2/352)
وحجة الذين أوجبوا تكبيرة الإحرام: قوله
عليه السلام: (فإذا كبر فكبروا) ، فذكر تكبير الإحرام دون
غيره من سائر التكبير، وقد أجمعوا أن من ترك سائر التكبير
غير تكبير الإحرام أن صلاته جائزة، فدل ذلك على أن سائر
التكبير غير تكبيرة الإحرام ليس بلازم، واحتجوا أيضًا على
ذلك بما رواه الثورى، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن
محمد بن الحنفية، عن على أن رسول الله قال: (تحريم الصلاة
التكبير وتحليلها التسليم) ، وكان أحمد وإسحاق يحتجان بهذا
الحديث. وحجة الذين رأو تكبيرة الإحرام سنة: إجماعهم أن من
ترك التكبير كله ما عدا الإحرام أن صلاته تامة قالوا:
وكذلك تكبير الإحرام مثل تكبير سائر الصلوات فى القياس؛
لأن التكبير معناه كله واحد فى أنه إذن بحركات الإمام
وشعار الصلاة. واختلفوا: هل يجزئ افتتاح الصلاة بالتسبيح
والتهليل مكان التكبير؟ فقال مالك، وأبو يوسف، والشافعى،
وأحمد، وإسحاق: لا يجزئ إلا (الله أكبر) ، وأجاز الشافعى
(الله أكبر) . وقال الكوفيون: يجزئ من التكبير ما قام
مقامه من تعظيم الله وذكره. وحجة مالك ومن وافقه: قوله
عليه السلام: (وإذا كبر فكبروا) ، يدل أنه لابد من لفظة
التكبير، ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل.
73 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأولَى
فِى الافْتِتَاحِ سَوَاءً
/ 107 - فيه: ابْنِ عمر: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ
الصَّلاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ
(2/353)
أَيْضًا، وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لا يَفْعَلُ
ذَلِكَ فِي السُّجُودِ) . وترجم له: رفع اليدين إذا كبر
وإذا ركع وإذا رفع. وترجم له: إلى أين يرفع يديه. وقال أبو
حميد: رفع النبى يديه حذو منكبيه. اختلف العلماء فى رفع
اليدين فى الصلاة، فذهبت طائفة إلى رفع اليدين عند تكبيرة
الافتتاح خاصة، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن
عباس، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ورواه ابن القاسم عن
مالك. وذهبت طائفة إلى رفع اليدين عند كل رفع وخفض، قال
عطاء: رأيت أبا سعيد الخدرى، وابن عمر، وابن عباس، وابن
الزبير، يرفعون أيديهم عند الافتتاح، وعند الركوع، وعند
رفع الرأس منه، وكان أنس يفعله، وفعله أبو حميد الساعدى فى
عشرة من الصحابة، وهو قول الأوزاعى، رواه ابن وهب، وأبو
مصعب عن مالك، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو
ثور، واحتجوا بحديث ابن عمر. واحتج أهل المقالة الأولى بما
رواه سفيان، عن يزيد بن أبى زياد، عن ابن أبى ليلى، عن
البراء بن عازب قال: (كان النبى، عليه السلام، إذا كبر
لافتتاح الصلاة رفع يديه، ثم لا يعود) ، وبما رواه سفيان،
عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن
عبد الله بن مسعود، (أن النبى، عليه السلام، كان يرفع يديه
فى أول تكبيرة ثم لا يعود) ، قالوا: وقد خالف ابن عمر
روايته فى ذلك عن الرسول. قال الطحاوى: وذلك ما حدثنا ابن
أبى
(2/354)
داود، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر
ابن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال: (صليت خلف ابن عمر، فلم
يكن يرفع يديه إلا فى التكبيرة الأولى من الصلاة خاصة) ،
فلم يترك ابن عمر الرفع فى خفض ورفع، وقد رأى الرسول
يفعله، إلا وقد فهم أن ذلك من فعله على الإباحة والتخيير،
يدل على ذلك ما روى مالك، عن أبى جعفر القارئ، ونعيم
المجمر أنهما أخبراه أن أبا هريرة كان يصلى بهم، ويكبر
كلما خفض ورفع، وكان يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، ويقول:
والله إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، فلما روى ذلك كله عن
الرسول لم يكن فى ذلك شىء أولى من حمل الآثار على الإباحة
إن لم يثبت فيها النسخ. والدليل على ذلك أن من رفع لم ينكر
عليه من لم يرفع، غير أنه يرجح القول بفعل الخليفتين بعد
النبى، عليه السلام، عمر، وعلى بن أبى طالب، وإن كان قد
اختلف فيه عن على، فلم يختلف فيه عن عمر، قال الطحاوى: بل
قد ثبت ذلك عنه، أفترى عمر خفى عليه أن نبى الله كان يرفع
يديه فى الركوع، وعلم ذلك من هو دونه أو من هو معه يراه
يفعل غير ما كان رسول الله يفعله ولا ينكر ذلك عليه؟ هذا
محال، فهذا وجهه من طريق الآثار. قال الطحاوى: وأما وجهه
من طريق النظر، فإنهم أجمعوا أن تكبيرة الافتتاح معها رفع،
وأن التكبير بين السجدتين لا رفع معه، واختلفوا فى تكبيرة
النهوض وتكبيرة الرفع، فقال قوم: حكمها حكم تكبيرة
الافتتاح فى الرفع، وقال آخرون: حكمها حكم التكبير بين
السجدتين فى أنه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها، ورأينا
تكبيرة الافتتاح
(2/355)
من صلب الصلاة، ولا تجزئ الصلاة إلا
بإصابتها، فرأينا التكبير بين السجدتين ليس كذلك؛ لأنها لو
تركها تارك لم تفسد صلاته، فأشبه تكبير الركوع فى ذلك
لإجماعهم أن من ترك تكبير الركوع والسجود فصلاته تامة،
فكانتا كهى فى أنه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها. قال
المهلب فى معنى رفع اليدين فى افتتاح الصلاة: إنما هو علم
للتكبير؛ ليرى حركة اليدين من لم يسمع التكبير، فيعرف أن
الإمام كبر، فيوقع إحرامه بعد إمامه، وأما غير ذلك من
التكبير فهو بحركات فيستوى الناس كلهم فيها. واختلفوا إلى
أين يرفع المكبر يديه، فقال مالك: يرفعهما حذو منكبيه، وهو
قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث ابن عمر، وقال
أبو حنيفة: يرفع يديه حذو أذنيه، واحتجوا بما رواه سفيان،
عن يزيد بن أبى زياد، عن ابن أبى ليلى، عن البراء بن عازب
قال: (كان نبى الله إذا كبر للافتتاح رفع يديه حتى تكون
إبهاماه قريبًا من شحمتى أذنيه) ، ورواه مالك بن الحويرث،
ووائل بن حجر عن الرسول. قال ابن القصار: فيحمل حديث ابن
عمر على الاختيار وحديث البراء على الجواز. وقال الطحاوى:
إنما كان الرفع إلى المنكبين فى حديث ابن عمر وقت كانت
يداه فى ثيابه بدليل ما رواه شريك، عن عاصم بن كليب، عن
أبيه، عن وائل بن حجر قال: (أتيت النبى، عليه السلام،
فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه إذا كبر، ثم أتيته من العام
المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم
فيها، وأشار شريك إلى صدره) ، فأخبر وائل أن رفعهم إلى
مناكبهم إنما كان لأن أيديهم كانت فى ثيابهم، وأن رفعهم
أيديهم إلى آذانهم كان حين كانت
(2/356)
أيديهم بادية، ولم يجز أن يجعل حديث ابن
عمر وما أشبهه، الذى فيه الرفع إلى المنكبين، كان واليدان
باديتان، لئلا تتضاد الآثار، وحملها على الاتفاق أولى،
ويكون حديث وائل من رفعه إلى أذنيه فى غير حال البرد.
74 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ
الرَّكْعَتَيْنِ
/ 108 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: أنه كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي
الصَّلاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ
رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ
الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَه إِلَى
النَبِيِّ عليه السلام. ورَوَاهُ عبيد الله وأَيُّوبَ
وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عن نافع. والرفع عند القيام زيادة
فى هذا الحديث على ما رواه ابن شهاب، عن سالم فيه، يجب
قبولها لمن يقول بالرفع، وليس فى حديث ابن شهاب، ما يدفعها
بل فيه ما يثبتها، وهو قوله: وكان لا يفعل ذلك بين
السجدتين، فدليله أنه كان يفعلها فى كل خفض ورفع ما عدا
السجود، وكان أحمد بن حنبل لا يرفع بين السجدتين، ولا عند
القيام من الركعتين، وهو ممن يقول بالرفع فى كل خفض ورفع،
فيمكن أن يرد عليه البخارى بهذا الحديث.
75 - باب وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي
الصَّلاةِ
/ 109 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ
يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى
عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاةِ. قَالَ أَبُو
حَازِمٍ: لا أَعْلَمُهُ إِلا يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى رسول
الله.
(2/357)
اختلف العلماء فى هذا الباب، فممن روى عنه
وضع اليمنى على اليسرى فى الصلاة: أبو بكر الصديق، وعلى بن
أبى طالب، وهو قول الثورى والكوفيين، وقال ابن حبيب: سألت
مطرفًا، وابن الماجشون عن ذلك فقالا: لا بأس به فى
المكتوبة والنافلة، وروياه عن مالك، ورواه أشهب، وابن
نافع، وابن وهب، عن مالك أيضًا، وهو قول الشافعى، وأحمد،
وإسحاق، وهو من باب الخشوع. وقال عطاء: من شاء فعل ذلك،
ومن شاء تركه، وهو قول الأوزاعى. ورأت طائفة إرسال اليدين
فى الصلاة، روى ذلك عن ابن الزبير، والحسن البصرى، وسعيد
بن المسيب، ورأى سعيد بن جبير رجلاً يصلى واضعًا يمينه على
شماله، فذهب ففرق بينهما. وروى ابن القاسم عن مالك قال: لا
أحبه فى المكتوبة ولا بأس به فى النوافل من طول القيام.
وحجة أهل المقالة الأولى حديث سهل بن سعد، وقد روى ابن
مسعود، ووائل بن حجر، ووالد قبيصة، عن النبى، عليه السلام،
مثل حديث سهل بن سعد، وقال على بن أبى طالب: ذلك من السنة،
وقال فى قوله تعالى: (فصل لربك وانحر) [الكوثر: 2] ، قال:
وضع اليمين على الشمال فى الصلاة تحت الصدور، وروى أن ابن
عمر كان يفعله. قال ابن القصار: ووجه قول من كره ذلك أنه
عمل فى الصلاة، وربما شغل صاحبه، وربما دخله ضرب من
الرياء، وقد علم النبى،
(2/358)
عليه السلام، الأعرابى الصلاة ولم يأمره
بوضع اليد على اليد، فإن قيل: إن وضعها من الخشوع، قيل:
الخشوع لله، تعالى، الإقبال عليه والإخلاص فى الصلاة.
وقوله: ينمى يعنى يرفع.
76 - باب الْخُشُوعِ فِي الصَّلاةِ
/ 110 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ ، وَاللَّهِ
مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ، وَلا خُشُوعُكُمْ،
وَإِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ وَرَاءَ ظَهْرِي) . / 111 - وفيه:
أَنَسِ، قَالَ النَّبِيِّ: (أَقِيمُوا الرُّكُوعَ
وَالسُّجُودَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي
- وَرُبَّمَا قَالَ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي - إِذَا
رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ) . قال المؤلف: مدح الله تعالى،
من كان خاشعًا فى صلاته مقبلاً عليها بقلبه، قال تعالى:
(قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون) [المؤمنون:
1، 2] ، وقال على بن أبى طالب: الخشوع فى القلب وأن لا
تلتفت فى صلاتك، وقال ابن عباس: (الذين هم فى صلاتهم
خاشعون (، يعنى: خائفين ساكنين. فإن قال قائل: الخشوع فرض
فى الصلاة. قيل له: بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه
ونيته ويريد بذلك وجه الله ولا طاقة له فيما اعترض من
الخاطر، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنى لأجهز جيشى
فى الصلاة، رواه حفص بن غياث، عن عاصم، عن أبى عثمان
النهدى، عن عمر.
(2/359)
وروى حفص عن هشام بن عروة، عن أبيه قال:
قال عمر بن الخطاب: إنى لأحسب جزية البحرين وأنا فى صلاتى.
قال المهلب: وفى حديث هذا الباب النهى عن نقصان الركوع
والسجود لتوعد الرسول لهم على ذلك. وفيه: دليل أن
الطمأنينة والاعتدال فى الركوع والسجود من سنن الصلاة وليس
من فروضها؛ لأن الرسول لم يأمر هؤلاء الذين قال لهم: (لم
يخف على ركوعكم ولا سجودكم) ، بالإعادة، ولو كان من فروض
الصلاة ما سكت عن إعلامهم بذلك؛ لأن فرضا عليه البيان
لأمته، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى باب أمر النبى
الذى لا يتم ركوعه بالإعادة فى أبواب الركوع بعد هذا، إن
شاء الله.
77 - باب مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ
/ 112 - فيه: أَنَسِ: (أَنَّ نَّبِيَّ الله، وَأَبَا
بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاةَ بِ)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة 2] ) . /
113 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَ الرَسُولُ كان يَسْكُتُ
بَيْنَ التَّكْبِيرِ والْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً - قَالَ:
أَحْسِبُهُ، قَالَ: هُنَيَّةً - فَقُلْتُ: بِأَبِي أنت
وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ
التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ:
(أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ
كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ،
اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى
الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ
خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) . قال
المؤلف: حديث أنس حجة لمن قال: لا يقرأ بسم الله الرحمن
الرحيم فى صلاة فى أول فاتحة الكتاب، وهو قول مالك
والأوزاعى.
(2/360)
وقال ابن أبى ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه،
والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هى آية من
فاتحة الكتاب. ومن حجة أهل المقالة الأولى: أن الطريق إلى
إثبات آية من السورة كالطريق إلى إثبات السورة بعينها، وقد
حصل لنا العلم الضرورى بنقل الكافة أن الحمد سورة من
القرآن ولم يقع لنا العلم الضرورى أن بسم الله الرحمن
الرحيم آية منها، فلا يجوز إثبات قرآن إلا بنقل الكافة،
ووجدنا أهل المدينة بأسرهم ينفون كونها من فاتحة الكتاب مع
اتصال القارئ بقراءتها فى كل صلاة، وسائر الأئمة على إقامة
الصلوات من لدن رسول الله إلى وقتنا هذا وليس هذا مما
يُنسى أو يقع فيه قلة ضبط؛ لأن هذا أشهر من الأجناس وزكاة
الخضر والمُدّ والصاع الذى يحتج به مخالفنا فى هذه المسألة
على مخالفته؛ ألا ترى قول أنس أن الرسول وأبا بكر وعمر
كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وقوله:
كانوا يفتتحون إخبار عن فعل دائم، وقد قال عروة بن الزبير،
وعبد الرحمن الأعرج: أدركنا الأئمة وما يفتتحون الصلاة إلا
بالحمد لله رب العالمين. قال الطحاوى: وقد رأيناها مكتوبة
فى فواتح السور فى فاتحة الكتاب وفى غيرها وكانت فى غير
فاتحة الكتاب ليست بآية، فثبت أنها أيضًا فى فاتحة الكتاب
ليست بآية. وأما حديث السكتة فى حديث أبى هريرة، فإن
الأوزاعى، والشافعى، وأحمد بن حنبل يقولون بها، وقال
الشافعى: أحب للإمام أن يكون له سكتة بين التكبير
والقراءة، ليقرأ فيها المأموم بالحمد لله رب العالمين.
وقال مالك والكوفيون: لا شىء بعد التكبير إلا قراءة فاتحة
الكتاب، وحديث أبى هريرة يرد العلة التى علل بها الشافعى
هذه السكتة؛ لأن أبا هريرة سأل الرسول عنها فقال: أقول:
(اللهم باعد
(2/361)
بينى وبين خطاياى. . .) ، الحديث، ولو كانت
ليقرأ من وراء الإمام فيها لقال عليه السلام، إنى أسكت لكى
يقرأ من ورائى: (الحمد لله رب العالمين) ، فبين عليه
السلام أن السكتة لغير ما قال الشافعى، واستحب أبو حنيفة،
ومحمد أن يسبح بعد التكبير، وقال أبو يوسف: يسبح ويقول:
(وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض) [الأنعام: 79] الآية،
وقال الشافعى: يقول: وجهت وجهى ولا يسبح. وقال مالك: إنما
يجب التكبير، ثم القراءة ولو كانت هذه الإسكاتة مما واظب
عليها النبى، عليه السلام، لم يخف ذلك، ولنقلها أهل
المدينة عيانًا وعملاً، فيحتمل أن يكون عليه السلام، فعلها
فى وقت ثم تركها تخفيفًا عن أمته، فتركها واسع.
والهُنَيَّة: كل شىء صغير ندر من شىء، قال الفسوى: يقال:
هن يهن من الدهر وهننى هنة. وقوله: هنيةً من الدهر مصروف
إلى هننى. قال ثعلب: هنية، قال: وهو الأكثر فى كلامهم؛
لأنهم يؤقتون هذا الحد، فيقولون: مضت برهة من الدهر وحقبة،
قال الفسوى: وقد يجوز أن يكون هنيهة، والأجود هنيّةً، فأما
هنيئة فبالهمز.
78 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى الإمَامِ فِي الصَّلاةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رسول الله فِي صَلاةِ
الْكُسُوفِ: (فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا
بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ) .
(2/362)
/ 114 - فيه: خَبَّابٍ: (كَنَا نعرف قراءة
رَسُولُ اللَّهِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِاضْطِرَابِ
لِحْيَتِهِ) . / 115 - وفيه: الْبَرَاءُ: (أَنَّهُمْ
كَانُوا إِذَا صَلَّوْا مَعَ الرسول، فَرَفَعَ رَأْسَهُ
مِنَ الرُّكُوعِ، قَامُوا قِيَامًا، حَتَّى يَرَوْنَهُ
قَدْ سَجَدَ) . / 116 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: كَسَفَتِ
الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَصَلَّى،
فقَلُنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ
شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ،
قَالَ: (رَأَيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا
عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأكَلْتُ مِنْهُ مَا
بَقِيَتِ الدُّنْيَا) . اختلف العلماء أى موضع ينظر المصلى
فى صلاته، فقال الكوفيون، والشافعى، وإسحاق، وأبو ثور:
ينظر إلى موضع سجوده. وروى ذلك عن إبراهيم، وابن سيرين،
وقال الشافعى: هو أقرب إلى الخشوع، وقال مالك: ينظر إلى
إمامه وليس عليه أن ينظر إلى موضع سجوده وهو قائم، ولا يحد
فى موضع نظره حدًا، وأحاديث هذا الباب حجة لمالك. قال
المهلب: لأنهم لو لم ينظروا إليه عليه السلام، ما رأوا
تأخره حين عرضت عليه جهنم، ولا رأوا اضطراب لحيته، ولا
استدلوا بذلك على قراءته، ولا نقلوا ذلك، ولا رأوا تناوله
ما تناول فى قبلته حين مثلت له الجنة، ومثل هذا الحديث
قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ؛ لأن الائتمام به لا
يكون إلا بمراعاة حركاته فى خفضه ورفعه. قال غيره: وإنما
لم يأخذ العنقود، والله أعلم، لأنه كان من طعام الجنة،
وطعام الجنة لا يفنى، ولا يجوز أن يؤكل فى الدنيا إلا ما
يفنى؛ لأن الله خلقها للفناء، فلا يكون فيها شىء من أمور
البقاء.
(2/363)
79 - بَاب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى
السَّمَاءِ فِي الصَّلاةِ
/ 117 - فيه: أَنَسَ: قَالَ رسول الله: (مَا بَالُ
أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي
صَلاتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى
قَالَ: لَيَنْتَهِيَنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ
أَبْصَارُهُمْ) . العلماء مجمعون على القول بهذا الحديث
وعلى كراهية النظر إلى السماء فى الصلاة، وقال ابن سيرين:
كان رسول الله مما ينظر إلى السماء فى الصلاة، فيرفع بصره
حتى نزلت آية إن لم تكن هذه فما أدرى ما هى: (الذين هم فى
صلاتهم خاشعون) [المؤمنون: 2] ، قال: فوضع النبى رأسه.
وقال شريح لرجل رآه رفع بصره ويده إلى السماء: اكفف يدك
واخفض بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله. وذكر الطبرى عن
إبراهيم التيمى أنه قال: كان يكره أن يرفع الرجل بصره إلى
السماء فى الدعاء، يعنى: فى غير الصلاة.
80 - بَاب الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاةِ
/ 118 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ
عَنِ الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاةِ، فَقَالَ: (هُوَ
اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاةِ
الْعَبْدِ) . / 119 - وفيه: عَائِشَةَ أَنَّ نَّبِيَّ الله
صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَقَالَ:
(شَغَلَتْنِي أَعْلامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إِلَى
أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةٍ) .
(2/364)
الالتفات فى الصلاة مكروه عند العلماء،
وذلك أنه إذا أوما ببصره وثنى عنقه يمينًا وشمالاً ترك
الإقبال على صلاته، ومن فعل ذلك فقد فارق الخشوع المأمور
به فى الصلاة، ولذلك جعله النبى اختلاسًا للشيطان من
الصلاة، وأما إذا التفت لأمرٍ يَعِنُّ له من أمر الصلاة أو
غيرها فمباح له ذلك وليس من الشيطان، والله أعلم. وقال
المهلب: قوله: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) ،
هو حض على إحضار المصلى ذهنه ونيته لمناجاة ربه، ولا يشتغل
بأمر دنياه، وذلك أن العبد لا يستطيع أن يخلص صلاته من
الفكر فى أمور دنياه؛ لأن الرسول قد أخبر أن الشيطان يأتى
إليه فى صلاته، فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا؛ لأن موكل به
فى ذلك، وقد قال عليه السلام: (من صلى ركعتين لا يحدث
فيهما نفسه غفر له) ، وهذا لمغالبته الإنسان، فمن جاهد
شيطانه ونفسه وجبت له الجنة، وقد نظر عليه السلام، إلى
أعلام الخميصة وقال: (إنها شغلتنى) ، فهذا مما لا يستطاع
على دفعه فى الأعم، وقد اختلف السلف فى ذلك فممن كان لا
يلتفت فى الصلاة أبو بكر وعمر، وقال ابن مسعود: إن الله لا
يزال مقبلاً على العبد ما دام فى صلاته ما لم يحدث أو
يلتفت. ونهى عنه أبو الدرداء، وأبو هريرة، وقال عمرو بن
دينار: رأيت ابن الزبير يصلى فى الحجر، فجاءه حجر قدامه
فذهب بطرف ثوبه، فما التفت. وقال ابن أبى مليكة: إن ابن
الزبير كان يصلى بالناس، فدخل سيل فى المسجد فما أنكر
الناس من صلاته شيئًا حتى فرغ منها. وقال الحكم: من تأمل
من يمينه أو شماله فى الصلاة
(2/365)
حتى يعرفه فليست له صلاة، وقال أبو ثور: إن
التفت ببدنه كله أفسد صلاته. وقال الحسن البصرى: إذا
استدبر الرجل القبلة استقبل صلاته، وإن التفت عن يمينه أو
شماله مضى فى الصلاة. ورخصت فيه طائفة، فقال ابن سيرين:
رأيت أنس بن مالك يشرف إلى الشىء فى صلاته ينظر إليه. وقال
معاوية بن قرة: قيل لابن عمر: إن ابن الزبير إذا قام فى
الصلاة لم يتحرك ولم يلتفت فقال: لكنا نتحرك ونلتفت، وكان
إبراهيم يلحظ يمينًا وشمالاً، وكان ابن معقل يفعله. وقال
عطاء: الالتفات لا يقطع الصلاة، وهو قول مالك، والكوفيين،
والأوزاعى. وقال ابن القاسم: وإن التفت بجميع جسده لا يقطع
الصلاة. والحجة لنا أن نبى الله لم يأمر منه بالإعادة حين
أخبر أنه اختلاس من الشيطان، ولو وجبت فيه الإعادة لأمرنا
بها؛ لأنه بعث معلمًا، كما أمر الأعرابى بالإعادة مرة بعد
أخرى.
(2/366)
81 - باب هَلْ يَلْتَفِتُ لأمْرٍ يَنْزِلُ
بِهِ أَوْ يَرَى شَيْئًا أَوْ بُزَاقًا فِي الْقِبْلَةِ
وَقَالَ سَهْلٌ: الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَرَأَى
النَّبِيَّ عليه السلام. / 120 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: رَأَى
رسول الله نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ
يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ، فَحَتَّهَا، ثُمَّ قَالَ
حِينَ انْصَرَفَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ، إِذَا كَانَ فِي
الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلا
يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدكم قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاةِ) .
/ 121 - وفيه: أَنَسُ: (بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي
صَلاةِ الْفَجْرِ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلا رَسُولُ اللَّهِ
كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ،
وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، وَنَكَصَ أَبُو
بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ، لِيَصِلَ لَهُ الصَّفَّ، فَظَنَّ
أَنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ
يَفْتَتِنُوا فِي الصَلاة، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ،
أَتِمُّوا صَلاتَكُمْ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ
مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ (صلى الله عليه وسلم)) .
الالتفات فيما ينوب المصلى ويحتاج إليه إذا كان خفيفًا لا
يضر الصلاة عند العلماء، وقد قال النخعى: إذا دخل على
الإمام السهو، فليلمح من خلفه ولينظر ما يصنع. وموضع
الترجمة من حديث أنس هو أنهم التفتوا إليه عليه السلام،
حين كشف الستر ونظر إليهم فى الصلاة، والدليل على التفاتهم
إليه قول أنس: فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، ولولا
التفاتهم إليه ما رأوا إشارته. قال المهلب: وفى حديث ابن
عمر أن النبى، عليه السلام، حَتَّ النخامة فى الصلاة،
وتكلم بعد الصلاة، وقد يأتى فى بعض
(2/367)
الطرق ما يدل على أنه حَتَّها بعد انقضاء
الصلاة، وكيف كان فإنه عمل يسير يجوز فى الصلاة وهو كبزاقه
فى ثوبه فى الصلاة، ورد بعضه على بعض، وكإباحته البصاق تحت
قدمه وحكه، وهو كله متقارب، قال المهلب: وقد أخبر عليه
السلام، بمعنى كراهية التنخم قِبَلَ الوجه وهو أن الله قبل
وجهه، فوجب أن يكون التنخم قبل الوجه سُوء أدبٍ.
82 - باب وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ لِلإمَامِ وَالْمَأْمُومِ
فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ،
وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالِقرَاءَةِ وَمَا يُخَافَتُ
/ 122 - فيه: جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَكَا أَهْلُ
الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فَعَزَلَهُ،
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا، حَتَّى
ذَكَرُوا أَنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ هَؤُلاءِ
يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فقَالَ: أَمَّا
أَنَا وَاللَّهِ، فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاةَ
رَسُولِ اللَّهِ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاةَ
الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأولَيَيْنِ، وَأُخِفف فِي
الأخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَلكَ الظَّنُّ بِكَ، فَأَرْسَلَ
مَعَهُ رَجُلا أَوْ رِجَالا إِلَى الْكُوفَةِ، يَسَأَلَ
عَنْهُ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلا سَأَلَ عَنْهُ،
وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي
عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ
بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، فقَالَ: أَمَّا
إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لا يَسِيرُ
بِالسَّرِيَّةِ، وَلا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلا
يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، فقَالَ سَعْدٌ: أَمَا
وَاللَّهِ لأدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ
عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ مقام رِيَاءً وَسُمْعَةً،
(2/368)
فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ،
وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ
يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ
سَعْدٍ. قَالَ عَبْدُالْمَلِكِ بن عمير: فَأَنَا
رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَت حَاجِبَاهُ عَلَى
عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ
لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ فيَغْمِزُهُنَّ. / 123 - وفيه:
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قال: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ:
(لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)
. / 124 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ
عَلَى الرسول فَرَدَّه، وَقَالَ: (ارْجِعْ، فَصَلِّ،
فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، قالها: ثلاثًا، ثم قَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ،
فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ،
فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ
الْقُرْآنِ. . .، الحديث. اختلف العلماء فى وجوب القراءة
فى الصلاة فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وجمهور
الفقهاء: قراءة فاتحة الكتاب للإمام والمنفرد واجبة لا
تجزئ الصلاة إلا بها. وقال أبو حنيفة: الواجب فى القراءة
فى الصلاة ما تناوله اسم القرآن، وذلك ثلاث آيات قصار أو
آية طويلة كآية الدَّيْن، من أى سورة شاء، واحتج بقوله
عليه السلام للذى رده ثلاثًا: (اقرأ ما تيسر معك من
القرآن) ، قال: ولم يخص سورة من غيرها، فإذا قرأ ما تيسر
عليه فقد فعل الواجب، وقال أصحابه: قوله: (لا صلاة لمن
يقرأ بفاتحة الكتاب) ، معناه: لا صلاة كاملة، كقوله: (لا
صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد) ؛ لإجماعهم أن صلاته
جائزة فى داره أو حيث صلاها، فنفى عنه الكمال، فكذلك
هاهنا.
(2/369)
قالوا: وحديث عبادة ليس على العموم؛ لأن
المأموم لا تجب عليه قراءة فيما جهر فيه الإمام عند
مخالفنا، ويحملها الإمام عنه فيما أسرّ فيه إذا نسيها
المأموم. وحجة من أوجبها قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ
بفاتحة الكتاب) ، فنفى أن تكون صلاة لمن لم يقرأ بها فهو
على ظاهره إلا ما خصته الدلالة. وأما قوله عليه السلام
للذى رده ثلاثًا: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، فهو
مجمل، وحديث عبادة مفسر، والمفسر قاض على المجمل، فكأنه
قال: اقرأ ما تيسر معك من القرآن، أى: اقرأ فاتحة الكتاب
التى قد أعلمت أنه لا صلاة إلا بها فهى ما تيسر من القرآن.
واختلفوا فى قوله عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ
بفاتحة الكتاب) ، إن كان على العموم أو الخصوص، فقالت
طائفة: هو على العموم، ويجب على المرء فى كل ركعة قراءة
فاتحة الكتاب صلاها منفردًا أو مأمومًا، أو إمامًا فيما
يجهر فيه الإمام أو يسر، هذا مذهب الأوزاعى، والشافعى،
وأبو ثور، وإلى هذا أشار البخارى فى قوله: وجوب القراءة
للإمام والمأموم. وقالت طائفة: قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ
بفاتحة الكتاب) ، على العموم إلا أن يصلى خلف الإمام فيما
يجهر فيه الإمام ويسمع قراءته، فإنه لا يقرأ لقوله: (وإذا
قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراف: 204] ، ولا
يختلف أهل التأويل أن المراد بهذه الآية سماع القرآن فى
الصلاة، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا فى صلاة الجهر؛ لأن
السر لا يستمع إليه ولقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام
ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) ، وقد صححه
أحمد بن حنبل، هذا قول مالك، وأحمد، وإسحاق.
(2/370)
وقالت طائفة: قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ
فيها بفاتحة الكتاب) ، على الخصوص، وإنما خوطب بذلك من صلى
وحده، فأما من صلى مع الإمام فليس عليه أن يقرأ لا فيما
جهر ولا فيما أسرّ، هذا قول الثورى، والكوفيين. واختلفوا
أيضًا هل القراءة واجبة فى الصلاة كلها أو فى بعضها، فقال
مالك: من ترك القراءة فى ركعة من الصبح أو فى ركعتين أو
أكثر من سائر الصلوات أعاد الصلاة وتجزئه فى ترك القراءة
فى ركعة من غير الصبح سجدتا السهو قبل السلام. وقال ابن
الماجشون: من ترك القراءة من ركعة من الصبح أو أى صلاة
كانت تجزئه سجدتا السهو. وقال ابن أبى زيد: روى عن المغيرة
فيمن لم يقرأ فى الظهر إلا فى ركعة منها تجزئه سجدتا السهو
قبل السلام. وقال الشافعى، وجماعة، وأحمد: القراءة واجبة
على الإمام والمنفرد فى كل ركعة، والشافعى يقول ذلك فى
المأموم أيضًا. وقال أبو حنيفة، والثورى: القراءة واجبة فى
ركعتين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، وليس
واجبة فى باقيها، واحتجوا بأن القراءة لو كانت واجبة فى
الأخريين لكان عليه أن يجمع بين فاتحة الكتاب وسورة معها
كالأوليين. والحجة عليهم قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ
بفاتحة الكتاب) ، فهو على عمومه إلا ما قامت عليه الدلالة،
ولما كانت الركعة الواحدة صلاة بإجماع أن الوتر ركعة وهى
صلاة، دل أن القراءة واجبة فى كل
(2/371)
ركعة بفاتحة الكتاب، وأيضًا قول جابر: كل
ركعة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فلم تصل إلا وراء إمام.
وأما ذكر حديث سعد فى هذا الباب فوجهه أنه لما قال: أركد
فى الأوليين وأخفف فى الأخريين علم أنه أراد: أطيل القراءة
فى الأوليين وأقصرها فى الأخريين؛ لأنه لا خلاف بين الأمة
فى وجوب القراءة فى الركعتين الأوليين. وقوله: (أركد) ،
أى: أديم القيام وأثبت فيها، والركود: الثبوت والدوام عند
أهل اللغة، ومنه نهيه عن البول فى الماء الراكد، أى:
الدائم. وقوله: (أحذف فى الأخريين) ، أى: أقصرهما، وأصل
الحذف من الشىء النقص منه. وقوله: (لا أخرم عنها) ، أى: لا
أنقص صلاتى من صلاة رسول الله، وأصل الخرم: قطع بعض وترة
الأنف، يقال إذا قطع ذلك من الرجل: أخرم، والمرأة: خرماء،
ثم يستعمل ذلك فى كل منتقص منه. وفى حديث سعد من الفقه:
أنه من شُكى به من الولاة أنه يسأل عنه الإمام فى موضع
عمله أهل الفضل منهم، ألا ترى أن عمر إنما كان يسأل عنه فى
المساجد عمارها وأهل ملازمة الصلاة فيها. وفيه: أن الوالى
إذا شكى به أنه يعزل إذا رأى ذلك الإمام صلاحًا له، ولمن
شكا به وإن كذب عليه فى الشكاية؛ لأن سعدًا أثنى عليه أهل
الكوفة خيرًا غير شيخ منهم، فعزله عمر ورأى ذلك صلاحًا
للرعية والسياسة لها، لئلا يبقى عليهم أمير وفيهم من
يكرهه، فيتعذب الكاره والمكروه، وربما يؤدى ذلك إلى ما
تسوء عاقبته، وقول عمر لسعد: (ذلك الظن بك) ، يدل أنه لم
يقبل قول الشاكى
(2/372)
عليه، وقد صرح بذلك عمر حين طعنه العلج
فقيل له: أوص يا أمير المؤمنين، فقال لهم: ما أحد أحق بهذا
الأمر من النفر الذين توفى رسول الله وهو عنهم راض، فسماهم
ثم قال: إن أدركت الإمارة سعدًا فهو ذاك وإلا فليستعن به
أيكم ما أُمِّر، فإنى لم أعزله عن عجز ولا خيانة، ذكره
البخارى فى باب مناقب عثمان، رضى الله عنه. روى الطبرى عن
سعد أن الرسول دخل عليه يعوده فى مرضه بمكة، فرقاه وقال:
(اللهم أصح جسمه وقلبه واكشف سقمه، وأجب دعوته) .
83 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ
/ 125 - فيه: جابر بن سمرة: قال سعد: (كنت أصلى بهم صلاة
رسول الله صلاتى العشى لا أخرم عنها، بحيث أركد فى
الأوليين وأحذف فى الأخريين، قال عمر: ذلك الظن بك) . /
126 - وفيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام،
يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ
الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ،
يُطَوِّلُ فِي الأولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ،
يُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي
الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ
يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ،
وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ) . / 127 - وفيه: خَبَّاب
قيل له: أَكَانَ رسول الله يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْنَا: بِأَيِّ شَيْءٍ
كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذلك؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ
لِحْيَتِهِ. قال المؤلف: إنما ساق البخارى هذه الآثار؛
لأنه قد روى عن ابن عباس ما يعارضها، وذلك ما روى أبو ذر،
عن شعبة مولى
(2/373)
ابن عباس، عن ابن عباس أنه سأله رجل أفى
الظهر والعصر قراءة؟ فقال: لا. وروى عنه عكرمة قال: قرأ
رسول الله فى صلوات وسكت، فنقرأ فيما قرأ ونسكت فيما سكت،
فقيل له: فلعله كان يقرأ فى نفسه، فغضب، وقال: تتهم رسول
الله. قال الطحاوى: فذهب قوم إلى ما روى عن ابن عباس،
فقالوا: لا نرى لأحد أن يقرأ فى الظهر والعصر البتة، وهو
قول سويد بن غفلة. وقال الطبرى، قال الآخرون: فى كل صلاة
قراءة، غير أنه يجزئ فيما أُمر المصلى أن يخافت فيه
بالقراءة قراءته فى ركعتين منها، وله أن يسبح فى باقيها،
وروى ذلك عن ابن مسعود، والنخعى، فجعل أهل هذه المقالة
سكوت رسول الله على الخصوص، وقالوا: إنما سكت عن القراءة
فى الأخريين، وأما الأوليين فإنه كان يقرأ فيهما؛ لأنه لا
خلاف بين الجميع أنه كان يقرأ فيما يجهر فيه من الصلوات فى
الأوليين قالوا: فحكم ما خافت فيه الإمام بالقراءة حكم ما
جهر فيه، فى أن فى الأوليين قراءة وترك القراءة فى
الأخريين، هذا قول الكوفيين. وقال آخرون: لم يكن النبى،
عليه السلام، ترك القراءة فى شىء من صلاته، ولكنه كان يجهر
فى بعض ويخافت فى بعض، هذا قول أهل الحجاز، وأحمد، وإسحاق،
وأنكروا قول ابن عباس، وقالوا: قد روى عنه خلاف ذلك بإسناد
أصح من إسناد الخبر عنه بإنكار القراءة فى الظهر والعصر.
وقال الطبرى: وذلك ما حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشام،
عن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (قد علمت السنة كلها،
غير أنى لا أدرى
(2/374)
أكان رسول الله يقرأ فى الظهر والعصر أم
لا) ، ولا يندفع العلم اليقين بغير علم. قال الطحاوى: وقد
روى عن ابن عباس من رأيه خلاف ما تقدم عنه، روى إسماعيل
ابن أبى خالد، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس قال: (اقرأ
خلف الإمام بفاتحة الكتاب فى الظهر والعصر) ، فهذا ابن
عباس قد قال من رأيه: أن المأموم يقرأ خلف الإمام فى الظهر
والعصر، وقد رأينا الإمام يحمل عن المأموم ولم نر المأموم
يحمل عن الإمام شيئًا، فإذا كان المأموم يقرأ فالإمام أحرى
بذلك. وإذ قد صح عنه أنه قال: لا أدرى أقرأ رسول الله أم
لا؟ فقد انتفى ما قال من ذلك؛ لأن غيره قد حقق قراءة رسول
الله فيهما، وهو نص حديث أبى قتادة ودليل حديث خباب، وسعد
وقد روى عن يحيى فى حديث أبى قتادة: أن النبى كان يقرأ فى
الظهر فى الأوليين بأم القرآن وسورتين، وفى الأخريين بأم
الكتاب، وهو قاطع للخلاف، ذكره البخارى فى باب يقرأ فى
الأخريين بفاتحة الكتاب بعد هذا. وروى سفيان عن ابن جريج،
عن عطاء، عن أبى هريرة قال: (فى كل الصلاة قراءة فما
أسمعنا رسول الله أسمعناكم، وما أخفاه عنا أخفيناه عنكم) .
وروى شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله
يقرأ فى الظهر بسبح اسم ربك الأعلى) . وحماد بن سلمة، عن
سماك، عن جابر بن سمرة: (أن نبى الله كان يقرأ فى الظهر
والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج) .
(2/375)
وقال الطبرى: وليس فى خبر ابن عباس إنكاره
القراءة فى الظهر والعصر خلاف فيما ثبته عن النبى، عليه
السلام، أنه قرأ فيها؛ لأن ابن عباس لم يذكر أن النبى،
عليه السلام، قال له: لا قراءة فى الظهر والعصر، وإنما
أخبر أنه سكت فيهما، وغير نكير أن يقول إذا لم يسمعه يقرأ
أنه سكت، فيخبر بما كان من حاله عنده، والذى أخبر ابن عباس
أن النبى لم يقرأ كان الحق عنده، والذى أخبر أنه قرأ فإنه
سمع قراءته. فمن سامع منه الآية ومن سامع منه سورة، ومن
سامع منه أمره بالقراءة فى الصلاة، فوجه ذلك إلى أنه أمر
بالقراءة فى جميع الصلاة، ووجهه غيره إلى أنه أمر بذلك فى
بعض الصلاة، ومن رآه يحرك شفتيه فى الظهر والعصر، فوجهه
إلى أنه لم يحركهما إلا بقراءة القرآن، فكل أخبر بما عنده،
وكل كان صادقًا عند نفسه. والمصيب عين الحق أخبر أنه كان
يقرأ فى الظهر والعصر وذلك أن فى خبر أبى قتادة أنه كان
يسمعهم الآية أحيانًا، فالشاهد إنما يستحق أن يسمى شاهدًا
فيما أخبر عن سماع أو رؤية. فأما من أخبر أنه لم يسمع ولم
ير فغير جائز أن يجعل خبره خلافًا لخبر من قال: رأيت أو
سمعت؛ لأن من قال: رأيت أو سمعت فهو الشاهد، ومن قال: لم
أسمع، فقد أخبر عن نفسه أنه لا شهادة عنده فى ذلك، والنفى
لا يكون شهادة فى قول أحد من أهل العلم. وقال الطحاوى:
وأما النظر فى ذلك، فإنا رأينا القيام والركوع والسجود
فرائض لا تجزئ الصلاة إذا ترك شيئًا منها، وكان ذلك فى
سائر الصلوات سواء، فرأينا القعود الأول سنة فى الصلوات
كلها
(2/376)
سواء، ورأينا القعود الآخر فيه اختلاف بين
الناس، منهم من يقول: هو سنة، ومنهم من يقول: هو فرض، وكل
فريق منهم قد جعل ذلك فى كل الصلوات سواء، فكانت هذه
الأشياء ما كان منها فرضًا فى صلاة كان كذلك فى كل
الصلوات، فلما رأينا القراءة فى الصبح والمغرب والعشاء
واجبة فى قول المخالف لابد منها، كان كذلك فى الظهر
والعصر، وهذه حجج قاطعة على من نفى القراءة فى الظهر
والعصر ويراها فرضًا فى غيرها. وفى قول أبى قتادة: وكان
يسمعنا الآية أحيانًا: دليل أنه كان ذلك من فعله على القصد
إليه والمداومة عليه. وفيه حجة لقول ابن القاسم أنه من جهر
فيما يسر فيه أنه لا سجود عليه إذا كان يسيرًا، وروى عن
مالك: إذا جهر الفذ فيما يسر فيه جهرًا خفيفًا فلا بأس به،
وقد اختلف فيمن أسر فيما يجهر فيه عامدًا، وروى أشهب عن
مالك أن صلاته تامة، وقال أصبغ فيمن أسر فيما يجهر فيه أو
جهر فى الإسرار عامدًا: فليستغفر الله ولا إعادة عليه.
وقال ابن القاسم: يعيد لأنه عابث، وقال الليث: إذا أسر
فيما يجهر فيه فعليه سجود السهو، وقال الكوفيون: إذا أسر
فى موضع الجهر أو جهر فى موضع السر وكان إمامًا سجد لسهوه،
وإن كان وحده فلا شىء عليه، وإن فعله عامدًا فقد أساء
وصلاته تامة، وقال ابن أبى ليلى: يعيد بهم الصلاة إذا كان
إمامًا، وقال الشافعى: ليس فى ترك الجهر والإسرار سجود.
(2/377)
قال المؤلف: ومن لم يوجب السجود فى ذلك
أشبه بدليل هذا الحديث؛ لأنه لما كان السر والجهر من سنن
الصلاة وكان عليه السلام، قد جهر فى بعض صلاة السِّرِّ ولم
يسجد لذلك كان كذلك حكم الصلاة إذا جهر فيها؛ لأنه لو
اختلف الحكم فى ذلك لبينه عليه السلام، ووجب بالدليل
الصحيح أن يكون إذا أسرَّ فيما يجهر فيه أيضًا لا يلزمه
سجود، إذ السرُّ والجهر فى المعنى سواء، ولا وجه لتفريق
الكوفيين بين حكم الإمام والمنفرد فى ذلك؛ إذ لا حجة لهم
فى كتاب ولا سنة ولا نظر. وفيه: أن الحكم فى السر أن يسمع
الإنسان نفسه، وفى حديث خباب الحكم بالدليل؛ لأنهم حكموا
باضطراب لحيته عليه السلام، أنه كان يقرأ.
84 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ
/ 128 - فيه: حديث خباب، وأبى قتادة المتقدمين فى الباب
قبل هذا. وقد تقدم الكلام فى معنى هذا الباب فأغنى عن
إعادته، غير أنا نذكر فى هذا الباب من قرأ فى الظهر والعصر
من السلف. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى، وابن مسعود،
وابن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وأبى الدرداء،
وخباب، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمر، وأبى هريرة،
وعائشة، رضى الله عنهم أجمعين. وقال أبو العالية: العصر
على النصف من الظهر، وقال إبراهيم: تضاعف الظهر على العصر
أربع مرات، وقال الحسن البصرى: القراءة فى الظهر والعصر
سواء، وقال حماد: القراءة فى الظهر والصبح سواء.
(2/378)
85 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ
/ 129 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ
سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (،
فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي
بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا لآخِرُ مَا
سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ يَقْرَأُ بِهَا فِي
الْمَغْرِبِ) . / 130 - وفيه: مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ:
أَن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ له: مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي
الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ المفصل، وَقَدْ سَمِعْتُ الرسول
يَقْرَأُ بِطُولَ الطُّولَيَيْنِ. وترجم له: (باب الجهر فى
المغرب) . / 131 - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يقَرَأَ فِي
الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى الأخذ
بحديث أم الفضل وجبير بن مطعم، وزيد بن ثابت وقلدوها،
وخالفهم فى ذلك آخرون وقالوا: لا ينبغى أن يقرأ فى المغرب
إلا بقصار المفصل، وقالوا: قد يجوز أن يكون يريد بقوله:
قرأ بالطور، قرأ ببعضها وذلك جائز فى اللغة، يقال: فلان
يقرأ: إذا قرأ بشىء منه. والدليل على صحة ذلك ما روى هشيم
عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قدمت
على النبى لأكلمه فى أسارى بدر فانتهيت إليه، وهو يصلى
بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقول: (إن عذاب ربك لواقع ما
له من دافع) [الطور: 7، 8] ، فكأنما صدع قلبى.
(2/379)
فبين هشيم القصة على وجهها، وأخبر أن الذى
سمعه) إن عذاب ربك لواقع (لا أنه سمع الطور كلها، وكذلك
قول زيد بن ثابت لمروان: لقد سمعت رسول الله يقرأ بطول
الطوليين، يجوز أن يكون قرأ ببعضها، والدليل على ذلك ما
رواه حماد عن أبى الزبير، عن جابر أنهم كانوا يصلون المغرب
ثم ينتضلون. وروى حماد، عن ثابت، عن أنس قال: (كنا نصلى
المغرب مع النبى، عليه السلام، ثم يرمى أحدنا فيرى مواقع
نبله) ، فلما كان هذا وقت انصراف رسول الله من صلاة المغرب
استحال أن يكون ذلك، وقد قرأ فيها الأعراف أو نصفها. قال
المؤلف: وقد جاء هذا بينًا فى حديث عائشة أن الرسول قرأ فى
صلاة المغرب بسورة الأعراف فَرَّقَهَا فى ركعتين، خرجه
النسائى من حديث شعيب بن أبى حمزة، عن هشام بن عروة، عن
أبيه، عن عائشة. قال الطحاوى: وقد أنكر الرسول على معاذ بن
جبل حين صلى العشاء بالبقرة وقال له: (أفتان أنت، اقرأ
بسورة والليل إذا يغشى، والسماء ذات البروج، والسماء
والطارق، والشمس وضحاها) ، وكره له أن يقرأ فى العشاء مع
سعة وقتها، فصلاة المغرب مع ضيق وقتها أحرى بذلك. فإن قال
قائل: فهل روى عنه عليه السلام أنه قرأ فى المغرب بقصار
المفصل؟ . قيل: نعم، روى ابن أبى شيبة عن زيد بن الحباب
قال: حدثنا الضحاك بن عثمان قال: حدثنا بكير بن الأشج، عن
سليمان
(2/380)
بن يسار، عن أبى هريرة، قال: كان رسول الله
يقرأ فى المغرب بقصار المفصل. وروى الشعبى عن ابن عمر: أن
رسول الله قرأ فى المغرب بالتين والزيتون، فهذا أبو هريرة
يخبر عن النبى أنه كان يقرأ فى المغرب بقصار المفصل، فلو
حملنا حديث ابن جبير، وزيد بن ثابت على ما حمله المخالف
لتضادت تلك الآثار وحديث أبى هريرة هذا، وإن حملناه على ما
ذكرنا ائتلفت، وأولى أن نحمل الآثار على الاتفاق لا على
التضاد، فينبغى على هذا أن يقرأ فى المغرب بقصار المفصل
وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، وجمهور العلماء. وأما
طول الطوليين، فإن العلماء قالوا: هى سورة الأعراف، ذكر
ذلك النسائى فى حديث زيد بن ثابت من رواية ابن وهب، ومن
رواية ابن جريج. وقال أبو سليمان الخطابى: طولى تأنيث
أطول، والطوليين تثنية الطولى يريد أنه كان يقرأ فيها
بأطول السورتين يعنى الأنعام والأعراف. قال غيره: فإن قيل:
هى البقرة لأنها أطول السبع الطوال. قيل: لو أراد البقرة
لقال: بطول الطول، فلما لم يقل ذلك دل أنه أراد الأعراف،
وهى أطول السور بعد البقرة، ويحتمل أن يكون قرأها فى
الركعتين من المغرب؛ لأنه لم يذكر أنه قرأ معها غيرها. وفى
حديث جبير من الفقه: أن شهادة المشرك بعد إسلامه مقبولة
فيما علمه قبل إسلامه؛ لأن جبيرًا كان يوم سمع رسول الله
مشركًا، قدم فى أسارى بدر.
(2/381)
86 - بَاب الْجَهْرِ فِي الْعِشَاءِ
/ 132 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أنه قَرَأ فِى الْعَتَمَةَ:
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، فَسَجَدَ، فَقيل لَهُ:
فَقَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ، فَلا أَزَالُ
أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. / 133 - وفيه:
الْبَرَاءَ: (أَنَّ الرسول كَانَ فِي سَفَرٍ، فَقَرَأَ فِي
الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ) . وترجم لحديث البراء: باب (القراءة فى
العشاء بالسجدة) ، وباب (القراءة فى العشاء) . سنة العشاء
الجهر بها كالمغرب سواء، وقراءته عليه السلام، فيها بإذا
السماء انشقت، وبالتين والزيتون، يدل أنه لا توقيت فى
القراءة فى الصلوات لا يجزئ غيره، إلا أنه حين قرأ فى
العشاء بالتين والزيتون كان فى سفر، وأما فى الحضر فإنه
كان يقرأ: (إذا السماء انشقت) ، ونحوها، وأطول منها، وقد
قرأ عمر بن الخطاب فى إحدى الركعتين بالتين والزيتون،
وترجم لحديث البراء: باب القراءة فى العشاء بالسجدة، وكتب
إلى أبى موسى الأشعرى: اقرأ بالناس فى العشاء الآخرة بوسط
المفصل، روى سليمان بن يسار، عن أبى هريرة، عن الرسول
مثله، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره أشهب، وقرأ فيها
عثمان بن عفان بالنجم، وقرأ ابن عمر بالذين كفروا والفتح،
وهى أطول المفصل، وروى على بن زياد، عن مالك قال: يقرأ
فيها بالحاقة ونحوها. وأجاز العلماء للمسافر إذا أعجله
أصحابه أو استغيث به
(2/382)
لميت يموت أن يقرأ سورة قصيرة، كما قرأ
الرسول بالتين والزيتون فى السفر، وهو قول مالك، وقد قرأ
أبو هريرة فى العشاء بالعاديات، ويحتمل أن يكون فى سفر أو
يكون أعجلته حاجة لذلك، والله أعلم. وأما القراءة بالسجدة
فى العشاء وسائر المكتوبات فأجازه من العلماء من قال
بالسجود فى المفصل، وقد اختلفت الرواية عن مالك فى ذلك،
ففى المدونة: كره مالك للإمام ان يتعمد قراءة سورة فيها
سجدة، لئلا يخلط على الناس، فإن قرأها فليسجد، وأكره أن
يتعمدها الفذ، وروى عنه أشهب أنه إذا كان مع الإمام قليل
من الناس لا يخاف أن يخلط عليهم فلا بأس بذلك، وروى عنه
ابن وهب أنه قال: لا بأس أن يقرأ الإمام بالسجدة فى
الفريضة.
87 - باب يُطَوِّلُ فِي الأولَيَيْنِ، وَيَحْذِفُ فِي
الأخْرَيَيْنِ
/ 134 - فيه: جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ
لِسَعْدٍ: لَقَدْ شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى
الصَّلاةِ، قَالَ: أَمَّا أَنَا، فَأَمُدُّ فِي
الأولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأخْرَيَيْنِ، وَلا آلُو
مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ:
صَدَقْتَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ ظَنِّي بِكَ. قال
الطبرى: فيه البيان أن السنة من الرسول مضت فى صلاة
الفريضة أن تكون الركعتان الأوليان أطول من الأخريين أو
ركعته الآخرة إن كانت المغرب، وذلك أن سعدًا أخبر عمر أنه
يركد فى الأوليين
(2/383)
ويخفف فى الأخريين وأنه مُقْتد برسول الله
فى ذلك، فإذا كان كذلك فالذى ينبغى لكل مصل مكتوبة أن يفعل
كذلك. فإن قيل: أفرأيت إن خالف ذلك فأطال فى ركعتيه
الأخريين وخفف فى الأوليين. قيل: نقول: إنه خالف فى ذلك
سنة الصلاة غير أن صلاته ماضية لا خلاف بين الجميع فى
جوازها، ولو لم يقرأ فى جميعها إلا فاتحة الكتاب، وذلك
تسوية بين جميعها فى التخفيف، فإذا كان ذلك غير مفسدها
فالواجب أن تكون المخالفة بينهما بإطالة الأخريين وتخفيف
الأوليين غير مفسدها. وفى (المختصر) ، عن مالك قال: لا بأس
أن يقرأ فى الثانية بأطول من قراءته فى الأولى، وقال
الطحاوى: ذهب الثورى ومحمد إلى أنه يطيل فى الركعة الأولى
من الصلوات كلها. وفى (الواضحة) قال: والصبح والظهر
نظيرتان فى طول القراءة ويستحب أن تكون الركعة الأولى
أطول. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يطول الركعة الأولى من
صلاة الفجر على الثانية، وركعتا الظهر سواء، قال الطحاوى:
ولم نجد فى ذلك عن مالك نصًا، وتقدير القراءة يدل أنه كان
يرى التسوية دون التفضيل، وحديث سعد يدل على تسوية
الأوليين من الظهر والعصر، وقد ذكر البخارى فى باب
(القراءة فى الظهر) ، حديث أبى قتادة أن نبى الله كان يقرأ
فى الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب،
وسورتين يطول فى الأولى ويقصر فى الثانية وهو فى العصر
كذلك، وهو الحجة للثورى ومحمد أن الركعة الأولى فى كل
الصلوات أطول
(2/384)
من الثانية، وهو رد لقول أبى حنيفة، وأبى
يوسف أن ركعتا الظهر سواء. وقوله: لا آلو: لا أقصر، تقول
العرب: ما آليت فى حاجتك وما آلوتك نصحًا: ما قصرت بك عن
جهدى، فى كتاب الأفعال.
88 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَرَأَ رسول الله بِالطُّورِ. /
135 - وفيه: أبو بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ، قَالَ: (كَانَ
رسول الله يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ،
وَالْعَصْرَ، وَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى
الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ
فِي الْمَغْرِبِ، وَلا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ
إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَلا يُحِبُّ النَّوْمَ
قَبْلَهَا، وَلا الْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَيُصَلِّي
الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ، فَيَبصر جَلِيسَهُ،
وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا،
مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ) . / 136 - وفيه:
أَبَو هُرَيْرَةَ قال: فِي كُلِّ صَلاةٍ يُقْرَأُ، فَمَا
أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا
أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَاه عَنْكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ
عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ
خَيْرٌ. اتفق العلماء على أن أطول الصلوات قراءة الفجر،
وبعدها الظهر إلا أن البخارى لم يدخل غير حديث أبى برزة:
أن نبى الله كان يقرأ فى الصبح ما بين الستين إلى المائة،
وذكر عن أم سلمة: (أن الرسول قرأ
(2/385)
بالطور) ، وذكره فى الباب بعد هذا، وذكر
فيه ابن عباس: (أنه عليه السلام قرأ: قل أوحى) ، وذكر ابن
أبى شيبة: سماك، عن جابر بن سمرة: (أن قراءة الرسول فى
الفجر كانت ب (قاف) ، ونحوها) . واختلفت الآثار عن الصحابة
فى ذلك، فروى عن أبى بكر الصديق أنه قرأ بسورة البقرة فى
الركعتين. وعن عمر بن الخطاب: أنه قرأ بيونس وبهود، وقرأ
عثمان بيوسف وبالكهف، وقرأ على بالأنبياء، وقرأ عبد الله
بسورتين الآخرة منها بنو إسرائيل، وقرأ معاذ بالنساء، وقرأ
عبيدة بالرحمن ونحوها، وقرأ إبراهيم بياسين وأشباهها، وقرأ
عمر بن عبد العزيز بسورتين من طوال المفصل. فدل هذا
الاختلاف عن السلف أنهم فهموا عن الرسول إباحة التطويل
والتقصير فى قراءة الفجر وأنه لا حدَّ فى ذلك لا يجوز
تعديه، ويمكن والله أعلم، أن يكون من طول القراءة فيها من
الصحابة علم حرص من خلفهم على التطويل وأما اليوم فينبغى
التزام التخفيف؛ لأن فى الناس السقيم والكبير وذا الحاجة
كما قال عليه السلام، لمعاذ، ألا ترى قول أبو هريرة: (إن
لم تزد على أم القرآن أجزأت، فإن زدت فهو خير) ، فدل ذلك
أنه لا حد فى ذلك، وقد قال مالك فى الرجل يبادر التجارة أو
يستغاث به أو يدعى لميت وهو فى الصبح والظهر: أن يقرأ
بالسورة القصيرة وكذلك المسافر يعجله أصحابه.
89 - باب الْجَهْرِ بالقِرَاءَةِ في صَلاةِ الْفَجْرِ
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: طُفْتُ وَرَاءَ النَّاسِ
وَالنَّبِيُّ يُصَلِّي، وَيَقْرَأُ بِالطُّورِ.
(2/386)
/ 137 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
(انْطَلَقَ رسول الله فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ
الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ
عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى
قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ
عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ،
فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا،
فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ
خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ
تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ عليه
السلام، وَهُوَ بِنَخْلَةَ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ
عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ،
فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ،
فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى
قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا: (إِنَّا سَمِعْنَا
قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ
وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن 1، 2] ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم)
: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) [الجن 1] ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ
إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ) . / 138 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: (قَرَأَ الرسول فِيمَا أُمِرَ، وَسَكَتَ فِيمَا
أُمِرَ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم 64] : و)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ) [الأحزاب 21] ) . الجهر فى الفجر هى السنة وقد
تقدم فى الباب قبل هذا مذاهب العلماء فى القراءة فى الفجر.
فإن قال قائل: إن حديث ابن عباس يدل أن الشهب إنما رميت فى
أول الإسلام من أجل استراق الشياطين السمع. قيل: رمى الشهب
لم يزل قبل الإسلام وعلى مرِّ الدهور، وروى معمر وغيره عن
الزهرى، عن على بن حسين، عن ابن
(2/387)
عباس فى قوله تعالى: (يجد له شهابًا رصدًا)
[الجن: 9] ، قال: (بينا الرسول جالس فى نفر من أصحابه إذ
رمى بنجم فاستنار فقال: (ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا
فى الجاهلية؟) قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم،
قال: (فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا
تعالى، إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء
الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء، ثم يستخبر أهل
السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر
أهل كل سماء حتى ينتهى الخبر إلى السماء الدنيا ويخطف الجن
السمع، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه)
، قلت للزهرى: أو كان يرمى بها فى الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أرأيت قوله تعالى: (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع
فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا) [الجن: 9] ، قال:
غلظت وشدد أمرها حين بعث الله النبى، عليه السلام) . وأما
قول ابن عباس: (سكت رسول الله فيما أمر) يريد أسرَّ بما
أُمِرَ، بدليل قول خباب: أنهم كانوا يعرفون قراءة رسول
الله فيما أسر فيه باضطراب لحيته، فسمى السرَّ: سكوتًا،
ولا يظن بالرسول أنه سكت فى صلاة صلاها؛ لأنه قد قال: (لا
صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) .
(2/388)
90 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ
فِي الرَّكْعَةِ، وَالْقِرَاءَةِ بِالْخَوَاتِيمِ،
وَبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ، وَبِأَوَّلِ سُورَةٍ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ السَّائِبِ: (قَرَأَ
النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُؤْمِنُينَ فِي
الصُّبْحِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ
أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ) .
وَقَرَأَ عُمَرُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى بِمِائَةٍ
وَعِشْرِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ
بِسُورَةٍ مِنَ الْمَثَانِي. وَقَرَأَ الأحْنَفُ
بِالْكَهْفِ فِي الأولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ
أَوْ يُونُسَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ
الصُّبْحَ بِهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ
بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنَ الأنْفَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ
بِسُورَةٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِيمَنْ
يَقْرَأُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ، أَوْ
يُرَدِّدُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ: كُلٌّ
كِتَابُ اللَّهِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ ثَابِتٍ،
عَنْ أَنَسِ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ
فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً
يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاةِ مِمَّا يَقْرَأُ
بِهِ، افْتَتَحَ بِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حَتَّى
يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ بسُورَةً أُخْرَى
مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ،
فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ
بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لا نَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ
حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا،
وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا، وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ:
مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، فإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ
أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ
تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ
أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ،
فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم)
أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: (يَا فُلانُ، مَا
يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ
أَصْحَابُكَ؟ ، وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ
السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟) فَقَالَ: إِنِّي
أُحِبُّهَا، فَقَالَ: (حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ
الْجَنَّةَ) . / 139 - فيه: أَبَو وَائِلٍ: جَاءَ رَجُلٌ
إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ
اللَّيْلَةَ
(2/389)
فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ
الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ
رسول الله يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ
سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ، سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ. اختلف العلماء فى جمع السورتين فى كل ركعة،
فأجاز ذلك ابن عمر، وكان يقرأ بثلاث سور فى ركعة، وقرأ
عثمان بن عفان، وتميم الدارى القرآن كله فى ركعة. وكان
عطاء يقرأ سورتين فى ركعة أو سورة فى ركعتين فى المكتوبة،
وقال مالك فى المختصر: لا بأس بأن يقرأ السورتين وثلاث فى
ركعة، وسورة أحب إلينا ولا يقرأ بسورة فى ركعتين، فإن فعل
أجزأه، وقال مالك فى المجموعة: لا بأس به وما هو من الشأن،
وأجاز ذلك كله الكوفيون. وممن كره الجمع بين سورتين فى
ركعة زيد بن خالد الجهنى، وأبو العالية، وأبو بكر ابن عبد
الرحمن بن الحارث، وأبو عبد الرحمن السلمى وقال: احظ كل
سورة حظها من الركوع والسجود. وروى عن ابن عمر أنه قال: إن
الله فَصَّل القرآن لتعطى كل سورة حظها من الركوع والسجود،
ولو شاء لأنزله جملة واحدة، والقول الأول أولى بالصواب
لحديث ابن مسعود: أن النبى، عليه السلام، كان يقرن بين سور
المفصل سورتين فى ركعة. قال الطحاوى: وقد قال عليه السلام:
(أفضل الصلاة طول القيام) ، فذلك حجة على من خالف ذلك،
ودليل واضح أن الأفضل من الصلوات ما أطلت فيه القراءة، ولا
يكون ذلك إلا بالجمع بين السور الكثيرة فى ركعة وقد فعل
ذلك الصحابة والتابعون، وثبت عن
(2/390)
ابن عمر أنه فعله بخلاف ما روى عنه، وأما
من جهة النظر فإنا رأينا فاتحة الكتاب تقرأ هى وسورة غيرها
فى ركعة، ولا بأس بذلك، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك سائر
السور. وأما القراءة بالخواتيم وبأول سورة، فروى ابن
القاسم وعلى عن مالك: إذا بدأ بسورة وختم بأخرى فلا شىء
عليه، وقد كان بلال يقرأ من غير سورة، وقد قرأ، عليه
السلام، المؤمنين فى الصبح فأخذته سعلة فى ذكر عيسى فركع،
وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الأنفال. وأما قراءة سورة
قبل سورة ففى (المختصر) عن مالك: أنه لا بأس أن يقرأ فى
الثانية بسورة قبل التى قرأ فى الأولى وقراءة التى بعدها
أحب إلينا، وروى عنه ابن القاسم ذلك كله سواء ولم يزل ذلك
من عمل الناس. وأما تردد سورة واحدة فى الركعتين، ففى
(الواضحة) ، عن مالك: لا بأس به، وروى ابن القاسم عن مالك
فى (العتبية) ، أنه سئل عن تكرير (قل هو الله أحد) فى
النافلة، فكرهه وقال: هذا مما أحدثوا، ومعنى كراهته
لتكريرها يريد فى ركعة واحدة يكررها مرارًا. وفى حديث أنس
حجة لمن أجاز تكريرها فى الفريضة فى كل ركعة؛ لقوله عليه
السلام للذى كان يكررها: (حبك إياها أدخلك الجنة) ، فدل
ذلك على جواز فعله ولو لم يجز لبين له ذلك؛ لأنه بعث
(2/391)
معلمًا، وقد روى البخارى مثل حديث أنس عن
عائشة: (أن الرسول بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه
فى صلاتهم فيختم: ب (قل هو الله أحد) ، فلما رجعوا ذكروا
ذلك للنبى، عليه السلام، فقال: سلوه لأى شىء يصنع ذلك،
فقال: لأنها صفة الرحمن، فقال عليه السلام: (فأخبروه أن
الله يحبه) ، ذكره فى باب الاعتصام فى باب دعاء النبى،
عليه السلام، أمته إلى توحيد الله، تعالى. وقد روى فى الذى
كان يقرأ: قل هو الله أحد، أنه كان يرددها فى صلاة النافلة
ولا يقرأ غيرها رواه الدارقطنى من حديث مالك، عن عبد الله
بن أبى صعصعة، عن أبيه، عن أبى سعيد الخدرى، قال: (وحدثنى
أخى قتادة بن النعمان أن رجلاً قام من الليل يقرأ: قل هو
الله أحد، يرددها لا يزيد عليها، فجاء رجل إلى الرسول
فأخبره، وكان يتقالها، فقال: (إنها لتعدل ثلث القرآن) .
ففيه حجة لمن أجاز تكرارها فى ركعة واحدة فى النافلة. وروى
وكيع، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن محمد بن كعب
القرظى، قال: من قرأ فى سبحة الضحى: قل هو الله أحد، عشر
مرات بنى له بيت فى الجنة. قال المهلب: وأما إنكار ابن
مسعود على الرجل قراءة المفصل فى ركعة، فإنما فعل ذلك
ليحضه على تدبر القرآن؛ لقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن
أم على قلوب أقفالها) [محمد: 24] ، لا أنه لا تجوز قراءة
المفصل فى ركعة، فقد تجوز قراءة القرآن بغير تدبر، وقد جاء
فى الحديث:
(2/392)
أن الله جعل فى كل حرف منه عشر حسنات، فإن
تدبره أعظم لأجره إلى ما لا نهاية له من تفضل الله تعالى.
وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قول ابن مسعود: (لقد عرفت
النظائر التى كان رسول الله يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة
من المفصل سورتين فى كل ركعة) ، فدل أن صلاته بالليل عليه
السلام، كانت عشر ركعات، وكان يوتر بواحدة. وقوله: قرأ عمر
بسورة من المثانى، فقال شيبان النحوى: المثانى: ما لم تبلغ
مائة آية، وقال طلحة بن مصرف: المثانى: عشرون سورة،
والمئون إحدى عشرة سورة، وروى عن ابن مسعود مثله، قال أهل
اللغة: إنما سميت مثانى؛ لأنها ثنت المئين، أى: أتت بعدها،
والمفصل سمى مفصلاً لكثرة السور فيه، والفصول، يعنى: بسم
الله الرحمن الرحيم، عن ابن عباس.
91 - باب يَقْرَأُ فِي الأخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ
/ 140 - فيه: أَبو قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ، عن النَّبِيَّ
عليه السلام: (كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي
الأولَيَيْنِ بِأُمِّ القرآن وَسُورَتَيْنِ، وَفِي
الرَّكْعَتَيْنِ الأخْرَيَيْنِ بِأُمِّ القرآن،
وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ
الأولَى، مَا لا يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ،
وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ) . وقد
تقدم معنى هذا الباب فى باب القراءة فى الظهر، ونزيده
هاهنا بيانًا وذلك أن حديث أبى قتادة هذا من رواية همام
بيّن
(2/393)
فى ردِّ قول الكوفيين ومن وافقهم أن
الركعتين الأخريين إن شاء قرأ فيهما وإن شاء سبح؛ لأن
همامًا بيَّن فى روايته لهذا الحديث أن النبى، عليه
السلام، قرأ فى الركعتين الأخريين من الظهر بفاتحة الكتاب،
وقال: إنه كان يسمعهم الآية أحيانًا، فثبت قول من أوجب
القراءة فى كل ركعة وسقط قول من قال بالتسبيح فى الأخريين
من الظهر والعصر؛ لأنه مخصوص بالسُّنَّةِ الثابتة، وأيضًا
فإنه عليه السلام قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة
الكتاب) ، ولما كانت الركعة الواحدةُ صلاةً، بإجماع أن
الوتر ركعة وهى صلاة، دل أن القراءة واجبة فى كل ركعة
بفاتحة الكتاب. وفيه: أن الركعتين الأوليين أطول من
الأخريين فى كل صلاة؛ لأنه إذا قرأ فى الأوليين بأم القرآن
وسورة، وقرأ فى الأخريين بأم القرآن وحدها، دل أن الأوليين
أطول من الأخريين. وترجم له: (باب إذا أسمع الإمام الآية)
، وقد تقدم القول فيه. وترجم له: (باب يطول فى الركعة
الأولى) ، وذلك بَيِّن فى الحديث.
92 - باب جَهْرِ الإمَامِ بِالتَّأْمِينِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ، دُعَاءٌ أَمَّنَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ، وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ
لَلَجَّةٌ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُنَادِي الإمَامَ:
لا تَفُتْنِي بِآمِينَ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ
عُمَرَ لا يَدَعُهُ، وَيَحُضُّهُمْ عليه، وَسَمِعْتُ
مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا.
(2/394)
/ 141 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ: (إِذَا أَمَّنَ الإمَامُ،
فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ
تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ) . وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ يَقُولُ: (آمِينَ) . اختلف العلماء فى الإمام
يقول: آمين، فروى مطرف، وابن الماجشون، عن مالك أن الإمام
يقول: آمين كالمأموم على حديث أبى هريرة، وهو قول أبى
حنيفة، والثورى، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد،
وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: لا يقول الإمام: آمين،
وإنما يقول ذلك من خلفه، وإن كان وحده قالها، هذا قول مالك
فى المدونة، وقاله المصريون من أصحابه. وحجة هذا القول
قوله، عليه السلام: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم
ولا الضالين) [الفاتحة: 7] ، فقولوا: آمين) ، قالوا: فلو
كان الإمام يقول آمين، لقال عليه السلام: إذا قال الإمام:
آمين، فقولوا: آمين، ووجدنا فاتحة الكتاب دعاء، فالإمام
داع والمأموم مؤمن، وكذلك جرت العادة أن يدعو واحد ويؤمن
المستمع، وقد قال تعالى فى قصة موسى وهارون: (قد أجيبت
دعوتكما) [يونس: 89] ، فسماهما داعيين، وإنما كان موسى
يدعو وهارون يؤمن، فدل ذلك أن الإمام داع بما فى فاتحة
الكتاب والمأموم مستجيب؛ لأن معنى آمين فى اللغة: استجب
لنا. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام: (إذا
أمن الإمام فأمنوا) ، قالوا: وذلك يدل أن الإمام يقول:
آمين، ومعلوم أن قول المأموم هو: آمين فكذلك ينبغى أن يكون
قول الإمام.
(2/395)
قالوا: وكذلك قول أبى هريرة للإمام: لا
تسبقنى بآمين يدل أن الإمام يقول: آمين؛ ألا ترى قول ابن
شهاب: كان رسول الله يقول: (آمين) . واختلفوا فى الجهر
بها، فذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى الجهر
بها، وروى ابن وهب، وأبو مصعب عن مالك أن الإمام يُسر بها
وهو قول الكوفيين، وروى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وعن
النخعى، والشعبى، وابن أبى ليلى. وحجة من جهر بها قوله
عليه السلام: (إذا أمن الإمام فأمنوا) ، وها يدل أنه ينبغى
أن يكون قولهم بعد قوله كتكبيرهم بعد تكبيره، فلو أن
الإمام يُسرُّ بها لم يمكن من وراءه أن يؤمنوا بتأمينه.
وقد قال عطاء: كنت أسمع الأئمة يقولون على إثر أم القرآن:
آمين، هم ومن وراءهم حتى إن للمسجد لَلَجَّة. ووجه الإخفاء
بها قوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعًا وخفية) [الأعراف: 55]
، وقد مدح الله زكريا بقوله: (إذ نادى ربه نداء خفيا)
[مريم: 3] ، وقال ابن وهب: عن مالك لم أسمع فى الجهر بها
للإمام إلا حديث ابن شهاب، ولم أره فى حديث غيره. واللّجة:
اختلاط الأصوات، وأَلَجَّ القوم: إذا سمعت لهم لجة، أى:
صوتًا، والتجت الأصوات: اختلطت، من كتاب العين. قال
المؤلف: معنى قول أبى هريرة للإمام: لا تسبقنى بآمين، أى:
لا تحرم فى الصلاة حتى أفرغ من الإقامة لئلا تسبقنى بقراءة
أم القرآن
(2/396)
فيفوتنى التأمين معك، وهو حجة لمذهب
الكوفيين لأنهم يقولون: إذا بلغ المؤذن فى الإقامة إلى
قوله: قد قامت الصلاة وجب على الإمام الإحرام، والفقهاء
على خلافهم، لا يرون إحرام الإمام إلا بعد تمام الإقامة
وتسوية الصفوف، وقد تقدم بيان هذا فى باب الإمام تعرض له
الحاجة بعد الإقامة فى أبواب الأذان.
93 - باب فَضْلِ التَّأْمِينِ
/ 142 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: (إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتِ
الْمَلائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ
إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ) . وقال المهلب: كان أبو محمد الأصيلى يقول فى
معنى الموافقة فى هذا الحديث أن تقول الملائكة: آمين، كما
يقول المصلون، ولا يراعى موافقة المؤمن؛ لأنه قد يقول
القائل: وافقت فلانًا على قول كذا إذا قال مثله وسواء قاله
قبله أو بعده، وإنما يأجر الله تعالى، على الاتفاق فى
القول والنية لا على وقوع الكلام فى زمن واحد. قال المهلب:
والذى يشتق من ظاهر هذا الحديث أن يكون قول الملائكة وقول
المصلين فى زمن واحد. قال غيره: وتأمين الملائكة هو
استغفارهم للمصلين ودعاؤهم أن يستجيب الله منهم كما قال
تعالى: (ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة
وعلمًا فاغفر للذين تابوا) [غافر: 7] الآية، فإذا كان
تأمين العبد مع تأمين الملائكة يرتفعا إلى الله فى زمن
(2/397)
واحد، وتأمين الملائكة مجاب وشفاعتهم يوم
القيامة مقبولة فيمن استشفعوا له، فلا يجوز فى تفضل الله
أن يجاب الشفيع إلا وقد عم المشفوع له الغفران، والله
أعلم، وهذا أولى بتأويل الحديث.
94 - باب جَهْرِ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ
/ 143 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: (إِذَا قَالَ الإمَامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة 7] فَقُولُوا:
آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ
الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)
. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: قوله:
(إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (،
فقولوا: آمين) ، خطاب للمأمومين أن يقولوا: آمين، دون
الإمام قالوا: وهذا ظاهر الحديث ولم يرو للإمام قول آمين،
وهى رواية ابن القاسم عن مالك. وقالت طائفة أخرى: معناه:
إذا بلغ الإمام موضع التأمين وهو قوله: (غير المغضوب عليهم
ولا الضالين (، وقال: آمين، فقولوا: آمين. واحتجوا بما
رواه معمر، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة
قال: قال رسول الله: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم
ولا الضالين (، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين،
وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة
غفر له ما تقدم من ذنبه) . وبما رواه الليث، عن خالد بن
يزيد، عن أبى هلال، عن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبى
هريرة فقرأ بأم القرآن، فلما بلغ: (غير المغضوب عليهم ولا
الضالين (، قال:
(2/398)
آمين، وقال الناس: آمين، فلما سلم قال:
والله إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، فهذا فعل أبى هريرة
وهو راوى الحديث عن الرسول، وأقسم أنه أشبههم صلاة برسول
الله، فعلى هذا ينتفى التعارض من هذا الحديث، وبين قوله:
إذا أمن الإمام فأمنوا. وقد جمع الطبرى بين الحديثين فقال:
ليس فى أحدهما دفع لصاحبه؛ لأن الحديثين كلاهما عن أبى
هريرة، وذلك أن التأمين فى الصلاة ليس من الأمور التى لا
يجوز تركها، وإنما المصلى مندوب إليه إمامًا كان أو
مأمومًا، فأخبر عليه السلام، أن المأموم إذا أمن بعد فراغ
الإمام من فاتحة الكتاب فله من الأجر ما ذكر، وكذلك إذا
أمن بعد تأمين الإمام فله من الأجر مثل ذلك، وليس فى أحد
الحديثين معنى يدفع ما فى الآخر، بل فى كل واحد منهما ما
فى الآخر من وجه، وفيه ما ليس فى الآخر من وجه، فالذى فيه
ما ليس فى الآخر أمر من خلف الإمام بالتأمين إذا أمن
القارئ، والذى فى الآخر أمرٌ لهم بالتأمين إذا قال الإمام:
(ولا الضالين (، وإن لم يؤمن الإمام، فذلك زيادة معنى على
ما فى الحديث الآخر، وأما ما هما متفقان فيه ما لقائل ذلك
من الثواب، وهذا المراد من الحديث سواء أمن الإمام أم لا.
وأما جهر المأموم بالتأمين فليس بينا فى الحديث؛ لأن قوله
عليه السلام: (فقولوا آمين) ، لا يقتضى الجهر دون السر،
لكن لما كان الإمام يجهر بالتأمين، ولولا ذلك ما سمعه
المأموم، وكانوا مأمورين باتباع الإمام فى فعله وجب على
المأموم الجهر بها كما جهر بها الإمام، هذا وجه الترجمة.
(2/399)
وقد اختلف العلماء فى ذلك فقال عطاء،
وعكرمة: لقد أتى علينا زمان إذا قال الإمام: (ولا الضالين
(سمعت لأهل المسجد رجة من قولهم: آمين. وقالت طائفة:
يُسرُّ بها المأموم، وقال الطبرى: والخبر بالجهر بآمين
والمخافتة بها صحيحان، وقد عمل بكل واحد منهما جماعة من
علماء الأمة، وذلك يدل أنه مما خيرهم رسول الله فى العمل
بأى ذلك شاءوا، ولذلك لم ينكر بعضهم على بعض ما كان منهم
فى ذلك، وإن كنت مختارًا خفض الصوت بها؛ إذ كان أكثر
الصحابة والتابعين على ذلك.
95 - باب إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ
/ 144 - فيه: أَبو بَكْرَةَ: (أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى
النَّبِيِّ عليه السلام، وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ
أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ
عليه السلام، فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلا
تَعُدْ) . اختلف العلماء فيمن ركع دون الصف، فروى عن زيد
بن ثابت، وابن مسعود، أنهما ركعا دون الصف ومشيا إلى الصف
ركوعًا، وفعله سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة،
وعطاء، وقال مالك، والليث: لا بأس أن يركع الرجل وحده دون
الصف ويمشى إلى الصف إذا كان قريبًا قدر ما يلحق به. وقال
أبو حنيفة، والثورى: يكره للواحد أن يركع دون الصف
(2/400)
ثم يتقدم، ولا يكره ذلك للجماعة، ذكره
الطحاوى، قال: وأجاز مالك، والكوفيون، والليث، والشافعى
صلاة المنفرد دون الصف وحده، قال مالك: ولا يجذب إليه
رجلاً، وقال الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر: إن ركع
وحده دون الصف بطلت صلاته، واحتجوا بقوله عليه السلام لأبى
بكرة: (زادك الله حرصًا ولا تعد) ، فدل أن صلاته غير
صحيحة. قالوا: وقد قال أبو هريرة: لا تكبر حتى تأخذ مقامك
من الصف. قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى أن أبا
بكرة ركع دون الصف، فلم يأمره النبى بإعادة الصلاة، ولو
كان من صلى خلف الصف وحده لا تجزئه صلاته لكان من دخل فى
الصلاة خلف الصف لا يكون داخلاً فيها، فلما كان دخول أبى
بكرة فى الصلاة دون الصف دخولاً كانت صلاة المصلى كلها دون
الصف صحيحة. فإن قيل: فما معنى قوله: (ولا تعد؟) . قيل: له
عندنا معنيان: أحدهما: لا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم
فى الصف كما روى ابن عجلان، عن الأعرج، عن أبى هريرة، قال:
قال رسول الله: (إذا أتى أحدكم إلى الصلاة فلا يركع دون
الصف حتى يأخذ مكانه منه) . والثانى: لا تعد أن تسعى إلى
الصلاة سعيًا يحفزك فيه النفس، كما روى حماد بن سلمة، عن
زياد الأعلم، عن الحسن، عن أبى
(2/401)
بكرة قال: (جئت ورسول الله راكع، وقد حفزنى
النفس، فركعت دون الصف. . .) ، وذكر الحديث. قال ابن
القصار: فجاء يلهث وكان عليه السلام، أمرهم أن يأتوا
الصلاة وعليهم السكينة. قال الطحاوى: ولا يختلفون فيمن صلى
وراء إمام فى صف، فخلا موضع رجل أمامه أنه ينبغى له أن
يمشى إليه، وفى تقدمه من صف إلى صف هو فيما بين الصفين فى
غير صف، فلم يضره ذلك ولم يخرجه من الصلاة. فلو كانت
الصلاة لا تجزئ إلا لقائم فى صف لفسدت على هذا صلاته لما
صار فى غير صف، وإن كان ذلك أقل القليل، كما لو أن من وقف
على موضع نجس أقل القليل وهو يصلى أفسد ذلك عليه صلاته،
فلما أجمعوا أنهم يأمرون هذا بالتقدم إلى ما قد خلا أمامه
من الصف، ولا يفسد ذلك عليه كونه فيما بين الصفين فى غير
صف، دل ذلك أن من صلى دون الصف أن صلاته تجزئه.
96 - باب إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الرسول، فِيهِ مَالِكُ بْنُ
الْحُوَيْرِثِ. / 145 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنٍ:
أنه صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَقَالَ:
ذَكَّرَنَا هَذَا الرَّجُلُ صَلاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ
كُلَّمَا رَفَعَ، وَكُلَّمَا وَضَعَ.
(2/402)
/ 146 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ
كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فَكَبِّرُ، كُلَّمَا خَفَضَ
وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ: إِنِّي لأشْبَهُكُمْ
صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ. وترجم لحديث عمران: (باب إتمام
التكبير فى السجود) . / 147 - وزاد فيه: (فَكَانَ إِذَا
سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ) . وترجم
لحديث أبى هريرة: (باب التكبير إذا قام من السجود) . / 148
- وزاد فيه: عن أَبَى هُرَيْرَةَ: (أَنَ النبى، عليه
السلام، كان يكبر إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، ثُمَّ
يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ
لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ
الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ
يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ
فِي الصَّلاةِ كُلِّهَا، ثم يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ
الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ) . / 149 - وذكر فيه حديث
عِكْرِمَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ،
فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، فَقُلْتُ
لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَحْمَقُ، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ
أُمُّكَ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ. قال المؤلف: هذه
الآثار تدل على أن التكبير فى كل خفض ورفع لم يكن مستعملاً
عندهم، ولولا ذلك ما قال عمران: ذكرنا على صلاة رسول الله،
ولا قال أبو هريرة: إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، ولا أنكر
عكرمة على الذى كبر اثنتين وعشرين تكبيرة، ولا نسبه إلى
الحمق، وهذا يدل أن التكبير فى غير الإحرام لم يتلقه السلف
على أنه ركن من أركان الصلاة، وقد فعله جماعة من السلف
وتركه جماعة، ولم يقل أحد ممن فعله للذى لم يفعله إن صلاتك
لا تتم إلا به. فممَّن كان يُتم التكبير ولا ينقصه فى
الصلاة فى كل خفض ورفع: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وابن
مسعود، وابن عمر، وجابر، وأبو هريرة، وابن الزبير، ومن
التابعين: مكحول،
(2/403)
والنخعى، وهو قول مالك، والأوزاعى،
والكوفيين، والشافعى، وأبى ثور، وعوام العلماء. وممن كان
ينقص التكبير: ذكر الطبرى قال: سئل أبو هريرة: من أول من
ترك التكبير إذا رفع رأسه وإذا وضعه؟ قال: معاوية. وعن عمر
بن عبد العزيز، والقاسم، وسالم، وابن سيرين، وسعيد بن جبير
مثله، واحتجوا بما رواه شعبة عن الحسن بن عمران، عن سعيد
بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: صليت خلف النبى فكان
لا يتم التكبير، وكان ابن عمر ينقص التكبير، قال مسعر: إذا
انحط بعد الركوع للسجود لم يكبر، وإذا أراد أن يسجد
الثانية من كل ركعة لم يكبر، وقال سعيد بن جبير: إنما هو
شىء يزين به الرجل صلاته. وقال قوم من العلماء: التكبير
إنما هو إذن بحركة الإمام وليس بسنة إلا فى الجماعة، فأما
من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر. وقال أحمد بن حنبل:
كان ابن عمر لا يكبر إذا صلى وحده، واختلف أصحاب مالك فيمن
ترك التكبير فى الصلاة، فقال ابن القاسم: من أسقط ثلاث
تكبيرات من الصلاة فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، فإن لم
يسجد بطلت صلاته، وإن نسى تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد
السهو قبل السلام، فإن لم يفعل فلا شىء عليه. وروى عنه أن
التكبيرة الواحدة لا سهو على من نسيها. وقال عبد الله بن
عبد الحكم وأصبغ بن الفرج: ليس على من سها عن التكبير فى
الصلاة كلها شىء إذا كبر للإحرام إلا سجود السهو، فإن لم
يفعل حتى تباعد فلا شىء عليه، واختاره ابن المواز، وابن
حبيب، وآثار هذا الباب تدل على صحة هذا القول، ولا سجود
فيه
(2/404)
عند الشافعى، قال ابن القصار: وعلى أصل أبى
حنيفة فيه السجود، وحكى الطحاوى خلاف هذا القول قال:
أجمعوا أن من ترك تكبير الركوع والسجود فصلاته تامة. وقال
الطبرى: الحسن بن عمران مجهول، ولا يجوز الاحتجاج به، غير
أنه وإن كان كذلك فإنا لا نرى صلاة من ترك شيئًا من
التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام فاسدة، وإن كان مخطئًا سنته
عليه السلام، لإجماع سلف الأمة وخلفها أن صلاة من فعل ذلك
غير فاسدة. وفى تكبير أبى هريرة كلما خفض ورفع من الفقه أن
التكبير ينبغى أن يكون من الخفض والرفع من الفعل سواء، لا
يتقدمه ولا يتأخر عنه، فهذا قول أكثر العلماء، ذكره
الطحاوى عن الكوفيين، والثورى، والشافعى، قالوا: ينحط
للركوع والسجود وهو مكبر، وكذلك يفعل فى حال الرفع، وفى
حال القيام من الجلسة الأولى، يكبر فى حال القيام وكذلك
قال مالك، إلا فى حال القيام من الجلسة الأولى فإنه يقول:
لا يكبر حتى يعتدل قائمًا، هذا قوله فى المدونة، وفى
(المبسوط) : روى ابن وهب عن مالك: إن كبر بعد استوائه فهو
أحب إلىَّ، وإن كبر فى نهوضه بعد ما يفارق الأرض فأرجو أن
يكون فى سعة. قال الطحاوى: فأخبر فى هذا الحديث أن التكبير
كان فى حال الخفض والرفع، ولما اتفقوا فى الخفض والرفع أن
الذكر مفعول فيه وجب أن يكون كذلك حال القيام من الجلسة
الأولى. وسأذكر وجه قول مالك أنه لا يكبر حتى يعتدل
قائمًا، فى أبواب السجود فى باب يكبر وهو ينهض بين
السجدتين، إن شاء الله.
(2/405)
97 - باب وَضْعِ الأكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ
فِي الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: أَمْكَنَ الرسول
يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ. / 150 - فيه: مُصْعَبَ بْنَ
سَعْدٍ قال: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، فَطَبَّقْتُ
بَيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ،
فَنَهَانِي أَبِي، وَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ، فَنُهِينَا
عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِينَا عَلَى
الرُّكَبِ. اتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا الحديث،
وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وسعد بن أبى
وقاص، وابن عمر، وجماعة من التابعين، وكان عبد الله بن
مسعود، والأسود بن يزيد، وأبو عبيدة يضعون أيديهم بين
ركبهم إذا ركعوا، وقال ابن مسعود: هكذا فعل النبى، عليه
السلام. قال الطحاوى: وما روى عن ابن مسعود فى ذلك منسوخ
بحديث سعد؛ ألا ترى قوله: كنا نفعله فنهينا عنه، وروى شعبة
عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن قال: قال عمر:. . .، فقد
سُنَّتْ لكم الركب، قال الطحاوى: ثم التمست ذلك من طريق
النظر، فرأيت التطبيق فيه التقاء اليدين، ورأيت وضع اليدين
على الركبتين فيه تفرقهما، فأردنا أن ننظر فى حكم ذلك كيف
هو؟ فرأينا السنة جاءت عن الرسول بالتجافى فى الركوع
والسجود، وأجمع المسلمون على ذلك، وكان ذلك تفريق الأعضاء،
وكان من قام إلى الصلاة أمر أن يراوح بين قدميه، وقد روى
ذلك عن ابن مسعود، وهو الذى روى التطبيق، فلما رأينا تفريق
الأعضاء أولى من إلزاق بعضها إلى بعض، واختلفوا فى إلصاقها
وتفريقها فى الركوع كان النظر على ذلك أن
(2/406)
يكون ما اختلفوا فيه من ذلك معطوفًا على ما
أجمعوا عليه، ولما كانت السنة تفريق الأعضاء كان فيما
ذكرنا أيضًا، فثبت نسخ التطبيق ووجوب وضع اليدين على
الركبتين.
98 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ
/ 151 - فيه: حُذَيْفَةُ: أنه رَأَى رَجُلا لا يُتِمُّ
الرُّكُوعَ وَلا السُّجُودَ، قَالَ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ
مُتَّ، مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ
اللَّهُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهَا. قد
تقدم الكلام فى هذا الباب فى (باب الخشوع فى الصلاة) ،
فأغنى عن إعادته، قال المهلب: نفى عنه الفعل بما انتفى عنه
من التجويد، وهذا معروف فى لسان العرب، كما قال (صلى الله
عليه وسلم) : (لا يزنى الزانى وهو مؤمن) ، نفى عنه
بِقِلَّةِ التجويد للإيمان اسمهُ، وكذلك قول حذيفة للرجل:
ما صليت، أى: صلاة كاملة، ولو متَّ متَّ على غير فطرة
محمد، وسمى الصلاة فطرة؛ لأنها أكبر عُرى الإيمان. وسأذكر
اختلاف أهل العلم فيمن لم يتم الركوع فى باب أمر الرسول
الذى لا يتم ركوعه بالإعادة، إن شاء الله تعالى.
99 - باب اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: رَكَعَ
النَّبِيُّ عليه السلام، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ.
(2/407)
0 - باب حَدِّ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ
وَالاعْتِدَالِ فِيهِ وَالطُّمَأْنِينَةِ
/ 152 - فيه: الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ
عليه السلام، وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ،
وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، مَا خَلا
الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. قال
المهلب: هذه الصفة أكمل صفات صلاة الجماعة، وأما صلاة
الرجل وحده، فله أن يطول فى الركوع والسجود أضعاف ما يطول
فى القيام بين السجدتين وبين الركعة والسجدة، وأما أقل ما
يجزئ من ذلك فما قال ابن مسعود، قال: إذا أمكن الرجل يديه
من ركبتيه، فقد أجزأه، وكانت ابنة سعد تفرط فى الركوع
تطأطئًا منكرًا، قال لها سعد: إنما يكفيك إذا وضعت يديك
على ركبتيك، وقاله ابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وهو قول عامة
الفقهاء. وروى أبو الجوزاء عن عائشة قالت: كان النبى، عليه
السلام، إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، كان بين ذلك.
وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: كان عليه السلام، لو صُبَّ
بين كتفيه ماء لاستقر، وقال أبو هريرة: اتق الحنوة فى
الركوع والحدبة، وهذا هو هصر الظهر. وقال صاحب (العين) :
هصرت الشىء: إذا جذبته وكسرته إليك من غير بينونة، وقال
صاحب (الأفعال) : هصر الشىء هصرًا: أخذ بأعلاه ليميله إلى
نفسه، وهصر الأسد فريسته: كسرها.
(2/408)
1 - باب أَمْرِ الرَّسُولِ الَّذِي لا
يُتِمُّ رُكُوعَهُ بِالإعَادَةِ
/ 153 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه
السلام، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى،
ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ، فَرَدَّ
النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهِ السَّلامَ،
فَقَالَ: (ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ،
فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ: ارْجِعْ،
فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، ثَلاثًا، فَقَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ،
فَعَلِّمْنِي، قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ
فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ
الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا،
ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ
حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ
سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا) .
قال المؤلف: استدل بهذا الحديث جماعة من الفقهاء، فقالوا:
الطمأنينة فى الركوع والسجود فرض، لا تجزئ صلاة من لم يرفع
رأسه، ويعتدل فى ركوعه وسجوده ثم يقيم صلبه، وقالوا: ألا
ترى أن الرسول قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، ثم علمه
الصلاة وأمره بالطمأنينة فى الركوع والسجود، هذا قول
الثورى، وأبى يوسف، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق،
وابن وهب صاحب مالك قال: من لم يعتدل قائمًا من ركوعه حتى
يسجد فلا يعتد بتلك الركعة. وفيها قول آخر، روى ابن القاسم
عن مالك فى (العتبية) قال: من رفع رأسه من الركوع فلم
يعتدل قائمًا حتى يسجد يجزئه ولا يعود، وقاله ابن القاسم
فى كتاب سحنون، وروى ابن وهب عن مالك مثل ذلك فى (العتبية)
.
(2/409)
وروى عيسى عن ابن القاسم فيمن رفع رأسه من
السجود، فلم يعتدل جالسًا حتى سجد: يستغفر الله ولا يعود.
وذكر ابن المواز عن ابن القاسم مثله، وهو قول أبى حنيفة،
ومحمد. وكذلك اختلفوا فيمن خرَّ من ركوعه ساجدًا، ولم يرفع
رأسه، فروى عيسى عن ابن القاسم أنه لا يعتد بتلك الركعة،
واستحب مالك أن يتمادى ويعيد الصلاة، وفى (المجموعة) روى
على بن زياد، عن مالك أن من فعل ذلك ساهيًا، فليسجد قبل
السلام وتجزئه تلك الركعة، وفى (الواضحة) عن ابن كنانة:
تجزئه تلك الركعة، واحتج أبو عبد الله بن أبى صفرة لهذا
القول أن النبى، عليه السلام، أمر هذا الرجل حين لم يكمل
الركوع والسجود بالإعادة، ولم يأمر الذين نقصوا الركوع
والسجود بالإعادة حين قال لهم: (إنى أراكم من وراء ظهرى) ،
فدل ذلك من فعله أن الطمأنينة لو كانت فريضة، لما ترك
الذين قال لهم: لا يخفى علىّ خشوعكم حتى يبين لهم ذلك؛
لأنه بُعث معلمًا. قال المهلب: والدليل على صحة هذا القول
أنه لما أمر الذى لم يحسن صلاته بالإعادة مرة بعد أخرى،
ولم يحسن قال له: والله ما أحسن غير هذا فعلِّمنى، فوصف له
عليه السلام هيئة الصلاة، ولم يأمره أن يعيد الصلاة التى
نقصها مرة أخرى على الصفة التى علمه، ولم يقل له: لا يجزئك
حتى تصلى هذه الصلاة على هذه الصفة، وإنما علمه كيف يصلى
فيما يستقبل.
(2/410)
واحتج الرازى لأبى حنيفة بحديث رفاعة بن
رافع فى تعليم الأعرابى أن النبى، عليه السلام، قال له:
(ثم ارفع فاعتدل قائمًا. . .) ، وذكر الحديث قال: إذا صليت
على هذا فقد أتممتها، وما أنقصت من ذلك فإنما تنقص من
صلاتك، فجعلها ناقصة يدل على الجواز.
(2/411)
2 - باب الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ
/ 154 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عليه السلام،
يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِي) . وترجم له: (باب التسبيح والدعاء فى السجود) ، وزاد
فيه بعد قوله: (اللهم اغفر لى) ، (يتأول القرآن به) . قال
الطحاوى: اختلف العلماء فيما يدعو به الرجل فى ركوعه
وسجوده، فقالت طائفة: لا بأس أن يدعو الرجل بما أحب، وليس
عندهم فى ذلك شىء موقَّت، قالوا: وقد رويت آثار كثيرة عن
الرسول أنه كان يدعو بها. منها: حديث موسى بن عقبة، عن عبد
الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبى رافع، عن
على بن أبى طالب قال: كان رسول الله يقول فى ركوعه: (اللهم
لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربى، خشع سمعى وبصرى،
ومخى وعظمى، وعصبى لله رب العالمين) ، ويقول فى سجوده:
(اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وأنت ربى، سجد وجهى للذى خلقه
وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) . ومنها: حديث
يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: فقدت النبى، عليه
السلام، ذات ليلة، فظننت أنه أتى جاريته، فالتمسته فوقعت
يدى على صدور قدميه وهو ساجد، وهو يقول: (اللهم إنى أعوذ
برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا
أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) . إلا أن مالكًا
كره الدعاء فى الركوع، ولم يكره فى السجود، واقتصر فى
الركوع على تعظيم الله تعالى، والثناء عليه، أظنه
(2/412)
ذهب إلى حديث على عن النبى، عليه السلام،
قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا
فيه فى الدعاء) ، فجعل فى هذا الحديث الركوع لتعظيم الله،
تعالى، وإن كانت قراءة القرآن أفضل من ذكر التعظيم، فلذلك
ينبغى أن يكون فى كل موضع ما جعل فيه، وإن كان غيره أشرف
منه. ويؤيد هذا المعنى ما روى الأعمش عن النخعى قال: كان
يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استوجب، وإذا بدأ
بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. وروى ابن عيينة عن
منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحويرث، قال: (يقول الله:
إذا شغل عبدى ثناؤه علىّ عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى
السائلين) ، فلهذه الآثار كره مالك الدعاء فى الركوع،
واستحبه فى السجود، والله أعلم. وقال أهل المقالة الأولى:
تعظيم الرب والثناء عليه عند العرب دعاء، قاله ابن شهاب
وهو حجة فى اللغة، وقد ثبت فى حديث عائشة المذكور فى هذا
الباب الدعاء فى الركوع والسجود فلا معنى لمخالفة ذلك.
وقالت طائفة: ينبغى له أن يقول فى ركوعه: سبحانك ربى
العظيم ثلاثًا، وفى سجوده: سبحان ربى الأعلى ثلاثًا،
واحتجوا بما رواه موسى بن أيوب عن عمه إياس بن عامر، عن
عقبة بن عامر الجهنى، قال: لما نزلت: (فسبح باسم ربك
العظيم) [الواقعة: 74] ، قال عليه السلام: (اجعلوها فى
ركوعكم) ، ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى) [الواقعة: 96]
،
(2/413)
قال: (اجعلوها فى سجودكم) . وروى مرة إياس
بن عامر، عن على بن أبى طالب، وذكر مثله، هذا قول
الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، إلا أنهم لم
يوجبوا ذلك، وقالوا: من ترك التسبيح فى الركوع والسجود
فصلاته تامة، وقال إسحاق، وأهل الظاهر: إن ترك ذلك عليه
الإعادة، وقال: حديث عقبة ورد مورد البيان فوجب امتثاله.
فيل لهم: البيان إنما ورد فى المجمل، والركوع والسجود مفسر
فلا يفتقر إلى بيان، فحمل حديث عقبة على الاستحباب بدليل
تعليمه الأعرابى الصلاة وليس التسبيح منها، فلو وجب فى
الركوع والسجود ذكر معين لا تجزئ الصلاة دونه لبيَّن ذلك
النبى لأمته؛ لأنه قد بيَّن لهم فروض الصلاة وسننها،
ولأخبرهم أن ما كان روى عنه من ضروب الدعاء والذكر فى
الركوع منسوخ بحديث عقبة، فلما لم يثبت ذلك سقط قول أهل
الظاهر وقول من شرط فى ذلك ذكرًا معينًا أيضًا. قال ابن
القصار: لو قال: سبحان ربى الجليل، أو الكبير، أو القدير
لكان معظمًا له، وإذا ثبت أن نفس التسبيح ليس بواجب،
فتعيينه والعدول عنه إلى ما فى معناه جائز. وقوله: يتأول
القرآن، يعنى: يتأول قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره
إنه كان توابًا) [النصر: 3] ، حين أعلمه الله بانقضاء
أجله. وقال الخطابى: أخبرنى الحسن بن خلاد قال: سألت
الزجاج عن
(2/414)
قوله: سبحانك اللهم وبحمدك، والعلة فى ظهور
الواو؟ قال: سألت عنه المبرد فقال: سألت عنه المازنى،
فقال: المعنى: سبحانك اللهم بجميع آلائك، وبحمدك سبحتك،
وقال: ومعنى سبحانك: سبحتك، وسبحان الله معناه: سبحت الله
ونزهته عن كل عيب، ونصبه على المصدر.
3 - باب القراءة فى الركوع
والسجود وما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع
/ 155 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ
إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ:
اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ إِذَا
رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ يُكَبِّرُ، وَإِذَا قَامَ
مِنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ) . ترجم له
البخارى: (باب القراءة فى الركوع والسجود) ، ولم يُدخل فيه
حديثًا بجواز ذلك ولا بمنعه. وقد روى عن النبى، عليه
السلام، أنه نهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، ذكره
الطبرى قال: أخبرنا عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا
عثمان بن عمر، قال: حدثنا داود بن قيس، عن إبراهيم بن
جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، عن على قال: (نهانى حبيبى
(صلى الله عليه وسلم) أن أقرأ راكعًا وساجدًا) .
(2/415)
واتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا
الحديث، وخالفه قوم من السلف وأجازوه، روى أبو إسحاق، عن
عمرو بن ميمون قال: سمعت أخى سليمان بن ربيعة وهو ساجد،
وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ما لو شاء رجل يذهب إلى
أهله فيتوضأ، ثم يجىء، وهو ساجد لفعل، وقال عطاء: رأيت
عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع فى المكتوبة، وأجازه الربيع بن
خثيم، وقال إبراهيم النخعى فى الرجل ينسى الآية فيذكرها
وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع. قال الطبرى: وهؤلاء لم
يبلغهم الحديث بالنهى عن ذلك عن الرسول، أو بلغهم فلم
يَرَوْهُ صحيحًا، ورأوا قراءة القرآن حسنة فى كل حال، قال
الطبرى: والخبر عندنا بذلك صحيح، فلا ينبغى لمصل أن يقرأ
فى ركوعه وسجوده من أجله، وعلى هذا جماعة أئمة الأمصار.
واختلف العلماء فيما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من
الركوع، فذهبت طائفة إلى الأخذ بحديث سعيد المقبرى، عن أبى
هريرة، وقال: ينبغى للإمام أن يقول: سمع الله لمن حمده
ربنا ولك الحمد، يجمعهما جميعًا، ثم يقول المأموم: ربنا
ولك الحمد خاصة، هذا قول أبى يوسف، ومحمد بن الحسن،
والشافعى، وابن نافع صاحب مالك، إلا أن الشافعى خالفهم فى
المأموم، فقال: يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد،
كالإمام سواء. وقالت طائفة: يقول الإمام: سمع الله لمن
حمده دون المأموم،
(2/416)
ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد، هذا قول
مالك والليث وأبى حنيفة، واحتجوا لهذا القول بحديث مالك عن
سُمى، عن أبى صالح، عن أبى هريرة: (أن نبى الله قال: إذا
قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) .
قال ابن القصار: فأفرد الإمام بغير ما أفرد به المأمومين،
ولو كان الإمام يجمع الأمرين لقال عليه السلام: إذا قال
الإمام: ربنا ولك الحمد، فقولوا: سمع الله لمن حمده ربنا
ولك الحمد، حتى يكون ابتداء قولهم بعد انتهاء قوله، كما
قال: وإذا كبر فكبروا، ولم يكن للفرق بينهما معنى، وحديث
أبى صالح قاضٍ على حديث المقبرى ومبيِّن له، ويحتمل أن
يكون عليه السلام، يقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد
إذا كان منفردًا فى صلاته، وإنما سقط سمع الله لمن حمده
للمأموم لاختلاف حاله وحال الإمام فى الصلاة، وأن الإمام
مجيب للدعاء، كما قسم عليه السلام الذكر بين العاطس
والمشمت، فكذلك قسم هذا الذكر بين الإمام والمأموم، وقول
الإمام: سمع الله لمن حمده استجابة لدعاء داع، وقول
المأموم: ربنا ولك الحمد على وجه المقابلة؛ لأنه لا حامد
له غير المؤتم به فى هذه الحال، فلا يشرك أحدهما صاحبه.
وقال أهل المقالة الأولى: ليس فى قوله عليه السلام: (وإذا
قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) ،
دليل على أن ذلك يقوله الإمام دون غيره، ولو كان كذلك
لاستحال أن يقولها من ليس بمأموم، فقد رأيناكم تُجمعون على
أن المصلى وحده يقولها مع
(2/417)
قوله: سمع الله لمن حمده، فلما قالها
المنفرد ولم ينتف ما ذكرنا من قوله عليه السلام، كان
الإمام كذلك يقولها أيضًا، ولا ينفى ما قال رسول الله،
واحتجوا أيضًا بما رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهرى، عن
سعيد وأبى سلمة، عن أبى هريرة قال: (كان رسول الله يقول
حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة يكبر ويرفع رأسه يقول:
سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، اللهم أنج الوليد بن
الوليد. . .) الحديث. وبه قال ابن شهاب، عن عروة، عن
عائشة، قالت: (خسفت الشمس فى حياة رسول الله فصلى بالناس،
فلما رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك
الحمد) . قال الطحاوى: هذا من طريق الآثار، وأما من طريق
النظر، فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن المنفرد يقول ذلك،
فأردنا أن ننظر فى الإمام هل حكمه حكم من يصلى وحده أم لا،
فوجدنا الإمام يفعل فى صلاته كلها من التكبير والقراءة مثل
ما يفعله المنفرد، ووجدنا أحكامه فيما يطرأ عليه كأحكامه،
وكان المأموم فى ذلك بخلاف الإمام والمنفرد، وثبت باتفاقهم
أن المصلى وحده يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد
ثبت أن الإمام يقولها أيضًا كذلك.
4 - باب فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ
/ 156 - فيه: أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ:
(إِذَا قَالَ الإمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ،
(2/418)
فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا ولَكَ
الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ
الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)
. / 157 - وقال أبو هُرَيْرَةَ: لأقَرِّبَنَّ صَلاةَ رسول
الله، فَكَانَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ
صَلاةِ الظُّهْرِ، وَصَلاةِ الْعِشَاءِ، وَصَلاةِ
الصُّبْحِ، بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ
الْكُفَّارَ. / 158 - وفيه: رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ:
(كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ الرسول، فَلَمَّا رَفَعَ
رَأْسَهُ، قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ
رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا
كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ،
قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ:
رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا،
أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ) . وقد تقدم كلام العلماء
فى حديث أبى هريرة فى الباب قبله، فأغنى عن إعادته. وفيه:
أن القنوت كان فى صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح، ثم
ترك فى الظهر والعشاء. وفى حديث رفاعة: ثواب التحميد لله،
تعالى، والذكر له وما عند الله أكثر وأوسع، قال الله
تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) [السجدة:
17] . وفيه: دليل على جواز رفع المذكر صوته بالتكبير
والتحميد فى المساجد الكثيرة الجمع ليسمع الناس، وليس ذلك
بكلام تفسد به الصلاة، وكيف يفسدها، رفع الصوت أم لم يرفع،
وهو مندوب إليه فيها، وكما لا يجوز لأحد أن يتكلم فى
الصلاة بكلام الناس، وإن لم يرفع صوته، فكذلك لا يضره رفع
الصوت بالذكر؛ يدل على ذلك حديث معاوية بن الحكم عن الرسول
أنه قال: (إن
(2/419)
صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام
الناس، وإنما هو التهليل والتكبير، وقراءة القرآن) ، فأطلق
أنواع الذكر فى الصلاة، فلهذا قلنا: إن المذكر إذا رفع
صوته ب (ربنا ولك الحمد) ، وسائر التكبير لا يضره، وقد
خالف ذلك بعض المتأخرين بلا دليل ولا برهان، وقد تقدم ذكر
ذلك فى باب من أسمع الناس تكبير الإمام قبل هذا.
5 - باب الطُّمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ
الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: رَفَعَ النَّبِيُّ عليه السلام،
رأسه حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ. / 159 -
فيه: أَنَسٌ: نعَتُ صَلاةَ رسول الله، فَكَانَ يُصَلِّي:
فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ، حَتَّى
نَقُولَ: قَدْ نَسِيَ. / 160 - وفيه: الْبَرَاءِ قَالَ:
كَانَ رُكُوعُ الرسول وَسُجُودُهُ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ
الرُّكُوعِ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَرِيبًا مِنَ
السَّوَاءِ. / 161 - وفيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ:
أنه أراهم صَلاةُ رسول الله - وَذَلكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ
صَلاةٍ - فَقَامَ، فَأَمْكَنَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ،
فَأَمْكَنَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَأَنْصَبَ
هُنَيَّئةً، فَصَلَّى بِنَا صَلاةَ شَيْخِنَا أَبِي يزيد.
. .، الحديث. قال المؤلف: هذه الصفة فى الصلاة حسنة لمن
التزمها فى خاصة نفسه، غير أن فعل أنس ومالك بن الحويرث،
ونعتهما صلاة رسول الله بهذه الصفة يدل أنهم كانوا لا
يبالغون فى الطمأنينة فى الرفع من الركوع ولا بين السجدتين
مثل ما ذكر فى الحديث عن
(2/420)
الرسول، فأراهم أنس ومالك بن الحويرث ذلك،
ولم يقولا لهم: إن صلاتكم هذه التى تقصرون فيها عن بلوغ
هذا الحد من الطمأنينة لا تجوز، وإن كانت هذه الصفة أفضل
لمن قدر عليها. وقد قال أبو أيوب فى باب المكث بين
السجدتين بعد ذلك: وقد كان أبو يزيد يفعل شيئًا لم أرهم
يفعلونه، وكذلك قال ثابت: عن أنس فى ذلك الباب أنه كان
يصنع شيئًا لم أراكم تصنعونه: كان إذا رفع رأسه من الركوع
قام حتى يقول القائل: قد نسى، وبين السجدتين كذلك، فدل أن
الذى كانوا يصنعونه فى ذلك من خلاف هذه الآثار جائز أيضًا؛
إذ لا يجوز أن يتفق الصحابة على صفة من الصلاة إلا وهى
جائزة. هذا المفهوم من هذه الآثار، وقد ترجم لحديث مالك بن
الحويرث، ولحديث البراء، ولحديث أنس: (باب المكث بين
السجدتين) .
6 - باب يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ
وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ
قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. / 162 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أنه
كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاةٍ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ
وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، فَيُكَبِّرُ حِينَ
يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ:
سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمْدُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، ثُمَّ يَقُولُ:
اللَّهُ أَكْبَرُ، حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا. . .، الحديث.
(2/421)
/ 163 - وفيه: حديث أَنَسَ: أن النبى، عليه
السلام، ركب فَرَسًا - فَجُحِشَ شِقُّهُ، فَصَلَّى
قَاعِدًا. . .، إلى قوله: (وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا) .
وقد تقدم معنى هذا الباب: أن التكبير فى الصلاة كلها مع
الخفض والرفع، فى (باب إتمام التكبير فى الركوع) ، فلا
معنى لإعادة القول فيه، ولا خلاف فيه بين الفقهاء إلا فى
تكبير القيام من ثنتين، وسيأتى ذلك فى (باب يكبر وهو ينهض
بين السجدتين) ، إن شاء الله. واختلفوا فى وضع اليدين قبل
الركبتين فى السجود، فذهب مالك، والأوزاعى إلى ما روى فى
ذلك عن ابن عمر، رواه أبو مصعب عن مالك فى (المبسوط) ،
قال: وهو أحسن فى سكينة الصلاة ووقارها، والحجة لذلك ما
رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة أن النبى قال:
(إذا سجد أحدكم فليضع يديه على الأرض قبل ركبتيه ولا يبرك
بروك البعير) ، ذكره إسماعيل بن إسحاق، وروى ابن عبد الحكم
عن مالك أنه يضع أيهما شاء قبل صاحبه، وذلك واسع، ذكره ابن
حبيب. وقالت طائفة: يضع ركبتيه قبل يديه روى ذلك عن عمر بن
الخطاب، وهو قول الثورى والكوفيين، وذكر ابن شعبان عن مالك
مثله، وبه قال ابن وهب، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وحجتهم
حديث وائل بن حجر: (أن النبى، عليه السلام، بدأ فوضع
ركبتيه قبل يديه) . قال الطحاوى: اتفقوا أنه يضع رأسه بعد
يديه وركبتيه، ثم يرفعه قبلهما، ثم كانت اليدان متقدمتين
فى الرفع، فوجب أن تكون مؤخرتين فى الوضع.
(2/422)
7 - باب فَضْلِ السُّجُودِ
/ 164 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟) ، قَالُوا:
لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَهَلْ تُمَارُونَ فِي
الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟) ، قَالُوا: لا،
قَالَ: (فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ
النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ
يَعْبُدُ شَيْئًا، فَلْيَتَّبِعْه، فَمِنْهُمْ مَنْ
يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ
الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ،
وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا،
فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ،
فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا
رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ،
فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ،
فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ، وَيُضْرَبُ
الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ
أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلا
يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلا الرُّسُلُ، وَكَلامُ
الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ، وَفِي
جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ
رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟) ، قَالُوا: نَعَمْ،
قَالَ: (فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ
أَنَّهُ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ،
تَخْطَفُ النَّاسَ بقدر بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ
يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ، ثُمَّ
يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ
أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ
يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ،
فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ
السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ
تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ. . .) ، وذكر باقى الحديث. قال
المؤلف: قوله عليه السلام: (وحرم الله على النار أن تأكل
أثر السجود) ، يدل أن الصلاة أفضل الأعمال لما فيها من
الركوع والسجود، وقد قال عليه السلام: (أقرب ما يكون العبد
إلى الله إذا
(2/423)
سجد) ، وقرأ: (واسجد واقترب) [العلق: 19] ،
ولعن الله إبليس، لإبائه عن السجود، لعنةً، أبلسهُ بها
وأيأسهُ من رحمته إلى يوم القيامة. وقال ثوبان لرسول الله:
دُلَّنى على عمل أكون به معك فى الجنة قال: (أكثر من
السجود) . وقيل فى قوله تعالى: (سيماهم فى وجوههم من أثر
السجود) [الفتح: 29] ، هو أثر السهر والصفرة، وقيل: الصلاة
والخشوع والوقار، وقيل: هو ما يتعلق من التراب بموضع
السجود، وقيل فيها غير هذا وسأذكر ذلك فى الباب بعد هذا،
وأذكر فيه من كره آثار السجود فى الوجه ومن رخص فيها. قال
المهلب: وفيه إثبات الرؤية لله، تعالى، نصًا من كلام رسول
الله، وهو تفسير لقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)
[القيامة: 22، 23] ، يعنى: مبصرة لله تعالى، ولو لم يكن
هذا القول للنبى بالرؤيا نصًا لكان لنا فى قوله تعالى ما
فيه كفاية لمن أنصف، وذلك أن النظر إذا قرن بذكر الوجه لم
يكن إلا نظر البصر، وإذا قرن بذكر القلب كان بمعنى اليقين،
فلا يجوز أن ينقل حكم الوجوه إلى حكم القلوب. فإن اعترض
معترض علينا بقوله تعالى: (ولا تدركه الأبصار) [الأنعام:
103] ، وأن ذلك على العموم. قيل: يحتمل أن يكون على العموم
لولا ما خصه من قوله عليه السلام: (إنكم ترون ربكم كما
ترون القمر والشمس وليس دونهما سحاب) .
(2/424)
وقوله: (فيها منافقوها) ، يدل أن المنافقين
يتبعون محمدًا لما انكشف لهم من الحقيقة رجاء منهم أن
ينتفعوا بذلك، ويلتزموا الرياء فى الآخرة كما التزموه فى
الدنيا حتى تُبينهم الغُرَرُ والتحجيل من أثر الوضوء عند
الحوض، فيتبين حينئذ المنافق؛ إذ لا غرة له ولا تحجيل،
ويؤخذ بهم ذات الشمال فى جملة من ارتد بعده عليه السلام
فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقًا سحقًا.
وقوله: (فيأتيهم الله) ، الإتيان هاهنا إنما هو كشف الحجب
التى بين أبصارنا وبين رؤية الله؛ لأن الحركة والانتقال لا
تجوز على الله؛ لأنها صفات الأجسام المتناهية، والله
تعالى، لا يوصف بشىء من ذلك، فلم يبق من معنى الإتيان إلا
ظهوره تعالى إلى أبصار لم تكن تراه ولا تدركه. والضحك: هو
صفة من صفات الله، ومعناه عند العلماء: الاستبشار والرضا،
لا ضحك بلهوات وتعجب كما هو منا، وسأستقصى القول فى رؤية
الله تعالى، وسائر معانى هذا الحديث وتفسير اللغة والعربية
فى (كتاب الاعتصام) ، فى (باب قوله تعالى: (وجوه يومئذ
ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22، 23] ، إن شاء الله.
تفسير الغريب: قوله: (منهم الموبق بعمله) ، قال صاحب
(الأفعال) : وبق الرجل: إذا هلك بذنوبه. وقوله: (ومنهم من
يخردل) ، قال صاحب (العين) : خردلت اللحم: فصلته، وخردلت
الطعام: أكلت خياره. وقال غيره: خردلته: صرعته، والجردلة
بالجيم، الإشراف على السقوط والهلكة.
(2/425)
وقوله: (قد امتحشوا) ، المحش: إحراق الجلد،
من كتاب (العين) . وقوله: (قشبنى ريحها) ، قال صاحب
(الأفعال) : تقول العرب: قشبت الشىء: قذرته، وقشب الشىء،
بكسر الشين، قشبًا: قذر، وقال ابن قتيبة: قشبنى ريحها، هو
من القشيب، والقشيب: السم، كأنه قال: سمنى ريحها، ويقال
لكل مسموم: قشيب. وقال الخطابى: يقال: قشبه الدخان إذا ملأ
خياشيمه وأخذ بكظمه وكانت ريحه طيبة، وأصل القشب خلط السم
بالطعام، يقال: قشبه: إذا سمه، وقشبتنا الدنيا: أى فتنتنا،
فصار حبها كالسم الضار، ثم قيل على هذا: قشبه الدخان،
وقشبته الريح الزكية: إذا بلغت منه الكظم. ومنه حديث عمر
أنه كان بمكة فوجد ريح طيب فقال: من قشبنا؟ فقال معاوية:
يا أمير المؤمنين، دخلت على أم حبيبة فطيبتنى.
8 - باب يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ
/ 165 - فيه: ابْنِ بُحَيْنَةَ (أَنَّ رسول الله كَانَ
إِذَا صَلَّى فَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ
بَيَاضُ إِبْطَيْهِ) . وهذه صفة مستحسنة عند العلماء، ومن
تركها لم تبطل
(2/426)
صلاته، وقد اختلف السلف فى ذلك، فممن روى
عنه أنه كان يجافى فى سجوده: على بن أبى طالب، والبراء،
وأبو مسعود، وأبو سعيد الخدرى، وابن عمر، ذكره الطبرى،
وقال الحسن: حدثنى أحمر صاحب النبى، قال: (إن كنا لنأوى
لرسول الله مما يجافى بمرفقيه عن جنبيه) ، وفعله الحسن،
وقال النخعى: إذا سجد فليفرج بين فخذيه. وممن رخص أن يعتمد
بمرفقيه، قال ابن مسعود: هيئت عظام ابن آدم للسجود فاسجدوا
حتى المرافق. وأجاز ابن سيرين أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه
فى سجوده، وقال نافع: كان ابن عمر يضم يديه إلى جنبيه إذا
سجد، وسأله رجل: هل يضع مرفقيه على فخذيه إذا سجد؟ قال:
اسجد كيف تيسر عليك. وقال أشعث بن أبى الشعثاء، عن قيس بن
سكن: كل ذلك كانوا يفعلون ينضمون ويجافون، كان بعضهم ينضم،
وبعضهم يجافى. وروى ابن عيينة، عن سُمى، عن النعمان بن أبى
عياش، قال: (شكى إلى رسول الله الإدغام والاعتماد فى
الصلاة، فرخص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو
فخذيه) ، ذكر هذا كله ابن أبى شيبة فى (مصنفه) . وإنما كان
يجافى عليه السلام، فى سجوده ويفرج بين يديه حتى يبدى بياض
إبطيه، والله أعلم، ليخف على الأرض ولا يثقل
(2/427)
عليها، كما ذكر أبو عبيد، عن عطاء بن أبى
رباح، أنه قال: خفوا على الأرض. قال أبو عبيد: وجهه أنه
يريد ذلك فى السجود، يقول: لا ترسل نفسك على الأرض إرسالاً
ثقيلاً، فيؤثر فى جبهتك، ويبين ذلك حديث مجاهد أن حبيب بن
أبى ثابت سأله قال: إنى أخشى أن يؤثر السجود فى جبهتى؟
قال: إذا سجدت فتخاف، يعنى: خفف نفسك وجبهتك على الأرض،
وبعض الناس يقولون: فتجاف، والمحفوظ عندى بالخاء. وقد ذكر
ابن أبى شيبة من كره ذلك ومن رخص فيه، ذكر عن ابن عمر: أنه
رأى رجلاً قد أثر السجود فى جبهته، فقال: لا يشينن أحدكم
وجهه، وكرهه سعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، والشعبى،
وعطاء. وممن رخص فى ذلك: قال أبو إسحاق السبيعى: ما رأيت
سجدة أعظم من سجدة ابن الزبير، ورأيت أصحاب على، وأصحاب
عبد الله وآثار السجود فى جباههم وأنوفهم، وقال الحسن:
رأيت ما يلى الأرض من عامر بن عبد قيس مثل ثفن البعير. وقد
روى عن سعيد بن جبير، وعكرمة فى تأويل قوله تعالى: (سيماهم
فى وجوههم من أثر السجود) [الفتح: 29] ، قالا: هو التراب
وكذا الطهور. وروى ابن وهب، عن مطرف، عن مالك أنه ما تعلق
بالجبهة من أثر الأرض وهذا يشبه الرخصة فى هذا الباب. وفى
الآية أقوال أخر قيل: صلاتهم تبدو فى وجوههم يوم القيامة،
عن ابن عباس.
(2/428)
وقال عطية: مواضع السجود أشد بياضًا يوم
القيامة، وهو قول الحسن ومقاتل. وعن ابن عباس: هو السمت
الحسن فى الدنيا، وقال مجاهد: هو سيما الإسلام وسمته
وتواضعه. وقال الحسن: هو الصفرة التى تعلو الوجه من السهر
والتعب. والضبعان: العضدان، واحدهما: ضبع، ومنه الاضطباع
فى اللباس، ويقال: ضبعت: إذا مددت يدى ومنه قول الشاعر:
ولا صلح حتى تضبعون ونضبعا أى: حتى تمدون أضباعكم إلينا
بالسيوف ونمد أضباعنا، عن ابن قتيبة، وفى كتاب العين:
المضبعة: اللحمة التى تحت الإبط. وقوله: إن كنا لنأوى
لرسول الله، قال صاحب العين: أويت له: رفقت له.
9 - باب يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ
قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنِ النَّبِيِّ
عليه السلام. لا يختلف العلماء فى استحباب هذه الصفة فى
السجود، وكذلك يستحبون أن يستقبل الساجد بأنامل يديه
القبلة فى سجوده، وإن فعل غير ذلك فصلاته جائزة عندهم.
(2/429)
0 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ سُجُودَه
قد تقدم فى الجزء الأول من الصلاة، فأغنى عن إعادته.
1 - باب السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ
/ 166 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أُمِرَ الرسول أَنْ يَسْجُدَ
عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلا يَكُفَّ شَعَرًا، وَلا
ثَوْبًا: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ،
وَالرُّكْبَتَيْنِ) . / 167 - ورواه عبد الله بن طَاوُسٍ،
عن أبيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قَالَ رسول الله:
(أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى
الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ، عَلَى أَنْفِهِ
وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ
الْقَدَمَيْنِ، وَلا يكْف الشَّعَرَ وَالثِّيَابَ) . / 168
- وفيه: الْبَرَاءُ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ
الرسول، فَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ،
لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَضَعَ
النَّبِيُّ جَبْهَتَهُ عَلَى الأرْضِ) . اختلف العلماء
فيما يجزئ السجود عليه من الآراب السبعة بعد إجماعهم أن
السجود على الوجه فريضة، فقالت طائفة: إذا سجد على جبهته
دون أنفه أجزأه، روى ذلك عن ابن عمر، وعطاء، وطاوس،
والحسن، وابن سيرين، والقاسم، وسالم، والشعبى، والزهرى،
وهو قول مالك، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى فى أحد قوليه،
وأبى ثور، والمستحب عندهم أن يسجد على أنفه مع جبهته،
وقالت طائفة: يجزئه أن يسجد على أنفه دون جبهته، هذا
(2/430)
قول أبى حنيفة، وروى مثله عن طاوس، وابن
سيرين، وذكر أبو الفرج، عن ابن القاسم مثله. وأوجب قوم من
أهل الحديث السجود على الأنف والجبهة جميعًا، روى ذلك عن
النخعى، وعكرمة، وابن أبى ليلى، وسعيد بن جبير، وهو قول
أحمد، وطائفة، وهو مذهب ابن حبيب، وقال ابن عباس: من لم
يضع أنفه فى الأرض لم يصل. وقالت طائفة: لا يجزئه إن ترك
السجود على شىء من الأعضاء السبعة، وهو أحد قولى الشافعى،
وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مذهب ابن حبيب، وأظن البخارى مال
إلى هذا القول، وحجته حديث ابن عباس أن النبى، عليه
السلام، أمر أن يسجد على سبعة أعضاء، فلا يجزئ السجود على
بعضها إلا بدلالة. وحجة من أوجب السجود على الجبهة والأنف
جميعًا أنه قد روى فى بعض طرق هذا الحديث، أمرت أن أسجد
على سبعة أعضاء، منها الوجه، فلا يخص بالجبهة دون الأنف.
وبهذا الحديث احتج أبو حنيفة فى أنه يجزئ السجود على الأنف
خاصة، وقال: ذكره للوجه يدل على أنه أى شىء وضع منه أجزأه،
وإذا جاز عند من خالفنا الاقتصار على الجبهة دون الأنف جاز
الاقتصار على الأنف دون الجبهة؛ لأنه إذا سجد على أنفه،
قيل: قد سجد على وجهه، كما إذا اقتصر على جبهته. وحجة أهل
المقالة الأولى أن الأحاديث إنما ذكر فيها الجبهة ولم يذكر
الأنف، فدل على أن الجبهة تجزئ، وأن الأنف تبع.
(2/431)
فإن قيل: فقد روى ابن طاوس، عن أبيه فى هذا
الحديث أنه عليه السلام قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم
على الجبهة، وأشار بيده على أنفه) . قال المهلب: فالجواب
أن الأنف غير مشترط فى ذلك؛ لأنه إنما أشار بيده على أنفه
إلى جبهته، فجعل الأنف تبعًا للجبهة، ولم يقل إلى أنفه.
قال ابن القصار: وإجماع الأعصار حجة، ووجدنا عصر التابعين
على قولين: فمنهم من أوجب السجود على الجبهة والأنف، ومنهم
من جوز الاقتصار على الجبهة، فمن جوز الاقتصار على الأنف
دون الجبهة خرج عن إجماعهم، قال: ويقال لمن أوجب السجود
على الآراب السبعة: إن الله ذكر السجود فى كتابه فى مواضع،
فلم يذكر فيها غير الوجه، فقال: (يخرّون للأذقان يبكون)
[الإسراء: 109] ، وقال: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود)
[الفتح: 29] . وقال عليه السلام: (سجد وجهى للذى خلقه وشق
سمعه وبصره) ، فلم يذكر غير الوجه، وقال للأعرابى الذى
علمه: (مكن جبهتك من الأرض) ، ولم يذكر ركبتيه ولا رجليه،
ولو كان حكم السجود متعلقًا بذلك لكان مع العجز عنه ينتقل
إلى الإيماء كالرأس، فلما كان مع العجز يقع الإيماء بالرأس
حسب، ولا يؤمى بالركبتين والقدمين واليدين، علمنا أن الحكم
تعلق بالوجه حسب. فإن قيل: قد قال عليه السلام: (أمرت أن
أسجد على سبعة أعضاء) .
(2/432)
قيل: لا يمتنع أن يؤمر بفعل الشىء ويكون
بعضه مفروضًا وبعضه مسنونًا، ولا يكون وجوب بعضه دليلاً
على وجوب باقيه، إلا بدلالة الجمع بين ذلك، وقد خصصناه
بدلالة الكتاب والسنة.
2 - باب السُّجُودِ عَلَى الأنْفِ فِى الْطِينِ
/ 169 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: (اعْتَكَفَ
رَسُولُ اللَّهِ العَشْرَ الأوَلِ مِنْ رَمَضَانَ. . .) ،
وذكر الحديث إلى قوله: (وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي
أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ
عليه السلام، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ
عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَرْنَبَتِهِ، تَصْدِيقَ
رُؤْيَاهُ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث حجة لمن أوجب
السجود على الأنف والجبهة، وقالوا: هذا الحديث مفسِّر
لقوله: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء) ، فذكر منها الوجه،
وأبان فى هذا الحديث أن سجوده كان على أنفه وجبهته. واحتج
من قال: يجزئه السجود على جبهته، بأن قال: إنما أمر الساجد
أن يمس من وجهه الأرض ما أمكنه إمساسه محاذيًا به القبلة،
ولا شىء من وجه ابن آدم يمكنه إمساسه منه غير جبهته وأنفه،
فإذا سجد على جبهته وأنفه، فقد فعل أكثر ما يقدر عليه، فإن
قصَّر عن ذلك وسجد على جبهته دون أنفه، فقد أدى فرضه، وهذا
إجماع من جمهور الأمة. وفى الحديث: أن المصلى فى الطين
يسجد عليه، وهذا عند العلماء إذا كان يسيرًا لا يمرث وجهه
ولا ثيابه؛ ألا ترى أن وجهه كان سالمًا
(2/433)
من الطين، وإنما كان منه شىء على جبهته
وأرنبته، فإذا كان الطين كثيرًا، فالسنة فيه ما روى يعلى
بن أمية عن الرسول أنه صلى بإيماء على راحلته فى الماء
والطين، وبه قال أكثر الفقهاء. واختلف قول مالك فى ذلك،
فروى أشهب عنه فى العتبية أنه لا يجزئه إلا أن ينزل بالأرض
ويسجد عليها على حسب ما يمكنه؛ استدلالاً بحديث أبى سعيد،
وقال ابن حبيب: مذهب مالك أنه يُؤمى، إلا عبد الله بن عبد
الحكم، فإنه كان يقول: يسجد عليه ويجلس فيه إذا كان لا يعم
وجهه ولا يمنعه من ذلك إلا إحراز ثيابه. قال ابن حبيب:
وبالأول أقول؛ لأنه أشبه بِيُسْر الله فى الدين، وأنه لا
طاعة فى تلوث الثياب فى الطين، وإنما يؤمى فى الطين إذا
كان لا يجد المصلى موضعًا نقيًا من الأرض يصلى عليه، فإن
طمع أن يدرك موضعًا نقيًا قبل خروج الوقت لم يجزه الإيماء
فى الطين.
3 - باب عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا
قد تقدم فى أول (كتاب الصلاة) ، فأغنى عن الإعادة.
4 - باب لا يَكُفُّ شَعَرًا ولا ثوبًا فِي الصَّلاةِ
/ 170 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: أن النَّبِيِّ عليه السلام،
قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ،
ولا نَكُفُّ شَعَرًا وَلا ثَوْبًا) . قال الطبرى: فيه
البيان أنه غير جائز للمرء أن يصلى عاقصًا شعره أو كافًا
ثوبه، يرفع أسافله من الأرض أو يشمر أكمامه، فإن صلى
(2/434)
وهو عاقص شعره أو كاف ثوبه، فقد أساء ولا
إعادة عليه لإجماع الأمة على ذلك، ورواية عن الرسول على
أنه لا إعادة عليه، وممن روى عنه ذلك من السلف: على، وابن
مسعود، وحذيفة، وابن عمر، وأبو هريرة، وكان ابن عباس إذا
سجد يقع شعره على الأرض، وقال ابن عمر لرجل رآه يسجد
معقوصًا شعره: أرسله يسجد معك. وقال ابن المنذر: على هذا
قول أكثر أهل العلم غير الحسن البصرى، فإنه قال: من صلى
عاقصًا شعره أو كافًا ثوبه، فعليه إعادة الصلاة. وأجمع
الفقهاء أنه يجوز السجود على اليدين فى الثياب، وإنما كره
ذلك ابن عمر، وسالم، وبعض التابعين، وحجة الجماعة ما رواه
يحيى بن أبى كثير، عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن
أبيه: (أن نبى الله نهى أن يكشف الثوب عن يده إذا سجد) .
وقال الحسن: كان أصحاب الرسول يسجدون وأيديهم فى ثيابهم،
ذكره ابن أبى شيبة، وإجماع الأمة على جواز السجود على
الركبتين مستورتين. وحجة من كره ذلك أن اليدين حكمهما حكم
الوجه لا حكم الركبتين، وقياسًا على أن اليدين من المرأة
تبع للوجه فى كشفهما فى الإحرام، فكذلك اليدان تبع للوجه
فى كشفهما فى السجود، واحتج الطحاوى بهذا الحديث فى جواز
السجود على كور العمامة فقال: قال عليه السلام: (أُمرت أن
أسجد على سبعة آراب) ، ولو سجد على ركبتيه ويديه ورجليه
وهى مستورة جاز، وكذلك السجود على
(2/435)
الجبهة وهى مستورة، وقد تقدم اختلاف
العلماء فى السجود على كور العمامة فى باب السجود على
الثوب فى شدة الحر فى أبواب اللباس فى الصلاة قبل هذا.
وقوله: ولا أكف شعرًا، ولا ثوبًا، يعنى: ولا أضمهما، ويروى
ولا أكفت ثوبًا، والمعنى واحد، وفى الحديث: (اكفتوا
صبيانكم عند فحمة العشاء، فإن للشيطان انتشارًا وخطفة
بالليل) ، ومنه قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء
وأمواتًا) [المرسلات: 25، 26] .
5 - باب لا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُودِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: سَجَدَ النَّبِيُّ عليه السلام،
وَوَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهِمَا. /
171 - فيه: أَنَسِ، قَالَ عَلَيهِ السَّلاَم: (اعْتَدِلُوا
فِي السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ
انْبِسَاطَ الْكَلْبِ) . قال الطبرى: فيه أن الحق على
المصلى أن يجافى عن جنبيه ويعلى صدره عن الأرض، ولا يفترش
ذراعيه، وذلك أنه إذا افترشهما لم يبد وضح إبطيه كما كان
يبدو من رسول الله على نحو ما تقدم قبل هذا. فإن قال قائل:
فما أنت قائل فيما حدثكم به ابن سنان، عن أبى عاصم، عن ابن
جريج، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلى فيضم يديه إلى
جنبيه.
(2/436)
قيل له: جائز لم يفعل ذلك ابن عمر إلا عند
ازدحام الناس وتضايق المكان حتى لا يقدر على التجافى فيه؛
لأن المعروف عنه ما حدثنا أبو كريب: حدثنا عمر بن عبيد
الطنافسى، عن آدم بن على قال: صليت إلى جنب ابن عمر،
فافترشت ذراعى، فقال لى: (لا تفترش افتراش السبع، وادعم
على راحتيك، وأبد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك) ،
فإذا كان ابن عمر قد روى عنه الوجهان، فالحق أن يوجه كل
واحد منهما إلى أولى الأمور بها، وأشبهها بالسنة، وقد تقدم
فى (باب يبدى ضبعيه ويجافى فى السجود) ، إلا أنه لا إعادة
عند جميع العلماء على من ترك ذلك لاختلاف السلف فيه.
6 - باب مَنِ اسْتَوَى قَاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ
ثُمَّ نَهَضَ
/ 172 - فيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ (أَنَّهُ رَأَى
النَّبِيَّ عليه السلام، يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي
وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ
جَالسًا) . ذهب جمهور العلماء إلى ترك الأخذ بهذا الحديث،
وقالوا: إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة من الركعة الأولى
والركعة الثالثة ينهض على صدور قدميه ولا يجلس، روى ذلك عن
ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وقال النعمان بن أبى
عياش: أدركت غير واحد من أصحاب الرسول إذا رفع رأسه من
السجدة فى الركعة
(2/437)
الأولى والثالثة قام كما هو ولم يجلس، وكان
النخعى يسرع فى القيام فى ذلك، وقال الزهرى: كان أشياخنا
يقولون ذلك. وقال أبو الزناد: تلك السنة، وبه قال مالك،
والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وقال ابن حنبل: أكثر
الأحاديث على هذا، وذكر عن عمر، وعلى، وعبد الله. وذهب
الشافعى إلى الأخذ بهذا الحديث فقال: يقعد فى وتر من صلاته
ثم ينهض. قال الطحاوى: وحجة الجماعة على الشافعى ما حدثنا
على بن سعيد بن بشر قال: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع،
حدثنا أبو خيثمة، حدثنا حسن بن الحُرِّ، حدثنى عيسى بن عبد
الله بن مالك، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس بن سهل
الساعدى: كان فى مجلس فيه أبوه، وكان من أصحاب الرسول وفى
المجلس أبو هريرة، وأبو أسيد، وأبو حميد الساعدى من
الأنصار، وأنهم تذاكروا الصلاة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم
بصلاة رسول الله قالوا: فأرنا، فقام يصلى، فقام فكبر ورفع
يديه فى أول التكبير، ثم ذكر حديثًا طويلاً فيه أنه لما
رفع رأسه من السجدة الثانية فى الركعة الأولى قام ولم
يتورك. فلما جاء هذا الحديث كما ذكرنا وخالف حديث مالك بن
الحويرث احتمل أن
(2/438)
يكون ما فعله رسول الله فيه لعلة كانت به
فقعد من أجلها، لا لأن ذلك من سنة الصلاة، كما كان ابن عمر
يتربع فى الصلاة، فلما سئل عن ذلك قال: إن رجلاى لا
تحملانى، فكذلك احتمل أن يكون ما فعله رسول الله من القعود
كان لعلةٍ أصابته حتى لا يضاد حديث مالك ابن الحويرث، وهذا
أولى بنا من حمل ما روى عنه على التنافى والتضاد. وحديث
أبى حميد أيضًا حكاه بحضرة جماعة من أصحاب الرسول فلم ينكر
عليه ذلك أحد منهم، فدل أن ما عندهم فى ذلك غير مخالف لما
حكاه لهم فى حديث مالك ابن الحويرث من قول أيوب أن ما كان
عمرو بن سلمة يفعله من ذلك لم ير الناس يفعلونه، وهو قد
رأى جماعة من جلة التابعين، فذلك حجة فى دفع حديث مالك بن
الحويرث أن تكون سنة. ثم النظر يوافق ما رواه أبو حميد،
وذلك أنا رأينا الرجل إذا خرج فى صلاته من حال إلى حال
استأنف ذكرًا، من ذلك أنا رأيناه إذا أراد الركوع كبر وخر
راكعًا، وإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده،
وإذا خر من القيام إلى السجود قال: الله أكبر، وإذا رفع
رأسه من السجود قال: الله أكبر، وإذا عاد إلى السجود فعل
ذلك أيضًا، وإذا رفع رأسه لم يكبر من بعد رفعه رأسه إلى أن
يستوى قائمًا غير تكبيرة واحدة، فدل ذلك أنه ليس بين سجوده
وقيامه جلوس، ولو كان بينهما جلوس لاحتاج إلى أن يكون يكبر
بعد رفعه رأسه من السجود للدخول فى ذلك الجلوس، ولاحتاج
إلى تكبيرة أخرى إذا نهض للقيام، فلما لم يؤمر بذلك، ثبت
أن لا قعود بين الرفع من السجدة الآخرة والقيام إلى الركعة
التى بعدها؛ ليكون ذلك وحكم سائر الصلاة مؤتلفًا غير
مختلف.
(2/439)
7 - باب كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الأرْضِ
إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَةِ
/ 173 - فيه: أَبو قِلابَةَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ
الْحُوَيْرِثِ، فَصَلَّى بِنَا، وَقَالَ: إِنِّي لأصَلِّي
بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلاةَ، لَكِنى أُرِيدُ أَنْ
أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ رسول الله يُصَلِّي، قَالَ
أَيُّوبُ: قُلْتُ لأبِي قِلابَةَ: كَيْفَ كَانَتْ
صَلاتُهُ؟ قَالَ: مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنَا هَذَا عَمْرَو
بْنَ سَلِمَةَ، فقَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ
يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من
السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى
الأرْضِ، ثُمَّ قَامَ. اختلف العلماء فى اعتماد الرجل على
يديه عند القيام، فروى عن ابن عمر أنه كان يعتمد على يديه
إذا أراد القيام، ويروى مثله عن مكحول، وعطاء، ومسروق،
والحسن، وهو قول الشافعى، وأحمد، والحجة لهم هذا الحديث،
وأجازه مالك فى العتبية، ثم كرهه. ورأت طائفة أن لا يعتمد
على يديه إلا أن يكون شيخًا كبيرًا أو مريضًا، وروى ذلك عن
على بن أبى طالب، وبه قال النخعى، والثورى، وكره الاعتماد
ابن سيرين، وقال الشافعى: كان عمر، وعلى وأصحاب رسول الله
ينهضون فى الصلاة على صدور أقدامهم، وعن ابن مسعود مثله.
(2/440)
8 - باب يُكَبِّرُ، وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ
السَّجْدَتَيْنِ
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَبِّرُ فِي نَهْضَتِهِ. /
174 - فيه: أَبُو سَعِيد: أَنَّهُ صَلَّى فَجَهَرَ
بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ،
وَحِينَ سَجَدَ، وَحِينَ رَفَعَ، وَحِينَ قَامَ مِنَ
الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ
فعل. / 175 - وفيه: مُطَرِّفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا
وَعِمْرَانُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَكَانَ
إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ، وَإِذَا
نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ
قال عِمْرَانُ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلاةَ رسول
الله. وقد تقدم فى (باب إتمام التكبير فى الركوع) ، أن
مذهب أكثر العلماء أن التكبير فى القيام من الركعتين مع
قيامه كسائر تكبير الصلاة، التكبير فى حال الخفض والرفع
على ما جاء فى حديث هذا الباب. واختلف فيه قول مالك، فروى
ابن وهب عنه أنه قال: إن كبر بعد استوائه فهو أحب إلىّ،
وإن كبر فى نهوضه بعد ما يفارق الأرض فهو فى سعة، وذكر فى
(الموطأ) عن أبى هريرة، وجابر، وابن عمر: أنهم كانوا
يكبرون فى حال قيامهم. وقال فى (المدونة) : لا يكبر حتى
يستوى قائمًا، ويحتمل أن يكون وجه هذه الرواية إجماعهم على
أن تكبير افتتاح الصلاة هو بعد القيام، فشبه القيام إلى
الثنتين الباقيتين بالقيام فى أول الصلاة، والله أعلم، إذ
كان فرض الصلاة ركعتين ركعتين، ثم زيد فيها ركعتان، فجعل
افتتاح الركعتين المزيدتين كافتتاح المزيدة عليهما، وقوله
الذى وافق فيه الجماعة أولى وهو الذى تشهد له الآثار.
(2/441)
9 - باب سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي
التَّشَهُّدِ
وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلاتِهَا
جِلْسَةَ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ فَقِيهَةً. / 176 - وفيه:
ابْنَ عُمَرَ: أنه تَرَبَّعُ فِي الصَّلاةِ فى جَلَوسَه،
فَفَعَلْهُ ابنه عبد الله، وَهو يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ
السِّنِّ، فَنَهَاه ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّمَا
سُنَّةُ الصَّلاةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى
وَتَثْنِيَ الْيُسْرَى، فَقُلْتُ: إِنَّكَ تَفْعَلُ
ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ رِجْلايَّ لا تَحْمِلانِي. / 177 -
وفيه: أَبُو حُمَيْدٍ: أنه حكى صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ فى
نفر من أصحابه، وقال: أَنَا أَحْفَظَكُمْ لذلك، رَأَيْتُهُ
عليه السلام، إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَو
مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ مَكَنَ يَدَيْهِ مِنْ
رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ اسْتَوَى، حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ إِلَى
مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ
مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ
أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، وَإِذَا جَلَسَ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى أصابع رِجْلِهِ الْيُسْرَى
وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ
الآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأخْرَى،
وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ. اختلف العلماء فى صفة الجلوس
فى الصلاة، فذهب قوم إلى حديث ابن عمر وقالوا: سنة الجلوس
فى الصلاة كلها وبين السجدتين أن ينصب رجله اليمنى ويثنى
اليسرى، ويقعد على وركه الأيسر حتى يستوى قاعدًا، هذا قول
مالك وروى عن النخعى، وابن سيرين. وذهب آخرون إلى حديث أبى
حميد وقالوا: أما القعود فى آخر الصلاة، فكما قال أهل
المقالة الأولى؛ لأن الجلسة الآخرة فيه مقاربة لما قال ابن
عمر، وأما القعود فى الجلسة الأولى فعلى الرجل اليسرى
(2/442)
على ما فى حديث أبى حميد، هذا قول الشافعى،
وأحمد، وإسحاق. وذهب الثورى، والكوفيون فى الجلوس كله إلى
الجلسة الأولى من حديث أبى حميد، وهو أن يجلس على رجله
اليسرى مبسوطة تحته، وينصب قدمه اليمنى، وحجة أهل المقالة
الأولى، قول ابن عمر: إن ذلك سنة الصلاة والصاحب إذا ذكر
السنة، فلا تكون إلا سنة الرسول إما بقول منه أو بفعل
شاهده. وحجة أهل المقالة الثانية: أن أبا حميد أراهم صلاة
النبى، عليه السلام، فى نفر من الصحابة ولم ينكروا عليه،
فدل أن فعله سنة. واحتج الكوفيون بحديث وائل بن حجر، أن
النبى كان إذا جلس فى الصلاة فرش رجله اليسرى ثم قعد
عليها، وقد قال بعض العلماء: إن هذه الصفات كلها يجوز
العمل بأيها شاء المصلى؛ لأنها مروية عن النبى، عليه
السلام، وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يقعدون
متربعين فى الصلاة كما كان يفعل ابن عمر، منهم ابن عباس،
وأنس، وفعله سالم، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد، وأجازه
الحسن فى النافلة، وكرهه ابن مسعود، وقال: لأن أصلى على
رضفتين أحب إلى من أن أتربع فى الصلاة، وكرهه الحسن،
والحكم. واختلفوا فى جلوس المرأة فى الصلاة فرأت طائفة أن
تقعد قعود الرجل كفعل أم الدرداء، وهو قول النخعى، ومالك
بن أنس. ورأت طائفة أن تقعد كيف شاءت إذا اجتمعت، هذا قول
عطاء والشعبى، وهو قول الكوفيين والشافعى، وكانت صفية تصلى
متربعة،
(2/443)
وكان نساء ابن عمر يفعلن ذلك، وقال بعض
السلف: كن النساء يؤمرون أن يتربعن إذا جلسن فى الصلاة،
ولا يجلسن جلوس الرجال على أوراكهن فيتقى أن يكون منهن
الشىء.
0 - باب مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأوَّلَ وَاجِبًا
لأنَّ نَبِيَّ الله قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَمْ
يَرْجِعْ.
/ 178 - فيه: ابْنَ بُحَيْنَةَ: أَنَّ رسول الله صَلَّى
بِهِمُ الظَّهْرَ، فَقَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ
الأولَيَيْنِ ولَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ،
حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاةَ، انْتَظَرَ النَّاسُ
تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ.
وترجم له: (باب التشهد فى الأولى) . قال ابن القصار: أجمع
فقهاء الأمصار: مالك، وأبو حنيفة، والثورى، والليث،
والشافعى، وأبو ثور، وإسحاق على أن التشهد الأول ليس بواجب
إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: إنه واجب وحجته أن النبى،
عليه السلام، تشهد وعلمهم التشهد، وروى عن عمر بن الخطاب
أنه قال: من لم يتشهد فلا صلاة له. والدليل على أنه غير
واجب حديث ابن بحينة: (أن النبى، عليه السلام، صلى ركعتين
فقام إلى الثالثة، ولم يجلس، فلما تم أربعًا
(2/444)
سجد للسهو قبل السلام) ، فلو كان التشهد
واجبًا لرجع إليه حين سبح به، ولم ينب منابه سجود السهو؛
لأنه لا ينوب عن الفرض؛ ألا ترى أنه لو نسى تكبيرة الإحرام
أو سجدة لم ينب عنها سجود السهو، فثبت أنه غير واجب. وفيه
من الفقه: أن الجلسة الأولى سنة؛ لأن سجوده عليه السلام،
للسهو ناب عن التشهد وعن الجلوس، فدل أن الجلوس فيهما
كالتشهد، وسيأتى تمام القول فى هذه المسألة فى أبواب السهو
فى آخر كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى.
1 - باب التَّشَهُّدِ فِي الآخِرَةِ
/ 179 - فيه: ابن مسعود قَالَ: كُنَّا إِذَا جَلَّسنَا
خَلْفَ النَّبِيِّ عليه السلام، قُلْنَا: السَّلامُ عَلَى
جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلامُ عَلَى فُلانٍ
وَفُلانٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ،
فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ
وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا
وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا
قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي
السَّمَاءِ وَالأرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا
اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ. قال المؤلف: ذهب مالك، والأوزاعى، والكوفيون
إلى أن التشهد الآخر ليس بفرض، وقال الشافعى، وأحمد بن
حنبل: هو
(2/445)
فرض، واحتج الشافعى بقوله عليه السلام:
(فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله) ، قالوا: وأمره على
الوجوب، فجاوبهم أهل المقالة الأولى فقالوا: ليس كل أمره
على الوجوب؛ لأن الدلالة قد قامت على أن التكبير فى غير
الإحرام والتسبيح فى الركوع والسجود ليس بواجب، وقد أمر به
عليه السلام وفعله، وقال حين نزلت: (فسبح باسم ربك العظيم)
[الواقعة: 74 - 96] ، (اجعلوها فى ركوعكم) ، ولما نزلت:
(سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى: 1] ، قال: (اجعلوها فى
سجودكم) ، وتلقى العلماء والشافعى معهم هذا الأمر على
الندب، ولم يقم عنده فرضه بفعله عليه السلام، وأمره به،
فكذلك فعله التشهد، وأمره به ليس بفرض؛ لأن كليهما عنده
ذكر ليس من عمل بدن، وقد يأمر عليه السلام، بالسنن كما
يأمر بالفرائض، وأيضًا فإنه لما ناب سجود السهو عن التشهد
فى الأولى وعن الجلوس فيها، فأحرى أن ينوب عن التشهد فى
الآخرة إذا جلس فيها وسها عن التشهد. فإن قيل: الجلسة
الآخرة فريضة، فكذلك ذكرها، كما الجلسة الأولى سنة وذكرها
مثلها. قيل: لا تكون الجلسة الآخرة مقدرة بذكرها وإنما هى
للسلام، وقد روى جماعة من السلف أنه من رفع رأسه من آخر
سجدة، فقد تمت صلاته، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وعن
سعيد بن المسيب، والحسن، وإبراهيم، وقال عطاء: من نسى
التشهد فصلاته جائزة، وعن الحكم وحماد مثله.
(2/446)
وقال الطبرى، والطحاوى: أجمع جميع
المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على
النبى، عليه السلام، فى التشهد غير واجبة، وشذ الشافعى فى
ذلك فقال: من لم يصل على النبى فى التشهد الأخير وقبل
السلام فصلاته فاسدة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه، ولا
سلف له فى هذا القول ولا سنة يتبعها، وتشهد ابن مسعود الذى
علمه النبى، عليه السلام، فى هذا الباب ليس فيه الصلاة على
النبى، عليه السلام، وقد روى التشهد عن الرسول جماعة
كرواية ابن مسعود منهم أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس،
وجابر بن عبد الله، وقال ابن عباس، وجابر: كان النبى
يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. وذكر جابر مثل
حديث ابن مسعود بزيادة كلمات، وكذلك ذكر ابن عمر مثل حديث
ابن مسعود، وقال أبو سعيد الخدرى: كنا نتعلم التشهد كما
نتعلم السورة، وذكر مثل حديث ابن مسعود بخلاف كلمات، رواه
أبو موسى الأشعرى وعبد الله بن الزبير بزيادة ألفاظ ونقصان
أيضًا، وقال ابن عمر: كان أبو بكر يعلمنا التشهد على
المنبر كما تعلمون الصبيان فى الكُتاب، ثم ذكر مثل تشهد
ابن مسعود. وقد علم عمر بن الخطاب الناس على المنبر التشهد
بحضرة المهاجرين والأنصار وليس فى شىء من ذلك صلاة على
النبى، فلم ينكر ذلك عليه منكر، فمن أوجب ذلك فقد رد
الآثار وما مضى عليه السلف، وأجمع عليه الخلف، وروته عن
نبيها عليه السلام، فلا معنى لقوله.
(2/447)
وبتشهد ابن مسعود قال الكوفيون وأكثر أهل
الحديث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وذهب مالك إلى تشهد عمر
بن الخطاب، وهو: (التحيات لله الزاكيات لله الطيبات
الصلوات لله السلام عليك أيها النبى. . .) ، إلى آخر تشهد
ابن مسعود، وذهب الشافعى إلى تشهد ابن عباس، وفيه:
(التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله) ، وكلها قريبة
بعضها من بعض، ومعنى التحية: الملك لله، والصلوات: هى
الخمس، والطيبات: الأعمال الزاكية.
2 - باب الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلامِ
/ 180 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ نَّبِيِّ الله كَانَ
يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ
الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ
الْمَحْيَا، والْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ:
مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ فَقَالَ:
(إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ،
وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) . / 181 - وفيه: أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي
صَلاتِي، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا
أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ،
وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .
(2/448)
3 - باب مَا يُتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ
بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
/ 182 - فيه: تشهد ابن مسعود، قَالَ فى آخره: (ثُمَّ
ليَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ،
فَيَدْعُو) . اختلف العلماء فى هذا الباب فقال مالك،
والشافعى، وجماعة: لا بأس أن يدعو الرجل فى صلاته بما شاء
من حوائج الدنيا، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يدعو فى
الصلاة إلا بما يوجد فى القرآن، وهو قول النخعى، وطاوس،
واحتجوا بحديث معاوية بن الحكم لما شمت الرجل فى الصلاة،
فقال له الرسول: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام
الآدميين إنما هى تسبيح وقراءة) . قالوا: ولا يجوز أن يريد
جنس الكلام؛ لأن جميع ما يوجد فى الصلاة من الأذكار من جنس
الكلام، فوجب أن يكون المراد ما يتخاطبون به فى العادة،
وقوله: (يرحمك الله) دعاء، وقد نهى النبى عنه، وهذا يمنع
من فعل الدعاء بهذا الجنس. قال ابن القصار: فالجواب لأهل
المقالة الأولى أن هذا وشبهه لا يجوز عندنا، وهو أن يوجه
دعاءه إلى إنسان يخاطبه به فى الصلاة، وكأنه جواب عندنا
على شىء كان منه، فأما أن يدعو لنفسه ولغيره ابتداء من غير
أن يخاطب فيه إنسانًا فلا قضاء، وقوله عليه السلام: لا
يصلح فيها شىء من خطاب الناس متوجه إلى هذا، أى: لا يتخاطب
الناس فى الصلاة. ومن الحجة لهم قوله عليه السلام، فى حديث
ابن مسعود بعد فراغه من التشهد: (ثم ليتخير من الدعاء
أعجبه ويدعو) ، ولم يخص دعاء فى القرآن من غيره ولو كان لا
يجوز الدعاء إلا بما فى القرآن ما ترك عليه السلام، بيان
ذلك ولقال: ثم ليدعو بما شاء مما فى القرآن، فلما
(2/449)
عم جميع الدعاء، لم يُخصَّ بعضه إلا بدليل،
واستعاذته فى حديث عائشة من عذاب القبر، ومن فتنة المسيح
الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن المأثم والمغرم ليس
شىء منه فى القرآن، وقد روى عن جماعة من السلف مثل ذلك،
روى عن ابن عمر أنه قال: إنى لأدعو فى صلاتى حتى لشعير
حمارى وملح بيتى، وعن عروة بن الزبير مثله. وكان رسول الله
يدعو فى الصلاة فيقول: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة
بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، واشدد وطأتك على مضر) .
فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا وقت إباحة الكلام فى الصلاة،
ثم نسخ بعد ذلك. قيل: قد روى عن السلف استعمال الحديث، ولا
يجوز أن يخفى عليهم نسخه لو نسخ، فكان على بن أبى طالب
يقنت فى صلاة على قوم يسميهم، وكان أبو الدرداء يدعو
لسبعين رجلاً فى صلاته، وعن ابن الزبير أنه كان يدعو
للزبير فى صلاته، فإذا انضاف قول هؤلاء إلى قول عروة، وابن
عمر جرى مجرى الإجماع؛ إذ لا مخالف لهم، وقد كان عليه
السلام يدعو فى سجوده: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من
عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على
نفسك) ، وهذا مما ليس فى القرآن، فسقط قول المخالف، وروى
عن ابن سيرين أنه قال: يجوز الدعاء فى المكتوبة بأمر
الآخرة، فأما الدنيا فلا، فقال ابن عون: أليس فى القرآن:
(واسألوا الله من فضله) [النساء: 32] ؟ ، فسكت. وترجم فى
كتاب الدعاء: (باب الدعاء فى الصلاة) ، وسيأتى فيه شىء من
الكلام فى حديث أبى بكر، إن شاء الله.
(2/450)
4 - باب مَنْ لَمْ يَمْسَحْ جَبْهَتَهُ
وَأَنْفَهُ حَتَّى صَلَّى
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: رَأَيْتُ الْحُمَيْدِيَّ
يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَلا يَمْسَحَ الْجَبْهَةَ
فِي الصَّلاةِ. / 183 - فيه: أَبَو سَعِيدٍ: (رَأَيْتُ
النبى، عليه السلام، يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ،
حَتَّى رَأَيْتُ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ) . استحب العلماء
ترك مسح الوجه حتى يفرغ من الصلاة؛ لأنه من التواضع لله،
وخفف مالك مسحه فى الصلاة.
5 - باب التَّسْلِيمِ
/ 184 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ إِذَا سَلَّمَ، قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي
تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ) .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ
مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ
يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ. اختلف
العلماء فى وجوب التسليم، فذهب جماعة من العلماء إلى أن
التسليم فرض لا يصح الخروج من الصلاة إلا به، وممن أوجب
ذلك ابن مسعود، قال: مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها
التسليم، ذكره الطبرى، وبه قال عطاء، والزهرى، ومالك،
والشافعى، وغيرهم. وذهب أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى،
إلى أن السلام سنة، وأن الصلاة يصح الخروج منها بغير سلام،
واحتجوا بأن الرسول قال لابن مسعود حين علمه التشهد: (فإذا
فعلت ذلك فقد تمت صلاتك) .
(2/451)
قالوا: ولم يذكر له السلام، قالوا: وروى عن
على بن أبى طالب أنه قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة، ثم
أحدث فقد تمت صلاته، وعن سعيد بن المسيب، والنخعى مثله.
واحتج عليهم أهل المقالة الأولى بأن قوله عليه السلام،
لابن مسعود: (فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك) ، يحتمل أن
يكون معناه: إذا سَلَّمْت، بدليل سلامه عليه السلام فى كل
صلواته، وتعليمه ذلك لأمته عملاً ومعاينة. ويحتمل أن يكون
معناه: قد قاربت التمام، كما قال تعالى فى المطلقات: (فإذا
بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) [الطلاق: 2] ، وهذا معناه:
قاربن بلوغ أجلهن؛ لأنهن لو بلغن الأجل بانقضاء العدة لم
يكن لأزواجهن إمساكهن بالمراجعة لهن، وقد انقضت عدتهن.
وقال الطبرى: السلام من الأعمال التى علم الرسول أمته
العمل به كما علمهم التحريم فيها والقراءة، فمن ضيع ذلك أو
تركه عامدًا فهو مفسد؛ لأنه ضيع ما قامت له الحجة بجواز
الصلاة معه، وقد روى الثورى، عن عبد الله بن محمد بن عقيل،
عن محمد ابن الحنفية، عن على، رضى الله عنه، قال: قال
النبى عليه السلام: (تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها
التسليم) ، فكما لا يجوز الدخول فى الصلاة إلا بالإحرام،
فكذلك لا يجوز الخروج منها إلا بالسلام. واختلفوا فى صفة
السلام، فقالت طائفة: يسلم تسليمتين عن يمينه، وعن يساره،
روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر،
(2/452)
وعلى، وابن مسعود، وعمار، وروى ذلك عن
الشعبى، وعطاء، وعلقمة، والأسود، وهو قول الثورى، وأبى
حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتجوا بآثار
كثيرة رويت عن النبى، عليه السلام، بذلك منها: حديث ابن
مسعود، وعمار، وأبى موسى، ووائل بن حجر، وأبى حميد
الساعدى، وابن عمر، وجابر ابن عبد الله، وجابر بن سمرة،
والبراء بن عازب، وقبيصة بن ذؤيب، وعدى بن عميرة الحضرمى،
ويعقوب بن الحصين، كلهم عن الرسول، أسندها الطبرى كلها.
وقالت طائفة: يسلم تسليمة واحدة فقط، روى ذلك عن ابن عمر،
وأنس بن مالك، وعائشة، وسلمة بن الأكوع، ومن التابعين:
سليمان بن يسار، وأبى وائل، وسعيد بن جبير، وابن سيرين،
والحسن، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، ودفعوا أحاديث
التسليمتين. والحجة لهم ما ذكره محمد بن عبد الحكم، عن عبد
الرحمن بن مهدى قال: أحاديث التسليمتين لا أصل لها. وقال
الأصيلى: حديث أم سلمة المذكور فى هذا الباب يقتضى تسليمة
واحدة، وكذلك حديث ابن بحينة، وحديث ذى اليدين؛ لأن قول أم
سلمة: (كان الرسول إذا سلم) ، يقتضى ظاهره أن كل ما وقع
عليه اسم السلام يتحلل به من الصلاة. قال المهلب: لما كان
السلام تحليلاً من الصلاة، وعلمًا على فراغها دلت التسليمة
الواحدة على ذلك، وإن كان فى التسليمتين
(2/453)
كمالاً، فقد مضى العمل بالمدينة فى مسجد
رسول الله على تسليمة واحدة، فلا يجب مخالفة ذلك. وذكر
الطبرى قال: حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا الحجاج بن
نصير، أخبرنا أبو عبيدة، حدثنا الحسن ومحمد بن سيرين،
قالا: حدثنا أنس ين مالك قال: (صليت خلف رسول الله، وأبى
بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يسلمون تسليمة واحدة) ، وحدثنا
محمد بن عبد الله الحجرى، حدثنا يونس، عن جرير بن حازم، عن
أيوب، عن أنس مثله. وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: صليت خلف
على بن أبى طالب فسلم واحدة، ذكره ابن أبى شيبة. وقال
الطبرى: القول فى ذلك عندنا أن يقال كلا الخبرين الواردين
عن الرسول أنه كان يسلم واحدة، وأنه كان يسلم تسليمتين
صحيح، وأنه من الأمر الذى كان يفعل هذا مرة وهذا مرة،
مُعلم ذلك أمته أنهم مخيرون فى العمل بأى ذلك شاءوا، كرفعه
عليه السلام يديه فى الركوع وإذا رفع رأسه منه، وتركه ذلك
مرة أخرى، وكجلوسه فى الصلاة على قدمه اليسرى ونصبه اليمنى
فيها مرة، وإفضائه بأليته إلى الأرض، وإدخاله قدمه اليسرى
تحت فخذه اليمنى مرة فى أشباه لهذا كثيرة.
(2/454)
6 - باب يُسَلِّمُ حِينَ يُسَلِّمُ
الإمَامُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ إِذَا سَلَّمَ الإمَامُ
أَنْ يُسَلِّمَ مَنْ خَلْفَهُ. / 185 - فيه: عِتْبَانَ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ عليه
السلام، فَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. قال المؤلف: الكلام
فى سلام الإمام والمأموم كالكلام فى إحرامهما، وقد تقدم فى
باب إنما جعل الإمام ليؤتم به فى أبواب الإمامة اختلاف
العلماء فى ذلك، فأغنى عن إعادته، ونذكر هاهنا منه طرفًا،
وذلك أنه لا يكون المصلى داخلاً فى الصلاة محرمًا بها إلا
بتمام التكبير، لا ينبغى للمأموم أن يدخل فى صلاة لم يصح
فيها دخول إمامه بعد، والسلام كذلك، ولا ينبغى أن يفعله
المأموم إلا بعد فعل إمامه؛ لأنه تحليل، أو بعد تقدمه ببعض
لفظ السلام، هذا حق الائتمام فى اللغة أن يكون فعل المأموم
تاليًا لفعل الإمام؛ ألا ترى قول عتبان: (صلينا مع الرسول
فسلمنا حين سلم) ، وهذا يقتضى أن سلامهم كان بعد تمام
سلامه عليه السلام، وهو الذى كان يستحبه ابن عمر.
7 - باب مَنْ لَمْ يَرَ رَدَّ السَّلامِ عَلَى الإمَامِ،
وَاكْتَفَى بِتَسْلِيمِ الصَّلاةِ
/ 186 - فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ أنه قَالَ: صَلِّينا
مع النَّبِيُّ عليه السلام، ثُمَّ سَلَّمَ، وَسَلَّمْنَا
حِينَ سَلَّمَ. هذا الحديث حجة لمن قال: يسلم المأموم
واحدة؛ لأن قول عتبان: (وسلمنا حين سلم) ، يقتضى أقل ما
يقع عليه اسم سلام، وذلك تسليمة
(2/455)
واحدة، وممن كان لا يرد على الإمام، روى
جرير بن حازم، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا سلم الإمام
قال: السلام عليكم، لم يزد عليها إلا أن يسلم أحد عن يمينه
وشماله يرد عليه، فى مصنف حماد بن سلمة. وقال ابن المنذر:
قال عمار بن أبى عمار: كان مسجد المهاجرين يسلمون تسليمة
واحدة، وكان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين، فالمهاجرين لم
يكونوا يردون على الإمام. وفيها قول ثانٍ روى النخعى قال:
لا أعلم عليه بأسًا أن يرد وإن لم يرد، وممن كان يرى أن
يرد على الإمام: ذكر ابن أبى شيبة عن ابن عمر أنه كان يرد
السلام على الإمام وهو قول الشعبى، وسالم، وسعيد بن
المسيب، وعطاء، وقال مالك فى (المدونة) : يسلم المأموم عن
يمينه، ثم يرد على الإمام فإن كان عن يساره أحد ردَّ عليه،
وقد كان من قول مالك فى المأموم: يسلم عن يمينه ثم عن
يساره، ثم يرد على الإمام، ومن قال بالرد على الإمام تأوّل
فى ذلك أن الإمام يسلم عليهم، فلزمهم الرد عليه كسائر
السلام. ومن قال بالتسليمتين من أهل الكوفة يجعلون
التسليمة الثانية ردًا على الإمام، وهو عندهم سنة، والأولى
هى الفريضة التى بها يخرج من الصلاة. وأظن البخارى، رحمه
الله، أراد بهذا الباب ردَّ قول من أوجب التسليمة الثانية،
ولا أعلم قال ذلك إلا الحسن بن صالح، وحكى الأصيلى فى
الدلائل أنه قول أحمد بن حنبل.
(2/456)
وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه
العلم على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة، وقال
مالك فى المجموعة: كما يدخل فى الصلاة بتكبيرة واحدة كذلك
يخرج منها بتسليمة واحدة، وعلى ذلك كان الأمر فى القديم،
وإنما حدث تسليمتان مذ كان بنو هاشم.
8 - باب الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاةِ
/ 187 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كان رَفْعَ الصَّوْتِ
بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ
الْمَكْتُوبَةِ، عَلَى عَهْدِ رسول الله، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ
إِذَا سَمِعْتُهُ. / 188 - وقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ مرة:
كُنْتُ أَعْلم انْقِضَاءَ صَلاةِ الرسول بِالتَّكْبِيرِ. /
189 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ
إِلَى رسول الله فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ
الأمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلا وَالنَّعِيمِ
الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ
كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ
بِهَا، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَعْتَمِرُونَ،
وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: (أَلا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ
أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ إلا
مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ
وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ)
. / 190 - وفيه: الْمُغِيرَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه
السلام، كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ
مَكْتُوبَةٍ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ
لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا
أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ
ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) .
(2/457)
قال الطبرى: فى حديث ابن عباس الدلالة على
صحة فعل من كان من الأمراء والولاة يكبر بعد فراغه من صلاة
المكتوبة فى جماعة ويكبر من وراءه من المصلين بصلاته. قال
المؤلف: ولم أجد من الفقهاء من يقول بشىء من هذا الحديث
إلا ما ذكره ابن حبيب فى الواضحة قال: يستحب التكبير فى
العساكر والثغور بأثر صلاة الصبح، والعشاء تكبيرًا عاليًا
ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس. وروى ابن القاسم عن
مالك فى العتبية قال: التكبير خلف الصلوات الخمس بأرض
العدو محدث أحدثه المسودة، وكذلك فى دبر الصبح، والمغرب فى
بعض البلدان. وقول ابن عباس: إن رفع الصوت بالذكر كان حين
ينصرف الناس من المكتوبة على عهد الرسول، يدل أنه لم يكن
يفعل ذلك الصحابة حين حدث ابن عباس بهذا الحديث؛ إذ لو كان
يفعل ذلك الوقت لم يكن لقوله كان يفعل على عهد رسول الله
معنى، وهذا كما كان أبو هريرة يكبر عند كل خفض ورفع يقول:
أنا أشبهكم صلاة برسول الله، فكان التكبير بأثر الصلوات
مثل هذا مما لم يواظب الرسول عليه طول حياته، وفهم أصحابه
أن ذلك ليس بلازم فتركوه خشية أن يظن من قصر علمه أنه مما
لا تتم الصلاة إلا به، فلذلك كرهه من الفقهاء من كرهه،
والله أعلم، وقد روى عن عبيدة أن ذلك بدعة. وفى حديث أبى
هريرة، وحديث المغيرة فضل الذكر بعد الصلاة، وأن ذلك من
رغائب الخير وسبيل الصالحين، وسأزيد هذا المعنى بيانًا،
(2/458)
وأبين اهل الذكر بعد الصلاة أفضل أم قراءة
القرآن فى كتاب الدعاء فى باب الدعاء بعد الصلاة، إن شاء
الله. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة فضل الغنى نصًا لا
تأويلاً إذا استوت أعمالهم بما افترض الله عليهم، فللغنى
حينئذ فضل أعمال البر من الصدقة وإحياء الأرماق، وإعانة
ابن السبيل، وفك الأسير والجهاد وشبه ذلك، مما لا سبيل
للفقراء إليها ولا قدرة لهم عليها، فبهذا يفضل الغنى
الفقير، وإنما يفضل الفقير الغنى إذا فضل صاحبه بالعمل،
وسيأتى تمام القول فى ذلك فى كتاب الرقائق، إن شاء الله.
وفيه: أن العالم إذا سُئل عن مسألة يقع فيها الخلاف بين
الأمة أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيبه
بنفس التفاضل خوف وقوع الخلاف. وفى (الموطأ) : عن عطاء بن
يزيد، عن أبى هريرة زيادة فى حديثه المذكور فى هذا الباب
وهو أنه قال: (من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وكبر
ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وختم المائة بلا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل
شىء قدير، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) . وقوله:
(ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، قال ابن السكيت: الجد، بفتح
الجيم، الحظ والبخت، أى: من كان له جد فى الدنيا لم ينفع
ذلك عند الله فى الآخرة، وكذلك فسره أبو عبيد وجميع أهل
(2/459)
اللغة، وسأذكر قول الطبرى فى هذه الكلمة فى
باب القدر فى باب لا مانع لما أعطى الله، إن شاء الله.
9 - باب يَسْتَقْبِلُ الإمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّمَ
/ 191 - فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: (كَانَ عليه
السلام، إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا
بِوَجْهِهِ) . / 192 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ
قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلاةَ الصُّبْحِ
بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ
اللَّيْلَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ. .
.، الحديث. / 193 - وفيه: أَنَسِ: (أَخَّرَ الرَسُولُ
الصَّلاةَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ خَرَجَ، فصَلَّى،
فأَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. . .) ، الحديث. قال
المهلب: استقبال الرسول الناس بوجهه هو عوض من قيامه من
مصلاه؛ لأن قيامه إنما هو ليعرف الناس بفراغ الصلاة، ولذلك
ترجح مالك، يرحمه الله، فقال فى إمام مسجد القبائل
والجماعات: لابد أن يقوم من موضعه، ولا يقوم فى داره وسفره
إلا أن يشاء. وفى بقاء الإمام فى موضعه تخليط على
الداخلين، وأن موضع الإمام موضع خطة وولاية، فإذا قضى
صلاته زال منه، وكان على بن أبى طالب إذا صلى استقبل القوم
بوجهه، وكان إبراهيم النخعى إذا سلم انحرف واستقبل القوم.
(2/460)
0 - باب مُكْثِ الإمَامِ فِي مُصَلاهُ
بَعْدَ التَسْلِيمِ
وكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي
يُصَلِّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ، وَفَعَلَهُ ابن الْقَاسِمُ،
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لا
يَتَطَوَّعُ الإمَامُ فِي مَكَانِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ. /
194 - فيه: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (أَنَّ الرسول (صلى الله
عليه وسلم) كَانَ إِذَا سَلَّمَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ
يَسِيرًا) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَنُرَى، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ لِكَيْ يَنْفُذَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنَ
النِّسَاءِ. وقالت مرة: فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ،
فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ
اللَّهِ. ذهب جمهور العلماء أن الإمام لا يتطوع فى مكانه
الذى صلى فيه الفريضة، وذكر ابن أبى شيبة، عن على قال: لا
يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه أو يفصل بينهما بكلام،
وكرهه ابن عمر للإمام، ولم ير به بأسًا لغيره، وعن عبد
الله بن عمرو مثله، وروى موسى عن القاسم أن الإمام إذا سلم
فواسع أن ينتفل فى مكانه، وهذا لم أجده لغيره من العلماء.
وأما مكث الإمام فى مصلاه بعد السلام، فقد كرهه أكثر
العلماء إذا كان إمامًا راتبًا إلا أن يكون مكثه لعلة، كما
فعل عليه السلام من أجل انصراف النساء قبل أن يدركهن
الرجال، هذا قول الشافعى، وأحمد بن حنبل، وقال مالك: يقوم
ولا يقعد فى الصلاة كلها إذا كان إمام مسجد جماعة، وإن كان
إمامًا فى سفر، فإن شاء قام وإن شاء قعد.
(2/461)
وقال أبو حنيفة: كل صلاة بعدها نافلة فإنه
يقوم لها، وما لا نافلة بعدها كالعصر والفجر، فإن شاء قام
وإن شاء قعد، وهو قول أبى مجلز. وقال محمد: ينتقل فى
الصلوات كلها؛ ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه شىء من
الصلاة من سجود سهو ولا غيره. وذكر ابن أبى شيبة، عن ابن
مسعود، وعائشة قالا: (كان عليه السلام إذا سلم لم يقعد إلا
بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا
ذا الجلال والإكرام) . وقال ابن مسعود أيضًا: كان الرسول
إذا قضى الصلاة انفتل سريعًا، فإما أن يقوم وإما أن ينحرف.
وقال ابن جبير: شرق أو غرب، ولا تستقبل القبلة. وقال
قتادة: كان أبو بكر إذا سلم كأنه على الرضف حتى ينهض. وقال
ابن عمر: الإمام إذا سلم قام. وقال مجاهد: قال عمر: جلوس
الإمام بعد السلام بدعة، وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن
الإمام إذا سلم، فإن من صلى خلفه من المأمومين يجوز لهم
القيام قبل قيامه إلا رواية عن الحسن، والزهرى، ذكرها عبد
الرزاق قال: لا ينصرفوا حتى يقوم الإمام، قال الزهرى: إنما
جعل الإمام ليؤتم به، وجماعة الناس على خلافهما. وروى
معمر، عن أبى إسحاق، عن أبى الأحوص، عن ابن
(2/462)
مسعود قال: إذا فرغ الإمام ولم يقم ولم
ينحرف، وكانت لك حاجة، فاذهب ودعه فقد تمت صلاتك. وفى حديث
أم سلمة من الفقه: أن خروج النساء ينبغى أن يكون قبل خروج
الرجال.
1 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حَاجَةً
فَتَخَطَّاهُمْ
/ 195 - فيه: عُقْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ الرسول
بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، فقَامَ مُسْرِعًا،
فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ
نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ
عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ،
فَقَالَ: (ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا،
فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) .
قال المؤلف: مباح للإمام إذا سلم أن ينصرف إن شاء قبل
انصراف الناس. وفيه: أن التخطى بما لا غنى بالإنسان عنه
مباح فعله. وقال المهلب: التخطى لا يكون مكروهًا إلا فى
موضع يشتغل الناس فيه عن الصلاة أو عن الخطبة فحينئذ يكره
التخطى من أجل شغل الناس بمن تخطاهم عما هم فيه من الذكر
والاستماع، وقد تحضر الإنسان ضرورة حقن أو ذكر حاجة يخشى
فوتها، فيستجاز التخطى فى ذلك كالراعف والمحدث يخرج من بين
الصفوف. وفيه: أن من حبس صدقة للمسلمين من وصية أو زكاة أو
غيرها أنه يخاف عليه أن يحبس بها يوم القيامة فى الموقف،
لقوله عليه السلام: (كرهت أن يحبسنى) ، يعنى: فى الآخرة،
والله أعلم.
(2/463)
وفيه: أن من وجب عليه فرض، فإن الأفضل له
مبادرته.
2 - باب الانْفِتَالِ وَالانْصِرَافِ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشِّمَالِ
وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَنْفَتِلُ عَنْ يَمِينِهِ
وَعَنْ يَسَارِهِ، وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ يَتَوَخَّى أَوْ
مَنْ يَتعْمِدُ الانْفِتَالَ عَنْ يَمِينِهِ. / 196 - فيه:
عَبْدُاللَّهِ قَالَ: لا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ
لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلاتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا
عَلَيْهِ أَنْ لا يَنْصَرِفَ إِلا عَنْ يَمِينِهِ، لَقَدْ
رَأَيْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كَثِيرًا
يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ. فالانفتال والانصراف عن اليمين
والشمال جائز عند العلماء لا يكرهونه لما ثبت عن الرسول فى
هذا الباب، وإن كان انصرافه عليه السلام، عن يمينه أكثر؛
لأنه كان يحب التيامن فى أمره كله، وإنما نهى ابن مسعود عن
التزام الانصراف من جهة اليمين؛ خشية أن يجعل ذلك من
اللازم الذى لا يجوز غيره، وقد روى قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه
(أنه صلى مع الرسول فرآه ينصرف من شقيه) . وقال على: إذا
قضيت الصلاة وأنت تريد حاجتك، فإن كانت حاجتك عن يمينك أو
عن يسارك فخذ نحو حاجتك، وكان على لا يبالى انصرف عن يمينه
أو عن يساره، وعن ابن عمر مثله، وهو قول النخعى، واستحب
الانصراف عن اليمين: الحسن البصرى، ورأى أبو عبيدة رجلاً
انصرف عن يساره فقال: أما هذا فقد أصاب السنة.
(2/464)
3 - باب مَا جَاءَ فِي الثُّومِ النِّئِّ
وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ
وَقَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَكَلَ
الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ فَلا
يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) . / 197 - فيه: ابْنِ عُمَرَ،
أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ فِي غَزْوَةِ
خَيْبَرَ: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي
الثُّومَ - فَلا يَغْشَانَا فِي مَسَجِدِنَا) ، قُلْتُ:
مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ يَعْنِي إِلا
نِيئَهُ. / 198 - وفيه: جَابِرَ، عن الرسول: (أَلاَّ
يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا) . / 199 - وفيه: جَابِرَ،
أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً
فَلْيَعْتَزِلْنَا - أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ
مَسْجِدَنَا - وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ، وَأَنَّه عليه
السلام، أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ،
فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا
مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا، إِلَى بَعْضِ
أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ:
كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي) . وَقَالَ ابْنُ
وَهْبٍ: عن يونس، عن الزهرى: أُتِيَ بِبَدْرٍ، يَعْنِي
طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ. / 200 - وفيه: أَنَسَ، قَالَ
عليه السلام: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلا
يَقْرَبْنَا، ولا يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا) . فى هذا الحديث
من الفقه إباحة أكل الثوم؛ لأن قوله: (من أكل) لفظ إباحة،
وفى ذلك دليل على أن شهود الجماعة ليس بفريضة خلافًا لأهل
الظاهر الذين يوجبونها، ويحرمون أكل الثوم من أجل شهودها،
وقد أكل الثوم جماعة من السلف، واختلف العلماء فى
(2/465)
معانٍ من هذا الحديث، فقال بعضهم: إنما خرج
النهى عن مسجد الرسول خاصة من أجل ملائكة الوحى. وقال
جمهور العلماء: حكم مسجد الرسول وحكم سائر المساجد سواء،
وملائكة الوحى وغيرها سواء؛ لأنه قد أخبر عليه السلام أنه
يتأذى منه بنو آدم، وقال: (يؤذينا بريح الثوم) ، ولا يحل
أذى الجليس المسلم حيث كان. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال:
من أكل الثوم يوم الجمعة لا أرى له أن يشهد الجمعة فى
المسجد ولا رحابه، وبئس ما صنع من أكل الثوم وهو ممن تجب
عليه الجمعة. وفيه: دليل أن كل ما يتأذى به كالمجذوم وشبهه
يبعد عن المسجد وحلق الذكر، وقد قال سحنون: لا أرى الجمعة
تجب على المجذوم، واحتج بقوله عليه السلام: (من أكل من هذه
الشجرة فلا يقربن مسجدنا) . وأفتى أبو عمر أحمد بن عبد
الملك بن هاشم فى رجل شكا جيرانه أنه يؤذيهم فى المسجد
بلسانه، قال: يخرج عن المسجد، ويبعد عنه ونزع بهذا الحديث،
وقال: أذاه أكثر من أذى الثوم، وهذا الحديث أصل فى نفى كل
ما يتأذى به. وفيه: أن الخضر كانت عندهم بالمدينة، وفى
إجماع أهلها على أنه لا زكاة فيها دليل على أن رسول الله
لم يأخذ منها الزكاة، ولو أخذ منها لم يخف على جميعهم
ولنقل ذلك، وهو قول مالك،
(2/466)
والشافعى، وجماعة، وقال المهلب: فى قوله:
(أناجى من لا تناجى) ، دليل أن الملائكة أفضل من بنى آدم.
وفيه: أن بنى آدم يلزم من بر بعضهم ما لا يلزم لجميعهم؛
ألا ترى أنه لم يؤمر آكل الثوم باجتناب أهل الأسواق ومهنة
الناس وباعتهم. قال مالك: ما سمعت فى أكل الثوم كراهية فى
دخول السوق، وإنما ذلك فى المسجد، ذكره ابن أبى زيد فى
النوادر. وفيه: أنه من ترك طعامًا لا يحبه أنه لا لوم عليه
كفعله عليه السلام، فى الضب. وقال الخطابى: فسر ابن وهب
البدر أنه الطبق، سمى بذلك لاستدارته واتساقه، ولذلك سمى
القمر عند اتساقه بدرًا، ومنه عين بدرة إذا كانت واسعة
مستديرة قال امرؤ القيس: وعين لها حَدْرة بَدْرة شُقَّتْ
مآقيهما مِنْ أُخُر والبدرة: مسك السخلة، وبه سميت بدرة
المال.
(2/467)
4 - باب وُضُوءِ الصِّبْيَانِ، وَمَتَى
يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْغُسْلُ وَالطُّهُورُ وَحُضُورِهِمُ
الْجَمَاعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجَنَائِزَ وَصُفُوفِهِمْ
/ 201 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أن النَّبِيِّ (صلى الله
عليه وسلم) مر عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّهُمْ،
وَصَفُّوا عَلَيْهِ. / 202 - وفيه: أَبو سَعِيدٍ، قَالَ
عليه السلام: (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى
كُلِّ مُحْتَلِمٍ) . / 203 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (بِتُّ
عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَنَامَ النَّبِيُّ،
فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، قَامَ النبى (صلى
الله عليه وسلم) ، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ
وُضُوءًا خَفِيفًا، ثُمَّ قَامَ فصَلِّي، فَقُمْتُ،
فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ
فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَحَوَّلَنِي، فَجَعَلَنِي عَنْ
يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ. . .) ،
الحديث. / 204 - وفيه: أَنَسِ: (أَنَّ جَدَّتَهُ
مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ،
فَأَكَلَ مِنْهُ، فَقَالَ: قُومُوا فَلأصَلِّيَ بِكُمْ،
فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا، قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ
مَا لَبِثَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ وَالْيَتِيمُ مَعِي وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا،
فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ) . / 205 - وفيه: ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ
أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ،
وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي
بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ
بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ، وَأَرْسَلْتُ
الأتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ
يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. / 206 - وفيه: عَائِشَةَ:
(أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ بالْعِشَاءِ، حَتَّى نَادَاهُ
عُمَرُ: قَدْ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الأرْضِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلاةَ غَيْرُكُمْ،
وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي إِلا أَهْلِ
الْمَدِينَةِ) . / 207 - وقَالَ رَجُل لابْنَ عَبَّاسٍ:
شَهِدْتَ العيد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَم،
وَلَوْلا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ.
(2/468)
قال المهلب: فى هذا الباب وضوء الصبيان
وصلاتهم، وشهودهم الجماعات فى النوافل والفرائض، وتدريبهم
عليها قبل وجوبها عليهم ليبلغوا إليها وقد اعتادوها
وتمرنوا فيها، وأحاديث هذا الباب بَيِّنة فى ذلك؛ لأن ابن
عباس صلى مع الرسول على القبر المنبوذ، وإذ بات عند خالته
ميمونة وصلى خلف النبى، وإقباله على الأتان، وحديث أنس
واليتيم، كان ذلك كله فى حال الصغر، يدل على ذلك قول ابن
عباس: ولولا مكانى من الصغر ما شهدته، يريد بذلك حين أتى
النساء ووعظهن وابن عباس معه، وذكر البخارى فى فضائل
القرآن أنه توفى الرسول وأنا ابن عشر سنين، وذكر ابن أبى
شيبة عن الربيع، حدثنا ابن معبد الجهنى، عن أبيه، عن جده
قال: قال رسول الله: (إذا بلغ الغلام سبع سنين فأمروه
بالصلاة، فإذا بلغ عشرًا فاضربوه عليها) . ورواه ابن شعيب
عن أبيه، عن جده، عن النبى، وقال به مكحول، ومالك،
والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وجماعة، وقد روى أشهب عن مالك
فى العتبية أنه يضرب على الصلاة لسبع، وقال عروة: يؤمر
بالصلاة إذا عقلها، وقال ابن عمر: يعلم الصبى الصلاة إذا
عرف يمينه من شماله، وهو قول ابن سيرين. ولم يختلف العلماء
أن الاحتلام أول وقت لزوم الفرائض والحدود والأحكام،
واختلفوا إذا أتى عليه من السنين ما يحتلم فى مثلها ولم
يحتلم على أقوال سيأتى ذكرها فى موضعها من هذا الكتاب، إن
شاء الله تعالى.
(2/469)
5 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى
الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ وَالْغَلَسِ
/ 208 - فيه: عَائِشَةَ: (أَعْتَمَ النبى (صلى الله عليه
وسلم) بِالْعَتَمَةِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: نَامَ
النِّسَاءُ. . .) ، الحديث. / 209 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ،
أن نَّبِيِّ الله قَالَ: (إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ
نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ، فَأْذَنُوا لَهُنَّ) . / 210 -
وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ: أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا سَلَّمْنَ
مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ
وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا
قَامَ رَسُولُ اللَّهِ قَامَ الرِّجَالُ. / 211 - وفيه:
عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيُصَلِّي
الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ
بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. / 212 -
وفيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنِّي
لأقُومُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ
فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي
صَلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ) . / 213
- وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ
مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ المساجد، كَمَا
مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وقوله عليه السلام:
(إذا استأذنكم بالليل) ، فيه دليل أن النهار يخالف الليل؛
لنصه على الليل، وهذا الحديث يقضى على قوله: (لا تمنعوا
إماء الله مساجد الله) . قال مالك: إنه بلغه عن ابن عمر،
عن نبى الله فكأنه قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)
، يعنى: فى الليل، والغلس فيه معنى الليل، ألا ترى قول
عائشة ما يعرفن من الغلس.
(2/470)
قال المهلب: أى لا يتميزن إن كن نساءً أو
رجالاً، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى حديث قَيْلَةَ، قالت:
(قدمت على الرسول وهو يصلى بالناس صلاة الغداة حين انشق
الفجر، فصففت مع الرجال وأنا امرأة حديثة عهد بجاهلية،
فقال لى الرجل الذى يلينى: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: امرأة)
. ففيه دليل أن المرأة لا تخرج إلى المسجد إلا بإذن زوجها
أو غيره من أوليائها، وفيه دليل أنه ينبغى له أن يأذن لها
ولا يمنعها مما فيه منفعتها، وذلك محمول على الأصول إذا لم
يخف الفتنة عليها ولا بها؛ لأنه كان الأغلب من حال أهل ذلك
الزمان، وأما حديث عائشة ففيه دليل لا ينبغى للنساء أن
يخرجن إلى المساجد إذا حدث فى الناس الفساد. وهذا عند مالك
محمول على العجائز، وروى عنه أشهب قال: وللمتجالة أن تخرج
إلى المسجد ولا تكثر الترداد، وللشابة أن تخرج إليه المرة
بعد المرة، وتخرج فى جنائز أهلها. وقال أبو حنيفة: أكره
للنساء شهود الجمعة، والصلاة المكتوبة، وأرخص للعجوز أن
تشهد العشاء والفجر، وأما غير ذلك فلا. وقال أبو يوسف: لا
بأس أن تخرج العجوز فى الصلوات كلها وأكرهه للشابة، وقال
الثورى: ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزًا، وقال
ابن مسعود: المرأة عورة وأقرب ما تكون إلى الله فى قعر
بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان. وكان ابن عمر يقوم
بحصب النساء يوم الجمعة يخرجهن من
(2/471)
المسجد، وقال أبو عمرو الشيبانى: سمعت ابن
مسعود حلف فبالغ فى اليمين: ما صلت امرأة صلاة أحب إلى
الله من صلاتها فى بيتها إلا فى حج أو عمرة إلا امرأة قد
يئست من البعولة. وقال ابن مسعود لامرأة سألته عن الصلاة
فى المسجد يوم الجمعة، فقال: صلاتك فى مخدعك أفضل من صلاتك
فى بيتك، وصلاتك فى بيتك أفضل من صلاتك فى حجرتك، وصلاتك
فى حجرتك أفضل من صلاتك فى مسجد قومك. وكان إبراهيم يمنع
نساءه الجمعة والجماعة، وسئل الحسن البصرى عن امرأة حلفت
إن خرج زوجها من السجن تصلى فى كل مسجد يجمع فيه الصلاة
بالبصرة ركعتين، فقال الحسن: تصلى فى مسجد قومها؛ لأنها لا
تطيق ذلك، لو أدركها عمر بن الخطاب لأوجع رأسها.
6 - باب صَلاةِ النِّسَاءِ خَلْفَ الرِّجَالِ
/ 214 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ عليه السلام،
إِذَا سَلَّمَ، قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي
تَسْلِيمَهُ، وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا
قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، قَالَ: نَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ،
أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ليَنْصَرِفَ النِّسَاءُ، قَبْلَ أَنْ
يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالِ. / 215 - فيه: أَنَسِ: صَلَّى
الرسول فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ
خَلْفَهُ وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا. هكذا سنة صلاة
النساء أن يقمن خلف الرجال، وذلك والله أعلم، خشية الفتنة
بهن، واشتغال النفوس بما جبلت عليه من أمورهن عن الخشوع فى
الصلاة والإقبال عليها وإخلاص الفكر
(2/472)
فيها لله؛ إذ النساء مزينات فى القلوب
ومقدمات على جميع الشهوات، وهذا أصل فى قطع الذرائع، وقد
روى عن الرسول أنه قال: (خير صفوف الرجال أولها وشرها
آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) ، رواه سفيان
عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبى هريرة، وروى أيضًا من حديث
جابر، وروى ابن عباس أن امرأة جميلة دخلت المسجد فوقفت فى
الصف الأول من صفوف النساء، فمن الناس من تقدم حتى لا
يراها، ومنهم من تأخر فلاحظها، فأنزل الله تعالى: (ولقد
علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) [الحجر: 24]
.
7 - باب سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنَ الصُّبْحِ،
وَقِلَّةِ مَقَامِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ
/ 216 - فيه: عَائِشَةَ: كَانَ عليه السلام، يُصَلِّي
الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، فَتَنْصَرِفَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ،
لا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ، أَوْ لا يَعْرِفُ
بَعْضُهُنَّ بَعْضًا. هذه السنة المعمول بها أن تنصرف
النساء فى الغلس قبل الرجال ليخفين أنفسهن، ولا يتبين لمن
لقيهن من الرجال، فهذا يدل أنهن لا يُقمن فى المسجد بعد
تمام الصلاة، وهذا كله من باب قطع الذرائع، والتحظير على
حدود الله، والمباعدة بين الرجال والنساء خوف الفتنة ودخول
الحرج، ومواقعة الإثم فى الاختلاط بهن.
(2/473)
8 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ
زَوْجَهَا فِى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ
/ 217 - فيه: ابن عمر: أن الرسول قال: (إِذَا
اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ فَلا يَمْنَعْهَا) .
هذا الحديث معناه العموم، وتقييده بزيادة من زاد فيه
بالليل لصلاتهن فى مساجد الجماعة، ويخرج من هذا الحديث أن
الرجل إذا استأذنته امرأته إلى الحج لا يمنعها، فيكون وجه
نهيه عن منعها المسجد الحرام لأداء فريضة الحج نهى إيجاب،
وهو قول مالك، والشافعى أن المرأة ليس لزوجها منعها من
الحج، ويكون على الوجه الأول، أعنى الصلوات الخمس فى
المساجد، نهى أدب؛ لأنه واجب عليه أن لا يمنعها. وقال
الطبرى: فى إطلاقه عليه السلام لهن الخروج إلى المساجد
وذلك إباحة لا ندب ولا فرض، دليل أن نظير ذلك الإذن لهن فى
كل ما كان مطلقًا الخروج فيه نحو عيادة إحداهن بعض أهلها،
وشهودها أعياد المسلمين أو زيارة قبر ميت لها، وإذا كان
حقًا عليهم أن يأذنوا لهن فيما هو مطلق لهن الخروج فيه،
فالإذن لهن فيما هو فرض عليهن أو ندب الخروج إليه أولى،
كخروجهن لأداء شهادة لزمتهن، أو لتعرف أسباب دينهن، ولأداء
فرض الحج وشبهه من الفرائض، أو لزيارة أمهاتهن وآبائهن
وذوى محارمهن.
(2/474)
- كِتَاب الْجُمُعَةِ
- باب فَرْضِ الْجُمُعَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
(إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)
[الجمعة 9]
/ 1 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: قال رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي فُرِضَ
الله عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ
له، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ: الْيَهُودُ غَدًا،
وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ) . قال المؤلف: قوله: (نحن
الآخرون السابقون) ، يريد عليه السلام آخر الأنبياء
والرسل، وهو خاتم النبيين لا نبى بعده، وقوله: (السابقون)
، يعنى أن أمته يسبقون سائر الأمم بالدخول فى الجنة، وهو
الشافع ليقضى بين الخلائق يوم القيامة إذا اشتد بالناس
العرق، وطال بهم الوقوف، فيمشى حتى يأخذ حلقة الباب،
فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم.
وأيضًا فقد أخبر عليه السلام أن أمته أعطوا أجر أهل
الكتابين: التوراة، والإنجيل، فى حديث: (إنما مثلكم فيمن
خلا من الأمم قبلكم) . وقوله: (هذا يومهم الذى فرض عليهم
فاختلفوا فيه، فهدانا الله
(2/475)
له) ، ليس فيه دليل أن يوم الجمعة فرض
عليهم بعينه فتركوه؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يترك فرض الله
عليه وهو مؤمن، وإنما يدل والله أعلم، أنه فرض عليهم يوم
من الجمعة وكُل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم،
فاختلفوا فى أىّ الأيام يكون ذلك اليوم، ولم يهدهم الله
إلى يوم الجمعة، وذخره لهذه الأمة، وهداهم له تفضلاً منه
عليها؛ ففضلت به على سائر الأمم؛ إذ هو خير يوم طلعت فيه
الشمس وفضله الله بساعة يستجاب فيها الدعاء. وقوله:
(بَيْد) ، معناه: (غَيْر) ، عند الخليل.
- باب فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهَلْ عَلَى
الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ عَلَى
النِّسَاءِ
/ 2 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:
(إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ) . /
3 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
الأوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله، فَنَادَاهُ عُمَرُ:
أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فقَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ، فَلَمْ
أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ،
فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ
أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ
يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ. / 4 - وفيه: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) .
(2/476)
قال المؤلف: الغسل يوم الجمعة مرغب فيه
مندوب إليه، وقد اختلف العلماء فى وجوبه، فذهبت طائفة إلى
أنه ليس بواجب، يروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود،
وابن عباس، وعائشة، وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى،
وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وجمهور العلماء. وأوجب قوم
الغسل فرضًا، روى ذلك عن أبى هريرة، وكعب، وعن سعد وأبى
قتادة ما يدل على ذلك، وهو قول أهل الظاهر، واحتجوا بقوله:
(غسل الجمعة واجب على كل محتلم) . وقال الطحاوى: وحجة أهل
المقالة الأولى: قول عمر لعثمان: (والوضوء أيضًا وقد علمت
أن رسول الله كان يأمر بالغسل) ، فدل ذلك أن الغسل الذى
كان أمر به لم يكن عندهم على الوجوب، وإنما كان لما ذكرت
عائشة، وابن عباس أن الناس كانوا عمال أنفسهم يروحون
بهيئتهم، فيؤذى بعضهم بعضًا بالروائح الكريهة، فقيل لهم:
لو اغتسلتم، فدل أن الأمر كان من رسول الله بالغسل لم يكن
للوجوب عليهم، وإنما كان لعلةٍ، ثم ذهبت تلك العلة، فذهب
الغسل، ولولا ذلك لما تركه عثمان، ولا سكت عمر أن يأمره
بالرجوع حتى يغتسل، وذلك بحضرة أصحاب النبى، عليه السلام،
الذين سمعوا ذلك من النبى كما سمعه عمر، وعلموا معناه الذى
أراده فلم ينكروا عليه من ذلك شيئًا، ولم يأمروا بخلافه،
ففى هذا إجماع منهم على نفى وجوب الغسل. قال الطبرى: ودل
ذلك أن أمره عليه السلام، بالغسل كان على وجه
(2/477)
الندب والإرشاد، وقد جاءت روايات عن النبى،
عليه السلام، تدل على ذلك، فروى شعبة، عن قتادة، عن الحسن،
عن سمرة بن جندب أن النبى، عليه السلام، قال: (من توضأ يوم
الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) . ومعنى قوله
عليه السلام: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، يعنى:
واجب فى السنة وفى الأخلاق الكريمة، كما تقول: وجب حقك
وبرك، أى: فى كرم الأخلاق، وقد تأتى لفظة على الوجوب لغير
الفرض كما جاء فى الحديث: (الوتر واجب) ، وجمهور الأمة أنه
غير فرض. وقوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ، يدل أنه
لا تجب الجمعة على الصبى، وهذا إجماع، وكذلك أجمعوا أنه لا
جمعة على النساء. وقال المهلب: قول عمر لعثمان: (والوضوء
أيضًا) ، يدل على إباحة الكلام فى الخطبة بالأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر؛ لأنه من باب الخطبة.
3 - باب الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ
/ 5 - فيه: أَبو سَعِيدٍ، أن النبى، عليه السلام، قَالَ:
(الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ
مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ
وَجَدَ) . قَالَ عَمْرٌو: أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ
أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ
فَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لا؟ وَلَكِنْ
هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ. قوله: (أما الغسل فإنه واجب) ،
يعنى: وجوب سنة على ما تقدم من الأدلة على ذلك، قال
الطبرى، والطحاوى: لما قرن رسول الله
(2/478)
الغسل بالطيب يوم الجمعة، وأجمع الجميع على
أن تارك الطيب يومئذ غير حرج إذا لم تكن له رائحة مكروهة
يؤذى لها أهل المسجد، فكذلك حكم تارك الغسل؛ لأن مخرج
الأمر من النبى، عليه السلام، بهما مخرج واحد، وكذلك
أجمعوا أن أمره بالاستنان غير فرض، فكذلك الغسل والطيب،
وإن كان العلماء يستحبون الطيب لمن قدر عليه، كما يستحبون
اللباس الحسن، وكان ابن عمر يجِمّر ثيابه كل يوم جمعة،
وقال معاوية بن قرة: أدركت ثلاثين من مزينة كانوا يفعلون
ذلك.
4 - باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ
/ 6 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، عليه السلام:
(مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ،
ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ
فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ
بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ،
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي
السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً،
وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا
قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ
الْمَلائِكَةُ، يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) . / 7 - وفيه:
أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا
هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ،
فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاةِ،
فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلا أَنْ سَمِعْتُ
النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُ
النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ: (إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ
إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ؟) . قال المؤلف: فيه
الحض على الاغتسال للجمعة والتبكير إليها،
(2/479)
وقوله: (كغسل الجنابة) ، فإنما يعنى: فى
العموم والإسباغ لا فى الوجوب لما قدمناه قبل هذا. واختلف
العلماء فى الساعات المذكورة فى هذا الحديث التى يكون
الرواح فيها، فذهبت طائفة إلى أنها من أول طلوع الشمس، هذا
قول الكوفيين، والشافعى، وأجاز الشافعى البكور إليها قبل
طلوع الشمس، وقال مالك: لا يكون الرواح إلا بعد الزوال،
والذى يقع فى قلبى أنه أراد عليه السلام، ساعة واحدة فيها
هذا التفسير. قال الخطابى: وحجة مالك فى أن هذه الساعات
كلها فى ساعة واحدة قولهم: جئت من ساعة، وقعدت عند فلان
ساعة، يريد به جزءًا من الزمان غير معلوم دون الساعات التى
هى أوراد الليل والنهار وأقسامها. واختار ابن حبيب القول
الأول، واحتج له بأن ابن عمر سئل متى أروح؟ فقال: إذا صليت
الغداة فَرُحْ إن شئت، قال ابن حبيب: وتأويل مالك محال
وتحريف لوجه الحديث، وذلك أنه لا تكون ساعات فى ساعة
واحدة، والشمس إنما تزول فى الساعة السادسة من النهار وهو
وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة. وقول ابن حبيب خطأ لا
خفاء به؛ لأن أهل العلم بالأوقات والحساب لا يختلفون أن
الشمس إنما تزول فى أول الساعة السابعة، وتقع الصلاة إذا
فاء الفىء ذراعًا وذلك فى الساعة الثامنة بعد مسير خمسها
فى زمن الصيف، وبعد مسير نصفها فى زمن الشتاء. قال المهلب:
ومفهوم الرواح فى لسان العرب يرد قول ابن حبيب؛ لأنهم لا
يسمون الرواح إلا عند الزوال والغدو فى أول النهار، ولا
يسمّون
(2/480)
الغدو رواحًا، قال الله تعالى: (غدوها شهر
ورواحها شهر) [سبأ: 12] ، فدل أن الغدو خلاف الرواح،
والفرق بينهما مستفيض فى كلام الناس، والآثار الصحاح تشهد
لقول مالك والفعل بالمدينة؛ لأنه أمر متردد فى كل جمعة لا
يخفى على عامة العلماء، وروى أشهب عن مالك قال: التهجير
إلى الجمعة ليس هو الغدو، ولم يكن الصحابة يغدون هكذا.
وروى الزهرى عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن النبى،
عليه السلام، قال: (إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من
أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فالمهجر إلى
الجمعة كالمهدى بدنة، ثم الذى يليه كالمهدى بقرة، ثم الذى
يليه كالمهدى كبشًا. . .) إلى آخر الحديث. والمهجر: مأخوذ
من الهاجرة والهجير، وذلك وقت المسير إلى الجمعة، ولا يجوز
أن يسمى عند طلوع الشمس هاجرة ولا هجيرًا، وقال فى الحديث:
(ثم الذى يليه) ، ولم يذكر الساعات، فدل على صحة قول مالك.
قال المهلب: وفيه دليل على أن المسارع إلى طاعة الله
والسابق إليها أعظم أجرًا؛ ألا ترى أنه قد مثل ذلك بهدى
البدنة، ثم الرائح بعده كمهدى البقرة إلى البيضة، فأراد
عليه السلام أن يرى فضل ما بين البقرة والبدنة، ويدل على
تفاوت ما بين السابق والمسبوق فى الفضل، وجعل الرواح إلى
خروج الإمام. وقوله: (فإذا خرج الإمام طويت الصحف) ، فدل
على أنه
(2/481)
من أتى والإمام فى الخطبة أن أجره أقل من
أجر من أتى قبله؛ لأن الملائكة لم تكتبه فى صحفها، وإنما
يكون له أجر من أدرك الصلاة لا أجر المسارع. وقوله: (حضرت
الملائكة يستمعون الذكر) ، يعنى: الخطبة، وقد بين ذلك فى
حديث ابن المسيب، عن أبى هريرة، وقال: (يستمعون الخطبة) .
وقد احتج بهذا الحديث من فضل البدن على البقر، والبقر على
الضأن فى الضحايا، وهو قول الكوفيين والشافعى، واحتجوا
بالإجماع على أن أفضل الهدايا: الإبل، وقالوا: ما استيسر
من الهدى: شاة، فدل ذلك على نقصان مرتبتها عما هو أعلى
منها، وذهب مالك إلى أن أفضل الضحايا: الضأن، وقال تعالى:
(وفديناه بذبح عظيم) [الصافات: 107] ، وهو كبش لا جمل ولا
بقرة، وقال: لو علم الله حيوانًا هو أفضل من الكبش لفدى
به. وقوله: (من راح فى الساعة الرابعة كمن أهدى دجاجة، وفى
الساعة الخامسة كمن أهدى بيضة) ، واسم الهدى لا يقع على
الدجاجة والبيضة، وأما الغنم فقد اختلف العلماء فيها، فقال
بعضهم: ليست بهدى والأكثرون منهم يجعلونها هديًا، وثمرة
هذا الخلاف أن يوجب الرجل على نفسه هديًا، فإذا ذبح شاة
أجزأه عن نذره فى قول من رآها هديًا، ولا يجزئه فى قول
الآخرين إلا بدنة أو بقرة، ذكره الخطابى. وقوله: (أهدى
دجاجة وبيضة) ، فمن المحمول على حكم ما تقدمه من الكلام
كقوله: أكلت طعامًا وشرابًا، والأكل إنما
(2/482)
يصرف إلى الطعام دون الشراب، إلا أنه لما
عطف به على المذكور قبله حمل على حكمه كقولهم: متقلدًا
سيفًا ورمحًا، والرمح لا يتقلد إنما يحمل، ومثله:
زَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا، أى: كحلن العيونا.
5 - باب الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ
/ 8 - فيه: سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ عليه السلام: (لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ الطُهْور،
وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، ويَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ،
ثُمَّ يَخْرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ
يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ
الإمَامُ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجُمُعَةِ الأخْرَى) . / 9 - وفيه: طَاوُسٌ: قُلْتُ
لابْنِ عَبَّاسٍ: ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام،
قَالَ: (اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا
رُءُوسَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَأَصِيبُوا
مِنَ الطِّيبِ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا الْغُسْلُ
فَنَعَمْ، وَأَمَّا الطِّيبُ فَلا أَدْرِي. قال المؤلف:
الدهن يوم الجمعة كالطيب لها، وقد تقدم أن العلماء متفقون
على استحبابه، وروى فى حديث سلمان أنه عليه السلام، قال:
(إذا توضأ الرجل يوم الجمعة ولبس ثيابه، ثم أتى الجمعة
وأنصت حتى تقضى الصلاة؛ غفر له من الجمعة إلى الجمعة) ،
فذكر مكان الغسل الوضوء رواه جرير بن حازم، عن مغيرة، عن
إبراهيم، عن القرثع الضبى، عن سلمان. قال الطبرى: وفيه
البيان أن الثواب الذى وصفه النبى، عليه
(2/483)
السلام، إنما هو أن يشهد الجمعة بالصفة
التى وصفها وأنصت لخطبة إمامه وقراءته فى صلاته دون من لم
ينصت. فإن قيل: فإذا كان كما وصفت، فما أنت قائل فيمن كان
بهذه الصفة وكان من الإمام بحيث لا يبلغه صوته أو كان بحيث
يبلغه صوته لو رفع، غير أن الإمام خفض صوته، فلم يسمع
خطبته ولا قراءته، هل يستحق الثواب الذى ذكره النبى، عليه
السلام، أم لا؟ . قيل: إذا كان بعض هذه العلل فالله تعالى،
أكرم من أن يحرم عبدًا له مطيعًا، انتهى فى أمره إلى ما
أمر به، ثواب عمله بسبب مانع منعه إلى ما قصده وأراده.
وقوله عليه السلام: (اغتسلوا يوم الجمعة وإن لم تكونوا
جنبًا) ، فإنه محمول عند الفقهاء على الاستحباب والندب كما
تقدم فى باب فضل الغسل يوم الجمعة، وقال ابن المنذر: أكثر
من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون: يجزئ غسل واحد للجنابة
والجمعة. وابن المنذر صاحب (الإشراف) ، هو القائل: وروينا
هذا عن ابن عمر، ومجاهد، ومكحول، ومالك، والثورى،
والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وقال أحمد: أرجو أن يجزئه،
وهو قول ابن كنانة، وأشهب، وابن وهب، ومطرف، وابن
الماجشون، وابن نافع، ورواه عن مالك، وهو قول المزنى. وقال
آخرون: لا يجزئه غسل الجمعة عن غسل الجنابة حتى ينويها،
هذا قول مالك فى المدونة وذكره ابن عبد الحكم، وذكر ابن
المنذر عن بعض ولد أبى قتادة أنه قال: من اغتسل للجنابة
يوم الجمعة اغتسل للجمعة. وقال ابن حبيب: لم يختلف قول
مالك ومن علمت من أصحابنا، فيمن اغتسل للجنابة وهو ناسٍ
للجمعة أن ذلك لا يجزئه عن
(2/484)
غسل الجمعة، غير محمد بن عبد الحكم، فإنه
قال: غسل الجنابة يجزئ عن غسل الجمعة، ولا يجزئ غسل الجمعة
عن غسل الجنابة، وقال الأبهرى: إنما لم يجزئ غسل الجمعة عن
الجنابة؛ لأن غسل الجنابة فرض، وغسل الجمعة مندوب إليه ليس
بفرض وسيأتى معنى قوله: (فلا يفرق بين اثنين) فى بابه.
6 - باب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ
/ 10 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ
تَلَبِسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا
قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنَّمَا
يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) .
ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهَا حُلَلٌ، فَأَعْطَى
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمَرُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِي
حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا
لِتَلْبَسَهَا) ، فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا. قوله فى الحلة: (فتلبسها
للجمعة) ، يدل أنه كان عندهم معهود أن يلبس الرجل أفضل
ثيابه وأحسنها لشهود الجمعة، وقد روى عنه عليه السلام، أنه
قال: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبى مهنته)
، من بلاغات مالك عن يحيى بن سعيد. وذكر أهل السير: أن
النبى عليه السلام، كان يلبس برده الأحمر يوم الجمعة وأحسن
ثيابه، ويمس من الطيب، وكذلك فى العيدين.
(2/485)
قال عبد الرحمن بن أبى ليلى: أدركت أصحاب
محمد من أصحاب بدر، وأصحاب الشجرة إذا كان يوم الجمعة
لبسوا أحسن ثيابهم وإن كان عندهم طيب مسُّوا منه، ثم راحوا
إلى الجمعة. والسيراء: ثياب يخالطها حرير، يقال: سيرت
الثوب والسهم: جعلت فيه خطوطًا، من كتاب (العين) .
7 - باب السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 11 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ النبى، عليه السلام:
(لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى
النَّاسِ، لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاةٍ) .
/ 12 - وفيه: أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ)
. / 13 - وفيه: حُذَيْفَةَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام،
إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ) . قال المؤلف:
إذا كانت الجمعة لها مزية فضيلة فى الغسل لها واللباس
والطيب، وكان السواك مستحبًا لكل صلاة مندوبًا إليه، كانت
الجمعة أولى بذلك. وقال المهلب: قوله: (لولا أن أشق على
أمتى) ، يدل أن السنن والفضائل ترتفع عن الناس إذا خشى
منها الحرج عليهم، وإنما أكد فى السواك لمناجاة الله
ولتلقى الملائكة لتلك المناجاة فلزم تطهير النكهة، وتطييب
الفم.
(2/486)
8 - باب مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ: دَخَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ، وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ
إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: (أَعْطِنِي
هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ) ،
فَأَعْطَانِيهِ، فَقَضَمْتُهُ، ثُمَّ مَضَغْتُهُ،
فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ فَاسْتَنَّ بِهِ، وَهُوَ
مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي. وفيه: الترجمة، وفيه: طهارة ريق
ابن آدم، وقد تقدم فى كتاب الطهارة.
9 - باب مَا يُقْرَأُ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ
/ 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه
السلام، يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يوم الْجُمُعَةِ) الم
تَنْزِيلُ (، وَ) هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ) [الإنسان
1] ) . ذهب العلماء إلى القول بهذا الحديث، وأجازوا أن
يقرأ سورة فيها سجدة فى الفجر يوم الجمعة، روى ذلك عن على
بن أبى طالب، وابن عباس واستحبه النخعى، وابن سيرين، وهو
قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: هو سنة،
واختلف قول مالك فى ذلك فروى ابن وهب عنه أنه لا بأس أن
يقرأ الإمام بالسجدة فى الفريضة، وروى عنه أشهب أنه كره
للإمام ذلك إلا أن يكون من خلفه قليل لا يخاف أن يخلط
عليهم. وقال المهلب: القراءة فى الصلاة كلها محمولة على
قوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) [المزمل: 20] ،
وإنما كره ذلك مالك خشية التخليط
(2/487)
على الناس، ولذلك، والله أعلم، ترك النبى،
عليه السلام، فى آخر فعله السجود فى المفصل؛ لأنه الذى
يقرأ به فى الصلوات الخمس، وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى
باب سجود القرآن، إن شاء الله تعالى.
- باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ
/ 16 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (أَوَّلَ جُمُعَةٍ
جُمِّعَتْ، بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ،
فِي مَسْجِدِ عَبْدِالْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ
الْبَحْرَيْنِ) . / 17 - وكَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ
إِلَى ابْنِ شِهَابٍ، وهو بِوَادِي الْقُرَى: هَلْ تَرَى
أَنْ أُجَمِّعَ؟ ، وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ
وَفِيهَا جَمَاعَةٌ، فَكَتَبَ إليه ابْنُ شِهَابٍ أَنْ
يُجَمِّعَ، قال: وحَدَّثَنى سَالِم، عن أبيه، أَنَّ النبى،
عليه السلام، قال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) . أجمع العلماء على وجوب
الجمعة على أهل المدن، واختلفوا فى وجوبها على أهل القرى،
فقال مالك: كل قرية فيها مسجد أو سوق، فالجمعة واجبة على
أهلها، وبه قال الشافعى وجماعة، وقال مالك، والشافعى: لا
تجب على أهل العمود، وإن كثروا؛ لأنهم فى حكم المسافرين.
وقال أبو حنيفة، والثورى: لا تجب الجمعة إلا على أهل
الأمصار خاصة، وأحاديث هذا الباب حجة لمن أوجب الجمعة على
أهل القرى. وفى احتجاج ابن شهاب أن الجمعة على أهل القرى
بقوله عليه السلام: (كلكم راع ومسئول عن رعيته) ، حجة
للكوفيين فى أن
(2/488)
الجمعة لا تقوم إلا بالأمراء أو من أَذِنَ
له الأمراء، وزعموا أن الإمام فيها شرط؛ لأن النبى، عليه
السلام، صلى بهم يوم الجمعة وخلفاؤه بعده، وقال مالك،
والشافعى: تقوم الجمعة فى القرى والمدن بِوَالٍ أو غيره.
قال ابن القصار: ولو جاز أن يقول إن إقامة الجمعة بالنبى
وخلفائه شرط لجاز أن يقول ذلك فى سائر الصلوات؛ لأنه عليه
السلام، تولى سائر الصلوات بنفسه واستخلف أبا بكر الصديق،
فكان يجب ألا تصلى صلاة إلا بسلطان أو إذنه، والجمعة لابد
أن تفعل فى المسجد مع الأئمة، والجماعات فى الجمعة كما هى
فى الأعياد والاستسقاء والخسوف والحج، وهى أعلام من
الشرائع بكثرة الاجتماع لها، فجرت عادة السلطان بحضورها
لمقاماتها، لا أن غير ذلك لا يجوز، كما فعل سائر الصلوات
فى المسجد، وتوعد على تركها معه فى المسجد ولم يقل أن غير
ذلك لا يجوز.
- باب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ
مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ
تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ. / 18 - فيه: ابْنَ عُمَرَ
قال النبى، عليه السلام: (مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ
الْجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ) . / 19 - وفيه: أَبو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (غُسْلُ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) . /
20 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
(. . . نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ. . .) ، إلى قوله:
(حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ
سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ
وَجَسَدَهُ) .
(2/489)
/ 21 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ
النَّبِيِّ عليه السلام: (ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ
بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ) . / 22 - وفيه: ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاةَ
الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ،
فَقِيلَ لَهَا: لِمَ تَخْرُجِينَ، وَقَدْ تَعْلَمِينَ
أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ؟ قَالَتْ: فَمَا
يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ ، قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ
رَسُولِ اللَّهِ: (لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ
مَسَاجِدَ اللَّهِ) . قال المؤلف: أما الصبيان فلا يلزمهم
غسل الجمعة حتى يحتلموا كما قال النبى، عليه السلام، وقد
استحب مالك أن يغتسل من حضر الجمعة من النساء والعبيد
والصبيان، وهو قول الشافعى فى غير المحتلمين إذا شهدوا
الجمعة، وروى عن طاوس وأبى وائل أنهما كانا يأمران نساءهما
بالغسل يوم الجمعة، وأجمع أئمة الفتوى أن الصبيان والنساء
لا تلزمهم الجمعة فسقط الغسل عنهم، وكذلك أجمع أئمة الفتوى
أن المسافرين لا جمعة عليهم فلا غسل عليهم، وقد روى عن
طلحة بن عبيد الله أنه كان يغتسل للجمعة فى السفر، وعن
طاوس ومجاهد مثله، وقال أبو ثور: لا يجب ترك ذلك. وقوله
عليه السلام: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) ، يَرُدُّ هذا
كله؛ لأنه عليه السلام شرط الغسل بشهود الجمعة، فمن لزمته
الجمعة اغتسل، ومن سقطت الجمعة عنه سقط عنه الغسل كما قال
ابن عمر، وقوله عليه السلام: (ائذنوا للنساء بالليل إلى
المساجد) ، حجة فى أنه لا جمعة على النساء؛ لأنه عليه
السلام جعل لأزواجهن الإذن لهم بالليل إلى المساجد ولا
جمعة فى الليل، ولو لزمتهن الصلاة فى المساجد كما تلزم
الرجال لما خص الليل دون النهار، ولم يخاطب
(2/490)
أزواجهن بالإذن لهن؛ بل خاطبهن آمرًا لهن
بذلك، وإن كان إجماع أئمة الفتوى الذين هم الحجة على أن
النساء والصبيان لا جمعة عليهم يغنى عن إقامة الدليل عليه.
وكذلك حديث امرأة عمر أنها كانت تشهد العشاء والصبح فى
جماعة يدل أن الصحابة فهمت إذن النبى، عليه السلام، للنساء
بالصلاة فى الجماعة: إنما أريد به الليل والغلس، على ما
بوب له البخارى قبل هذا؛ فإن الجمعة لا إذن لهن فيها،
والله الموفق. واختلفوا فى وقت غسل الجمعة، وهل الغسل لأجل
اليوم أو لأجل الصلاة، فقال أبو يوسف: إذا اغتسل بعد طلوع
الفجر ثم أحدث فتوضأ، ثم شهد الجمعة لم يكن كمن شهد الجمعة
على غسل، قال أبو يوسف: إن كان الغسل لليوم فإن اغتسل بعد
الفجر، ثم أحدث فصلى الجمعة بوضوء فغسله تام، وإن كان
الغسل للصلاة، فإنما شهد الجمعة على وضوء. وذكر ابن المنذر
عن مجاهد، والحسن البصرى، والنخعى، والثورى، والشافعى،
وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، أنه من اغتسل بعد الفجر للجمعة
أنه يجزئه من غسل الجمعة، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، وقال
مالك: لا يجزئه إلا أن يكون غسلاً متصلاً بالرواح ولا يجزئ
فى أول النهار. وقال الطحاوى: قوله عليه السلام: (من جاء
إلى الجمعة
(2/491)
فليغتسل) ، وروى (من راح إلى الجمعة
فليغتسل) ، يدل أن الغسل للرواح وقوله: (غسل الجمعة واجب
على كل محتلم) ، و (حق على كل مسلم أن يغتسل فى كل سبعة
أيام يومًا) ، يدل أن المقصود به اليوم لا الرواح، والواجب
حمل الأخبار على أن المقصود به الصلاة لا اليوم؛ لأن اليوم
إنما ذكره لأن فيه الجمعة حتى تتفق معانى الأخبار؛ ولأنهم
متفقون على أنه لو اغتسل يوم الجمعة بعد فوات الجمعة أنه
غير مصيب لغسل يوم الجمعة، فدل أن المقصود بالغسل إلى
الرواح لا إلى اليوم.
- باب الرُّخْصَةِ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْجُمُعَةَ فِي
الْمَطَرِ
/ 23 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أنه قال لِمُؤَذِّنِهِ فِي
يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: (أَشْهَدُ أَنَّ لا إلهَ
إلا الله، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ،
فَلا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي
بُيُوتِكُمْ، فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذلك،
فقَالَ: فَعَلَهُ مَنْ كَانَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ
الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ
أُحْرِجَكُمْ، فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ) .
اختلف العلماء فى التخلف عن الجمعة للمطر، فممن كان يتخلف
عنها لذلك: ابن سيرين، وعبد الرحمن بن سمرة، وهو قول أحمد
وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، وقالت طائفة: لا يتخلف عن
الجمعة للمطر، روى ابن نافع قال: قيل لمالك: أيتخلف عن
الجمعة فى اليوم المطير، قال: ما سمعت، قيل له: فالحديث
(ألا صلوا فى الرحال) ، قال: ذلك فى السفر.
(2/492)
وقد رخص فى ترك الجمعة لأعذار أخر غير
المطر، روى ابن القاسم عن مالك أنه أجاز أن يتخلف عن
الجمعة لجنازة أخ من إخوانه لينظر فى أمره، قال ابن حبيب
عن مالك: وكذلك إن كان له مريض يخشى عليه الموت، وقد زار
ابن عمر ابنًا لسعيد بن زيد ذكر له شكواه، فأتاه إلى
العقيق وترك الجمعة، وهو مذهب عطاء، والحسن، والأوزاعى،
وقاله الشافعى فى الولد والوالد إذا خاف فوات نفسه، وقال
عطاء: إذا استصرخ على أبيك يوم الجمعة والإمام يخطب فقم
إليه واترك الجمعة، وقال الحسن: يرخص فى الجمعة للخائف.
وقال مالك فى (الواضحة) : ليس على المريض والصحيح الفانى
جمعة، وقال أبو مجلز: إذا اشتكى بطنه لا يأتى الجمعة، وقال
ابن حبيب: أرخص النبى، عليه السلام، فى التخلف عن الجمعة
لمن شهد الفطر والأضحى صبيحة ذلك اليوم من أهل القرى
الخارجة عن المدينة لما فى رجوعهم من المشقة لما أصابهم من
شغل العيد، وفعله عثمان لأهل العوالى واختلف قول مالك فيه.
- باب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ؟ وَعَلَى مَنْ
تَجِبُ؟ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة 9]
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ،
فَنُودِيَ بِالصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَحَقٌّ
عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا، سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَم لَمْ
تَسْمَعْهُ، وَكَانَ أَنَسٌ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، فِي
قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ، وَأَحْيَانًا لا
يُجَمِّعُ، وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ. /
24 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ
الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ،
فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ، يُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ
وَالْعَرَقُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ،
(2/493)
فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ إِنْسَانٌ
مِنْهُمْ، وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ عليه السلام: (لَوْ
أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا) . اختلف
العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: تجب الجمعة على من
آواه الليل إلى أهله، روى ذلك عن أبى هريرة، وابن عمر، وهو
قول عطاء، والأوزاعى، وأبى ثور، وقال الزهرى: يجب على من
كان على ستة أميال، وروى عنه أربعة أميال، وهو قول ربيعة،
وقالت طائفة: تجب الجمعة على من سمع النداء، روى ذلك عن
سعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق،
وقال مالك فى (المجموعة) : عزيمة الجمعة على كل من كان فى
موضع يسمع منه النداء، وذلك على ثلاثة أميال ومن كان أبعد
فهو فى سعة، وقال فى (المختصر) : من كان على ثلاثة أميال
أو زيادة يسيرة لزمتهم الجمعة، وقال الكوفيون: لا تجب
الجمعة إلا على أهل المصر، ومن كان خارج المصر فلا تجب
عليه، وإن سمع النداء، وقال حذيفة: ليس على من على رأس ميل
جمعة. وقال المهلب: نص كتاب الله يدل على أن الجمعة تجب
على من سمع النداء، وإن كان خارج المصر وهذا أصح الأقوال.
قال ابن القصار: اعتل الكوفيون لقولهم أن الجمعة لا تجب
على من كان خارج المصر، قالوا: لأن الأذان علم لمن لم
يحضر، والأذان بعد دخول الوقت، ومعلوم أن من يسمع على
أميال يأخذ فى المشى فلا يلحق، فيقال لهم: معنى قوله
تعالى: (إذا نودى للصلاة) [الجمعة: 9] ، أى: إذا قرب وقت
النداء لها بمقدار ما يدركها كل ساع إليها، فاسعوا،
(2/494)
وليس على أنه لا يجب السعى إليها إلا حين
ينادى لها، والعرب قد تضع البلوغ بمعنى المقاربة كقوله:
(إن ابن أم مكتوم لا ينادى حتى يقال له: أصبحت أصبحت) ،
أى: قارب الصباح ومثله: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف)
[الطلاق: 2] ، يريد إذا قاربن البلوغ؛ لأنه إذا بلغت آخر
أجلها لم يكن له إمساكها، وفى إجماع العلماء على أن من كان
فى طرف المصر العظيم، وإن لم يسمع النداء يلزمه السعى دليل
واضح أنه لم يرد بالسعى حين النداء خاصة، وإنما أريد قربه،
وأما من كان خارج المصر إذا سمع النداء فهو داخل فى عموم
قوله تعالى: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى
ذكر الله) [الجمعة: 9] ، ولم يخص من فى المصر أو خارجه.
وأما حديث عائشة: أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من
العوالى، ففيه رد لقول الكوفيين أن الجمعة لا تجب على من
كان خارج المصر؛ لأنها أخبرت عنهم بفعل دائم أنهم كانوا
ينتابون الجمعة، فدل ذلك على لزومها ووجوبها عليهم. قال
محمد بن مسلمة: ومما يبين أن الجمعة لازمة لأهل العوالى
إذن عثمان لهم يوم العيد فى الانصراف ولولا وجوبها عليهم
ما أَذِنَ لهم. وما روى عن أنس أنه كان مرة يشهد الجمعة من
الزاوية وهى على فرسخين من البصرة، ومرة كان لا يشهدها،
والفرسخ ثلاثة أميال، ولو كان لازمًا عنده شهودها لمن كان
على ستة أميال لما تركها بعض المرات.
(2/495)
واختلفوا فى عدد من تلزمهم الجمعة، فروى عن
أبى هريرة أنها لا تنعقد إلا بأربعين نفسًا، هذا قول
الشافعى، وزعم أن النبى، عليه السلام، جمع بأربعين، وذكر
ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون، عن مالك أن ثلاثين بيتًا
وما قاربهم جماعة. قال ابن القصار: ورأيت لمالك أنها لا
تجب على الثلاثة والأربعة، ولكنها تنعقد بما دون الأربعين،
وعن ربيعة أنها تنعقد باثنى عشر رجلاً عدد الذين بقوا مع
النبى يوم انفضوا إلى العير، قال أبو حنيفة: تنعقد بإمام
وثلاثة أنفس، وهو قول الأوزاعى، والمزنى، والثورى، وقال
أبو يوسف: تنعقد بإمام ونفسين، وقال الحسن: تنعقد بإمام
وآخر معه. وقال ابن القصار: هذا الخلاف كله معارض لقول
الشافعى، وليس أحد الأقوال أولى من صاحبه، فوجب الرجوع إلى
صفة من خوطب فى الآية، والذين أمر الله بالسعى إليها فهم
قوم لهم بيع وشراء، فوجب طلب قوم هذه صفتهم، ولسنا نعتبر
عددًا حتى يصيروا به جماعة، ولكنا نقول: كل قوم لهم مسجد
وسوق ينطلق عليهم اسم جماعة، فالجمعة واجبة عليهم سواء
كانوا خمسة أو أربعين؛ لأن المقادير والتحديدات فى الشريعة
لا تثبت إلا من طريق صحيح، وقال المزنى: لا يصح عن أصحاب
الحديث ما احتج به الشافعى من أنه حين قدم المدينة جمع
أربعين رجلاً؛ لأنه معلوم أن النبى، عليه السلام، قدم
المدينة وقد تكاثر المسلمون وتوافروا فيجوز أن يكون جمع فى
موضع نزوله قبل دخوله فى نفس المدينة، فاتفق له أربعون
نفسًا.
(2/496)
- باب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ
الشَّمْسُ وَكَذَلِكَ يُذكر
عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ،
وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. / 25 - فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ:
كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا
رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ، رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ،
فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ. / 26 - وفيه: أَنَسِ:
(أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي
الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ) . / 27 - قال أنس:
كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ، وَنَقِيلُ بَعْدَ
الْجُمُعَةِ. قال المؤلف: إنما ذكر البخارى الصحابة فى صدر
هذا الباب؛ لأنه قد روى عن أبى بكر، وعمر، وعثمان أنهم
كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال من طريق لا يثبت، رواه وكيع
عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج الكلابى، عن عبد الله
بن سَيْدان السلمى قال: شهدت الجمعة مع أبى بكر الصديق،
فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر
وعثمان إلى أن أقول: انتصف النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك
ولا أنكره. وعبد الله بن سيدان لا يعرف، والصحيح عن
الصحابة ما ذكره البخارى، ونحوه ذُكر عن مالك عن عمر فى
قصة طنفسة عقيل، وأجمع الفقهاء على أن وقت الجمعة بعد زوال
الشمس إلا ما روى عن مجاهد أنه قال: جائز أن تصلى الجمعة
فى وقت صلاة العيد؛ لأنها صلاة عيد، وقال أحمد بن حنبل:
تجوز صلاة
(2/497)
الجمعة قبل الزوال، وهذا القول يرده حديث
أنس المذكور فى هذا الباب وعمل الخلفاء بعده. وقال ابن
القصار: لا تخلو الجمعة من أن تكون ظهرًا فوقتها لا يختلف،
أو بدلاً من الظهر فيجب ألا يختلف أيضًا؛ لأن الأبدال لا
تتقدم مبدلاتها، كالقصر فى السفر لا يخرج الصلاة عن
أوقاتها. وقوله: كنا نبكر بالجمعة، فإنما يريد أنهم كانوا
يصلونها بعد الزوال فى أول الوقت وهو وقت الرواح عند
العرب. وقوله: (نقيل بعد الجمعة) ، يعنى أنهم كانوا يقيلون
بعد الصلاة بدلاً من القائلة التى امتنعوا منها بسبب
تبكيرهم إلى الجمعة، وقد ذكر ابن أبى شيبة فى حديث جابر بن
عبد الله، وسلمة بن الأكوع أنهما قالا: كنا نصلى مع رسول
الله الجمعة إذا زالت الشمس.
- باب إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 28 - فيه: أَنَسَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام،
إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاةِ، وَإِذَا
اشْتَدَّ الْحَرُّ برَدَ بِالصَّلاةِ - يَعْنِي:
الْجُمُعَةَ) . وقَالَ أَبُو خَلْدَةَ: (صَلَّى بِنَا
أَمِيرنا الْجُمُعَةَ، ثُمَّ قَالَ لأنَس: كَيْفَ كَانَ
النَّبِيُّ يُصَلِّي الظُّهْرَ؟) . هذا الباب فى معنى الذى
قبله أن الجمعة وقتها وقت الظهر، وأنها تصلى بعد الزوال
يبرد بها فى شدة الحر، ولا يكون الإبراد إلا بعد تمكن
الوقت، ومدار هذا الباب على ذكر الظهر؛ فإذا صح بهذا أن
الجمعة هى الظهر لم يجز أن تصلى قبل الزوال كما زعم مجاهد
وأحمد بن حنبل.
(2/498)
- باب الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ) [الجمعة 9]
. وَمَنْ قَالَ: السَّعْيُ: الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ؛
لِقَوْل اللَّه تَعَالَى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا)
[الإسراء 19] ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَحْرُمُ
الْبَيْعُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: تَحْرُمُ
الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ
عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، وَهُوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ.
/ 29 - فيه: عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ: أَدْرَكَنِي
أَبُو عَبْسٍ، وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ،
فَقَالَ: سَمِعْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يَقُولُ: (مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) . / 30 - وفيه: أَبو
هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيِّ عليه السلام،
يَقُولُ: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا
وَأَنتم تَسْعَوْنَ، وَائَتُوهَا تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ
السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا
فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) . / 31 - وقال أَبو قَتَادَةَ:
قَالَ عليه السلام: (لا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي،
وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) . قال المؤلف: السعى فى لسان
العرب يصلح للإسراع فى المشى والاشتداد فيه، ويصلح للعمل
والترسل فى المشى دون السعى، فمن السعى الذى هو بمعنى
الإسراع قوله عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها
تسعون، أى: تسرعون، وائتوها تمشون عليكم السكينة) ، وممن
كان يسعى إذا سمع النداء: أنس بن مالك. وأما السعى الذى هو
بمعنى العمل، فقوله تعالى: (وسعى لها سعيها) [الإسراء: 19]
، يعنى: وعمل لها عملها، وقوله: (وإذا تولى سعى فى
(2/499)
الأرض ليفسد فيها) [البقرة: 205] ، وقال:
(وأما من جاءك يسعى) [عبس: 8] ، هذه الآيات، لما علم أن
المراد بها غير الجرى، على صحة هذا القول، وبأن قوله عليه
السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها
تمشون، وعليكم السكينة) ، أن المراد بقوله تعالى: (فاسعوا
إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] ، غير الجرى، وكذلك قال الحسن
فى تأويل هذه الآية: أما والله ما هو بالسعى على الأقدام،
وقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار،
ولكن بالقلوب والنيات والخشوع. وإلى هذا ذهب مالك وأكثر
العلماء، وهو مذهب البخارى، وكان عمر وابن مسعود يقرأن:
(فامشوا إلى ذكر الله) ، وقال ابن مسعود: لو قرأتها
(فاسعوا) لسعيت حتى يسقط ردائى. واختلفوا فى وقت تحريم
البيع والشراء، فقالت طائفة: هو زوال الشمس، وروى ذلك عن
عطاء، والقاسم، والحسن، ومجاهد، وقالت طائفة: هو عند
النداء الثانى والإمام على المنبر، رواه ابن القاسم عن
مالك، وأنكر منع الناس البيع قبل ذلك. واختلفوا فى البيع
فروى ابن القاسم عن مالك أن البيع مفسوخ، وروى عنه ابن
وهب، وعلى بن زياد: بئس ما صنع ويستغفر الله، وقال عنه
على: ولا أرى الربح فيه حرامًا. وقال ابن القاسم: لا يفسخ
ما عقد حينئذ من النكاح، وإن لم يدخل، ولا تفسخ الهبة،
والصدقة، والرهن، والحمالة، وقال أصبغ: يفسخ النكاح، وقال
أبو حنيفة، والثورى، والشافعى: البيع صحيح، وفاعله عاصٍ
لله؛ لأن النهى لم يقع على البيع، وإنما جرى ذكر البيع؛
لأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة عن الجمعة، والمعنى
(2/500)
المقصود من ذلك كل ما يمنع من إثباتها، وقد
أجمع العلماء على أن المصلى لا يحل له فى صلاته بيع ولا
شراء، فلو قال رجل لآخر فى الصلاة: بعنى سلعتك بكذا،
فأجابه المصلى بنعم، أو بكلام ينعقد فيه البيع أن البيع
جائز، وإن كان عاصيًا؛ لأن البيع معنى والصلاة غيره. وقال
الزهرى: إذا سمع المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر، فعليه أن
يشهد، قال ابن المنذر: وقد اختلف فيه عنه، وأكثر العلماء
على أنه لا جمعة على مسافر.
- باب لا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 32 - فيه: سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَطَهَّرَ
بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ، أَوْ مَسَّ
مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ
اثْنَيْنِ، فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ
الإمَامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجُمُعَةِ الأخْرَى) . وقوله: (لا يفرق بين اثنين) ،
يعنى لا يتخطى رقابهما، يدل على ذلك ما رواه ابن أبى خيثمة
قال: حدثنا محمد بن بكار، حدثنا عباد بن عباد، حدثنا هشام
بن زياد، عن عمار بن سعد، عن عثمان بن أبى الأرقم، عن
أبيه، وكان من أصحاب النبى عليه السلام، قال: (الذى يتخطى
رقاب الناس يفرق بين الاثنين يوم الجمعة بعد خروج الإمام
كالجارِّ قصبه فى النار) .
(2/501)
وروى ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن
شعيب، عن أبيه، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يحل لرجل أن يفرق بين
اثنين إلا بإذنهما) . وفى قوله: (لا يفرق بين اثنين) ، حض
على التبكير إلى الجمعة؛ ليصل إلى مكان مصلاه دون تخط ولا
تفريق بين اثنين. اختلف العلماء فى التخطى، فكرهه أبو
هريرة، وسلمان، وكعب، ورواه ابن أبى شيبة عن أبى هريرة
قال: لأن أصلى بالحرة أحب إلىّ من أن أتخطى رقاب الناس يوم
الجمعة، وعن سعيد بن المسيب مثله، وقال كعب: لأن أدع
الجمعة أحب إلى من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، وقال
سلمان: إياك والتخطى واجلس حيث بلغتك الجمعة، وهو قول
عطاء، والثورى، وأحمد بن حنبل. وفيه قول ثان: قال قتادة:
يتخطاهم إلى مجلسه، وقال الأوزاعى: يتخطاهم إلى السعة،
وهذا يشبه قول الحسن البصرى قال: لا بأس بالتخطى إذا كان
فى المسجد سعة، وقال الشافعى: أكره التخطى قبل دخول الإمام
وبعده إلا أن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بأن يتخطى
فيسعه التخطى. وفيها قول ثالث: روى عن أبى نضرة قال:
يتخطاهم بإذنهم، وكان مالك لا يكره التخطى إلا إذا كان
الإمام على المنبر، ولا بأس به قبل ذلك إذا كان بين يديه
فرج، وذكر الطحاوى عن الأوزاعى مثله، قال: التخطى الذى جاء
فيه القول إنما هو والإمام يخطب؛ لأن الآثار تدل على ذلك؛
ألا ترى قوله عليه السلام: (الذى يتخطى رقاب الناس فيفرق
بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه فى النار) ،
وقوله للذى يتخطى وهو يخطب: (آذيت وآنيت) .
(2/502)
- باب لا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ
/ 33 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: نَهَى رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ مِنْ مَقْعَدِهِ، وَيَجْلِسَ
فِيهِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ: الْجُمُعَةَ؟ ، قَالَ:
الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا. قال المهلب: هذا على العموم كما
قال نافع، لا يجوز أن يقيم أحد أحدًا من مكانه؛ لأنه من
سبق إلى موضع من مواضع الجماعات التى يتساوى الناس فيها
فهو أحق به لبداره إليه.
- باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 34 - فيه: السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ
النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ
الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رسول الله
وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ،
وَكَثُرَ النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى
الزَّوْرَاءِ. وترجم له: (باب المؤذن الواحد يوم الجمعة) ،
وزاد فيه. / 35 - عن السَّائِبِ قال: وَلَمْ يَكُنْ
لِلنَّبِيِّ عليه السلام، مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ،
وَكَانَ التَّأْذِينُ حِينَ يَجْلِسُ الإمَامُ عَلَى
الْمِنْبَرِ. اختلف معنى قول مالك فى صفة الأذان يوم
الجمعة، فروى عنه ابن عبد الحكم قال: إذا جلس الإمام على
المنبر ونادى المنادى منع الناس من البيع تلك الساعة، وهذا
يدل أن النداء عنده واحد على ما فى هذا الحديث، ونحوه عن
الشافعى، وفى المدونة قال مالك: إذا جلس الإمام على المنبر
وأخذ المؤذنون فى الأذان حرم البيع حينئذ، فذكر المؤذنين
بلفظ الجمع، ونحوه عن الكوفيين، وقال مالك فى المجموعة: إن
هشام بن عبد الملك هو الذى أحدث الأذان بين يديه وإنما
الأذان على المنار واحدًا بعد واحدٍ إذا جلس الإمام على
المنبر.
(2/503)
واحتج الطحاوى بما رواه الزهرى عن ثعلبة بن
أبى مالك القرظى أنهم كانوا فى زمن عمر بن الخطاب يصلون
حتى يخرج عمر، فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذنون،
بلفظ الجمع، وهذا كله يدل أنه إن أذَّن مؤذنون أو مؤذن
أجزأ فى ذلك، ألا ترى قوله تعالى: (إذا نودى للصلاة من يوم
الجمعة) [الجمعة: 9] ، أنه يدخل فى معناه أقل ما يقع عليه
اسم نداء وهو مؤذن واحد. فإن قال قائل: فإن كان مؤذنًا
واحدًا على ما روى الزهرى عن السائب فما معنى قوله فى آخر
الحديث: (فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على
الزوراء) ، وهذا يدل أن ثم أذانًا ثانيًا، وآخر الحديث
مخالف لأوله. قيل: لا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما كان يؤذن
المؤذن ثم يقيم والإقامة تسمى أذانًا، وقد بين ذلك ابن أبى
شيبة فى (مصنفه) من رواية ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن
السائب: (أن النداء كان أوله على عهد النبى، عليه السلام،
وأبى بكر وعمر إذا خرج الإمام، وإذا قامت الصلاة، حتى إذا
كان زمن عثمان وكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء،
فثبت حتى الساعة) ، فبان بهذا الحديث أن الأذان الثانى
المتوهم فى حديث السائب إنما يعنى به: الإقامة، ويشهد لصحة
ذلك قوله عليه السلام: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء) ،
يعنى بين كل أذان وإقامة صلاة، وقد روى عقيل، عن ابن شهاب،
عن السائب: أن التأذين الثانى يوم الجمعة أمر به عثمان حين
كثر الناس، ذكره البخارى فى
(2/504)
باب الجلوس على
المنبر عند التأذين بعد هذا فتكون الإقامة: الأذان الثالث
على هذا القول. وقوله: (كان التأذين حين يجلس الإمام على
المنبر) ، قال المهلب: إنما جعل التأذين فى هذا الوقت،
والله أعلم، ليعرف الناس بجلوس الإمام فينصتون له.
والزوراء: حجر كبير عند باب المسجد.
- باب يُجِيبُ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ
النِّدَاءَ
/ 36 - فيه: مُعَاوِيَةَ: (أنه جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ،
فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فقَالَ
مُعَاوِيَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا
إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا،
فَلَمَّا قَضَى التَّأْذِينَ، قَالَ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى هَذَا
الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، يَقُولُ مَا
سَمِعْتُمْ مِنِّي) . قال المؤلف: فى هذا الحديث إباحة
الكلام للإمام على المنبر قبل أن يدخل فى الخطبة بما فيه
تعليم الناس السنن؛ لأن القول مثل ما يقول المؤذن قد حض
عليه النبى، عليه السلام، وقد تقدم فى أبواب الأذان اختلاف
العلماء فيمن كان فى صلاة هل يقول مثل ما يقول المؤذن؟ .
- باب الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ
/ 37 - فيه: السَّائِبَ: أَنَّ التَّأْذِينَ الثَّانِيَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ، حِينَ كَثُرَ
أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإمَامُ، رواه عقيل
(2/505)
عَنِ الزُّهْرِيِّ، وروى يُونُسُ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبَ: (فَلَمَّا كَانَ فِي
خِلافَةِ عُثْمَانَ وَكَثُرُوا، أَمَرَ بِالأذَانِ
الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ) . الجلوس
على المنبر إنما هو لمن يخطب عليه، ومن خطب فى الأرض،
فإنما يجلس عند التأذين فى موضع خطبته وهذه الجلسة قبل
التأذين وضعت له، وهى سنة عند مالك، والشافعى، وأبى ثور،
ولذلك قال العلماء: لا جلوس فى العيد قبل الخطبة؛ لأن
العيد لا أذان فيه، وقال أبو حنيفة: لا يجلس الإمام قبل
الخطبة، وخالف هذا الحديث.
- باب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَقَالَ أَنَسٌ: خَطَبَ النَّبِيُّ عليه السلام، عَلَى
الْمِنْبَرِ. / 38 - فيه سَهْلَ: أن النبى، عليه السلام،
قال لامْرَأَةٍ: (مُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ أَنْ
يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ، إِذَا
كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَعَمِلَته. . .) ، الحديث. / 39 -
وفيه: جَابِرَ قَالَ: كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ
النَّبِيُّ عليه السلام، فَلَمَّا وُضِعَ الْمِنْبَرُ،
سَمِع لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ، حَتَّى
نَزَلَ النَّبِيُّ عليه السلام، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ.
/ 40 - وفيه: ابن عمر: سَمِعْتُ النَّبِيَّ عليه السلام،
يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ. قال: إذا كان الخليفة هو الذى
يخطب، فسنته أن يجلس على المنبر إذا خطب، وإذا خطب غير
الخليفة قام إن شاء على المنبر، وإن شاء على الأرض.
(2/506)
قال مالك: ومن لا يرقى على المنبر عندنا،
فمنهم من يقوم عن يسار المنبر، ومنهم من يقوم عن يمينه وكل
واسع، وروى أن أبا بكر الصديق نزل بعد النبى، عليه السلام،
درجةً من المنبر تواضعًا منه، ولم ير نفسه أهلاً لموضع
النبى، عليه السلام، وكذلك فعل عمر نزل بعد أبى بكر، فكان
يخطب على الأولى، وكان المنبر من ثلاث درجات. وجماعة
الفقهاء على أن الخطبة من شرط الجمعة لا تصح إلا بها، ومتى
لم يخطب الإمام صلى أربعًا، وشذ الحسن البصرى فقال: تجزئهم
جمعتهم خطب الإمام أو لم يخطب، ذكره ابن المنذر عنه، وذكر
عبد الوهاب أنه قول أهل الظاهر. ويرد قولهم أن النبى، عليه
السلام، لم يجمع قط إلا بخطبة، نقل ذلك الكافة عن الكافة
ومن لا يجوز عليه السهو، ولو كانت الجمعة تجزئ بغير خطبة
لبين ذلك لأمته، وقد قال عمر بن الخطاب: إنما قصرت الصلاة
من أجل الخطبة، وقال سعيد بن جبير: إن الخطبة جعلت مكان
الركعتين. وحديث جابر يعارض حديث سهل فى الظاهر؛ لأنه قال
عليه السلام، فى حديث سهل: (مُرى غلامك النجار يعمل لى
أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس) ، فدل هذا أنه كان
يخطب جالسًا، وقال جابر فى حديثه: (كان جذع يقوم إليه
النبى، عليه السلام) ، فدل هذا أنه كان يخطب قائمًا، والذى
يجمع بين الحديثين وينفى التعارض أنه لم يحفظ عنه، عليه
السلام، أنه خطب للجمعة قط إلا قائمًا، وقد قال بعض
العلماء فى قول الله تعالى: (وتركوك
(2/507)
قائمًا) [الجمعة: 11] ، قال: قائمًا يخطب،
فيمكن أن يكون جلوسه فى حديث سهل إذا خطب الناس فى غير
الجمعة لوعظ أو تعليم جلس على المنبر، وإذا خطب فى الجمعة
قام، ويؤيد هذا حديث ابن عمر، وقد ترجم له باب الخطبة
قائمًا. وفى حديث جابر علم عظيم من أعلام نبوته، ودليل على
صحة رسالته، عليه السلام، وهو حنين الجماد إليه وذلك بأن
الله تعالى، جعل للجذع حياة حَنَّ بها، وهذا لا يجوز إلا
أن يكون بفضل الله تعالى، الذى يحيى الموتى، بقوله: (كن
فيكون (.
- باب الْخُطْبَةِ قَائِمًا
وَقَالَ أَنَسٌ: بَيْنَا النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ
قَائِمًا. / 41 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (كَانَ النَّبِيُّ
عليه السلام، يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ، ثُمَّ
يَقُومُ، كَمَا تَفْعَلُونَ الآنَ) . اختلف العلماء فى
الخطبة قائمًا، فقال مالك، والشافعى: يخطب قائمًا، وقال
أبو حنيفة: إن شاء خطب قائمًا أو جالسًا، ذكره ابن القصار
عنه. قال المؤلف: وحديث عبد الله بن عمر يدل على صحة قول
مالك؛ لأن قوله: كان النبى، عليه السلام، يخطب قائمًا، ثم
يقعد، ثم يقوم، يدل على تكرار فعله فى ذلك ودوامه، وأنه لم
يخالف ذلك، ولا خطب جالسًا، وذكر ابن أبى شيبة عن طاوس،
قال: خطب رسول الله قائمًا، وأبو بكر قائمًا وعمر قائمًا
وعثمان قائمًا، وأول من
(2/508)
جلس على المنبر معاوية بن أبى سفيان: وقال
الشعبى: إنما خطب معاوية قاعدًا حين كثر شحم بطنه. قال
المؤلف: رأيت للشافعى أنه إذا خطب قاعدًا ولم يعلموا أنه
مريض حملوه على أنه معذور حتى يستيقنوا، فإن تبين لهم أنه
خطب قاعدًا من غير عذر بطلت صلاتهم جميعًا، لقوله تعالى:
(وتركوك قائمًا) [الجمعة: 11] ، وأن النبى لم يخطب قط إلا
قائمًا. قال ابن القصار: والذى يقع فى نفسى أن القيام فى
الخطبة واجب وجوب سنة لا أنه إن تركه فسدت الخطبة، ولا أنه
مباح إن شاء فعله، وإن شاء تركه كما قال أبو حنيفة.
باب اسْتِقْبَالِ النَّاسِ الإمَامَ إِذَا خَطَبَ
وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ الإمَامَ
. (1) / 42 - فيه: أَبَو سَعِيدٍ: (أنَّ النَّبِيَّ عليه
السلام، جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ،
وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ) . واستقبال الإمام للناس سنة لكل من
يقابله، ومن لا يقابله فيصرف إليه وجهه، يدل على ذلك قول
أبى سعيد: (وجلسنا حوله) ، ولا يكون جلوسهم حوله إلا وهم
ينظرون إليه، ومن أدبر عنه، فليس بمستمع له ولا مقبل عليه.
ومعنى استقبالهم له، والله أعلم، لكى يتفرغوا لسماع موعظته
وتدبر كلامه ولا يشتغلوا بغير ذلك، وقال الشعبى: من السنة
أن
(2/509)
يستقبل الإمام يوم الجمعة، وقال ابن
المنذر: استقبال الناس الإمام إذا خطب هو قول شريح، وعطاء،
ومالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وإسحاق،
وهو كالإجماع، وروى وكيع عن أبان ابن عبد الله البجلى، عن
عدى بن ثابت، قال: (كان النبى، عليه السلام، إذا خطب
استقبله أصحابه بوجوههم) .
- باب مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ
أَمَّا بَعْدُ
رَوَاهُ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ
عليه السلام. / 43 - فيه: أسماء فى حديث الكسوف. / 44 -
وفيه: عمرو بن تغلب. / 45 - وعائشة. / 46 - وأبو حميد
الساعدى. / 47 - والمسور بن مخرمة. / 48 - وحديث ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: (صَعِدَ النَّبِيُّ عليه السلام، على
الْمِنْبَرَ، وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ،
مُتَعَطِّفًا بمِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وقَدْ
عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ. . .) ، الحديث.
وقال فى هذه الأحاديث كلها بعد الثناء على الله: (أما بعد)
. قال المؤلف: (أما بعد) من فصيح الكلام، وهو فصل بين
الثناء على الله تعالى، وبين ابتداء الخبر الذى يريد
الخطيب إعلام الناس به، وقد قال بعض أهل التأويل فى قول
الله تعالى، عن داود عليه السلام: (وآتيناه الحكمة وفصل
الخطاب) [ص: 20] ، أنه: أما بَعْد. وقد اختلف العلماء فيما
يجزئ من الخطبة، فذكر ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون
وأصبغ أنه تجزئه خطبة واحدة، ورواه مطرف عن مالك، وهو قول
الأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، وإسحاق،
(2/510)
وأبى ثور، قال ابن حبيب: ولو لم يُتم
الأولى وتكلم بما خف من الثناء على الله وعلى نبيه عليه
السلام، لأجزأه. وروى مطرف عن مالك فى مختصر ابن عبد
الحكم: إن سبح أو هلل وصلى على النبى، عليه السلام، فلا
إعادة عليه، وقال الشعبى: يجزئه ما قل وكثر، وقال أبو
حنيفة: يجزئه إن خطب بتسبيحة واحدة، قال ابن حبيب: روى ابن
القاسم عن مالك أنه إن لم يخطب من الثانية ما لهُ بال لم
يجزئهم وأعادوا، ونحوه قال الشافعى إلا أنه قال: أقل ما
يجزئ من الخطبتين جميعًا أن يحمد الله تعالى، ويصلى على
الرسول، ويوصى بتقوى الله، ويقرأ آيات من القرآن فى
الأولى، ويحمد الله ويصلى على النبى ويدعو فى الآخرة.
وقوله: (عصابة دسمة) ، فذكر أبو عمر المطرز أنها السوداء
وذكره عن ثعلب، عن ابن الأعرابى قال: ومنه حديث عثمان بن
عفان، أنه مر ببعض طرقات المدينة فرأى صبيًا ومعه حشمة
فقال: دسموا نونته لكى لا تصيبه العين، معناه دسموا ذلك
الموضع ليرد العين، والنونة: النقبة التى تكون فى ذقن
الصبى الصغير، وقال ابن دريد: الدسمة: غبرة فيها سواد،
الذكر: أدسم، والأنثى: دسماء، وأنشد: إلى كل دسماء
الذراعين والعقب ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب اللباس
وقال: عصابة دسماء، وقال أبو عمرو الشيبانى: العصابة:
العمامة.
(2/511)
قال المؤلف: وإنما سميت العمامة عصابة؛
لأنها تعصب الرأس أى تربطه؛ ألا ترى قول الحجاج: لأعصبنكم
عصب السلمة، أى: لأربطنكم ربط الشجرة.
- باب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ
/ 49 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام،
يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا) . اختلف
العلماء فى الجلسة بين الخطبتين فعند مالك هى سنة، وعند
الشافعى واجبة، فإن لم يخطب خطبتين يجلس بينهما صلى الظهر
أربعًا، وعند أبى حنيفة إن شاء خطب قائمًا أو جالسًا، وروى
عن المغيرة بن شعبة أنه كان لا يجلس فى خطبته. وحجة من قال
إنها سنة حديث ابن عمر: (أن النبى، عليه السلام، كان يجلس
فى خطبته) ، ولم يقل إنه لا تجزئه الخطبة إلا بالجلوس
فيها؛ لأن عليه فرض البيان، ومن قال: إنها فريضة فلا حجة
له؛ لأن القعدة فصل بن الذِّكرين، واستراحة للخطيب، وليست
من الخطبة فى شىء، والمفهوم من لسان العرب أن الخطبة اسم
للكلام الذى يخطب به خاصة لا للجلوس. قال الطحاوى: ولم يقل
بقول الشافعى أحد غيره، ولما كان لو خطب خطبتيه جميعًا
قاعدًا جازت الخطبة، ولم يقع بينهما فصل، كذلك تجوز إذا
قام موضع القعود. قال غيره: ولو كانت فريضة ما جهلها
المغيرة بن شعبة، ولو
(2/512)
جهلها ما ترك جماعة من بحضرته من الصحابة
والتابعين تنبيهه عليها وإعلامه بوجوبها، وقد حُصِرَ عثمان
عن الخطبة فتكلم ونزل ولم يجلس، ولم يخالفه أحد فصار
كالإجماع، ذكره ابن القصار.
- باب الاسْتِمَاعِ إِلَى الْخُطْبَةِ
/ 50 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عليه السلام:
(إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ
عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأوَّلَ فَالأوَّلَ،
وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ، كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي
بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ
كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ
الإمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ)
. استماع الخطبة واجب وجوب سنة عند أكثر العلماء، ومنهم من
جعله فريضة، روى عن مجاهد أنه قال: لا يجب الإنصات للقرآن
إلا فى موضعين فى الصلاة والخطبة. وفى استماع الملائكة
للخطبة حض على الاستماع إليها والإنصات لها، وقال أكثر
العلماء: الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها، وهو
قول مالك، وقد قال عثمان بن عفان: للمنصت الذى لا يسمع من
الأجر مثل ما للمنصت الذى يسمع، وكان عروة بن الزبير لا
يرى بأسًا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة، ذكره ابن المنذر،
وقال إبراهيم: إنى لأقرأ حزبى إذا لم أسمع الخطبة، وقال
أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة.
واختلفوا فى وقت الإنصات، فقال أبو حنيفة: خروج الإمام
يقطع الكلام والصلاة جميعًا لقوله: (فإذا خرج الإمام طووا
صحفهم ويستمعون الذكر) ، وقالت طائفة: لا يجب الإنصات إلا
عند
(2/513)
ابتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها هذا
قول مالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والأوزاعى،
والشافعى، وحجتهم قوله عليه السلام: (وينصت إذا تكلم
الإمام) ، ذكره فى باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب
بعد هذا.
- باب إِذَا رَأَى الإمَامُ رَجُلا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ،
أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ
/ 51 - فيه: جَابِرِ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ
عليه السلام، يَخْطُبُ النَّاسَ، قَالَ: صَلَّيْتَ يَا
فُلانُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ) . وترجم له:
(باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين) . / 52 -
وقال فيه: فصل رَكْعَتَيْنِ. اختلف العلماء فى معنى هذا
الحديث، فقال قوم بظاهره وقالوا: من جاء والإمام يخطب صلى
ركعتين خفيفتين، وذلك سنة معمول بها، روى هذا عن الحسن،
ومكحول وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وطائفة
من أهل الحديث. وفيه: قول ثان: قال الأوزاعى: من ركعهما فى
بيته، ثم دخل المسجد والإمام يخطب قعد ولم يركع، وإن لم
يكن ركعهما ركعهما فى المسجد؛ لأنه عليه السلام إنما أمره
بالركوع حين ذكر له أنه لم يصل فى بيته. وفيها قول ثالث:
قال أبو مجلز: إن شئت فاركع وإن شئت فاجلس. وفيها قول
رابع: أنه يجلس ولا يركع وهو قول الجمهور، ذكره
(2/514)
ابن أبى شيبة عن عمر، وعثمان، وعلى بن أبى
طالب، وابن عباس، ومن التابعين عن عطاء، والنخعى، وابن
سيرين، وشريح، وعروة، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك،
والليث، والكوفيين. واحتج بعض أهل هذه المقالة أن النبى،
عليه السلام، إنما أمره بالصلاة لبذاذة هيئته؛ فأراد أن
يفطن الناس له ويتصدقوا عليه، وروى ذلك ابن عجلان، عن عياض
بن عبد الله، عن أبى سعيد الخدرى: (أن رجلاً دخل المسجد
ورسول الله على المنبر، فأمره النبى، عليه السلام، أن
يدنوا منه، فأمره أن يركع ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة
خلق، ثم صنع ذلك فى الثانية، فأمره بمثل ذلك، ثم صنع مثل
ذلك فى الجمعة الثالثة، فأمره النبى، عليه السلام، بمثل
ذلك، وقال للناس: تصدقوا، فألقى الثياب، فأمره النبى، عليه
السلام، فأخذ ثوبين، فلما كان بعد ذلك أمر الناس أن
يتصدقوا، فألقى الرجل أحد ثوبيه فغضب رسول الله ثم أمره أن
يأخذ ثوبه) . قال الطحاوى: وقد يجوز أن يكون النبى، عليه
السلام، أمر سُليكًا بالصلاة فقطع خطبته ثم استأنف، وقد
يجوز أن يكون بنى عليها، وكان ذلك قبل أن ينسخ الكلام فى
الصلاة، ثم نسخ الكلام فى الصلاة فنسخ أيضًا فى الخطبة،
وقد يجوز أن يكون ما قال أهل المقالة الأولى ويكون سنة
معمولاً بها، فنظرنا هل روى شىء يخالف ذلك؟ فإذا بحر ابن
نصر، حدثنا عن عبد الله بن وهب قال: سمعت معاوية بن صالح
يحدث عن أبى الزاهرية، عن عبد الله بن بُسر قال: (جاء رجل
فتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله: اجلس فقد
آذيت) ، فأمره عليه السلام بالجلوس ولم يأمره بالصلاة،
وهذا
(2/515)
يخالف حديث سليك، وكذلك حديث أبى سعيد
الخدرى يدل أن ذلك كان فى حال إباحة الأفعال فى الخطبة قبل
أن ينهى عنها، وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه،
والإمام يخطب مكروه وأن مسه الحصى، وقوله لصاحبه: أنصت فى
الخطبة مكروه. قال الطحاوى: والدليل على أنه كان وقت إباحة
الكلام فى الخطبة أنه ذكر فى حديث أبى سعيد الخدرى: (أن
النبى، عليه السلام، أتى بالصدقة فأعطى منها رجلاً ثوبين،
فلما كانت الجمعة طرح الرجل أحد ثوبيه فصاح الرسول به،
وقال: (خذه، ثم قال: انظروا إلى هذا جاء تلك الجمعة. . .)
، وذكر الحديث، ولا نعلم خلافًا أن مثل هذا الكلام محظور
فى الخطبة لقوله عليه السلام: (إذا قلت لأخيك: أنصت
والإمام يخطب فى الخطبة فقد لغوت) . ومن طريق النظر، فقد
رأيناهم لا يختلفون أن من كان فى المسجد قبل أن يخطب
الإمام، فإن الخطبة تمنعه من الصلاة، فالنظر على ذلك أن
يكون كذلك من دخل المسجد، والإمام يخطب ألا يصلى؛ لأنه
داخل فى غير موضع صلاة، والأصل المتفق عليه أن الأوقات
التى تمنع من الصلوات يستوى فيها من كان قبلها فى المسجد،
ومن دخل فيها فى المسجد فى المنع من الصلاة. فإن قال قائل:
إنما أمره عليه السلام، أن يركع لقوله عليه السلام: (إذا
دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس) . قيل له:
إنما هذا لمن دخل فى المسجد فى وقت تحل فيه الصلاة؛ ألا
ترى أن من دخل المسجد عند طلوع الشمس وعند غروبها، وفى
الأوقات المنهى عن الصلاة فيها أنه لا ينبغى له الصلاة،
وليس كمن أمره النبى، عليه السلام، بالركوع لدخوله المسجد.
(2/516)
قال غيره: فى حديث جابر حجة لمن أجاز
للخطيب يوم الجمعة أن يتكلم فى خطبته بما عرض له من كلام
من غير جنس الخطبة بما فيه نفع للناس وتعليم لهم، وقد روى
عن على بن أبى طالب ذلك حين تخطى الأشعث بن قيس رقاب
الناس، ذكره الطبرى. وفى (المدونة) : جائز أن يتكلم الإمام
فى خطبته لأمر أو نهى، ولا يكون لاغيًا، ومن كلمه الإمام
فرد عليه لم يكن لاغيًا.
- باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ
/ 53 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: (بَيْنَمَا رسول الله يَخْطُبُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْكُرَاعُ، هَلَكَ الشَّاءُ،
فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَمَدَّ يَدَيْهِ
وَدَعَا) . وترجم له: (باب الاسْتِسْقَاءِ فِي الْخُطْبَةِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ) . / 54 - وزاد فيه: (حتَى سَالَ
الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ
نَاحِيَةٍ إِلا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ) . رفع اليدين فى
الخطبة فى معنى الضراعة إلى الله والتذلل له، وقد أخبر
النبى، عليه السلام، أن العبد إذا دعا الله تعالى، وبسط
كفيه أنه لا يردهما خائبين من فضله، فلذلك رفع النبى عليه
السلام، يديه. وقد أنكر بعض الناس ذلك، فروى الأعمش، عن
عبد الله بن مرة عن مسروق قال: رفع الإمام يوم الجمعة يديه
على المنبر، فرفع الناس أيديهم، فقال مسروق: ما لهم قطع
الله أيديهم، وقال الزهرى: رفع الأيدى يوم الجمعة محدث،
وقال ابن سيرين: أول من رفع يديه يوم الجمعة عبيد الله بن
عبد الله بن معمر.
(2/517)
وكان مالك لا يرى رفع اليدين إلا فى خطبة
الاستسقاء، وسيأتى هذا المعنى مستقصى فى كتاب الاستسقاء،
إن شاء الله تعالى، ويأتى فيه تفسير (الجوبة) . وقوله فى
هذا الحديث: (حتى سال الوادى قناة شهرًا) ، فمعناه اسم
الوادى ولم يصرفه؛ لأنه معرفة بدل من معرفة، وفى أبواب
الاستسقاء (حتى سال وادى قناة) غير مصروف أيضًا؛ لأن قناة
معرفة، وهى اسم البقعة، والجَوْدُ: المطر الغزير، يقال:
جاد المطر جودًا أو جودة: إذا كثر، وسيأتى حكم الاستسقاء
فى خطبة الجمعة بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
30 - باب الإنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإمَامُ
يَخْطُبُ، وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ
لَغَا وَقَالَ سَلْمَانُ عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام:
(يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ
. / 55 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى عليه السلام،
قَالَ: (إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
أَنْصِتْ، وَالإمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ) . اللغو:
كل شىء من الكلام ليس بحسن، عند أبى عبيدة. وقال قتادة فى
قوله تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كرامًا) [الفرقان: 72]
، قال: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم. وجماعة أئمة
الفتوى على وجوب الإنصات للخطبة، وفى حديث سلمان حجة لمن
رأى الإنصات عند ابتداء الخطبة وقد تقدم هذا،
(2/518)
وقال ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم والإمام
يخطب فأقرع رأسه بالعصا، وروى عن عمر، وابن عمر، وابن عباس
أنهم قالوا: من قال لصاحبه اسكت فلا جمعة له، وقال ابن
عباس: الذى يتكلم والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل
أسفارًا، ذكره ابن أبى شيبة. وقوله: (لا جمعة له) ، أى لا
جمعة كاملة مثل جمعة المنصت؛ لأن جماعة الفقهاء مجمعون أن
جمعته مجزئة عنه، ولا يصلى أربعًا. وقال ابن وهب: من لَغَا
كانت صلاته ظهرًا ولم تكن له جمعة وحُرِمَ فضلها. وقال ابن
جريج: قلت لعطاء: هل تعلم شيئًا يقطع جمعة الإنسان حتى يجب
عليه أن يصلى أربعًا من كلام أو تخطى رقاب الناس أو غير
ذلك؟ قال: لا. وقد رخص جماعة من التابعين فى الكلام
والإمام يخطب إذا كان من أئمة الجور أو أخذ فى خطبته فى
غير ذلك، روى عن النخعى، والشعبى، وأبى بردة، وسعيد بن
جبير أنهم كانوا يتكلمون والحجاج يخطب، وقال بعضهم: إنا لم
نؤمر أن ننصت لهذا، وروى ابن أبى شيبة أن إبراهيم كُلِّم
فى ذلك فقال: إنى كنت قد صليت، ورأى الليث إذا أخذ الإمام
فى غير ذكر الخطبة والموعظة أن يتكلم ولا ينصت. وروى ابن
وهب، وابن نافع، وعلى بن زياد، عن مالك أن الإمام إذا لغا
وشتم الناس فعلى الناس الإنصات ولا يتكلمون، وروى عنه
(2/519)
إذا خطب فى أمر ليس من الخطبة، ولا من
الصلاة من أمر كتاب يقرؤه أو نحو ذلك، فليس على الناس
الإنصات. ورأى الليث إذا أخذ الإمام فى غير ذكر الله
والموعظة أن يتكلم ولا ينصت. واختلفوا فى رد السلام وتشميت
العاطس والإمام يخطب فرخص فى ذلك النخعى، والشعبى، والحسن،
وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وكره ذلك مالك
والكوفيون، والشافعى.
31 - باب السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
/ 56 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ:
(فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ
قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا، إِلا
أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا) .
اختلف السلف فى هذه الساعة، فروى عن أبى هريرة قال: هى من
بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب
الشمس. وقال الحسن، وأبو العالية: هى عند زوال الشمس، وقال
أبو ذر: هى ما بين أن تزيغ الشمس بشبر إلى ذراع، وقالت
عائشة: هى إذا أذن المؤذن بالصلاة، وقال ابن عمر: هى
الساعة التى
(2/520)
اختار الله فيها الصلاة، وهو قول أبى بردة،
وابن سيرين، وقال أبو أمامة: إنى لأرجو أن تكون فى هذه
الساعات: إذا أذن المؤذن، أو إذا جلس الإمام على المنبر،
أو عند الإقامة. قال الشعبى: هو ما بين أن يحرم البيع إلى
أن يحل، وحجة هذا القول ما روى ابن وهب، عن مخرمة بن بكير،
عن أبيه، عن أبى بردة بن أبى موسى قال: (قال لى عبد الله
بن عمر: سمعت أباك يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
فى شأن ساعة الجمعة؟ قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت النبى،
عليه السلام، يقول: (هى ما بين مجلس الإمام إلى تقضى
الصلاة) . وروى الأوزاعى عن من حَدَّثَهُ عن أبى الخير، عن
على بن أبى طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
: (إذا زالت الأفْيَاء وراحت الأرواح، فاطلبوا إلى الله
تعالى حوائجكم، فإنها ساعة الأوابين، وإنه كان للأوابين
غفورًا) . وقال عبد الله بن سلام: هى ما بين العصر إلى أن
تغرب الشمس، وروى مثله عن ابن عباس، وأبى هريرة، ومجاهد،
وطاوس. قال المهلب: وحجة من قال: إنها بعد العصر قوله:
(يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون
فى صلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم) ، فهو وقت
العروج وعرض الأعمال على الله تعالى، فيوجب الله تعالى،
فيه مغفرته للمصلين من عباده؛ ولذلك شدد النبى، عليه
السلام، على من حلف على سلعة بعد العصر لقد أعطى بها أكثر؛
تعظيمًا للساعة، وفيها يكون اللعان والقسامة، وقيل فى قوله
تعالى: (تحبسونهما من بعد الصلاة) [المائدة: 106] ، أنها
بعد العصر.
(2/521)
ومعنى قوله: (وهو قائم يصلى) ، قد فسرهُ
عبد الله بن سلام لأبى هريرة فقال: ألم يقل رسول الله: (من
جلس ينتظر الصلاة فهو فى صلاة) ، فقال أبو هريرة: بلى،
فقال: هو ذاك. وروى ابن أبى أويس عن أخيه، عن سليمان بن
بلال، عن الثقة، عن صفوان بن سليم، عن أبى سلمة، عن أبى
سعيد الخدرى قال: قال النبى، عليه السلام: (الساعة التى
يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غروب
الشمس أغفل ما يكون الناس) .
32 - باب إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنِ الإمَامِ فِي صَلاةِ
الْجُمُعَةِ، فَصَلاةُ الإمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ
/ 57 - فيه: جَابِرُ قَالَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي
مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ
تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا، حَتَّى مَا
بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً
أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)
[الجمعة 11] ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث أنهم كانوا فى
الصلاة حين أقبلت العير، روى حماد، عن يونس، عن الحسن: أن
النبى، عليه السلام، كان يخطب يوم الجمعة، فجاءت عير من
الشام فابتدرها الناس، وبقى رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) فى نفر يسير، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :
(لو تتابعتم لسال بكم الوادى نارًا) ، ونزلت هذه الآية.
قال الأصيلى: وقد وصف الله تعالى، أصحاب محمد بأنهم
(2/522)
) لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)
[النور: 37] ، إلا أن يكون هذا الحديث قبل نزول هذه الآية.
قال المهلب: يحتمل قول جابر: (بينما نحن نصلى مع النبى،
عليه السلام) ، أن يكون فى الخطبة كما قال الحسن؛ لأن من
انتظر الصلاة فهو فى صلاة، ولا يظن فى الصحابة إلا حسن
الظن. واختلف العلماء فى الإمام يفتتح صلاة الجمعة
بالجماعة، ثم يفترقون عنه، فقال الثورى: إذا ذهبوا إلا
رجلين صلى ركعتين، وإن بقى معه رجل واحد صلى أربعًا. وقال
أبو ثور: إذا بقى معه واحد صلى الجمعة؛ لأنه قد دخل فى
صلاة هى له ولهم جمعة، ورآه الشافعى، وقال أبو يوسف،
ومحمد: إذا افتتح الجمعة وكبر للإحرام، ثم نفروا كلهم صلى
الجمعة وحده، وقال أبو حنيفة: إذا نفر عنه الناس قبل أن
يركع ويسجد سجدة يستقبل الظهر، وإذا نفروا عنه بعدما ركع
وسجد سجدة بنى على الجمعة. وقال ابن القصار مثله عن مالك،
وهو قول المزنى، وقال زفر: إذا نفروا عنه قبل أن يجلس
للتشهد بطلت صلاته؛ لأنه يراعى فيها الاجتماع إلى آخرها،
وعن الشافعى روايتان: إن بقى اثنان حتى تكون صلاته صلاة
جماعة أجزأهم، والقول الآخر: لا تجزئهم حتى يكونوا أربعين
رجلاً. وقال إسحاق: إن بقى معه اثنا عشر رجلاً صلى الجمعة
ركعتين على ظاهر هذا الحديث؛ لأن الذين بقوا مع النبى،
عليه السلام،
(2/523)
كانوا اثنى عشر رجلاً، وهذه المسألة فرع
على اختلافهم فى عدد من تقوم بهم الجمعة، وقد تقدم.
والصحيح قول من قال: إن نفروا عنه بعد عقد ركعة يسجد فيها
أنه يصلى الجمعة ركعتين، لقول النبى، عليه السلام: (من
أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) ، فبان أن أدنى ما
يقع به الاشتراك هو فعل الركعة، ولا يجوز أن يعتبر فى جواز
البناء الدخول فى الجمعة وحده؛ لأن الإمام متى كَبَّر حصل
دخوله فى الجمعة، وإن لم يصح له البناء عليها إلا بمشاركة
المؤتمين، يبين هذا أنهم لو نفروا عنه، وقد كبر ولم يكبروا
هم لم يصح أن يبنى الإمام على جمعته، فكذلك إذا نفروا بعد
أن كبروا. فإن قيل: إن الجمعة قد استقرت بدخولهم فيها، فلا
معتبر بعقد الركعة. قيل: إذا أدرك التشهد من الجمعة هو
مدرك لتكبيرة الإحرام مع الإمام ولا يعتد بها، ولا يبنى
عليها جمعة فسقط قولهم. واحتج الطحاوى لأصحابه قال: شرط
صحة الجمعة الإمام والمأموم، فلما كان المأموم تصح له
الجمعة، بأن يدرك بعض الصلاة مع الإمام وإن لم يدرك
جميعها، كذلك ينبغى أن يصح للإمام مشاركة المأمومين له فى
بعض صلاته.
(2/524)
33 - باب الصَّلاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
وَقَبْلَهَا
/ 58 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ النبى، عليه السلام،
كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ،
وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ
رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ
رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ
حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) . اختلف
العلماء فى الصلاة بعد الجمعة فقالت طائفة: يصلى بعدها
ركعتين فى بيته كالتطوع بعد الظهر، روى ذلك عن ابن عمر،
وعمران بن حصين، والنخعى، وقال مالك: إذا صلى الإمام
الجمعة فينبغى أن يدخل فى منزله ولا يركع فى المسجد، لما
روى عن النبى، عليه السلام، أنه كان ينصرف بعد الجمعة ولم
يركع فى المسجد، قال: ومن خلفه أيضًا إذا سلموا فأحبّ إلىّ
أن ينصرفوا ولا يركعوا فى المسجد، وإن ركعوا فذلك واسع.
وقالت طائفة: يصلى بعدها ركعتين ثم أربعًا، روى ذلك عن
على، وابن عمر، وأبى موسى، وهو قول عطاء، والثورى، وأبى
يوسف، إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين،
وقال الشافعى: ما أكثر المصلى بعد الجمعة من التطوع فهو
أحب إلىّ. وقالت طائفة: يصلى بعدها أربعًا لا يفصل بينهن
بسلام، روى ذلك عن ابن مسعود، وعن علقمة، والنخعى، وهو قول
أبى حنيفة، وإسحاق. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن
عمر: (أن النبى، عليه السلام، كان لا يصلى بعد الجمعة إلا
ركعتين فى بيته) ، قال المهلب: وهما الركعتان اللتان تصلى
بعد الظهر فى سائر الأيام.
(2/525)
وكرر ابن عمر ذكرها من أجل أنه عليه السلام
كان يصليها فى بيته، ووجه ذلك، والله أعلم، أنه لما كانت
الجمعة ركعتين لم يصل بعدها صلاة مثلها خشية أن يظن أنها
التى حذفت منها، وأنها واجبة، فلما زال عن موطن القصد صلى
فى بيته، وقد روى ابن جريج عن عمر بن عطاء بن أبى الخُوار:
(أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأله عن
شىء رآه منه معاوية فى الصلاة، فقال: نعم صليت معه الجمعة،
فلما سلم الإمام قمت فصليت، فقال: لا تعد لما فعلت، إذا
صليت الجمعة فلا تَصِلْهَا بصلاة حتى تكلم أو تخرج؛ فإن
النبى، عليه السلام، أمرنا أن لا نصل صلاة بصلاة حتى نتكلم
أو نخرج) . وروى الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق قال: كنا
نقرأ فى المسجد فنقوم فنصلى فى الصف، فقال عبد الله:
صَلُّوا فى رحالكم لئلا يراكم الناس فيرونها سنة، وقد أجاز
مالك الصلاة بعد الجمعة فى المسجد للناس، ولم يجزه للأئمة.
وحجة أهل المقالة الثانية ما رواه أبو إسحاق عن عطاء قال:
صليت مع ابن عمر الجمعة، فلما سلم قام فركع ركعتين، ثم صلى
أربع ركعات ثم انصرف، وما رواه سفيان، عن أبى حصين، عن أبى
عبد الرحمن، عن على بن أبى طالب، أنه قال: من كان مصليًا
بعد الجمعة فليصل ستًا، ووجه قول أبى يوسف ما رواه
(2/526)
الأعمش، عن إبراهيم، عن سليمان بن مسهر، عن
خرشة بن الحر أن عمر بن الخطاب كره أن يصلى بعد صلاة
مثلها. ووجه أهل المقالة الثالثة ما رواه ابن عيينة، عن
سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان منكم مصليًا بعد
الجمعة فليصل أربعًا) . وأما الصلاة قبل الجمعة فقد تقدم
اختلاف العلماء فى الصلاة عند استواء الشمس فى أبواب أوقات
الصلوات، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله.
34 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ) [الجمعة 10]
/ 59 - فيه: سَهْلِ قَالَ: (كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ
تَحْقَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا،
فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ، تَنْزِعُ أُصُولَ
السِّلْقِ، فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ، ثُمَّ تَجْعَلُ
عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا، وَكُنَّا
نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاةِ الْجُمُعَةِ، فَنُسَلِّمُ
عَلَيْهَا، فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا،
فَنَلْعَقُهُ، وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِطَعَامِهَا ذَلِكَ، ومَا كُنَّا نَقِيلُ وَلا نَتَغَدَّى
إِلا بَعْدَ الْجُمُعَةِ) . وترجم له: (باب الْقَائِلَةِ
بَعْدَ الْجُمُعَةِ) . / 60 - وزاد فيه: عَنِ أَنَس قال:
(كُنَّا نُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَقِيلُ) .
والفقهاء متفقون على أن معنى قوله تعالى: (فإذا قضيت
الصلاة
(2/527)
فانتشروا فى الأرض) [الجمعة 10] ، الإباحة؛
لأنه ورد بعد تقدم أمره بالسعى إلى الصلاة، وترك البيع؛
فأبان بقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض
وابتغوا من فضل الله) [الجمعة: 10] ، زوال ما أوجب عليهم
من السعى وترك البيع فى وقت الصلاة، وهذا كقوله تعالى:
(وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة: 2] . وموافقة الحديث
للترجمة وهو قوله: (كنا ننصرف من الجمعة فنسلم عليها،
فتقرب إلينا ذلك الطعام) ، ألا ترى أن انصرافهم بعد الجمعة
لم يكن واجبًا عندهم، وإنما كانوا ينصرفون لما ذكره من
الغداء، ثم القائلة عوضًا مما فاتهم من ذلك فى وقته، وهذا
الحديث بين فى ردَّ قول مجاهد، وأحمد بن حنبل: أن الجمعة
تصلى قبل الزوال استدلالاً، بقوله: (وما كنا نقيل إلا بعد
الجمعة) ، ولا يسمى بعد الجمعة وقت الغداء، قبان أن
قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة إنما كان عوضًا مما فاتهم فى
وقته من أجل بدارهم بالسعى إلى الصلاة والتهجير إلى
الجمعة، وعلى هذا التأويل جمهور الأئمة وعامة العلماء، فلا
معنى للاشتغال بما خالفهم، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك من
الحجة فى باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس. وقال صاحب
(العين) : الأربعاء الجداول واحدها ربيع. وقوله: (تحقل)
مأخوذة من الحقل، والحقل: الزرع المتشعب الورق.
(2/528)
35 - باب صَلاةِ الْخَوْفِ وَقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ (إلى قوله: (مُهِينًا) [النساء: 101، 102]
/ 61 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبىِّ
عَلَيْهِ السَّلاَم قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا
الْعَدُوَّ، فَصَافَفْنَا لَهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ
مَعَهُ تُصَلِّي، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى
الْعَدُوِّ، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) بِمَنْ مَعَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ
انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ،
فَجَاءُوا فَرَكَعَ، رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ،
فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ
رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) . قال المؤلف: لم يذكر
البخارى فى أبواب صلاة الخوف غير حديث ابن عمر هذا، وذكر
فى كتاب المغازى حديث مالك عن يزيد بن رومان، عن صالح بن
خوات، عمن شهد مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة
الخوف يوم ذات الرقاع: (أن طائفة صلت معه وطائفة وِجَاهَ
العدو، فصلى النبى بمن معه ركعة ثم ثبت قائمًا، فأتموا
لأنفسهم، ثم انصرفوا وصَفُّوا وِجَاهَ العدو، وجاءت
الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التى بقيت من صلاته، ثم
ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم) . قال مالك: هذا
أحسن ما سمعت فى صلاة الخوف، هكذا رواه البخارى عن قتيبة،
عن مالك، وكذلك هو فى موطأ القعنبى، وابن بكير، وأبى مصعب،
قال مالك: وحديث يزيد بن رومان أحب ما
(2/529)
سمعت إلىّ، وفى موطأ يحيى بن يحيى، قال
مالك: وحديث القاسم أحبّ ما سمعت إلىّ فى صلاة الخوف. وذكر
إسماعيل بن إسحاق، عن ابن وهب، عن مالك قال: حديث يزيد أحب
إلىّ، ثم رجع فقال: يكون قضاؤهم بعد السلام أحبّ إلى على
حديث القاسم، وذكر البخارى فى المغازى عن مسدد، عن يحيى
القطان، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح ابن
خوات، عن سهل بن أبى حثمة قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة
وطائفة منهم معه، وطائفة من قِبَلِ العدو ووجوههم إلى
العدو فيصلى بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم
ركعة ويسجدون سجدتين فى مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام
أولئك فيجىء أولئك فيركع بهم ركعة فله ثنتان، ثم يركعون
ويسجدون سجدتين. هكذا رواه مسدد عن القطان، عن يحيى بن
سعيد لم يذكر فيه سلام الطائفة الأولى إذا تمت صلاتها، ولا
ذكر سلام الرسول بالطائفة الثانية قبل أن تتم لأنفسها،
وذكر مالك ذلك فى روايته عن يحيى بن سعيد، والزيادة من
الحافظ مقبولة. وذكر البخارى فى المغازى حديث جابر إلا أنه
لم يسنده قال: وقال أبان: حدثنا يحيى ابن أبى كثير، عن أبى
سلمة، عن جابر قال: (كنا مع النبى (صلى الله عليه وسلم)
بذات الرقاع فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة
الأخرى ركعتين، فكان للنبى أربع ركعات وللقوم ركعتان) .
وهذه الأحاديث كلها قد قال بها قوم من الفقهاء، وسأذكر
أقوالهم بعد ذِكْرِى من قال بأحاديث ابن عمر المتقدمة فى
هذا الباب.
(2/530)
فى حديث ابن عمر أن الطائفة الأولى التى
صلى بها النبى، عليه السلام، ركعة لم تتم ركعتها الثانية
إلا بعد سلام النبى، أنهم كانوا فى انصرافهم وِجَاهَ العدو
فى حكم الصلاة، كذلك الطائفة الثانية قضوا ركعتهم بعد صلاة
النبى أيضًا. وقال بهذا أبو حنيفة، وأشهب صاحب مالك،
والأوزاعى، ثم رجع فأخذ بحديث غزوة ذات الرقاع، قاله
سحنون، إلا أن أبا حنيفة فرق بين الطائفة الأولى والثانية
فى القراءة فى الركعة الثانية التى تقضيها فقال: لا تقرأ
الطائفة الأولى فيها؛ لأنها فى حكم صلاة الإمام حتى يصلى
بالطائفة الثانية تمام صلاته، وقراءته فيها تُسقط عنهم
القراءة، ثم يسلم وينصرف، والطائفة الثانية تقرأ لأنها
تقضى بعد صلاة الإمام، ولم يتحمل عنهم القراءة، ولم يكونوا
فى حكمه. قالوا: وحديث ابن عمر تشهد له الأصول المجتمع
عليها فى سائر الصلوات أن المأموم لا يقضى إلا بعد سلام
الإمام، وليس فى الأصول خروج المأموم قبل فراغ إمامه من
صلاته التى افتتحها معه، وهم الطائفة الأولى على ما رواه
مالك فى حديث ابن القاسم، وذلك يوجب انتظار الإمام فراغ
المأمومين من صلاتهم، فيصير الإمام تابعًا لهم، ولا نظير
لهذا فى الأصول. قال ابن القصار: فالجواب أن هذه الصلاة
نفسها قد خرجت عن الأصول عند أبى حنيفة وعندنا؛ لأنه ليس
فى الأصول أن المأموم ينصرف بعد ركعة فيعمل أعمالاً غير
عمل الإمام ويذهب ويجىء ويستدبر القبلة حتى يفرغ الإمام من
صلاته ثم يجىء فيتم بهم، ويقول إن الله تعالى، أمر نبيه أن
يفرق الناس طائفتين، ويجعل
(2/531)
لكل طائفة ركعتين، فينبغى أن يسوى بينهما،
فلما قلتم وقلنا فى الطائفة الثانية أن ركعتها الثانية
تكون خارجة من صلاة الإمام؛ وجب أن تكون الطائفة الأولى
كذلك فتكون ركعتها الثانية خارجة عن حكم صلاة الإمام.
وقولنا: يؤدى إلى الاحتراز من العدو؛ لأن الطائفة الأولى
إذا تمت صلاتها ومرت وجاه العدو واحتاجت إلى القتال فعلته،
وهى فى غير صلاة وتمكنت بغير شغل قلب بالصلاة، وعندكم إن
رمى واحد منهم بسهم أو قاتل بطلت صلاته، وهذا أضرّ على
المسلمين من قولنا، وقد يحترز من العدو بالصياح والكلام
ليعلم المصلين ما طرق من الحوادث وهذا خارج الصلاة أمكن،
وأما حديث يزيد بن رومان فى أن الطائفة الأولى إذا صلى بها
الإمام ركعة، فإنها تتم لنفسها بقية صلاتها وتسلم ثم تنصرف
وجاه العدو، ثم تأتى الطائفة الثانية فيصلى بها الإمام
ركعة، ثم يثبت الإمام حتى تقضى ركعتها الثانية ويسلم بهم،
فقال به الشافعى، واختاره أحمد بن حنبل، وهو الذى رجع عنه
مالك. قال الشافعى: والمصير إليه أولى من حديث القاسم؛
لأنه موقوف وحديث يزيد أشبه بظاهر كتاب الله، تعالى، واحتج
الشافعى بأن الله تعالى، ذكر استفتاح الإمام ببعضهم بقوله
تعالى: (فلتقم طائفة منهم معك (، ثم قال: (فإذا سجدوا
فليكونوا من ورائكم) [النساء: 102] ، وذكر انصراف
الطائفتين والإمام من الصلاة معًا بقوله: (فإذا قضيتم
الصلاة) [النساء: 103] ، وذلك للجمع لا للتبعيض، ولم يذكر
أن
(2/532)
على واحد منهم قضاء، قال: وفى الآية دليل
على أن الطائفة الثانية لا تدخل فى الصلاة إلا بعد انصراف
الطائفة الأولى لقوله تعالى: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا
فليصلوا معك) [النساء: 102] ، دليل على أن الطائفة الأولى
تنصرف، فلم يبق عليها من الصلاة شىء تفعله بعد الإمام.
وقال ابن القصار: يقال للشافعى كلما أمكن أن لا تخرج
الصلاة من الأصول فهو أولى، وفى الأصول سلام الإمام قبل أن
يقضى المأموم صلاته، ولولا أن الضرورة دعت إلى أن تقضى
الطائفة الأولى ما بقى عليها قبل فراغ الإمام لما جوزنا
لها ذلك، ولا ضرورة بنا إلى أن تقضى الثانية باقى صلاتها
قبل إمامها، ومبادرة الإمام أولى من بقائه لما يحدث ويشغل
قلب صاحب الجيش أشد ممن يتبعه فيخفف عليه بالمبادرة
بالسلام، وقوله: (فليصلوا معك (، معناه ما بقى من صلاتك،
ويقضون ما فاتهم، فأما أن يصلوا معه ما لم يصله معهم
فمحال، وقوله: (فإذا قضيتم الصلاة (لايقتضى أن يكون قضاء
الجميع معًا، وإنما هو إخبار عما أبيح لهم فعله بعد الصلاة
من ذكر الله وغير ذلك كما قال: (فإذا قضيتم مناسككم
فاذكروا الله) [البقرة: 200] ، ولم يقتض ذلك بأن يكون قضاء
مناسكهم معًا؛ لأن قضاء من تعجل فى يومين قبل قضاء من
تأخر، وقد خاطب الله الجميع لا البعض. وأما حديث القاسم
فقد قال به مالك، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، وفى رواية مالك
أن سلام الطائفة الأولى إذا قضت ركعتها، وينصرفون إلى
العدو وهم فى غير صلاة، ثم تصلى الطائفة الثانية ركعتها
الأولى وراء الإمام، ثم يسلم الإمام ويتمون لأنفسهم بعد
سلامه، وهو موافق لحديث يزيد إلا فى سلام النبى قبل أن تتم
الطائفة الثانية ركعتها الثانية.
(2/533)
قال المهلب: وهذه الصفة، أعنى حديث القاسم،
هى الموافقة لكتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (وإذا كنت
فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا
أسلحتهم (، يعنى الباقين) فإذا سجدوا (، يعنى المصلين)
فليكونوا من ورائكم) [النساء: 102، 103] ، يعنى الذين هم
مواجهة العدو، فاشترط الله تعالى، أن تكون إحدى الطائفتين
فى غير صلاة مواجهين للعدو والثانية فى الصلاة، وقوله:
(ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك (، يدل أن الأولى
قد صلت تمام صلاتها، وقوله تعالى: (فليصلوا معك (، يقتضى
بقية صلاة النبى، عليه السلام، كلها وإذا اقتضى ذلك وجب أن
يسلم؛ لأن آخر صلاته السلام. قال غيره: وهذا أشبه بالأصول؛
لأن المأموم أبدًا إنما يقضى بعد فراغ إمامه وسلامه، فهو
أولى على ما بيناه من حديث يزيد بن رومان. وأما حديث جابر
فقد حكى عن الشافعى أنه قال به، وقال: صلاة الخوف يصلى
الإمام بكل طائفة ركعتين، وهو على أصله فى جواز صلاة
المفترض خلف المتنفل. قال أصحابه: هذا إذا كان فى سفر وهو
مخير عنده فى السفر بين القصر والإتمام، ولم يحفظ عن
النبى، عليه السلام، أنه صلى صلاة خوف قط فى حضر ولم يكن
له حرب فى حضر إلا يوم الخندق، ولم تكن نزلت صلاة الخوف
بعدُ. ودفع مالك، وأبو حنيفة هذا التأويل وقال أصحابهما:
إن النبى، عليه السلام، كان فى حضر ببطن النخل على باب
المدينة، ولم يكن مسافرًا، وإنما كان خوف فخرج منه
محترسًا، ولم ينقل عنه عليه السلام، سلام فى ركعتين بهم.
(2/534)
قال ابن القصار: وكذلك نقول: إذا كان الخوف
فى حضر أن يصلى بكل طائفة ركعتين، ولو ثبت أنه كان فى سفر
فصلى بكل طائفة ركعتين لكان هذا خاصًا للنبى للفضيلة فى
الصلاة خلفه. قال المهلب: لا يصح أنه كان فى حضر؛ لأن
جابرًا ذكر فى الحديث أنهم كانوا بذات الرقاع، وقد كانت
صلاة الخوف نزلت. وقال الطحاوى: ولا حجة لمن قال بهذا
الحديث؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك من النبى، والفريضة تصلى
مرتين فتكون كل واحدة منهما فريضة، وقد كان ذلك يفعل فى
أول الإسلام ثم نسخ، وقد ذكرت الحديث بذلك فى باب إذا صلى
ثم أمَّ قومًا عند حديث معاذ فى أبواب الإمامة قبل هذا.
قال المؤلف: وقد روى عن جابر خلاف حديثه هذا المتقدم، روى
شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر قال: (صلينا مع
النبى، عليه السلام، صلاة الخوف فركع فى الصف المتقدم
ركعة، وسجد سجدتين، ثم تأخروا، ثم تقدم الآخرون، فركع بهم
ركع واحدة، وسجد سجدتين فكانت للنبى (صلى الله عليه وسلم)
ركعتين وللناس ركعة ركعة) ، وقد يجوز أن يكون النبى، عليه
السلام، صلى على ما روى جابر مرتين على صفتين. وقد قال
أحمد بن حنبل: أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها، ويجوز أن تكون
فى مرات مختلفة على حسب شدة الخوف، ومن صلى بصفة منها فلا
حرج عليه، وهو قول الطبرى وطائفة من أهل الحديث. قال ابن
القصار: وحكى عن أبى يوسف والمزنى أنهما قالا: صلاة الخوف
منسوخة ولا يجوز أن تصلى بعد النبى، عليه السلام،
(2/535)
وقالا: إنما خاطب الله نبيه بذلك، فهو خاص
له لا يشاركه فيه غيره؛ لأن فى صلاة الخوف تغيير هيئات لا
تجوز إلا خلف النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن كونهم خلفه
عوض من تغيير الهيئات، وكانت صلاة الخوف ثابتة فى الشريعة،
ثم نسخت بدلالة تأخيره عليه السلام، الصلاة يوم الخندق عن
وقتها إلى هوىّ من الليل ثم قضاها دفعةً، ثم قال: (ملأ
الله قبورهم وبيوتهم نارًا) ، فلو جازت صلاة الخوف لم
يكونوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهذا قول شاذ وجماعة
الفقهاء على خلافه. قال الطحاوى: ومما يرد هذا القول قوله
تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) [التوبة: 103] الآية،
فكان الخطاب هاهنا له، وقد أجمعوا أن ذلك معمول به من
بعده، كما كان يعمل به فى حياته. قال ابن القصار: وما
ذكروه من النسخ بدلالة تأخيره يوم الخندق فهو قول من لا
يعرف السنن، وذلك أن الله تعالى، أمر نبيه بصلاة الخوف بعد
الخندق؛ لأن يوم الخندق كان سنة خمس وصلاة الخوف فى غزوة
ذات الرقاع فى سنة سبع، فكيف يُنسخ الآخرُ بالأول وإنما
يُنسخ الأول بالآخر، والصحابة أعرف بالنسخ من غيرهم وقد
صلوا صلاة الخوف. فأما قولهم: إن فيها تغييرًا وترك الركوع
والقبلة، فيقال لهم: فى هذا ما أوجبه القرآن وفعله عليه
السلام، ثم إن استدراك فضيلة الوقت مع تغيير الصفات أولى؛
ألا ترى عادم الماء أخذ عليه أن يصلى فى الوقت بالتيمم،
ولم يرخص له فى تأخيرها عن وقتها حتى يجد الماء، فسقط
قولهم.
(2/536)
36 - باب صَلاةِ الْخَوْفِ رِجَالا
وَرُكْبَانًا
/ 62 - فيه: نافع، عن ابْنِ عُمَرَ، نَحْوًا مِنْ قَوْلِ
مُجَاهِدٍ: إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا، وَزَادَ ابْنُ
عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَإِنْ
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا
وَرُكْبَانًا) . أما صلاة الخوف رجالاً وركبانًا، فلا تكون
إلا إذا اشتد الخوف واختلطوا فى القتال، وهذه الصلاة تسمى
صلاة المسايفة، فيصلى إيماءً وكيف تمكن، وممن قال بذلك ابن
عمر ذكره عنه مالك فى الموطأ، إن كان خوفًا شديدًا صلوا
قيامًا على إقدامهم أو ركبانًا مستقبلى القبلة أو غير
مستقبليها، وهو قول مجاهد، وطاوس، وإبراهيم، والحسن،
والزهرى، وطائفة من التابعين، روى ابن جريج عن مجاهد قال:
إذا اختلطوا فإنما هو الذكر والإشارة بالرأس. فمذهب مجاهد
أنه يجزئه الإيماء عند شدة القتال كمذهب ابن عمر، وهو مذهب
مالك، والثورى، والشافعى. وقول البخارى: وزاد ابن عمر عن
النبى، عليه السلام: (وإن كانوا أكثر فليصلوا قيامًا
وركبانًا) ، فإنما أراد أن ابن عمر رواه عن النبى، عليه
السلام، وليس من رأيه، وإنما هو مسند، وكذلك قال مالك. قال
نافع: ولا أرى عبد الله ذكر ذلك إلا عن النبى، عليه
السلام. وقول الشافعى فى ذلك: لا بأس أن يضرب فى الصلاة
الضربة الخفيفة ويطعن، وإن تابع الطعن أو الضرب أو عمل
عملاً يطول بطلت صلاته.
(2/537)
قال الطحاوى: وذهب قوم إلى أن الراكب لا
يصلى الفريضة على دابته، وإن كان فى حال لا يمكنه فيها
النزول، قال: وذهب آخرون إلى أن الراكب إن كان يقاتل فلا
يصلى، وإن كان راكبًا لا يمكنه النزول ولا يقاتل صلى.
قالوا: وقد يجوز أن يكون النبى يوم الخندق لم يصل؛ لأن
القتال عمل، والصلاة لا يكون فيها عمل، وذكر الطحاوى هذين
القولين، ورد القول الأول بأن الرسول لم يكن صلى يوم
الخندق؛ لأن صلاة الخوف لم تكن نزلت حينئذ، قال: وروى ابن
وهب، عن ابن أبى ذئب، عن سعيد المقبرى، عن عبد الرحمن بن
أبى سعيد الخدرى، عن أبيه قال: (صلى النبى (صلى الله عليه
وسلم) الظهر والعصر والمغرب يوم الخندق بعد المغرب بهوى من
الليل كما كان يصليها فى وقتها، وذلك قبل أن ينزل الله
عليه فى صلاة الخوف) فرجالاً أو ركبانًا (. قال الطحاوى:
فأخبر أبو سعيد أن تركهم الصلاة يومئذ ركبانًا، إنما كان
قبل أن يباح لهم ذلك ثم أبيح لهم بهذه الآية، فثبت بذلك أن
الرجل إذا كان فى الخوف لا يمكنه النزول عن دابته أن له أن
يصلى عليها إيماءً، وكذلك لو أن رجلاً كان على الأرض خاف
أن يفترسه سبع أو يضربه رجل بسيف فله أن يصلى قاعدًا إن
كان يخاف ذلك فى القيام، ويومئ إيماءً، وذلك كله قول أبى
حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد.
(2/538)
وقال ابن المنذر: وكل ما فعله المصلى فى
حال شدة الخوف مما لا يقدر على غيره، فالصلاة مجزئة عنه
قياسًا على ما وضع عنه من القيام والركوع والسجود لعلة ما
هو فيه من مطاردة العدو، وهذا أشبه بظاهر الكتاب والسنة مع
موافقته للنظر. وروى على بن زياد عن مالك، فيمن خاف أن
ينزل عن دابته من لصوص أو سباع، فإنه يصلى عليها الفريضة
حيث توجهت به ويومئ، وقاله أشهب.
37 - باب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي صَلاةِ
الْخَوْفِ
/ 63 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ
عَلَيهِ السَّلاَم وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَبَّرَ
وَكَبَّرُوا مَعَهُ، وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ
مَعَهُ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ
لِلثَّانِيَةِ، فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا، وَحَرَسُوا
إِخْوَانَهُمْ، وَأَتَتِ الطَّائِفَةُ الأخْرَى،
فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي
صَلاةٍ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قال
المؤلف: حديث ابن عباس هذا إذا كان العدو فى القبلة من
المسلمين، فإنه يجعل الناس صفين خلفه، فيركع بالصف الذى
يليه ويسجد معه، والصف الثانى قائمون يحرسون، فإذا قام من
سجوده إلى الركعة الثانية تقدم الصف الثانى وتأخر الأولون،
فركع النبى بهم وسجد، والصف الثانى يحرسونهم، وهم كلهم فى
صلاة، وقد روى هذا الحديث سفيان، عن أبى بكر بن أبى الجهم،
عن عبيد الله، عن ابن عباس: (أن الرسول صلى بهم صلاة الخوف
بذى قرد، والمشركون بينه وبين القبلة) ، وقد روى نحوه عن
أبى
(2/539)
عياش الزرقى، وجابر بن عبد الله، عن النبى،
عليه السلام، وبه قال ابن عباس: إذا كان العدو فى القبلة
أن يصلى على هذه الصفة، وهو مذهب ابن أبى ليلى، وحكى ابن
القصار عن الشافعى نحوه. وقال الطحاوى: ذهب أبو يوسف إلى
أن العدو إذا كان فى القبلة فالصلاة هكذا، وإن كانوا فى
غير القبلة، فالصلاة كما روى ابن عمر وغيره، قال: وبهذا
تتفق الأحاديث، قال: وليس هذا بخلاف للتنزيل؛ لأنه قد يجوز
أن يكون قوله تعالى: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا
معك) [النساء: 102] ، إذا كان العدو فى غير القبلة، ثم
أوحى إليه بعد ذلك كيف حكم الصلاة إذا كانوا فى القبلة،
ففعل الفعلين جميعًا كما جاء الخبران. وترك مالك، وأبو
حنيفة العمل بهذا الحديث لمخالفته لكتاب الله وهو قوله:
(ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) [النساء: 102] ،
والقرآن يدل على ما جاءت به الروايات فى صلاة الخوف عن ابن
عمر وغيره، من دخول الطائفة الثانية فى الركعة الثانية ولم
يكونوا صلوا قبل ذلك. وقال أشهب وسحنون: إذا كان العدو فى
القبلة لا أحب أن يصلى بالجيش أجمع؛ لأنه يتعرض أن يفتنه
العدو ويشغلوه، ويصلى بطائفتين سنة صلاة الخوف.
38 - باب الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ
وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ
وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ،
وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ، صَلَّوْا إِيمَاءً
كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى
الإيمَاءِ، أَخَّرُوا الصَّلاةَ، حَتَّى يَنْكَشِفَ
الْقِتَالُ، أَوْ يَأْمَنُوا، فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ،
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا
(2/540)
صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ
لَمْ يَقْدِرُوا، لا يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ،
وَيُؤَخِّرُوهَا، حَتَّى يَأْمَنُوا، وَبِهِ قَالَ
مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: حَضَرْتُ عِنْدَ
مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ،
وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا
عَلَى الصَّلاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلا بَعْدَ ارْتِفَاعِ
النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى،
فَفُتِحَ لَنَا. قَالَ أَنَسُ: مَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ
الصَّلاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. / 64 - فيه: جابر قال:
(جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَجَعَلَ يَسُبُّ
كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ
تَغِيبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيهِ السَّلاَم: وَأَنَا
وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ، قَالَ: فَنَزَلَ إِلَى
بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى الْعَصْرَ، بَعْدَ مَا
غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا) .
وأما الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو فهى صلاة حال
المسايفة والقتال التى تقدم ذكرها فى باب صلاة الخوف
رجالاً وركبانًا، وحديث جابر فى هذا الباب هو حجة
الأوزاعى، ومكحول أنه من لم يقدر على الإيماء أخر الصلاة
حتى يصليها كاملة ولا يجزئ عنهم تسبيح ولا تهليل؛ لأن رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) قد أخرها يوم الخندق، وإن كان
ذلك قبل نزول صلاة الخوف، فإن فيه من الاستدلال أن الله
تعالى، لم يعب تأخيره لها لما كان فيه من شغل الحرب، فكذلك
الحال التى هى أشد من ذلك، إلا أنه استدلال ضعيف من أجل أن
سنة صلاة الخوف لم تكن نزلت قبل ذلك.
(2/541)
فأما قول الأوزاعى: فإن لم يقدروا صلوا ركع
وسجدتين، فقد روى مثله عن الحسن البصرى وقتادة، وهو قول
مكحول، ويحتمل أن يقولوا ذلك من حديث أبى عوانة، عن بكير
بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: (صلاة الخوف ركعة)
. قال الطحاوى: وهذا الحديث يعارضه القرآن، وذلك أن الله،
تعالى، قال فى كتابه: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة
(إلى) فليصلوا معك) [النساء: 102] ، ففرض الله صلاة الخوف
ونص فرضها فى كتابه هكذا، وجعل صلاة الطائفة الأخرى بعد
تمام الركعة الأولى مع الإمام، فثبت بهذا أن الإمام يصليها
فى حال الخوف ركعتين بخلاف هذا الحديث، وقد روى عبيد الله
عن ابن عباس خلاف ما روى عنه مجاهد، وهذا الحديث الذى فى
الباب قبل هذا، وأما التكبير فقد روى عن مجاهد أنه قال:
صلاة المسايفة بتكبيرة واحدة. وعن سعيد بن جبير، وأبى عبد
الرحمن قال: الصلاة عند المسايفة تهليل وتسبيح وتحميد
وتكبير، ذكره الفزارى فى السير، وذكر ابن المنذر عن إسحاق:
تجزئك ركعة تومئ بها، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم
تقدر فتكبيرة واحدة؛ لأنه ذكر لله. وقال الحسن بن حى: يكبر
مكان كل ركعة تكبيرة. وأما أئمة الفتوى بالأمصار فلا يجزئ
عندهم التكبير من الركوع والسجود؛ لأن التكبير لا يسمى
بركوع ولا سجود، وإنما يجزئ الإتيان بأيسرهما، وأقل
الأفعال الثابتة عنهما الإشارة والإيماء الدال على الخضوع
لله فيهما.
(2/542)
قال الأصيلى: ومعنى قول أنس: (فلم يقدروا
على الصلاة) ، فإنهم لم يجدوا السبيل إلى الوضوء من شدة
القتال، فأخروا الصلاة إلى وجود الماء، ويحتمل أن يكون
تأخير النبى، عليه السلام، الصلاة يوم الخندق حتى غربت
الشمس؛ لأنه لم يجد السبيل إلى الوضوء، والله أعلم.
39 - باب صَلاةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا
وَإِيمَاءً
قَالَ الْوَلِيدُ: ذَكَرْتُ لِلأوْزَاعِيِّ صَلاةَ
شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ
الدَّابَّةِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ الأمْرُ عِنْدَنَا إِذَا
تُخُوِّفَنَا الْفَوْتُ. وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِه
عَلَيهِ السَّلاَم: لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا
فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. / 65 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ
النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ
الأحْزَابِ: (لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي
بَنِي قُرَيْظَةَ) ، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي
الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى
نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ
يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ (صلى
الله عليه وسلم) فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ) .
اختلف العلماء فى صلاة الطالب على ظهر الدابة بعد اتفاقهم
على جواز صلاة المطلوب راكبًا، فذهبت طائفة إلى أن الطالب
لا يصلى على دابته وينزل ويصلى بالأرض، هذا قول عطاء،
والحسن، وإليه ذهب الثورى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور.
وقال الشافعى: إلا فى حالة واحدة، وذلك أن يقطع الطالبون
أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين إليهم، فإذا كان هذا هكذا
كان لهم الإيماء ركبانًا.
(2/543)
وذكر ابن حبيب عن ابن عبد الحكم قال: صلاة
الطالب بالأرض أولى من الصلاة على الدواب. وفيها قول ثان
قال ابن حبيب: هو فى سعة، وإن كان طالبًا لا ينزل ويصلى
إيماء؛ لأنه مع عدوه لم يصل إلى حقيقة أمن، وقاله مالك وهو
مذهب الأوزاعى، وشرحبيل. وذكر الفزارى عن الأوزاعى قال:
إذا خاف الطالبون إن نزلوا بالأرض فوت العدو صلوا حيث
وجهوا على كل حال؛ لأن الحديث جاء أن النصر لا يرفع ما دام
الطلب. قال المؤلف: وطلبت قصة شرحبيل بن السمط بتمامها
لأتبين هل كانوا طالبين أم لا، فذكر الفزارى فى السير عن
ابن عون، عن رجاء بن حيوة، عن ثابت بن السمط، أو السمط بن
ثابت، قال: كانوا فى سفر فى خوف فصلوا ركبانًا، فالتفت
فرأى الأشتر قد نزل للصلاة، فقال: خالف خولف به، فخرج
الأشتر فى الفتنة. فبان بهذا الخبر أنهم كانوا طالبين حين
صلوا ركبانًا؛ لأن الإجماع حاصل على أن المطلوب لا يصلى
إلا راكبًا، وإنما اختلفوا فى الطالب. وأما استدلال الوليد
بقصة بنى قريظة على صلاة الطالب راكبًا، فلو وجد فى بعض
طرق الحديث أن الذين صلوا فى الطريق صلوا
(2/544)
ركبانًا لكان بينًا فى الاستدلال، ولم يحتج
إلى غيره، ولما لم يوجد ذلك احتمل أن يكون لما أمرهم النبى
(صلى الله عليه وسلم) بتأخير العصر إلى بنى قريظة، وقد علم
بالوحى أنهم لا يأتونها إلا بعد مغيب الشمس، ووقت العصر
فرض، فاستدل أنه كما ساغ للذين صلوا ببنى قريظة ترك الوقت
وهو فرض ولم يعنفهم النبى، عليه السلام، فكذلك سوغ للطالب
أن يصلى فى الوقت راكبًا بالإيماء، ويكون تركه للركوع
والسجود المفترض كترك الذين صلوا ببنى قريظة الوقت الذى هو
فرض، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، قاله المهلب. قال:
وقوله عليه السلام: (لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة)
، فإنه أراد إزعاج الناس إليها لما كان أخبره جبريل أنه لم
يضع السلاح بعد وأمره ببنى قريظة.
40 - باب التَّبْكيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ وَالصَّلاةِ
عِنْدَ الإغَارَةِ وَالْحَرْبِ
/ 66 - فيه: أَنَسِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ رَكِبَ، فَقَالَ:
اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ. . . . .) الحديث.
السنة فى صلاة الصبح: التغليس فى السفر كما فى الحضر. قال
المهلب: وكانت عادته عليه السلام، التغليس بالصبح ولم
يؤخرها عن ذلك إلا اليوم الذى علم الأعرابى الذى سأله عن
وقت الصلاة. وفيه: أن التكبير عند الإشراف على المدن
والقرى سنة، وكذلك عند رؤية الهلال وولادة الغلام؛ لأنه
إعلام بما ظهر.
(2/545)
وتفاءل عليه السلام، لخبير بالخراب، من
اسمها، على أهلها فكان كذلك، وكذلك كان يتفاءل بالأسماء
التى يكون له فيها المحبوب، وكان يكره الطيرة ولم يكن هذا
طيرة بالخراب؛ لأن الخراب لخيبر من سعادة النبى، عليه
السلام، وأصحابه، فهو من الفأل الحسن.
(2/546)
|