شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
9 - كِتَاب مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ وفضلها
قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء 103] مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ / 1 - فيه: ابن شهاب: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلاةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ ابْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلاةَ يَوْمًا، وَهُوَ بِالْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ نزل فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خمس مرات، ثُمَّ قَالَ: (بِهَذَا أُمِرْتُ) ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ، أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الذى أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ وَقْتَ الصَّلاةِ، قَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا، قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) . قال المهلب: تأخير عمر بن عبد العزيز الصلاة كان عن الوقت المستحب المرغب فيه، ولم يؤخرها حتى يخرج وقتها كله وغربت الشمس أو قريب من ذلك، وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث ما يدل على ذلك وهو قوله: (إن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة شيئًا) ، ولا يجوز على عمر بن عبد العزيز على مكانته من العلم والفضل أن يؤخرها عن جميع وقتها ويصليها فى وقت غيره، وإنما أنكر عليه عروة

(2/148)


ترك الوقت الفاضل الذى صلى فيه جبريل بالنبى (صلى الله عليه وسلم) وهو الوقت الذى عليه الناس، هذا مفهوم الحديث. ففى هذا من الفقه: المباكرة بالصلاة فى وقتها الفاضل. وقوله: (أخر الصلاة يومًا) يدل على أنه كان نادرً من فعله، وهذه الصلاة التى أخرها عمر كانت صلاة العصر روى ذلك شعيب، عن الزهرى فى المغازى من هذا الكتاب، ويدل على ذلك قوله: (ولقد أخبرتنى عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى العصر والشمس فى حجرتها قبل أن تظهر) يريد تعجيل العصر بخلاف ما صلاها عمر بن عبد العزيز ذلك اليوم. وفيه: من الفقه: دخول العلماء على الأمراء إذا كانوا أئمة عدل. وفيه: إنكار العلماء على الأمراء ما يخالف السنة. وفيه: جواز مراجعة العالم لطلب البيان. وفيه: الرجوع عند التنازع إلى السنة وأنها الحجة والمقنع. وفيه: أن الحجة فى الحديث المسند دون المقطوع لقوله: (كذلك كان بشير بن أبى مسعود يحدث عن أبيه) ؛ لأن عروة قد كان أخبر أن جبريل أقام لرسول الله وقت الصلاة فلم يقنع بذلك من قوله إذ لم يسند له ذلك، فلما قاله له: (اعلم ما تحدث به) ، لجأ إلى الحجة القاطعة فقال: كذلك كان بشير بن أبى مسعود يحدث عن أبيه. وهذا الحديث يعارض ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من إمامة جبريل له لكل صلاة فى وقتين فى يومين؛ لأن محالاً أن يحتج عروة على عمر بصلاة جبريل بالنبى فى وقت واحد، وهو يعلم أن جبريل قد صلى به تلك

(2/149)


الصلاة فى آخر وقتها مرة ثانية، وهو الوقت الذى أخرها إليه عمر بن عبد العزيز لو صح حديث الوقتين إذ كان من حق عمر أن يقول لعروة: لا معنى لإنكارك على تأخير الصلاة إلى وقت إقامة جبريل للنبى عليه السلام، وأمَّ به فيه، فاحتجاج عروة على عمر بن عبد العزيز، واحتجاج أبى مسعود على المغيرة يدل أن صلاة جبريل بالرسول كانت فى وقت واحد فى يوم واحد، ولو صلى به فى يومين لما صح الاحتجاج لعروة ولا لأبى مسعود بهذا الحديث. فإن قيل: فقد قال عليه السلام، للذى سأله عن وقت الصبح: (ما بين هذين وقت) فأحاله على وقت تجوز فيه الصلاة، فصح حديث الوقتين. فالجواب: أن أبا محمد الأصيلى قال: لا يجوز لنا أن نقول: قال رسول الله إلا فيما صح طريقه، وثبتت عدالة ناقليه، فنقول: إن جبريل صلى بالرسول فى أول الوقت بحديث بشير بن أبى مسعود لصحته ولا نقول: إن جبريل صلى به فى آخر الوقت إلا بسند صحيح لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من تَقَوَّل على ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار) . قال غيره: وإنما قال الرسول للذى سأله عن صلاة الصبح: (ما بين هذين وقت) على طريق التعليم للأعرابى أن الصلاة تجوز فى آخر الوقت لمن نسى أو كان له عذر، إذ خشى منه عليه السلام، أن يظن أن الصلاة فى آخر الوقت لا تجزئ، ولو كان جبريل قد صلى به فى أول الوقت وآخره وأعلمه أنهما فى الفضل سواء، لما التزم عليه السلام الصلاة فى أول الوقت، ولَصَلَّى مرةً فى أول الوقت، ومرة فى آخره، وأعلم به الناس أنهم مخيرون بين ذلك، فدل لزومه الصلاة

(2/150)


فى أول الوقت دَهْرَهُ كُلَّهُ، أنه الوقت الذى أقامه له جبريل وأن قوله: (ما بين هذين وقت) ، على طريق التعليم لأهل العذر وأشباههم، ودل أن الوقت الفاضل أول الوقت، وقد قال يحيى: إن الرجل ليصلى الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها أعظم من أهله وماله، فصح ما قلناه والحمد لله. وقوله: (والشمس فى حجرتها قبل أن تظهر) ، إن قال قائل: ما معنى قولها: (قبل أن تظهر) والشمس ظاهرة على كل شىء من أول طلوعها إلى غروبها. فالجواب: أنها أرادت الفىء فى حجرتها قبل أن تعلو على البيوت، فَكَنَّتْ بالشمس عن الفىء؛ لأن الفىء عن الشمس يكون، كما يسمى العرب النبت ندى؛ لأنه بالمطر يكون، وتسمى المطر سماء؛ لأنه من السماء ينزل، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى بعض طرق الحديث، روى الليث، وابن عيينة، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة: (أن رسول الله كان يصلى العصر والشمس فى حجرتها لم تظهر الفىء) ، اللفظ لابن عيينة، ومعلوم أن الفىء أبدًا ملازم لأثر الشمس، فإذا لم يظهر الفىء من الحجرة فلا شك أن الشمس فى قاعة الحجرة، وقد روى هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة: (والشمس لم تخرج من حجرتها) ، وروى أبو أسامة، عن هشام: (من قعر حجرتها) ، والشمس لا تكون إلا فى قاعة الحجرة الصغيرة، يعنى قبل أن تعلو على الجُدُرِ ويرتفع ظلها عن قاعة الحجرة، وكل شىء علا فقد ظهر، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه) [الكهف: 97] ، يريد يعلونه، والحجرة يومئذ كانت ضيقة والشمس

(2/151)


لا تكون فى قاعة الحجرة الصغيرة إلا وهى مرتفعة قائمة فى وسط السماء، من قبل أن الجُدُرَ كانت قصيرة وأن الظل فى الحجاز هو أقصر منه فى غيره؛ لأنه وسط الأرض، وهذا يدل على قصر بنيانهم واقتصادهم، وقد قال الحسن: كنت أدخل بيوت النبى وأنا محتلم وأنال سقفها بيدى، وذلك فى خلافة عثمان.
- باب قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الروم 31]
. / 2 - فيه: ابن عباس قَالَ: (قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: إِنَّا هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِشَيْءٍ، نَأْخُذْهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، فَقَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الإيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ، شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَى عَنِ: الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُقَيَّرِ) . قال المؤلف: قرن الله التُّقى ونفى الإشراك به تعالى بإقامة الصلاة، فهى أعظم دعائم الإسلام بعد التوحيد، وأقرب الوسائل إلى الله تعالى، ومفهوم هذه الآية يدل أنه من لم يقم الصلاة فهو مشرك، ولذلك قال عمر: (ولا حظ فى الإسلام لمن ترك الصلاة) ، وسيأتى حكم ترك الصلاة، واختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب المرتدين. وقد تقدم فى كتاب الإيمان معنى أمره عليه السلام، وفد عبد القيس بما أمرهم به ونهيه لهم عن الأشربة والظروف، وذلك أنه كان

(2/152)


يُعلم كل قوم ما بهم الحاجة إليه، وما الخوف عليهم من قبله أشد، وكان وفد عبد القيس يخاف منهم الغلول فى الفىء، وكانوا يكثرون الانتباذ فى هذه الأوعية، فعرفهم ما بهم الحاجة إليه، وما يخشى منهم مواقعته، وترك غير ذلك مما قد كثر وفشا عندهم.
3 - باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِقَامهَ الصَّلاةِ
/ 3 - فيه: جرير بن عبد الله قال: (بَايَعْتُ الرَسُولَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) . قال المهلب: مبايعة الرسول جريرًا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فَهُمَا دعامة الإسلام، وهما أول الفرائض بعد توحيد الله، والإقرار برسوله وذكر النصح لكل مسلم بعدهما، يدل أن قوم جرير كانوا أهل غدر، فعلمهم ما بهم إليه أشد حاجة، كما أمر وفد عبد القيس بالنهى عن الظروف، ولم يذكر لهم النصح لكل مسلم، إذ علم أنهم فى الأغلب لا يُخاف منهم من ترك النصح ما يخاف على قوم جرير، وكان جرير وفد من اليمن من عند قومه وفيه، قال الرسول: (إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه) ، فبايعه بهذا ورجع إلى قومه معلمًا.
4 - باب الصَّلاةُ كَفَّارَةٌ
/ 4 - فيه: حذيفة قال: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا، كَمَا قَالَهُ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ - أَوْ

(2/153)


عَلَيْهَا - لَجَرِيءٌ قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالأمْرُ، وَالنَّهْيُ) ، الحديث. / 5 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ: (أَنَّ رَجُلا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود 114] ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ) . قوله: (فتنة الرجل فى أهله وماله) يصدقه، قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) [التغابن: 15] ، والمعنى فى ذلك أن يأتى من أجلهم ما لا يحل له من القول والعمل ما لم يبلغ كبيرة، كالقُبْلة التى أصابها الرجل من المرأة وشبهها، فذلك الذى يكفرها الصلاة والصوم، ومثله قوله عليه السلام: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر) . قال المهلب: قوله: (فتنة الرجل فى أهله وماله وولده وجاره) ، يريد ما يعرض له معهم من شرٍّ أو حزنٍ وشبه ذلك، وسأستقصى تفسير هذا الحديث وأزيد فى البيان عن معنى الفتنة فيه فى كتاب الصيام فى باب الصوم كفارة، إن شاء الله، تعالى. وإنما علم عمر أنه الباب؛ لأن الرسول كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فقال النبى: (اثبت حراء، فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان) ، وفهم ذلك، رضى الله عنه، من قول حذيفة حين قال: بل يكسر الباب، قال غيره: ويدل على ذلك قوله: (إذًا لا يغلق) ؛ لأن الغلق إنما يكون فى الصحيح، وأما المنكسر فهو

(2/154)


هتك لا يجبر وفتق لا يُرقع، وكذلك انخرق عليهم بقتل عثمان بعده من الفتن ما لا يغلق إلى يوم القيامة، وهى الدعوة التى لم يجب فيها عليه السلام فى أمته، ولذلك قال: (فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة) . وأما حديث ابن مسعود، فإن أهل التأويل ذهبوا إلى قوله: (وأقم الصلاة طرفى النهار) [هود: 114] ، الفجر وصلاة العشاء، هذا قول مجاهد، والضحاك، وقال الحسن، وقتادة: طرفا النهار: الفجر، والعصر، وزلفًا من الليل: المغرب والعشاء،) إن الحسنات يذهبن السيئات) [هود: 114] ، قالوا: الحسنات التى ذكرهن الله هاهنا الصلوات الخمس، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، وسعيد بن المسيب وغيرهم، فدلت هذه الآية أن الصلاة كفارة لصغائر الذنوب، ودل هذا الحديث أن القُبلة وشبهها مما أصابه الرجل من المرأة غير الجماع كل ذلك من الصغائر التى يغفرها الله باجتناب الكبائر، والصغائر هى من اللمم التى وعد الله مغفرتها لمجتنب الكبائر بقوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة) [النجم: 32] ، وهذه الآية تفسير قوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) [هود: 114] . وأما الكبائر: فأهل السنة مجمعون على أنه لابد فيها من التوبة والندم والإقلاع واعتقاد أن لا عودة فيها، روى سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الصلوات الخمس كفارة لما بينهن لمن اجتنب الكبائر) .

(2/155)


وفى الآية تأويل آخر، قال مجاهد: الحسنات يذهبن السيئات هى سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال الطبرى: والصواب قول من قال هى الصلوات الخمس؛ لثبوت الخبر عن الرسول أنه قال: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب ينغمس كل يوم فيه خمس مرات، فماذا يبقين من درنه؟) ، وأن ذلك فى سياق أمر الله بإقام الصلوات، فالوعدُ على إقامتها جزيل الثواب عقبها أولى من الوعد على ما لم يجر لهُ ذكر من سائر صالحات الأعمال، إذ خُصَّ بالقصد بذلك بعض دون بعضٍ، وسأذكر مذاهب العلماء فى الصغائر والكبائر فى كتاب الأدب، إن شاء الله.
5 - باب فَضْلِ الصَّلاةِ لِوَقْتِهَا
/ 6 - فيه: عَبْدِاللَّهِ قَالَ: (سَأَلْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) أَيُّ الأعَمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ ، قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. / 7 - وفيه: أبو هريرة، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ ذَلِك، يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ قَالُوا: لا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا) . / 8 - وفيه: أنس: أنه بكى فقال ابن شهاب: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت.

(2/156)


قال المؤلف: فى حديث عبد الله أن الصلاة لوقتها أحب إلى الله من كل عمل، وذلك يدل أن تركها أبغض الأعمال إلى الله بعد الشرك. وفيه: أن أعمال البر يفضلُ بعضها بعضًا عند الله. وفيه: فضل بر الوالدين، ألا ترى أنه عليه السلام، قرن ذلك بالصلاة، كما قرن الله شكرهما بشكره، فقال: (أن اشكر لى ولوالديك) [لقمان: 14] . وفيه: أن البدار إلى الصلاة فى أول أوقاتها، أفضل من التراخى فيها؛ لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إلى الله إذا أقيمت لوقتها المستحب الفاضل، وفى حديث أبى هريرة بيان أن صغائر الذنوب يغفرها بمحافظته على الصلوات؛ لأنه شبه الصغائر بالدرن، والدرن ما لم يبلغ مبلغ الجراح. قال المهلب: وقول أنس فى الصلاة: (أليس قد ضُيعتْ) ، وفى حديث آخر: (أليس قد ضيعتم فيها) ، يعنى تأخيرها عن الوقت المستحب لا أنهم أخرجوها عن وقتها كله. وقد قيل فى قوله تعالى: (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) [مريم: 59] ، قال: والله ما ضيعوها بأن تركوها ولو تركوها كانوا كفارًا، ولكنهم أخروها عن أوقاتها.

(2/157)


6 - باب الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ عَزَّ
/ 9 - فيه: أَنَّ الرَّسُول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلا يَتْفِلَنَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . فيه: فضل الصلاة على سائر الأعمال؛ لأن مناجاة الله لا تحصل للعبد إلا فى الصلاة خاصة، فينبغى له إحضار النية فيها وترك خواطر الاشتغال عنها، ولزوم الخشوع ولا يقدر على ذلك إلا بعون الله له. وقال بعض الصالحين: إذا قمت إلى الصلاة فاعلم أن الله يُقبلُ عليك، فأَقبلْ على من هو مُقبل عليك، واعلم أنه قريب منك، ناظر إليك، فإذا ركعت فلا تأمل أنك ترفع، وإذا رفعت فلا تأمل أنك تضع، ومَثِّل الجنة عن يمينك والنار عن شمالك والصراط تحت قدمك، فإذا فعلت كنت مُصليًا.
7 - باب الإبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ
/ 10 - فيه: أبو هريرة، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) . / 11 - وزاد، أبو هريرة:: (وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) . / 12 - وفيه: أبو ذر قال: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ عليه السلام، الظُّهْرَ فَقَالَ: (أَبْرِدْ، أَبْرِدْ - أَوْ قَالَ: انْتَظِرِ انْتَظِرْ - وَقَالَ: شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ، حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ) .

(2/158)


وترجم لحديث أبى ذر باب الإبراد بالظهر فى السفر، وقال أبو ذر: (كنا مع النبى، عليه السلام، فى سفر. . .) ، وذكر الحديث. اختلف العلماء فى تأخير الظهر عند شدة الحر فذكر ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق رواية عن عمر بن الخطاب، أنه كان يبرد بها، وعن أبى هريرة، وقيس بن أبى حازم مثله. وقال أبو الفرج: عن مالك، أول الوقت أفضل فى كل صلاة إلا الظهر فى شدة الحر، ولمالك فى المدونة خلاف ما حكاه عنه أبو الفرج، وهو أنه استحب أن يصلى الظهر، والعصر، والعشاء، بعد تمكن الوقت وذهاب بعضه، وبتأخير الظهر فى شدة الحر، قال أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وقال الشافعى: يبرد بالظهر فى شدة الحر إذا كان المسجد يُنْتَابُ من البُعْدِ، فأما من صلاها فى بيته أو فى جماعة بفناء بيته فيصليها فى أول وقتها. وذهبت طائفة إلى تعجيل الظهر فى الحر وغيره فى أول وقتها، ولم يقولوا بالإبراد، وسأبين قول عمر فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، ومعنى قوله: فَىء التلول يريد ظل كل شىء بارز على وجه الأرض من حجر أو نبات أو غيره فهو تلّ. فإن قيل: إن أول النهار للتلول فىء أيضًا. قيل: إذا طلعت الشمس يكون ظل كل شىء ممدودًا إلى جهة المغرب، فلا يزال الظل يقصر حتى تقف الشمس فى وسط السماء، فإذا وقفت قصر ظل كل شىء حذاء وخاصة فى الحجاز فى زمن القيظ، فليس لشىء فى ذلك الوقت ظل، فلا تجوز الصلاة حينئذ، فإذا زالت الشمس، وفاء الفىء

(2/159)


امتد كل شىء إلى جهة المشرق، وبدا للتلول فئ ولا يبدو لها فى الحجاز إلا بعد تمكن الوقت. والفيح: سطوع الحر، فى كتاب العين.
8 - باب وَقَتْ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ
وقال جابر: كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصلى الظهر بالهاجرة. / 13 - وفيه: أَنَسُ: (أَنَّ الرَسُولَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى الظُّهْر، ثم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ، وَلا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي، فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ، وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي، فَقَامَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي، فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. . .) ، الحديث. / 14 - وفيه: أَبو بَرْزَةَ (كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الصُّبْحَ، وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَالظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ. . .) الحديث. / 15 - وفيه: عَنْ أَنَسِ: (كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالظَّهَائِرِ، سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ) . وأجمع العلماء على أن أول وقت الظهر زوال الشمس وممن كان يصليها عند الزوال أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وروى إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: ما رأيت أحدًا كان أشد تعجيلاً للظهر من الرسول، وأبى بكر وعمر، وكتب عمر إلى أبى موسى: أن

(2/160)


صَلِّ الظهر حين تزيغ الشمس، وقال إبراهيم: كنا نصلى الظهر مع علقمة أحيانًا نجد ظلاً، نجلس فيه، وأحيانًا لا نجد ظلاً نجلس فيه، وذكر ذلك كله ابن أبى شيبة. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى تعجيل الظهر فى الزمان كله فى أول وقتها، واحتجوا بهذه الآثار وخالفهم آخرون، فقالوا: أما فى الشتاء فيعجل بها، وأما فى الصيف، فتؤخر حتى يتبرد بها، وهو قول الكوفيين، وأحمد، وإسحاق، ورواية أبى الفرج عن مالك. واحتجوا بالآثار المروية عن الرسول بالإبراد، وقالوا: معلوم أن الإبراد لا يكون إلا فى الصيف، وخالف ذلك الآثار التى جاءت بتعجيل الظهر فى الحر، فما دل على أن أحد الأمرين أولى من الآخر؟ قيل: لأنه روى أن تعجيل الظهر قد كان يفعل، ثم نسخ، حدثنا إبراهيم بن أبى داود، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك، عن بيان، عن قيس بن أبى حازم، عن المغيرة بن شعبة، قال: صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الظهر بالهجير، ثم قال: (إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوا عن الصلاة) ، فأخبر المغيرة فى هذا الحديث أن أمر النبى بالإبراد بالظهر بعد أن كان يصليها فى الوقت، نسخ تعجيل الظهر فى شدة الحر، ووجب استعمال الإبراد فى شدة الحر. وقد روى عن أنس بن مالك، وابن مسعود، عن النبى: أنه كان يعجلها فى الشتاء، ويؤخرها فى الصيف، من طرق ثابتة، ذكرها

(2/161)


الطحاوى، فدل ذلك على أن حديث جابر، وأنس، وأبى برزة، مفسر بحديث المغيرة. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: ليس الأمر بالإبراد ناسخًا لتعجيل الظهر فى شدة الحر، وحكم الظهر أن يعجل فى سائر الزمان لمن أراد الأخذ بالأفضل؛ لأن الرسول كان يعجلها فى أكثر أمره، وإنما أمرهم بالإبراد رخصة لهم لشدة الحر عندهم رفقًا بهم، وقد روى عن سعيد بن أبى المليح، عن ميمون بن مهران، قال: لا بأس بالصلاة نصف النهار، وإنما كانوا يكرهون الصلاة نصف النهار؛ لأنهم كانوا يصلون بمكة، وكانت شديدة الحر، ولم يكن لهم ظلال، فقال: أبردوا بها. وروى الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: صليت خلف عبد الله بن مسعود الظهر حين زالت الشمس، فقال: هذا والذى لا إله إلا هو وقت هذه الصلاة، قالوا: وهذا محمول على الزمان كله، وبَيَّنَ هذا ما رواه الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أسامة بن زيد، عن الزهرى، عن عروة، عن بشير بن أبى مسعود، عن أبيه: (أنه رأى رسول الله يصلى الظهر حين تزيغ الشمس، وربما أخرها فى شدة الحر) ، فهذا يدل أنه لم يكن يبرد بالصلاة فى الحر كله؛ لأن (ربما) تقع للتقليل، وإنما كان يفعل ذلك فى النادر، وليدل أمته على أن ما أمرهم به من الإبراد، قد يفعله هو أيضًا، وإن كان أكثر دهره يعجل الصلاة ولا يبرد بها، وأنهم مخيرون بالأخذ بأى ذلك شاءوا. فمن أراد الأفضل، كان له التعجيل، ومن أراد الأخذ بالرخصة كان له الإبراد، وهذا المعنى فهم عمر بن الخطاب، فكتب إلى أبى

(2/162)


موسى الأشعرى: أن صلِّ الظهر إذا زاغت الشمس، فدله على الأفضل فى خاصة نفسه لعلمه بفهم أبى موسى، ومعرفته بأول الوقت، وأنه لا يشكل عليه، ولعلمه بحرصه على الأخذ فى نفسه بالأفضل، وإن كان أشق عليه، وكتب إلى عماله: أن صلوا الظهر إذا فاء الفىء ذراعًا، ولم يخص بذلك صيفًا من شتاء، فحملهم على سعة الوقت، وما يستوى عامة الناس فى معرفته، إذ لو حملهم على أول الوقت المحدود، لأدخل عليهم الحرج؛ إذ لا يعرف أول الوقت على الحقيقة كلُّ الناس، ورأى أن الوقت الذى يشمل عامتهم ويجتمعون فيه للصلاة يدركون فيه من فضل الجماعة، أكثر مما فاتهم من التعجيل بها لو صلوا منفردين بغير جماعة، فهذا تأويل يجمع ما اختلف من الآثار فى تعجيل الظهر والإبراد، والله الموفق. واختلف العلماء فى الوقت المختار من الظهر، ففى المدونة عن مالك أنه استحب أن يصلى الظهر والعصر، والعشاء بعد تمكن الوقت عنده، إذا فاء الفىء ذراعًا على ما كتب به عمر إلى عماله، وهذه خلاف رواية أبى الفرج عن مالك، واختلف أيضًا عن أبى حنيفة فى ذلك، فحكى ابن القصار عن الكرخى عنه أن وجوب صلاة الظهر معلق بآخر الوقت عنده، وأن الصلاة فى أوله نفل، فإن صلى إنسان عند الزوال، ثم بقى إلى آخر الوقت على حال سليمة يصح معها أن يكون مخاطبًا بها، ناب ذلك الفعل عن الواجب، وإن مات أو جُنَّ أو أُغْمِى عليه أو حاضت امرأة قبل بلوغ الوقت الآخر، كانت الصلاة التى صلى عند الزوال نفلاً لا أداء

(2/163)


عن فرض لزمه، وحكى عنه أنه فى أول الوقت نفل على كل حال، وحكى عنه أنه واجب موقوف، فإن بقى على حال تلزمه الصلاة آخر الوقت كان واجبًا، وإن كان على حال لا تلزمه الصلاة كان نفلاً. والفقهاء بأسرهم على خلاف قوله، واحتج له الكرخى، قال: لو وجبت الصلاة بزوال الشمس، فأخرها مُؤخر، كان عاصيًا، قال: وقد أجمعوا أنه يؤخرها إلى آخر الوقت، فلا يكون عاصيًا. قال ابن القصار: وهذا لا يلزم؛ لأنا نقول وجوب الصلاة وجوبًا موسعًا، حتى أنه مخير فى إيقاعها أى وقت شاء بعد الزوال كالكفارات، هو مخير فى أيها شاء. قال غيره: ومما يدل على فساد قول أبى حنيفة ما ثبت من صلاة الرسول للظهر فى أحاديث هذا الباب حين زاغت الشمس، وإذا زالت الشمس، وبالهاجرة، وبالظهائر، وإنما امتثل عليه السلام، فى ذلك ما وقت له جبريل حين صلى به، وقال له: بهذا أمرت، فمحال أن يتعلق فرض الظهر بآخر الوقت، ويخالف فى ذلك الرسول عليه السلام، ويصلى الظهر عند الزوال، ويوقع فرضه فى غير وقته، وهو المبين عن الله لعباده ما فرض عليهم، وهذا ما لا يجوز لأحد أن يظنه بالنبى، وهذا من قول أبى حنيفة تحديد لمخالفة السنة الثابتة، والحجة فى السنة لا فى ما خالفها. قال ابن القصار: والقول أنه واجب موقوف فاسد؛ لأن وجوب الفعل لا يقف على ما يحصل عنه حالة ثابتة، وإنما يتعلق بشروط تحصل قبل وجوبه أو معه، فأما أن يتعلق بما يتأخر عنه

(2/164)


فهو محال، فبطل أنه واجب موقوف، فلم يبق إلا أنه واجب مخير فيه؛ لأنه إن قيل: إنه مضيق خرج عن اتفاقهم على أنه لا يأثم من أخرهُ إلى ’ آخر الوقت. واختلفوا فى آخر وقت الظهر، فقال مالك فى رواية ابن عبد الحكم عنه: آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شىء مثله، بعد القدر الذى زالت عنه الشمس، وهو أول وقت العصر بلا فصل، وهو قول الثورى، وأبى يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى، وأبو ثور: بين آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فاصلة، لا تصلح للظهر ولا للعصر فى الاختيار، وهو أن يزيد الظل أدنى زيادة على المثل، واحتجا بحديث عبد الله بن عمرو أن الرسول قال: (وقت الظهر ما لم تحضر العصر) ، وهذا لا حجة فيه لما سنبينه، إن شاء الله. قال أبو حنيفة: آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شىء مثليه، فخالف الآثار والناس فى قوله فى المثلين فى آخر وقت الظهر، وخالفه أصحابه، وذكر الطحاوى عنه رواية موافقة لقول الجماعة أن آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شىء مثله، إلا أنه قال: ولا يدخل وقتل العصر، حتى يصير ظل كل شىء مثليه، فترك بين الظهر والعصر وقتًا مفردًا لا يصلح لأحدهما، وهذا لم يتابع عليه، كما لم يتابع الشافعى على قوله أن بين آخر القامة وأول القامتين وقت لا يصلح للظهر ولا للعصر فى الاختيار. وهذا كله لا يتحصل ولا يفهم؛ لأن ما بعد الحد فى جميع المحدودات إنما هو أول آخر الشىء الذى يليه، وليس هو من غيره، وهذا يلزم أصحاب الشافعى باحتجاجهم بقوله عليه السلام: (آخر وقت الظهر ما لم تحضر العصر) ، وأيضًا فإنه قد صح اشتراك وقت

(2/165)


الظهر والعصر بعرفة فى وقت واحد، فلولا أن الوقت مشترك بينهما لم يجز جمعه عليه السلام، بينهما، كما لم يجز الجمع بين الصبح وغيرها من الصلوات. قال المهلب: وإنما خطب الرسول فى حديث أنس بعد الصلاة، وذكر الساعة، وقال: (سلونى) ؛ لأنه بلغه أن قومًا من المنافقين ينالون منه، ويعجزونه عن بعض ما يسألونه عنه، فتغيظ عليهم، وقال: (لا تسألونى عن شىء إلا أخبرتكم به) ، وأما بكاء الناس، فإنهم خافوا نزول العذاب المعهود فى الأمم الخالية عند تكذيب الرسل؛ لأنهم كانوا إذا جاءتهم آية، فلم يؤمنوا لم يمطلهم العذاب، قال تعالى: (ولو أنزلنا ملكًا لقضى الأمر) [الأنعام: 8] ، و) لقضى إليهم أجلهم) [يونس: 11] ، فبكوا إشفاقًا من ذلك ألا ترى فهم عمر حين برك على ركبتيه، وقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، حين قال عليه السلام للسائل له عن أبيه: (أبوك حذافة) ، وكان هذا الرجل لا يعرف أبوه حتى أخبر به الرسول (صلى الله عليه وسلم) . وسأزيد فى الكلام فى معنى هذا الحديث فى كتاب الفتن، وفى كتاب الاعتصام فى باب (ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنى) ، إن شاء الله، وقال أنس: (كنا إذا صلينا خلف الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالظهائر، سجدنا على أثوابنا إتقاء الحر) ، فذلك، والله أعلم؛ لأن الحجاز كثير الحرِّ، وليس هذا فى حين شدة الحرِّ جدًا الذى أمر فيه الرسول بالإبراد؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان جُلُّ أمره المبادرة. قال غيره: ويجوز أن يبادر فى الحر بالظهر، وقد أمر بالإبراد وأخذ بالشدة على نفسه، ولئلا يظن أحد أن الصلاة لا تجوز فى

(2/166)


الوقت الذى أمر فيه بالإبراد، فأراد تعليم أمته، والتوسعة عليهم، والله أعلم. وفيه: جواز السجود على الثياب، وعُرض الشىء: جانبه، يقال: نظرت إليه عن عُرض، وعرض النهر والبحر: وسطهما، عن الخليل. والظهائر: جمع ظهيرة، والظهيرة: شدة الحر. وقوله فى حديث أبى برزة: (رجع والشمس حية) ، يريد ثم يرجع والشمس حية.
9 - باب تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ
/ 16 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ الرسول صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) ، قَالَ أَيُّوبُ: لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ؟ ، قَالَ: عَسَى. قوله: (سبعًا) يريد المغرب والعشاء، و (ثمانيًا) الظهر والعصر، وقد تأول مالك فى هذا الحديث أنه كان فى مطر، كما تأوله أيوب، وهو قول الشافعى، وهذا الحديث حجة فى اشتراك أوقات الصلوات وهو يرد قول الشافعى أن بين آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر فاصلة لا تصلح للظهر ولا للعصر، وعلى من قال: لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شىء مثليه، وهو أبو حنيفة؛ لأن النبى لم يفصل بين الظهر والعصر، ولو كان بينهما وقت لا يصلح لإحدى الصلاتين لبينه النبى، عليه السلام. واختلف العلماء فى جمع الصلاتين لعذر المطر، فقال مالك: يجوز أن يجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر، ولايجمع بين الظهر

(2/167)


والعصر فى المطر، وهو قول ابن عمر، وعروة، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن بن محمد، وأبى بكر بن عبد الرحمن، وأبى سلمة، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الشافعى: يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إذا كان المطر دائمًا ولا يجمع فى غير حال المطر، وبه قال أبو ثور، وقال مالك: يجمع بين المغرب والعشاء فى الطين والظلمة، وإن لم يكن مطر، وكان عمر بن عبد العزيز يرى الجمع فى الريح والظلمة. والجمع عند مالك أن يؤخر المغرب، ثم يؤذن لها ويقيم ويصلى، ثم يؤذن فى المسجد للعشاء ويقيمون ويصلون وينصرفون قبل مغيب الشفق، لينصرفوا وعليهم إسفار. وقال محمد بن عبد الحكم: الجمع فى ليلة المطر فى وقت المغرب، ولا يؤخر المغرب، وذكر أنه قول ابن وهب، وأنه اختلف فيه قول مالك. وروى البرقى عن أشهب مثل قول ابن وهب، قال محمد: لأنه إن أخر المغرب لم يصل واحدة منهما فى وقتها؛ ولأن يصلى فى وقت إحداهما أولى. وخالف أبو حنيفة وأصحابه هذا الحديث، وقالوا: لا يجمع أحد بين الصلاتين فى مطر ولا غيره، وقالوا فى حديث ابن عباس: هذا ليس فيه صفة الجمع، وممكن أن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها، وصلاها، ثم صلى العصر فى أول وقتها، وصنع بالمغرب والعشاء كذلك، قالوا: وهذا سمى جمعًا ولا يجوز أن تُحال أوقات الحضر إلا بيقين، وروى عن الليث مثله، وقد تأول عمرو بن دينار، وأبو الشعثاء فى هذا الحديث مثل تأويل أبى حنيفة.

(2/168)


وروى عمرو بن دينار، عن أبى الشعثاء جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: صلى الرسول بالمدينة ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا، قال عمرو: قلت لجابر: أظنه أخرَّ الظهر وعجَّل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه، وهذا تأويل من لم ير الجمع، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى ترجمته. وقد ذكر ابن المواز، عن ابن الماجشون مثله قال: لا بأس بتأخير الظهر إلى آخر وقتها، وتقديم العصر فى أول وقتها، والجمع بينهما، وهذا التأويل ليس بشىء؛ لأنه عليه السلام، لمَّا لم يجمع بين العصر والمغرب، ولا بين العشاء والصبح، علمنا أنه جمع بين صلاتين فى وقت إحداهما وهو وقت الأخرى، فصح أن الظهر يشترك مع العصر، والمغرب مع العشاء فى باب الإجزاء لا فى باب الاختيار على رواية ابن وهب، وعلى قول أشهب، وهو قول ربيعة، وابن سيرين. ولو كان هذا الجمع كما زعم أبو حنيفة، وأبو الشعثاء فى آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية، لجاز الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والصبح، ولمَّا أجمعوا أن السنة إنما وردت فى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، عُلم أن ذلك لاشتراك وقتيهما، وأن ما تأولوه ليس بجمع؛ إذ لو كان جمعًا لجاز مثله فى العصر والمغرب، والعشاء، والفجر، فسقط قولهم. وقدر روى حديث ابن عباس هذا على خلاف ما تأوله أيوب ومالك، روى أبو داود عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: (جمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء فى المدينة فى غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن

(2/169)


لا يحرج أمته) ، هكذا يقول حبيب بن أبى ثابت: من غير خوف ولا مطر بالمدينة، وإذا كان بالمدينة فلا معنى لذكر السفر فيه. وقد روى صالح مولى التوأمة عن ابن عباس مثله: (من غير خوف ولا مطر) ، وليست رواية من روى فى هذا الحديث: (من غير خوف ولا سفر) معارضة لرواية من روى (من غير خوف ولا مطر) ؛ لأنه قد صح عن الرسول أن هذا الجمع كان بالمدينة فى حضر، فمن نفى المطر روى أنه كان بالمدينة، وزاد على من نفى السفر؛ لأنه وافقه أنه لم يكن فى سفر، فهى زيادة يجب قبولها. ففيه من الفقه: جواز الجمع بين الصلاتين فى الحضر، وإن لم يكن مطر، وقد أجاز ذلك طائفة من العلماء إذا كان ذلك لعذر يحرج به صاحبه ويشق عليه، على ما روى حبيب بن أبى ثابت، قال ابن سيرين: لا بأس بالجمع بين الصلاتين فى الحضر إذا كانت حاجة أو شىء ما لم يتخذه عادة، وأجاز ذلك ربيعة بن عبد الرحمن، وقال أشهب فى المجموعة: لا بأس بالجمع بين الصلاتين فى الحضر بغير مطر ولا مرض، وإن كانت الصلاة أول الوقت أفضل، وروى ابن وهب، عن مالك: من صلى العصر أول وقت الظهر، أنه يعيد ما دام فى الوقت استحبابًا، قال بعض أصحابه: ومعنى ذلك أنه صلى بعد الزوال بقدر أربع ركعات للظهر. وذكر ابن المواز، عن ابن الماجشون أنه لا بأس بتأخير الظهر إلى آخر وقتها، وتقديم العصر إلى أول وقتها، والجمع بينهما، وقد سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: أليس قد قال ابن عباس: (لئلا يحرج أمته؟) وهذا الحديث رخصة للمريض للجمع بين الصلاتين. وقال مالك: إذا خاف المريض أن يغلب على عقله جمع بين الظهر

(2/170)


والعصر عند الزوال، وجمع بين المغرب والعشاء عند الغروب، فأما إن كان الجمع أرفق به، ولم يخش أن يغلب على عقله، فليجمع بينهما فى وسط وقت الظهر، وعند غيبوبة الشفق، قال مالك: والمريض أولى بالجمع من المسافر وغيره لشدة ذلك عليه، وقال الليث: يجمع المريض، وقال أبو حنيفة: يجمع المريض كجمع المسافر عنده فى آخر وقت الأولى، وأول وقت الثانية، فأما فى المطر فلا يجمع عنده بحال، وقال الشافعى: لا يجمع المريض بين الصلاتين.
- باب وَقْتُ الْعَصْرِ
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ: (أَنَ الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا) . / 18 - وقال مرة: (لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا) . / 19 - وفيه: أبو هريرة: (أنَ النَّبِيُّ كان يُصَلِّي صَلاةَ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَرْفِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ مرتفعة حَيَّةٌ) . / 20 - وفيه: أَنَسِ: (كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ الإنْسَانُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ) . / 21 - وفيه: أبو أمامة قال: (صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ الظُّهْرَ، ثُمَّ خَرَجْنَا، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَا هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ: الْعَصْرُ، وَهَذِهِ صَلاةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ) . / 22 - وفيه: أنس قال: (كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، فيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى قُبَاءٍ،

(2/171)


فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) . / 23 - وقال مرة:: (كَنا نُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي، فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ نَحْوِهِ) . هذا الباب كله يدل على تعجيل العصر وأنه السنة، واختلفوا فى أول وقت العصر، فقال مالك، والثورى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: أول وقت العصر إذا صار ظل كل شىء مثله، وقال الشافعى: أوله إذا جاوز ظل كل شىء مثله بشىء ما، حتى ينفصل من آخر وقت الظهر على ما تقدم فى الباب قبل هذا. وقال أبو حنيفة: أول وقت العصر أن يصير ظل قامتين بعد الزوال، ومن صلى العصر قبل ذلك لم يجز، فخالف الآثار، وخالفه أصحابه، ووقت القامتين آخر وقت العصر المختار عند مالك فى رواية ابن عبد الحكم عنه، وفى المدونة: لم يكن مالك يذكر القامتين فى وقت العصر ولكنه كان يقول: والشمس بيضاء نقية. واختلفوا فى التعجيل بصلاة العصر وتأخيرها، فذهب أهل العراق إلى أن تأخيرها أفضل، واحتجوا بما روى عن ابن مسعود، وأبى هريرة أنهم كانوا يؤخرونها حتى تصفر الشمس، وكان على يؤخرها حتى ترتفع الشمس على الحيطان، وقال أبو قلابة، وابن شبرمة: إنما سميت العصر لتعتصر، وهو قول النخعى، وممن كان يعجل العصر عمر بن الخطاب، وكتب إلى عماله: أن صلوا العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة، وكان ابنه عبد الله يصليها والشمس بيضاء نقية ويعجلها مرة، ويؤخرها أخرى.

(2/172)


وروى هشام بن عروة قال: قدم رجل على المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، فرآه يؤخر العصر، فقال: لم تؤخر العصر، وقد كنت أصليها مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم أرجع إلى أهلى إلى بنى عمرو بن عوف والشمس مرتفعة حيّة؟ وأحاديث هذا الباب تدل على تعجيل صلاة العصر، ألا ترى قول عائشة أن النبى كان يصلى العصر والشمس لم تخرج من حجرتها، ولا تكون الشمس فى قصر الحجرة على قصر حيطانها، إلا فى أول وقت العصر، وقول أنس، وأبى برزة: كنا نصلى العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله والشمس مرتفعة حيّة، يدل على تعجيلها أيضًا؛ لأن حياة الشمس أن تجد حرها، وقول أنس: فيذهب الذاهب إلى العوالى والشمس مرتفعة، ولا يكون ذلك إلا فى أول وقتها. قال أبو سليمان الخطابى: حياتها: صفاء لونها قبل أن تصفر أو تتغير. وقول أنس: (كنا نصلى العصر فيذهب الذاهب إلى قباء، فيأتيهم والشمس مرتفعة) ، فالصحيح فيه: العوالى، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب كلهم غير مالك فى الموطأ، فإنه تفرد بذكر قباء، قال البزار: والصواب ما اجتمعت عليه الجماعة، وهو ممَّا يعد على مالك أنه وهم فيه. قال المؤلف: وقد روى خالد بن مخلد، عن مالك: (إلى

(2/173)


العوالى) كما رواه أصحاب ابن شهاب، ذكره الدارقطنى، فلم يهم فيه مالك. والعوالى من المدينة على أربعة أميال، ولا يأتونها بعد صلاتهم العصر مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ويجدون الشمس مرتفعة حية، إلا وقد صلاها الرسول بهم فى أول الوقت، وهذا لا يكون إلا فى الصيف فى طول النهار، وهذا مستغنى عن الاحتجاج لوضوحه. وقول أبى أمامة: (صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلى العصر) ، قال: هذا يدل على أن تأخير عمر الظهر عن وقتها المستحب، كما أخر صلاة العصر حين أنكر ذلك عليه عروة بن الزبير، وروى أن بنى أمية كانوا يؤخرون الصلاة عن أوائل الوقت وكان ذلك عادتهم. وقول أنس: (هذه صلاة رسول الله التى كنا نصليها معه) ، يدل على أن سنته تعجيل العصر فى أول وقتها كما ثبت فى سائر أحاديث هذا الباب. وقوله: (حين تدحض الشمس) ، يعنى حين تزول الشمس، وأصل الدحض: الزلق، يقال: دحض يدحض دحضًا: إذا زلق، والدحض: ما يكون عند الزلق، من كتاب العين، والتهجير، والهاجرة: وقت شدة الحر. قال أبو حنيفة: سميت الهاجرة هاجرة، لهرب كل شىء منها.

(2/174)


- باب إِثْمُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلاة الْعَصْرُ
/ 24 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ: (الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاةُ الْعَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: إنما وجب التعظيم لصلاة العصر وقصدها بالخطاب دون غيرها، وإن كانت داخلة فى قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات) [البقرة: 238] ، لاجتماع المتعاقبين من الملائكة فيها، وإنما أراد عليه السلام فواتها فى الجماعة، لا فواتها باصفرار الشمس أو مغيبها؛ لما يفوته من صلاتها فى الجماعة من حضور الملائكة فيها، فصار ما يفوته من هذا المشهد العظيم الذى يجتمع فيه ملائكة الليل، وملائكة النهار أعظم من ذهاب أهله وماله، فكأنه قال: الذى يفوته هذا المشهد الذى أوجب البركة للعصر كأنما وتر أهله وماله، ولو كان فوات وقتها كله باصفرار أو غيبوبة لبطل الاختصاص؛ لأن ذهاب الوقت كله موجود فى كل صلاة بهذا المعنى، فسره ابن وهب، وابن نافع، وذكره ابن حبيب عن مالك، وابن سحنون عن أبيه، قال ابن حبيب: وهو مثل حديث يحيى بن سعيد: (إن الرجل ليصلى الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها أكثر من أهله وماله) ، يريد أن الرجل ليصلى الصلاة فى الوقت المفضول ولما فاته من وقتها الفاضل، الذى مضى عليه اختيار النبى، وأبى بكر وكتب به عمر إلى عماله، أفضل من أهله وماله، وليس فى الإسلام حديث يقوم مقام هذا الحديث؛ لأن الله تعالى، قال: (حافظوا على الصلوات) [البقرة: 238] ، ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غيره.

(2/175)


وقوله: (وتر أهله وماله) أى سلب ذلك، قال صاحب (العين) : الوتر والترة: الظلم فى الدم، يقال منه: وُتِرَ الرجلُ وترًا وترة. فمعنى وتر أهله وماله: أى سُلب ذلك وحُرِمَهُ، فهو أشد لغمه وحُزنه؛ لأنه لو مات أهله وذهب مالُه بغير سلبٍ لم تكن مصيبةُ ذلك عنده بمنزلة السَّلب؛ لأنه يجتمع عليه فى ذلك غَمَّان: غم ذهابهم، وغم الطلب بوترهم. وإنما مثله عليه السلام فى ما يفوته من عظيم الثواب بالذى حرم أهله وماله، فبقى لا أهل له ولا مال، وأصله من الوتر وهو الذَّحْل، يقال منه: وَتَرَهُ يَتِرُهُ وَتْرًا وتِرَةً، و (الوِتْر) بكسر الواو اسم لا مصدر، وقد يحتمل أن يكون عنى بقوله: (فكأنما وتر أهله وماله) ، أى نقص ذلك وأفرد منه، من قوله تعالى: (ولن يتركم أعمالكم) [محمد: 35] ، أى لن ينقصكم، والقول الأول أشبه بمعنى الحديث، والله أعلم.
- باب مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ
(1) / 25 - فيه: بُرَيْدَةَ: أنه قَالَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ: (بَكِّرُوا بِصَلاةِ الْعَصْرِ، فَإِنَّ نَّبِيَّ الله قَالَ: مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) . قال المهلب ': معناه من تركها مضيعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها، فحبط عمله فى الصلاة خاصة، أى لا يحصل على أجر المصلى فى وقتها ولا يكون له عمل ترفعه الملائكة.

(2/176)


قال الطبرى: فإن قيل: ما معنى قوله: (بكروا بصلاة العصر) فى يوم الغيم، ولا سبيل إلى كعرفة أوقات النهار لارتفاع الأدلة على ذلك بالغيم الساتر عين الشمس؟ قال: ذلك أمر منه عليه السلام بالبكور بها على التحرى والأغلب عند المتحرى لا على إحاطة نفس العلم بإصابة أول وقتها؛ لأن أوقات الصلوات لا تدرك فى يوم الغيم إلا بالتحرى والعلم الظاهر.
- باب فَضْلُ صَلاةِ الْعَصْرِ
/ 26 - فيه: جَرِيرِ: (كُنَّا عِنْدَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً الْبَدْرَ فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا) ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) [طه: 130] ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: افْعَلُوا لا تَفُوتَنَّكُمْ) . / 27 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) . قال المؤلف: ذكر ابن أبى خيثمة قال: حدثنا الهيثم بن

(2/177)


خارجة، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت الأوزاعى، ومالك، وسفيان الثورى، والليث بن سعد عن الأحاديث التى فيها ذكر الرؤية فقالوا: أمرها كيف جاءت بلا كيفية. قال المهلب: وقوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة) ، يعنى: على شهودها فى الجماعة، فخص هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ولرفعهم أعمالهم فيها، لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم، قال أبو عبد الله: وقد قال عليه السلام يوم الخندق: (شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا) ، فسمى العصر وسطى. وممن ذهب إلى أن العصر هى الصلاة الوسطى على بن أبى طالب، وعائشة، وأبو هريرة، وابن عمر، وأبو أيوب الأنصارى، والحسن، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأكثر أهل الحديث، واحتجوا بقوله يوم الخندق. وقيل: إنها الصبح رُوى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وأبى موسى، وأبى أمامة، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: عطاء، وعكرمة، وطاوس، ومجاهد، وهو قول مالك، وحكى مالك أنه بلغه عن على بن أبى طالب مثله. وقيل: إنها الظهر رُوى ذلك عن: زيد بن ثابت، وابن عمر، وأبى سعيد الخدرى، وعائشة، وعروة بن الزبير، وقال قبيصة بن ذؤيب: هى المغرب، واحتج الذين قالوا: إنها الظهر بما روى

(2/178)


الزهرى، عن سعيد بن المسيب، قال: كنت فى قوم فاختلفوا فى الصلاة الوسطى، وأنا أصغر القوم، فبعثونى إلى زيد بن ثابت لأسأله عن ذلك، فسألته قال: كان رسول الله يصلى بالهاجرة والناس فى قائلتهم وأسواقهم ولم يكن يصلى وراء رسول الله إلا الصف والصفان، فنزلت: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) [البقرة: 238] ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لينتهين قوم أو لأحرقن بيوتهم) . وأما الذين قالوا: إنها المغرب فقالوا: ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر فى السفر، وأن رسول الله لم يؤخرها عن وقتها ولا تعجلها. وأما حجة الذين قالوا: إنها الصبح، فإن ابن عباس قد استدل على ذلك بأنها تصلى فى سواد من الليل وبياض من النهار، وقالوا: وهى أكثر الصلوات تفوت الناس. قال إسماعيل بن إسحاق: ومن الحجة على ذلك قوله: (وقرآن الفجر) [الإسراء: 78] الآية، فخصت بهذا النص وأنها مفردة لا يشاركها فيه غيرها. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وإنما سمى الرسول العصر وسطى، والله أعلم، شبهها بالصبح لفضلها واجتماع الملائكة فيها فى قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة الصبح وصلاة العصر) .) وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا) [الإسراء: 78] ، فالصبح وسطى

(2/179)


بالكتاب والعصر وسطى بالسنة؛ لأن الصبح مذكورة بالكتاب بشهود الملائكة لها، والعصر مذكورة بذلك فى السنة، ألا ترى أن عائشة وحفصة أمرتا أن يكتب لهما فى المصحف: (حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى وصلاة العصر) ، فخصتا العصر بالمحافظة مع الوسطى لاشتراكهما فى تعاقب الملائكة، ولاشتباههما فى أن الصبح يغلب الناس النومُ عليها، وأن العصر يُغلبون عليها بالكسل والسآمة لما كانوا عليه من اشتغالهم ونظرهم فى معاشهم، فتزاحم الشغل والكسل فى وقتها، والله أعلم. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة أن أهم ما يسأل عنه العبد عند ملاقاة ربه: الصلاة، وأن أهم الصلوات صلاة الصبح وصلاة العصر؛ لاجتماع الملائكة فيهما، وأن الله تعالى، يسأل عما أكد المحافظة عليه منهما، فلذلك عرفهم أنهم ملاقوه وأنهم يرونه، ويسألهم عن ذلك. وقوله: (لا تضامون) كأنه من الضيم، من رواه مخفف الميم معناه: لا يضيم بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه أو يستأثر به دونه. وقال بعض أهل اللغة: إنما هو تضامون، بإدغام الميم، على تقدير تفاعلون، وهو من الانضمام يريد أنكم لا تختلفون فيه حتى تجتمعوا للنظر وينضم بعضكم إلى بعض، فيقول واحد: هو ذاك، ويقول آخر: ليس، كذلك فِعلُ الناس عند النظر إلى الهلال أول ليلة من الشهر، قاله ابن قتيبة. قال: وكذلك فى رواية من روى: (تضارون) ، وهو من الضير

(2/180)


أى لا يضير بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه ويستأثر به دونه، وقال بعض أهل اللغة: إنما هو تضارون من الضرار وهو أن يتضارر الرجلان عند الاختلاف، يقال: ضار الرجلُ الرجلَ مضارة وضرارًا، وقد وقع الضرار بينهما والاختلاف.
- باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ
/ 28 - فيه: أَبِو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ) . / 29 - وفيه: ابن عمر قال: قال النبى: (إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإنْجِيلِ الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ، فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبَّ، أَعْطَيْتَ هَؤُلاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلا، قَالَ: قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لا، قَال: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . / 30 - وفيه: أَبو مُوسَى قَالَ الرَّسُول (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا، يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلا إِلَى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ

(2/181)


النَّهَارِ، فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، وَلَكُمِ الَّذِي شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ وقت الْعَصْرِ، قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من أدرك سجدة) يريد ركعة، فكنى بذكر السجدة عنها؛ إذ لا يكون مدركًا سجدة إلا بعد إدراك ركعة، وقد جاء حديث أبى هريرة هذا بلفظ آخر عنه أنه قال: (من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر) . ومعلوم أن الرسول لم يرد الركوع خاصة حتى يكون معه سجود، فمرة عبر بالسجود عن الركوع، ومرة اقتصر على ذكر الركوع. وأئمة الفتوى متفقون على أن من لم يدرك الركعة لم يدرك السجدة، وهذا الحديث عند الفقهاء خرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص؛ لنهيه عليه السلام، أن يتحرى بالصلاة طلوع الشمس وغروبها، فالمراد به أصحاب الضرورات؛ لأنهم لا يلزمهم صلاة إلا أن يدركوا منها ركعة، أو يدركوا من الصلاتين المشتركتين الأولى منهما، وركعة من الثانية، وهم: المغمى عليه والمجنون يفيقان، والحائض تطهر، والكافر يسلم، والصبى يبلغ، كل هؤلاء عند مالك يصلون الصلاة التى يدركون منها ركعة بسجدتيها فى آخر وقتها، فإن لم يدركوا منها ركعة بسجدتيها بعد الفراغ مما يلزمهم من الطهارة لم يجب عليهم أن يصلوا، وقال الشافعى مثله فى أحد قوليه، واختلف قوله فيهم إذا أدركوا ركعة من العصر، فقال: يعيدون الظهر والعصر، وكذلك لو

(2/182)


أدركوا مقدار تكبيرة الإحرام من العصر، فوافقه أبو حنيفة فى أنهم إن أدركوا من وقت صلاة مقدار تكبيرة الإحرام فقد أدركوها. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: إنما أراد الرسول بذكر الركعة البعض من الصلاة، فكأنه قال: من أدرك عمل بعض الصلاة فى الوقت، والدليل على ذلك قوله: من أدرك ركعة، وقال مرة أخرى: من أدرك سجدة، فدل أنه أراد البعض، والتكبير بعض الصلاة. وقال ابن القصار: فالجواب أن هذا ينقض عليه أصله فى الجمعة؛ لأنه يقول: من لم يدرك ركعة بسجدتيها من الجمعة؛ فلم يدركها. والحجة لقول مالك قوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) ، فدل هذا الكلام أنه لا يكون مدركًا بإدراك أقل من ركعة؛ إذ لو كان أقل من ركعة بمنزلتها لم يكن لتخصيصها بركعة معنى، وتكبيرة الإحرام لا تسمى ركعة، ويُبين صحة هذا قوله: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) ، وهذا يلزم من قال: إنه إن أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس وجب عليه أن يصلى الظهر والعصر؛ لأنه عليه السلام إنما جعل من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس مدركًا لصلاة واحدة وهى العصر، فلا يجوز أن يكون مدركًا لغيرها، ولا يجوز أن يجب عليه غير ما أوجبه الرسول، وقد اتفقنا أنه لو بلغ الصبى وأسلم الكافر، وطهرت الحائض فى وقت المغرب لم تلزمهم صلاة الصبح، فكذلك صلاة الظهر؛ لأنه لم يدرك من وقتها شيئًا، وأيضًا فإن الشافعى يقول: إن صلاة الظهر تفوت قبل دخول وقت العصر، فإن فاتت فلا قضاء لما فات وقته.

(2/183)


ويقول أبو حنيفة، فيمن عدا المغمى عليه، أنهم إن أدركوا العصر فى وقتها لم يقضوا صلاة الظهر؛ لأن بينها وبين العصر وقتًا تفوت فيه. وفى حديث أبى هريرة من الفقه حجة لما ذهب إليه عامة الفقهاء أنه من نام عن صلاة الصبح أو نسيها، فأدرك منها ركعة قبل طلوع الشمس وركعة بعدها أنه يتمها، وكذلك العصر، هذا قول مالك، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وعامة العلماء. وخالف بعض هذا الحديث أبو حنيفة فقال: إن أدرك ركعة من العصر قبل مغيب الشمس أنه يتمها بعد مغيب الشمس، ولا يصلى غير عصر يومه فى ذلك الوقت، ولا يجوز أن يقضى فيه صلاة فائتة غيرها، وإذا أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس بطلت صلاته، واسقبلها بعد ارتفاع الشمس. وأصحاب الضرورات عنده إذا لم يدركوا إلا ذلك الوقت لم يلزمهم شىء، واحتج بأن العصر يقع آخرها فى وقت يصلح للإنسان أن يبتدئ الصلاة فيه، وليس هكذا طلوع الشمس؛ لأنه ليس وقتًا للصلاة، وقالوا: ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أخر الصلاة حين نومه عن الصبح من أجل انتباهه عند طلوع الشمس، ولم يصلها حتى ارتفعت، وهذا رد لحديث أبى هريرة؛ لأنه عليه السلام قال: (من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس فليتم صلاته، ومن أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته) ، فسوى بين العصر والصبح فى أن حكمهما واحد فى الإتمام بعد غروب الشمس وبعد طلوعها، وقد يجوز أن يبتدئ قضاء الفرض فى وقت

(2/184)


لا يجوز أن تؤخر الصلاة إليه، فكذلك يجوز أن يقع آخر صلاته فى وقت لا يجوز أن يبتدئ الصلاة فيه، وعلتهم تقلب عليهم؛ فيقال: إن العصر قد ابتدأها فى وقت لا يجوز أن يفعلها فيه، وصلاة الصبح ابتدأها فى وقتها، فإذا جاز ذلك فى العصر فالصبح أولى. قال المهلب: وإنما أدخل حديث ابن عمر وأبى موسى فى هذا الباب بقوله: (ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين) ، ليدل على أنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل، مثل الذى أعطى من العصر إلى الليل أجر النهار كله لمستأجريه أولى، فمثل هذا الذى أعطى على كل ركعة أدرك وقتها أجر الصلاة كلها فى آخر الوقت. وأما احتجاجهم بأن الرسول أخر الصلاة فى الوادى حين انتبه حتى ارتفعت الشمس، فلا حجة لهم فيه؛ لأنه قد ثبت أنهم لم يستيقظوا يومئذ حتى أيقظهم حر الشمس، ولا يكون لها حرارة إلا والصلاة جائزة ذلك الوقت.
- باب وَقْتُ الْمَغْرِبِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. / 31 - فيه: رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ) .

(2/185)


/ 32 - وفيه: جَابِرَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بيضاء نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا إِذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئوْا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ كَانُوا أَوْ كَانَ الرسول يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ) . / 33 - وفيه: سَلَمَةَ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَغْرِبَ إِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) . / 34 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (صَلَّى النَّبِيُّ سَبْعًا جَمِيعًا، وَثَمَانِيًا جَمِيعًا) . أجمع العلماء على أن وقت المغرب غروب الشمس، وذهب مالك والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى أن وقت المغرب غروب الشمس، لا يؤخر عنه فى الاختيار، وذهب أبو حنيفة، والثورى، وأحمد، وإسحاق إلى أن لها وقتين. وقد قال مالك فى الموطأ ما يدل على هذا، قال: إذا غاب الشفق خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، وقال محمد بن مسلمة، من أصحاب مالك: أول وقت المغرب غروب الشمس، ولمن شاء تأخيرها إلى مغيب الشفق فذلك له، وهو منها فى وقت غيرُهُ أحسنُ منه، واحتج الذين قالوا: إن لها وقتين بقوله عليه السلام: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدوا بالعشاء) ، وكل ذلك يدل على سعة الوقتية قالوا: وقد قرأ فيها الرسول بالطور، والصافات، والأعراف، والحجة لمالك ومن وافقه أن الروايات لم تختلف فى

(2/186)


صلاة جبريل بالنبى؛ فإنه صلى به العشاء فى وقت واحد، وكذلك أحاديث هذا الباب كلها تدل على ذلك، ألا ترى أن قول رافع بن خديج: (كنا ننصرف من المغرب مع رسول الله، وأحدنا يبصر مواقع نبله) ، وقال جابر: (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصلى المغرب إذا وجبت الشمس) ، وقال سلمة: (إذا توارت بالحجاب) ، وهذا كله يدل على المبادرة بها عند غروب الشمس. وقال ابن خواز بنداذ: إن الأمصار كلها بأسرها لم يزل المسلمون على تعجيل المغرب فيها، ولا نعلم أحدًا أَخَّرَ إقامتها فى مسجد جماعة عن غروب الشمس، وفى هذا ما يكفى مع العمل بالمدينة على تعجيلها، ولو كان وقتها واسعًا لعمل المسلمون فيها كسائر الصلوات، من أذان المؤذنين واحدًا بعد واحد، والركوع بين الأذان والإقامة لها، فتركهم ذلك دليل على المبادرة بها، وكان عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله: ولا تنتظروا بصلاتكم اشتباك النجوم، وصلوها والفجاج مسفرة. وصلاها ابن مسعود حين غربت الشمس، وقال: هذا والذى لا إله إلا هو وقت هذه الصلاة، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أخر عن هذا الوقت. وقوله: (والصبح كانوا، أو كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصليها بغلس) ، فالمعنى كانوا مع النبى مجتمعين أو لم يكونوا مجتمعين، فإنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصليها بغلسٍ، ولا يصنع فيها كما كان يصنع فى العشاء من تعجيلها إذا اجتمعوا أو تأخيرها إذا أبطئوا، وإنما كان شأنه التعجيل بها أبدًا، وهذا من أفصح الكلام. وفيه حذفان: حذف الخبر (كانوا) وهو جائز كحذف خبر المبتدأ

(2/187)


كقوله تعالى: (واللائى لم يحضن) [الطلاق: 4] ، فالمعنى: واللائى لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، فحذف الجملة التى هى الخبر لدلالة ما تقدم عليه، ويحذف خبر (لكن) أيضًا كقول الشاعر: فلو كنت ضبيًا عرفت قرابتى ولكن زنجيًا عظيم المشافر المعنى: ولكن زنجيًا عظيم المشافر لا يعرف قرابتى. وقوله: (أو) يعنى: لم يكونوا مجتمعين، حذف الجملة التى بعد (أو) مع كونها مقتضية لها كقول ذى الرمة: فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خدى آذانها وهو جانح أراد: أو حين أقبل الليل فحذف (أقبل) مع كون (حين) مقتضية له من حيث هى مضافة إليه، فإذا جاز حذف المضاف إليه مع كونه كالجزء من المضاف، كان حذف ما بعد (أو) أقرب؛ لأنه ليس كالجزء منها.
- باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ
/ 35 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمُ الْمَغْرِبِ، قَالَ: وَتَقُولُ الأعْرَابُ: هِيَ الْعِشَاءُ) . قال المهلب: إنما كره أن يقال للمغرب العشاء، والله أعلم؛ لأن التسمية من الله ورسوله لا تترك لرأى أحد لقوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم) [البقرة: 31] . قال غيره: وهذا يدل أنه لا يجب أن يقال: للمغرب العشاء الأولى كما تقول العامة، وينبغى أن تفرد كل صلاة باسمها، ليكون

(2/188)


أبعد لها من الإشكال إلا العتمة؛ فإنها قد صحت فى الآثار الثابتة لها اسمان: العتمة والعشاء.
- باب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا
فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ، وَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَالاخْتِيَارُ أَنْ يُقَالَ الْعِشَاءُ، لِقَوْلِهِ: (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ) [النور 58] . وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ الرَّسُولَّ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَ صَلاةِ الْعِشَاءِ، فَأَعْتَمَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعِشَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعَتَمَةِ. وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الْعِشَاءَ، وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ، كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَخَّرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو أَيُّوبَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. / 36 - فيه: ابن عمر قَالَ: (صَلَّى لَنَا النبى (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً صَلاةَ الْعِشَاءِ، وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ: الْعَتَمَةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَرَأَيْتُكمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَحَدٌ) . هذا يدل على أن العشاء لها اسمان فى القرآن والسنة، فأما

(2/189)


القرآن، فقوله تعالى: (ومن بعد صلاة العشاء) [النور: 58] ، وأما السنة، فقوله عليه السلام: (لو تعلمون ما فى العتمة والفجر) ، وإن كان السلف قد اختلفوا فى ذلك، فروى عن ابن عمر أنه كره أن يقال لها: (العتمة) ، وعن سالم، وابن سيرين مثله، وأجازه أبو بكر الصديق، وابن عباس، وذكر ذلك ابن أبى شيبة. قال الطبرى: وأصل ذلك من استعتام النَّعَم، يقال: حلبها عتمة، والعتمة بقية اللبن تُغْبقُ بها الناقة بعد هوى من الليل، فقيل لها: العتمة؛ لأنها كانت تُصلى حين تُغْبَقُ النعم، وقيل لكل مبطئ بأمر: عتم بكذا: إذا أبطأ به، وقد عتم هذا الأمر وعتم فهو عاتم ومعتم: إذا أبطأ. قال المهلب: وقد احتج بهذا الحديث من زعم أن الخضر ليس بحى، ولو كان حيا حين قال الرسول هذا القول، لم يجاوز المائة السنة، وقال تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) [الأنبياء: 34] .
- باب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَوْ تَأَخَّرُوا
/ 37 - فيه: جَابِرَ قال: (كان النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ بِغَلَسٍ) . وأما قوله: (والعشاء إذا كثر الناس عجل) ، فتعجله بها كان بعد مغيب الشفق، وقد أجمع العلماء أن وقت العشاء الآخرة مغيب الشفق.

(2/190)


واختلفوا فى مغيب الشفق، فروى عن ابن عباس، وابن عمر، وعبادة بن الصامت، أنها الحمرة التى تكون فى المغرب بعد غروب الشمس، وهو قول مكحول، وابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وقال أبو حنيفة، والمزنى: الشفق: البياض الذى بعد الحمرة، فإذا غاب ذلك البياض وجبت العشاء الآخرة، وقد روى عن ابن عباس أيضًا أنه البياض، وعن أبى هريرة، وأنس مثله، وهو قول عمر بن عبد العزيز. وذكر ابن شعبان، عن مالك، قال: إذا ذهبت الحمرة وبقى البياض، فأرجو أن تجزئ المصلى صلاته، وما ذلك عنده باليقين، وذهاب البياض هو الذى لا شك فيه، وفيه قول ثالث: أن الشفق اسم لمعنيين عند العرب، وهما الحمرة والبياض، وكان على يصليها إذا غاب الشفق، وقال عمر: عجلوا العشاء قبل أن يكسل العامل وينام المريض. وأما تأخيرها فسيأتى فى بابه ذكر الاختلاف فيه، إن شاء الله، وكان رسول الله يستحب تأخير العشاء، ويكره ما يشق على أمته من طول انتظارها؛ لأنه كان رءوفًا بالمؤمنين، فلذلك كان يعجلها إذا اجتمعوا. ومن هذا الحديث استدل مالك، والله أعلم، على أن صلاة الجماعة فى وسط الوقت أفضل من الصلاة فى أوله فرادى، واستحب مالك لمساجد الجماعات أن يؤخروا الصلاة حتى يجتمع الناس طلبًا للفضل؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة.

(2/191)


- باب فَضْلِ الْعِشَاءِ
/ 38 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الإسْلامُ، فَلَمْ يجىء حَتَّى قَالَ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ لأهْلِ الْمَسْجِدِ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ غَيْرَكُمْ) . / 39 - وفيه: أَبِي مُوسَى قَالَ: اشُّتغْلِ الرسول فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، فَأَعْتَمَ بِالصَّلاةِ، حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: (عَلَى رِسْلِكُمْ أَبْشِرُوا إِنَّه مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ) . فيه: إباحة العشاء إذا علم أن بالقوم قوة على انتظارها؛ ليحصلوا على فضل الانتظار ثم الصلاة؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة، وهذا لا يصلح اليوم لأئمتنا؛ لأن الرسول لما أمر الأئمة بتخفيف الصلاة، وقال: (إن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة) ، كان ترك التطويل عليهم فى انتظارها أولى. وقد روى مجالد، عن عامر، عن جابر، قال: (أبطأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة عن صلاة العشاء حتى ذهب هوى من الليل، حتى نام بعض من كان فى المسجد، ثم خرج فقال: (لولا ضعف الضعيف، وبكاء الصغير، لأخرت العشاء إلى عتمة من الليل) ، ذكره الطبرى. وتأخيره عليه السلام، الصلاة إلى هذا الوقت من الليل، إنما كان من أجل الشغل الذى منعه منها، ولم يكن ذلك من فعله عادة، وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث معنى شغله: ما كان روى الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر قال: (جهز رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة جيشًا حتى قرب نصف الليل، أو ثلثه، خرج إلينا رسول الله فقال:

(2/192)


(قد صلى الناس ورقدوا، وأنتم تنتظرون الصلاة، أما إنكم لم تزالوا فى صلاة ما انتظرتموها) . وروى زر بن حبيش، عن ابن مسعود، قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونحن ننتظر العشاء، فقال لنا: (ما على الأرض أحد من أهل الأديان ينتظر هذه الصلاة فى هذا الوقت غيركم) ، فنزلت: (ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون) [آل عمران: 113] ، وليسوا كالمشركين الذين يجحدون ذلك كله، ذكره الطبرى. وقوله: (ابهارّ الليل) : انتصف، عن ابن السكيت، والبهرة: الوسط من الإنسان والدابة وغيرهما، يقال: ابهارّ النهار حين ترتفع الشمس، ويقال: ابهارّ الليل: ذهب عامته، وبقى نحو من ثلثه، وقد ابهار عليه الليل: أى طال. وقال سيبويه: لا نتكلم بابهار إلا مزيدًا وهو فى القمر. وقال أبو سعيد الضرير: قد يبهار الليل قبل أن ينتصف، وابهراره طلوع نجومه إذا تتامت؛ لأن الليل إذا أقبل أقبلت فحمته، فإذا تطالعت نجومه واشتبكت، ذهبت تلك الفحمة، والباهر الممتلئ نورًا، قال الأعشى: حكمتموه فقضى بينكم أبلج مثل القمر الباهر وقال صاحب (العين) : أعتم القوم وعتموا: إذا صاروا فى العتمة أو وردوا.

(2/193)


- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ
/ 40 - فيه: أَبو بَرْزَةَ (أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) . قال المهلب: إنما كره النوم قبل العشاء لئلا يستغرق فى النوم، فيفوته وقتها المستحب، وربما فاته وقتها كله، فمنع من ذلك قطعًا للذريعة. واختلف السلف فى النوم قبلها، فكان ابن عمر يكاد يَسُبُّ الذى ينام قبل العشاء. وقال أنس: كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء، وكتب عمر ألا ينام قبل أن يصليها، فمن نام فلا نامت عينه. وكره ذلك: أبو هريرة، وابن عباس، وعن عطاء، وطاوس، وإبراهيم، ومجاهد مثله، وهو قول مالك، والكوفيين. ورخصت فيه طائفة روى عن على بن أبى طالب أنه كان ربما غفا قبل العشاء، وكان ابن عمر ينام ويوكل من يوقظه، وعن أبى موسى، وعبيدة مثله، وعن عروة، وابن سيرين والحكم أنهم كانوا ينامون نومة قبل الصلاة، وكان أصحاب عبد الله يفعلون ذلك، وقال به بعض الكوفيين واحتج لهم الطحاوى، وقال: إنما كره النوم قبلها لمن خشى عليه فوت وقتها، أو فوت الجماعة فيها، وأما من وكل لنفسه من يوقظه لوقتها، فمباح له النوم، واحتجوا بفعل ابن عمر، وأبى موسى، وعبيدة، فدل أن النهى عن النوم قبلها ليس هو نهى تحريم لفعل الصحابة له، لكن الأخذ بظاهر الحديث أنجى وأحوط.

(2/194)


وقال الطحاوى: قال الليث: قول عمر بن الخطاب: فمن رقد بعد المغرب فلا أرقد الله عينه، أن ذلك بعد ثلث الليل الأول، وقال الطحاوى: تحمل الكراهة على أنها بعد دخول وقت العشاء، والإباحة قبل دخول وقتها، وسيأتى بيان السمر المنهى عنه بعد العشاء، والسمر المباح بعد هذا فى موضعه، إن شاء الله.
- باب النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ لِمَنْ غُلِبَ
/ 41 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعِشَاءِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: الصَّلاةَ، نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُهَا مِنْ أَهْلِ الأرْضِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ، قَالَ: وَلا يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) . / 42 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً، فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا عليه السلام، ثُمَّ قَالَ: (لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ غَيْرُكُمْ) ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يُبَالِي قَدَّمَهَا أَمْ أَخَّرَهَا، إِذَا كَانَ لا يَخْشَى أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ عَنْ وَقْتِهَا، وَقد كَانَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا) . / 43 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ قال: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ، وَاسْتَيْقَظُوا، وَرَقَدُوا، وَاسْتَيْقَظُوا، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: الصَّلاةَ، فَخَرَجَ الرسول، وقَالَ: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا هَكَذَا) .

(2/195)


النوم المذكور فى هذا الحديث إنما هو نوم القاعد الذى يخفق برأسه لا نوم المضطحع، والدليل على ذلك أنه لم يكن يذكر أحد من الرواة أنهم توضئوا من ذلك النوم، ولا يدل قوله: (ثم استيقظوا) على النوم المستغرق الذى يزيل العقل وينقض الوضوء؛ لأن العرب تقول: استيقظ من سنَتِه وغفلَتِه، وإلى هذا ذهب الشافعى فى أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء، ويشبه أيضًا مذهب مالك فى مراعاته النوم الخفيف فى كل الأحوال؛ لأنه ليس بحدث وهو رد على المزنى فى قوله: إن قليل النوم وكثيره حدث ينقض الوضوء؛ لأنه محال أن يذهب على أصحاب الرسول أن النوم حدث ينقض الوضوء، فيصلون بالنوم، ولا يسألون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، وقد رُوى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبى أمامة، وأبى هريرة أنهم كانوا ينامون قعودًا، ولا يتوضئون، فدل هذا أنه كان نومًا خفيفًا. فإن قال قائل: فقد جاء عن أنس أنهم حين كانوا ينتظرون الصلاة مع النبى، عليه السلام، ناموا مضطجعين، ثم صلوا ولم يتوضئوا، ذكره الطبرى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: (كان أصحاب رسول الله ينتظرون الصلاة مع الرسول فيضعون جنوبهم، ثم يقمون فيصلون ولا يتوضئون) . ففى هذا حجة لمن لم ير من النوم وضوءًا أصلاً، وهو قول أبى موسى الأشعرى، وأبى مجلز، وعمرو بن دينار، فهذا خلاف ما تأولت فى هذه الأحاديث، أنهم كانوا ينامون نومًا خفيفًا. قيل: قد جاء حديث قتادة، عن أنس بلفظ آخر، وفيه ما يدل على ما قلناه وهو قوله: (ثم يقومون) ، فمنهم من يتوضأ ومنهم من

(2/196)


لا يتوضأ، ذكره الطبرى، فبان بهذا الحديث أن من استغرق فى نومه مضطجعًا أو جالسًا، فهم الذين كانوا يتوضئون، ومن كان نومه خفيفًا فهم الذين كانوا لا يتوضئون كما قلنا، وإجماع العلماء على أن النوم مزيل للعقل ينقض الوضوء، يرد قول من لم ير من النوم وضوءًا أصلا. وأما نوم ابن عمر قبل العشاء، فيدل، والله أعلم، أنه كان منه نادرًا إذا غلبه النوم، فكان يوكل من يوقظه على ما ذهب إليه بعض الكوفيين، وروى معمر، عن أيوب، عن نافع: أن ابن عمر كان ربما رقد من العشاء الآخرة، ويأمر أن يوقظوه. وقوله: (ربما) ، يدل أنه كان منه فى النادر، فيحتمل أن يفعله إذا أراد أن يجمع بأهله، أو لعذر يمنعه من حضور الجماعة، ثم يجمع بأهله، والله أعلم.
- باب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ
قَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَهَا. / 44 - فيه: أَنَسِ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلاةَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ قَالَ: (قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا، أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا) . اختلف العلماء فى وقت عشاء الآخرة، فروى عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة أن آخر وقتها إلى ثلث الليل، وهو قول عمر بن

(2/197)


عبد العزيز، ومكحول، وإليه ذهب مالك لغير أصحاب الضرورات، واستحب لمساجد الجماعات ألا يعجلوها فى أول وقتها إذا كان ذلك غير مضر بالناس، وتأخيرها قليل أفضل عنده، وعند الشافعى وقتها إلى ثلث الليل أيضًا، وقال النخعى: آخر وقتها ربع الليل. وذهب أبو حنيفة، والثورى: إلى أن آخر وقتها نصف الليل، وروى عن ابن عباس أن آخر وقتها طلوع الفجر، وقد روى ابن وهب، عن مالك مثله، وهذا لمن له الاشتراك من أهل الضرورات. وحجة من قال: آخر وقتها ثلث الليل، قول عائشة فى الباب الذى قبل هذا: (فكانوا يصلونها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل) . وحجة من قال: وقتها نصف الليل، حديث أنس الذى فى هذا الباب، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخر العشاء إلى نصف الليل. وقال بعض العلماء: وهذا عندى على معنى التعليم لأمته بآخر الوقت المختار، كما فعل عليه السلام، حين صلى الصبح حين طلع الفجر ثم صلاها فى اليوم الثانى حين أسفر إعلامًا منه بسعة الوقت، ولذلك قال: (ما بين هذين وقت) .
- باب فَضْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ
/ 45 - فيه: جَرِيرُ: أن نَّبِيِّ الله إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لا تُضَامُّونَ، أَوْ قال: لا تُضَاهُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ

(2/198)


غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَالَ: (وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) [طه: 130] . / 46 - وفيه: أَبو مُوسَى، قال عليه السلام: (مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ) . فى حديث جرير فضل المبادرة والمحافظة على صلاة الصبح والعصر، وأن بذلك تناول رؤية الله تعالى، يوم القيامة، وإنما خصتا بالذكر والتأكيد لفضلهما باجتماع ملائكة الليل، وملائكة النهار فيها، وهو معنى قوله تعالى: (إن قرآن الفجر كان مشهودًا) [الإسراء: 78] . وأما قوله عليه السلام: (من صلى البردين دخل الجنة) ، فإن أبا عبيدة قال: المراد بذلك الصبح والعصر، والعرب تقول للغداة والعشى: بردا النهار وأبرداه، قال الخطابى: وإنما قيل لهما: بردان، وأبردان لطيب الهواء، وبرده فى هذين الوقتين، وأنشد ثعلب: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفىء من برد العشى تذوق قال: وأما قوله: (إذا اشتد الحر، فأبردوا عن الصلاة) ، فليس هذا من بردى النهار؛ لأنه لا يجوز تأخير الظهر إلى ذلك الوقت، وإنما الإبراد: انكسار وهج الشمس بعد الزوال، وسمى ذلك إبرادًا؛ لأنه بالإضافة إلى حَرِّ الهاجرة برد، وقد روى مثل هذا التفسير عن محمد بن كعب القرظى.

(2/199)


- باب وَقْتِ الْفَجْرِ
/ 47 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُم: (أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ آيَةً) . / 48 - وفيه: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: (كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أَنْ أُدْرِكَ صَلاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)) . / 49 - وفيه: عَائِشَةَ: (كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ، حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاةَ، لا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ) . أجمع العلماء على أن وقت صلاة الصبح طلوع الفجر، وهو البياض المعترض فى الأفق الشرقى، واختلفوا فى التغليس بها هل هو أفضل أم الإسفار، فممن كان يغلس بالفجر: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأبو موسى، وابن الزبير، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وممن كان يسفر بالصبح: ابن مسعود، وأبو الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، وأصحاب عبد الله. وقال ابن سيرين: كانوا يستحبون أن ينصرفوا من الصبح، وأحدهم يرى مواقع نبله، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، واحتجوا لفضل الإسفار بما رواه شعبة، عن أبى داود،

(2/200)


عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر) . واحتج أهل المقالة الأولى بمداومته عليه السلام، ومداومة أصحابه على التغليس بها، ألا ترى قولها: (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الفجر، فينصرفن متلفعات لا يعرفهن أحد من الغلس) ، وهذا إخبار عن أنه كان يداوم على ذلك، أو أنه أكثر فعله، ولا تحصل المداومة إلا على الأفضل. وزعم الطحاوى بأن آثار هذا الباب إنما تتفق بأن يكون دخوله عليه السلام، فى صلاة الصبح مغلسًا، ثم يطيل القراءة حتى ينصرف منها مسفرًا، وهذا فاسد من قوله لمخالفته قول عائشة؛ لأنها حكت أن انصرافهن من الصلاة كان ولا يُعْرَفْنَ من الغلس. وروى حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن عمرة، عن عائشة قالت: (كنا نصلى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الفجر فى مروطنا فننصرف، وما يعرف بعضنا وجوه بعض) . فبان بهذا الحديث أن النساء كن لا يُعرفن أرجال هن أم نساء؛ فإنهن كن يسرعن الانصراف عند الفراغ من الصلاة، ويدل أن الإمام لا يطيل القراءة جدًا، ولو أطالها لما انصرفن إلا فى الإسفار البيِّن. والذى يجمع بين حديث عائشة وبين قوله عليه السلام: (أسفروا بالفجر) من التأويل ما قاله أحمد بن حنبل، فإنه قال: الإسفار الذى أراد عليه السلام، هو أن يتضح الفجر، فلا يشك أنه قد طلع، قال غيره: والإسفار فى اللغة: الكشف، يقال: أسفرت المرأة عن

(2/201)


وجهها إذا كشفته، فكأنه قال عليه السلام: (أسفروا بالفجر) ، أى تبينوه، ولا تغلسوا بالصلاة وأنتم تشكون فى طلوعه حرصًا على طلب الفضل بالتغليس، فإن صلاتكم بعد تيقن طلوعه أعظم للأجر، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الآثار، ومما يشهد لصحة هذا التأويل حديث ابن مسعود أنه سأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أى الأعمال أفضل، قال: الصلاة لأول وقتها) ، ومن جعل الإسفار تأخير الصلاة عن أول وقتها، فهو محجوج بهذا الحديث، وحمل الآثار على ما ينفى التضاد عنها أولى، والحمد لله. وفى حديث زيد بن ثابت، وسهل بن سعد تأخير السحور، وإنما كانوا يؤخرونه إلى الفجر الأول، وسيأتى معنى ذلك فى كتاب الصيام، إن شاء الله تعالى. والمروط: أكسية من صوف رقاقٍ، واحدها: مِرْط. ومتلفعات يعنى: مشتملات، يقال: تَلَّفَعَ بثوبه، إذا اضطبع به، وتلَفَّعَ الرجلَ الشيبُ، إذا شمله، عن صاحب العين، وقال صاحب الأفعال: لفاع المرأة كالقناع.
- باب مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْفَجْرِ رَكْعَةً
/ 50 - فيه: أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ عليه السلام: (مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ) . قد

(2/202)


تقدم الكلام فى معنى هذا الحديث قبل هذا بما أغنى عن إعادته، ونذكر هنا ما لم يمض هناك، وفى هذا الحديث دليل أن من لم يدرك من الوقت ركعة فلم يدرك منه شيئًا، ومن لم يدرك منه شيئًا ممن تلزمه الصلاة قبل الوقت فلا صلاة عليه، وهذا يرد قول أبى حنيفة فى المغمى عليه أنه إذ أفاق لأقل من ركعة قبل غروب الشمس أنه يلزمه قضاء خمس صلوات فدون، ولا يلزمه أكثر من ذلك؛ لأن من لم يدرك من الوقت إلا أقل من ركعة لم تلزمه صلاة الوقت فكيف تلزمه غير صلاة الوقت. وذهب مالك، والشافعى إلى أن المغمى عليه لا يقضى إلا ما أدرك وقته بإدراك ركعة من الصلاة.
- باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ
/ 51 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: معناه: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة، واستدلوا على ذلك بأن الساعى إلى الصلاة ومنتظرها فى صلاة، وبما رُوى عن أبى هريرة أنه قال: إذا انتهى إلى القوم وهم قعود فى آخر صلاتهم، فقد دخل فى التضعيف، وإذا انتهى إليهم وقد سلم الإمام ولم يتفرقوا فقد دخل فى التضعيف، يعنى الدرجات السبع وعشرين. وقال عطاء: كان يقال: إذا خرج من بيته وهو ينويهم، فقد دخل فى

(2/203)


التضعيف، وعن أبى وائل، وشريك: من أدرك التشهد فقد أدرك فضلها، والفضائل لا تدرك بقياس. وقال آخرون: معنى هذا الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها كله، وهو كمن أدرك جميعها فيما يفوته من سهو الإمام وسجوده لسهوه وإن لم يدركه معه، وأنه لو أدرك وهو مسافر ركعة من صلاة مقيم لزمه حكم المقيم فى الإتمام، وهذا قول مالك وجماعة. والدليل على أنه أرد حكم الصلاة لا فضلها، قوله: (من فاته التأمين، فقد فاته خير كثير) ، وهذا الحديث يدل أنه من لم يدرك ركعة من الصلاة فلا مدخل له فى حكمها، إلا أن العلماء اختلفوا فى دليل هذا الحديث، فذهب مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، وزفر، ومحمد، والشافعى، وأحمد إلى أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: إذا أحرم فى الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين، وهو قول النخعى، والحكم، وحماد، واحتجوا بقوله عليه السلام: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا) . والذى فاته ركعتان لا أربع، والقول الأول أولى؛ لأنه إذا لم يدرك ركعة من الجمعة لم يدرك شيئًا منها، ومن لم يدرك منها شيئًا صلى أربعًا بإجماع، وقد سئل ابن شهاب عن من أدرك التشهد يوم الجمعة، قال: يصلى أربعًا، واستهد بهذا الحديث، وقال: هى السنة، وفى دليل هذا الحديث رد على عطاء، ومكحول،

(2/204)


وطاوس، ومجاهد فى قولهم: أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة أنه يصلى أربعًا، وقالوا: إن الجمعة إنما قصرت من أجل الخطبة، وذهب مالك وجماعة من الفقهاء إلى أنه يصلى ركعتين مع الإمام؛ لأنه أدركها كلها، واحتج الطحاوى لهذا القول، فقال: لا يختلفون أنه لو شهد الخطبة، ثم أحدث فذهب يتوضأ، ثم جاء وأدرك مع الإمام ركعة، أنه يصلى ركعتين، فلما كان فوات الركعة لا يمنعه فعل الجمعة، كانت الخطبة أحرى بذلك، فدل على بطلان قول عطاء. وفيه أيضًا رد على أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد فى قولهم: أنه من أدرك التشهد من المسافرين خلف إمام مقيم لزمه الإتمام، ومالك إنما راعى إدراك ركعة معه، بدليل هذا الحديث، وهو قول النخعى، والحسن، وكذلك راعى مالك إدراك الركعة فى وجوب سهو الإمام على المأموم، ومذهبه فى ذلك أن سجدتى السهو إن كانتا قبل السلام سجدهما معه، وإن كانتا بعد السلام لم يسجدهما معه وسجدهما إذا أتم صلاته، وهو قول الأوزاعى، والليث، وقال أبو حنيفة، والشافعى: إذا أدرك التشهد وأحرم قبل سلام إمامه لزمه أن يسجد معه للسهو، ومالك أسعد الناس باستعمال نصِّ هذا الحديث ودليله. ومن قول مالك أيضًا: أنه من لم يدرك ركعة من صلاة الجماعة ممن صلاها وحده فى بيته لم يعدها، وقال أيضًا: من أدرك ركعة من صلاة الجماعة لم يصل تلك الصلاة فى جماعة.

(2/205)


- باب الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ
/ 52 - فيه: عُمَرُ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ) . / 53 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ أن نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَحَرَّوْا بِصَلاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا، وإِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَغِيبَ) . / 54 - وفيه: أبو هريرة: (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ. . .) الحديث. وترجم لحديث ابن عمر وأبى هريرة. 28 - باب لا تُتَحَرَّى الصَّلاةُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ / 55 - وزاد فيه: قال معاوية: إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما، يعنى الركعتين بعد العصر. اختلف العلماء فى تأويل نهيه عليه السلام، عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، فقال مالك: المراد بذلك النافلة دون الفرض، والفرائض الفائتة تصلى أى وقت ذكرت؛ لقوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، وأدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة) ، ومعلوم أنه إذا أدرك ركعة، فلا يقع إتمام الصلاة إلا فى الوقت المنهى عنه، فدل ذلك على ما قلناه، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال الشافعى: المراد به النافلة المبتدأة، وأما الصلوات المفروضات والمسنونات، أو ما كان يواظب عليه من النوافل فلا، واحتج بالإجماع على صلاة الجنازة، وبحديث عائشة أن الرسول قضى الركعتين بعد العصر.

(2/206)


وقال الكوفيون: المراد بذلك النوافل، ويقضى الفرائض فى هذين الوقتين، وأما إذا برزت الشمس قبل أن ترتفع، وإذا تدلت للغروب قبل أن تغرب، فلا يجوز أن يصلى فيه فريضة، ولا نافلة، ولا على جنازة إلا عصر يومه خاصة؛ لقوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . .) ، وقد تقدم الرد عليه فى أول هذا الباب مع قول مالك، وفى باب من أدرك ركعة من العصر قبل المغرب، بما فيه كفاية. وقد روى عن جماعة من السلف قول آخر، قالوا: نهى الرسول عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فأما ما لم يبدُ حاجب الشمس للطلوع ولم يتدل للغروب فالصلاة جائزة، وحجتهم حديث ابن عمر أن الرسول قال: (لا يتحرى أحدكم فيصلى عند طلوع الشمس ولا عند غروبها) ، وقوله: (إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب) . وروى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن مسعود، وبلال، وأبى أيوب، وأبى الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وعن أصحاب عبد الله مثله، وتأولوا أن المراد بالنهى عن الصلاة: هذان الوقتان خاصة، ألا ترى قول ابن عمر: (أُصلى كما رأيت أصحابى يصلون، لا أنهى أحدًا يصلى بليل أو نهار ما شاء، غير ألا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) . واحتج من أجاز صلاة الفرض فى هذين الوقتين، بقوله عليه السلام: (لا تحروا بصلاتكم) ، وهذا يقتضى من يبتدئ صلاته ذلك

(2/207)


الوقت ويقصده، وأما من انتبه من نومه أو ذكر من نسيانه، فلا يدخل فى النهى؛ لأنه ليس بقاصد ولا متحر لذلك، وقوله: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ، يعارض النهى، ويبين أنه ليس بمتحرٍ لها من فاتته، وإنما المتحرى القاصد إليها بتطوعه أو فرضه. قال المهلب: ومعنى كراهية الصلاة فى هذين الوقتين أن قومًا كانوا يتحرون طلوع الشمس وغروبها، فيسجدون لها عبادة من دون الله، فنهى النبى، عليه السلام، عن مماثلتهم، وعن أوقاتهم المعهودة.
- باب مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلاةَ إِلا بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ
/ 56 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (أُصَلِّي كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يُصَلُّونَ، لا أَنْهَى أَحَدًا يُصَلِّي بِلَيْلٍ أو نَهَارٍ مَا شَاءَ، غَيْرَ أَلا تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا) . وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى الباب الذى قبل هذا، ونذكر هاهنا ما لم يمض هناك، وغرض البخارى فى هذا الباب رد قول من منع الصلاة نصف النهار عند استواء الشمس؛ لأن قوله: (لا أمنع أحدًا يصلى بليل أو نهار ما شاء، غير ألا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها) ، يدل أنه لا بأس بالصلاة عند استواء الشمس، وهذا قول مالك، والليث، والأوزاعى. قال مالك: ما أدركت أهل الفضل والعبادة إلا وهم يهجرون، ويصلون نصف النهار، وعن الحسن وطاوس مثله، والذين منعوا الصلاة نصف النهار: عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والحكم. وقال الكوفيون: لا يصلى نصف النهار لا فرض ولا نفل، وقال

(2/208)


أبو يوسف، والشافعى: لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة، ورووا فى ذلك حديثًا: أن جهنم لا تسجر يوم الجمعة. قال الطحاوى: وقد روى فى حديث الصنابحى وغيره النهى عن الصلاة عند استواء الشمس بقوله عليه السلام: (فإذا استوت قارنها. . .) ، فإنها أحاديث لا تصح؛ لأن الصحابة كانوا يتنفلون يوم الجمعة فى المسجد حتى يخرج عمر بن الخطاب، وكان لا يخرج حتى تزول الشمس بدليل طنفسة عقيل، فكانت صلاتهم قبل خروج عمر فى حين استواء الشمس؛ إذ كان خروجه عند الزوال، ولا يجوز على جماعة الصحابة جهل السنة، لو صحت تلك الأحاديث. وذكر ابن أبى شيبة، قال: كان مسروق يصلى نصف النهار، فقيل له: إن الصلاة هذه الساعة تكره، فقال: ولم؟ قيل له: إن أبواب جهنم تفتح نصف النهار، قال: إن الصلاة أحق ما استعيذ به من جهنم حين تفتح أبوابها، وأجاز مكحول الصلاة نصف النهار للمسافر.
30 - باب مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ مِنَ الْفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا
وقال كريب: عن أم سلمة قالت: (صلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد العصر ركعتين، وقال: (شغلنى ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر) . / 57 - وفيه: عائشة قَلَتْ: (وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ، مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ حَتَّى ثَقُلَ عَنِ الصَّلاةِ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاتِهِ قَاعِدًا - يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ - وَكَانَ عليه السلام، يُصَلِّيهِمَا، وَلا يُصَلِّيهِمَا

(2/209)


فِي الْمَسْجِدِ، مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ) . / 58 - وقالت مرة: (مَا تَرَكَ النَّبِيُّ عليه السلام، السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ) . / 59 - وقالت مرة: (رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلا عَلانِيَةً: رَكْعَتَانِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ) . فى قصة عبد القيس، حجة للشافعى فى أنه يقضى المرء بعد الصبح والعصر ما فاته من النوافل المعتادة كالفرائض المنسية، ولا يقول بذلك مالك، وأبو حنيفة، إلا أن مالكًا استحسن لمن لم يصل ركعتى الفجر أن يصليها بعد طلوع الشمس، واحتجوا على الشافعى فى ذلك بتواتر الآثار عن النبى أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، وأن عمر كان يضرب الناس على الصلاة بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير عليه، فدل أن صلاته عليه السلام، الركعتين بعد العصر خصوص له دون أمته. قال الطحاوى: ومما يدل على ذلك ما أخبرنا به على بن شيبة، أخبرنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن أم سلمة قالت: صلى الرسول العصر، ثم دخل بيتى، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها قال: (قدم علىَّ مال، فشغلنى عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر، فصليتهما الآن) ، قلت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتانا؟ قال: (لا) ، فنهى عليه السلام فى هذا الحديث أن يصليهما أحد بعد العصر قضاء عما كان يصليه بعد الظهر،

(2/210)


فدل ذلك على أن حكم غيره فيهما إذا فاتتا خلاف حكمه عليه السلام، فليس لأحد أن يصليهما بعد العصر، ولا أن يتطوع حينئذ أصلاً؛ لأن من فعل ذلك، فهو متطوع فى غير وقت تطوع. وقال أصحاب الشافعى: الأزرق بن قيس من الشيوخ، ولو صح حديثه لاحتمل التأويل، وذلك أن نهيه عليه السلام، عن قضائهما مما يدل أنه لا تجوز صلاتهما بعد العصر، وإنما نهى عن قضائهما على وجه الحتم والوجوب، وأما من شاء أن يتطوع بالصلاة ذلك الوقت رغبة فى الفضل، فله فى صلاته عليه السلام، بعد العصر أفضل الأسوة. فإن قال قائل: إن أحاديث هذا الباب معارضة لنهيه عليه السلام، عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، فكيف السبيل إلى الجمع بينهما؟ . قال الطبرى: لا تعارض بينهما بحمد الله، ولها معانى صحيحة، وذلك أن للنهى وجوهًا: منها الكراهة، ومنها العزم والتحريم، ولا سبيل لأمته إلى علم مراده منها إلا ببيانه عليه السلام، ولما لم يذكر فى ظاهر نهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح دلالة لسامعه على معنى مراده منه، كان غير جائز ترك بيانه، فكانت صلاته التى صلاها بعد العصر تبيينًا منه لأمته أن نهيه على وجه الكراهة، لا على وجه التحريم، كتحريمه عند بروز حاجب الشمس للطلوع، وعند مغيب حاجبها للغروب، وإعلام منه لهم أن من صلى بعد العصر وبعد الصبح غير حرج ما لم يوافق وقت الطلوع والغروب. وذلك نظير نهيه إياهم عن المزعفر بالزعفران واستعماله، وعن لبس

(2/211)


المعصفر والأرجوان، ولبسه إياها إعلام منه لهم أنه نهيه عن ذلك على وجه الكراهية لا على وجه التحريم؛ لأنه لو كان على وجه التحريم كان أبعدهم من فعله؛ لأنه أتقاهم لله، وأشدهم له خشية. فإن ظن ظان أن ذلك كان خاصًا له دون أمته، فقد ظن خطأ، وذلك أن ما خص الله به رسوله فغير جائز أن يكون غير مبين لأمته إما بنص التنزيل، أو بخبر يقطع العذر أنه خاص له؛ لأن الله قد ندب عباده إلى التأسى به، ولو جاز أن يكون فى أفعاله التى خص بها دون أمته ما لم يوقفهم عليه أنه خاص له، لم يجز لأحد التأسى به فى شىء من أفعاله حتى يأمرهم بها، وإذا كان ذلك كذلك بان صحة القول لمن نسى ركعتى الفجر، ثم ذكرهما بعد صلاة الصبح، أو نسى ركعتى الظهر، ثم ذكرهما بعدما صلى العصر، أن له أن يصليهما ما لم يبدُ حاجبُ الشمس للطلوع أو يتدلى للغروب، وأن لمن طاف بالبيت بعد الصبح أن يركع ركعتى الطواف ما لم يوافق الطلوع والغروب، وكذلك صلاة الجنازة، وصلاة الكسوف، وأن يجتنب فيما لم يخف فوته من ذلك تأخيره إلى غروبها أو طلوعها، وبذلك جاء الخبر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه فعل ذلك فى ركعتى الفجر، إذ نام عنهما، فقضاهما بعد ما طلعت الشمس، ولم ينكر على من فعلهما بعد طلوعها.
31 - باب التَّبكيرِ بِالصَّلاةِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ
/ 60 - فيه: بُرَيْدَةَ أنه قال فِي يَوْمٍ غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلاةِ فَإِنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ) .

(2/212)


قال ابن المنذر: روى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: إذا كان يومُ غيم، فأخروا الظهر، وعجلوا العصر، وهو قول مالك. وقال الحسن البصرى: أخروا الظهر والمغرب، وعجلوا العصر والعشاء الآخر، وهو قول الأوزاعى، وقال الكوفيون: يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء، وروى مطرف عن مالك أنه استحب تعجيل العشاء فى الغيم، وقال أشهب: لا بأس بتأخيرها إلى ثلث الليل، وفيها قول آخر قاله ابن مسعود: عجلوا الظهر والعصر وأخروا المغرب. وقال المهلب: لا يصح التبكير فى الغيم إلا بصلاة العصر والعشاء؛ لأنهما وقتان مشتركان مع ما قبلهما، ألا ترى أنهم يجمعونها فى المطر فى وقت الأولى منهما وهى سنة من الرسول، وقد مضى شىء من معنى هذا الباب فى باب (من ترك العصر) .
32 - باب الأذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ
/ 61 - فيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ: (سِرْنَا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ بِلالٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا، وَأَسْنَدَ بِلالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ عليه السلام، وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَالَ: يَا بِلالُ، أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ قَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ يَا بِلالُ، قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاةِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ، قَامَ فَصَلَّى) .

(2/213)


اختلف أهل العلم فى الأذان بعد ذهاب الوقت، فذهب أحمد بن حنبل، وأبو ثور إلى جواز ذلك، واحتجا بهذا الحديث، وقال الكوفيون: إذا نسى صلاة واحدة، وأراد أن يقضيها من الغد، يؤذن لها ويقيم، فإن لم يفعل فصلاته تامة، وقال الثورى: ليس عليه فى الفوائت أذان ولا إقامة، وقال محمد بن الحسن: إن أذن فى الفوائت فحسن، وإن صلاهن بإقامة إقامة كما فعل الرسول يوم الخندق فحسن. وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى: يقيم للصلوات الفوائت، ولم يذكروا أذانًا، واحتج هؤلاء بأن صلاته عليه السلام، يوم الخندق الفوائت كلها كان بغير أذان، وإنما أذن للعشاء الآخرة فقط؛ لأنها صليت فى وقتها، ولم تكن فائتة. وفيه من الفقه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان ينام أحيانًا كنوم الآدميين، وذلك فى النادر من حاله، وسأبين حكم نومه عليه السلام، عند قوله: (إن عينى تنام، ولا ينام قلبى) ، فى باب قيام الرسول بالليل فى رمضان وغيره. قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح، وإنما أكدت المحافظة عليها لأجل هذه العارضة التى عرضت للنبى باستيلاء النوم عليه، وعلى أهل عسكره حتى فاته وقتها، ويدل على أنها الوسطى: توكيله بلالا فى السفر والحضر بمراقبة وقتها، ولم يأمره بمراقبة غيرها، ألا ترى أن النبى لم تفته صلاة غيرها بغير عُذرٍ شغله عنها. قال غيره: وقوله: فاستيقظ وقد طلع حاجب الشمس، وتركه للصلاة حتى ابيضّت الشمس، فإن الكوفيون قالوا: إنما أخَّر عليه

(2/214)


السلام، الصلاة ذلك الوقت لما تقدم من نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، وقال أصحاب مالك، والشافعى وغيرهم: إنما أخر صلاته بمقدار ما توضأ الناس، وتأهبوا للصلاة، وفى ذلك المقدار ارتفعت الشمس. وقد جاء هذا المعنى فى بعض طرق الحديث، ذكره فى كتاب الاعتصام فى باب: المشيئة والإرادة، وقال فيه: (فقضوا حوائجهم، وتوضئوا إلى أن طلعت الشمس، وابيضّت، فقام فصلى) ، وقد روى عطاء أن نبى الله إنما أمرهم بالخروج من ذلك الوادى على طريق التشاؤم به، وقال لهم: (اخرجوا من الوادى الذى أصابكم فيه الغفلة) ، كما نهى عليه السلام، عن الصلاة فى أرض بابل، وحجر ثمود، وعن الوضوء بمائها، وهو مثل قوله فى حديث مالك، عن زيد بن سلم: (إن هذا واد به شيطان) ، فكره الصلاة فى البقعة التى فيها الشيطان؛ إذ كان السبب لتأخير الصلاة عن وقتها، وقد روى جبير بن مطعم فى حديث نومه عن الصلاة، أنهم لم يستيقظوا حتى ضربهم حَرُّ الشمس. قال المهلب: وقد قال ابن وهب، وعيسى بن دينار: إن خروجهم من الوادى منسوخ بقوله: (وأقم الصلاة لذكرى) [طه: 14] ، وهذا خطأ؛ لأن (طه) مكية، وقصة نومه عن الصلاة كان بالمدينة، ومما يدل على ذلك قول ابن مسعود: بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتق الأول، وهن من تلادى، يعنى أنهن من أول ما حفظه من القرآن واستفاده، و (التلاد) قديم ما يفيده الإنسان من المال وغيره.

(2/215)


وفى هذا الحديث حجة لقول مالك أنه قال: من فاتته صلاة الصبح، أنه يصليها، ولا يركع ركعتى الفجر قبلها، قال أشهب: وسئل مالك: هل ركع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ركعتى الفجر حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس؟ قال: ما بلغنى، وقال أشهب: بلغنى أنه (صلى الله عليه وسلم) ركع، وقال على بن زياد: وقاله غير مالك، وهو أحب إلىّ أن يركع، وهو قول الكوفيين، والثورى، والشافعى قالوا: يصلى ركعتى الفجر، ثم يصلى الفجر، وقد قال مالك: إن أحب أن يركعهما من فاتته بعد طلوع الشمس فعل. والتعريس: النزول بالليل.
33 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ
/ 62 - فيه: جَابِرِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أن أُصَلِّي الْعَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا) ، فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. قال بعض أهل العلم: لا أعلم خلافًا فى جواز جمع الصلاة بعد ذهاب الوقت، لمن فاتته بِعُذْرٍ بين كالنوم وشبهه إلا الليث بن سعد، فإنه قال فى القوم يفوتهم الصلاة أنهم يصلون فرادى، وهذا الحديث خلاف قوله، وحجة الجماعة. واختلف أصحاب مالك فيمن فاتته الجمعة لعذر أو لغير عذر، فقال ابن القاسم: كنت مع ابن وهب بالإسكندرية، فلم نأت الجمعة

(2/216)


لأمر خفناه، ومعنا قوم، فكرهت أن أجمع بهم، وجمع بهم ابن وهب، فسألنا مالكًا عن ذلك فقال: لا يجمع إلا المسافرون والمحبوسون والمرضى. وقال الكوفيون: لا يصلى الظهر جماعة فى المصر، وسواء كانوا مرضى أو محبوسين، وهو قول الثورى، وفى المجموعة عن ابن القاسم: لا يجوز للمرضى والمسجونين الجمع، وروى عنه يحيى بن يحيى فى العتبية، فيمن خلفهم المطر عن الجمعة، فليجمعوا ظهرًا إن كان أمرًا غالبًا يُعذرون به كالمرض، وإن كان مطر ليس بمانع فجمعوا فليعيدوا، وقال أصبغ: إن جمع المتخلفون بغير عذر أساءوا ولا يعيدون. ولابن القاسم فى المجموعة مثله، وفيها لأشهب، وابن نافع أن المتخلفين يصلون الجمعة جماعة، وهو قول الليث والشافعى، وقال الليث: فى مسجد أو غيره، ذكره الطحاوى، ولا فرق بين الجمعة وغيرها فى قياس ولا نظر إذا فاتت فى جواز جمعها بدليل هذا الحديث.
34 - باب مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّها إِذَا ذَكَرَ وَلا يُعِيدُ إِلا تِلْكَ الصَّلاةَ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ نَسَى صَلاةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلا تِلْكَ الصَّلاةَ الْوَاحِدَةَ. / 63 - وفيه: أنس قَالَ: (مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّ، إِذَا ذَكَرَهَا لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلا ذَلِكَ: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه 14] ) .

(2/217)


اختلف العلماء: إذا صلى صلاة، ثم ذكر بعد ذلك صلاة من يوم آخر، هل يعيد الصلاة التى صلى إذا بقى من وقتها شىء بعد قضاء الفائتة أم لا؟ فذكر ابن المنذر، عن طاوس، والحسن البصرى، والشافعى، وأبى ثور، أن من ذكر صلاة وهو فى صلاة أخرى، أنه يتم التى هو فيها، ثم يصلى الفائتة، ليس عليه غير ذلك، فقياس قوله: (إن ذكرها بعد أن فرغ منها) ، أنه ليس عليه شىء أيضًا إلا إعادة المنسية فقط. وقال مالك: يصلى التى نسى، ثم يعيد ما كان فى وقته مما كان قد صَلاهُ، واستدل أهل المقالة الأولى، بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من نسى صلاة فليصل إذا ذكر) ، ولم يقل: فَلْيُعِدْ ما كان فى وقته، واحتج أصحاب الشافعى لقولهم بأن الترتيب إنما يجب فى صلاة يوم بعينه وجوب فرض وهذا إجماع، وأما فى الفوائت فلا يجب ذلك، استدلالاً بإجماع الأمة على أن رتبة رمضان فرض، فإذا أفطره أحد بمرض أو نسيان سقط عنه الترتيب، ولهذا نظائر كثيرة من القياس. والحجة لقول مالك قوله: (وأقم الصلاة لذكرى) [طه: 14] ، فدل هذا أن وقت الذكر وقت للصلاة المنسية، وإذا اجتمعت صلاتان فى وقت واحد فالواجب تقديم الأُولى، فاستدل مالك بآخر الحديث، واستدل الشافعى بأوله.

(2/218)


35 - باب قَضَاءِ الصَّلاةِ الأولَى فَالأولَى
/ 64 - فيه: جَابِرِ: جَعَلَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَسُبُّ كُفَّارَهُمْ، فَقَالَ: مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ، قَالَ: فَنَزَلْنَا بُطْحَانَ، فَصَلَّى بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ. أجمع العلماء على الاستدلال بهذا الحديث، فقالوا: من فاتته صلوات كثيرة، وأيقن أنه يقضيها، ويصلى التى حضر وقتها قبل فواتها، أنه يبدأ بالأُولى فالأُولى، واختلفوا: إذا خشى فوت وقت الحاضرة إن بدأ بالمنسية، فقالت طائفة: يبدأ بالتى ذكر فيصليها، وإن فاتته هذه، هذا قول عطاء، والزهرى، ومالك، والليث، واتفق مالك وأصحابه على أن حكم أربع صلوات فما دونه حكم صلاة واحدة يبدأ بهن، وإن خرج وقت الحاضرة، واختلفوا فى خمس صلوات، فحكى ابن حبيب، عن مالك أن خمسًا قليل يبدأ بهن وإن خرج وقت الحاضرة، وهو قول أبى حنيفة. وذكر ابن سحنون، عن أبيه أن خمس صلوات كثيرة، يبدأ بالتى حضر وقتُها، وقالت طائفة: يبدأ بالتى نسى إلا أن يخاف فوت التى حضر وقتها، فإن خاف ذلك صلاها، ثم صلى التى نسى، هذا قول ابن المسيب، والحسن البصرى، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعلة أهل هذا المقالة أنه إن بدأ بالمنسية، وفاته وقت الحاضرة، فقد اجتمع عليه فوتان، فوتُ الحاضرة مع فوت المنسية، ففوتٌ واحدٌ أحسنُ حالا من فوتينِ. ووجه القول: أنه يبدأ بالمنسية إن كانت خمسًا فدون، وإن فات

(2/219)


وقت الحاضرة؛ لأن المنسية عندهم واجبة قبل صلاة الوقت، فإذا ذكرها اشتركت مع صلاة الوقت فى الوجوب، ولها حق التقدمة، فكأنها ظهر وعصر اجتمعا فى يوم واحد، فوجب أن يقدم الظهر وإن قدمت العصر وجب إعادتها؛ لأن الترتيب عندهم فى خمس صلواتٍ فدون من الفوائت وجوبُ سُنَّة، وإنما لم يجب الترتيب عندهم فى أكثر من خمس صلوات؛ لأنها مشتبهة بصلاة اليوم بعينه، ولو وجب فى أكثر من ذلك لوجب فى سنين كثيرة، وذلك ما لا يطاق عليه؛ لأنه لا سبيل إلى أن يقضى صلاة سنة أو أكثر فى يومين ولا ثلاثة، ولو تكلف ذلك أحد لترك أيام القضاء بغير صلوات، وهذا جهل من قائله، فلم يكن بُد من حد بين القليل والكثير فى ذلك. وفى هذا الحديث رد على جاهل، انتسب إلى العلم وهو منه برىء، زعم أنه من ترك الصلاة عامدًا أنه لا يلزمه إعادتها. واحتج بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ، ولم يذكر العامد، فلم يلزمه القضاء، وإنما يقضيها الناسى والنائم فقط، وهذا ساقط من القول يئول إلى إسقاط فرض الصلاة عن العباد، وقد ترك الرسول يوم الخندق صلاة الظهر والعصر قاصدًا لتركها لشغله بقتاله العدو، ثم أعادها بعد المغرب. ويقال له: لمَّا أوجب النبى (صلى الله عليه وسلم) على الناسى النائم الإعادة، كان العامد أولى بذلك؛ لأن أقل أحوال الناسى سقوط الإثم عنه، وهو مأمور بإعادتها، والعامد لا يسقط عنه الإثم، فكان أولى أن تلزمه إعادتها، ولا يوجد فى شىء من مسائل الشريعة مسألة: العامد فيها معذور، بل الأمر بضد ذلك لقوله عليه السلام:

(2/220)


(إن الله تجاوز لأمتى عن الخطأ والنسيان) ، فإذا تجاوز الله عن الناسى إثم تضييعه، وأمر بأداء الفرض، فكان العامد المنتهك لحدود الله غير ساقط عنه الإثم، بل الوعيد الشديد متوجه عليه، كان الفرض أولى ألا يسقط عنه ويلزمه قضاؤه، وقد أجمعت الأمة على أن من ترك يومًا من شهر رمضان عامدًا من غير عذر أنه يلزمه قضاؤه، فكذلك الصلاة، ولا فرق بين ذلك، والله الموفق.
36 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ
/ 65 - فيه: أبو برزة: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ العشاء، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ، حِينَ يَعْرِفُ أَحَدُنَا جَلِيسَهُ) ، فى حديث طويل. قال المهلب: إنما كره عليه السلام، السمر بعد العشاء، لئلا يزاحم بقية الليل بالنوم، فتفوته صلاة الصبح فى جماعة، وقال خَرَشَةُ بن الحُرِّ: رأيت عمر بن الخطاب يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول: أسمرًا أول الليل ونومًا آخره؟ . وقال سلمان الفارسى: إياكم وسمر أول الليل، فإنه مهدمة لآخره، فمن فعل ذلك فليصل ركعتين قبل أن يأوى إلى فراشه. وكان إبراهيم، وابن سيرين، يكرهان الكلام بعد العشاء. وأما السمر بالعلم والفقه، وأفعال الخير فجائز، قد فعله النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأصحابه، وسيأتى فى الباب بعد هذا إن شاء الله، وقد تقدم اختلافهم فى النوم قبل هذا فأغنى عن إعادته.

(2/221)


فإن قال قائل: إن قول أبى برزة: (وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف أحدُنا جليسه) ، معارض لقول عائشة: (إن النساء كن ينصرفن من صلاة الفجر مع رسول الله وكن متلفعات بمروطهن لا يُعرفن من الغَلَسِ) . قيل: لا تعارض بينهما، وذلك أن تلفعهن وتسترهن بمروطهن مانع من معرفتهن، وكان الرجال يصلون ووجوههم بادية بخلاف زى النساء وهيئاتهن، وذلك غير مانع للرجل من معرفة جليسه، فلا تعارض بين شىء من ذلك بحمد الله.
37 - باب السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ
/ 66 - فيه: قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ، وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلاءِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَنَسُ: انْتَظَرْنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ، فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ: (أَلا إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، ثُمَّ رَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ) . قَالَ الْحَسَنُ: وَإِنَّ الْقَوْمَ لا يَزَالُونَ فى خَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ. / 67 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ عليه السلام، صَلاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ النَّبِيُّ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ سنة لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ

(2/222)


أَحَدٌ) ، فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ النبى إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ فِى هَذِهِ الأحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ الرسول: (لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ) . وهذه الآثار تدل على أن السمر المنهى عنه بعد العشاء، إنما هو فيما لا ينبغى من الباطل واللغو، ألا ترى استدلال الحسن البصرى حين سمر عند جيرانه لمدارسة العلم، بسمر النبى إلى قرب من شطر الليل فى شغله بتجهيز الجيش، ثم خرج فصلى بالناس، ثم خطبهم مؤنسًا لهم من طول انتظارهم، ومعرفًا لهم ما يستحقون عليه من جزيل الأجر، فقال: (إنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتم الصلاة) ، ومثل ذلك قوله: (إن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد) ، فأبان بفعله عليه السلام، أن السمر فى العلم والخير مرغب فيه. وروى ابن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر، قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسمر عند أبى بكر فى الأمر من أمور المسلمين، وأنا معه) ، وروى ابن بكير، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن عبد الله بن رزين: أن عليًا صلى بهم ذات ليلة العتمة، فقعدوا، واستفتوه حتى أذن بصلاة الصبح، فقال: قوموا فأوتروا فإنا لم نوتر. وكان ابن سيرين، والقاسم، وأصحابه يتحدثون بعد العشاء. وقال مجاهد: يكره السمر بعد العشاء إلا لمصلٍ أو مسافرٍ أو دارسٍ علم.

(2/223)


وقوله عليه السلام: (إنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتموها) : تعليم منه لهم للعلم، وكذلك إعلامه لهم أن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد، إعلام منه لهم أن أعمار أمته ليست بطول أعمار من تقدم من الأمم السالفة، ليجتهدوا فى العمل، وقد بيَّن ذلك فى حديث آخر، فقال: (أعمار أمتى من الستين إلى السبعين وأقلهم من يجاوز ذلك) . وأما قول أنس بن مالك: (انتظرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى كان شطر الليل يبلغه) ، فهكذا وقع هذا الكلام فى جميع النسخ، وقد روى جابر بن عبد الله هذا الحديث بنحو هذا المساق، وكشف فيه صواب اللفظ، وذكر فيه الشغل الذى منعه من الخروج إلى الصلاة، وهو أنه اشتغل بتجهيز جيش، رواه الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال: (جهز رسول الله ذات ليلة جيشًا، حتى قرب نصف الليل أو بلغه. . .) ، وذكر هذا الحديث، وقد ذكرته بتمامه فى باب فضل العشاء، فأبان هذا اللفظ معنى حديث أنس، وتقدير الكلام فيه: حتى كان شطر الليل، أو كاد فى أخرى يبلغه، والعرب قد تحذف (كاد) كثيرًا من كلامها لدلالة الكلام عليه، كقولهم فى: أظلمت الشمس، كادت تظلم. قال الشاعر: يتعارضون إذا التقوا فى موطن نظرًا يزيل مواطئ الأقدام فلم يقل يكاد يزيل، ولكنه نواها فى نفسه، ومنه قوله تعالى: (وبلغت القلوب الحناجر) [الأحزاب: 10] ، أى كادت من شدة الخوف تبلغ الحلوق، ذكره ابن قتيبة.

(2/224)


وقوله: (فوهل الناس) ، قال صاحب (الأفعال) : وهل إلى الشىء وَهْلا: ذهب وهمه إليه، ويقال: كلمت فلانًا وما ذهب وَهَلى إلا إلى فلان، وما وَهَلت إلا إليه، من العين.
38 - باب السَّمَرِ مَعَ الأهْلِ والضَّيْفِ
/ 68 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ، كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ) ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاثَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ عليه السلام، بِعَشَرَةٍ، قَالَ: فَهُوَ أَنَا، وَأَبِي، وَأُمِّي، وَلا أَدْرِي هل قَالَ: وَامْرَأَتِي، وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، ثم إن أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ الرسول، ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ - أَوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ - قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ، قَالَتْ: أَبَوْا، حَتَّى تَجِيءَ، قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا، فَاخْتَبَأْتُ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وَقَالَ: كُلُوا لا هَنِيئًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، وَأيْمُ اللَّهِ، مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، قَالَ: فشَبِعُوا، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لا، وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهِيَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاثِ مَرَّاتٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ - يَعْنِي يَمِينَهُ - ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ،

(2/225)


وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الأجَلُ، فَفَرَّقَنَا اثْنَى عَشَرَ رَجُلا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ. فيه: السمر مع الأضياف، كما ترجم وهذا كما قدمنا من السمر فى المباح وطلب الفضيلة؛ لأن تلك كانت أخلاقهم وأحوالهم، فلا يجوز السمر إلا فى مثل ذلك من طلب الأجر، والمباح. قال المهلب: وفيه أن للسلطان إذا رأى بقوم مسغبةً أن يفرقهم على أهل الوجود بقدر ما لا يجحف بهم، ألا ترى أن من كان عنده طعام اثنين ذهب بثالث. قال غيره: وهذا على سنته فى قوله، عليه السلام: (طعام الاثنين كافى الثلاثة) ، والكفاية غير الاتساع فى الشبع. قال المهلب: ومن هذا أخذ عمر بن الخطاب فعله فى عام الرمادة، إذ كان يلقى على أهل كل بيت مثلهم من الفقراء، ويقول: لن يهلك امرؤ على نصف قوته. قال غيره: وإنما فعله عمر لأن الضرورة كانت عام الرمادة أشد، وقد تأول سفيان بن عيينة فى المواساة فى المساغب قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) [التوبة: 111] ، ومعناه: أن المؤمنين تلزمهم القربة فى أموالهم لله تعالى، عند توجه الحاجة إليهم، ولهذا قال كثير من العلماء: إن فى المال حقوقًا سوى الزكاة، وإنما جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الاثنين واحدًا، وعلى الأربعة واحدًا، وعلى الخمسة واحدًا، ولم يجعل على الأربعة والخمسة بإزاء ما يجب

(2/226)


للاثنين مع الثالث، والله أعلم؛ لأن صاحب العيال أولى أن يرفق به، وضيق معيشة الواحد والاثنين أرفق بهم من ضيق معيشة الجماعات. وفيه: أكل الصديق عند صديقه، وإن كان عنده ضيف، إذا كان فى داره من يقوم بخدمتهم ومؤنتهم. قال المهلب: وفيه أن الولد والأهل يلزمهم من التحفل بأمور الضيف، مثل ما يلزم صاحب المنزل. وفيه: أن للرجل أن يسب أهله وولده على تقصيرهم ببر أضيافه وأن يغضب لذلك. وفيه: أن الأضياف، ينبغى لهم أن يتأدبوا، وينتظروا صاحب الدار، ولا يتهافتوا على الطعام دونه. قال غيره: وفيه جواز أكل الأضياف دون صاحب الدار إذا حان الطعام؛ لأن تأنيب أبى بكر لأهله يدل أن الضيف أولى بذلك من رب الدار. قال المهلب: وفيه أن من حلف على شىء ورأى غيره خيرًا منه أنه يحنث نفسه، ويأتى الذى هو خير منه، ويكفر يمينه، ومن الخير: الأكل من طعام ظهرت فيه البركة، وقد نهى الرسول عن الأيمان فى ترك البر والتقوى وفعل الخير، فمن هاهنا حنث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والصالحون أنفسهم، وهو قوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) [البقرة: 224] ، فحنث رسول الله نفسه فى الشراب الذى شربه فى بيت زوجته، وحنث أبو بكر أيضًا نفسه فى قصة مسطح.

(2/227)


وفيه: رفع ما يُرجى بركته، وإهداؤه لأهل الفضل، كرفع أبى بكر بقية الطعام المبارك إلى رسول الله وإلى من بحضرته. وفيه: أن آثار الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد تظهر على يدى غير النبى لبركة النبى عليه السلام، فتصح المعجزة منها فى زمانه، وتجوز فى غير زمانه من ذلك ما ليس بخرق عادة. وقول أبى بكر: (كُلوا لا هنيئًا) إنما خاطب بذلك أهله لا أضيافه. وفيه: أن الصديق الملاطف يجمل منه أن يهدى إلى الجليل من إخوانه يسير الهدية. وقولها: (قد عُرضوا) يريد أن خادم أبى بكر وابنه ومن رتب لخدمة الأضياف عرضوا الطعام على أضيافهم، فأبوا من أكله إلا بحضرة أبى بكر، وقد جاء هذا المعنى منصوصًا فى بدء الخلق فى باب: علامات النبوة فى الإسلام فى هذا الكتاب. وقوله: (يا غُنْثَرُ) هو من قول العرب: رجل أَغْثَر: أحمق، من ابن دريد، والغَثْرَاء: سفلة الناس وغوغاؤهم، فبنى فنعلا من أغثر على المبالغة فى السَّبِّ من هذا المعنى، وفنعل موجود فى اللغة، كقولهم: جندب وقنفذ، عن الأخفش. وقال الخطابى: غنثر مأخوذ من الغثارة، وهى الجهل، يقال: رجل غثر وأغثر إذا كان جاهلاً، وامرأة غثراء، وفى فلان غثارة، والنون فى الغنثر زائدة، وإنما سميت الضبع غثرًا لحمقها، وحكى بعض أهل اللغة الغنثرة: شرب الماء من غير عطش، رواه الخطابى من

(2/228)


طريق محمد بن المثنى، عن سالم بن نوح العطار، عن الجريرى، عن أبى عثمان، عن عبد الرحمن ابن أبى بكر: يا عنتر، والعنتر: الذباب، شبهه به تصغيرًا له وتحقيرًا لقدره، وحكى العنتر: الذباب، ثعلب، عن ابن الأعرابى، وقال: إنما سمى عنترًا لصوته، وقال غيره: العنتر: الأزرق من الذباب. قال المؤلف: والمحفوظ عن الرواة: يا غنثر، بالغين المعجمة بنقطة من فوقها، وقوله: (فجدَّع) ، يعنى تنقص وعاب أصل الجدع فى اللغة: القطع، يقال: جدعت الأنف وغيره قطعته.
- باب بَدْءُ الأذَانِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا) [المائدة 58] . وَقَوْلُهُ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة 9] .
/ 1 - فيه: أنس: قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ. / 2 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ قال: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ، فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمِ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلاَ تَبْعَثُونَ رَجُلا يُنَادِي بِالصَّلاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا بِلالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاةِ) .

(2/229)


اختلف العلماء فى وجوب الأذان، فعند مالك، وأبى حنيفة، والشافعى: الأذان سنة، وقال عطاء، ومجاهد: الأذان فرض، وهو قول الأوزاعى، واحتجوا بأن النبى، عليه السلام، أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وأمره على الوجوب، وحجةُ أهل المقالة الأولى أن أصل الأذان إنما يكون عن رؤيا رآها عبد الله بن زيد، فأصبح إلى النبى فأخبره برؤياه، فبينا هو يقصها إذ جاء عمر فقال: والله لقد رأيته مثل الذى رأى، فقال عليه السلام لعبد الله ابن زيد: (قم فألق على بلال فإنه أندى منك صوتًا) ، من رواية أهل المدينة والكوفة. فأما رواية أهل المدينة فرواية ابن إسحاق، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن زيد، عن أبيه مثله، وأما رواية أهل الكوفى فرواية شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد: أن عبد الله بن زيد أُرى الأذان فى المنام، فأتى النبى عليه السلام، فأخبره، فقال: (عَلِّمه بلالاً) . قال ابن القصار: فكان أصل الأذان عن رؤيا ومشورة، ولو كان واجبًا لابتدأه الرسول ولم يأخذه عن منام أحد، فإن قيل: فإن الأمر وإن جرى كذلك فقد يحصل واجبًا بعد ذلك، ألا ترى أن نبى الله حكم سعدًا فى سبى بنى قُريظة فكان حكمه واجبًا بعد ذلك، ألا ترى أن نبى الله حكم سعدًا فى سبى بنى قريظة فكان حكمه واجبًا، ومعاذًا تبع الرسول فى صلاةٍ ثم مضى، فقال عليه السلام: (سن لكم معاذ سنة فاتبعوها) . قيل: إن معاذًا وسعدًا لا يجوز أن يفعلا شيئًا بين يدى النبى إلا عن أمر ظهر لهما من دينه عليه السلام، بدلالة نصبها لهما، وليس كذلك الأذان إنما كان عن رؤيا، وأما قوله: (أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) ، فليس فى ظاهره إيجاب ولا ندب، وإنما هو للشفع

(2/230)


والوتر، وهل الأصل واجب أم لا؟ ، يحتاج إلى دلالة، والرسول قد يأمر بصفات فى السنة، ولا يدل أنها واجبة، بل إذا فعلت ودخل فيها وجب أن تفعل بصفاتها.
- باب الأذَانُ مَثْنَى مَثْنَى
/ 3 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: (أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ، إِلا الإقَامَةَ) . / 4 - ورواه خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ولم يقل فيه إلا الإقامة. اختلف العلماء فى صفة الأذان، فقال مالك، والليث، وأبو يوسف: الأذان مثنى مثنى، وأوله: (الله أكبر، الله أكبر) ، مرتين، وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى: الأذان مثنى مثنى، وأوله: (الله أكبر، الله أكبر) ، أربع مرات، واحتج هؤلاء بروايات رويت فى حديث أبى محذورة، وعبد الله بن زيد فيها: (الله أكبر، الله أكبر) ، أربع مرات، قالوا: وهى زيادة يجب قبولها. واحتج أهل المقالة الأولى بأنه قد روى من طرق صحاح فى أذان أبى محذورة وعبد الله ابن زيد: (الله أكبر) مرتين، وكذلك فى أذان سعد القرظ، قالوا: فلما وردت الآثار على هذا الاختلاف، ورأينا أهل المدينة يعملون: خلفهم عن سلفهم على المرتين لا يزيدون عليها، وينقلونه نقلاً متواترًا يقطع العذر، سقط معه حكم الزائد، وقول أنس: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) ، حجة فى ذلك أيضًا؛ لأن شفع الأذان تثنية، وإذا قال: الله أكبر أربع مرات، فقد خالف الخبر بذلك، ولم يشفع الأذان كله، ولم يكن هناك خبر

(2/231)


يعضد عملهم، فكان عملهم أقوى من كل شىء يرد من طريق خبر الواحد؛ لأن الأذان مما يتكرر كل يوم خمس كرات، ولا يؤخذ قياسًا، علمنا أنهم علموا ذلك من جهة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ فوجب الرجوع إلى ما هم عليه كما رجع من خالفهم إلى صاعهم ومُدِّهم. وقالت طائفة: الاختلاف فى هذه الآثار كلها يدل على الإباحة، فمن شاء أن يؤذن بكل ما روى منها؛ لأنه قد ثبت عن الرسول جميع ذلك، كما المتوضئ بالخيار، إن شاء توضأ مرة مرة، وإن شاء مرتين مرتين، هذا قول أحمد، وإسحاق، والطبرى.
3 - باب الإقَامَةُ وَاحِدَةٌ إِلا قَوْلَهُ (قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ
/ 5 - فيه: أَنَسِ قَالَ: أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَذَكَرْتُ لأيُّوبَ، فَقَالَ: إِلا الإقَامَةَ. اختلف العلماء فى الإقامة فقال مالك، وأهل الحجاز، والأوزاعى: الإقامة فرادى، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال الشافعى: الإقامة فرادى إلا قوله: (قد قامت الصلاة) ، فإنه يقولها مرتين، وفى مختصر ابن شعبان مثله. قال الثورى، وسائر الكوفيين: الإقامة مثنى مثنى كلها مثل الأذان، واحتجوا بما رواه هشام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبى محذورة أن الإقامة مثنى مثنى، قالوا: وهو قول على بن أبى طالب وأصحاب ابن مسعود. وحجةُ الشافعى ما رواه أيوب من قوله: إلا الإقامة فهى شفع،

(2/232)


قال: ويبين ذلك ما رواه شعبة عن أبى جعفر الفراء، عن مسلم، مؤذن كان لأهل الكوفة، عن ابن عمر قال: (كانت الإقامة على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) مرة مرة، غير أنه إذا قال: قد قامت الصلاة، قالها مرتين) . واحتج أهل المقالة الأولى بما رواه خالد الحذاء عن أبى قلابة، عن أنس قال: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) . قال أبو محمد الأصيلى: وقوله: (إلا الإقامة) ، هو من قول أيوب وليس من الحديث، قال ابن القصار: وكذلك رواه ابن جريج، عن عطاء، عن أبى محذورة: (أن الرسول علمه الأذان شفعًا والإقامة وترًا) ، ومثله فى رواية عبد الله بن زيد، وسعد القرظ، فإن قال الشافعى: قول أيوب: إلا الإقامة زيادة فى الحديث والزيادة يجب قبولها، قيل: الزائد أولى ما لم يعارض ما هو أقوى منه، وذلك عمل أهل المدينة وإجماعهم خلف عن سلف على إفراد الإقامة، ومحال أن يذهب عليهم شىء من جهة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مما يجرى فى اليوم والليلة خمس مرات ويعلمه غيرهم، ولو صحت زيادة أيوب وما رواه الكوفيون من تثنية الإقامة؛ لجاز أن يكون ذلك فى وقتٍ ما، ثم ترك لعمل أهل المدينة على الآخر الذى استقر الأمر عليه، ولا يجوز أن يظن بهم أنه خالفوا ولا قصدوا العناد، وبمثل هذا احتج ابن القصار على من خالف مالكًا فى كثير من المسائل، فاحتج بنقلهم وفعلهم فى ترك الزكاة فى الخضر والأجناس بالمد والصاع على من خالفهم.
4 - باب فَضْلِ التَّأْذِينِ
/ 6 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ

(2/233)


ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ، أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ، أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى) . فى هذا الحديث عظم فضل الأذان، وأن الشيطان ينافره ما لا ينافر سائر الذكر، ألا ترى أنه يقبل عند قراءة القرآن ويدبر عند الأذان، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا تغولت لكم الغيلان فأذنوا. وحكى مالك أن زيد بن أسلم استعمل على معذرٍ من معاذر بنى سليم كان انقطع عمله لما يتخيل فيه من الجن، فأمرهم زيد أن يؤذنوا فيه، ففعلوا ذلك فما تخيل لهم بعد ذلك جن، قال مالك: وأعجبنى ذلك من رأى زيد بن أسلم. فاختلف العلماء فى معنى هروبه عند الأذان ولا يهرب من الصلاة وفيها قراءة القرآن، فقال المهلب: إنما يهرب، والله أعلم، من اتفاق الكل على الإعلان بشهادة التوحيد وإقامة الشريعة كما يفعل يوم عرفة لما يرى من اتفاق الكل على شهادة التوحيد لله تعالى، وتنزل الرحمة عليهم، وييئس أن يردهم عما أعلنوا به من ذلك، وأيقن بالخيبة بما تفضل الله عليهم من ثواب ذلك، ويذكر معصية الله ومضادته أمره فلم يملك الحديث لما استولى عليه من الخوف. وقال غيره: إنما ينفر عن التأذين لئلا يشهد لابن آدم بشهادة التوحيد لقوله عليه السلام: (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة) ، وليس قول من قال: إنما ينفر من الأذان لأنه دعا إلى الصلاة التى فيها السجود الذى أباهُ بشىء؛ لأنه قد أخبر عليه السلام، أنه إذا قضى التثويب أقبل يُذَكِّرُه ما لم يَذْكُرْ، يخلط عليه صلاته، وكان فراره من الصلاة التى فيها السجود أولى لو كان كما زعموا.

(2/234)


وروى ابن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا نادى المنادى بالأذان هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء، وهى ثلاثون ميلاً من المدينة) ، وذكر ابن سفيان، عن سعيد بن المسيب، قال: بلغنا أنه إن خرج من المسجد بين الأذان والإقامة أنه سيصاب بمصيبة. وذكر عن أبى هريرة أنه كان فى المسجد فأذن المؤذن فخرج رجل، فقال أبو هريرة: (أما هذا فقد عصى الله ورسوله، أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا سمعنا الأذان ألا نخرج حتى نصلى) ، ويحتمل أن يكون معنى هذا النهى، والله أعلم، لئلا يشبه فعل الشيطان فى هروبه لئلا يسمع النداء. وقال الطبرى: قوله: (إذا ثُوبّ بالصلاة) ، يعنى صرخ بالإقامة مرة بعد مرة أخرى، ورجع، وكل مردد صوتًا فهو مثوب، ولذلك قيل للمرجع صوته فى الأذان بقوله: (الصلاة خير من النوم) ، مُثوِّبَ وأصله من ثاب يثوب، إذا رجع إليه، ومنه قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) [البقرة: 125] ، يعنى أنهم إذا انصرفوا منه رجعوا إليه. وجمهور العلماء على أن الإقامة للصلاة سنة، ولا خلاف بينهم أن قول المؤذن فى نداء الصبح (الصلاة خير من النوم) ، يقال له: تثويب، وروى هشيم، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أنس قال: ما كان التثويب إلا فى صلاة الغداة إذا قال المؤذن: حى على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم.

(2/235)


وقال ابن الأنبارى: إنما سمى (الصلاة خير من النوم) تثويبًا؛ لأنه دعاء ثانٍ إلى الصلاة وذلك أنه لما قال: حى على الصلاة، حى على الفلاح، وكان هذا دعاء ثم عاد فقال: الصلاة خير من النوم، دعا إليها مرة أخرى. وقال الطحاوى: الأصل فى التثويب أن الرجل إذا جاء فزعًا أو مستصرخًا لوح بثوبه، فكان ذلك كالدعاء والإيذان، ثم كثر ذلك حتى سمى الدعاء تثويبًا، قال ذو الرمة: وإن ثوب الداعى بها يال خندف والعامة لا تعرف التثويب فى الأذان إلا قول المؤذن فى الفجر (الصلاة خير من النوم) ، وإنما سمى بذلك؛ لأن المؤذن يرجع إليه مرة بعد أخرى، يقال: ثابت إلى المريض نفسه: رجعت إليه قوته، وثاب إلى المرء عقله، ومنه اشتق الثواب وتأويله: ما يئول إليك من فضل الله وجزاء الأعمال الصالحة، ومنه سميت المرأة ثيبًا، أنها تثوب إلى أهلها من بيت زوجها. قال الطحاوى: وقد كره قوم أن يقال فى نداء الصبح: (الصلاة خير من النوم) ، واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد فى صفة الأذان وليس فيه ذلك، وخالفهم جمهور الفقهاء واستحبوا ذلك، واحتجوا بما رواه ابن جريج قال: أخبرنى عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبى محذورة، عن أبى محذورة: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) علمه فى نداء الصبح: الصلاة خير من النوم مرتين) ، ورواه أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبى محذورة مثله، وقد قال أنس، وابن عمر: إنه كان التثويب فى نداء الصبح: الصلاة خير من النوم مرتين بعد قوله: حى على الفلاح.

(2/236)


قال المهلب: وقوله: (اذكر كذا لِمَا لم يكن يذكر) ليسهيه عن صلاته. فيه من الفقه: أن من نسى شيئًا وأراد أن يتذكره فليصل ويجهد نفسه فيها من تخليص الوسوسة وأمور الدنيا، فإن الشيطان لابد أن يحاول تسهيته وإذكاره أمور الدنيا؛ ليصده عن إخلاص نيته فى الصلاة. وقد روى عن أبى حنيفة: أن رجلاً دفن مالاً، ثم غاب عنه سنين كثيرة، ثم قدم فطلبه فلم يهتد لمكانه، فقصد أبا حنيفة فأعلمه بما دار له فقال له: صل فى جوف الليل وأخلص نيتك لله تعالى، ولا تجد على قلبك شيئًا من أمور الدنيا، ثم عرفنى بأمرك، ففعل فذكر فى الصلاة مكان المال، فلما أصبح أتى أبا حنيفة فأعلمه بذلك، فقال بعض جلسائه: من أين دللته على هذا، يرحمك الله؟ فقال: استدللت من هذا الحديث وعلمت أن الشيطان سيرضى أن يذكره موضع ماله ويمنعه الإخلاص فى صلاته، فعجب الناس من حسن انتزاعه واستدلاله.
5 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا، وَإِلا فَاعْتَزِلْنَا. / 7 - فيه: أَبو سَعِيدٍ أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَه: (إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وفيه: أن الشغل بالبادية واتخاذ الغنم من فعل السلف الصالح الذى ينبغى لنا الاقتداء بهم، وإن كان فى ذلك ترك للجماعات ففيه عزلة عن الناس، وبُعد عن فتن الدنيا وزخرفها، وقد جاء أن الاعتزال

(2/237)


للناس عند تغير الزمان وفساد الأحوال مرغب فيه، وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر، يفر بدينه من الفتن) . قال المهلب: وفيه فضل الإعلان بالسنن وإظهار أمور الدين، وإنما أمره برفع صوته بالنداء ليسمعه من بعد منه فيكثر الشهداء له يوم القيامة، وقد اختلف فى قوله عليه السلام: (ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة) ، فقالت طائفة: الحديث على العموم فى كل شىء، وجعلوا الجمادات وغيرها سامعة وداخلة فى معنى هذا الحديث. وقالت طائفة: لا يراد بالحديث إلا من يجوز سماعه من الجن والإنس والملائكة وسائر الحيوان، قالوا: والدليل على ذلك أنه لم يذكر إلا الجن والإنس ثم قال: (ولا شىء) ، يريد من صنف الحيوان السامع والملائكة والحشرات والدواب. ولا يمتنع أن الله، تعالى، يقدر يسمع الجمادات، لكنا لا نقول ذلك مع جوازه إلا بخبر لا يحتمل التأويل، وليس فى هذا الحديث ما يقطع به على هذا المعنى، وقول عمر لمؤذنه: (أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا) ، إنما نهاه عن التطريب فى أذانه والخروج عن الخشوع، وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد: (أن مؤذنًا أذن فطرب فى أذانه فقال له عمر: أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا) . وفيه: أن الأذان للمنفرد مرغب فيه مندوب إليه، وقد روى عن الرسول أنه قال: (من أذن فى أرض فلاة، وأقام وحده، صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال) .

(2/238)


6 - باب مَا يُحْقَنُ بِالأذَانِ مِنَ الدِّمَاءِ
/ 8 - فيه: أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: (أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَغْزُ بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا، رَكِبَ راحلته. . .) وذكر الحديث. قال المهلب: إنما يحقن الدم بالأذان؛ لأن فيه الشهادة بالتوحيد لله والإقرار بالرسول، وقوله: (لم يغز حتى يصبح فإن سمع أذانًا كف) ، فهذا عند العلماء لمن قد بلغته الدعوة، وعلم ما الذى يدعو إليه داعى الإسلام، فكان يمسك عن هؤلاء حتى يسمع الأذان؛ ليعلم إن كانوا مجيبين للدعوة أم لا؛ لأن الله قد وعده إظهار دينه على الدين كله، فكان يطمع بإسلامهم، وليس يلزم اليوم الأئمة أن يكفوا عمن بلغته الدعوة لكى يسمعوا أذانًا؛ لأنه قد علم عناد أهل الحرب وغائلتهم للمسلمين، وينبغى أن تنتهز الفرصة فيهم.
7 - باب مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي
/ 9 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الرَسُولَ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) . / 10 - وفيه: مُعَاوِيَةَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وإذا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: ينبغى لمن يسمع الأذان أن يقول مثلما يقول المؤذن حتى يفرغ من أذانه كله على

(2/239)


عموم حديث أبى سعيد، وإليه ذهب الشافعى، وقالت طائفة: إنما يقول مثلما يقول المؤذن فى التكبير الشهادتين، ويقول فى موضع قوله: حى على الصلاة، حى على الفلاح: لا حول ولا قوة إلا بالله، على ما جاء فى حديث معاوية، قالوا: وهو مفسر لحديث أبى سعيد، هذا قول مالك، والكوفيين، ومن الحجة لهم أيضًا ما رواه بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا تشهد المؤذن فقولوا مثلما يقول) . وقال المهلب: ما بعد الشهادتين إنما هو إعلام للناس ودعاء لهم إلى الصلاة، فإذا كان سرًا لم يكن له معنى؛ لأنه لا يسمع به أحد فيكون له فضل الدعوة إلى الصلاة، والسامع إنما يقول ذلك على وجه الذكر لا على وجه دعاء الناس إلى الصلاة، فينبغى أن يجعل مكان ذلك: لا حول ولا قوة إلا بالله، كما روى معاوية فهى مفتاح من مفاتيح الجنة. واختلفوا فى المصلى يسمع الأذان، فقال مالك: يقول مثل قوله من التكبير والتشهد فى النافلة ولا يقوله فى الفريضة، قال: وهذا الذى يقع بنفسى أنه أريد بهذا الحديث، وهو قول الليث، وقال ابن شعبان: روى أبو المصعب عن مالك أنه يقول فى الفريضة والنافلة، وهو قول ابن وهب واختاره ابن حبيب؛ لأنه تهليل وتكبير، جائزٌ أن يقوله وإن لم يسمع أذانًا، وفى المجموعة لابن عبدوس، عن سحنون: لا يقوله أحد فى فريضة ولا نافلة، وروى أنه أريد بالحديث من ليس فى صلاة، وهو قول الشافعى، وحجته أن المؤذنين يؤذنون يوم عرفة والإمام يخطب فلا يقول مثل ما يقولون ويترك ما هو فيه، فالمصلى أولى بذلك.

(2/240)


قال الطحاوى: لم أجد لأصحابنا فى هذا نصًا، غير أن أبا يوسف قال: من أذن فى صلاته إلى آخر الشهادتين لم تفسد صلاته إن أراد الأذان، وفى قول أبى حنيفة: لم تفسد صلاته، فهذا يدل من قولهم أن من سمع الأذان فى الصلاة أنه لا يقوله. وقل بعض العلماء: القياس أنه لا فرق بين المكتوبة والنافلة فى هذا الباب؛ لأن الكلام محرم فيهما، وقوله: حى على الصلاة، حتى على الفلاح: كلام، فلا يصلح فى شىء من الصلاة، وقد قال ابن المواز: إنه من قاله فى صلاته عامدًا أو قال: الصلاة خير من النوم أنها تفسد صلاته، قال ابن خويز منداد، عن مالك: هو مسىء ولا تبطل صلاته، وأما سائر الأذان فمن الكلام الذى يصلح فى الصلاة. وقال الطحاوى: وقد قال قوم: إن قول الرسول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) على الوجوب، وخالفهم آخرون وقالوا: هو على الاستحباب والندب، واحتجوا بما رواه قتادة عن أبى الأحوص، عن علقمة، عن عبد الله قال: (كنا مع الرسول فى بعض أسفاره، فسمع مناديًا وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال رسول الله: (على الفطرة) ، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (خرج من النار) ، فابتدرناه، فإذا هو صاحب ماشية أدركته الصلاة فصلى) ، قال الطحاوى: فهذا رسول الله سمع المنادى، فقال غير ما قال؛ فدل أن قوله عليه السلام: (فقولوا مثلما يقول المؤذن) على غير الإيجاب، وأنه على الندب وإصابة الفضل، كما علمهم من الدعاء الذى أمرهم أن يقولوه عند إدبار الصلوات وشبه ذلك.

(2/241)


8 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ
/ 11 - فيه: جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال الطحاوى: وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقول عند الأذان غير ما جاء فى الحديث ويأمر به، وذلك ما روى الليث عن حكيم بن عبد الله بن قيس، عن عامر بن سعد ابن أبى وقاص، عن أبيه، أن رسول الله قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله، عز وجل، ربا، وبالإسلام دينًا؛ غفر له) . وما رواه محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن حفصة بنت أبى كثير، عن أمها، عن أم سلمة قالت: (علمنى الرسول فقال: إذا كان عند أذان المغرب فقولى: اللهم هذا استقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك، اغفر لى) . قال الطحاوى: فهذه الآثار تدل على أنه أريد بها ما يقال عند الأذان من الذكر، فكل الأذان ذِكْر غير: حى على الصلاة، حى على الفلاح، فإنهما دعاء إلى الصلاة، والذكر أولى أن يقال. وقال المهلب: فيه الحض على الدعاء فى أوقات الصلوات حين تفتح أبواب السماء للرحمة، وقد جاء فى الحديث: (ساعتان لا يرد فيهما الدعاء حضرة النداء بالصلاة، وحضرة الصف فى سبيل الله) ، فدلهم عليه السلام على أوقات الإجابة وأن يدعى بمعنى ما فتح له أبواب السماء وهو قوله: (رب هذه الدعوة التامة) ، يعنى الأذان

(2/242)


المشتمل على شهادة الإخلاص لله تعالى، والإيمان بنبيه، عليه السلام، وبذلك تم استحقاق الدخول فى الإسلام، و (الصلاة القائمة) التى هى أول الفرائض بعد الإيمان بالله، فإذا دعا للنبى عليه السلام، بالوسيلة والمقام المحمود فقد دعا لنفسه ولجميع المسلمين، وقوله: (حلت له شفاعتى) معناه غشيته وحلَّت عليه، لا أنها كانت حرامًا عليه قبل ذلك، و (اللام) ، هاهنا بمعنى (على) ، وذلك موجود فى القرآن، قال تعالى: (ويخرون للأذقان سجدًا) [الإسراء: 109] ، يعنى على الأذقان سجدًا، وقوله: (رب هذه الدعوة) لا حجة فيه للمعتزلة الذين يقولون بخلق الصفات، تعالى الله عن قولهم؛ لأن الرب فى اللغة يقال لغير الخالق للشىء، وهو على ضروب: فربُّ الشىء بمعنى مالكه ومستحقه كما قال يوسف: (إنه ربى أحسن مثواى) [يوسف: 23] ، أى أنه مالكى، والله تعالى، وإن كان لا يجوز أن يوصف بأنه مالك لصفاته فهو مستحق أن يوصف بها؛ لأن الملك والاستحقاق معناهما واحد.
9 - باب الاسْتِهَامِ فِي الأذَانِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الأذَانِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ. / 12 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: قال رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) .

(2/243)


قال أبو جعفر الداودى: قوله عليه السلام: (لو يعلمون ما فى النداء والصف الأول) ، يريد لو يعلمون ما فيه من عظم الثواب لبادروا إليه جميعًا، فلا يبقى من يقيم لهم الجمعة؛ لأن إمام الجمعة لا يكون مؤذنًا، وإنما يؤذنون بين يديه إذا جلس على المنبر، ولذلك قال عمر: لولا الخلاف لأَذَّنُتُ. أما إقراع سعد بين الذين اختلفوا فى الأذان فإن الطبرى ذكر أنه افتتحت القادسية صدر النهار واتبع الناس العدو، فرجعوا وقد حانت صلاة الظهر وأصيب المؤذن؛ فتشاج الناس فى الأذان حتى كادوا يجتلدون بالسيوف، فأقرع بينهم سعد فخرج سهل رجل فأذن. فالقرعة أصل من أصول الشريعة فى تبدية من استوت دعواهم فى الشىء، وفضل الصف الأول على غيره لاستماع القرآن إذا جهر الإمام والتكبير عند تكبيره والتأمين عند فراغه من فاتحة الكتاب، وقد قيل: إن المراد بذكر الصف الأول المسابقة إلى المسجد؛ لأن مَنْ بَكَّر إلى الصلاة وانتظرها وإن لم يصل فى الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى فى الصف الأول؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة، والتهجير: السبق إلى المسجد فى الهواجر، فمن ترك قائلته وقصد إلى المسجد ينتظر الصلاة، فهو من صلاة وهو فى رباط. وقوله: (ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا) ، وإنما خاطب بذكر العتمة من لا يعرف العشاء إلا بهذا الاسم فخاطبهم بما يعقلون، ومن علم أن اسمها العشاء لم يخاطب إلا بما فى القرآن قاله الداودى. قال الطبرى: وإنما خص العتمة والصبح دون سائر الصلوات للزومها فى أثقل الأوقات، العشاء وقت الدعة والسكون من كل تعب،

(2/244)


وقد جعل الله الليل سكنًا، وفيها تكلف الحركة فى ظلمة الليل مع خوف الهوام الضارة فى الطريق، وأما الفجر فوقت اشتداد النوم لمحبة الناس استدامة الراحة، فكان خروجًا من الدعة إلى تعب الوضوء والمشى إلى المساجد وليس كسائر الصلوات، وبين ذلك قوله: (أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر) ، وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل فى صلاة العشاء والصبح أَسأْنا به الظن، وقال عمر: إنى لأشهد الفجر فى جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة، وقال عثمان: من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح كأنما قام ليلة، وقوله: (ولو حَبْوًا) ، يعنى لأتاهما من لا يقدر على المشى كالمقعد وشبهه.
- باب الْكَلامِ فِي الأذَانِ
وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ أَنْ يَضْحَكَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ. / 13 - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أنه خطبهم فِي يَوْمٍ رَدْغٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ، فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ) . قال المؤلف: رخص فى الكلام فى الأذان عروة بن الزبير، وعطاء وقتادة، وبه قال عبد العزيز بن أبى سلمة وأحمد بن حنبل، وكرهه النخعى، وابن سيرين، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعى، إلا أنه روى عن الكوفيين أنه إن تكلم فى أذانه يجزئه ويبنى، وقال ابن القاسم فى المجموعة: إذا خاف على صبى أو أعمى أو دابة تقع فى بئر وشبهه تكلم وبنى، وقال الزهرى: إن تكلم فى الإقامة أعادها، وهذا الحديث يدل أنه من

(2/245)


تكلم يبنى ولا يبتدئ؛ لأنه قد قال: الصلاة فى الرحال، وتمادى فى أذانه وهو حجة على من خالفه. قال المهلب: وقوله: (الصلاة فى الرحال) ، وأباح التخلف عن الجمعة بعد أن قال: (إنها عزمة) يدل أنه صلى الجمعة وحدها ولم يصل بعدها العصر، فهو حجة لمالك أنه لا يجوز الجمع بين الظهر والعصر لعذر المطر. وقال ابن دريد: الرزغة: الطين الذى يبل القدم، وقد أرزغ المطر الأرض، وقال صاحب (العين) : الرزغة أشد من الردغة، والرازغ المرتطم فيها.
- باب أَذَانِ الأعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ
/ 14 - فيه: ابن عمر أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) ، قَالَ: (وَكَانَ رَجُلا أَعْمَى لا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ) . قال المؤلف: اختلفوا فى أذان الأعمى، فكرهه ابن مسعود، وابن الزبير، وكره ابن عباس إقامته وأجازه طائفة، وروى أن مؤذن النخعى كان أعمى، وأجازه مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد إذا كان له من يعرفه الوقت؛ لأن أذان ابن أم مكتوم إنما كان يؤذن بعد أن يقال له: أصبحت أصبحت. قال المهلب: وفيه جواز شهادة الأعمى على الصوت؛ لأنه ميز صوت من علمه الوقت ممن يثق به، فقام أذانه على قوله مقام شهادة المخبر له، وفيه: أيضًا أنه يجوز أن يذكر الرجل بما فيه من العاهات؛

(2/246)


ليستدل بذلك على ما يحتاج إليه، وفيه: أن ينسب الرجل إلى أمه إذا كان معروفًا بذلك، وفيه: تكنية المرأة، وفيه: تكرير اللفظ للتأكيد.
- باب الأذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ
/ 15 - فيه: حَفْصَةُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ، وَبَدَا الصُّبْحُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلاةُ) . / 16 - وفيه: عَائِشَةَ أيضًا قالت: (كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإقَامَةِ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ) . / 17 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ الرسول: (إِنَّ بِلالا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) . الأذان بعد الفجر لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما اختلفوا فى جوازه قبل الفجر على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وفيه مواظبة رسول الله على ركعتى الفجر وتخفيفه لهما. قال المؤلف: وحديث حفصة قد اختلفت ألفاظه، فرواه عبد الله بن يوسف التنيسى عن مالك: (أن رسول الله. . .) ، وخالفه سائر الرواة عن مالك: (أن رسول الله كان إذا سكت المؤذن عن الأذان بصلاة الصبح) ، مكان (اعتكف المؤذن) ، وروى عن عائشة مثل هذا اللفظ: (إذا سكت المؤذن. . .) ، وهو يوافق رواية الجماعة عن مالك، ذكره البخارى فى باب (من انتظر الإقامة) ، بعد هذا.

(2/247)


فإن كانت رواية التنيسى عن مالك محفوظة ولم تكن غلطًا، فوجه موافقتها للترجمة أن المؤذن كان يعتكف للصبح، أى ينتظر الصبح لكى يؤذن، والعكوف فى اللغة: الإقامة، فكان يرقب طلوع الفجر ليؤذن فى أوله، فإذا طلع الفجر أذن، فحينئذ كان يركع الرسول ركعتى الفجر قبل أن تقام الصلاة، ويشهد لصحة هذا المعنى رواية الجماعة عن مالك: (كان إذا سكت المؤذن صلى ركعتين خفيفتين) ، فدل أن ركوعه كان متصلاَ بأذانه، ولا يجوز أن يكون ركوعه إلا بعد الفجر، فكذلك كان الأذان بعد الفجر، وعلى هذا المعنى حمله البخارى، ولذلك ترجم له باب (الأذان بعد الفجر) ، وأردف عليه حديث عائشة: (أن النبى كان يصلى ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح) ، ليدل أن هذا النداء كان بعد الفجر. فمن أنكر هذا لزمه أن يقول أن صلاة الصبح لم يكن يؤذن لها بعد الفجر، وهذا غير سائغ من القول. وأما أذان ابن أم مكتوم فقد اختلف العلماء فى تأويله، فقال ابن حبيب: ليس معنى قوله: (أصبحت أصبحت) إفصاحًا بالصبح على معنى أن الصبح قد انفجر وظهر، ولكنه على معنى التحذير من إطلاعه والتحضير له على النداء بالأذان خيفة انفجاره، ومثل هذا قال أبو محمد الأصيلى، وأبو جعفر الداودى، وسائر المالكيين، وقالوا: معنى قوله: (أصبحت أصبحت) ، قارب الصباح كما قال تعالى: (فإذا بلغن أجلهن) [البقرة: 234] ، يريد إذا قارب ذلك؛ لأنه إذا انقضى أجلها وتمت عدتها فلا سبيل لزوجها إلى مراجعتها وقد انقضت عدتها، قالوا: ولو كان أذان ابن أم مكتوم بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أذانه؛ للإجماع أن الصيام واجب من أول الفجر. وأما مذهب البخارى فى هذا الحديث على ما ترجم به فى هذا

(2/248)


الباب فأن أذانه كان بعد طلوع الفجر، والحجة له على ذلك نص ودليل، فأما الدليل فقوله عليه السلام: (إن بلالاً ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم) ، فلو كان أذان ابن أم مكتوم قبل الفجر لم يكن لقوله: (إن بلالاً ينادى بليل) معنى؛ لأن أذان ابن أم مكتوم أيضًا كذلك هو فى الليل، وإنما يصح الكلام أن يكون نداء ابن أم مكتوم فى غير الليل فى وقتٍ يحرم فيه الطعام والشراب اللذان كانا مباحين فى وقت أذان بلال. وقد روى هذا المعنى نصًا فى بعض طرق هذا الحديث، ذكره البخارى فى كتاب الصيام فى باب قول النبى، عليه السلام: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال) من رواية عائشة قالت: (إن بلالاً يؤذن بليل، فقال عليه السلام: كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر) ، وهذا نص قاطع للخلاف. وأما على من اعتل أن أذانه لو كان بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أذانه للإجماع أن الصيام واجب أول الفجر، فإنها علة لا توجب فساد معنى الصيام، وإنما كان أذان ابن أم مكتوم علامة لتحريم الأكل لا للتمادى فيه، ولابد أنه كان له من يراعى له الوقت ممن يقبل قوله ويثق بصحته من وكل بذلك منه. وقد قال ابن القاسم: إنه من طلع عليه الفجر وهو يأكل أو يجامع فليلق ما فى فيه ولينزل عن امرأته، ولا خلاف فى الأكل والشرب، وإنما اختلفوا فى الوطء على ما يأتى ذكره فى كتاب الصيام، ولم يكن الصحابة ليخفى عليهم إيقاع الأكل فى غير وقته فيزاحمون به أذان ابن أم مكتوم، بل كانوا أحوط لدينهم وأشد تحرزًا من ذلك، وقد بين هذا ما رواه شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أنيسة، وكانت قد خرجت مع

(2/249)


الرسول (أنه كان إذا نزل بلال وأراد ابن أم مكتوم أن يصعد تعلقوا به، وقالوا: كما أنت حتى نتسحر) .
- باب الأذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ
/ 18 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلالٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ، لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ، أَوِ الصُّبْحُ، وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ، وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ، وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ، حَتَّى يَقُولَ: هَكَذَا) . ومَدَّ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. / 19 - وفيه: عَائِشَةَ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) . واختلف العلماء فى جواز الأذان للصبح قبل طلوع الفجر، فأجاز ذلك طائفة، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال ابن حبيب: يؤذن للصبح وحدها قبل الفجر، وذلك واسع من نصف الليل، وذلك آخر أوقات العشاء إلى ما بعد ذلك. وقال ابن وهب: لا يؤذن لها قبل السدس الآخر من الليل، وقاله سحنون، وقالت طائفة: لا يجوز الأذان لها إلا بعد الفجر، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ومحمد، واحتجوا بحديث ابن مسعود أنه قال عليه السلام: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم، ولينبّه نائمكم) . قال الطحاوى: فأخبر أن ذلك النداء من بلال لينبه النائم ويرجع القائم لا للصلاة، وبما رواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر (أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبى أن يرجع

(2/250)


فينادى: (ألا إن العبد قد نام) ، فهذا ابن عمر يروى هذا وهو قد روى أن بلالاً ينادى بليل؛ فثبت أن ما كان من ندائه قبل طلوع الفجر إنما كان لغير الصلاة، وأن ما أنكره عليه إذ فعله كان للصلاة، واحتج أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام: (إن بلالاً ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم) ، قال ابن القصار: فأخبر عليه السلام أن نداء بلال للصبح يقع فى الوقت الذى يجوز لمن أراد الصوم أن يأكل ويشرب، وهو قبل الفجر. وأما قولهم: إن نداء بلال كان لِيُسَحِّرَ الناس بأذانه ويستيقظ النائم وينام القائم كما جاء فى الخبر، فالجواب: أنه لو أراد به السحور فقط لقال حى على السحور، ولم يقل حى على الصلاة فيدعوهم، وهو يريد أن يدعوهم إلى السحور، فشأنه يدعوهم إلى الصلاة، وقد يكون لهما جميعًا فيكون أذانه حضًا على الصلاة، وإن احتاج أحد إلى غسل اغتسل، أو يكون فيهم من عادته صلاة الليل ذلك الوقت، أو يكون إنسانًا قائمًا فيعرف أنه قد بقى عليه وقت يستريح فيه بنومه كما كان يفعل الرسول، عليه السلام، فهذا معنى قوله: (ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم) ، وهذا يحتاج إليه فى شهر رمضان وغيره ممن يصوم درهه أو عليه نذر، وقوله: (إن بلالاً ينادى بليل) ، أى إن من شأنه أن يؤذن بليل الدهر كله، فإذا جاء رمضان فلا يمنعنكم أذانه المعهود من سحوركم، وفى إجماع المسلمين على أن النافلة بالليل والنهار لا أذان لها دليل بين أن أذانه كان لصلاة الصبح. قال المهلب: وفيه أن الإشارة تكون أقوى من الكلام، وقوله: (ليس الفجر هكذا) يريد أن الفجر ليس هو هذا الفجر الأول المعترض فى الأفق، وذلك لا حكم له، وإنما هو علامة للفجر الثانى الذى يُحِلّ

(2/251)


ويحرم، الطالع فى مشرق الشمس المستطير إلى المغرب، ولذلك مَدَّ زهير سبابتيه عن يمينه وشماله دلالة على طلوع الفجر وانتشاره.
- باب كَمْ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ
/ 20 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ، ثَلاثًا، لِمَنْ شَاءَ) . / 21 - وفيه: أَنَسِ قَالَ: كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّسُولُ، وَهُمْ كَذَلِكَ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ شَيْءٌ، قَالَ شُعْبَةَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلا قَلِيلٌ. وترجم له: بين كل أذانين صلاة لمن شاء. قال بعض الفقهاء: أما كم بين الأذان والإقامة فى الصلوات كلها فلا حَدَّ فى ذلك أكثر من اجتماع الناس، وتمكن دخول الوقت. وأما قوله: (بين كل أذانين صلاة) ، فإنه يريد بين الأذان والإقامة موضع صلاة لمن شاء، لا خلاف فى ذلك بين العلماء إلا المغرب وحدها، فإنهم اختلفوا فى الركوع قبلها، فأجازه أحمد وإسحاق، واحتجا بهذا الحديث، وأباه سائر الفقهاء، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوعبًا، إن شاء الله.

(2/252)


- باب مَنِ انْتَظَرَ الإقَامة
/ 22 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالأولَى مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ، قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ، بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الْفَجْرُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلإقَامَةِ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل على أن ما جاء فى الحض على التهجير والترغيب فى الاستباق إلى المساجد، إنما كان لمن هو على مسافة من المسجد لا يسمع فيها الإقامة من بيته، ويخشى إن لم يبكر أن يفوته فضل انتظار الصلاة، وأما من كان مجاور المسجد حيث يسمع الإقامة ولا تخفى عليه، فانتظارها فى داره كانتظاره لها فى المسجد، له أجر منتظر الصلاة؛ لأنه لا يجوز أن يترك الرسول الأفضل من الأعمال فى خاصته ويحض عليها أمته، بل كان يلتزم التشديد فى نفسه، ويحب التخفيف على أمته، ولو لم يكن له فى بيته فضل الانتظار لخرج إلى المسجد قبل الإقامة، ليأخذ بحظ من الفضل، والله أعلم. وقد قال أبو سليمان الخطابى: (سكب) المؤذن، بالباء، رواه عن عبد العزيز بن محمد، عن الجنيد، قال سويد: عن ابن المبارك، عن الأوزاعى، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، قال سويد: سكب: يريد أَذَّنَ، والسَّكْبُ: الصَّبُّ، وأصله فى الماء يُصَبُّ، وقد يستعار فيستعمل فى القول والكلام كقول القائل: أفرغ فى أذنى كلامًا لم أسمع مثله، وأنشد ابن دريد: (لا يفرغن فى أذنى

(2/253)


مثلها) ، وفى الحديث: (ويل لأقماع القول) ، وهم الذين يسمعون ولا يعملون به، شبه آذانهم بالأقماع يصب فيها الكلام صب الماء فى الإناء، وهذا الذى رواه سويد، عن ابن المبارك له وجه فى الصواب، ولا يدفع ذلك رواية من روى (سكت) ، بالتاء؛ لأنها بينة المعنى فى الصواب، وقد تأتى (الباء) بمعنى (من) ، و (عن) فى كلام العرب كقوله تعالى: (الرحمن فاسأل به خبيرًا) [الفرقان: 59] ، أى عنه، وقوله: (عينًا يشرب بها عباد الله) [الإنسان: 6] ، أى يشرب منها، وممكن أن يكون، والله أعلم، حمل الراوى لهذا الحديث على أن يرويه سكب بالباء، دون التاء؛ لأن المشهور فى سكت أن تكون معلقة (بعن) ، أو (من) ، كقولهم: سكت عن كذا، أو سكت من كذا، فلما وجد فى الحديث مكان (من) و (عن) الباء ظن أنه (سكب) من أجل مجىء الباء بعدها، وقد ذكرنا أن الباء تأتى بمعنى (عن) و (من) ، وكل الروايتين خارج المعنى، والله أعلم.
- باب مَنْ قَالَ يُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ
/ 23 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ (أَتَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا شَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ: ارْجِعُوا، فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) . قال المؤلف: هكذا روى هذا الحديث وهيب، عن أيوب

(2/254)


(وصلوا) ، ورواه عبد الوهاب، عن أيوب فى كتاب خبر الواحد (وصلوا كما رأيتمونى أصلى) ، وقصر وهيب فى هذه الزيادة، وبها يتم الحديث. والمؤذن الواحد يجزئ فى السفر والحضر، وقد اختلفت الآثار، كم كان يؤذن للنبى؟ . فروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لرسول الله مؤذنان: ابن أم مكتوم، وبلال، وقال السائب ابن أخت نَمر: ما كان للنبى عليه السلام، إلا مؤذن واحد يؤذن إذا قعد على المنبر ويقيم إذا نزل، ثم أبو بكر، ثم عمر كذلك، حتى كان عثمان وفشا الناس وكثروا، زاد النداء الثالث عند الزوراء. قال المهلب: وإنما اشترط السن فى الإمامة لعلمه، عليه السلام، باستوائهم فى القراءة والفقه، فطلب الكمال بالسن وسيأتى الكلام فى هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله.
- باب الأذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً وَالإقَامَةِ
وَكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ وَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ. / 24 - فيه: أَبو ذَرٍّ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَم: (إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) . / 25 - وفيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: (أَتَى رَجُلانِ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا، فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) .

(2/255)


/ 26 - وفيه: نَافِعٌ عن ابْنُ عُمَرَ: أَذَّنَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا أَنْ يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ) . / 27 - وفيه: أَبو جُحَيْفَةَ قَالَ: (رَأَيْتُ النبى (صلى الله عليه وسلم) بِالأبْطَحِ، فَجَاءَهُ بِلالٌ، فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، وَأَخْرَجَ الْعَنْزَةِ، فَرَكَزَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالأبْطَحِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ) . اختلف العلماء فى الأذان والإقامة فى السفر، فاستحب طائفة أن يؤذن المسافر ويقيم لكل صلاة، روى ذلك عن سلمان، وعبد الله بن عمرو، وعن سعيد بن المسيب مثله، وهذا قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقالت طائقة: هو بالخيار إن شاء أذن، وإن شاء أقام، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وهو قول عروة، والثورى، والنخعى، وقالت طائفة: يجزئه إقامة، روى ذلك عن مكحول، والحسن البصرى، والقاسم، وكان ابن عمر يقيم فى السفر لكل صلاة إلا الصبح، فإنه كان يؤذن لها ويقيم. وفى المختصر عن مالك: ولا أذان على مسافر، وإنما الأذان على من يجتمع إليه لأذانه، وقال عطاء: إذا كنت فى سفر فلم تؤذن ولم تقم فأَعِدِ الصلاة، وقال مجاهد: إذا نسى الإقامة فى سفر أعاد،

(2/256)


والحجة لهما قوله عليه السلام، للرجلين: (أذنا وأقيما) ، قالا: وأمره على الوجوب، والعلماء على خلاف قول عطاء، ومجاهد؛ لأن الإيجاب يحتاج إلى دليل لا منازع فيه، وجمهور العلماء على أنه غير واجب فى الحضر، والسفرُ الذى قصرت فيه الصلاة عن هيئتها أولى بذلك. قال ابن القصار: والجواب عن قوله للرجلين: (أذنا وأقيما) ، فإنه أراد الفضل بدلالة قوله: (أذِّنَا) ، والواحد يجزئ عندهم. وأحاديث هذا الباب محمولة عند العلماء على استحباب الأذان والإقامة فى السفر، وقد جاءت آثار فى ترغيب الأذان والإقامة فى أرض فلاة، وأنه من فعل ذلك يصلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال.
- باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأذَانِ
وَيُذْكَرُ عَنْ بِلالٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. / 28 - وفيه: أَبو جُحَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى بِلالا يُؤَذِّنُ، فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا بِالأذَانِ. قال المؤلف: إنما يتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا، ليعم الناس باستماعه،

(2/257)


وأما إدخاله أصبعيه فى أذنيه، فذلك ليتقوى على تأدية صوته، وإسماعه الناس، وهذا كله مباح عند العلماء، فما كان أندى لصوته، كان له فعله. وقال ابن سيرين والحسن: لا بأس أن يدخل أصبعيه فى أذنيه وهو قول الكوفيين، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: ذلك واسع. وقال إبراهيم: يستقبل المؤذن بالأذان والشهادة والإقامة القبلة، فإذا قال: حى على الصلاة، قال: بوجهه عن يمينه وشماله، وهو قول الحسن البصرى، وكره ابن سيرين أن يستدير فى أذانه. وفى (المدونة) : أنكر مالك الاستدارة إنكارًا شديدًا، قال ابن القاسم: وبلغنى عنه أنه قال: إن كان يريد أن يسمع فلا بأس به. وحديث أبى جحيفة حجة على من أنكر الاستدارة؛ لأن قوله: (جعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا) يدل على استدارته، وقد روى ابن أبى شيبة هذا المعنى قال: حدثنا عباد ابن العوام، عن حجاج، عن عون بن أبى جحيفة، عن أبيه: (أن بلالاً ركز العنزة، وأذن، فرأيته يدور فى أذانه) ، ولا يخلو فعل بلال أن يكون عن إعلام النبى له بذلك، أو رآه يفعله، فلم ينكره، فصار حجة وسنة. وقال مالك فى (المختصر) : لا بأس أن يستدير عن يمينه وشماله وخلفه، وليس عليه استقبال القبلة فى أذانه، وفى (المدونة) لابن نافع: أرى أن يدور ويلتفت حتى يبلغ حى على الصلاة، وكذلك ابن الماجشون، ورآه من حَدِّ الأذان، وقال الكوفيون، والشافعى: إن

(2/258)


زال ببدنه كله فى الأذان فهو مكروه، ولا شىء عليه، وهذا خلاف ما رواه ابن أبى شيبة فى أذان بلال أنه كان يدور فيه. واختلفوا فى الأذان على غير وضوء، فممن أجازه سوى إبراهيم: قتادة، والحسن، وحماد، ورواية عن عطاء، وهو قول مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وممن كرهه إلا على وضوء: أبو هريرة، قال: لا يؤذن إلا متوضئًا، وهو قول مجاهد، ورواية عن عطاء، وبه قال الأوزاعى، وإسحاق، وكان الشافعى، وأبو ثور يكرهان ذلك، ويجزئه إن فعل، وقول عائشة: (كان الرسول يذكر الله على كل أحيانه) ، حجة لمن لم يوجبه، وقال أبو الفرج: لا بأس بأذان الجنب، وأجازه سحنون فى غير المسجد. وقال ابن القاسم: لا يؤذن الجنب، وكرهه ابن وهب.
- باب قَوْلِ الرَّجُلِ فَاتَتْنَا الصَّلاةُ
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَقُولَ: فَاتَتْنَا الصَّلاةُ، لِيَقُلْ: لَمْ نُدْرِكْ وَقَوْلُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَصَحُّ / 29 - فيه: ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَال: َ (بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: (مَا شَأْنُكُمْ) ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاةِ، قَالَ: (فَلا تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) . قال المؤلف: قوله: (وما فاتكم، فأتموا) ، يقتضى جواز قول الرجل: فاتتنا الصلاة، ولا وجه لقول ابن سيرين. وفيه: الأمر بالسكينة فى الإقبال إلى الصلاة، وترك الإسراع إليها.

(2/259)


وقد اختلف السلف فى ذلك، فروى عن أبى ذر أنه قال: إذا أقيمت الصلاة، فامش إليها كما كنت تمشى، فصلّ ما أدركت، واقض ما سُبقت، وعن أبى هريرة، وزيد بن ثابت مثله، وروى أبو هريرة، وأنس عن الرسول مثله. روى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام، قال: (إذا أقيمت الصلاة، فليمش أحدكم نحو ما كان يمشى، فليصلّ ما أدرك، وليقض ما فاته) ، وحديث أنس رواه حماد، عن ثابت، وقتادة، وحميد، عن أنس، عن الرسول نحوه، وقال ابن مسعود: امشوا إلى الصلاة، وقاربوا بين الخُطا، واذكروا الله. وروى ابن أبى شيبة، عن ابن عمر: أنه كان يمشى إلى الصلاة، فلو مشت معه نملة، لرأيت ألا يسبقها، وعن مجاهد مثله، وهو قول أحمد بن حنبل على ظاهر الحديث، وقد رخصت طائفة فى الإسراع إلى الصلاة، روى عن ابن مسعود خلاف ما تقدم عنه، أنه قال: أحق ما سعينا إليه الصلاة، وكان ابن مسعود، وسعيد بن جبير يهرولان إلى الصلاة، وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه سمع الإقامة فأسرع المشى، وهذا يدل مع ما روى عنه أنه لا يسرع المشى إلى الصلاة، أنه حمل قوله، عليه السلام: (عليكم بالسكينة) ، أن المراد به من لم يخش فوات الصلاة، وكان فى سعة من وقتها، وقد روى عن مالك مثل قول ابن عمر، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: لا بأس بالإسراع إذا أقيمت الصلاة، ما لم يَخُبَّ، إذا خاف فوت الركعة، وقال: لا بأس أن يحرك فرسه من سمع مؤذن الحرم ليدرك الصلاة، وقال إسحاق بن راهويه: إذا خاف فوت التكبيرة الأولى، فلا بأس أن يسعى.

(2/260)


- باب: مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا
قَالَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) / 30 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ الرَّسُول: (إِذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) . قال المهلب: معنى أمره بالسكينة فى السعى إلى الصلاة، والله أعلم، لئلا يُبهر الإنسان نفسه، فلا يتمكن من ترتيل القرآن، ولا من الوقار اللازم له فى الخشوع. وقوله عليه السلام: (إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة) ، يرد ما فعله ابن عمر من إسراعه إلى الصلاة حين سمع الإقامة، ويُبين أن الحديث على العموم، وأن السكينة تلزم من سمع الإقامة، كما تلزم من كان فى سعة من الوقت. وقوله: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) ، فيه حجة لمن قال: إن ما أدرك المأموم من صلاة الإمام، فهو أول صلاته، وقد اختلف العلماء فى ذلك، ففى المدونة، عن مالك، أن ما أدرك فهو أول صلاته، إلا أنه يقضى مثل الذى فاته من القراءة بأم القرآن وسورة، ورواه ابن نافع، عن مالك، وقال سحنون فى (العتبية) : هذا الذى لم نعرف خلافه، وهو قول مالك، أخبرنى به غير واحد، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، ومكحول، وعطاء، والزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وقالت طائفة: ما أدرك مع الإمام، فهو آخر صلاته والذى يقضيه أول صلاته، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، والنخعى، والشعبى، وابن

(2/261)


سيرين، وأبى قلابة، ورواه عيسى عن ابن القاسم، عن مالك فى العتبية، ورواه أشهب عنه، وهو قول أشهب، وابن الماجشون، واختاره ابن حبيب، وقال: الذى يقضى هو أولها؛ لأنه لا يستطيع أن يخالف إمامه، فتكون له أولى وللإمام ثانية أو ثالثة. وحكى الطحاوى، عن أبى حنيفة: أن الذى يدرك مع الإمام هو آخر صلاته وهو عنده قول الثورى، وحجة هذا القول رواية من روى هذا الحديث: وما فاتكم فاقضوا، والقضاء لا يكون إلا لفائت، ومعلوم أن الفائت من صلاة المأموم ما سبقه به إمامه، وفى إجماعهم أنه يقضى بقية صلاته كما وردت السنة دليل على أن الذى يقضيه فائت، وأن الذى صلى مع الإمام ليس هو الفائت. فإن قيل: فلم تأمره إذا قضى الفائت بالتشهد، وقد فعله قبل ذلك عندك فى موضعه. قيل: لأنه لم يفعل التسليم، ومن سنة التسليم أن يكون عقيب التشهد، وحجة القول الأول قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا) ، والتمام لا يكون إلا للآخر، ومستحيل أن يكون ما أدرك: آخر صلاته، فعمله أولاً؛ لأنه لا يكون آخرًا إلا وقد تقدمه أول. فإن قال قائل: كيف يصح فى قول مالك أن يكون ما أدرك أول صلاته، ولا خلاف عنده أنه من أدرك من مع الإمام ركعتين أنه يقرأ فيهما كما يقرأ الإمام بأم القرآن فى كل ركعة، فإذا سلم، قام فقرأ فيما يقضى: بالحمد وسورة فى كل ركعة؟ . قيل: جواب هذا السؤال اتفاق الجميع على أن الإحرام لا يكون

(2/262)


إلا فى أول الصلاة، والتشهد والسلام لا يكون إلا فى آخرها، فكان ما أدرك: أول صلاته، وجواب آخر: وهو قوله عليه السلام: (وما فاتكم فاقضوا) ، وذلك أن الذى فاته هو الذى فعله إمامه، وهى قراءة أم القرآن، وسورة فى كل ركعة، فوجب عليه قضاء مثله، وهذا المعنى بعينه يقتضى قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا) ؛ لأن التمام فى اللغة إتمام شىء ناقص تقدمه، ولا يكون تمامًا لشىء حتى يؤتى بكل ما نقص منه، وقد فسر أهل اللغة القضاء على غير ما احتج به الفقهاء، وقالوا: القضاء يكون لغير فائت، قال صاحب (الأفعال) : قضى الشىء: صنعه، قال تعالى: (فقضاهن سبع سماوات فى يومين) [فصلت: 12] ، أى صنعهن، وقال: (فاقض ما أنت قاض) [طه: 72] ، أى اصنع ما أنت صانع، قال أبو ذؤيب: وعليهما مسبرودتان قضاهما داود أو صنع السَّوابِغَ تُبَّعُ أى صنعهما داود، قال: ويقال: قضيت الحق: خرجت منه، وقضيت العمل والأمر: فرغت منهما، قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض) [الجمعة: 10] ، وهذا كله يدل على صحة قول من قال: إن ما أدرك فهو أول صلاته. وفى المسألة قول ثالث قاله المزنى، وإسحاق، وأهل الظاهر قالوا: ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقرأ فيهما بالحمد وسورة مع الإمام، وإذا قام للقضاء، قضى بالحمد وحدها، فيما يقضى لنفسه، كأنه آخر صلاته، فهؤلاء طردوا قولهم على أصولهم إلا أنه لا سلف لهم فيه، فلا معنى له.

(2/263)


- باب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الإمَامَ عِنْدَ الإقَامَةِ
/ 31 - فيه: قال أَبو قَتَادَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَلا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي) . وترجم له: باب لا يسعى إلى الصلاة، ولا يقم إليها مستعجلاً، وليقم إليها بالسكينة والوقار. / 32 - وزاد فى الحديث: (لا تقوموا حتى ترونى، وعليكم بالسكينة والوقار) . فائدة هذا الحديث أن تكون الإقامة متصلة بالصلاة، وألا يقام لها إلا بحضرة الإمام، وأمرهم، عليه السلام، ألا يطيعوا المؤذن فى ذلك خشية التراخى والمهلة بين الإقامة والدخول فى الصلاة، فينتظرونه قيامًا؛ لأن شأن الدخول فى الصلاة، اتصاله بإقامة من غير فصل، فلذلك نهاهن عن القيام قبل خروجه، والله أعلم. وقد اختلف السلف فى ذلك، فقالت طائفة: إذا أقيمت الصلاة، فلا يقوم الناس حتى يأتى الإمام، على ظاهر حديث أبى قتادة، وروى ذلك عن على بن أبى طالب، وهو قول إبراهيم، وقالوا: ينتظره الناس قعودًا، وهو قول أبى حنيفة والشافعى، وروى عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز أنهم ينتظرونه قيامًا. واختلف فى قيام المأمومين إلى الصلاة إذا كان الإمام فى المسجد، فروى عن سالم، وأبى قلابة، والزهرى، وعطاء أنهم كانوا يقومون فى أول الإقامة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومحمد: يقومون فى الصف إذا قال المؤذن: حى على الفلاح، وإذا قال: قد قامت الصلاة كبر الإمام، وهو فعل أصحاب عبد الله، والنخعى، وقال أبو يوسف، ومالك، والشافعى: لا يكبر الإمام

(2/264)


حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وهو قول الحسن البصرى، وأحمد، وإسحاق. قال ابن المنذر: وعلى هذا جلّ الأئمة: مالك، والشافعى، والعمل فى أمصار المسلمين، يعنى فى تكبير الإمام بعد تمام الإقامة. قال المهلب: وقوله: (لا تسع إلى الصلاة، ولا تقم إليها مستعجلاً) ، فذلك لأن السكينة تلزم عند الوقوف بين يدى الله، وفى القيام إلى الصلاة استشعار بحال الوقوف بين يدى الله، تعالى.
- باب هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعِلَّةٍ
/ 33 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ (أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاهُ، انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ، انْصَرَفَ، قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ، فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً، وَقَدِ اغْتَسَلَ) . وترجم له: باب إِذَا قَالَ الإمَامُ: مَكَانَكُمْ حَتَّى رَجَعَ انْتَظَرُوهُ. / 34 - وقال فيه: (أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَقَدَّمَ، وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ.) . وذكر الحديث. معنى هذا الباب: هل يخرج من المسجد إذا ذكر أنه جنب دون أن يتيمم أم لا؟ وقد تقدم هذا الباب فى كتاب الطهارة، وذكرت هناك اختلاف العلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته. وقال المهلب: فيه أن يكون بين الأذان والإقامة مهلة عند الضرورة بقدر اغتساله عليه السلام، وانصرافه إليهم.

(2/265)


فإن قال قائل: فإن هذا الحديث يعارض حديث أبى قتادة، أنه عليه السلام، قال: (إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى ترونى) . قيل: يحتمل أن يكون حديث أبى قتادة على غير الإيجاب والحتم، بل على وجه الرفق بهم لئلا ينتظروه قيامًا. وفيه: جواز انتظار الجماعة لإمامها الفاضل ما دام فى سعة من الوقت. وفيه: جواز انتظارهم له قيامًا، وهذا مما يكون فيما قرب. وفى هذا الحديث حجة لمالك وأبى حنيفة أن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام، وهو قول عامة الفقهاء، ويرد قول الشافعى فى إجازته تكبير المأموم قبل إمامه؛ لأنه روى حديث أبى هريرة على ما رواه مالك، عن إسماعيل بن أبى حكيم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله كبر فى صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب، ثم رجع، وعلى جلده أثر الماء، فاحتج به الشافعى فى ذلك، ونقض أصله؛ لأنه حديث مرسل، وهو لا يقول بالمراسيل. ومالك الذى ذكره فى موطئه تركه، وأراد أن يعرفنا أنه رواه، ولم يقل به؛ لأنه قد صح عنده أنه عليه السلام، لم يكن كبر حينئذ على ما رواه أبو هريرة، وهذا الحديث رواه يونس، ومعمر، والأوزاعى، وصالح بن كيسان، عن الزهرى، عن أبى سلمة، عن هريرة، وأنه عليه السلام لم يكن كبر، وذهب فاغتسل، ثم رجع، فكبر، ولو لم يكن يستأنف التكبير عند رجوعه لما صحت صلاة من خلفه؛ لأنه كان يقع تكبيره بعد تكبيرهم، ولا يستحق الإمام اسم الإمامة إلا بتقديم فعله فعل من يأتم به واتباعهم له، ومن كبر قبل إمامه فلم يأتم به، ولا حصل متبعًا له.

(2/266)


- باب قَوْلِ الرَّجُلِ مَا صَلَّيْنَا
/ 35 - فيه: جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ عَلَيهِ السَّلاَم: وَاللَّهِ مَا صَلَّيْت، فَنَزَلَ عَلَيهِ السَّلاَم إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى العَصْر بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ) . فى هذا الحديث رد على قول من يقول، إذا سئل: هل صليت؛ وهو منتظر للصلاة، فيكره أن يقول: لم أصل، وهو قول إبراهيم النخعى، رواه ابن أبى شيبة، عن ابن مهدى، عن سفيان، عن أبى هاشم، عن إبراهيم أنه كره أن يقول الرجل: لم نصل، ويقول: نصلى، وقول الرسول: والله ما صلينا، خلاف قول إبراهيم، ورد له، فلا معنى له.
- باب الإمَامِ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَ الإقَامَةِ
/ 36 - فيه: أَنَسِ قَالَ: (أُقِيمَتِ الصَّلاةُ وَالنَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُنَاجِي رَجُلا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ) . وترجم له: باب الْكَلامِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ. فى هذا الحديث ردّ لقول الكوفيين أن المؤذن إذا أخذ فى الإقامة، وقال: قد قامت الصلاة، وجب على الإمام تكبيرة الإحرام، ولو كان ما قالوه سنة الصلاة، ما كان عليه السلام يُدخل بين الإقامة

(2/267)


وبين الدخول فى الصلاة عملاً من غيرها، ويدل على صحة هذا القول عملُ الخلفاء الراشدين به من بعد الرسول، وأمرهم بتسوية الصفوف بعد الإقامة، فإذا أخبروا بذلك كبروا، وبهذا قال مالك، وأهل الحجاز، ومحمد بن الحسن. وما تعلق به الكوفيون من قول أبى هريرة: لا تفتنى بآمين، فإنما كان نادرًا منه؛ لأن شأنه فى صلاته كما كان عمل الخلفاء بعده. قال المهلب: وفى هذا الحديث دليل أن اتصال الإقامة بالصلاة ليس من وكيد السنن، وإنما هو من مستحبها، وقد قال مالك: إذا بعدت الإقامة من الإحرام رأيت أن تعاد الإقامة استحبابًا؛ لأن فعل الرسول فى هذا الحديث يدل أنه ليس بلازم، وإنما كان عند الحاجة التى يخاف فوتها من أمر المسلمين. واختلف العلماء فى الكلام بعد الإقامة، فأجازه الحسن البصرى، وقال أبو مجلز: أقيمت الصلاة، وصفت الصفوف، فابتدر رجل لعمر، فكلمه فأطالا القيام، حتى ألقيا إلى الأرض والقوم صفوف. وكره الكلام بعد الإقامة: النخعى، والزهرى، وهذا الحديث حجة عليهما.