شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
أَبْوَاب تَقْصِيرِ الصَّلاةِ
48 - باب مَا جَاءَ فِي التَّقْصِيرِ، وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُرَ؟
/ 55 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ الرَسُول تِسْعَةَ عَشَرَ يومًا يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ يومًا قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا. / 56 - فيه: أَنَس، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قَالَ: (أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا) . إنما أقام الرسول تسعة عشر يومًا يقصر، لأنه كان محاصرًا فى

(3/65)


حصار الطائف أو حرب هوازن، فجعل ابن عباس هذه المدة حدًا بين القصر والإتمام، لقوله: (فنحن إذا سافرنا تسعة عشر يومًا قصرنا وإن زدنا أتممنا) . قال المهلب: والفقهاء لا يتأولون هذا الحديث كما تأوله ابن عباس ويقولون: إنه كان (صلى الله عليه وسلم) فى هذه المدة التى ذكرها ابن عباس غير عازم على الاستقرار، لأنه كان ينتظر الفتح، ثم يرحل بعد ذلك، فظن ابن عباس أن التقصير لازم إلى تسعة عشر يومًا، ثم ما بعد ذلك حضر تتم فيه الصلاة، ولم يرع نيته فى ذلك. وقد روى جابر بن عبد الله أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. ذكره عبد الرزاق. وروى ابن عيينة عن ابن أبى نجيح أنه سأل سالم بن عبد الله كيف كان ابن عمر يصنع؟ قال: إذا أجمع المكث أتم، وإذا قال: اليوم وغدًا قصر الصلاة، وإن مكث عشرين ليلة. والعلماء مجمعون على هذا لا يختلفون فيه، وتأول الفقهاء فى حديث أنس أيضًا أن إقامته (صلى الله عليه وسلم) بمكة لا استيطانًا لها لئلا يكون رجوعًا فى الهجرة، وقد روى عن ابن عباس أيضًا: أما من نوى إقامة عشر ليال أنه يتم الصلاة، وهو قول له آخر خلاف تأويله للحديث، ولا أعلم أحدًا من أئمة الفتوى قال بحديث ابن عباس وجعل تسعة عشر يومًا حدًا للتقصير فهو مذهب له انفرد به، وقد ذكر ابن أبى شيبة عن حفص، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس أن نبى الله أقام سبع عشرة يقصر الصلاة؛ قال ابن عباس:

(3/66)


من أقام سبع عشرة قصر الصلاة، ومن أقام أكثر من ذلك أتم، وإنما جاء هذا الحديث، والله أعلم، من الرواة، وروى عباد بن منصور، عن عكرمة تسع عشرة، كما روى البخارى، ولم يقل سبع عشرة أحد من الفقهاء أيضًا إلا الشافعى، فإنه قال: من أقام بدار الحرب خاصة سبع عشرة ليلة قصر. وسأذكره فى هذا الباب، إن شاء الله. وأما حديث أنس فروى عن على، وابن عباس أنه إذا نوى إقامة عشر ليال أتم الصلاة. وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة بعد هذا فى باب كم أقام النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى حجته. وأذكر فيه طرفًا من أقوالهم وحجتهم فى ذلك. وتأويل الفقهاء فى حديث أنس أيضًا أن إقامته (صلى الله عليه وسلم) بمكة عشرًا كانت بنية الرحيل، وكانت العوائق تمنعه من ذلك، فما كان على نية الرحيل فإنه يقصر فيه وإن أقام مدة طويلة بإجماع العلماء. وفى حديث ابن عباس من الفقه ما ذهب إليه مالك، وأبو حنيفة وأحد قولى الشافعى: أنه من كان فى أرض العدو من المسلمين ونوى الإقامة مدة يتم المسافر فى مثلها الصلاة أنه يقصر الصلاة، لأنه لا يدرى متى يرحل. قال ابن القصار: والقول الثانى للشافعى الذى خالف فيه الفقهاء، قال: إن كان المقيمون بدار الحرب ينتظرون الرجوع كل يوم فإنه يجوز لهم أن يقصروا إلى سبعة عشر يومًا أو ثمانية عشر يومًا، فإذا جاوزوا هذا المقدار أتموا، واحتج بأن الرسول أقام بهوازن هذه المدة يقصر، وقوله الأول الموافق للفقهاء أولى، لأن إقامة من كان بدار الحرب ليست بإقامة صحيحة، وإنما هى موقوفة على ما يتفق لهم من الفتح لأن أرض العدو ليست بدار إقامة للمسلمين.

(3/67)


وقد روى جابر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يحارب ويقصر، وأقام أنس بنيسابور سنتين يقصر الصلاة، وفعله جماعة من الصحابة.
49 - باب الصَّلاةِ بِمِنًى
/ 57 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا. / 58 - وفيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، آمَنَ مَا كُنَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. / 59 - وفيه: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِى بَكْرٍ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. اتفق العلماء على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد، لأنه عندهم فى سفر، إذ ليست مكة دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فرض عليهم ترك المقام بها، فلذلك لم يَنْوِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإقامة بمكة ولا بمنى. واختلف الفقهاء فى صلاة المكى بمنى، فقال مالك: يتم المكى بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى يتمون بمنى ويقصرون بمكة

(3/68)


وعرفات، وجعل أن هذه المواضع مخصوصة بذلك، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولم يقل: يا أهل مكة أتموا، وهذا موضع بيان، وكذلك عمر بن الخطاب بعده قال لأهل مكة: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وممن روى عنه أن المكى يقصر بمنى: ابن عمر، وسالم، والقاسم، وطاوس، وبه قال الأوزاعى، وإسحاق. وقالت طائفة: لا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات، لأنه ليس بينهما مسافة ما تقصر فيه الصلاة. روى ذلك عن عطاء، والزهرى، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، قالوا: وفى قول عمر بن الخطاب لأهل مكة: أتموا صلاتكم، ما أغنى أن يقول ذلك بمنى. قال الطحاوى: ليس الحج موجبًا للقصر، لأن أهل منى وعرفات إذا كانوا حجاجًا أتموا، وليس هو متعلقًا بالموضع، وإنما هو متعلق بالسفر، وأهل مكة مقيمون هناك فلا يقصرون، ولما كان المعتمر لا يقصر لو خرج إلى منى كذلك الحاج. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث حارثة بن وهب، قال: (صلى بنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ونحن أكثر ما كنا قط وآمنَ بمنى ركعتين) . وحارثة كانت أمه تحت عمر بن الخطاب، فولدت له عبد الله، وكانت دار حارثة بمكة، ولو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال حارثة: وأتممنا نحن، أو قال لنا: أتموا، لأنه (صلى الله عليه وسلم) يلزمه البيان لأمته فثبت القصر بمنى لأهل مكة بالسنة. وأما إتمام الصلاة فى السفر، فإن العلماء والسلف اختلفوا فى ذلك، فذهبت طائفة إلى أن ذلك سنة، روى ذلك عن عائشة، وسعد بن أبى وقاص أنهما كانا يتمان فى السفر، ذكره عطاء بن أبى رباح عنهما، وعن حذيفة مثله، وروى مثله عن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن

(3/69)


ابن الأسود، وعن سعيد بن المسيب، وأبى قلابة، وروى أبو مصعب عن مالك، قال: قصر الصلاة فى السفر سنة، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، وذهب الشافعى إلى أنه مخير غير أن الإتمام أفضل، وذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه مخير غير أن الاستحباب القصر. وقال ابن القصار: وهذا اختيار الأبهرى، واختيارى. وذهبت طائفة إلى أن الواجب على المسافر ركعتان، روى ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وهو قول الكوفيين، ومحمد بن سحنون، واختاره إسماعيل بن إسحاق من أصحاب مالك. واحتج الكوفيون عن عائشة، قالت: فرضت الصلاة ركعتين فى الحضر، والسفر. . . الحديث، وقد تقدم فى أول كتاب الصلاة شىء من معنى هذا الحديث، ونزيده هاهنا بيانًا وإيضاحًا على حسب ما يقتضيه هذا الباب، فنقول: إن الفرض قد يأتى لغير الحتم والإيجاب كما نقول: فرض القاضى النفقة، يعنى قدرها وبيَّنها، وقد قال بعض المفسرين فى قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) [التحريم: 2] ، أى بيَّن لكم كيف تكفرون عنها. وقال الطبرى: يحتمل قول عائشة: (فرضت الصلاة ركعتين فى السفر) ، يعنى إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أن يكون فرضه أربعًا، فله ذلك. فإن قيل: فهل يوجد فرض بهذه الصفة يكون للمفروض عليه الخيار فى تركه إذا شاء، والعمل به إذا شاء؟ . قيل: نعم، إنا وجدنا تأخر الحاج بمنىً فى اليوم الثانى من أيام

(3/70)


التشريق، وتركه النفر فيه إلى اليوم الثالث، فإنه إن اختار المقام به إلى اليوم الثالث فعلى فرضه أقام، وإن نفر فى اليوم الثانى وتعجل فيه فعلى أداء فرضه نفر، وأى ذلك فعل كان صوابًا. وكذلك المسافر، ولو كان فرض المسافر الذى ليس له غيره الركعتين لم يكن له أن يجعلهما أربعًا بوجه من الوجوه، كما ليس للمقيم أن يجعل ظهره مثنى وصلاة الفجر أربعًا، وقد اتفق فقهاء الأمصار على أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم لزمه الإتمام، فهذا يدل أنه ليس فرضه ركعتين إلا على التخيير، وبان أن من صلى من المسافرين الظهر أربعًا ففرضه اختار، وأن من صلاها ركعتين فعلى تمام فرضه انصرف. وأما إتمام عثمان الصلاة بمنى فللعلماء فى ذلك أقوال، روى أيوب عن الزهرى، قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعًا، لأن الأعراب كانوا كثروا فى ذلك العام، فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربعًا. وقال ابن جريج: إن أعرابيًا ناداه فى منى، فقال: يا أمير المؤمنين، مازلت أصليها مُذ رأيتك عام أول صليتها ركعتين، فخشى عثمان أن يظن جهالُ الناس أن الصلاة ركعتان. وروى معمر، عن الزهرى وجهًا آخر قال: إنما صلى عثمان أربعًا لأنه أزمع على المقام بعد الحاج. وروى عن عبد الله بن الحارث بن أبى ذباب، عن أبيه، وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب، قال: صلى بنا عثمان أربع ركعات، فلما سلم أقبل على الناس، فقال: إنى تأهلت بمكة، وقد سمعت رسول الله

(3/71)


(صلى الله عليه وسلم) يقول: (من تأهل ببلدة فهو من أهلها فليصل أربعًا) . وهذه الوجوه كلها ليست بشىء. قال الطحاوى: وذلك أن الأعراب كانوا بأحكام الصلاة أجهل فى زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يتم بهم لتلك العلة، ولم يكن عثمان ليخاف عليهم ما لم يخفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه بهم رءوف رحيم. قال غيره: ألا ترى أن الجمعة لما كان فرضها ركعتين لم يعدل عنها، وكان يحضرها الغوغاء والوفود، وقد يجوز أن صلاة الجمعة فى كل مكان ركعتان. وأما ما ذكر عنه أنه أزمع على المقام بعد الحج فليس بشىء، فإن المهاجرين فرض عليهم ترك المقام بمكة، وقد صح عن عثمان أنه كان لا يودع النساء إلا على راحلته، ويسرع الخروج من مكة خشية أن يرجع فى هجرته التى هاجرها الله. وما ذكر أنه اتخذ أهلاً بمكة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان فى غزواته وحجه وأسفاره كلها يسافر بأهله بعد أن يقرع بينهن، وكان أولى أن يتأول ذلك ويفعله، فلم يفعله وقصر الصلاة، وكذلك تأولوا فى إتمام عائشة أنها كانت أم المؤمنين، فحيث ما حلت فهو بيتها، وهذا فى الضعف مثل الأول، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان أبًا للمؤمنين وهو أولى بهم من عائشة، ولم يتأول ذلك. والوجه الصحيح فى ذلك، والله أعلم، أن عثمان وعائشة إنما أتمَّا فى السفر لأنهما اعتقدا فى قصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه لما خُير بين القصر

(3/72)


والإتمام اختار الأيسر من ذلك على أمته، وقالت عائشة: ما خير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أمرين قط إلا أخذ بأيسرهما ما لم يكن إثمًا. فأخذت هى وعثمان فى أنفسهما بالشدة وتركا الرخصة، إذ كان ذلك مباحًا لهما فى حكم التخيير فيما أذن الله تعالى فيه، ويدل على ذلك إنكار ابن مسعود الإتمام على عثمان، ثم صلى خلفه وأتم، ثم كلم فى ذلك، فقال: الخلاف شر. ولو كان القصر فرضًا لم يخف على عثمان، ولم يجز له أن يتم، ولا أتم خلفه ابن مسعود، ولا جماعة الصحابة بالحضرة دون نكير، ولا يجوز على جماعة الصحابة أن يعلموا أن فرضهم ركعتان ويصلوها مع عثمان أربعًا، كما لا يجوز لو صلى بهم الظهر خمسًا والفجر ثلاثًا أن يتبعوه على ذلك. وإنما جاز لهم اتباعه والانقياد له لعلم جميعهم أنه فعل مباحًا جائزًا، وهذه حُجَّة قاطعة، وإنما قال ابن مسعود: الخلاف شر، لأنه رأى أن الخلاف على الإمام فيما سبيله التخيير والإباحة شر. وقد روى ابن أبى شيبة، عن ميمون بن مهران: أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصلاة فى السفر، فقال: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعًا. وذكر عن أبى قلابة أنه قال: (إن صليت فى السفر ركعتين فالسنة، وإن صليت أربعًا فالسنة.
50 - باب كَمْ أَقَامَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّتِهِ
؟ / 60 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إِلا مَنْ مَعَهُ الْهَدْىُ.

(3/73)


وقال فى كتاب المغازى: بَاب إِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ. / 61 - فيه: عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَنُّه سأل السَّائِبَ ابْنَ أُخْتِ الْنَّمِرِ: مَا سَمِعْتَ فِى سُكْنَى مَكَّةَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِىِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثٌ لِلْمُهَاجِرِ بَعْدَ الصَّدَرِ) . وقال أحمد بن حنبل: قدم الرسول (صلى الله عليه وسلم) مكة صبح رابعة من ذى الحجة، فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وهو فى ذلك كله يقصر الصلاة، ثم خرج إلى منى يوم التروية وهو اليوم الثامن فلم يزل مسافرًا فى المناسك إلى أن تم حجه. فجعل أحمد ابن حنبل أربعة أيام يقصر فيها الصلاة إذا نوى إقامتها، وإن قام أكثر من ذلك فهو حضر يتم فيه الصلاة، واستدل بحديث ابن عباس هذا. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: هذا الحديث يدل أنه من أقام عشرين صلاة يقصر الصلاة، لأنه (صلى الله عليه وسلم) صلى فى الرابع الظهر والعصر، ثم صلى فى الخامس والسادس والسابع خمس عشرة صلاة، ثم صلى الليلة الثامنة المغرب والعشاء والصبح، فذلك عشرون صلاة، ولم يتم، وهو حجة على ابن الماجشون، وسحنون فى قولهما أنه من أقام عشرين صلاة أنه يتم. وذهب مالك، والشافعى، وأبو ثور إلى أنه من عزم على إقامة أربعة أيام بلياليها أنه يتم الصلاة ولا يقصر، وروى مثله عن عمر، وعثمان. قال ابن القصار: وحجة هذه المقالة حديث العلاء بن الحضرمى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، جعل للمهاجر بعد قضاء نسكه [ثلاثًا، ثم]

(3/74)


يصدر، وذلك أن الله حرم على المهاجرين الإقامة بمكة، الأرض التى هاجروا منها، ولا يستوطنوها، ثم أباح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للمهاجر المسافر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام. فبيَّن (صلى الله عليه وسلم) أن ثلاثة أيام سفر لا إقامة، إذ لو كان ما فوق الثلاث سفرًا لما منعهم من ذلك، فدل أنه إقامة، ووجب أن تكون الثلاث فصلا بين السفر والإقامة، ولا وجه لمن اعتبر مقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حجته من حين دخوله مكة إلى خروجه إلى منى ولا إلى صدره إلى المدينة، لأن مكة ليست له بدار إقامة ولا لأحد من المهاجرين، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يزل مسافرًا منذ خرج من المدينة وقصر بذى الحليفة إلى أن انصرف إلى المدينة، ولم ينو فى شىء من ذلك إقامة، وليس فى هذه المسألة اختلاف، سوى ما تقدم، يقتضى الباب ذكره، وذلك لأنه ذهب قوم إلى أنه إن نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى إقامة أقل قصر، روى هذا عن ابن عمر، وهذا قول الكوفيين، والثورى. وذهب قوم إلى أنه إذا نوى إقامة اثنتى عشرة أتم الصلاة، وإن نوى إقامة أقل قصر، هذا قول ابن عمر، أحد أقاويله، وأخذ به الأوزاعى، وذهب قوم أنه إذا عزم على مقام عشر ليال أتم الصلاة، روى ذلك عن على، وابن عباس، وقد تقدم هذا القول فى حديث أنس فى أول أبواب التقصير. وروى عن ربيعة قول شاذ أنه من نوى إقامة يوم وليلة أتم الصلاة. وحجة الليث ما رواه ابن إسحاق، عن الزهرى، عن

(3/75)


عبيد الله، عن عبد الله بن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أقام حيث فتح مكة خمسة عشر يومًا يقصر الصلاة حتى سار إلى خيبر. وحجة الكوفيين ما رواه مجاهد، عن ابن عمر، وابن عباس، أنهما قالا: إذا قدمت بلدًا وأنت مسافر، وفى نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة، فأكمل الصلاة. ولا حجة لمن اعتبر اثنى عشر يومًا ولا لربيعة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وأصحابه لم يتم واحد منهم فى هذا المقدار. وأصح الأقوال فى هذه المسألة قول مالك ومن وافقه، وبيان ذلك من حديث ابن عباس مع الحديث الذى جاء أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، أن مقام النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بمكة فى حجته كان عشرة أيام كما قال أنس فى حديثه. وذكر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قدم مكة صبح رابعةٍ من ذى الحجة صبيحة يوم الأحد، صلى الصبح بذى طوى، واستهل ذو الحجة ذلك العام ليلة الخميس، فأقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بمكة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس، ثم نهض يوم الخميس ضحوةً إلى منى، فأقام بها باقى نهاره وليلة الجمعة، ثم نهض يوم الجمعة إلى عرفات، فبقى بها نهاره، ودفع منها بعد غروب الشمس من ليلة السبت إلى المزدلفة، فأقام بها باقى ليلته، ثم نهض منها قبل طلوع

(3/76)


الشمس من يوم السبت، وهو يوم الأضحى والنفر إلى منى، فرمى جمرة العقبة ضحوةً، ثم نهض إلى مكة ذلك اليوم، فطاف بالبيت قبل الظهر. ثم رجع فى يومه ذلك إلى منى فأقام بها باقى يوم السبت، ويوم الأحد، ويوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ثم نهض بعد الظهر من يوم الثلاثاء، وهو آخر أيام التشريق إلى المحصب، فصلى به الظهر، وبات فيه ليلة الأربعاء، وفى تلك الليلة اعتمرت عائشة من التنعيم ليلاً، ثم طاف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، طواف الوداع سَحَرًا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء، وهى صبيحة رابعة عشرة، فأقام عشرة أيام كما قال أنس فى حديثه، ثم نهض إلى المدينة، وكان خروجه من المدينة إلى حجة الوداع يوم السبت لأربع بقين من ذى القعدة، وصلى الظهر بذى الحليفة، وأحرم بإثرها، وهذا كله مستنبط من قوله: (قدم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صبيحة أربع من ذى الحجة) ، ومن الحديث الذى جاء أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، وفيه نزلت: (اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة: 3] .
51 - باب فِى كَمْ تُقْصَرُ الصَّلاةَ؟
وَسَمَّى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، السفر يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِى أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِىَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا. / 62 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاثًا إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ) . / 63 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ) .

(3/77)


اختلف العلماء فى قدر المسافة التى يستباح فيها القصر فى الصلاة، فكان مالك يقول: يقصر فى مسيرة يوم وليلة، ثم رجع فقال: يقصر فى أربعة بُرُد، وهى ثمانية وأربعون ميلاً، كقول ابن عمر، وابن عباس، وبه قال الليث، والشافعى فى أحد أقواله، وهو قول أحمد، وإسحاق. وروى أشهب، عن مالك، فيمن خرج إلى ضيعته، وهى على رأس خمسة وأربعين ميلاً، قال: يقصر. وروى أبو زيد، عن ابن القاسم فيمن قصر فى ستة وثلاثين ميلاً، قال: لا يعيد. وقال ابن حبيب: يقصر فى أربعين ميلاً، وهى قريب من أربعة بُرُد. وقال الأوزاعى: عامة العلماء يقولون: مسيرة يوم تامٍ، وبه نأخذ. وقالت طائفة: يقصر فى يومين، روى هذا عن ابن عمر، والحسن البصرى، والزهرى، وذكر مثله عن الشافعى. وقالت طائفة: لا يقصر إلا من سافر ثلاثة أيام، روى هذا عن ابن مسعود، وبه قال الثورى، والكوفيون. وقال الأوزاعى: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فى خمسة فراسخ، وذلك خمسة عشر ميلاً. وحُكى عمن لا يعتد بخلافه من أهل الظاهر أنه يجوز فى قليل السفر، وكثيره إذا جاوز البنيان ولو قصد إلى بُستانه، وحكوه عن على بن أبى طالب. قال ابن القصار: والحجة لقول مالك، ومن وافقه حديث أبى هريرة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم

(3/78)


الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حُرمة) . فجعل لليوم والليلة حكمًا خلاف حكم الحضر، فعلمنا أنه الزمان الفاصل بين السفر يجوز فيه القصر، وبين السفر الذى لا يجوز فيه، قال: وهذا قول ابن عمر، وابن عباس. واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا مع ذى محرم) ، وقالوا: لما اختلفت الآثار والعلماء فى المسافة التى تقصر فيها الصلاة، وكان الأصل الإتمام لم يجب أن ننتقل عنه إلا بيقين، واليقين ما لا تنازع فيه، وذلك ثلاثة أيام. قال ابن القصار: والجواب أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد ذكر اليوم والليلة، ونص عليه فهو أولى من دليل خبركم أن ما كان دون الثلاث فبخلافها، والدليل إذا اجتمع مع النص قُضى بالنص عليه. قال الأصيلى: والدليل على أن المسافر يقصر فى يوم وليلة قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) [البقرة: 184] ، فما نقل الله المسافر من حال الصيام إلى حال الإفطار فى سفر يوم، كذلك يجب أن ينتقل من التمام إلى القصر فى ذلك. وقال غيره: وأما اختلاف الآثار فى يوم وليلة، وفى ثلاثة أيام، وقد روى فى يومين، فالمعنى الذى تأتلف عليه هذه الأخبار أنها كلها خرجت على جواب سائلين مختلفين، كأن سائلاً سأله (صلى الله عليه وسلم) : هل تسافر المرأة يومًا وليلة مع غير ذى محرم؟ فقال: لا، ثم سأله آخر عن مثل ذلك فى يومين، فقال: لا، ثم سأله آخر عن

(3/79)


مثل ذلك فى ثلاث، فقال: لا، فروى عنه (صلى الله عليه وسلم) كلُّ واحد ما سمع وليس بتعارض ولا نسخ، لأن الأصل ألا تسافر المرأة أصلاً، ولا تخلو مع غير ذى محرم، لأن الداخلة عليها فى الليلة الواحدة كالداخلة عليها فى الثلاث، وهى علة المبيت والمغيب على المرأة فى ظلمة الليل، واستيلاء النوم على الرفقاء فيكون الشيطان ثالثهما، فقويت الذريعة وظهرت الخشية على ناقصات العقل والدين، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يخلون رجل بامرأة ليست بذى محرم منه) . وقال: (إنها صفية) . واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر وأبى هريرة، فقالوا: لا يحل للمرأة أن تخرج إلى الحج مع غير ذى محرم، وجعلوا المحرم للمرأة سبيلاً من سبل الحج. وقال مالك وغيره: تخرج فى الرفقة المأمونة مع جماعة النساء، وإن لم تكن لها محرم. وقال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسافر المرأة يومًا وليلةً إلا مع ذى محرم) ، مبنى على فرض الله اللازم للنساء من وجوب الحج عليهن. وفى قوله: (لا يحل لامرأة) ، شاهد أنه إنما نهاها عن السفر الذى لا يلزمهن ولهن استحلاله وتركه فمنعهن (صلى الله عليه وسلم) من الأسفار المختارة إلا الضرورية الجماعية التى لا تعدم فيها المرافقة، ألا ترى اشتراط مالك خروجها للحج فى جماعة المرافقين بالغة الدين فى سفر الطاعة لله، واستشعارهم الخشية له، ولذلك سن عليه السلام

(3/80)


الحج بأمير أو سلطان محافظ، وإمام معلم يحفظ الضيعة، ويضم القَاذَّة ويرد الشاذّة، ولا ينفرد أحد عن الجماعة، ولا تتفق الأعين كلها على الغفلة، ولا تجتمع على النوم فى وقت واحد، فلابد من وجود المراقبة من الجماعة، فضعف الخوف بحضور الكثرة، وسأزيد هذا المعنى بيانًا فى باب حج النساء فى آخر كتاب الحج، إن شاء الله. وما حكاه الأوزاعى، عن أنس، وقولُ أهل الظاهر فالجماعة على خلافه وفى بيان الحجة لمالك ما ينتظم الرد عليه، لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسافر امرأة يومًا وليلةً إلا مع ذى حرمة منها) . قد أثبت للسفر حرمة إذا كان يومًا وليلةً، فدل أن ما دونه بخلافه، وإذا لم يكن إلا حضر، أو سفر، ولم يكن لما دون اليوم والليلة حرمة، صح أنه فى معنى الحضر.
52 - باب تقصير الصلاة إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ
وَخَرَجَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ، فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْكُوفَةُ، قَالَ: لا، حَتَّى نَدْخُلَهَا. / 64 - وفيه: أَنَس، قَالَ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. / 65 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: الصَّلاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ

(3/81)


السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلاةُ الْحَضَرِ. قَالَ الزُّهْرِىُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. أجمع فقهاء الأمصار أن المسافر لا يقصر الصلاة حتى يبرز عن بيوت القرية التى يخرج منها، واختلفت الرواية عن مالك فى صفة ذلك، ففى المدونة وكتاب ابن عبد الحكم، عن مالك: لا حتى يبرز عن بيوت القرية، ثم لا يزال يقصر حتى يدنو منها راجعًا، كقول الجماعة، وروى ابن وهب عن مالك فى المبسوط أنه قال: إذا خرج المسافر من المصر الذى فيه أهله فلا أرى أن يقصر حتى يخرج من حد ما تجب فيه الجمعة، وذلك ثلاثة أميال. وروى ابن الماجشون ومطرف، عن مالك: أنه استحب ذلك، لأن الثلاثة أميال مع المصر كَفَرسَخ واحد، وإذا رجع قصر إلى حَدِّه ذلك، وإذا كانت قرية لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بيوتها المتصلة بها، ذكره ابن حبيب. واختار قوم من السلف تقصير الصلاة قبل الخروج من بيوت القرية، قال ابن المنذر: روينا عن الحارث بن أبى ربيعة أنه أراد سفرًا، فصلى بهم ركعتين فى منزله، ومنهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله، وروينا معنى هذا القول عن عطاء ابن أبى رباح، وسليمان بن موسى. وشَذَّ مجاهد، فقال: إذا خرجت مسافرًا، فلا تقصر لو مكثت حتى الليل، ولا أعلم أحدًا وافقه عليه. قال المهلب: إنما يقصر الصلاة من خرج من موضع إذا نوى سفرًا يقصر الصلاة فى مثله على ما تقدم من مذاهب العلماء فى ذلك، لأن

(3/82)


مشقة السفر لازمة له من حين خروجه من موضعه، لكن لا يتم إلا بالمبيت والشغل بأمر المعاش المتصل بمشقة السعى مع الاحتراس بالليل وغيره، وكذلك تبقى على الراجع المشقة حتى يحل عن نفسه بوصوله إلى منزله. ومن أجاز من التابعين تقصير الصلاة قبل الخروج من البيوت فقوله مردود بفعله (صلى الله عليه وسلم) حين أتم الظهر بالمدينة، ثم خرج فقصر العصر بذى الحليفة، وإنما لزم التقصير إذا خرج من بيوت القرية لا قبل ذلك، لأن السفر يحتاج إلى عمل ونية، وليس كالإقامة التى تصح بالنية دون العمل. وحديث أنس حجة لجماعة الفقهاء أهل المقالة الأولى، وذلك أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين أتم الظهر بالمدينة، وقصر العصر بذى الحليفة إنما فعل ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان متوجهًا إلى مكة، ذكره البخارى فى بعض طرق الحديث لا أنه كان سفره إلى ذى الحليفة فقط، وبين المدينة وذى الحليفة من ستة أميال إلى سبعة، فلا حجة لمن أجاز التقصير فى قليل السفر، ولمن خرج إلى بستانه، لأن الحجة فى السُّنَّة لا فيما خالفها، وإنما ترك على التقصير، وهو يرى الكوفة حتى يدخلها، لأنه كان فى حكم المسافر فى ذلك الوقت، فلو أراد أن يصلى حينئذ لصلى صلاة سفر، وكان له تأخير الصلاة إلى الكوفة إذا كان فى سعة من الوقت ليصليها صلاة حضر، فاختار ذلك أخذًا بالأفضل واحتياطًا للإتمام حين طمع به وأمكنه.

(3/83)


وأما حديث عائشة، فقد تقدم القول فيه قبل هذا فلا معنى لتكريره، وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الإتمام مثل فعل عائشة، وعثمان. حدثنا المهلب، قال: حدثنا أبو الحسن على بن بندار الفربرى، بمكة، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطنى، حدثنا المحاملى، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبى رباح، عن عائشة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يقصر فى السفر ويتم، ويصوم ويفطر. قال الدارقطنى: هذا إسناد صحيح. قال الدارقطنى: وحدثنا أبو بكر النيسابورى، حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى عمرة فى رمضان، فأفطر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصمت، وقصر وأتممت، فقال: (أحسنت يا عائشة) . قال الدارقطنى: وعبد الرحمن قد أدرك عائشة، ودخل عليها وهو مراهق.
53 - باب يُصَلِّى الْمَغْرِبَ ثَلاثًا فِى السَّفَرِ
/ 66 - فيه: ابن عُمَر، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِى السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ،

(3/84)


يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِى السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ، وَكَان ابن عُمَر يفعله. (وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْمَغْرِبَ، وَكَانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: سِرْ، فَقُلْتُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: سِرْ، حَتَّى سَارَ مِيلَيْنِ، أَوْ ثَلاثَةً، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ. يُقيم الْمَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَلا يُسَبِّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ) . أجمعت الأمة على أن المغرب يصلى ثلاثًا فى السفر كما يصلى فى الحضر، وهذا يدل أن قول عائشة: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد فى صلاة الحضر) ، ليس على عمومه فى الصلوات كلها، للإجماع أن المغرب ثلاثًا لا يزاد فيها فى حضر، ولا ينقص منها فى سفر، وكذلك الصبح ركعتان فى السفر والحضر. قال المهلب: ولم تقصر المغرب فى السفر عما كانت عليه فى صلاة الفريضة لأنها وتر صلاة النهار، ولم يزد فى الفجر لطول قراءتها، وقدر وى هذا عن عائشة، رضى الله عنها. وفى تقصير ابن عمر حين استُصرخ على صفية امرأته من الفقه: أن التقصير فى السفر المباح غير الحج والجهاد جائز على ما يذهب إليه جماعة الفقهاء، ورد لقول أهل الظاهر الذين لا يجيزون التقصير إلا فى سفر الحج والجهاد، وذكر أنه مذهب ابن مسعود. وابن عمر روى السنة فى ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وفهم عنه

(3/85)


معناها، وأن ذلك جائز فى كل سفر مباح، ألا ترى قول ابن عمر: (هكذا رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا أعجله السير فى السفر) . وهذا عام فى كل سفر، فمن ادعى أن ذلك فى بعض الأسفار دون بعض فعليه الدليل، ويقال لهم: إن الله قرن بين أحوال المسافرين فى طلب الرزق، والمسافرين فى قتال العدو فى سقوط قيام الليل عنهم، فقال: (فتاب عليكم (إلى قوله: (وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله) [المزمل: 20] ، فلما سوى بينهم تعالى فى سقوط قيام الليل وجبت التسوية بينهم فى استباحة رخصة التقصير فى السفر، وهذا دليل لازم. وفيه: دليل على تأكيد قيام الليل، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا يتركه فى السفر، فالحضر أولى بذلك.
54 - باب صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ وَحَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ
/ 67 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصَلِّى عَلَى ناقته حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. / 68 - وفيه حديث: أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ يُصَلِّى التَّطَوُّعَ، وَهُوَ رَاكِبٌ فِى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. / 69 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنُّه كَانَ يُصَلِّى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، يُخْبِرُ أَنَّ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَفْعَلُهُ. قال المهلب: هذه الأحاديث تخص قوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144، 150] ، وتبين أن معناه فى المكتوبات، وما كان من

(3/86)


النوافل فى الأرض، وتفسر قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) [البقرة: 115] أن ذلك فى النافلة على الدابة. وقد روى عن ابن عمر أن هذه الآية نزلت فى قول اليهود فى القبلة، وذهب جماعة الفقهاء إلى الأخذ بهذه الأحاديث، وأجازوا التنفل على الدابة فى السفر إلى غير القبلة، وممن روى ذلك عنه: علىّ، وابن الزبير، وأبو ذر، وابن عمر، وأنس، وبه قال طاوس، وعطاء، وإليه ذهب مالك، والثورى، والكوفيون، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، غير أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير. واختلفوا فى الصلاة على الدابة فى السفر الذى لا تقصر فى مثله الصلاة، فقال الفقهاء الذين تقدم ذكرهم: يصلى فى قصير السفر وطويله، غير مالك فإنه قال: لا يصلى أحد على دابته فى سفر لا تقصر فى مثله الصلاة. والحجة له أن الخبر إنما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يصلى على راحلته فى سفره إلى خيبر، وجائز قصر الصلاة من المدينة إلى خيبر، ولم ينقل عنه أنه (صلى الله عليه وسلم) صلى على دابته إلا فى سفر تقصر الصلاة فيه، كذلك رواه مالك عن عمرو بن يحيى، عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر. وأيضًا فإن ذلك رخصة فى السفر كالفطر والقصر، فينبغى أن تكون هذه الرخص كلها على طريقة واحدة، وأيضًا فإن القبلة آكد، لأن الصلاة تقصر فى السفر، ولا يعدل فيها عن القبلة مع القدرة، فلما كان فى السفر القصير لا يقصر، والقصر أضعف، كان بألا يجوز ترك القبلة أولى.

(3/87)


وحجة أهل المقالة الأولى الآثار الواردة بذلك، ليس فيها تحديد سفر، ولا تخصيص مسافة، فوجب حملها على العموم فى كل سفر قصير أو طويل. ومن طريق النظر أن الله تعالى جعل التيمم رخصةً للمريض والمسافر، وقد أجمعت الأمة أن من كان خارج المصر على ميل، أو أقل ونيته العودة إلى منزله لا الشخوص إلى سفر، ولم يجد ماءً أنه يجوز له التيمم، ولا يقع عليه اسم مسافر، فكما جاز له التيمم فى هذا القدر جاز أن يتنفل على الدابة، ولا فرق بين ذلك قاله الطبرى، قال: ولا أعلم من خالف هذا القول من المتقدمين إلا مالك بن أنس.
55 - باب الإيمَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ
/ 70 - فيه ابن عُمَرَ، أَنّه كَانَ يُصَلِّى فِى السَّفَرِ عَلَى دابته أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ يَفْعَلُهُ. قال المؤلف: سنة الصلاة على الدابة الإيماء، ويكون السجود أخفض من الركوع، وروى أشهب عن مالك فى الذى يصلى على الدابة، أو المحمل لا يسجد بل يومئ، لأن ذلك من سنة الصلاة على الدابة. وقال ابن القاسم: يصلى فى المحمل متربعًا إن لم يشق عليه أن يثنى رجليه عند سجوده فليفعل ذلك. قال ابن حبيب: وإذا تنفل على الدابة، فلا ينحرف إلى جهة القبلة، وليتوجه لوجه دابته، وله إمساك عنانها وضربها وتحريك رجليه، إلا أنه لا يتكلم ولا يلتفت، ولا يسجد الراكب على قَرَبُوس سرجه، ولكن يومئ.

(3/88)


واستحب ابن حنبل، وأبو ثور أن يفتتح الصلاة فى توجهه إلى القبلة، ثم لا يبالى حيث توجهت به. والحجة لهم حديث الجارود بن أبى سبرة، عن أنس بن مالك: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان إذا أراد أن يتنفل فى السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث توجهت ركابه. وليس فى حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة وجابر استقبال القبلة عند التكبير، وهى أصح من حديث الجارود. وحجة من لم ير استقبال القبلة عند التكبير، وهو قول الجمهور أنه كما تجوز له سائر صلاته إلى غير القبلة، وهو عالم بذلك كذلك يجوز له افتتاحها إلى غير القبلة. واختلف قول مالك فى التنفل فى السفينة إلى غير القبلة، فقال فى الواضحة: لا بأس به حيث ما توجهت به كالدابة، وفى المختصر: لا يتنفل فيها إلا إلى القبلة بخلاف الدابة. واختلف قوله أيضًا فى المريض الذى لا يقدر على الصلاة على الأرض إلا إيماءً، هل يصلى الفريضة على الدابة فى محمله؟ وفى المدونة أنه لا يصلى إلا بالأرض، وروى أشهب أنه يصلى على المحمل كما يصلى على الأرض، ويوجه إلى القبلة، وفى كتاب ابن عبد الحكم مثله.
56 - باب يَنْزِلُ لِلْمَكْتُوبَةِ
/ 71 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ عَلَى

(3/89)


الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَىِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَصْنَعُ ذَلِكَ فِى الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ. وروى ابن عُمَرَ وَجَابِر مثله. / 72 - وَقَالَ جَابِر: فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. أجمع العلماء أنه لا يجوز أن يصلى أحد فريضةً على الدابة من غير عذر، وإنه لا يجوز له ترك القبلة إلا فى شدة الخوف، وفى النافلة فى السفر على الدابة، رخصةً من الله لعباده ورفقًا بهم. فثبت أن القبلة فرض من الفرائض فى الحضر والسفر، وفى السنن لمن تنفل على الأرض.
57 - باب صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْحِمَارِ
/ 73 - فيه: أَنَس، أَنّه صَلِّى عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ بِعَيْنِ التَّمْرِ، مقدمه من الشام، فَقَال لَهُ أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَهُ لَمْ أَفْعَلْهُ. ولا فرق بين التنفل فى السفر على الحمار والبغل، والبعير، وجميع الدواب عند جماعة الفقهاء على ما تقدم من اختلافهم فى السفر الطويل والقصير، وروى عن أبى يوسف أنه أجاز أن يصلى فى المصر على الدابة بالإيماء، لحديث يحيى بن سعيد، عن أنس، أنه صلى على حمار فى أزقة المدينة يومئ إيماءً. وجماعة الفقهاء على خلافه.

(3/90)


58 - باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ فِى السَّفَرِ
/ 74 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: صَحِبْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ أَرَهُ يُسَبِّحُ فى السَّفَرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] . / 75 - وقال: صَحِبْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَكَانَ لا يَزِيدُ فِى السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ. قول ابن عمر: (لم أر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يسبح فى السفر) يريد لم أره يتطوع فى السفر قبل صلاة الفريضة ولا بعدها، يعنى فى الأرض، لأنه قد روى ابن عمر عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يصلى على راحلته فى السفر حيث توجهت به، وأنه كان يتهجد بالليل فى السفر، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار عن ابن عمر، وقد جاء هذا المعنى بَيِّنًا عنه. ذكر البخارى فى (صلاة المغرب ثلاثًا فى السفر) ، حديث ابن عمر حين استُصرِخ على صفية زوجته، وأنه جمع بين المغرب والعشاء، وقال: هكذا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى المغرب ثلاثًا، ثم يسلم، ثم قلَّمَا يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين ثم يسلم، ولا يسبح بعد العشاء حتى يقوم من جوف الليل. وذكر مالك فى الموطأ عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت به. فبان أنه أراد بقوله لم أر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسبح فى السفر، التطوع فى الأرض، المتصل بالفريضة، الذى حكمه حكمها فى استقبال القبلة

(3/91)


والركوع والسجود، وكذلك كان ابن عمر يقول: لو تنفلت لأتممت، أى لو تنفلت التنفل الذى هو من جنس الفريضة لجعلته فى الفريضة ولم أقصرها. وممن كان لا يتنفل فى السفر قبل الصلاة، ولا بعدها سوى ابن عمر: على بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وليس قول ابن عمر: لم أر النبى (صلى الله عليه وسلم) يسبح فى السفر، بحجة على من رآه (صلى الله عليه وسلم) ، لأن من نفى شيئًا فليس بشاهد، وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه تنفل فى السفر مع صلاة الفريضة، وهو قول عامة العلماء. قال الطبرى: يحتمل أن يكون تركُه (صلى الله عليه وسلم) التنفل فى السفر فى حديث ابن عمر تحريًا منه (صلى الله عليه وسلم) إعلام أمته أنهم فى أسفارهم بالخيار فى التنفل بالسنن المؤكدة وتركها، وقد بيّن ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا جمع فى السفر صلى المغرب، ثم يدعو بعَشَائه، فيتعشَّى، ثم يرتحل، وإذا جاز الشغل بالعَشَاء بعد دخول وقت العِشَاء وبعد الفراغ من صلاة المغرب، فالشغل بالصلاة أحرى أن يجوز، وسأذكر ذلك فى الباب الذى بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
59 - باب مَنْ تَطَوَّعَ فِى السَّفَرِ
وَرَكَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى السَّفَرِ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ.

(3/92)


/ 76 - فيه: ابْنِ أَبِى لَيْلَى، قَالَ: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ، ذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِى بَيْتِهَا، فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. / 77 - وفيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى السُّبْحَةَ بِاللَّيْلِ فِى السَّفَرِ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. قد تقدم فى الباب قبل هذا من لم بتطوع فى السفر قبل الفريضة، ولا بعدها، ونذكر فى هذا الباب من تطوع فيه. روى الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبى سبرة، عن البراء بن عازب، قال: سافرت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثمانى عشرة سفرة، فما رأيته ترك الركعتين قبل الظهر. وأما صلاته، (صلى الله عليه وسلم) ، الضحى يوم الفتح فإنه صلاها فى بيته بالأرض على غير راحلته فدل ذلك على جواز التنفل فى السفر بالأرض، لأنه لم تكن تلك صلاة الضحى، لقول ابن أبى ليلى: ما أخبرنا أحد أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الضحى. فإنه قد صلاها بالأرض وإلى القبلة فى السفر بخلاف قول ابن عمر، وكذلك صلاته، (صلى الله عليه وسلم) ، ركعتى الفجر فى السفر وتنفله على الراحلة بالليل والنهار فيه دليل على جواز التنفل على الأرض، لأنه لما جاز له التنفل على الراحلة كان فى الأرض أجوز، وقد قال الحسن البصرى: كان أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يسافرون ويتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وهو قول جماعة العلماء.

(3/93)


قال ابن المنذر: روينا ذلك عن عمر، وعلى، وابن عباس، وجابر، وابن مسعود، وأنس، وأبى ذر، وجماعة من التابعين يكثر عددهم، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وهو الصحيح، لأنه ثبت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يتنفل فى السفر من غير وجه وليس قول ابن أبى ليلى بحُجة تسقط صلاة الضحى، لأن أكثر الأحاديث يرويها واحد عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يُلجأ إليه فيها، وتصير سنة معمولاً بها، وما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) مرة اكتفت الأمة بذلك، فكيف وقد روى أبو هريرة، وأبو الدرداء، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه أوصاهما بثلاث، منها ركعتا الضحى.
60 - باب الْجَمْعِ فِى السَّفَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
/ 78 - فيه: ابن عُمَر، كَانَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ. / 79 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. / 80 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِى السَّفَرِ. اختلف العلماء فى جمع المسافر بين الصلاتين، فذهب جمهور العلماء إلى أن المسافر يجوز له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، روى ذلك عن سعد بن أبى وقاص، وسعيد بن زيد، وأبى موسى الأشعرى، وابن عمر، وابن عباس، وأسامة

(3/94)


ابن زيد، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز الحج للمسافر إلا إذا جدَّ به السير، وهو قول مالك فى المدونة، وقول الليث، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. وبحديث ابن عباس أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير. وكرهت طائفة للمسافر الجمع إلا بعرفة والمزدلفة، هذا قول النخعى، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، واحتجوا بأن مواقيت الصلاة قد صحت فلا تترك لأخبار الآحاد. قال ابن القصار: فيقال لهم: إن أوقات السفر لا تعترض أوقات الحضر، وقد روى جمعُه (صلى الله عليه وسلم) بين الصلاتين فى السفر من طريق تجرى مجرى الاستفاضة، منها حديث ابن عمر، وابن عباس، وحديث معاذ، وقد اتفقنا على جواز جمع أهل مكة وعرفة بعرفة، والمزدلفة، وهم مقيمون، فكذلك يجوز أن يجمعوا بينهما إذا سافروا. وقال الطبرى: قد تظاهرت الأخبار عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجمع بين الصلاتين فى السفر فظاهرها أنه كان يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة، فهل بينك وبين من أنكر الجمع بعرفة والمزدلفة، وأجازه فى السفر بالأخبار الواردة عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجمع فى السفر: فرقٌ، قالوا: ولو لم يأت عنه أنه جمع إلا بعرفة والمزدلفة فقط لكان ذلك دليلاً على جواز الجمع للمسافر. وروى مالك، عن ابن شهاب، قال: سألت سالم بن عبد الله

(3/95)


هل يجمع بين الظهر والعصر فى السفر؟ قال: نعم، ألا ترى إلى صلاة الناس بعرفة. وفى حديث أنس جواز الجمع للمسافر من غير أن يجدّ به السير كما قال جمهور العلماء، وكلا الفعلين قد صح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، جمع حين جَدَّ به السير، وجمع دون ذلك، وليس ذلك بتعارض، بل كل واحد حكى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما رأى، وكُل سُنَّة. وقد قال ابن حبيب من أصحاب مالك: يجوز الجمع للمسافر جَدَّ به السير، أو لم يجدّ إلا لقطع السفر، وإن لم يَخَفْ شيئًا، وهو قول ابن الماجشون، وأصبغ بن الفرج. وترجم لحديث ابن عمر، وأنس باب: هَلْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وذكر فيه قول سالم: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ، يُقِيمُ الْمَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ. . . الحديث. قوله: (يقيم المغرب ثم يقيم العشاء) ، يحتمل أن يكون معناه بما تقام به الصلوات فى أوقاتها من الأذان والإقامة، ويحتمل أن يريد الإقامة وحدها على ما جاء فى الجمع بعرفة والمزدلفة من الاختلاف فى إقامتها، وقال ابن المنذر: يؤذن ويقيم، فإن أقام ولم يؤذن أجزأَهُ، ولو ترك الأذان والإقامة لم يكن عليه إعادة الصلاة، وإن كان مسيئًا بتركه ذلك، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى أبواب الأذان قبل هذا، فأغنى عن إعادته.

(3/96)


61 - باب يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ
/ 81 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ، وَإِذَا زَاغَتْ، صَلَّى الظُّهْرَ، وَرَكِبَ. أجمع العلماء أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، فإنه يؤخر الظهر إلى العصر، كُل على أصله من القول بالاشتراك، أو يقدم، واختلفوا فى وقت جمع المسافر بين الصلاتين، فذهبت طائفة إلى أنه يجمع بينهما فى وقت إحداهما، هذا قول عطاء بن أبى رباح، وسالم، وجمهور علماء المدينة: أبى الزناد وربيعة وغيرهم، وحكى أبو الفرج عن مالك مثله، وبه قال الشافعى، وإسحاق، قالوا: إن شاء جمع بينهما فى وقت الأولى، وإن شاء جمع فى وقت الآخرة. وقالت طائفة: إذا أراد المسافر الجمع أخرَّ الظهر وعجلَّ العصر وأخر المغرب، وعجل العشاء، وروى هذا عن سعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وهو قول مالك فى المزنية، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وقال: وجه الجمع أن يؤخر الظهر حتى يدخل وقت العصر، ثم ينزل فيجمع بينهما ويؤخر المغرب كذلك، وإن قدَّم فأرجو ألا يكون به بأس. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلى الظهر فى آخر وقتها، ثم يمكث

(3/97)


قليلاً، ثم يصلى العصر فى أول وقتها، ولا يجوز الجمع بين الصلاتين فى وقت إحداهما إلا بعرفة والمزدلفة. وحجة أهل المقالة نَص ودليلٌ، أما الدليل فإن معنى حديث أنس عندهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا زاغت الشمس صلى الظهر، ثم ركب، أو صلى الظهر والعصر ثم ركب، لأنه إنما كان يؤخر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ الشمس، فكذلك يقدم العصر إلى الظهر إذا زاغت الشمس وعلى ذلك تأولوا حديث ابن عباس الذى فى الباب قبل هذا أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، أن ذلك كان إذا زاغت الشمس. وأما النص كحديث معاذ ذكره أبو داود من حديث الليث: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر. وأما من قال: إن الجمع لا يكون إلا فى آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، فلم يؤخر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الجمع إلى وقت العصر إلا إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس خاصة، وأما إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس فإنه كان يجمع فى أول وقت الظهر، ولا يؤخر الجمع إلى العصر، فقولهم خلاف الحديث، وكذلك قول الكوفيين خلاف الآثار، وأثبتها فى ذلك حديث معاذ: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان فى غزوة تبوك، إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ترحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وفى المغرب والعشاء كذلك. فكأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يجمع بينهما مرة

(3/98)


فى وقت الظهر، ومرة فى وقت العصر، والمغرب والعشاء، مرة فى وقت المغرب، ومرة فى وقت العشاء، بخلاف قول الكوفيين. وكذلك قال أنس: إن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم يجمع. مخالف لقولهم أنهم لا يجيزون صلاة الظهر فى وقت العصر فى الجمع بين الصلوات. وحجة أخرى من طريق النظر، لو كان كما قالوا لكان ذلك أشد حرجًا وضيقًا من الإتيان بكل صلاة فى وقتها، لأن وقت كل صلاة واسع، ومراعاته أمكن من مراعاة طرفى الوقتين، ولو كان الجمع كما قالوا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والفجر. ولَمَّا أجمع العلماء أن الجمع بينهما لا يجوز عُلم أن المعنى فى الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء أيضًا، وردت به السنة للرخصة فى اشتراك وقتيهما، فإذا صليت كل صلاة فى وقتها فلا يسمى جمعًا. واحتج أبو الفرج المالكى بما ذكره عن مالك أن له أن يجمع بينهما فى وقت إحداهما أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قدّم العصر إلى الظهر بعرفة، وأخر المغرب إلى العشاء بالمزدلفة، وقال: هذا أصل هذا الباب، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سافر فقصر وجمع بينهما، والجمع للمسافر أيسر خطبًا من التقصير.

(3/99)


62 - باب إِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ مَا زَاغَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ
/ 82 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ، أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ [الشَّمْسُ] قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ. وقد تقدم فى الباب قبل هذا اختلافهم فى وقت الجمع بين الظهر والعصر، فأغنى عن إعادته، وليس فى حديث أنس تقديم العصر إلى الظهر إذا زاغت الشمس، وذلك محفوظ فى حديث معاذ، ذكره أبو داود، قال: حدثنا يزيد بن خالد، حدثنا المفضل بن فضالة، والليث، عن هشام بن سعد، عن أبى الزبير، عن أبى الطفيل، عن معاذ بن جبل، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذ كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وفى المغرب والعشاء كذلك. فجاء فى هذا الحديث ما يقطع الالتباس فى أن للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر إذا واغت الشمس، نازلاً كان أو سائرًا، جَدَّ به السير أو لم يجدَّ، على خلاف ما تأوله أبو حنيفة، وهى حجة على من أجاز الجمع، وإن لم يجد به السير، وقد تقدم ذلك.

(3/100)


63 - باب صَلاةِ الْقَاعِدِ
/ 83 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. . . .) الحديث. / 84 - وفيه: أَنَس، قَالَ: سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عن فَرَسٍ، فَخُدِشَ - أَوْ فَجُحِشَ - شِقُّهُ الأيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا قُعُودًا. . . الحديث. / 85 - وفيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَانَ مَبْسُورًا، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ صَلاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا، فَقَالَ: (إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ) . وترجم له: (باب صَلاةِ الْقَاعِدِ بِالإيماءِ) . أما حديث عائشة ففيه أنه من لم يقدر على صلاة الفريضة لِعِلَّةٍ نزلت به، فإن فرضَهُ الجلوسُ، ألا ترى قولها: (وهو شَاكٍ) ، وكذلك فى حديث أنس أنه سَقَطَ (صلى الله عليه وسلم) من الفرس فَخُدِشَ، أو فَجُحِشَ، شقه فصلى جالسًا. فأراد البخارى أن يدل أن الفريضة لا يصليها أحد جالسًا إلا مَنْ شَكَا ما يمنعُه القيام.

(3/101)


والعلماء مجمعون أن فرض من لا يطيق القيام أن يصلى الفريضة جالسًا، وقد تقدم فى أبواب الإمامة فى باب إنما جعل الإمام ليؤتم به اختلافهم فى إمامة القاعد، فأغنى عن إعادته. وأما حديث عمران فإنما ورد فى صلاة النافلة، لأن المصلى فرضه جالسًا لا يخلو أن يكون مطيقًا على القيام أو عاجزًا عنه، فإن كان مطيقًا وصلى جالسًا فلا تجزئه صلاته عند الجميع، وعليه إعادتها فكيف يكون له نصف فضل مصلى فإذا عجز عن القيام فقد سقط عنه فرض القيام وانتقل فرضه إلى الجلوس، فإذا صلى جالسًا فليس المصلى قائمًا أفضل منه. وأما قوله: (من صلى بإيماء فله نصف أجر القاعد) فلا يصح معناه عند العلماء، لأنهم مجمعون أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماء وإنما دخل الوهم على ناقل هذا الحديث فأدخل معنى الفرض فى لفظ النافلة، ألا ترى قوله: (كان مبسورًا) وهذا يدل على أنه لم يكن يقدر على أكثر مما أدى به فرضه وهذه صفة صلاة الفرض، ولا خلاف بين العلماء أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشىء: لك نصف أجر القادر عليه، بل الآثار الثابتة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه من منعه الله وحبسه عن عمله بمرض أو غيره، فإنه يكتب له أجر عمله، وهو صحيح، ورواية عبد الوارث وروح بن عبادة، عن حسين

(3/102)


المعلم لحديث عمران هذا تدفعه الأصول، والذى يصح فيه رواية إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم على ما يأتى فى الباب بعد هذا، وهو فى صلاة الفريضة. وقد غلط النسائى فى حديث عمران بن حصين وصحفه وترجم له باب صلاة النائم، فظن أن قوله (صلى الله عليه وسلم) ، ومن صلى بإيماء إنما هو ومن صلى نائمًا والغلط فيه ظاهر، لأنه قد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن للمصلى إذا غلبه النوم أن يقطع الصلاة، ثم بين (صلى الله عليه وسلم) معنى ذلك، قال: (لعله يستغفر فيسب نفسه) فكيف يأمره بقطع الصلاة وهى مباحة له، وله عليها: نصف أجر القاعد. والصلاة لها ثلاثة أحوال: أولها القيام، فإن عجز عنه فالقعود، ثم إن عجز عن القعود فالإيماء، وليس النوم من أحوال الصلاة.
64 - باب إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍ
، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ / 86 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كَانَتْ بِى بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىِّ، - عليه

(3/103)


السلام -، عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ. هذا الحديث فى صلاة الفريضة، والعلماء مجمعون أنه يصليها كما يقدر حتى ينتهى به الأمر إلى الإيماء على ظهره أو على جنبه كيفما تيسر عليه، فإن صلى على جنبه كان وجهه إلى القبلة على حسب دفن الميت، وإن صلى على ظهره كانت رجلاه فى قبلته ويومئ برأسه إيماء. ومساق إبراهيم بن طهمان لهذا الحديث، ولم يذكر فيه: فله نصف أجر القائم، يدل أنه فى صلاة الفرض، ويدل أن القيام لا يسقط فرضه إلا بعدم الاستطاعة، ثم كذلك القعود، فإذا لم يقدر على القعود انتقل فرضه إلى الإيماء على جنب أو كيف تهيًا له، حتى يسقط عنه ذلك عند عدم القدرة فيصير إلى حالة الإغماء لا يلزمه شىء. وحديث عمران هذا تعضده الأصول ولا يختلف الفقهاء فى معناه وهو أصح معنى من حديث روح بن عبادة وعبد الوارث عن حسين.
65 - باب إِذَا صَلَّى قَاعِدًا ثُمَّ صَحَّ أَوْ وَجَدَ خِفَّةً تَمَّمَ مَا بَقِى
َوَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ شَاءَ الْمَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا وَرَكْعَتَيْنِ قَائِمًا / 87 - فيه: عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى صَلاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ. هذه الترجمة فى صلاة الفريضة وأما هذا الحديث فهو فى النافلة،

(3/104)


ووجه استنباط البخارى منه حكم الفريضة هو أنه لما جاز فى النافلة القعود لغير علة مانعة من القيام، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقوم فيها قبل الركوع، كانت الفريضة التى لا يجوز القعود فيها إلا بعدم القدرة على القيام أولى أن يلزم القيام فيها إذا ارتفعت العلة المانعة منه. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال ابن القاسم فى المريض يصلى مضطجعًا أو قاعدًا ثم يخف عنه المرض فيجد قوة: أنه يقوم فيما بقى من صلاته، ويبنى على ما مضى منها، وهو قول زفر والشافعى. وقال أبو حنفية، وأبو يوسف، ومحمد: إن صلى ركعة مضطجعًا ثم صح: أنه يستقبل الصلاة ولو كان قاعدًا يركع ويسجد، بنى فى قول أبى حنيفة، ولم يبن فى قول محمد بن الحسن. وقال ابن القصار: الدليل على أنه يبنى أن للمصلى ثلاثة أحوال، أولها: القيام مع القدرة، وثانيها: القعود إن عجز عن القيام، وثالثها: الإيماء إن عجز عن القعود، فقدرته على القعود بعد الإيماء يوجب عليه البناء، فيجب أن تكون قدرته على القيام توجب عليه البناء، لأنه أصل كالقعود. فإن قيل: الفصل بين المومئ والقاعد أن القاعد يقدر على الركوع والسجود، والمومئ لا يقدر عليه، والقاعد معه بدل القيام، والمومئ لا بدل معه منه. قيل: صلاته بالإيماء صحيحة كقدرته على القيام والقعود فقد استوت أحواله، فإذا كان عجزه عن فرض لا يبطل الفرض الآخر ويبنى معه، فقدرته على فرض لا تبطل الفرض الآخر ويبنى معه.

(3/105)


فإن قالوا: قد جوزنا معكم إمامة القاعد، ومنعنا إمامة المومئ فثبت الفرق بينهما، لأن القاعد بدل القيام والقعود جميعًا، وقد صح عقده لتكبيرة الإحرام كما تصح فى قيامه وقعوده، وأما التفرقة بينهما فى الإمامة فليس إذا أبطلنا حكم المأموم لعلة فى الإمام، وجب أن تبطل صلاة الإمام، وصلاة المومئ فى نفسه صحيحة، وإن لم يصح الائتمام به، كصلاة المرأة هى صحيحة وإن لم يصح الائتمام بها، والأمى بالقارئ. وكذلك اختلفوا فيمن افتتح الصلاة قائمًا وصلى ركعة، ثم عجز عن القيام وصار إلى حال الإيماء، فعند مالك أنه يبنى عليها قاعدًا وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى. وقال أبو يوسف، ومحمد: تبطل صلاته إلا أن يتمادى قائمًا، والدلائل المتقدمة تلزمه، لأن طرءان العجز بعد القدرة كطرءان القدرة بعد العجز، وأن العجز عن الركن لا يبطل حكم الركن المقدور عليه كما أن القدرة إذا طرأت لم تبطل حكم ما مضى. واختلفوا فى النافلة يفتتحها قاعدًا، هل يجوز له أن يركع قائمًا؟ قال الطحاوى: فكره ذلك قوم، واحتجوا بما رواه حماد بن زيد عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق العقيلى، عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكثر الصلاة قائمًا وقاعدًا فإذا صلى قائمًا ركع قائمًا، وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا. وخالفهم آخرون فأجازوا لمن افتتح النافلة قاعدًا أن يركع قائمًا واحتجوا بحديث عائشة المذكور فى هذا الباب، وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد، وهو قياس قول مالك، وقاله أشهب. وقال الطحاوى: هذا الحديث أولى من حديث ابن شقيق، عن

(3/106)


عائشة، لأن فى هذا الحديث أنه كان يركع قائمًا بعدما افتتح الصلاة قاعدًا، وهو نص فى موضع الخلاف، وتماديه على الركوع فى حديث ابن شقيق حتى يركع قاعدًا لا يدل أنه ليس له أن يقوم فيركع قائمًا، وقيامه من قعوده حتى يركع قائمًا يدل أن له أن يركع قائمًا بعد ما افتتح قاعدًا، وهو حكم زائد، والزيادة يجب الأخذ بها، فلذلك جعلناه أولى من حديث ابن شقيق. وقال مالك: من افتتح النافلة قائمًا ثم شاء الجلوس فله ذلك. وخالفه أشهب فقال: إذا أحرم قائمًا فى نافلة فلا يجلس لغير عذر، وقد لزمه تمامها بما نوى فيها من القيام، فإن فعل أعاد إلا أن يغلب فلا قضاء عليه.
66 - باب التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَقَوْلِهِ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) [الإسراء: 79] أى أسهر نافلة لك
/ 88 - فيه: ابْنَ عَبَّاس قَالَ: كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ

(3/107)


لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَوْ لا إِلَهَ غَيْرُكَ) . التهجد عند العرب: التيقظ والسهر بعد نومة من الليل، والهجود أيضًا النوم، يقال تهجد: إذا سهر، وهجد: إذا نام. وقوله: (نَافِلَةً لَّكَ) [الإسراء: 79] يعنى فضلا لك عن فرائضك. واختلف فى المعنى الذى من أجله خص بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال بعضهم: إنما خص بذلك لأنها كانت عليه فريضة ولغيره تطوع، فقال: أقمها نافلة لك: عن ابن عباس. وقال مجاهد: إنما قيل له ذلك لأنه لم يكن فعله ذلك يكفر عنه شيئًا من الذنوب، لأن الله كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان له نافلة فضل وزيادة، فأما غيره فهو كفارة له وليس له نافلة. وقال الطبرى: وقول ابن عباس أولى بالصواب، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد كان خصه الله بما فرضه عليه من قيام الليل دون سائر أمته، ولا معنى لقول مجاهد، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان أشد استغفارًا لربه بعد نزول قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] وذلك أن هذه السورة نزلت عليه بعد منصرفه من الحديبية وأنزل عليه: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1] عام قبض، وقيل له فيها) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] فكان يعد استغفاره فى المجلس الواحد مائة مرة، ومعلوم أن الله تعالى، لم يأمره أن يستغفره إلا بما يغفر له باستغفاره فبان فساد قول مجاهد.

(3/108)


وقال قتادة نافلة لك: تطوعًا وفضيلة. وفى حديث ابن عباس تهجده (صلى الله عليه وسلم) وأنه كان يدعو عند قيامه ويخلص الثناء على الله بما هو أهله والإقرار بوعده ووعيده وفيه الأسوة الحسنة. وقوله: (أنت قيم السماوات والأرض) فيه ثلاث لغات يقال: قيام وقيوم وقيم. قال مجاهد: القيوم القائم على كل شىء وكذلك قال أبو عبيد. وقوله: (أنت نور السموات والأرض) أى بنورك يهتدى من فى السماوات ومن فى الأرض. وقوله: (أنت الحق) فالحق اسم من أسمائه وصفة ومن صفاته. (وقولك الحق) يعنى قولك الصدق والعدل. (ووعدك حق) يعنى لا تخلف الميعاد وتجزى الذين أساءوا بما عملوا إلا ما تجاوز عنه، وتجزى الذين أحسنوا بالحسنى. وقوله: (ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق) فيه الإقرار بالبعث بعد الموت، والإقرار بالجنة والنار، والإقرار بالأنبياء عليهم السلام. وقوله: (لك أسلمت) معناه: انقدت لحكمك وسلمت ورضيت. وقوله: (وبك آمنت) يعنى صدقت بك وبما أنزلت، والإيمان فى اللغة: التصديق. (وعليك توكلت) تبرأ إليه من الحول والقوة وصرف أموره إليه. قال الفراء: الوكيل: الكافى.

(3/109)


وقوله: (إليك أنبت) أى أطعت أمرك، والمنيب المقبل بقلبه إلى الله (وبك خاصمت) يقول: بما آتيتنى من البراهين احتججت. (وإليك حاكمت) يعنى إليك احتكمت مع كل من أبى قبول الحق والإيمان، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقول عند القتال: (اللهم أنزل الحق) ويستنصر. وقوله: (اغفر لى ما قدمت، وأخرت، وأسررت، وأعلنت) أمر الأنبياء وإن كانوا قد غفر لهم أن يستغفروا الله ويدعوا الله، ويرغبوا إليه، ويرهبوا منه، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقول: (اللهم إنى أستغفرك من عمدى، وخطئى، وجهلى، وظلمى، وكل ذلك عندى) يقر على نفسه بالتقصير، وكان يقول فى سجوده: (اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقنى من الذنوب كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) وبهذا رفع الله رسله وأنبياءه، أنهم يجتهدون فى الأعمال لمعرفتهم بعظمة من يعبدونه، فأمتهم أحرى بذلك. قاله الداوودى. قال المهلب: وقوله: (أنت المقدم، وأنت المؤخر) يعنى أنه قُدّم فى البعث إلى الناس على غيره (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (نحن الآخرون السابقون) ثم قدمه عليهم يوم القيامة بما فضله به على سائر الأنبياء، فسبق بذلك الرسل.
67 - باب فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ
/ 89 - فيه: ابْنِ عُمَرَ كَانَ الرَّجُلُ مَنا فِى زمن رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا رَأَى رُؤْيَا

(3/110)


قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكُنْتُ غُلامًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُ فِى النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِى فَذَهَبَا بِى إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِىَ مَطْوِيَّةٌ كَطَىِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ، فَقَالَ لِى: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ) ، فَكَانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلا قَلِيلا. قال المهلب: إنما فسر الرسول هذه الرؤيا فى قيام الليل، والله أعلم، من أجل قول الملك الآخر: لم ترع، أى لم تعرض عليك لأنك مستحقها، إنما ذُكِّرْتَ بها، ثم نظر رسول الله فى أحوال عبد الله فلم ير شيئًا يغفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار، وعلم مبيته فى المسجد فعبر بذلك، لأنه منبه على قيام الليل فيه بالقرآن، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، رأى الذى علمه القرآن ونام عنه بالليل تشدخ رأسه إلى يوم القيامة فى رؤياه (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: أن قيام الليل ينجى من النار. وروى سنيد: حدثنا يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (قالت أم سليمان لسليمان: يا بنى لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرًا يوم القيامة) . وذكر الطبرى، قال: حدثنا أحمد بن بشير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها

(3/111)


الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان، فمن رأى ما يكره فليقم فليصل) . فيه: تمنى الخير والعلم والحرص عليه، لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وتفسير النبى لها من العلم الذى يجب الرغبة فيه.
68 - باب طُولِ السُّجُودِ فِى قِيَامِ اللَّيْلِ
/ 90 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرَسُولَ كَانَ يُصَلِّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ؛ الحديث. أما طول سجود النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى قيام الليل فذلك، والله أعلم لاجتهاده فيه بالدعاء والتضرع إلى الله، وذلك أبلغ أحوال التواضع والتذلل إلى الله تعالى، وهو الذى أبى إبليس منه فاستحق بذلك اللعنة إلى يوم الدين والخلود فى النار أبدًا، فكان (صلى الله عليه وسلم) يطول فى السجود فى خلوته ومناجاته لله شكرًا على ما أنعم به عليه، وقد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وفيه: الأسوة الحسنة لمن لا يعلم ما يفعل به أن يمتثل فعله (صلى الله عليه وسلم) فى صلاته بالليل وجميع أفعاله ويلجأ إلى الله فى سؤال العفو والمغفرة، فهو الميسر لذلك عز وجهه، وكان السلف

(3/112)


يفعلون ذلك، قال أبو إسحاق: ما رأيت أحدًا أعظم سجدة من ابن الزبير. وقال يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره، وما تحسبه إلا جرم حائط.
69 - باب تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْمَرِيضِ
/ 91 - فيه: جُنْدَب، اشْتَكَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ. / 92 - وَقَالَ جُنْدَب: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ فَنَزَلَتْ: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 1، 5] . قال المؤلف: روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه من كان له حظ من العبادة ومنعه الله منها بمرض، فإن الله عز وجل يتفضل عليه بهبة ثوابها. وروى أبو موسى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا مرض العبد، أو سافر يكتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا) ، ذكره البخارى فى كتاب الجهاد. وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من عبد يكون له صلاة يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة) . قال المهلب: لما لم يقم النبى (صلى الله عليه وسلم) وقت شكواه، ولم تسمعه المرأة يصلى حينئذ ظنت هذا الظن والقصة واحدة رواها جندب. وقد روى: أن خديجة قالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) حين أبطأ عنه الوحى:

(3/113)


إن ربك قد قلاك، فنزلت: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 1، 5] ، فأعطاه الله ألف قصر فى الجنة من لؤلؤ ترابها المسك فى كل قصر ما ينبغى له. ذكره بقى بن مخلد فى التفسير. وقد قيل فى هذا الحديث: من لم يرزء فى جسمه فليظن أن الله قد قلاه. لكن روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يحزن أحدكم ألا يرانى فى منامه، إذا كان طالبًا للعلم، فله فى ذلك العوض) .
70 - باب تَحْرِيضِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى قيام اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ وَطَرَقَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا لَيْلا لِلصَّلاةِ
/ 93 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْن؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ) . / 94 - وفيه: عَلِىَّ، أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً، فَقَالَ: (أَلا تُصَلِّيَانِ) ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ،

(3/114)


وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] . / 95 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ. . . . . الحديث. / 96 - وقالت عَائِشَةَ: صَلَّى رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: (قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَننِّى خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ) . وفى حديث أم سلمة، وحديث على فضل صلاة الليل وإنباه النائمين من الأهل والقرابة، قال الطبرى: وذلك أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أيقظ لها عليًا وبنته مرتين، حثا لهما على ذلك فى وقت جعله الله لخلقه سكنًا، لَمَّا علم عظيم ثواب الله عليها، وشرفت عنده منازل أصحابها، اختار لهم إحراز فضلها على السكون والدعة. قال المهلب: فى حديث على رجوع المرء عما ندب إليه، إذا لم يوجب ذلك، وأنه ليس للإمام والعالم أن يشتد فى النوافل وقوله: (أنفسنا بيد الله) ، فهو كلام صحيح قنع به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من العذر لترك النافلة، ولا يعذر بمثل هذا

(3/115)


فى فريضة، وقوله: (أنفسنا بيد الله) ، كقول بلال: (أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك) ، وهو معنى قوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) [الزمر: 42] ، أى أن نفس النائم ممسكة بيد الله، وأن التى فى اليقظة مرسلة إلى جسدها، غير خارجة من قدرة الله تعالى، فقنع بذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) وانصرف. وأما ضربه فخذه وقوله: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] ، فإنه يدل أنه ظن أنه أحرجهم وندم على إنباههم، وكذلك لا يحرج الناس إذا حُضوا على النوافل، ولا يُضيق عليهم، وإنما يذكروا فى ذلك ويشار عليهم. وقوله: (ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ وماذا أنزل من الخزائن) ؟ قال ذلك لما أعلمه الله من الوحى أنه يفتح على أمته من الغنى والخزائن، وعرفه أن الفتن مقرونة بها مخوفة على من فتحت عليه، ولذلك آثر كثير من السلف القلة على الغنى، خوف التعرض لفتنة المال، وقد استعاذ النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من فتنة الغنى كما استعاذ من فتنة الفقر. وقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) ، يريد أزواجه (صلى الله عليه وسلم) ، يعنى من يوقظهن للصلاة بالليل، وهذا يدل أن الصلاة تنجى من شر الفتن، ويُعتصم بها من المحن. وقوله: (كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة) ، يريد كاسية بالثياب الواصفة لأجسامهن لغير أزواجهن، ومن يحرم عليه النظر إلى ذلك منهن، وهن عاريات فى الحقيقة فربما عوقبت فى الآخرة بالتعرى

(3/116)


الذى كانت إليه مائلة فى الدنيا، مباهية بحسنها، فعرف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن الصلاة تعصم من شر ذلك، وقد فسر مالك حديث كاسيات عاريات أنهن لابسات رقيق الثياب، وقد يحتمل أن يريد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة) النهى عن لباس رقيق الثياب واصفًا كان أو غير واصف خشية الفتنة، وسيأتى هذا المعنى مستوعبًا فى كتاب الفتن فى باب لا يأتى زمان إلا الذى بعده شر منه. وأما حديث عائشة، فظاهره أن من الفرائض ما يفرض الله على العباد من أجل رغبتهم فيها وحرصهم عليها، والأصول ترد هذا التوهم، وذلك أن الله فرض على عباده الفرائض، وهو عالم بثقلها وشدتها عليهم، أراد محنتهم بذلك لتتم الحجة عليهم، فقال: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة 45] ، وقال موسى لمحمد، (صلى الله عليه وسلم) ، ليلة الإسراء حين رده الله من خمسين صلاة إلى خمس صلوات: (راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك) . ويحتمل حديث عائشة، والله أعلم، معنيين: أحدهما أنه يمكن أن يكون هذا القول منه (صلى الله عليه وسلم) فى وقت فرض قيام الليل عليه دون أمته، لقوله فى الحديث: (لم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أننى خشيت أن تفرض عليكم) ، فدل أنه كان فرضًا عليه وحده. وقد روى عن ابن عباس أن قيام الليل كان فرضًا على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذكره ابن الأدفوى، فيكون معنى قول عائشة: (إن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليدع العمل) ، يعنى إن كان يدع إظهار عمله لأمته

(3/117)


ودعاءهم إلى فعله معه، لا أنها أرادت أنه كان يدع العمل أصلاً، وقد فرضه الله تعالى عليه، أو ندبه إليه، لأنه كان أتقى أمته لله وأشدهم اجتهادًا، ألا ترى أنه لما اجتمع الناس من الليلة الثالثة، أو الرابعة لم يخرج إليهم، ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة فى بيته. فخشى إن خرج إليهم والتزموا معه صلاة الليل أن يسّوى الله تعالى بينهم وبينه فى حكمها، فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه، إذ المعهود فى الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم فى الصلاة، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيها سواء، وكذلك ما كان منها سنة أو نافلة. والمعنى الثانى هو أن يكون خشى من مواظبتهم على صلاة الليل معه أن يضعفوا عنها فيكون من تركها عاصيًا لله فى مخالفته لنبيه وترك اتباعه، متوعدًا بالعقاب على ذلك، لأن الله تعالى فرض اتباعه، فقال: (واتبعوه لعلكم تهتدون) [الأعراف: 158] ، وقال فى ترك اتباعه: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور: 63] ، فخشى على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه، لأن طاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كطاعة الله، وكان (صلى الله عليه وسلم) رفيقًا بالمؤمنين رحيمًا بهم. وسيأتى فى باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنى فى كتاب الاعتصام زيادة فى هذا المعنى وبيانه، إن شاء الله تعالى. وقال المهلب: فى حديث عائشة أن قيام رمضان بإمام ومأمومين سنة، لأنه (صلى الله عليه وسلم) صلى بصلاته ناس ائتموا به، وهذا خلاف قول من أزرى فقال: [. . . .] عمر. ولم يتق الله فى مقالته،

(3/118)


ولا صدق، لأن الناس كانوا يصلون لأنفسهم أفذاذًا، وإنما فعل عمر التخفيف عنهم، فجمعهم على قارئ واحد يكفيهم القراءة ويفرغهم للتدبر. وقد احتج قوم من الفقهاء بقعود النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الخروج إلى أصحابه الليلة الثالثة، أو الرابعة، وقالوا: إن صلاة رمضان فى البيت للمنفرد أفضل من صلاتها فى المسجد، منهم مالك، وأبو يوسف، والشافعى، وقال مالك: كان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا فى بيته. وذكر ابن أبى شيبة، عن ابن عمر، وسالم، وعلقمة، والأسود، أنهم كانوا لا يقومون مع الناس فى رمضان. وقال الحسن البصرى: لأن تفوه بالقرآن أحب إليك من أن يفاه به عليك. ومن الحجة لهم أيضًا حديث زيد بن ثابت: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حين لم يخرج إليهم قال لهم: (إنى خشيت أن بفرض عليكم، فصلوا أيها الناس فى بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة) . فأخبر أن التطوع فى البيت أفضل منه فى المسجد لاسيما مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مسجده. وخالفهم آخرون، فقالوا: صلاتها فى الجماعة أفضل. قال الليث: لو أن الناس فى رمضان قاموا لأنفسهم وأهليهم حتى تترك المساجد، حتى لا يقوم فيها أحد لكان ينبغى أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه، لأن قيام الناس فى رمضان الأمر الذى لا

(3/119)


ينبغى تركه، وهو مما سَنَّ عمر بن الخطاب للمسلمين وجمعهم عليه. ذكر ابن أبى شيبة، عن عبد الله بن السائب، قال: كنت أصلى بالناس فى رمضان، فبينا أنا أصلى إذ سمعت تكبير عمر على باب المسجد قدم معتمرًا، فدخل فصلى خلفى. وكان ابن سيرين يصلى مع الجماعة، وكان طاوس يصلى لنفسه ويركع ويسجد معهم، وقال أحمد بن حنبل: كان جابر يصليها فى جماعة. وروى عن على، وابن مسعود مثل ذلك، وهو قول محمد بن عبد الحكم. قال الطحاوى: وممن قال إن الجماعة أفضل: عيسى بن أبان، والمزنى، وبكار بن قتيبة، وأحمد بن أبى عمران، واحتج أحمد فى ذلك بحديث أبى ذر: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج لما بقى من الشهر سبع فصلى بهم حتى مضى ثلث الليل، ثم لم يصل بنا السادسة، ثم خرج الليلة الخامسة، فصلى بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفلتنا، قال: (إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة) ، ثم خرج الليلة السابعة، وخرجنا وخرج بأهله، حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، وهو السحور. رواه ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن داود بن أبى هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرشى، عن جبير بن نفير، عن أبى ذر. قال الطحاوى: وكل من اختار التفرد، فينبغى أن يكون ذلك على أن لا ينقطع معه القيام فى المسجد، فأما الذى ينقطع معه القيام فى المسجد فلا. قال: وقد أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل

(3/120)


المساجد عن قيام رمضان، فصار هذا القيام واجبًا على الكفاية فمن فعله كان أفضل ممن انفرد كالفروض التى على الكفاية. قال ابن القصار: أما الذين لا يقدرون ولا يقوون على القيام، فالأفضل لهم حضورها ليسمعوا القرآن وتحصل لهم الصلاة ويقيموا السنة التى قد صارت عَلَمًا.
71 - باب قِيَامِ اللَّيْلَ
قَالَتْ عَائِشَةُ: قام النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ. وَالْفُطُورُ: الشُّقُوقُ، انْفَطَرَتْ: انْشَقَّتْ. / 97 - فيه: الْمُغِيرَةَ، إِنْ كَانَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) لَيَقُومُ؛ أو لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ، أَوْ سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: (أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) . قال المهلب: فيه أخذ الإنسان على نفسه بالشدة فى العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، وذلك له حلال، وله أن يأخذ بالرخصة ويكلف نفسه ما عفت له به وسمحت، إلا أن الأخذ بالشدة أفضل، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أفلا أكون عبدًا شكورًا) ، فكيف من لم يعلم أنه استحق النار أم لا؟ فمن وفق للأخذ بالشدة فله فى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أفضل الأسوة. وإنما ألزم الأنبياء والصالحون أنفسهم شدة الخوف، وإن كانوا قد أمنوا، لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل

(3/121)


استحقاقها، فبذلوا مجهودهم فى شكره تعالى بأكبر مما افترض عليهم فاستقلوا ذلك. ولهذا المعنى قال طلق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن تحصى ولكن أصبحوا قانتين وأمسوا تائبين، وهذا كله مفهوم من قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28] .
72 - باب مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ
/ 98 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَهُ: (أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا) . / 99 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ أَحَبَّ الْعَمَل إِلَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الدَّائِمُ، قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ) . / 100 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِى إِلا نَائِمًا، تَعْنِى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: هذا يدل أن دواد كان يجم نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم فى الوقت الذى ينادى فيه الله تعالى: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح فيه من نصب القيام فى بقية الليل. وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله من أجل الأخذ بالرفق على

(3/122)


النفوس التى يخشى منها السآمة والملل الذى هو سبب إلى ترك العبادة، والله يحب أن يديم فضله، ويوالى إحسانه أبدًا، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله لا يمل حتى تملوا) . يعنى أن الله لا يقطع المجازاة على العبادة حتى تقطعوا العمل. فأخرج اللفظ المجازاة بلفظ الفعل، لأن الملل غير جائز على الله تعالى، ولا هو من صفاته. وقول عائشة: (كان يقوم إذا سمع الصارخ) ، فهو فى حدود ثلث الليل الآخر، ليتحرى وقت تنزل الله تعالى، ثم يرجع إلى الاضطجاع للراحة من نصب القيام، ولما يستقبله من طول قيام صلاة الصبح، فلذلك كان ينام عند السحر، وهذا كان يفعله (صلى الله عليه وسلم) فى الليالى الطوال، وفى غير شهر رمضان، لأنه قد ثبت عنه تأخير السحور على ما يأتى فى الباب بعد هذا، إن شاء الله.
73 - باب مَنْ تَسَحَّرَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى الصُّبْحَ
/ 101 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا، قَامَ نَبِىُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّيا قُلْت لأنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِى الصَّلاة؟ ِ قَالَ: كَقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً. فى هذا الحديث تأخير السحور. وقوله: (كم كان بين فراغهما ودخولهما فى الصلاة) يريد صلاة الصبح، وقد ترجم البخارى لهذا الحديث فى كتاب الصيام، باب قدر كم بين السحور وصلاة الصبح. إلا أنه أول ما قام إليه

(3/123)


ركعتا الفجر، لأنه حين [. . . . .] الفجر، وكان بين سحوره (صلى الله عليه وسلم) وصلاة الصبح قدر خمسين آية [. . . .] تلك المدة التى تقدر بخمسين آية صلى ركعتى الفجر، ثم قعد ينتظر الصبح.
74 - باب طُولِ الْقِيَامِ فِى صَلاةِ اللَّيْلِ
/ 102 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قُلْنَا: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) . / 103 - وفيه: حُذَيْفَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. قال المهلب: فيه أن مخالفة الإمام أمر سوء كما قال ابن مسعود، وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون أمره) [النور: 63] الآية، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) للذين صلوا خلفه قيامًا، وهو جالس: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، إلى قوله: (فإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون) ، فينبغى أن يكون ما خالف الإمام من أمر الصلاة وغيرها من سيئ الأعمال. وفى حديث ابن مسعود دليل على طول القيام فى صلاة الليل، لأن ابن مسعود أخبر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يزل قائمًا حتى همّ بالقعود، وهذا لا يكون إلا لطول القيام، لأن ابن مسعود كان جلدًا مقتديًا بالرسول محافظًا على ذلك.

(3/124)


وقد اختلف العلماء: هل الأفضل فى صلاة التطوع طول القيام، أو كثرة الركوع والسجود، فذهبت طائفة إلى أن كثرة الركوع والسجود فيها أفضل، وروى عن أبى ذر: أنه كان لا يطيل القيام ويكثر الركوع والسجود، فسئل عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة) . وروى عن ابن عمر، أنه رأى فتىً يصلى قد أطال صلاته، فلما انصرف قال: من يعرف هذا؟ قال رجل: أنا، قال عبد الله: لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود، فإنى سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إذا قام العبد يصلى أتى بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقيه، وكلما ركع وسجد تساقطت عنه) . وقال يحيى بن رافع: كان يقال: لا تطل القراءة فى الصلاة، فيعرض لك الشيطان فيمنيك. وقال آخرون: طول القيام أفضل، واحتجوا بما روى وكيع، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال: سئل رسول الله، أى الصلاة أفضل؟ قال: (طول القنوت) . وهو قول إبراهيم، وأبى مجلز، والحسن البصرى. وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وقال أشهب: هو أحب إلىّ لكثرة القراءة، على سعة ذلك كله. قال الطحاوى: وليس فى حديث أبى ذر ما يخالف هذا الحديث، لأنه قد يجوز أن يكون قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من ركع لله ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحَطَّ عنه خطيئة) . وإن زاد مع ذلك طول القيام كان أفضل، وكان ما يعطيهم الله من الثواب أكثر،

(3/125)


هذا أَوْلى ما حُمل عليه معنى الحديث، لئلا يضاد الأحاديث الأُخر، وكذلك حديث ابن عمر ليس فيه تفضيل الركوع والسجود على طول القيام، وإنما فيه ما يعطاه المصلى على الركوع والسجود من حط الذنوب عنه، ولعله يعطى بطول القيام أفضل من ذلك، وحديث ابن مسعود يشهد بصحة هذا القول. قال المؤلف: وأما حديث حذيفة فلا مدخل له فى هذا الباب، لأن شوص الفم بالسواك فى صلاة الليل لا يدل على طول الصلاة، ولا قصرها، كما لا يدل عليه قوله: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، أنه أراد طوال الصلوات دون القصار، وهذا الحديث يمكن أن يكون من غلط الناسخ، فكتب فى غير موضعه، وإن لم يكن كذلك فإن البخارى أعجلته المنية عن تهذيب كتابه وتصفحه، وله فيه مواضع مثل هذا تدل على أنه مات قبل تحرير الكتاب، والله أعلم. وفيه: أن السواك من الرغائب وهو من الفطرة، وقال أبو زيد: الشوص: الاستياك من سفل إلى علو، وبه سمى هذا الداء (شَوْصَة) لأنه ريح يرفع القلب عن موضعه. وقال أبو حنيفة فى كتاب النيات: شاص فاه بالسواك شوصًا، وماصه موصًا.

(3/126)


75 - باب كَيْفَ صَلاةُ الليْلِ؟ وَكَمْ كَانَ الرسُول يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ؟
/ 104 - فيه: ابْن عُمَر،: إنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ صَلاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: (مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ) . / 105 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ صَلاةُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِي بِاللَّيْلِ. / 106 - وفيه: عَائِشَةَ، أن صَلاةِ النَّبِىّ بِاللَّيْلِ، سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتِى الْفَجْرِ. / 107 - وقالت أيضًا: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. وذهب أكثر العلماء إلى أن صلاته بالليل مثنى مثنى، على حديث ابن عمر، وقالوا: قوله: (مثنى مثنى) يفيد التسليم فى كل ركعتين ليفصل بينها وبين صلاة أربع، وإلا فلا يفيد هذا الكلام، لأنه على التقدير تكون صلاة الظهر والعصر والعشاء مثنى مثنى، فلما لم يقل لواحدة منها مثنى مثنى علم أن المثنى يقتضى الفصل بالسلام، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى صلاة النهار، وهل هى مثنى مثنى فى بابه بعد هذا، إن شاء الله. وأما عدد صلاته (صلى الله عليه وسلم) بالليل، فإن الآثار اختلفت فى ذلك عن ابن عباس وعائشة، فروى أبو جمرة، عن ابن عباس: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى ثلاث عشرة ركعة. ورواه مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس، أنه بات عند خالته ميمونة فذكر أنه صلى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إحدى عشرة ركعة بالوتر. فهذا خلاف ما روى مالك، عن مخرمة، عن

(3/127)


كريب، ذكره النسائى، وروى شريك ابن أبى نمر، عن كريب، عن ابن عباس، أنه صلى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إحدى عشرة ركعة. وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. وذكر الطحاوى، عن على بن معبد، قال: حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا يونس بن أبى إسحاق، عن المنهال بن عمر، عن على بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: أمرنى العباس أن أبيت عند النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقدم إلىّ ألا تنام حتى تحفظ لى صلاته، قال: فصليت معه إحدى عشرة ركعة بالوتر. وأما اختلاف الآثار، عن عائشة أيضًا، فروى مسروق، والقاسم بن محمد، وأبو سلمة، عن عائشة: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى إحدى عشرة ركعة سوى ركعتى الفجر. وروى عنها خلاف ذلك من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلى إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين. وكذلك روى عن زيد بن خالد الجهنى حين رمق صلاة النبى بالليل ثلاث عشرة ركعة بالوتر. وقد أكثر الناس القول فى هذه الأحاديث، فقال بعضهم: إن هذا الاختلاف جاء من قبل عائشة، وابن عباس، لأن رواة هذه الأحاديث الثقات الحفاظ، وكل ذلك قد عمل به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليدل على التوسعة فى ذلك، وأن صلاة الليل لا حدّ فيها لا يجوز تجاوزه إلى غيره وكلٌ سُنَّةٌ.

(3/128)


وقال آخرون: بل جاء الاختلاف فيها من قبل الرواة، وأن الصحيح منها إحدى عشرة ركعة بالوتر. قالوا: وقد كشفت عائشة هذا المعنى ورفعت الإشكال فيه لقولها: (ما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يزيد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة) ، وهى أعلم الناس بأفعاله لشدة مراعاتها له، وهى أضبط لها من ابن عباس، لأنه إنما رمق صلاته مرةً حين بعثه العباس ليحفظ صلاته بالليل، وعائشة رقبت ذلك دهرها كله. فما روى عنها مما خالف إحدى عشرة ركعة فهو وهم، ويحتمل الغلط فى ذلك أن يقع من أجل أنهم عدّوا ركعتى الفجر مع الإحدى عشرة ركعة، فتمت بذلك ثلاث عشرة ركعة. وقد جاء هذا المعنى بيانًا فى بعض طرق الحديث، روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن سلمة بن كهيل، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بت عند خالتى ميمونة، فقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصلى، فتمطيت كراهية أن يرانى أراقبه، ثم قمت ففعلت مثل ما فعل فصلى فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر، ثم نام حتى نفخ، فجاءه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى ولم يتوضأ. وروى ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، ويونس، وعمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، أخبرهم عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، ويسجد سجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر ركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة.

(3/129)


فكل ما خالف هذا عن ابن عباس، وعائشة فهو وهم. وقالوا: ومما يدل على صحة هذا التأويل قول ابن مسعود للرجل الذى قال: قرأت المفصّل فى ركعة فقال: هذا كَهَذِّ الشِّعْر، لقد عرفت النظائر التى كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرن بينهما، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين فى كل ركعة. فدل هذا أن حزبه بالليل عشر ركعات، ثم يوتر بواحدة، قاله المهلب، وأخوه عبد الله. وقال آخرون: الذى تأتلف عليه أحاديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى الصلاة بالليل وينفى التعارض عنها، والله أعلم، أنه قد روى أبو هريرة، وعائشة، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كان إذا قام من الليل يصلى افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. فمن جعل صلاته بالليل عشر ركعات والوتر واحدة لم يعتد بهاتين الركعتين فى صلاته، ومن عدها جعلها ثلاث عشرة ركعة سوى ركعتى الفجر. وأما حديث أبى هريرة، فرواه ابن عيينة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا قام أحدكم من الليل يصلى فليصل ركعتين خفيفتين يفتتح بهما صلاته) . وحديث عائشة رواه ابن أبى شيبة، عن هشيم، قال: حدثنا أبو حرة، عن الحسن، عن سعد

(3/130)


بن هشام، عن عائشة، عن النبى مثله. وأما قول عائشة: (إن صلاة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالليل سبع وتسع) فقد روى الأسود عنها أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى من الليل تسع ركعات، فلما أسن صلى سبع ركعات. وروى عنها أنه كان يصلى بعد السبع ركعتين وهو جالس، وبعد التسع كذلك. رواه معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال: أخبرنا سعد بن هشام، أنه سمع عائشة تقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوتر بتسع ركعات وهو جالس، فلما ضعف أوتر بسبع ركعات وهو جالس. قال المهلب: وإنما كان يوتر بتسع ركعات، والله أعلم، حين يفاجئه الفجر، وأما إذا اتَّسَع له الليل فما كان ينقص من عشر ركعات، للمطابقة التى بينها وبين الفرائض التى امتثلها (صلى الله عليه وسلم) فى نوافله وامتثلها فى الصلوات المسنونة.
76 - باب قِيَامِ النَّبِىِّ بِاللَّيْلِ مِنْ نَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (إلى قوله: (سَبْحًا طَوِيلا) [المزمل: 1 - 7] وَقَوْلُهُ: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ (إلى قوله: (غفور رحيم) [المزمل: 20]
. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَشَأَ: قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ: (وِطَاءً (قَالَ: مُوَاطَأَةَ للْقُرْآنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ.) لِيُوَاطِئُوا (: لِيُوَافِقُوا. / 108 - وفيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلا رَأَيْتَهُ، وَلا نَائِمًا إِلا رَأَيْتَهُ. قال المؤلف: ذكر ابن الأدفوى أن للعلماء فى قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ) [المزمل: 2 - 3] أقوالا منها: أن قوله: (قُمِ اللَّيْلَ (ليس معناه الفرض، يدل على ذلك أن بعده: (نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل: 3 - 4] وليس كذا يكون الفرض وإنما هو ندب وحض.

(3/131)


وقيل: هو حتم. والقول الثالث: أن يكون حتمًا وفرضًا على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وحده، روى ذلك عن ابن عباس، وحجة هذا القول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن يفرض عليكم) فهذا يبين أنه لم يكن فرضًا عليهم. ويجوز أن يكون فرضًا عليه وعلى أمته، ثم نسخ بعد ذلك بقوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) [المزمل: 2] وعلى هذا جماعة من العلماء، وحجتهم ما روى النسائى، قال: حدثنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أبى أوفى، عن سعد بن هشام، قال: قلت لعائشة: أنبئينى عن قيام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قالت: إن الله افترض القيام فى أول) يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [المزمل: 1] على النبى وعلى أصحابه حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثنى عشر شهرًا، ثم نزل التخفيف فى آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعًا بعد أن كان فريضة، وقال النحاس: هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم وجماعة. وقال الحسن، وابن سيرين: صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة. قال إسماعيل بن إسحاق: أحسبهما قالا ذلك لقوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ) [المزمل: 20] . وقال الشافعى: سمعت بعض العلماء يقول: إن الله، تعالى، أنزل فرضًا فى الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ) [المزمل: 1 - 3] الآية، ثم نسخ هذا بقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ (ثم احتمل قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ (أن يكون فرضًا ثابتًا، لقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) [الإسراء: 79] ،

(3/132)


فوجب طلب الدليل عن السُّنَّة على أحد المعنيين، فوجدنا سُنَّة الرسول تدل ألا واجب من الصلوات إلا خمس. وقوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل: 2 - 4] التقدير، والله أعلم، أنه منصوب بإضمار فعل كأنه قال تعالى: قم نصف الليل إلا قليلا، فعلم تعالى أن هذا القليل يختلف الناس فى تقديره على قدر أفهامهم وطاقتهم على القيام، فقال: أو انقص من نصف الليل بعد إسقاط ذلك القليل قليلا أو زد عليه، وكأن هذا تخييرًا من الله تعالى، إرادة الرفق بخلقه والتوسعة عليهم.) وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 4] أى اقرأه على ترسل، عن مجاهد.) قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل: 5] حلاله وحرامه، عن مجاهد. وقيل: العمل به، عن الحسن) نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) [المزمل: 6] بعد النوم، أى ابتداء عمله شيئًا بعد شىء وهو من نشأ إذا ابتدأ. ابن عباس ومجاهد: هى الليل كله. ابن عمر وغيره: هى ما بين المغرب والعشاء.) أَشَدُّ وَطْئًا) [المزمل: 6] أى أمكن موقعًا. الأخفش: أشد قيامًا. قتادة: أثبت فى الخير، وأشد للحفظ، للتفرغ بالليل. وأصل الوطء الثقل، ومن قولهم: اشتدت وطأة الشيطان

(3/133)


ومن قرأ: (وطاء) فالمعنى أشد مهادًا للتصرف فى التفكر والتدبر، عن مجاهد، يواطئ السمع والبصر والقلب.) وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل: 6] أى أثبت للقراءة، عن مجاهد. قال بعضهم: ولهذا المعنى فرض الله صلاة الليل بالساعات جزءًا من الليل لا جزءًا من القرآن، إرادة التنبيه على تفقهه وتدبره والعمل بالقلب، وأنه ليس بهذه الحروف وجريه على اللسان، وأن الثواب بمقدار تمام الساعات التى يقرأ فيها.) سَبْحًا طَوِيلاً) [المزمل: 7] أى فراغاً، عن ابن عباس وغيره. قال المهلب: وحديث أنس يدل أن أعمال التطوع ليست منوطة بأوقات معلومة، وإنما هى على قدر الإرادة لها والنشاط فيها.
77 - باب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ
/ 109 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرَسُولَ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عِنْدَ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ) . / 110 - وفيه: سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ عَنِ الرَسُولَ فِى الرُّؤْيَا قَالَ: (أَمَّا الَّذِى يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ) . قال المهلب: قد فسر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، معنى العقد وهو قوله: (عليك ليل طويل فارقد) كأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ إلى حزبه فيعتقد فى نفسه أنه بقيت من الليل بقية طويلة حتى يروم

(3/134)


بذلك إتلاف ساعات ليله وتفويت حزبه، فإذا ذكر الله انحلت عقدة، أى علم أنه قد مر من الليل طويل وأنه لم يبق منه طويل، فإذا قام وتوضأ استبان له ذلك أيضًا وانحل ما كان عقد فى نفسه من الغرور والاستدراج، فإذا صلى واستقبل القبلة انحلت العقدة الثالثة، لأنه لم يصغ إلى قوله، ويئس الشيطان منه. والقافية: هى مؤخرة الرأس، وفيه العقل والفهم، فعقده فيه إثباته فى فهمه أنه بقى عليه ليل طويل. (فيصبح نشيطًا طيب النفس) ، لأنه مسرور بما قدم، مستبشر بما وعده الله من الثواب والغفران، وإذا لم يصل (أصبح خبيث النفس) ، أى مهمومًا بجواز كيد الشيطان عليه، و (كسلان) بتثبيط الشيطان له عما كان اعتاده من فعل الخير. قال المؤلف: ورأيت لبعض من فَسَّرَ هذا الحديث، قال: العقد الثلاث هى: الأكل والشرب والنوم، وقال: ألا ترى أن من أكثر الأكل والشرب أنه يكثر نومه لذلك، والله أعلم بصحة هذا التأويل وبما أراد (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. قال المهلب: وقوله فى حديث سمرة: (يأخذ القرآن فيرفضه) ، يعنى يترك حفظ حروفه والعمل بمعانيه، فأما إذا ترك حفظ حروفه وعمل بمعانيه فليس برافض له، لكنه قد أتى فى الحديث أنه يحشر يوم القيامة أجذم أى مقطوع الحجة، والرافض له يثلغ رأسه وذلك لعقد الشيطان فيه، فوقعت العقوبة فى موضع المعصية. وقوله: (ينام عن الصلاة المكتوبة) ، يعنى لخروج وقتها وفواته، وهذا إنما يتوجه إلى تضييع صلاة الصبح وحدها، لأنها هى التى

(3/135)


تبطل بالنوم، وهى التى أكد الله المحافظة عليها، وفيها تجتمع الملائكة، وسائرُ الصلوات إذ ضُيعت فحملها محملها، لكن لهذه الفضل.
78 - باب إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنِهِ
/ 111 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ مَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، فَقَالَ: (بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنِهِ) . قال المهلب: قوله: (بال الشيطان فى أذنه) على سبيل الإغياء من تحكم الشيطان فى العقد على رأسه بالنوم الطويل، وقال ابن مسعود: كفى لامرئ من الشر أن يبول الشيطان فى أذنه. قال ابن قتيبة: والعرب تقول: بال فى كذا إذا أفسده، قال الفرزدق: وإن الذى يسعى ليفسد زوجتى كساعٍ إلى أسد الشرى يستبيلها معناه: يطلب مفسدتها.
79 - باب الدُّعَاءِ فِى الصَّلاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَقَالَ تَعَالَى: (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات: 17] يَنَامُونَ.
/ 112 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ

(3/136)


إِلَى سَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ) . قال ابن فورك: حجة أهل البدع هذا الحديث وشبهه، وقالوا: لا يمكن حمل شىء منه على تأويل صحيح من غير أن يكون فيه تشبيه، أو تحديد، أو وصف للرب تعالى بما لا يليق به، وقد ورد التنزيل، بمعنى هذا الحديث وهو قوله: (وجاء ربك والملك صفا صفا) [الفجر: 22] ، و) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ظلل من الغمام والملائكة) [البقرة: 21] ، و) أتى الله بنيانهم من القواعد) [النحل: 26] . ولا فرق بين الإتيان والمجئ والنزول إذا أضيف جميع ذلك إلى الأجسام التى يجوز عليها الحركة والنقلة التى هى تفريغ مكان زشغل غيره، فإذا أضيف ذلك إلى من لا يليق به الانتقال والحركة كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته عزَّ وجلَّ. فمن ذلك أنا وجدنا لفظة النزول فى اللغة مستعملة على معانٍ مختلفة، فمنها النزول بمعنى الانتقال والتحويل كقوله: (وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا) [الفرقان: 48] ، ومنها النزول بمعنى الإعلام كقوله: (نزل به الروح الأمين) [الشعراء: 193] ، أى أعلم به الروحُ الأمين محمدًا، (صلى الله عليه وسلم) . ومنها النزول بمعنى القول فى قوله تعالى: (سأنزل مثل ما أنزل الله) [الأنعام: 93] ، أى سأقول مثل ما قال، ومنها النزول بمعنى الإقبال على الشىء، وذلك هو المستعمل فى كلامهم الجارى فى عرفهم، وهو

(3/137)


أنهم يقولون: نزل فلان من مكارم الأخلاق إلى دنيّها، أى أقبل إلى دنيها، ونزل قدر فلان عند فلان، أى انخفض. ومنها النزول بمعنى نزول الحكم، من ذلك قولهم: كنا فى خير وعدل حتى نزل بنا بنو فلان، أى حكمهم، وكل ذلك متعارف عند أهل اللغة، وإذا كانت هذه اللفظة مشتركة المعنى فينبغى حمل ما وصف به الرب تعالى من النزول على ما يليق به من بعض هذه المعانى. إما أن يراد به إقباله على أهل الأرض بالرحمة والتنبيه الذى يلقى فى قلوب أهل الخير منهم، والزواجر التى تزعجهم إلى الإقبال على الطاعة، ويحتمل أن يكون ذلك فعلا يظهر بأمره، فيضاف إليه، كما يقال: ضرب الأمير اللص، ونادى الأمير فى البلد، وإنما أمر بذلك، فيضاف إليه الفعل على معنى أنه عن أمره ظهر، وإذا احتمل ذلك فى اللغة لم ينكر أن يكون لله ملائكة يأمرهم بالنزول إلى السماء الدنيا بهذا النداء والدعاء، فيضاف إلى الله. وقد روى هذا التأويل فى بعض طرق هذا الحديث، روى النسائى، قال: حدثنا إبراهيم ابن يعقوب، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبى، عن الأعمش، حدثنا أبو إسحاق، حدثنا أبو مسلم، عن الأغر، قال: سمعت أبا هريرة، وأبا سعيد الخدرى يقولان: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديًا ينادى يقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى) . وقد سئل الأوزاعى عن معنى هذا الحديث، فقال: يفعل الله ما يشاء. وهذه إشارة منه إلى أن ذلك فعل يظهر منه تعالى.

(3/138)


وقد روى حبيب، عن مالك، أنه قال فى هذا الحديث: ينزل أمره ورحمته، وقد رواه غير حبيب عنه، روى محمد بن على البجلى بالقيروان، قال: حدثنا جامع بن سوادة، قال: حدثنا مطرف، عن مالك بن أنس، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: ذلك تنزل أمره. وقد سئل بعض العلماء عن حديث النزول، فقال: تفسيره قول إبراهيم حين أفل النجم: (لا أحب الآفلين) [الأنعام: 76] فطلب ربا لا يجوز عليه الانتقال والحركات، ولا يتعاقب عليه النزول، وقد مدحه الله بذلك وأثنى عليه فى كتابه، فقال: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين) [الأنعام: 75] ، فوصفه لأنه بقوله هذا، موقن. وفى حديث أبى هريرة أن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار، وقال تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) [الذرايات: 18] وروى محارب بن دثار، عن عمه: أنه كان يأتى المسجد فى السحر فيمر بدار ابن مسعود فيسمعه: اللهم إنك أمرتنى فأطعت، ودعوتنى فأجبت، وهذا السحر فاغفر لى. فسئل ابن مسعود عن ذلك، فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: (سوف أستغفر لكم ربى) [يوسف: 98] . وروى الجريرى: (أن داود، (صلى الله عليه وسلم) ، سأل جبريل أى الليل أسمع؟ فقال: لا أدرى، غير أن العرش يهتز فى السحر) . وقوله: (أسمع) يريد أنها أوقع للسمع، والمعنى: أنها أولى بالدعاء وأرجى للاستجابة، وهذا كقول ضماد حين عَرض عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإسلام، فقال: سمعت كلامًا لم أسمع قط أسمع منه يريد أبلغ منه، ولا أنجع فى القلب. عن الخطابى.

(3/139)


وترجم لحديث التنزل فى كتاب الدعاء، باب الدعاء نصف الليل، وسأذكر فيه معنى تخصيص الله ثلث الليل بإجابة الدعاء، إن شاء الله تعالى.
80 - باب مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُ
وَقَالَ سَلْمَانُ لأبِى الدَّرْدَاءِ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ: قُمْ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَ سَلْمَانُ) . / 113 - وفيه: الأسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلاةُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ، وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّى، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَت بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ وَإِلا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ. قال المهلب: إنما كان يقوم آخره من أجل حديث التنزل، وهذا كان فعل السلف، روى الزهرى، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القارى، قال: قال عمر بن الخطاب: الساعة التى تنامون فيها أعجب إلىّ من الساعة التى تقومون فيها. وقال ابن عباس فى قيام رمضان: ما تتركون منه أفضل مما تقومون فيه. وفيه: دليل أنه فى رجوعه من الصلاة إلى فراشه قد كان يطأ ويصبح جنبًا، ثم يغتسل، وقد كان لا يفعل ذلك.
81 - باب قِيَامِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِاللَّيْلِ فِى رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ
/ 114 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلا فِى غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّى ثَلاثًا، قَالَتْ

(3/140)


عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَىَّ تَنَامَانِ، وَلا يَنَامُ قَلْبِى) . / 115 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ فِى شَىْءٍ مِنْ صَلاةِ اللَّيْلِ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، فَإِذَا بَقِىَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَهُنّ، َ ثُمَّ رَكَعَ. وقد تقدم اختلاف الآثار فى عدد صلاته (صلى الله عليه وسلم) بالليل فى باب كيف كانت صلاته بالليل، وكم كان يصلى بالليل، فأغنى عن إعادته. وقد اختلف السلف فى عدد الصلاة فى رمضان، فذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا يزيد ابن هارون، قال: حدثنا إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى فى رمضان عشرين ركعة والوتر، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وأبى بن كعب، وبه قال: الكوفيون والشافعى، إلا أن إبراهيم هذا هو جد بنى شيبة، وهو ضعيف، فلا حجة فى حديثه، والمعروف القيام بعشرين ركعة فى رمضان عن عمر وعلى. وقال عطاء: أدركت الناس يصلون ثلاثًا وعشرين ركعة، الوتر منها ثلاثًا. وروى ابن مهدى عن داود بن قيس، قال: أدركت الناس بالمدينة فى زمن عمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة، ويوترون بثلاث، وهو قول مالك وأهل المدينة.

(3/141)


وأما قول عائشة: يصلى أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا، فقد تقدم فى أبواب الوتر أن ذلك مرتب على قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة الليل مثنى مثنى) لأنه مفسر وقاض على المجمل، وقد جاء بيان هذا فى بعض طرق هذا الحديث، روى ابن أبى ذئب، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى بالليل إحدى عشرة ركعة بالوتر، يسلم بين كل ركعتين. وقيل فى قولها: يصلى أربعًا، ثم أربعًا، أنه كان ينام بعد الأربع، ثم يصلى، ثم ينام بعد الأربع، ثم يقوم فيوتر بثلاث، فاحتج من قال ذلك بحديث الليث، عن ابن أبى مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة أنها وصفت صلاة رسول الله بالليل وقراءته فقالت: كان يصلى ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلى قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، ثم يقوم فيوتر. وقال أبو الحسن القابسى: أما قول عائشة للنبى (صلى الله عليه وسلم) : تنام قبل أن توتر، فإنها توهمت أن الوتر بإثر العشاء لا يكون غيره على ما رأت من أبيها، لأنه كان يوتر بإثر العشاء، فلما أتت النبى ورأته يؤخر وتره إلى الوقت المرغب فيه رأت خلاف ما علمت من فعل أبيها، فسألته (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فأخبرها أن عينيه تنامان ولا ينام قلبه وليس ذلك لأبيها، وهذه من أعلى مراتب الأنبياء، عليهم السلام، ولذلك قال ابن عباس: (رؤيا الأنبياء وحى) لأنهم يفارقون سائر البشر فى نوم القلب ويساوونهم فى نوم العين. روى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى، - عليه

(3/142)


السلام -، نام حتى سمع غطيطه، ثم صلى ولم يتوضأ، قال عكرمة: كان رسول الله محفوظًا. فإن قيل: فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ من النوم. قيل له: كان يتوضأ لكل صلاة، ولا يبعد أن يتوضأ إذا خامر قلبه النوم واستولى عليه، وذلك فى النادر كنومه فى سفره عن صلاة الصبح، لِيَسُنَّ لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت وإن كان مغلوبًا بنوم أو نسيان. وفى حديث عائشة الثانى قيامه (صلى الله عليه وسلم) بالليل. قال المهلب: ومعنى قيامه بالليل عند الركوع، والله أعلم، لئلا يخلى نفسه من فضل القيام فى آخر الركعة، وليكون انحطاطه إلى الركوع والسجود من القيام، إذ هو أبلغ وأشد فى التذلل والخضوع لله، عز وجل.
82 - باب فَضْلِ الصَّلاةِ بَعْدَ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
/ 116 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لِبِلال: حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإسْلامِ، فَإِنِّى سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِي الْجَنَّةِ؟) قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلا أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِى أَنْ أُصَلِّىَ. قال المهلب: فيه دليل أن الله يعظم المجازاة على ما ستر العبد بينه وبين ربه مما لا يطلع عليه أحد، ولذلك استحب العلماء أن يكون بين

(3/143)


العبد وبين ربه خبيئة عمل من الطاعة يدخرها لنفسه عند ربه، ويدل أنها كانت خبيئة بين بلال وبين ربه أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يعرفها حتى سأله عنها، وفى سؤال النبى عن ذلك دليل على سؤال الصالحين عما يهديهم الله إليه من الأعمال المقتدى بهم فيها، ويمتثل رجاء بركتها. وقوله: (دف نعليك) قال: وقال صاحب العين: يقال: دف الطائر إذا حرك جناحيه، ورجلاه فى الأرض.
83 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ
/ 117 - فيه: أَنَسِ، دَخَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ: (مَا هَذَا الْحَبْلُ؟) قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ به، فَقَالَ: (صلى الله عليه وسلم) : (لا حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) . / - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِى امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَنْ هَذِهِ؟) قُلْتُ: فُلانَةُ، لا تَنَامُ بِاللَّيْلِ، تَذْكُر مِنْ صَلاتِهَا، فَقَالَ: (مَهْ، عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) . إنما يكره التشديد فى العبادة خشية الفتور وخوف الملل، ألا ترى قوله: (خير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل) وقد قال تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة: 286] وقال تعالى: (وما جعل

(3/144)


عليكم فى الدين من حرج) [الحج: 78] فكره (صلى الله عليه وسلم) الإفراط فى العبادة، لئلا ينقطع عنها المرء فيكون كأنه رجوع فيما بذله من نفسه لله، تعالى، وتطوع به، وقد تقدم معنى قوله: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) فى كتاب العلم، ونذكر منه هاهنا طرفًا، والمعنى أن الله لا يقطع الثواب عنكم حتى تقطعوا أنتم العمل به بالملل الذى هو من شأنكم، لأن الملل لا يجوز على الله ولا هو من صفاته، وإنما أخبر بالملل عنه تعالى للمساواة بين قسمى الكلام، كما قال تعالى: (ومكروا ومكر الله) [آل عمران: 54] . وقد اختلف السلف فى التعلق بالحبل فى النافلة عند الفتور والكسل، فذكر ابن أبى شيبة عن أبى حازم: أن مولاته كانت فى أصحاب الصفة قالت: وكانت لنا حبال نتعلق بها إذا فترنا ونعسنا فى الصلاة، فأتانا أبو بكر فقال: اقطعوا هذه الحبال وافضوا إلى الأرض. وقال حذيفة فى التعلق فى الصلاة: إنما يفعل ذلك اليهود، ورخص فى ذلك آخرون، قال عراك بن مالك: أدركت الناس فى رمضان تربط لهم الحبال يستمسكون بها من طول القيام. وفى باب استعانة اليد فى الصلاة بعد هذا من كره الاعتماد على الشىء فى الصلاة ومن أجازه

(3/145)


84 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ
/ 119 - فيه: عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرِو، قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ: (أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ باللَّيْلِ وَتَصُومُ بالنَّهَارِ؟) ، قُلْتُ: إِنِّى أَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: (فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلأهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ) . قال المهلب: فيه أن من دخل فى طاعة الله وقطعها فإنه مذموم، وقد عاب الله قومًا بذلك فقال: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) [الحديد: 27] فاستحقوا الذم حين لم يفوا بما تطوعوا به، ولا رعوه حق رعايته، فصار رجوعًا منهم عنه، فلذلك لا ينبغى أن يدخل فى شىء من العبادة ويرجع عنها، بل ينبغى أن يرتقى المرء كل يوم فى درج الخير، ويرغب إلى الله أن يجعل خاتمة عمله خيرًا من أوله، ولذلك كان (صلى الله عليه وسلم) لا يحب من العمل إلا ما دام عليه صاحبه وإن قل. فإن كان قطع العمل بمرض أو شغل وضعف عنه فلا لوم عليه، بل يرجى له من الله ألا يقطع أجره، فقد جاء عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن المريض يكتب له أجر ما كان يعمله فى صحته، وفى كتاب الله ما يشهد لذلك قوله: (ثم رددناه أسفل سافلين) [التين: 5] ، يعنى بالهرم والضعف) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) [التين: 6] ، أى غير مقطوع وإن ضعفوا عن العمل يكتب لهم أجر عملهم فى الشباب والصحة. وقوله: (إن لنفسك عليك حقًا) يريد ما جعل الله، تعالى، للإنسان من الراحة المباحة واللذة فى غير محرم، فإن فى ذلك قوة على طاعة الله ونشاطًا إليها، وكذلك للأهل حق على الزوج أن يوفيهم حقوق الزوجية، وأن ينظر لهم فيما لابد لهم من أمور الدنيا والآخرة.

(3/146)


وقوله (هجمت عينك) : غارت، عن أبى عمرو الشيبانى. وقال الأصمعى: هجمت ونفهت: أعيت، ويقال للمُعْيى: نافه ومُنفَّه.
85 - باب فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى
/ 120 - فيه: عُبَادَةُ، قَالَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ العلى العظيم، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلاتُهُ) . / 127 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَخًا لَكُمْ لا يَقُولُ الرَّفَثَ) ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ رَوَاحَةَ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ / - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ اِسْتَبْرَقٍ فَكَأَنِّى لا أُرِيدُ مَكَانًا مِنَ الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ إِلَيْهِ، وَرَأَيْتُ وكَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِى أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِى إِلَى النَّارِ، فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ، فَقَالَ: لَمْ تُرَعْ، خَلِّيَا عَنْهُ. وذكر الحديث. قال المؤلف: حديث عبادة شريف عظيم القدر، وفيه ما وعد الله

(3/147)


عباده على التيقظ من نومهم لهجة ألسنتهم بشهادة التوحيد له والربوبية، والإذعان له بالملك، والاعتراف له بالحمد على جزيل نعمه التى لا تحصى، رطبة أفواهم بالإقرار له بالقدرة التى لا تتناهى، مطمئنة قلوبهم بحمده وتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق بالإلهية من صفات النقص، والتسليم له بالعجز عن القدرة عن نيل شىء إلا به تعالى. فإنه وعد بإجابة دعاء من بهذا دعاه، وقبول صلاة من بعد ذلك صلى، وهو تعالى لا يخلف الميعاد، وهو الكريم الوهاب فينبغى لكل مؤمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به، ويخلص نيته لربه العظيم أن يرزقه حظا من قيام الليل، فلا عون إلا به، ويسأله فكاك رقبته من النار، وأن يوفقه لعمل الأبرار، ويتوفاه على الإسلام. قد سأل ذلك الأنبياء الذين هم خيرة الله وصفوه من خلقه، فمن رزقه الله حظا من قيام الليل فليكثر شكره على ذلك، ويسأله أن يديم له ما رزقه، وأن يختم له بفوز العاقبة، وجميل الخاتمة. وقوله: (إن أخا لكم لا يقول الرفث) وذكر قول ابن رواحة يدل أن حسن الشعر محمود كحسن الكلام، وتبين أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا) أنه لا يراد به كل الشعر، وإنما المراد به الشعر الذى فيه الباطل والهجر من القول، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قد نفى عن ابن رواحة بقوله هذه الأبيات، قول الرفث، وإذا لم تكن من الرفث فهى فى حَيِّزِ الحق، والحق مرغب فيه، مأجور عليه صاحبه. وفى حديث ابن عمر أن قيام الليل ينجى من النار، وقد تقدم القول فيه فى باب فضل قيام الليل، وقال صاحب العين:

(3/148)


التعارّ: السهر والتقلب على الفراش ليلا مع كلام، أخذه من عرار الطير وهو صوته.
86 - باب الْمُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ
/ 123 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: صَلَّى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْعِشَاءَ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَان رَكَعَاتٍ، وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا، وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أَبَدًا. هذا الحديث يدل على فضل ركعتى الفجر وأنهما من أشرف التطوع، لمواظبته (صلى الله عليه وسلم) عليهما وملازمته لهما. روى ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله يسرع إلى شىء من النوافل إسراعه إلى ركعتى الفجر، ولا إلى غنيمة. وروى قتادة، عن زرارة بن أبى أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، قالت: قال رسول الله: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) . وقال أبو هريرة: لا تدع ركعتى الفجر ولو طرقتك الخيل. وقال عمر: هما أحب إلى من حمر النعم. وقال إبراهيم: إذا صلى ركعتى الفجر ثم مات أجزأه من صلاة الفجر. وقال على: سألت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن إدبار النجوم، فقال: (ركعتين بعد الفجر) قال على وأدبار السجود: ركعتين بعد المغرب. وروى مثله عن عمر، وأبى هريرة. واختلف العلماء فى الوقت الذى يقضيهما فيه من فاتته، فقالت

(3/149)


طائفة: يركعهما بعد صلاة الصبح، هذا قول: عطاء وطاوس، ورواية عن ابن عمر، ورواية المزنى، عن الشافعى، وأبى ذلك مالك وأكثر العلماء، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس) . وقالت طائفة: يقضيهما بعد طلوع الشمس، روى ذلك عن ابن عمر، والقاسم بن محمد، وهو قول: الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، ورواية البويطى، عن الشافعى، وقال مالك، ومحمد بن الحسن: يقضيهما بعد طلوع الشمس إن أحب، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يقضيهما من فاتته، وليسا بمنزلة الوتر. واختلفوا فيمن لم يصلهما وأدرك الإمام فى صلاة الصبح أو أقيمت عليه، فقالت طائفة: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، روى ذلك عن عمر وابن عمر، وأبى هريرة، وبه قال: الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وفيه قول ثان: أنه يصليهما فى المسجد والإمام يصلى، روى ذلك عن ابن مسعود، وبه قال الثورى والأوزاعى، إلا أنهما قالا: إن خشى أن تفوته الركعتان دخل مع الإمام، وإن طمع بإدراك الركعة الثانية صلاهما ثم دخل مع الإمام. وقال أبو حنيفة مثله، إلا أنه قال: لا يركعهما فى المسجد. وقال مالك: إن دخل المسجد فلا يركعهما وليدخل معه فى الصلاة، وإن كان خارج المسجد ولم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إن أحب بعد طلوع الشمس.

(3/150)


87 - باب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ
/ 124 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا صَلَّى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ. ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الضجعة بعد ركعتى الفجر سُنَّة يجب بها العمل وممن كان يفعلها: أبو موسى الأشعرى، ورافع بن خديج، ورواية ضعيفة عن ابن عمر ذكرها ابن أبى شيبة، وروى مثله عن ابن سيرين وعروة. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الضجعة إنما كان يفعلها للراحة من تعب القيام، وكرهوها، وممن كرهها من السلف: ذكر ابن أبى شيبة، قال: قال أبو الصديق الناجى: رأى ابن عمر قومًا قد اضطجعوا بعد ركعتى الفجر، فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا: نريد بذلك السُّنَّة، فقال ابن عمر: ارجع إليهم فأخبرهم أنها بدعة. وعن ابن المسيب قال: رأى ابن عمر رجلا اضطجع بعد الركعتين فقال: احصبوه. وقال أبو مجلز: سألت ابن عمر عنها، فقال: يتلعب بكم الشيطان. وقال ابن مسعود: ما بال أحدكم إذا صلى الركعتين يتمعك كما يتمعك الحمار. وكرهها النخعى. وقال سعيد بن جبير: لا تضطجع بعد الركعتين قبل الفجر، واضطجع بعد الوتر. قال المهلب: واضطجاعه (صلى الله عليه وسلم) بعد الركعتين إنما

(3/151)


كان فى الغِبِّ، لأنه كان أكثر عمله أن يصليهما إذا جاءه المؤذن للإقامة.
88 - باب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ
/ 125 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا صَلَّى، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِى، وَإِلا اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلاةِ. قال المؤلف، رحمه الله: هذا الحديث يبين أن الضجعة ليست بسُنَّة، وأنها للراحة، فمن شاء فعلها ومن شاء تركها، ألا ترى قول عائشة: فإن كنت مستيقظة حدثنى وإلا اضطجع، فدل أن اضطجاعه (صلى الله عليه وسلم) إنما كان يفعله إذا عدم التحدث معها ليستريح من تعب القيام، وفى سماع ابن وهب قيل: فمن ركع ركعتى الفجر، أيضطجع على شقه الأيمن؟ قال: لا، يريد لا يفعله استنانًا، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يجعله استنانًا، وكان ينتظر المؤذن حتى يأتيه. فإن قيل: فما وجه تركه (صلى الله عليه وسلم) الاستغفار حين كان يحدثها إذا كانت مستيقظة، وقد مدح الله، تعالى، المستغفرين بالأسحار؟ . فالجواب: أن السحر يقع على ما قبل الفجر كما يقع على ما بعده ومنه قيل للسحور سحورًا، لأنه طعام فى السحر قبل الفجر، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) أخذ بأوفر الحظ من قيام الليل والاستغفار، وقد جاء فى حديث التنزيل: (أن الله، تعالى، ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى

(3/152)


فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له) فذكر أن الاستغفار المندوب إليه المرجو بركة إجابته، هو قبل الفجر، وليس المستغفر ممنوعًا من أن يتكلم فى حال استغفاره بما به الحاجة إليه من إصلاح شأنه وعلم ينشره، ولا يخرجه ذلك من أن يسمى مستغفرًا. واختلف السلف فى الكلام بعد ركعتى الفجر، فقال نافع: كان ابن عمر ربما تكلم بعد ركعتى الفجر، وقال إبراهيم: لا بأس أن يسلم ويتكلم بالحاجة بعد ركعتى الفجر، وعن الحسن وابن سيرين مثله. وكره الكوفيون الكلام قبل صلاة الفجر إلا بخير، وكان مالك يتكلم فى العلم بعد ركعتى الفجر، فإذا سلم من الصبح لم يتكلم مع أحد حتى تطلع الشمس، قال مالك: لا يكره الكلام قبل الفجر، وإنما يكره بعدها إلى طلوع الشمس. وممن كان لا يرخص فى الكلام بعد ركعتى الفجر، قال مجاهد: رأى ابن مسعود رجلا يتكلم بعد ركعتى الفجر، فقال: إما أن تذكر الله وإما أن تسكت، وعن سعيد بن جبير مثله. وقال إبراهيم: كانوا يكرهون الكلام بعد ركعتى الفجر، وهو قول عطاء، وسئل جابر ابن زيد: هل يفرق بين صلاة الفجر وبين الركعتين قبلها بكلام؟ قال: لا، ألا أن يتكلم بحاجة إن شاء. ذكر هذه الآثار ابن أبى شيبة، والقول الأول أولى بشهادة السُّنَّة الثابتة له، ولا قول لأحد مع السُّنَّة. واختلفوا فى التنفل بعد طلوع الفجر، فكرهت طائفة الصلاة بعد الفجر إلا ركعتى الفجر، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وابن المسيب، ورواية عن عطاء، وحجتهم حديث موسى بن عقبة،

(3/153)


عن نافع، عن ابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتى الفجر) ويروى أيضًا من مرسلات ابن المسيب عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأجاز ذلك آخرون، روى هذا عن طاوس والحسن البصرى، ورواية عن عطاء، قالوا: إذا طلع الفجر فَصَلِّ ما شئت، ذكر هذا عبد الرزاق. [أبواب التطوع]
89 - باب مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَبِى ذَرٍّ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِىِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأنْصَارِىُّ: مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلا يُسَلِّمُونَ فِى كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنَ النَّهَارِ. / 126 - فيه: جَابِر، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِى، وَيَسِّرْهُ لِى، ثُمَّ بَارِكْ لِى فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ: فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّى، وَاصْرِفْنِى عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِى، قَالَ: وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ. / 127 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ) .

(3/154)


/ 128 - وفيه: أَنَسِ، صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ. / 129 - وفيه ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. / 130 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَخْطُبُ: (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإمَامُ يَخْطُبُ، أَوْ قَدْ خَرَجَ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) . / 131 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِى وَجْهِ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِرَكْعَتَىِ الضُّحَى. وَقَالَ عِتْبَانُ: صَلَّى الرَسُولَ فى بيتى ركعتين. واختلف الفقهاء فى التطوع بالليل والنهار كيف هو؟ فقالت طائفة: هو مثنى مثنى، هذا قول: ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والشافعى، وأبى ثور، وهو قول: أبى يوسف، ومحمد فى صلاة الليل. وقال أبو حنيفة: أما صلاة الليل فإن شئت صليت ركعتين وإن شئت صليت أربعًا، وإن شئت صليت ستا، وإن شئت ثمانيًا، وكره أن يزيد على ذلك شيئًا. قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: أما صلاة النهار فإن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعًا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئًا، وحجة أبى حنيفة لقوله فى صلاة الليل حديث عائشة أنها قالت: كان (صلى الله عليه وسلم) يصلى بالليل أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا. فقال لهم أهل المقالة الأولى: ليس فى حديث عائشة يصلى أربعًا،

(3/155)


أن الأربع بسلام واحد، وإنما أرادت العدد فى قولها أربعًا، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا، بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة الليل مثنى مثنى) وهذا يقتضى ركعتين ركعتين بسلام بينهما على ما قدمناه فى باب كيف كانت صلاة الليل. وقد رد الطحاوى على أبى حنيفة، وقال: قد روى الزهرى، عن عروة، عن عائشة، أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يسلم بين كل اثنتين منهن، قال: وهذا الباب إنما يؤخذ من جهة التوقيف والاتباع لما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأمر به، وفعله أصحابه من بعده، فلم نجد عنه من قوله، ولا من فعله أنه (صلى الله عليه وسلم) أباح أن يصلى بالليل بتكبيرة أكثر من ركعتين، وهذا أصح القولين عندنا. وأما صلاة النهار فالحجة لأبى حنيفة ما رواه شعبة، عن عبيدة، عن إبراهيم، عن سهم ابن منجاب، عن قزعة، عن القَرْثَع، عن أبى أيوب الأنصارى، عن الرسول، قال: (أربع ركعات قبل الظهر لا تسليم فيهن تفتح لهن أبواب السماء) وقال إبراهيم: كان عبد الله يصلى قبل الجمعة أربعًا، وبعدها أربعًا، لا يفصل بينهن بسلام. وروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا. قال ابن القصار: فالجواب أن حديث أبى أيوب إنما يدل على فضل الأربع إذا اتصلت وفعلت فى هذا الوقت، ولا يدل على أن أكثر من الأربع لا يكون أفضل منها إذا كانت منفصلة، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قد يذكر فضل الشىء ويكون هناك ما لو قاله أو فعله لكان أفضل، ألا ترى أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) أفترى أن ليس رطل تمرٍ

(3/156)


أفضل من تمرة، فإنما نبّه بذكره على أربع ركعات على أن الأكثر يكون أفضل، فلو صلى عشرين ركعة يسلم فى كل ركعتين لكان أفضل من أربع متصلة، فسقط قولهم. قال غيره: وما أثبته البخارى من الروايات المتواترة عن الرسول فى صلاته ركعتين من طرق فى الأوقات المختلفة، منها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) يدخل فى عمومه إذا دخل المسجد قبل الظهر، وفى جميع أوقات النهار والليل المباحة للتنفل. وكذلك روى ابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، فهذا كله يفسر حديث أبى أيوب أن الأربع التى حض عليهن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل الظهر إنما أراد اتصالهن ذلك الوقت، لا أَنَّهُ لا سلام بينهن، لما صح من صلاته (صلى الله عليه وسلم) قبل الظهر وبعدها ركعتين، فوجب رد ما خالف هذا المعنى إليه، والله الموفق. وأما حديث جابر أن الرسول، قال: (إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين) فإنها قصة السليك. قال الأصيلى: وخالف شعبة فيه أصحاب عمرو بن دينار سوى ابن جريج وحماد بن زيد وابن عيينة، فرووه عن عمرو، عن جابر، أن رجلا جاء إلى المسجد والنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يخطب قال له: (أصليت) ؟ قال: لا، قال: (قم فاركع ركعتين) قصة السليك، وكذلك روى أبو الزبير عن جابر، فانفرد شعبة بما لم يتابع عليه، ولم تكن زيادة زادها الحافظ على غيره، بل هى قصة منقلبة عن وجهها. وقال يحيى بن معين: أحق أصحاب عمرو بن دينار بحديثه سفيان بن عيينة.

(3/157)


90 - باب الْحَدِيثِ، بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ
قد تقدم هذا الباب فلا معنى لتكراره.
91 - باب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا تَطَوُّعًا
/ 132 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى شَىْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ. العلماء متفقون على تأكيد ركعتى الفجر، إلا أنهم اختلفوا فى تسميتها، فذكر ابن أبى شيبة عن الحسن البصرى أنهما واجبتان، وذهبت طائفة من العلماء إلى أنهما سُنَّة، هذا قول أشهب، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وأَبَى كثير منهم أن يسميها سُنَّة، قال مالك فى المختصر: ليستا بسُنَّة، وقد عمل بها المسلمون فلا ينبغى تركها، وذكر ابن المواز عن ابن عبد الحكم وأصبغ أنهما ليستا بسُنَّة، وهما من الرغائب. والحجة لمن أوجبهما: ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قضاهما بعد طلوع الشمس يوم نام عن الصلاة لما قضى الفريضة ولم يأت عنه أنه قضى شيئًا من السنن بعد خروج وقتها غيرهما،

(3/158)


وحجة من جعلهما سُنَّة: مواظبة الرسول عليهما، وشدة تعاهده لهما، وأن النوافل تصير سننًا بذلك. وحجة من لم يسمهما سُنَّة، قول عائشة: لم يكن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، على شىء من النوافل أشد تعاهدًا منه عليهما، فجعلتهما من جملة النوافل، وقد روى ابن القاسم عن مالك: أن ابن عمر كان لا يتركهما فى السفر.
92 - باب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ
/ 133 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصَلِّى بِاللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّى إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. / 134 - وَقَالَتْ عَائِشَةَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) ، يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى إِنِّى لأقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهُمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ. اختلف العلماء فى القراءة فى الفجر على أربعة مذاهب، فقال الطحاوى: قال قوم: لا يقرأ فى ركعتى الفجر. وقال آخرون: يخفف القراءة فيهما بأم القرآن خاصة. وروى هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهو قول مالك فى رواية ابن وهب، وعلى بن زياد، قال: وهو الذى آخذ به فى خاصة نفسى. وقالت طائفة: يخفف فيهما القراءة، ولا بأس أن يقرأ مع أم القرآن سورة قصيرة، رواه ابن القاسم، عن مالك فى المجموعة، وهو قول الشافعى. وروى عن إبراهيم النخعى ومجاهد أنه لا بأس أن يطيل القراءة فيهما، ذكره ابن أبى شيبة. وقال أبو حنيفة: ربما قرأت فى ركعتى الفجر حزبى من القرآن وهو قول أصحابه، واحتج لهم الطحاوى، فقال: لما كانت ركعتا الفجر

(3/159)


من أشرف التطوع، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها) كان أولى أن يفعل فيها أشرف ما يفعل فى التطوع من إطالة القراءة فيهما، وهو عندنا أفضل من التقصير، لأنه من طول القنوت الذى فضله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى التطوع على غيره. وأما من قال: لا قراءة فيهما، فإنه احتج بحديثى هذا الباب، والحجة عليه ما رواه شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، قال: سمعت عمتى عمرة تحدث عن عائشة، أن رسول الله كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين، أقول: يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟ فهذا خلاف أحاديث عائشة الأُخر، لأنها أثبتت فى هذا الحديث قراءة أم القرآن، فذلك حجة على من نفى القراءة، وهذا الحديث حجة لمن قال: يقرأ فيهما بأم القرآن خاصة، وقد يجوز أن يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب وغيرها، ويخفف القراءة حتى يقال على التعجب من تخفيفه: هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب. وحجة من قال: يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة قصيرة، ما رواه أبو نعيم، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: رمقت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أربعًا وعشرين مرة يقرأ فى الركعتين قبل صلاة الغداة، وفى الركعتين بعد المغرب: (قل يا أيها الكافر (، و) قل هو الله أحد (. وروى أبو وائل، عن عبد الله مثله، وقال: ما أحصى ما سمعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يقرأ بذلك، وبه كان يأخذ ابن مسعود وذكره ابن أبى شيبة، وقد روى مثله من حديث قتادة عن أنس، ومن حديث جابر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى ركعتى الفجر خاصة.

(3/160)


قال المؤلف: وهذه الآثار حجة على أبى حنيفة ومن جوز تطويل القراءة فيهما، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يحفظ عنه خلافها، ولا قياس لأحد مع وجود السُنَّة الثابتة، وقد ذكر لابن سيرين قول النخعى فقال: ما أدرى ما هذا وكان أصحاب ابن مسعود يأخذون فى ذلك بحديث ابن عمر، وبحديث ابن مسعود من تخفيفه القراءة. قال المهلب: وتخفيفه لهما، والله أعلم، لمزاحمة الإقامة، لأنه كان لا يصليهما فى أكثر أحواله حتى يأتيه المؤذن للإقامة، وكان يُغلس بصلاة الصبح.
93 - باب التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ
/ 135 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَفِي بَيْتِهِ. وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ أَنَّ نَّبِىَّ الله كَانَ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَكَانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِيهَا. قال المهلب: قوله: (سجدتين قبل الظهر) الحديث، فإنه أراد ركعتين فعبر عن الركوع بالسجود، وهذا يبين ما روى فى صلاة الكسوف فى حديث عبد الله بن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى حين كسفت الشمس ركعتين فى سجدة، وإنما أراد ركعتين فى ركعة على ما روته عائشة فى ذلك.

(3/161)


قال المهلب: وتطوعه (صلى الله عليه وسلم) بهذه النوافل قبل الفرائض وبعدها، لأن أفضل الأوقات أوقات صلوات الفريضة، وفيها تفتح أبواب السماء للدعاء، ويقبل العمل الصالح فلذلك يحييها (صلى الله عليه وسلم) بالنوافل، وليس فى حديث ابن عمر التنفل قبل العصر. قال الطبرى: وقد روى على عن الرسول: أنه كان يصلى قبل العصر أربع ركعات يفصل بينها بسلام، وقد اختلف السلف فى ذلك فكان بعضهم يصلى أربعًا، وبعضهم يصلى ركعتين، وبعضهم لا يرى الصلاة قبلها، فممن كان يصلى أربعًا: على بن أبى طالب، وقال إبراهيم: كانوا يحبون أربعًا قبل العصر. وممن كان يصلى ركعتين: روى سفيان وجرير، عن منصور، عن إبراهيم: قال كانوا يركعون الركعتين قبل العصر، ولا يرونها من السُّنَّة. وممن كان لا يصلى قبلها شيئًا، روى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يصلى قبل العصر شيئًا. وقتادة عن الحسن مثل ذلك وروى فضيل، عن منصور، عن إبراهيم، أنه رأى إنسانًا يصلى قبل العصر فقال: إنما العصر أربع. قال الطبرى: والصواب عندنا أن الفضل فى التنفل قبل العصر بأربع ركعات، لصحة الخبر بذلك عن على، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حدثنى به موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الحميد الحمانى، عن مسعر، عن إبى إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على، قال: رأيت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى أربع ركعات قبل العصر. فأما قول ابن عمر: فأما الركعتان بعد المغرب والعشاء ففى بيته، فقد اختلف فى ذلك، فروى عن قوم من السلف

(3/162)


منهم زيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن عوف أنهما كانا يركعان الركعتين بعد المغرب فى بيوتهما. وقال العباس بن سهل بن سعد: لقد أدركت عثمان، وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلا واحدًا يصليهما فى المسجد، كانوا يبتدرون أبواب المسجد فيصلونها فى بيوتهم. وقال ميمون بن مهران: كانوا يستحبون تأخير الركعتين بعد المغرب إلى بيوتهم، وكانوا يؤخرونها حتى تشتبك النجوم. وروى عن طائفة أنهم كانوا يتنفلون النوافل كلها فى بيوتهم دون المسجد، روى عن عبيدة أنه كان لا يصلى بعد الفريضة شيئًا حتى يأتى أهله. وقال الأعمش: ما رأيت إبراهيم متطوعًا حياته فى مسجد إلا مرة صلى بعد الظهر ركعتين. وكانت طائفة لا تتنفل إلا فى المسجد، روى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى سبحته مكانه، وكان أبو مجلز يصلى بين الظهر والعصر فى المسجد الأعظم. وروى ابن القاسم، عن مالك، قال: التنفل فى المسجد هو شأن الناس فى النهار، وبالليل فى بيوتهم، وهو قول الثورى. وقال الطبرى به، وقال: والحجة لهذا القول ما حدثنا به أحمد بن الحسن الترمذى، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال، عن زِرٍّ، عن حذيفة، قال: صليت مع الرسول العشاء الآخرة، ثم صلى حتى لم يبق فى المسجد واحدٌ، وقال: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب،

(3/163)


عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) يصلى بعد المغرب ركعتين، ويصليهما حتى يتصدع أهل المسجد، فإنما كره الصلاة فى المسجد لئلا يرى جاهل عالمًا يصليها فيه فيراها فريضة، أو كراهة أن يخلى منزله من الصلاة فيه، أو حذرًا على نفسه من رياء أو عارض من خطرات الشيطان، فإذا سلم من ذلك فإن الصلاة فى المسجد حسنة. وقد بين بعضهم عِلَّة كراهية من كرهه، من ذلك: سفيان عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، قال: كنا نقرأ فى المسجد فنقوم فنصلى فى الصف. قال عبد الله: صلوا فى بيوتكم لا يرونكم الناس فيرونها سُنَّة. والذى يقول: إن حديث حذيفة وما رواه سعيد بن جبير، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاتكم فى بيوتكم إلا المكتوبة) فهى صحاح كلها لا يدفع شىء منها، وذلك نظير ما ثبت أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يعمل العمل ليتأسى به فيه، ثم يعمل بخلافه فى حال أخرى ليعلم بذلك من فعله أن أمره بذلك على وجه الندب، وأنه غير واجب العمل به.
94 - باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ
/ 136 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ثَمَانِيًا جَمِيعًا، وَسَبْعًا جَمِيعًا. قد تقدم الكلام فى هذا الحديث وفى اشتراط الصلوات فيه، وأما

(3/164)


تركه - عليه السلام - التنقل فيه فالسُّنَّة عند جميع الصلوات ترك التنفل، فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يعلم أمته أن التطوع ليس بلازم، لا يسع تركه، ولذلك كان ابن عمر لا يتنفل فى السفر.
95 - باب صَلاةِ الضُّحَى فِى السَّفَرِ
/ 137 - فيه: مُوَرِّقٍ، قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ:: تُصَلِّى الضُّحَى؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ فَالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: (لا، إِخَالُهُ) . / 138 - فيه: ابْنَ أَبِى لَيْلَى، قَالَ: مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصَلِّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ الفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ، فَاغْتَسَلَ، وَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. قال المؤلف: أما حديث مورق عن ابن عمر فليس من هذا الباب، وإنما يصلح فى الباب الذى بعد هذا فيمن لم يصلى الضحى، وأظنه من غلط الناسخ، والله أعلم. وأما قول ابن أبى ليلى: ما حدثنا أحد أنه رأى الرسول يصلى الضحى غير أم هانئ فلا حجة فيه تَرُدُّ ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه صلى الضحى وأمر بصلاتها من طرق جمة، وسأذكر منها فى هذا الباب، وفى الباب الذى بعد هذا، إن شاء الله. وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا عن كثير، ويوجد عند الأقل، ولما صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح ثمان ركعات فى وقت الضحى استدل البخارى من ذلك على جواز صلاة الضحى فى السفر، وقد

(3/165)


روى ذلك نصا لا دليلا، روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، قال: حدثنى الضحاك بن عبد الله القرشى، عن أنس بن مالك، قال: رأيت رسول الله فى السفر صلى سبحة الضحى ثمان ركعات، وإذا جازت صلاتها فى السفر فالحضر أولى بذلك. وقد ذكر الطبرى آثارًا مختلفة عن الرسول فى عدد صلاة الضحى، فمنها حديث أم هانئ، وحديث أنس هذا، وذكر أن سعد بن أبى وقاص، وأم سلمة كانا يصليان الضحى ثمانيًا، ومنها حديث ابن مسعود أن الرسول قال: (من صلى الضحى عشر ركعات بنى له بيت فى الجنة) . ومنها حديث ثمامة عن أنس بن مالك، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من صلى الضحى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بها قصرًا من ذهب فى الجنة) . ومنها: حديث حميد، عن أنس، أن الرسول كان يصلى الضحى ست ركعات، وحديث جابر مثله، وروى عن عائشة أنها كانت تصلى الضحى ست ركعات. ومنها: حديث على، أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى أربعًا، وعن عائشة مثله، وبه كان يأخذ علقمة والنخعى، وسعيد بن المسيب. ومنها: حديث عتبان بن مالك، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى فى بيته سبحة الضحى ركعتين. ومنها: حديث أنس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى فى بيت الرجل الضحى ركعتين. ومنها: حديث جابر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمره أن يصلى سبحة الضحى فصلى ركعتين. ومنها: حديث أبى هريرة، أن الرسول أوصاه بركعتى الضحى، وقال: (من حافظ عليها غفر له ذنوبه وإن كانت

(3/166)


مثل زبد البحر) . وعن عبد الله بن عمر، أنه كان يصلى الضحى ركعتين، وعن الضحاك مثله. قال الطبرى: وليس منها حديث يدفع صاحبه، وذلك أنه من صلى الضحى أربعًا جائز أن يكون رآه فى حال فعله ذلك، ورآه غيره فى حال أخرى صلى ركعتين، ورآه آخر فى حال أخرى صلاها ثمانيًا، وسمعه آخر يحث على أن تصلى ستا، وآخر يحث على ركعتين، وآخر على عشر، وآخر على اثنتى عشرة، فأخبر كل واحد منهم عما رأى أو سمع. ومن الدليل على صحة ما قلناه فى ذلك ما روى عن زيد بن أسلم، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول لأبى ذر: أوصنى يا عم، فقال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عما سألتنى، قال: (من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعًا كتب من العابدين، ومن صلى ستًا، لم يلحقه ذلك اليوم ذنب، ومن صلى ثمانيًا كتب من القانتين، ومن صلى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بيتًا فى الجنة) . وقال مجاهد: صلى رسول الله يومًا الضحى ركعتين، ثم يومًا أربعًا، ثم يومًا ستا، ثم يومًا ثمانيًا، ثم ترك فأبان بهذا الخبر عن صحة ما قلناه من احتمال خبر كل مخبر ممن تقدم قوله، أن يكون إخباره بما أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) فى صلاة الضحى كان على قدر ما شاهده وعاينه. فالصواب إذا كان الأمر كذلك أن يصليها من أراد على ما شاء من العدد، وقد روى هذا عن قوم من السلف، حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: سأل رجل الأسود، قال: كم أصلى الضحى؟ قال: كما شئت.

(3/167)


96 - باب مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى وَرَآهُ وَاسِعًا
/ 139 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يسَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّى لأسَبِّحُهَا. قال المؤلف: أما حديث مورق: قلت لابن عمر: تصلى الضحى؟ قال: لا، قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: لا، إخاله المذكور فى الباب قبل هذا، فهذا موضعه، ليس ذلك الباب، وأخذ قوم من السلف به وبحديث عائشة، ولم يروا صلاة الضحى، وقال بعضهم: بأنها بدعة. روى الشعبى، عن قيس بن عباد، قال: كنت أختلف إلى ابن مسعود السنة كلها، فما رأيته مصليًا الضحى. وقال إبراهيم النخعى: حدثنى من رأى ابن مسعود صلى الفجر، ثم لم يقم لصلاة حتى أذن لصلاة الظهر، فقام فصلى أربعًا. روى شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف: أنه كان لا يصلى الضحى. وعن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر جالس عند باب حجرة عائشة، وإذا الناس يصلون فى المسجد صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، وقال مرة: ونعمت البدعة. وقال الشعبى: سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى، وقد سئل أنس عن صلاة الضحى، فقال: الصلوات خمس. وقد قيل: إن صلاته (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح ثمان ركعات لم تكن صلاة الضحى، وإنما كانت من أجل الفتح، وأن سُنَّة الفتح أن يصلى عنده ثمان ركعات، ذكره الطبرى فى التاريخ عن الشعبى، قال: لما فتح خالد بن الوليد الحيرة صلى صلاة الفتح ثمان ركعات، ولم يسلم فيهن، ثم انصرف.

(3/168)


قال المؤلف، رحمه الله: هذا تأويل لا يدفع صلاة الضحى لتواتر الروايات بها عن الرسول، وفعل السلف بعده. قال الطبرى: وذهب قوم من السلف أن صلاة الضحى تصلى فى بعض الأيام دون بعض، واحتجوا بما رواه الجريرى، عن عبد الله بن شقيق قلت لعائشة: أكان رسول الله يصلى الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجئ من مغيبه، وروى [. . . .] ، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد، قال: كان رسول الله يصلى الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها. ذكر من كان يفعل ذلك من السلف: روى شعبة عن حسين الشهيد، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس يصليها يومًا ويدعها عشرة أيام، يعنى صلاة الضحى. وشعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه كان لا يصلى الضحى، فإذا أتى مسجد قباء صلى وكان يأتيه كل سبت. وسفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة، ويصلون ويدعون، يعنى صلاة الضحى. وعن سعيد بن جبير قال: إنى لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها، مخافة أن أراها حتمًا علىّ. قال الطبرى: وحديث عبد الله بن شقيق، عن عائشة، وحديث أبى سعيد لا يضاد ما ثبت من الآثار عنه (صلى الله عليه وسلم) ، بصلاة الضحى، لأنه

(3/169)


يحتمل أن يكون كل مخبر إنما أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) بما شاهده وعاينه من فعله. وليس فى قول من نفى صلاة الضحى واحتج بقول عائشة: ما رأيت رسول الله يسبح سبحة الضحى قط، حجة لأنها أخبرت بما علمت لما خالفه، لأن قول القائل: لم يصلها النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، غير مخبر عنه أنه قال: (لم أصلها ولا أصليها) ، فكيف وقد أخبر غير واحد عن عائشة ممن لا يتهم أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى الضحى. وذلك ما حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، حدثنى أبى، عن قتادة، عن معاذة، عن عائشة، أنها سألتها: أكان النبى يصلى الضحى؟ قالت: نعم، ورواه شعبة عن يزيد الرشك، عن معاذة، عن عائشة، قالت: كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يصلى الضحى أربعًا ويزيد ما شاء الله. قال الطبرى: فلو لم يدل على وهم الحديث عن عائشة، أن النبى لم يسبح سبحة الضحى، إلا هذه الأخبار المدونة عنها أنه صلاها، فكيف وفى خبر عبد الله بن شقيق عنها أنه كان يصليها عند قدومه من مغيبه؟ . قال غيره: وقد يمكن الجمع بين أحاديث عائشة وغيرها، فيحمل قولها: ما رأيت رسول الله يسبح سبحة الضحى، يعنى مواظبًا عليها ومعلنا بها، لأنه يجوز أن يصليها بحيث لا تراه، وقد روى عن عائشة أنها كانت تغلق على نفسها بابها ثم تصلى الضحى. وقال مسروق: كنا نقرأ فى المسجد فنبقى بعد قيام ابن مسعود، ثم نقوم فنصلى الضحى، فبلغ ابن مسعود ذلك، فقال: لم تحملوا عباد الله ما لم يحملهم الله؟ إن كنتم لابد فاعلين ففى بيوتكم. وكان أبو مجلز يصلى الضحى فى منزله. وكان مذهب السلف الاستتار بها وترك إظهارها للعامة، لئلا يرونها واجبة. وفى قولها: (وإننى لأسبحها) دليل أنها صلاة مندوب إليها

(3/170)


مرغب فيها، وقد روى عنها أنها، قالت: لو نشر لى أبواى من قبرهما ما تركتهما، فالتزامها لها لا يكون إلا عن علم عندها من النبى، (صلى الله عليه وسلم) .
97 - باب صَلاةِ الضُّحَى فِي الْحَضَرِ
قَالَهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 140 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَوْصَانِى الرَسُولِ بِثَلاثٍ، لا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ، صَوْمِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ. / 141 - وفيه: أَنَسَ أَنَّ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، وَكَانَ ضَخْمًا، قَالَ لِلنَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) : إِنِّى لا أَسْتَطِيعُ أصَلّى مَعَكَ، فَصَنَعَ لِلنَّبِىِّ طَعَامًا، ودَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ، وَنَضَحَ لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ بِمَاءٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: أَنَس مَا رَأَيْت صَلاةِ الضُّحَى، غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة الترغيب فى صلاة الضحى والحض عليها، لأنه لا يوصيه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالمحافظة على عمل إلا وله فى عمله جزيل الأجر وعظيم الثواب. وقد ذكر الطبرى أحاديث كثيرة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى صلاة الضحى سوى هذه، فمن أحسنها ما حدثه أبو كريب، حدثنا وكيع، عن النَّهَّاس بن قَهْم، عن شداد أبى عمار، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من حافظ على ركعتى الضحى غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) . قال: وحدثنا ابن المثنى، حدثنا حكيم بن معاوية، قال: حدثنا زياد بن عبد الله، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يصلى الضحى ست ركعات. قال: وحدثنا عيسى بن خالد، عن أبى مسهر، حدثنا إسماعيل بن

(3/171)


عياش، عن بحير ابن سعد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن أبى الدرداء، وأبى ذر قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله عز وجل: ابن آدم، صَلِّ أربع ركعات أول النهار أكفك آخره) . وحدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهرى، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (فى الإنسان ثلاث مائة مفصل، وستون مفصلاً ففى كل مفصل صدقة) . قالوا: يا رسول الله، ومن يطيق ذلك؟ قال: (أليس ينحى أحدكم الأذى من الطريق، فإن لم يطق ذلك، فإن ركعتى الضحى تجزئ عنه) . وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى الضحى. فى أحاديث كثيرة غير هذه تحقق رواية من روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يصلى الضحى، ويندب أمته إليها، وبذلك عمل الصالحون والسلف، ذكر ابن أبى شيبة، عن زيد بن أرقم، قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: (صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى) . وكان أبو ذر يصلى الضحى فيطيلها. وسأل رجل الحسن البصرى هل كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلون الضحى؟ قال: نعم، منهم من

(3/172)


كان يصلى أربعًا، ومنهم من كان يصلى ركعتين، ومنهم من كان يمد إلى نصف النهار. وقال ابن أبى مليكة: سئل ابن عباس عن صلاة الضحى، فقال: إنها فى كتاب الله، لا يغوص عليها إلا غواص، ثم قرأها: (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال) [النور: 36] . ويروى عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، أنه دخل على أم هانئ، فأخبرته أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى الضحى فخرج وهو يقول: (قرأت ما بين اللوحين فما عرفت صلاة الضحى إلا الآن) يسبحن بالعشى والإشراق) [ص: 18] ) ، وكنت أقول: وأين الإشراق، وهى هذه.
98 - باب الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ
/ 142 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِى بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِى بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا. / 143 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ. اختلفت الأحاديث فى التنفل قبل الظهر، وفى حديث ابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ركع ركعتين قبل الظهر، وفى حديث عائشة أنه ركع أربعًا، وقد روى مثل حديث عائشة: أبو إسحاق الهمدانى، عن عمرو بن أوس، عن عنبسة بن أبى سيفان، عن أُم حبيبة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك. وروى

(3/173)


عن ابن مسعود، وابن عمر، والبراء، وأبى أيوب أنهم كانوا يصلون قبل الظهر، وعن ابن المسيب مثله. وقال إبراهيم: من السُّنَّة أربع قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر ببيته. وروى من حديث البراء مثل حديث ابن عمر، رواه الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبى بسرة الغفارى، عن البراء، قال: سافرت مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ثمان عشرة سفرة، وكان لا يدع ركعتين قبل الظهر. وقال الطبرى: والصواب أن يقال: كلا الخبرين فى عدد صلاته قبل الظهر صحيح، وهو أنه إنما يكون من روى عنه أربعًا رآه يفعل ذلك فى كثير من أحواله، ورآه ابن عمر وغيره يصلى ركعتين فى بعض الأحوال، فرووا عنه ذلك، وإذا كان ذلك كذلك فللمرء أن يصلى قبل الظهر ما يشاء، لأن ذلك تطوع، وقد ندب الله المؤمنين إلى التقرب إليه بما أطاقوا من فعل الخير، والصلاة بعد الزوال وقبل الظهر كانت تعدل بصلاة الليل فى الفضل، روى هذا عن جماعة من السلف.
99 - باب الصَّلاةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ
/ 144 - فيه: عَبْدُاللَّهِ الْمُزَنِىُّ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (صَلُّوا قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، قَالَ فِى الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ) ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. / 145 - وفيه: مَرْثَدَ الْيَزَنِىَّ، قَالَ: أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِىَّ، فَقُلْتُ: أَلا أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِى تَمِيمٍ، يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، فَقَالَ

(3/174)


عُقْبَةُ: إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ؟ قَالَ: الشُّغْلُ. اختلف السلف فى التنفل قبل المغرب، فأجازته طائفة، وكرهته طائفة، فممن روى عنه أنه كان يفعله: أُبى بن كعب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وقال حميد، عن أنس: إذا أذن المؤذن يبتدرون السوارى فيصلون. قال عبد الرحمن بن أبى ليلى: أدركت أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) يصلون عند كل تأذين. وكان الحسن، وابن سيرين يركعان قبل المغرب، وهو قول أحمد وإسحاق. والحجة لهم من حديث المزنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لمن شاء) . وممن كان يصليها، قال إبراهيم النخعى: لم يصل الركعتين قبل المغرب أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وقال إبراهيم: هما بدعة. قال: وكان خيار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالكوفة على، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار، وأبو مسعود، فأخبرنى من رمقهم كلهم، فما رأى أحدًا منهم يصلى قبل المغرب، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى. قال المهلب: والحجة لهم أن هذا كان فى أول الإسلام ليدل على أن وقت التحجير فى صلاة النافلة فى هذا الوقت قد انقطع بمغيب الشمس، وحلت النافلة والفريضة، ثم التزم الناس مبادرة الفريضة، لئلا يتباطأ الناس بالصلاة عن الوقت الفاضل، ويختلف أمر الناس فى المبادرة بالصلاة، إذ المغرب لا يشكل على العامة والخاصة، وغيرها من الصلوات يشكل عليهم دخول أوائل أوقاتها، وفيها مهلة حتى يستحكم الوقت، فلذلك أبيح الركوع قبل غيرها من الصلوات.

(3/175)


0 - باب صَلاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً
ذَكَرَهُ أَنَسٌ وَعَائِشَةُ عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) . / 146 - فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، أن رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) صَلى فِى بيته ركعتين، فكبر وصففنا خلفه. . . الحديث بطوله. هذا الحديث يدل على جواز صلاة النوافل جماعة، قال ابن حبيب: ولا بأس أن يؤم النفر فى النافلة فى صلاة الضحى وغيرها كالرجلين والثلاثة، وأما أن يكون مشتهرًا جدًا ويجتمع له الناس فلا. قاله مالك. قال ابن حبيب: إلا أن يكون فى قيام رمضان، لما فى ذلك من سُنَّة أصحاب رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) .
1 - باب التَّطَوُّعِ فِى الْبَيْتِ
/ 147 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْعَلُوا فِى بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاتِكُمْ، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) . هذا من التمثيل البديع، وذلك بتشبيهه (صلى الله عليه وسلم) البيت الذى لا يصلى فيه بالقبر الذى لا يمكن الميت فيه عبادة، وشبه النائم الليل كله بالميت الذى انقطع منه فعل الخير، وقد قال عمر بن الخطاب: صلاة المرء فى بيته نُورٌ فَنَوِّرُوا بيوتكم. وللعلماء فى معنى هذا الحديث قولان: منهم من قال: إن الحديث ورد فى النافلة دون الفريضة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد سَنَّ الصلوات فى الجماعة، ورغب فى ذلك، وتوعد من تخلف عنها بغير عذر، وقال: (أفضل الصلاة صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة) . فبان أن الحديث ورد فى النافلة، لأنها إذا كانت فى البيت كان أبرأ من الرياء والشغل بحديث الناس، فحض (صلى الله عليه وسلم) على النوافل فى

(3/176)


البيوت، إذ السِّرُّ فى النوافل أفضل من الإعلان، وعلى هذا التأويل تكون (مِن) زائدة كأنه قال: اجعلوا صلاتكم النافلة فى بيوتكم، كقوله: ما جاءنى من أحدٍ، وأنت تريد ما جاءنى أحدٌ، وإلى هذا الوجه أشار البخارى، وقد روى ما يدل عليه عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . روى الطبرى من حديث عبد الرحمن بن سابط، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (نَوِّرُوا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورًا كما اتخذها اليهود والنصارى، فإن البيت الذى يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله، ويكثر خيره، وتحضره الملائكة، ويُدحض عنه الشيطان، وإن البيت الذى لا يقرأ فيه القرآن يضيق على أهله، ويقل خيره، وتنفر عنه الملائكة، وتحضره الشياطين) . وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا لا يتطوعون فى المسجد، روى ذلك عن حذيفة، وعن السائب بن يزيد، والنخعى، والربيع بن خثيم، وعبيدة، وسويد بن غفلة. وقال آخرون: هذا الحديث إنما ورد فى الفريضة، و (مِنْ) للتبعيض، كأنه قال: اجعلوا بعض صلاتكم المكتوبة فى بيوتكم ليقتدى بكم أهلوكم، ومن لا يخرج إلى المسجد منهم، ومن يلزمكم تعليمه لقوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6] ومن تخلف عن جماعة لجماعة، وإن كانت أقل منها فلم يتخلف عنها، ومن صلى فى بيته جماعة فقد أصاب سُنَّة الجماعة وفضلها. روى حماد، عن إبراهيم قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، لهما التضعيف خمسًا وعشرين درجة. وروى أن أحمد بن حنبل، وإسحاق، وعلى بن المدينى، اجتمعوا فى دار أحمد فسمعوا النداء، فقال أحدهم:

(3/177)


اخرج بنا إلى المسجد، فقال أحمد: خروجنا إنما هو للجماعة، ونحن فى جماعة، فأقاموا الصلاة وصلوا فى البيت.
2 - باب فَضْلِ الصَّلاةِ فِى مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
/ 148 - فيه: أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَة، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وسلم) ، والْمَسْجِدِ الأقْصَى) . / 149 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَلاةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) . قال المؤلف: هذا الحديث فى النهى عن إعمال المطى، إنما هو عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة فى مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة المذكورة، قال مالك: من نذر صلاة فى مسجد لا يصل إليه إلا براحلة، فإنه يصلى فى بلده، إلا أن ينذر ذلك فى مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فعليه السير إليها. وقال المؤلف: وأما من أراد الصلاة فى مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعًا بذلك، فمباح له قصدها بإعمال المطى وغيره، ولا يتوجه إليه النهى فى هذا الحديث. فإن قيل: فإن أبا هريرة أعمل المطى إلى الطور، فلما انصرف لقيه بَصْرة بن أبى بَصْرة، فأنكر عليه خروجه، وقال له: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت، سمعت

(3/178)


الرسول يقول: (لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد) . فدل أن مذهب بَصْرة حمل الحديث على العموم فى النهى عن إعمال المطى إلى غير الثلاثة المساجد على كل حال، فدخل فيه الناذر والمتطوع. قيل له: ليس كما ظننت، وإنما أنكر بَصْرة على أبى هريرة خروجه إلى الطور، لأن أبا هريرة كان من أهل المدينة التى فيها أحد المساجد الثلاثة التى أُمر بإعمال المطى إليها، ومن كان كذلك فمسجده أولى بالإتيان، وليس فى الحديث أن أبا هريرة نذر السير إلى الطور، وإنما ظاهره أنه خرج متطوعًا إليه، وكان مسجده بالمدينة أولى بالفضل من الطور، لأن مسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس أفضل من الطور. وقد اختلف العلماء فيمن كان بالمدينة، فنذر المشى إلى بيت المقدس، فقال مالك: يمشى ويركب. وقال الأوزاعى: يمشى ويركب ويتصدق. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلى فى مسجد المدينة أو مكة. واحتج أبو يوسف فى ذلك بأن الصلاة فى مكة والمدينة أفضل من الصلاة فى بيت المقدس، فلذلك أجزأُه. وقال سعيد بن المسيب: من نَذَر أن يعتكف فى مسجد إيلياء، فاعتكف فى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف فى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) فاعتكف فى المسجد الحرام أجزأ عنه، وقال الشافعى: يمشى إلى مسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، إذا نذر ذلك، ولا يتبين لى وجوبه عليه، لأن البر بإتيان بيت الله، عز وجل، فرضٌ، والبر بإتيان هذين نافلة. وقال ابن المنذر: من نذر المشى إلى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، والمسجد الحرام، وجب عليه ذلك، لأن الوفاء به طاعة، ومن نذر المشى إلى بيت المقدس

(3/179)


كان بالخيار إن شاء مشى إليه، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام، لحديث جابر: أن رجلاً قال للنبى، (صلى الله عليه وسلم) : إنى نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلى فى بيت المقدس، قال: (صلى هاهنا ثلاثًا) . وقال أبو يوسف: إن نذر أن يصلى فى المسجد الحرام، فصلى فى بيت المقدس لم يجزئه، لأنه صلى فى مكان ليس له من الفضل ما للمكان الذى أوجب على نفسه فيه الصلاة. وحكى الطحاوى عن أبى حنيفة، ومحمد أنه من جعل الله عليه أن يصلى فى مكان، فصلى فى غيره أجزأه. واحتج لهم الطحاوى بأن معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) . أن المراد به الفريضة لا النافلة، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خير صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة) ، فثبت فساد ما احتج به أبو يوسف، وثبت أن من أوجب على نفسه صلاة فى مكان، وصلى فى غيره أجزأه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى مسجدى هذا خير

(3/180)


من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) ، فإن العلماء اختلفوا فى تفضيل مكة على المدينة، أو المدينة على مكة، فذهبت طائفة إلى أن المدينة أفضل من مكة، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وهو قول مالك، وكثير من أهل المدينة. وذهبت طائفة إلى تفضيل مكة، هذا قول عطاء، والمكيين، وأهل الكوفة، والشافعى. وقال الشافعى: مكة أفضل البقاع. ذكره الساجى، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، وابن حبيب الأندلسى، وكلا الطائفتين نزعت بحديث أبى هريرة. قال المؤلف: وليس فى حديث أبى هريرة حجة لواحدٍ منهما، وإنما يفهم من لفظ حديث أبى هريرة أن صلاة فى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، ثم استثنى المسجد الحرام، وحكم الاستثناء عند أهل اللسان إخراج الشىء مما دخل فيه هو وغيره بلفظ شامل لهما، وإدخاله فيما خرج منه هو وغيره بلفظ شامل لهما. وقد مثل بعض أهل العلم بلسان العرب الاستثناء فى هذا الحديث بمثالٍ بَيَّن فيه معناه، فإذا قلت: اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة إلا العراق، جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكون فاضلاً وأن يكون مفضولاً، فإن كان مساويًا فقد عُلم فضله، وإن كان فاضلاً أو مفضولاً لم يقدر مقدار المفاضلة بينهما إلا بدليل على عدة درجات، إما زائدة على ذلك، أو ناقصة عنها فيحتاج إلى ذكرها. ومما احتج به أهل المقالة الأولى على ذلك ما رواه ابن عيينة، عن زياد بن سعد، سمع سليمان بن عتيق، سمع ابن الزبير، سمع عمر بن الخطاب، يقول: صلاة فى المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: فقول عمر هذا يفسر قول النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) . فإن مسجدى خير من تسع مائة منه. ومثل هذا التأويل تأول عبد الله بن نافع صاحب مالك حديث أبى هريرة، فكان يقول: الصلاة فى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أفضل من الصلاة فى سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل من الصلاة فيه بدون الألف. واحتج أهل المقالة الثانية بما رواه حماد بن زيد، عن حبيب المعلم، عن عطاء بن أبى رباح، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى المسجد الحرام أفضل من الصلاة فى مسجدى هذا بمائة صلاة) .

(3/181)


واحتجوا من طريق النظر بأن الله تعالى فرض على عباده قصد بيته الحرام مرة فى العمر، ولم يفرض عليهم قصد مسجد المدينة، قالوا: ومن قول مالك أن من نذر الصلاة فى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، والمشى إليه ألا يلزمه المشى إليه، وعليه أن يأتيه راكبًا، ومن نذر المشى إلى مكة فإنه يمشى إليها ولا يركب. فدل هذا من قوله أن مكة أفضل، لأنه لم يوجب المشى إليها إلا لتعظيم حرمتها وكبير فضلها.
3 - باب مَسْجِدِ قُبَاءٍ
/ 150 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، أَنّه كَانَ لا يُصَلِّى الضُّحَى إِلا فِى يَوْمَيْنِ: يَوْمَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّى حول الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَيَوْمَ يَأْتِى مَسْجِدَ قُبَاءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّىَ فِيهِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، ويَقُولُ: إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِى يَصْنَعُونَ، وَلا أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّىَ فِى أَىِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، غَيْرَ أَنْ لا تَتَحَرَّوْا بِصَّلاَتَكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا. وترجم له باب مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ. وقَالَ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَأْتِيه كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا. قال أبو جعفر الداودى: إتيان النبى (صلى الله عليه وسلم) مسجد قباء يدل أن ما قرب من المساجد الفاضلة التى فى المصر لا بأس أن يؤتى ماشيًا وراكبًا، ولا يكون فيه ما نهى أن تُعمل المطى. وذكر ابن أبى شيبة من حديث أبى أمامة بن سهل، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (إن صلاة فى مسجد قباء كعمرة) . وروى عن سعد بن أبى وقاص، وابن عمر، أنهما قالا: صلاة فيه كعمرة. وروى وكيع، عن ربيعة بن عثمان،

(3/182)


قال: حدثنى عمران بن أبى أنس، عن سهل بن سعد، قال: اختلف رجلان فى المسجد الذى أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد المدينة، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتوا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (هو مسجدى هذا) . وروى وكيع، عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدرى، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مثله. وذكر الدارقطنى عن كثير بن الوليد، عن مالك بن أنس، عن أبى الزناد، عن خارجة ابن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مثله. وهو قول ابن عمر، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس، وقد يجوز أن يكونا جميعًا أسسا على التقوى. وقد اختلف فيمن نذر الصلاة فى مسجد قباء من المدينة، فذكر ابن حبيب، عن ابن عباس أنه أوجبه فيه، وفى كتاب ابن المنذر: ومن نذر أن يصلى فى مسجد غير الثلاث مساجد فليصل موضعه ولا يأتيه، إلا أن يكون قريبًا جدًا، فليأته فليصل فيه. قال ابن حبيب: قال مالك: إن كان معه فى البلد مشى إليه، وصلى فيه.
4 - باب فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ
/ 151 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) . وعن أَبِى هُرَيْرَة مثله، وزاد: (وَمِنْبَرِى عَلَى حَوْضِى) . قال الطبرى: وقوله: (ما بين بيتى ومنبرى) يحتمل معنيين: أحدهما: بين بيتى الذى أسكنه، وذلك أظهر معنييه، لأن المتعارف من كلام الناس بينهم إذا قال قائل: فلان فى بيته أنه يعنى به بيته الذى يسكنه. وقد روى (ما بين حجرتى ومنبرى) ، وهذا بيِّن.

(3/183)


والوجه الثانى: قاله زيد بن أسلم، قال: بيته فى هذا الحديث هو قبره، ويؤيد هذا القول رواية من روى (ما بين قبرى ومنبرى) . قال الطبرى: إذا كان قبره فى بيت من بيوته، كان معلوم بذلك أن الروايات وإن اختلفت ألفاظها صحيحة، لأن معانيها متفقة، لأن بيته الذى فيه قبره هو حجرة من حجره، وبيت من بيوته، وهو قبره أيضًا، وبيته بعد وفاته، فبين بيته الذى فيه قبره وحجرته التى فيها جدثه روضة من رياض الجنة، والروضة فى كلام العرب المكان المطمئن من الأرض فيه النبت والعشب. وإنما عنى (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك الموضع للمصلى فيه، والذاكر الله عنده والعامل بطاعته كالعامل فى روضة من رياض الجنة، وأن ذلك يقود إلى الجنة، وكذلك ما كان يسمع فيه من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من الإيمان والدين يقود إليها أيضًا، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ارتعوا فى رياض الجنة) ، قيل: ما رياض الجنة؟ قال: (مجالس الذكر) . فجعل مجالس الذكر فى شرفها وفضلها بمنزلة رياض الجنة، وجعل ذاكر الله فيها كالراتع فى رياض الجنة. وكما قال (صلى الله عليه وسلم) : (الجنة تحت ظلال السيوف) يعنى أنه عمل يوصل به إلى الجنة، وكما قال: (الأم باب من أبواب الجنة) ، يريد أن يره بها ودعاءها له يوصله إلى الجنة، وهذا معلوم فى لسان العرب؛ تسمية الشىئ بما يئول إليه ويتولد عنه. وقوله: (ومنبرى على حوضى) ، يحتمل معنين: أحدهما: أن يكون الله تعالى يعيد المنبر بعينه، ويرفعه فيكون على حوضه،

(3/184)


كأنه قال عليه السلام: ولى أيضًا منبر على حوضى أدعو الناس إلى الحوض عليه.
5 - باب اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِى الصَّلاةِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلاةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِى صَلاتِهِ مِنْ جَسَدِهِ بِمَا شَاءَ. وَوَضَعَ أَبُو إِسْحَاقَ قَلَنْسُوَتَهُ فِى الصَّلاةِ وَرَفَعَهَا، وَوَضَعَ عَلِىٌّ كَفَّهُ عَلَى رُسْغِهِ الأيْسَرِ إِلا أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا. / 152 - فيه: ابْن عَبَّاس، حين بَاتَ عِنْدَ خَالَتُهُ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقام رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يصلى فَقُمت إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِى، وَأَخَذَ بِأُذُنِى الْيُمْنَى فَفْتِلُهَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى. . الحديث. هذا الباب هو من باب العمل فى الصلاة، ويسيره معفو عنه عند العلماء، والاستعانة باليد فى الصلاة فى هذا الحديث هى وضع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يده على رأس ابن عباس وفتله أذنه، فاستنبط البخارى منه أنه لما جاز للمصلى أن يستعين بيده فى صلاته فيما يحض به غيره على الصلاة، ويعينه عليها، وينشطه فيها، كان استعانته فى أمر نفسه ليتقوى بذلك على صلاته وينشط إليها إذا احتاج إلى ذلك أولى. وقد اختلف السلف فى الاعتماد فى الصلاة والتوكؤ على الشىء، فذكر البخارى عن ابن عباس أنه لم ير بأسًا أن يستعين فى الصلاة بما شاء من جسده، وعن على بن أبى طالب أنه وضع كفه على رسغه الأيسر.

(3/185)


وقالت طائفة: لا بأس أن يستعين فى صلاته بما شاء من جسده وغيره، ذكر ابن أبى شيبة قال: كان أبو سعيد الخدرى يتوكأ على عصا، وعن أبى ذر مثله. وقال عطاء: كان أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) يتوكئون على العصى فى الصلاة. وأوتد عمرو بن ميمون وتدًا فى حائط، فكان إذا سئم القيام فى الصلاة، أو شق عليه أمسك الوتد يعتمد عليه، وقال الشعبى: لا بأس أن يعتمد على الحائط، وكرهت ذلك طائفة، روى ابن أبى شيبة، عن الحسن أنه كره أن يعتمد على الحائط فى المكتوبة، إلا من عِلَّة، ولم يَرَ به بأسًا فى النافلة ونحوها. قال مالك فى المدونة: لا يتكئ على عصًا أو حائط، ولا بأس به فى النافلة لطول القيام، وكرهه ابن سيرين فى الفريضة والتطوع، قال مجاهد: إذا توكأ على الحائط ينقص من صلاته بقدر ذلك. وقد تقدم فى باب ما يكره من التشديد فى العبادة زيادة فى هذا المعنى، وقول البخارى: إلا أن يحك جلدًا، أو يصلح ثوبًا، فلا حرج عليه فيه، لأنه أمر عام لا يمكن الاحتراز عنه.
6 - باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الْكَلامِ فِى الصَّلاةِ
/ 153 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ فِى الصَّلاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِىِّ، سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، وَقَالَ: (إِنَّ فِى الصَّلاةِ شُغْلا) . / 154 - وفيه: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِى الصَّلاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238] ، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.

(3/186)


قال المهلب: المصلى مناجٍ لربه، فواجب عليه ألا يقطع مناجاته بكلام مخلوق، وأن يُقبل على ربه، ويلتزم الخشوع، ويعرض عما سوى ذلك، ألا ترى قوله، (صلى الله عليه وسلم) : (إن فى الصلاة شغلاً) . وقوله: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (والقنوت فى هذه الآية الطاعة والخشوع لله تعالى، فينبغى ترك الكلام المنافى للخشوع، إلا أن يكون الكلام فى إصلاح الصلاة، فإنه من الخشوع، لأنه فى تصحيح ما هو فيه من أمر صلاته. وقد أجاز الكلام فى الصلاة عمدًا وسهوًا لمصلحتها طائفة، منهم مالك والأوزاعى، وَمَنع ذلك الكوفيون وزعموا أن حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ناسخ لقصة ذى اليدين، وسأذكر اختلاف أهل العلم فى ذلك عند ذكر قصة ذى اليدين بعد هذا، إن شاء الله تعالى، ونذكر هاهنا طرفًا من ذلك فى رد قول الكوفيين، وذلك أن الآثار تواترت عن ابن مسعود أن قدومه من الحبشة على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حين لم يرد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، السلامَ، وقال له: (إن فى الصلاة شغلاً) ، كان بمكة، وإسلام أبى هريرة كان بالمدينة عام خيبر، فكيف ينسخ الأول الآخر، هذا محال. فإن قالوا: فحديث ابن أرقم ناسخ لحديث أبى هريرة فى قصة ذى اليدين، لأن زيدًا كان من الأنصار ولم يصحب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلا بالمدينة، وسورة البقرة مدنية. قيل: لا تاريخ عندنا لأى حديث كان منهما قبل صاحبه، غير أن زيدًا أقدم إسلامًا من أبى هريرة، وأبو هريرة أسلم عام خيبر، وصحب النبى (صلى الله عليه وسلم) خمسة أعوام، وإذا لم يعلم أيهما قبل صاحبه، لم يقض بالنسخ لواحد منهما، ويحتمل أن يكون معنى قول زيد ابن أرقم:

(3/187)


(فأمرنا بالسكوت) ، يعنى إلا ما كان من أمر الكلام فى مصلحة الصلاة، فهو غير داخل فى النهى عن الكلام فى الصلاة، ليوافق حديث أبى هريرة، فلا يعارض واحد منهما صاحبه. ودل حديث زيد على النوع المنهى عنه من الكلام فى الصلاة، وهو قوله: (كنا نتكلم فى الصلاة، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته) ، والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الكلام فى الصلاة، وعلى مثل ذلك دل حديث ابن مسعود أنهم كانوا يسلم بعضهم على بعض فى الصلاة فلما قدموا من الحبشة لم يردّ (صلى الله عليه وسلم) عليهم، وقال: (إن فى الصلاة شغلاً) فبان فى الحديثين النوع المنهى عنه من الكلام فى الصلاة، وهو ما ليس من أمر الصلاة، وثبت بحديث ذى اليدين جواز الكلام فى الصلاة لمصلحتها، وهذا التأويل أولى لئلا تتضاد الأحاديث، والله الموفق.
7 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِى الصَّلاةِ لِلرِّجَالِ
/ 155 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِى عَمْرِو بنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَانَتِ الصَّلاةُ، فَجَاءَ بِلالٌ لأَبِى بَكْر، فَقَالَ: حُبِسَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَتَؤُمُّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ، فَأَقَامَ بِلالٌ الصَّلاةَ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَجَاءَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَمْشِى فِى الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا، حَتَّى قَامَ فِى الصَّفِّ الأوَّلِ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِى التَّصْفِيحِ، فَقَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ؟ قَالَ: هُوَ التَّصْفِيقُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِى صَلاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ، فَإِذَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الصَّفِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ: مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ، فَتَقَدَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى.

(3/188)


قال المهلب: فيه من الفقه: أن الصلاة لا يجب تأخيرها عن وقتها المختار، وإن غاب الإمام الفاضل. وفيه: أنه لا يجب لأحد أن يتقدم جماعة لصلاة، ولا غيرها، إلا عن رضا الجماعة، لقول أبى بكر: نعم إن شئتم، وهو يعلم أنه أفضلهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: أن الإقامة إلى المؤذن وهو أولى بها، وقد اختلف فيها، فقال بعضهم: من أذن فهو يقيم، وقال مالك والكوفيون: لا بأس بأذان المؤذن وإقامة غيره. والذى ترجم له البخارى فهو [. . . . . .] فى هذا الحديث، وقد تقدم فى أبواب الإمامة فى حديث سهل هذا، وهو أيضًا فى باب رفع الأيدى فى الصلاة لأمر ينزل به بعد هذا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما لى أراكم أكثرتم التصفيق، من نابه شىء فى صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه) ، ففى هذا أن التسبيح جائز للرجال والنساء عندما ينزل بهم من حاجة تنوبهم، ألا ترى أن الناس أكثروا بالتصفيق لأبى بكر ليتأخر للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وبهذا قال مالك والشافعى: أن من سبح فى صلاته لشىء ينوبه، أو أشار إلى إنسان، فإنه لا تقطع صلاته. وخالف فى ذلك أبو حنيفة، فقال: إن سبح أو حمد الله جوابًا لإنسان فهو كلام، وإن كان منه ابتداءً لم يقطع، وإن وطئ على حصاة، أو لسعته عقرب، فقال: بسم الله، أراد بذلك الوجع فهو كلام. وقال أبو يوسف فى الأمرين: ليس بكلام.

(3/189)


وقول أبى حنيفة مخالف للحديث، لأن الرسول، قال: (إذا سبح التفت إليه) ، وفهم الصحابة من هذا أنهم إذا سبحوا للإمام ولم يفهم عنهم أن يكثروا ذلك حتى يفهم، ألا ترى أنهم أكثروا التصفيق حتى التفت أبو بكر، ولو لم يكن التسبيح على نية إعلام الساهى ما ردَّدُوه حتى فهم. وقد بَيِّن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن الالتفات فى الصلاة إنما يكون من أجل التسبيح، فهو مقصود بذلك. وفيه: أن الالتفات فى الصلاة لا يقطعها. وفيه: أنه لا بأس بتخلل الصفوف والمشى إلى الصف الأول لمن يليق به الصلاة فيه، لأن شأن الصف الأول أن يقوم فيه أفضل الناس علمًا ودينًا، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليلينى منكم ذوو الأحلام والنهى) ، يعنى، والله أعلم، ليحفظوا عنه ويَعُوا ما كان منه فى صلاته، وكذلك يصلح أن يقوم فى الصف الأول من يصلح أن يلقن الإمام ما تعامى عليه من القراءة، ومن يصلح للاستخلاف فى الصلاة، وقد تقدم كثير من معانى هذا الحديث فى أبواب الإمامة، فأغنى عن إعادته. وفيه: دليل على جواز الفتح على الإمام وتلقينه إذا أخطأ، وقد اختلف العلماء فى ذلك فأجازه الأكثر، وممن أجازه: على، وعثمان، وابن عمر، وروى عن عطاء، والحسن، وابن سيرين، وهو قول مالك، وأبى يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكرهه طائفة، روى ذلك عن ابن مسعود، والشعبى، والنخعى، وكانوا يرونه بمنزلة الكلام، وهو قول الثورى والكوفيبن، وروى عن أبى حنيفة: إن كان التسبيح جوابًا قطع الصلاة، وإن كان من مرور إنسان بين يديه لم يقطع. وقال أبو يوسف: لا يقطع وإن كان جوابًا.

(3/190)


واعتلَّ من كرهه، فقالوا: التلقين كلام لا قراءة للقرآن. والقول الأول أولى، لأنه إذا جاز التسبيح جازت التلاوة، لأنه لو قرأ شيئًا من القرآن غير قاصد تلقين أحد لم تفسد بذلك صلاته عند الجميع، فإذا كان كذلك لم يغير ذلك معناه، قصد به تلقين إمامه أو غيره، كما لو قرأ ما أمر بقراءته فى صلاته وعمد بها إسماع من بحضرته ليتعلمه لم تفسد بذلك صلاته، قاله الطبرى. وقال الطحاوى: ولما كان التسبيح لما ينوبه فى صلاته مباحًا، ففتحه على الإمام أحرى أن يكون مباحًا. وقال أبو على البغدادى: صفح الرجل تصفيحًا: مثل صفق.
8 - باب مَنْ سَمَّى قَوْمًا أَوْ سَلَّمَ فِى الصَّلاةِ عَلَى غَيْرِهِ مُوَاجَهَةً وَهُوَ لا يَعْلَمُ
/ 156 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ التَّحِيَّةُ فِى الصَّلاةِ، وَنُسَمِّى، وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِذَا قَلْتُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِى السَّمَاءِ وَالأرْضِ) . معنى هذا الباب: أنه يجوز الكلام فى الصلاة إذا كان من شأنها، وهو مثل قوله، (صلى الله عليه وسلم) ، فى الصلاة: (اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين) ، فهو من الكلام الذى يرجى نفعه، وتعم بركته، وقوله: (من سَمَّى قومًا) يريد ما كانوا يفعلونه أولا من مواجهة بعضهم بعضًا ومخاطبتهم قبل أن يأمرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بهذا التشهد، فأراد البخارى يعرفك

(3/191)


أنه لما لم يأمرهم النبى بإعادة تلك الصلاة التى سمّى فيها بعضهم بعضًا، عُلم أنه مَنْ فَعَل هذا جاهلاً أنه لا تفسد صلاته، وقال مالك والشافعى: إن من تكلم فى صلاته ساهيًا لم تفسد صلاته، وقوله: (أو يسلم فى الصلاة على غيره وهو لا يعلم) ، يعنى لا يعلم المسلَّم عليه، ولا يسمع السلام عليه. قال المهلب: وأمره (صلى الله عليه وسلم) بمخاطبته فى التحيات لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (السلام عليك أيها النبى) ، وهو أيضًا خطاب فى الصلاة لغير المصلى، لكن لما كان خطاب النبى (صلى الله عليه وسلم) حيًا وميتًا من باب الخشوع، ومن أسباب الصلاة المرجو بركتها لم يكن بخطاب المصلى لغيره، وفى هذا دليل أن ما كان من الكلام عامدًا فى أسباب الصلاة أنه جائز سائغ، بخلاف قول أبى حنيفة، والشافعى. وإنما أنكر (صلى الله عليه وسلم) تسميتهم للناس بأسمائهم، لأن ذلك يطول على المصلى ويخرجه مما هو فيه من مناجاة ربه إلى مناجاة الناس شخصًا شخصًا، فجمع لهم هذا المعنى فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين) ، فهو وإن خاطب نفسه فقد خاطب أيضًا غيره معه، لكنه مما يرجى بركته فيها، فكأنه منها.
9 - باب التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ
/ 157 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أن النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ) . وترجم البخارى لحديث سهل، باب من صفق جاهلاً من الرجال فى صلاته لم تفسد صلاته.

(3/192)


أجمع العلماء أن سُنَّة الرجال إذا نابهم شىء فى الصلاة التسبيح، واختلفوا فى حكم النساء، فذهبت طائفة إلى أن إذن المرأة فى الصلاة التصفيق، وإذن الرجل التسبيح على ظاهر الحديث، وروى عن النخعى، وهو قول الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: التسبيح للرجال والنساء جميعًا، هذا قول مالك، وتأول أصحابه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما التصفيق للنساء) أنه من شأنهن فى غير الصلاة، فهو على وجه الذم لذلك فلا تفعله فى الصلاة امرأة ولا رجل. وذكر ابن شعبان فى كتابه: اختلف قول مالك فى ذلك، فقال مرة: تسبح النساء ولا يصفقن، لأن الحديث جاء (من نابه شىء فى صلاته فليسبح) ، وقال مرة أخرى: التصفيح للنساء، والتسبيح للرجال، كما جاء فى الحديث، قال: والأول أحب إلينا. واحتج أهل المقالة الأولى أن التسبيح إنما كره للنساء، لأن صوت المرأة فتنة، ولهذا منعت من الأذان، والإقامة، والجهر بالقراءة فى الصلاة، واحتجوا بما رواه حماد بن زيد، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد، فى هذا الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من نابه شىء فى صلاته فليسبح الرجال، ولتصفح النساء) . قالوا: وهذا نص لا تأويل لأحد معه. وقوله فى أول الباب: (من صفق جاهلاً من الرجال لم تفسد صلاته) ، إنما تأول ذلك، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر الذين صفقوا بالإعادة، ففيه جواز العمل اليسير فى الصلاة. والتصفيق: الاضطراب وضرب اليد على اليد، وفى كتاب الأفعال: صفق رأسه صفقًا: ضربه باليد، وكذلك صفق عنقه. وقال

(3/193)


الأصمعى: صفقت يده بالبيعة: إذا ضربت يدك على يده، وصفق الطائر بجناحيه: ضرب بهما.
0 - باب مَنْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فِى صَلاتِهِ أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 158 - وفيه: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِى الْفَجْرِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّى بِهِمْ، فَفَجِئَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِى صَلاتِهِمْ فَرَحًا بِالنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ رَأَوْهُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ: أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّىَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وهذا الباب أيضًا من باب العمل اليسير فى الصلاة. وفيه: أن التقدم والتأخر فى الصلاة جائز لما ينزل بالمصلى. وفيه: تفسير لقوله (صلى الله عليه وسلم) لأبى بكرة حين دبَّ راكعًا: (زادك الله حرصًا ولا تعد) أنه لم يرد بقوله: لا تجزئك صلاتك إذ لا فرق بين مشى القائم ومشى الراكع فى الصلاة، فلما لم تنتقض صلاة أبى بكر بتأخره وتقدمه، عُلم أن الراكع إذا تقدم أو تأخر أيضًا لا تبطل صلاته. وفيه من الفقه: جواز مخاطبة من ليس فى صلاة لمن هو فى صلاة، وجواز استماع المصلى إلى ما يخبره به من ليس فى صلاة ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) لما أشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم سمعوا منه وأكملوا صلاتهم، ولم يضرهم ذلك، وهو قول مالك.

(3/194)


1 - باب إِذَا دَعَتِ الأمُّ وَلَدَهَا فِى الصَّلاةِ
/ 159 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى جَعْفَرُ،، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نَادَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا، وَهُوَ فِى صَوْمَعَتِةِ، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّى وَصَلاتِى، ثلاثًا، قَالَتِ: اللَّهُمَّ لا يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِى وُجُوهِ الْمَيَامِيسِ، وَكَانَتْ تَأْوِى إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ، فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ: لَهَا مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، قَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ هَذِهِ الَّتِى تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِى؟ قَالَ: يَا بَابُوسُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: الرَاعِى) . البابوس: الصبى الرضيع بالفارسية. قال المؤلف: هذا الحديث دليل أنه لم يكن الكلام فى الصلاة ممنوعًا فى شريعة جريج، فلما لم يأت من إجابتها بما هو مباح له، استجيبت دعوة أمه فيه، وقد كان الكلام فى شريعتنا جائزًا فى الصلاة إلى أن نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238] . وذكر البخارى عن أبى سعيد بن المعلى، قال: كنت أصلى فى المسجد، فدعانى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، كنت أصلى، قال: (ألم يقل الله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال: 25] ) ، الحديث. ولا يجوز أن يوبخه النبى (صلى الله عليه وسلم) على ترك الاستجابة إلا وقت إباحة الكلام فى الصلاة، فلما نسخ ذلك لم يجز للمصلى إذا دعته أمه، أو غيرها أن يقطع صلاته، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق) . وحق الله تعالى الذى شرع فيه ألزم من حق الأبوين حتى يفرغ منه، لكن العلماء يستحبون له أن يخفف صلاته ويجيب أبويه.

(3/195)


وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حديث مرسل يخالف هذا رواه ابن أبى شيبة عن حفص ابن غياث، عن ابن أبى ذئب، عن محمد بن المنكدر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا دعتك أمك فأجبها، وإذا دعاك أبوك فلا تجبه) ، وقال به مكحول، رواه الأوزاعى عنه، وقال العوام: سألت مجاهدًا عن الرجل تقام عليه الصلاة وتدعوه أمه أو والده، قال: يجيبهما. وفى كتاب البر والصلة، عن الحسن فى الرجل تقول له أمه: أفطر، قال: يفطر وليس عليه قضاء، وله أجر الصوم والبر، وإذا قالت له: لا تخرج إلى الصلاة، فليس لها فى هذا طاعة، هذه فريضة. فدل هذا أن قياس قوله إذا دعته فى الصلاة لا يجيبها، وأما مرسل ابن المنكدر فالفقهاء على خلافه، ولا أعلم به قائلاً غير مكحول، ويحتمل أن يكون معناه إذا دعته أمه فليجبها، يعنى بالتسبيح وبما أبيح للمصلى الاستجابة به، كما ذكر ابن حبيب، قال: من أتاه أبوه ليكلمه وهو فى نافلة فليخفف، وليسلم ويكلمه، وإذا نادته أمه فليبتدرها بالتسبيح، وليخفف وليسلم. وأما قول مجاهد: إذا أقميت عليه الصلاة ودعاه أبوه، أو أمه فليجبهما، فيحتمل أن يكون أمره بإجابتهما إذا كان الوقت متسعًا، ولم يدخل فى الصلاة، فتجتمع له إجابة أبويه وقضاء الصلاة فى وقتها. وقال المهلب: وفى حديث أبى هريرة دليل أنه من أخذ بالشدة فى أمور العبادات كان أفضل إذا علم من نفسه قوة على ذلك، لأن جريجًا رعى حق الله فى التزام الخشوع له فى صلاته، وفضله على الاستجابة لأمه، فعاقبه الله على ما ترك من الاستجابة لها بما ابتلاه به

(3/196)


من دعوة المرأة عليه، ثم أراه فضل ما آثره به من مناجاة ربه، والتزام الخشوع له، أن جعل له آية معجزة فى كلام الطفل، فخلصه بها من محنة دعوة أمه عليه. وفى هذا الحديث إجابة دعوة الوالدة فى السراء والضراء. وقوله: (اللهم أمى وصلاتى) ، إنما سأله أن يلقى فى قلبه الأفضل، ويحمله على أولى الأمرين به، فحمله على التزام مراعاة حق الله على حق أمه، وقد يمكن أن يكون جريج نبيًا، لأنه كان فى زمن يمكن فيه النبوة. فإن قال قائل: يحتمل أن يكون حديث أبى سعيد بن المعلى قبل تحريم الكلام فى الصلاة كما قلت، فكيف جاز له ترك مجاوبة النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا كان الكلام مباحًا؟ قيل: يمكن أن يتأول أبو سعيد قوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال: 25] إذا كنتم فى غير الصلاة، فعذره النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بذلك حين رأى التزام السكوت فى الصلاة تعظيمًا لشأنها، كما تأول أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوم الحديبية حين أمرهم بالحلاق ألا يحلقوا لَمَّا لَمْ يبلغ الهدى محله. فإن قيل: فيحتمل أن يدعوه الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى وقت تحريم الكلام فى الصلاة، قيل: نعم، يحتمل ذلك وتكون استجابته له بالتسبيح فيوجز فى صلاته، فتجتمع طاعة الله بإتمام الصلاة، وطاعة الرسول بالاستجابة له. وأظهر التأويلين أن يدعوه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقت إباحة الكلام فى الصلاة، وقد احتج قوم من أهل الظاهر بحديث أبى سعيد بن المعلى، وزعموا أن كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوم ذى اليدين خصوص له، وقالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يفعل ذلك بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن الله تعالى قال: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم (

(3/197)


فلا يتكلم أحد، ولا يجيب غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ولا حجة لهم فيه، لأن قوله: (استجيبوا لله وللرسول (معناه بما يستجيب به المصلى من قوله: سبحان الله، وإشارة تفهم عنه كما كان، (صلى الله عليه وسلم) ، يرد السلام على الأنصار إشارةً حين دخلوا عليه فى مسجد قباء، وهو يصلى، وكذلك قوله: (من نابه شىء فى صلاته فليسبح) . قال ابن السكيت: المومس: البغى، قال أبو عبيد: وهى المومسة أيضًا.
2 - باب مَسْحِ الْحَصَا فِى الصَّلاةِ
/ 160 - فيه: مُعَيْقِيبٌ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ فِى الرَّجُلِ يُسَوِّى التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ، قَالَ: (إِنْ كُنْتَ فَاعِلا فَوَاحِدَةً) . قال المهلب: هذا من باب العمل فى الصلاة، وقد تقدم أن قليل ذلك معفو عنه فيها، وقوله: (إن كنت فاعلاً فواحدة) ، يريد تقليل العمل فيها، ووكل الأمر فى ذلك إلى أمانة المصلى، وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمسحون الحصى لموضع سجودهم مرة واحدة، وكرهوا ما زاد عليها. وروى ذلك عن ابن مسعود، وأبى ذر، وأبى هريرة، وروى مالك عن يحيى بن سعيد، قال: إن أبا ذر كان يقول: مسح الحصى مرةً واحدةً، وتركها خير من حمر النعم. وهو قول الأوزاعى، والكوفيين، وروى عن ابن عمر أنه كان إذا أهوى ليسجد مسح الحصى مسحًا خفيفًا. وكان مالك لا يرى بالشىء الخفيف منه بأسًا، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أكانوا يشددون

(3/198)


فى مسح الحصى لموضع الجبين ما لا يشددون فى مسح الوجه من التراب؟ قال: أجل، وإنما أبيح مسح الحصى مرة وهو يسير، لأن المصلى لا يجوز أن يعمل جوارحه فى غير الصلاة، ومسح الحصى ليس من الصلاة فلا ينبغى له ذلك، ولا أن يأخذ شيئًا، ولا أن يضعه، فإن فعل لم تنتقض صلاته، ولا سهو عليه.
3 - باب بَسْطِ الثَّوْبِ فِى الصَّلاةِ لِلسُّجُودِ
/ 161 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّى مَعَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) فِى شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الأرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ. قال المهلب: هذا الباب أيضًا من باب العمل اليسير فى الصلاة، وهو مستجاز، لأنه من أمور الصلاة، وقد أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالإبراد من أجل الحر، ولئلا يتعذب الناس بفيح النار، ولا يتمكن من السجود، ولا المبالغة فيه فى زمن الحر، إلا أن يتقيه بثوبه لشدة حر الحجارة، وقد ترجم لحديث أنس فى أبواب اللباس فى الصلاة، باب السجود على الثوب فى شدة الحر، وذكرنا فيه اختلاف العلماء فى السجود على الثياب، فأغنى عن إعادته.
4 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِى الصَّلاةِ
/ 162 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَمُدُّ رِجْلِى فِى قِبْلَةِ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يُصَلِّى فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِى، فَرَفَعْتُهَا فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَما. / 163 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن الرسُول (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى صَلاةً، فَقَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، فَشَدَّ عَلَىَّ، لِيَقْطَعَ الصَّلاةَ عَلَىَّ فَأَمْكَنَنِى اللَّهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ

(3/199)


هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا، فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ: (رَبّ هَبْ لِى مُلْكًا لا يَنْبَغِى لأحَدٍ مِنْ بَعْدِى) [ص: 35] فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا) . استخف جماعة العلماء العمل اليسير فى الصلاة، وأجمعوا أن الكثير منه لا يجوز، إلا أنهم لم يحدّوا القليل، ولا الكثير، وإنما هو اجتهاد واحتياط، وغمزُه، (صلى الله عليه وسلم) ، رجل عائشة فى الصلاة هو عمل يسير، إلا أن تكرير ذلك ربما أخرجه عن حَدِّ القليل. وأما حديث الشيطان الذى عرض للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى الصلاة، فقد رواه عبد الرزاق مفسرًا، فقال: (عرض لى فى صورة هرّ) ، فهذا معنى قوله: (فأمكننى الله منه) أى صوره لى فى صورة الهرِّ مشخصًا يمكنه أخذه، فأراد ربطه، ففى هذا جواز العمل فى الصلاة، وربطه إلى سارية عمل كثير قد هم به الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يهم إلا بجائز. ومما استخف العلماء من العمل فى الصلاة أخذ البرغوث والقملة، ودفع المارِّ بين يدى المصلى، والإشارة والالتفات الخفيف، والمشى الخفيف، وقتل الحية والعقرب، وهذا كله إذا لم يقصد المصلى بذلك العبث فى صلاته ولا التهاون بها، وممن أجاز أخذ القملة فى الصلاة وقتلها الكوفيون والأوزاعى. وقال أبو يوسف: قد أساء، وصلاته تامة، وكره الليث قتلها فى المسجد، ولو قتلها لم يكن عليه شىء، وقال مالك: لا يقتلها فى المسجد ولا يطرحها فيه، ولا يدفنها فى الصلاة. وقال الطحاوى: لو حك بدنه لم يكره، كذلك أخذ القملة وطرحها. ورخص فى قتل العقرب فى الصلاة: ابن عمر، والحسن،

(3/200)


والأوزاعى، واختلف قول مالك فى ذلك، فمرة كرهه، ومرة أجازه، وقال: لا بأس بقتلها إذا آذته وخَفَّفَه، وكذلك الحية والطير يرميه بحجر يتناوله من الأرض، فإن لم يطل ذلك لم تبطل صلاته. وأجاز قتل الحية والعقرب فى الصلاة: الكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وكره قتل العقرب فى الصلاة: إبراهيم النخعى، وسئل مالك عمن يمسك عنان فرسه فى الصلاة، ولا يتمكن من وضع يديه بالأرض، قال: أرجو أن يكون خفيفًا، ولا يتعمد ذلك. وروى على بن زياد، عن مالك فى المصلى يخاف على صبى بقرب نار فذهب يُنَحِّيه، قال: إن انحرف عن القبلة ابتدأ، وإن لم ينحرف بَنَى. وسئل أحمد بن حنبل، عن رجل أمامه سترة فسقطت، فأخذها فأركزها، قال: أرجو ألا يكون به بأس. فذكر له عن ابن المبارك أنه أمر رجلاً صنع ذلك بالإعادة، قال: لا آمره بالإعادة، وأرجو أن يكون خفيفًا. وأجاز مالك والشافعى حمل الصبى فى الصلاة المكتوبة، وهو قول أبى ثور. قال الخطابى: وقوله: (فذعته) رواه جماعة بالدال من الدَّعِّ الذى هو الدفع من قوله تعالى: (يدع اليتيم) [الماعون: 2] والأصل فى دع: دعع، فإذا أسندت الفعل إلى نفسك قلت: دَعَعْتُهُ، فإن قلت: دَعَتُّه، لم يجز فى العربية؛ لأنه لا يجوز فى العربية أن تدغم العين فى التاء، وإنما يدغم الحرف فى مثله، أو فيما قارب مخرجه مخرجه، فبطل بذلك أن يكون بالدال. قال الخطابى: والصواب فيه ما حدثنى الخيام عن

(3/201)


النسفى، عن البخارى (فذعته) بالذال، وحكى عن ثعلب، عن الأصمعى، قال: الذعت: الخنق: قالا: والذعت أيضًا أن تُمَعِّكَ الرجل فى التراب، فإذا أسندت الفعل من ذعت إليك قلت: ذعتُّه، أذعته، وكان الأصل ذعته، فأدغمت لام الفعل التى هى تاء المتكلم كما تقول متته وسبته من قولك مت الحَبْل، بمعنى مدّ، وسبت رأسه: حلقه، وسبت شعره: أرسله.
5 - باب إِذَا انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ فِى الصَّلاةِ
قَالَ قَتَادَةُ: إِنْ أُخِذَ ثَوْبُهُ يَتْبَعُ السَّارِقَ، وَيَدَعُ الصَّلاةَ. / 164 - فيه: الأزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا بِالأهْوَازِ نُقَاتِلُ الْحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى حَرْف نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّى، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ، وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا، قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِىُّ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ، قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ، وَإِنِّى غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سِتَّ غَزَوَاتٍ، أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، أَوْ ثَمَانِىَ، وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ، وَإِنِّى إِنْ كُنْتُ أرجعَ مَعَ دَابَّتِى، أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا، فَيَشُقُّ عَلَىَّ. / 165 - وفيه: عَائِشَةُ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ قَالَ حِينَ فرغ: (لَقَدْ رَأَيْتُ فِى مَقَامِى هَذَا كُلَّ شَىْءٍ

(3/202)


وُعِدْتُهُ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ، حِينَ رَأَيْتُمُونِى جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، حِينَ رَأَيْتُمُونِى تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَىٍّ، وَهُوَ الَّذِى سَيَّبَ السَّوَائِبَ) . لا خلاف بين الفقهاء أنه من أفلتت دابته وهو فى الصلاة أنه يقطع الصلاة ويتبعها، وقال مالك فى المختصر: من خشى على دابته الهلاك، أو على صبى رآه فى الموت فليقطع صلاته. وروى عنه ابن القاسم فى مسافر انفلتت دابته وخاف عليها، أو على صبى، أو أعمى أن يقع فى بئر أو نار، أو ذكر متاعًا يخاف أن يتلف، فذلك عذر يبيح له أن يستخلف ولا يفسد على من خلفه شيئًا. وقول أبى برزة للذى أنكر عليه قطع الصلاة واتباع دابته: (شهدت تيسير النبى، (صلى الله عليه وسلم)) ، يعنى تيسيره على أمته فى الصلاة وغيرها، ولا يجوز أن يفعل هذا أبو برزة من رأيه دون أن يشاهده من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قوله: (وإنى إن كنت أرجع مع دابتى أحب إلىّ) إلى آخر قوله، أخبر أن قطعه للصلاة واتباعه لدابته أفضل من تركها، وإن رجعت إلى مكان علفها، وموضعها فى داره، فكيف إن خشى عليها أنها لا ترجع إلى داره، فهذا أشد لقطعه للصلاة واتباعه لها. ففى هذا حجة للفقهاء فى أن كل ما خشى تلفه من متاع، أو مال، أو غير ذلك من جميع ما بالناس الحاجة إليه أنه يجوز قطع الصلاة وطلبه، وذلك فى معنى قطع الصلاة لهرب الدابة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عائشة: (لقد رأيت أريد أن آخذ قطفًا حين رأيتمونى جعلت أتقدم) ، فهذا المشى عمل فى الصلاة، وكذلك (حين رأيتمونى تأخرت) عمل أيضًا، إلا أنه ليس فيه قطع للصلاة، ولا استدبار للقبلة، ولا مشى كثير مثل ما يمشى من انفلتت

(3/203)


دابته وبعدت عنه، فدل هذا الحديث إن مشى إلى دابته خطىً يسيرة نحو تقدمه (صلى الله عليه وسلم) إلى القطف، وكانت دابته قريبًا منه فى قبلته أنه لا يقطع صلاته. وقد سئل الحسن البصرى، عن رجل صلى وأشفق أن تذهب دابته قال: ينصرف، قيل له: أفيتم على ما مضى؟ قال: إذا ولى ظهره القبلة استأنف الصلاة، وسئل قتادة عن رجل دخلت الشاة فى بيته، وهو يصلى فيطأطئ رأسه ليأخذ القصبة يضربها؟ قال: لا بأس به.
6 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ النفخِ فِى الصَّلاةِ والبزاق
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَفَخَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سُجُودِهِ فِى كُسُوف الشمس. / 166 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى نُخَامَةً فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ، فَإِذَا كَانَ فِى صَلاتِهِ فَلا يَبْزُقَنَّ، أَوْ قَالَ: لا يَتَنَخَّمَنَّ، ثُمَّ نَزَلَ، فَحَتَّهَا بِيَدِهِ) . / 177 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانَ أَحَدِكُمْ فِى الصَّلاةِ، فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ، فَلا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ، تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . اختلف العلماء فى النفخ فى الصلاة، فكرهته طائفة ولم توجب على من نفخ إعادة، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، والنخعى، ورواية عن مالك، قال على عن مالك: أكره النفخ فى الصلاة، ولا يقطعها كما يقطعها الكلام. وهو قول أبى يوسف،

(3/204)


وأشهب، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: هو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة، روى عن سعيد بن جبير، وهو قول مالك فى المدونة، وفيه قول ثالث: أن النفخ إن كان يسمع فهو بمنزلة الكلام، ويقطع الصلاة، هذا قول أبى حنيفة، والثورى، ومحمد. والقول الأول أولى، لما ذكره البخارى عن عبد الله بن عمرو: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفخ فى سجوده) ، وذكر ابن أبى شيبة لأبى صالح أن قريبًا لأم سلمة صلى فنفخ، فقالت أم سلمة: لا تفعل، فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لغلام لنا أسود: (يا رباح، ترب وجهك) . وقال ابن بريدة: كان يقال: من الجفاء أن ينفخ الرجل فى صلاته، فدل هذا أن من كرهه إنما جعله من الجفاء وسوء الأدب، لا أنه بمنزلة الكلام عنده، ألا ترى أن أم سلمة لم تأمر قريبها حين نفخ فى صلاته بإعادتها، ولو كان بمنزلة الكلام عندها ما تركت بيان ذلك، ولا فعله رسوله الله (صلى الله عليه وسلم) . ويدل على صحة هذا اتفاقهم على جواز التنخم والبزاق فى الصلاة، وليس فى النفخ من النطق بالفاء والهمزة أكثر مما فى البزاق من النطق بالتاء والفاء اللتين من رمى البصاق، ولما اتفقوا على جواز البزاق فى الصلاة جاز النفخ فيها، إذ ليس بينهما فرق فى أن كل واحدٍ منهما بحروف، ولذلك ذكر البخارى حديث البزاق فى هذا الباب ليستدل به على جواز النفخ، لأنه لم يسند حديث عبد الله بن عمرو، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نفخ فى سجوده، واعتمد على الاستدلال من حديث النخامة والبزاق، وهو استدلال حسن، وأما البزاق اليسير فإنه يحتمل فى الصلاة إذا كان على اليسار، أو تحت القدم، كما جاء فى الحديث، غير أنه ينبغى إرساله بغير نطق بحرف

(3/205)


مثل التاء والفاء اللتين يفهمان من رمى البزاق، لأن ذلك من النطق، وهو خلاف الخشوع فيها.
7 - باب إِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّى تَقَدَّمْ أَوِ انْتَظِرْ، فَانْتَظَرَ، فَلا بَأْسَ
/ 168 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ، فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِىَ الرِّجَالُ جُلُوسًا. التقدم فى هذا الحديث هو تقدم الرجال بالسجود النساء، لأن النساء إذا لم يرفعن رءوسهن حتى يستوى الرجال جلوسًا، فقد تقدمهن بذلك وصرن منتظرات لهم، وفى هذا من الفقه جواز وقوع فعل المأموم بعد الإمام بمدة، ويصح ائتمامه، كمن زحم ولم يقدر على الركوع والسجود، حتى قام الناس، وفيه جواز سبق المأمومين بعضهم لبعض فى الأفعال، ولا يضر ذلك، وفيه إنصات المصلى لمخبر يخبره، وفيه جواز الفتح على المصلى، وإن كان الذى يفتح عليه فى غير صلاة، لأنه قد يجوز أن يكون القائل للنساء، لا ترفعن رءوسكن فى غير صلاة.
8 - باب لا يَرُدُّ السَّلامَ فِى الصَّلاةِ
/ 169 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: كُنْتُ أُسَلِّمُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى الصَّلاةِ، فَيَرُدُّ عَلَىَّ، فَلَمَّا رَجَعْنَا، سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ، وَقَالَ: (إِنَّ فِى الصَّلاةِ شُغْلا) . / 170 - وفيه: جَابِرِ، قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَاجَةٍ لَهُ، فَانْطَلَقْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، وَقَدْ قَضَيْتُهَا، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ، فَوَقَعَ فِى قَلْبِى مَا اللَّهُ بِهِ أَعْلَمُ، فَقُلْتُ فِى نَفْسِى: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَجَدَ عَلَىَّ أَنِّى أَبْطَأْتُ

(3/206)


عَلَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَىَّ، فَقَالَ: (إِنَّمَا مَنَعَنِى أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّى كُنْتُ أُصَلِّى، وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ) . أجمع العلماء أن المصلى لا يرد السلام متكلمًا، واختلفوا هل يرد بالإشارة، فكرهته طائفة، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتج الطحاوى لأصحابه بقوله: (فلم يرد علىّ، وقال: إن فى الصلاة شغلاً) ، واختلف فيه قول مالك، فمرة كرهه، ومرة أجازه، وقال: ليرد مشيرًا بيده وبرأسه، ورخصت فيه طائفة، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وقتادة، والحسن. وفيه قول ثالث: وهو أنه يرد عليه إذا فرغ من الصلاة، روى ذلك عن أبى ذر، وأبى العالية، وعطاء، والنخعى، والثورى، واحتج الذين رخصوا فى ذلك بما رواه ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: لما قدم عبد الله من الحبشة، وأتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلى، فسلم عليه، فأومأ وأشار برأسه. قال: حدثنا ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: سألت صهيبًا، كيف كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصنع حين يسلم عليه وهو يصلى؟ قال: يشير بيده. وعن ابن عمر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أتى قباء، فجاء الأنصار يسلمون عليه، وهو يصلى، فأشار إليهم بيده. وقال عطاء: سلم رجل على ابن عباس، وهو يصلى، فأخذ بيده فصافحه وغمزه. وقد ثبتت الإشارة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى الصلاة فى آثار كثيرة، ذكرها البخارى فى آخر كتاب الصلاة، فلا معنى لقول من أنكر رد السلام بالإشارة. وكذلك اختلفوا فى السلام على المصلى، فكره ذلك قوم، وروى

(3/207)


عن جابر بن عبد الله، قال: لو دخلت على قوم وهم يصلون ما سلمت عليهم. وقال أبو مجلز: السلام على المصلى عجز. وكرهه عطاء، والشعبى، ورواه ابن وهب عن مالك، وبه قال إسحاق. ورخصت فيه طائفة، روى ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك فى المدونة، وقال: لا يكره السلام على المصلى فى فريضة ولا نافلة. وفعله أحمد بن حنبل.
9 - باب رَفْعِ الأيْدِى فِى الصَّلاةِ لأمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
/ 171 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أن النَّبِىَ، (صلى الله عليه وسلم) ، جاء وَأَبُو بَكْرِ يُصَلِّىَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بأَنْ يُصَلِّىَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ. . . الحديث. رفع الأيدى استسلام وخشوع لله تعالى فى غير الصلاة، فكيف فى الصلاة التى هى موضوعة للخشوع والضراعة إلى الله تعالى، والحجة فى هذا الحديث فى رفع أبى بكر يديه بحضرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ولم ينكر ذلك عليه.
0 - باب الْخَصْرِ فِى الصَّلاةِ
/ 172 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُصَلِّىَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا. قال المهلب: إنما كره الخصر فى الصلاة، لأنه يشبه المختالين، والخصر أن يضع الرجل يديه على خاصرتيه، وفيه معنى الكبرياء، فلا يحل القليل منه، فكيف فى الصلاة التى هى موضوعة للخشوع،

(3/208)


والخيلاءُ والكبرُ ينافيان الخشوع، وكرهه ابن عباس، وعائشة، والنخعى، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين. ورأى ابن عمر رجلاً وضع يديه على خاصرتيه فى الصلاة، فقال: هذا الصلب فى الصلاة، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى عنه، وقالت عائشة: هو من فعل اليهود، وقالت مرة: هكذا أهل النار فى النار. وقال مجاهد: وضع اليد على الحقو استراحة أهل النار، وقال الخطابى: المعنى أنه فعل اليهود فى صلاتهم، وهم أهل النار، لا على أن لأهل النار المخلدين فيها راحة، قال تعالى: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) [الزخرف: 75] . وقال ابن عباس: الشيطان يخصر كذلك. قال حميد بن هلال: إنما كره التخصر فى الصلاة، لأن إبليس أهبط مختصرًا.
1 - باب يَفَكُر الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ
وَقَالَ عُمَرُ بنْ الخَطَّاب: إِنِّى لأجَهِّزُ جَيْشِى، وَأَنَا فِى الصَّلاةِ. / 173 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْعَصْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ سَرِيعًا، ثًمَّ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، وَرَأَى مَا فِى وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ، فَقَالَ: (ذَكَرْتُ وَأَنَا فِى الصَّلاةِ تِبْرًا عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِىَ، أَوْ يَبِيتَ، عِنْدَنَا، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) . / 174 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ، فَلا يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى لا يَدْرِىَ كَمْ صَلَّى (. / 175 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: يَقُولُ النَّاسُ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَلَقِيتُ رَجُلا،

(3/209)


فَقُلْتُ: بِمَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْبَارِحَةَ فِى الْعَتَمَةِ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِى، قُلْتُ: لَمْ تَشْهَدْهَا، قَالَ: بَلَى، قَقُلْتُ: لَكِنْ أَنَا أَدْرِى، قَرَأَ بسُورَةَ كَذَا وَكَذَا. قال المهلب: الفكر فى الصلاة أمر غالب لا يمكن الاحتراز من جميعه، لما جعل الله للشيطان من السبيل إلى تذكيرنا ما يسهينا به عن صلاتنا، وخير ما يستعمل به الفكر فى الصلاة ما هو فيه من مناجاة ربه، ثم بعده الفكر فى إقامة حدود الله، كالفكر فى تفريق الصدقة كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أو فى تجييش جيش الله، عز وجل، على أعدائه المشركين كما قال عمر. وروى هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال عمر: إنى لأحسب جزية البحرين، وأنا فى الصلاة. ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه) ، ليحض على الإقبال على الصلاة، وليجاهدوا الشيطان فى ذلك بما رغبهم فيه، وأعلمهم من غفران الذنوب لمن أجهد نفسه فيه، وهذا الانصراف من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لا يدخل فى معنى التخطى، لأن على الناس كلهم الانصراف بعد الصلاة، فمن بقى فى موضعه فهو مختار لذلك، وإنما التخطى فى الدخول إلى المسجد لا فى الخروج منه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اذكر كذا، اذكر كذا) ، فإن أبا حنيفة أتاه رجل قد رفع مالا، ثم غاب عن مكانه سنين، فلما انصرف نسى الموضع الذى جعله فيه، فذكر ذلك لأبى حنيفة تبركًا برأيه، ورغبة فى فضل دعائه، فقال أبو حنيفة: توضأ هذه الليلة وصل، وأخلص النية فى صلاتك لله، وفرغ قلبك من خواطر الدنيا ومن كل عارض فيها، فلما جاء الليل فعل الرجل ما أمره به، وأجهد أن لا يجرى على باله شىء من أمور الدنيا، فجاءه الشيطان فذكره بموضع المال، فقصده من وقته فوجده فيه، فلما أصبح غدا إلى أبى حنيفة، فأخبره بوجود المال، فقال أبو حنيفة: قدرت أن الشيطان سيرضى أن

(3/210)


يشغله عن إخلاص فكره فى صلاته لله تعالى، ويصالحه على ذلك بتذكيره بما فقده من ماله، ليلهيه عن صلاته استدلالا بهذا الحديث، فعجب جلساؤه لجودة انتزاعه لهذا المعنى الغامض من هذا الحديث. وقول الرجل لأبى هريرة: (لا أدرى ما قرأ رسول الله) ، يدل أنه كان مفكرًا فى صلاته، فلذلك لم يدر ما قرأ به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقول أبى هريرة: (يقول الناس: أكثر أبو هريرة) ، ففيه أنه أكثر من يعلم، وكان حافظًا له ضابطًا، لأن الإكثار ليس بعيب، وإنما يكون عيبًا فيه إذا خشى قلة الضبط، فقد يكون من الناس غير مكثر من العلم ولا ضابط له مثل هذا الرجل الذى لم يحفظ ما قرأ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى العتمة. وفيه: أنه يجوز أن يُنفى فعل الشىء عمن لم يحكمه، لأن أبا هريرة قال للرجل: لم تشهدها، يريد شهودًا تامًا، فقال الرجل: بلى شهدتها، كما يقال للصانع إذا لم يحسن صنعته: ما صنعت شيئًا، يريدون الإتقان، وللمتكلم: ما قلت شيئًا، إذا لم يعلم ما يقول. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، و (لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد) ، يريد لا صلاة تامة.

(3/211)


2 - باب مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَرْضِ
. / 176 - فيه: ابن بُحَيْنَةَ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ. ورواه يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الأعْرَجِ، وذكر أنها كانت صلاة الظهر. واختلف العلماء فيمن قام من اثنتين ساهيًا، هل يرجع إلى الجلوس؟ فقالت طائفة بحديث ابن بحينة: إذا استتم قائمًا، واستقل من الأرض فلا يرجع، وليمض فى صلاته، وإن لم يستو قائمًا جلس، وروى ذلك عن علقمة، وقتادة، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، وهو قول الأوزاعى، وابن القاسم فى المدونة، والشافعى. وقالت طائفة: إذا فارقت أليته الأرض، وإن لم يعتدل، فلا يرجع ويتمادى، ويسجد قبل السلام، رواه ابن القاسم، عن مالك فى المجموعة. وقالت طائفة: يقعد وإن كان استتم قائمًا روى ذلك عن النعمان بن بشير، والنخعى، والحسن البصرى، إلا أن النخعى، قال: يجلس ما لم يفتتح القراءة، وقال الحسن: ما لم يركع.

(3/212)


وفى المدونة لابن القاسم، قال: إن أخطأ فرجع بعد أن قام سجد بعد السلام، وقال أشهب وعلى بن زياد: قبل السلام، لأنه قد وجب عليه السجود فى حين قيامه، ورجوعه إلى الجلوس زيادة، وعلة الذين قالوا: يقعد، وإن استتم قائمًا القياس على إجماع الجميع أن المصلى لو نسى الركوع من صلاته وسجد، ثم ذكر وهو ساجد أن عليه أن يقوم حتى يركع، فكذلك حكمه إذا نسى قعودًا فى موضع قيام حتى قام أن عليه أن يعود له إذا ذكره. قال الطبرى: والصواب قول من قال: إذا استوى قائمًا يمضى فى صلاته ولا يقعد، فإذا فرغ سجد سجدتى السهو، لحديث ابن بحينة أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) حين اعتدل قائمًا، من أن يذكر بنفسه، أو يذكره من خلفه بالتسبيح، وأى الحالين كان فلم ينصرف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى الجلوس بعد قيامه، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، ومعاوية، وسعيد، والمغيرة بن شعبة، وعقبة بن عامر، أنهم قاموا فى اثنتين، فلما ذكروا بعد القيام لم يجلسوا، وقالوا: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يفعل ذلك. وفى قول أكثر العلماء: أنه من رجع إلى الجلوس بعد قيامه من اثنتين أنه لا تفسد صلاته إلا ما ذكر ابن أبى زيد، عن سحنون أنه قال: أفسد الصلاة برجوعه، والصواب قول الجماعة، لأن الأصل ما فعله، وترك الرجوع رخصة وتنبيه أن الجلسة الأولى لم تكن فريضة، لأنها لو كانت فريضة لرجع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد سجد عنها، فلم يقضها، والفرائض لا ينوب عنها سجود ولا غيره، ولابد من قضائها فى العمد والسهو.

(3/213)


وقد شذت فرقة فأوجبت الأولى فرضًا، وقالوا: هى مخصوصة من بين سائر فروض الصلاة بأن ينوب عنها سجود السهو كالعرايا من المزابنة، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعًا، لا يقاس عليها شىء من أعمال البر فى الصلاة. ومنهم من قال: هى فرض، وأوجب الرجوع إليها ما لم يعمل المصلى بعدها ما يمنعه من الرجوع إليها، وذلك عقد الركعة التى قام إليها يرفع رأسه منها، وقولهم مردود بحديث ابن بحينة، فلا معنى للاشتغال به، وإنما ذكرته ليعرف فساده. وأجمع العلماء أن من ترك الجلسة الأولى عامدًا أن صلاته فاسدة وعليه إعادتها، قالوا: وهى سنة على حيالها، فحكم تركها عمدًا حكم الفرائض، وأجمعوا أن الجلسة الأخيرة فريضة إلا ابن علية، قال: ليست بفرض قياسًا على الجلسة الوسطى، واحتج بحديث ابن بحينة فى القيام من ثنتين. والجمهور حجة على من خالفهم لا يجوز عليهم جهل ما عليه الشاذ المنفرد، على أن ابن علية يوجب فساد صلاة من لم يأت بأعمال الصلاة كلها سننها وفرائضها، وقوله مردود بقوله، ويرد أيضًا قولَهُ قولُهُ (صلى الله عليه وسلم) : (وتحليلها التسليم) ، والتسليم لا يكون إلا بجلوس فسقط قولهم. وفى حديث ابن بحينة حجة لمن جعل سجود السهود فى النقص قبل السلام، وقد اختلفوا فى ذلك، فذهبت فرقة إلى أن السجود كله قبل،

(3/214)


روى هذا عن أبى هريرة ومكحول، وعن الزهرى، وربيعة، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وقالت فرقة: السجود كله بعد السلام، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وعمار، وسعد، وابن عباس، وأنس، وهو قول النخعى، والحسن، والثورى، والكوفيين، واحتجوا من طريق النظر بإجماعهم على أن حكم من سها فى صلاته أن لا يسجد فى موضع سهوه، وإنما يؤخر ذلك إلى آخر صلاته لتجمع له السجدتان كل سهو فى صلاته، ومعلوم أن السلام قد يمكن فيه السهو أيضًا، فوجب أن يؤخر السجدتان عن السلام أيضًا كما يؤخر عن التشهد. وذهب مالك إلى أن سهوه إن كان نقصانًا من الصلاة فسجوده قبل السلام على حديث ابن بحينة، وكل سهو كان زيادة فى الصلاة، فإن سجوده بعد السلام على حديث ذى اليدين، وهو قول أبى ثور، ولا مدخل للنظر مع وجود السنن، فلا معنى لقول الكوفيين.
3 - باب إِذَا صَلَّى خَمْسًا
/ 177 - فيه: ابن مسعود، أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِى الصَّلاةِ؟ فَقَالَ (وَمَا ذَاكَ) ، قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، بَعْدَ مَا سَلَّمَ. اختلف الفقهاء فى المصلى إذا قام إلى خامسة، فقالت طائفة بظاهر هذا الحديث: إن ذكر وهو فى الخامسة قبل كمالها، رجع وجلس وتشهد وسلم، وإن لم يذكر إلا بعد فراغه من الخامسة، فإنه يسلم، ويسجد للسهو، وصلاته مجزئة عنه، هذا قول عطاء، والحسن، والنخعى، والزهرى، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.

(3/215)


وقال أبو حنيفة: إذا صلى الظهر خمسًا ساهيًا نُظر، فإن لم يقعد فى الرابعة قدر التشهد، فإن صلاته الفرض قد بطلت، ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون نافلة ويعيد الفرض، وإن جلس فى الرابعة مقدار التشهد فصلاته مجزئة ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون الخامسة والسادسة نفلا، وإن ذكر وهو فى الخامسة قبل أن يسجد فيها، ولم يكن جلس فى الرابعة رجع إليها فأتمها كما نقول، وسجد بعد السلام. قال ابن القصار: فلا ينفك أصحاب أبى حنيفة فى هذا الحديث من أحد وجهين: إما أن يكون (صلى الله عليه وسلم) قعد فى الرابعة قدر التشهد، فإذا سجد ولم يزد على الخامسة سادسة، أو لم يقعد، فإنه لم يُعد الصلاة، وهم يقولون: قد بطلت صلاته، ولو كانت باطلة لم يسجد (صلى الله عليه وسلم) للسهو، ولأعاد الصلاة. وقوله: (فسجد سجدتين بعد ما سلم) ، هو حجة لمالك فى أن سجود السهو فى الزيادة بعد السلام، وخلاف لقول الشافعى فى أن سجود السهو فى الزيادة قبل السلام، وقول مالك يشهد له الحديث، ومن طريق النظر أن سجود النقص جبران، والجبران يقع داخل الصلاة، فيجعل زيادة فعل مكان ما سقط من الفعل، وتجعل الزيادة التى هى ترغيم للشيطان خارج الصلاة، ولا تدخل زيادة فعل على زيادة فعل، فتكثر الزيادات. وقال المهلب: السجود فى الزيادة إنما هو لأحد معنيين: ليشفع ما قد زاد إن كان زيادة كثيرة، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين تشفع له ما تقدم) ، وإن كانت زيادة

(3/216)


قليلة فالسجدتان ترغيم للشيطان الذى أسهى وأشغل حتى زاد فى الصلاة، فأغيظ الشيطان بالسجدتين، لأن السجود هو الذى استحق إبليس بتركه العذاب فى الآخرة والخلود فى النار، فلا شىء أرغم له منه.
4 - باب إِذَا سَلَّمَ فِى رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِى ثَلاثٍ يَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلاةِ أَوْ أَطْوَلَ
/ 178 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى لنَا رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أقصرت الصَّلاة يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: (أَحَقٌّ مَا يَقُولُ) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ سَعْدٌ: وصلى عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِىَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) . هذه الترجمة رد على أهل الظاهر فى قولهم: أنه لا يسجد أحد من السهو إلا فى الخمسة المواضع التى سجد فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو: السلام من ثنتين على حديث ذى اليدين، والقيام من ثنتين على حديث ابن بحينة، إلا أنه يجعل السجود فى ذلك بعد السلام، أو من صلى الظهر خمسًا على حديث ابن مسعود، وفى البناء على اليقين على حديث أبى سعيد الخدرى، وفى التحرى على حديث ابن مسعود. وجماعة الفقهاء يقولون: إن من سلم فى ثلاث ركعات، أو قام فى ثلاث، أو نقص من صلاته مَالَهُ بَالٌ، أو زاد فيها، فعليه سجود السهو، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، علم الناس فى السلام من ثنتين،

(3/217)


والقيام منها، وزيادة خامسة، وفى البناء على اليقين، والتحرى سجود السهو، ليستعملوا ذلك فى كل سهو يكون فى معناه. واحتجوا فى ذلك أيضًا بحديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا شك أحدكم فى الصلاة، فليتحر الصواب، وليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين) ، فأمر بالسجود لكل سهو، وهو عام إلا أن يقوم دليل. وفى قصة ذى اليدين من الفقه أن اليقين لا يجب تركه للشك، حتى يأتى بيقين يزيله، ألا ترى أن ذا اليدين كان على يقين من أن فرض صلاتهم تلك أربع ركعات، فلما أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على غير تمامها، وأمكن فى ذلك القصد من جهة الوحى، وأمكن النسيان، لزمه أن يستفهم حتى يصير إلى يقين يقطع به الشك، وفيه من الفقه أن من سلم ساهيًا فى صلاته وتكلم، وهو يظن أنه قد أتمها، فإنه لا يضره ذلك ويبنى على صلاته. وقد اختلف قول العلماء فى كيفية رجوع المصلى إلى إصلاح صلاته، فقال مالك فى المدونة: كل من رجع إلى إصلاح ما بنى عليه من صلاته، فليرجع بإحرام. وروى ابن وهب عنه أنه قال: إن لم يكبر فلا يضره ذلك مع إمام كان أو وحده. وقال ابن نافع: إن لم يدخل بإحرام أفسد صلاته على نفسه، وعلى من خلفه إن كان إمامًا. وقال الأصيلى: رواية ابن وهب هى القياس، لأن رجوعه إلى صلاته بنية تجزئه من ابتداء بإحرام، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ذى اليدين، وليس سلامه ساهيًا مما يخرجه من صلاته. وقال غيره: إن لم يكبر فى رجوعه فلا شىء عليه، لأن التكبير

(3/218)


شعار حركات المصلى، وأصل التكبير فى غير الإحرام إنما كان للإمام، ثم صار سُنَّة بمواظبة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عليه وتكبير الصلوات محصور فلا وجه للزيادة فيه، ألا ترى أن الذى يحبسه الإمام عن القيام لا يكبر إذا قام لقضاء ما عليه، لأنها زيادة على تكبير الصلاة، وسلامه ساهيًا لا يخرجه عن الصلاة عند جمهور العلماء، وإذا كان فى صلاة بنى عليها، فلا معنى للإحرام، لأنه غير مستأنف لصلاة بل هو متمم لها، وإنما يؤمر بالتكبير من ابتدأ الصلاة، أو استأنفها. قال ابن القصار: وقول ذى اليدين لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله: لم تقصر ولم أنس) ، يدل أنه من تكلم ساهيًا فى الصلاة لم يفسدها، وهو قول مالك والشافعى. والحجة لذلك أنه لما قال ذو اليدين: بل قد نسيت، علمنا أنه لم يكن القصر فى الصلاة، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك ناسيًا، فحصل كلامه (صلى الله عليه وسلم) فى حال نسيان الصلاة غير مفسد لها، ولو كان الكلام يفسدها لابتدأ (صلى الله عليه وسلم) الصلاة ولم يَبْنِ. هذا رد على أبى حنيفة وأصحابه والثورى، فإنهم زعموا أن من تكلم فى الصلاة ساهيًا، أو عامدًا لمصلحتها أنه قد أفسدها. وروى مثل قولهم عن النخعى، وقتادة، وقاله ابن وهب، وابن كنانة من أصحاب مالك. قال ابن وهب: إنما كان حديث ذى اليدين فى بدء الإسلام، ولا أرى لأحدٍ أن يفعله اليوم. وقال ابن كنانة: لا يجوز لأحدٍ اليوم ما جاز لمن كان مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن ذا اليدين ظن أن التقصير نزل، وقد علم الناس كلهم اليوم أن تقصير الصلاة لا ينزل، فعلى من تكلم الإعادة. قال عيسى

(3/219)


ابن دينار: فقرأته على ابن القاسم، فقال: ما أدرى ما هذه الحجة، قد قال لهم النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (كل ذلك لم يكن، قالوا: بلى قد كان بعض ذلك) . فقد كلموه عمدًا بعد علمهم أنها لم تقصر وبَنَوْا. وقال الشافعى: الكلام فى مصلحة الصلاة عمدًا لا يجوز. وقال مالك: الكلام فى مصلحتها عمدًا لا يفسدها، مثل أن يقول لإمامه: بقيت عليك ركعة أو تسليمة، أو يسأله الإمام عن شىء تركه فيجيبه. وقال الأوزاعى: إن تكلم لفرض يجب عليه لم تقسد صلاته، وإن كان لغير ذلك بطلت، والفرض عليه رَدُّ السلام، أو أن يرى أعمى يقع فى بئر، فينهاه. واحتج الكوفيون، فقالوا: حديث ذى اليدين منسوخ، نسخه حديث ابن مسعود، وزيد بن أرقم فى النهى عن الكلام فى الصلاة، وعللوا الحديث، فقالوا: أبو هريرة لم يشهد قصة ذى اليدين، لأن ذا اليدين قتل يوم بدر، قالوا: ويدل على ذلك ما رواه الليث بن سعد، عن نافع، وابن وهب، عن عبد الله العمرى، عن نافع، عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذى اليدين، فقال: كان إسلام أبى هريرة بعد ما قتل ذو اليدين. فعلى هذا معنى قول أبو هريرة: (صلى لنا رسول الله) ، يعنى صلى بالمسلمين، وهذا جائز فى اللغة، كما قال النزال بن سبرة: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنا وإياكم كنا ندعى بنى عبد مناف، وأنتم اليوم بنو عبد الله، ونحن بنو عبد الله) ، يعنى لقوم النزال، فهذا النزال يقول: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو لم يره، يريد بذلك قال لقومنا.

(3/220)


ومثله قال طاوس: قدم علينا معاذ بن جبل، فلم يأخذ من الخضروات شيئًا، وطاوس لم يدرك معاذًا، إنما قدم اليمن فى عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يولد طاوس يومئذ، فمعنى قوله: قدم علينا، قدم بلدنا، وهذا الزهرى على علمه بالسنن يقول: إن قصة ذى اليدين كانت قبل بدر. وما ادعاه الكوفيون أن حديث ذى اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود فغير مسلَّم لهم، لما قدمنا فى باب ما ينهى عنه من الكلام فى الصلاة أن حديث ابن مسعود فى تحريم الكلام فى الصلاة كان بمكة، وقت قدومه من الحبشة، وإسلام أبى هريرة كان عام خيبر، وقد صح شهود أبى هريرة لقصة ذى اليدين، وأنها لم تكن قبل بدر. وقولهم: إن ذا اليدين قتل يوم بدر، فغير صحيح، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين، ذكر ذلك سعيد بن المسيب، وجماعة من أهل السير: ابن إسحاق وغيره، قالوا: وذو الشمالين هو عمير بن عمرو، من خزاعة حليف لبنى زهرة، وذو اليدين غير ذى الشمالين المقتول ببدر، وإن المتكلم كان من بنى سليم، ذكر ذلك يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة. وقال عمران بن حصين: رجل طويل اليدين يقال له: الخرباق، وقال الأثرم: سمعت مسددًا يقول: الذى قتل ببدر هو ذو الشمالين بن عبد عمرو، حليف بنى زهرة، وذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية، فيجئ فيصلى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وذكر ابن أبى خيثمة أن ذا اليدين عَمَّر إلى زمن معاوية، وتوفى بذى خشب.

(3/221)


وقد اضطرب الزهرى فى رواية حديث ذى اليدين، فجعله ذا الشمالين المقتول ببدر، وترك العلماء حديثه، لأنه مرة يرويه عن أبى بكر بن سليمان بن أبى حَثْمَة، قال: بلغنى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وحدث عنه مالك، عن سعيد وأبى سلمة، أنه بلغهما: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى ركعتين ثم سلم، ولم يسجد للسهو. وقال مسلم بن الحجاج فى كتاب التمييز: قول ابن شهاب أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يسجد يوم ذى اليدين خطأ وغلط، وقد ثبت ذلك عنه (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن القصار: والدليل على أن كل من تكلم فى صلاته عمدًا لمصلحتها أن صلاته تامة، أن ذا اليدين لما قال للرسول (صلى الله عليه وسلم) : قد كان بعض ذلك، علم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يقصر، وأن النسيان الجائز قد حصل منه فابتدأ عامدًا فسأل الناس، فأجابوه أيضًا عامدين، لأنهم علموا أنها لم تقصر، وأن النسيان قد وقع، وبهذا احتج ابن القاسم. وقال أبو الفرج: لو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث ذى اليدين بتحريم الكلام فى الصلاة، لم يكن لهم فيه حجة، لأنه قد نهى عن التسبيح فى الصلاة فى غير موضعه، وأبيح للتنبيه على غفلة المصلى فى صلاته ليستدركه، فكذلك الكلام. ويدخل على أبى حنيفة والشافعى التناقض فى قولهم فى هذا الحديث، لأنهم يجيزون المشى فى الصلاة عامدًا لإصلاحها، كالراعف يخرج من المسجد يغسل الدم وللوضوء، ولا يجوز ذلك،

(3/222)


عندهم فى غير إصلاح الصلاة، فكذلك الكلام يجوز منه لإصلاح الصلاة ما لا يجوز منه لغير ذلك.
5 - باب مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ
وَسَلَّمَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لا يَتَشَهَّدُ. / 179 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ) ؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ. وقيل لابن سيرين: فِى سَجْدَتَىِ السَّهْوِ تَشَهُّدٌ؟ قَالَ: لَيْسَ فِى حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ. اختلف العلماء فى سجدتى السهو، وهل فيهما تشهد وسلام، فقالت طائفة: لا تشهد فيها، ولا سلام. روى ذلك عن أنس، وطاوس، والحسن، والشعبى. وقالت طائفة: لا تشهد فيهما، وفيهما سلام. روى ذلك عن سعد بن أبى وقاص، وعمار، وابن أبى ليلى، وابن سيرين. وقالت طائفة: فيهما تشهد وسلام. روى ذلك عن ابن مسعود، والنخعى، والحكم، ورواية عن قتادة، واستحسن ذلك الليث، وقاله

(3/223)


مالك فى العتبية والمجموعة، وهو قول الأوزاعى، والثورى، والكوفيين، والشافعى، ذكره ابن المنذر. وحكى الطحاوى، عن الأوزاعى، والشافعى: ليس فيهما تشهد. وفيهما قول رابع: إن سجد قبل السلام لم يتشهد، وإن سجد بعد السلام تشهد، رواه أشهب، عن مالك، وهو قول ابن الماجشون، وأحمد بن حنبل. قال المهلب: وليس فى حديث ذى اليدين تشهد، ولا تسليم، ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، تشهد فيهما وسلم، ولم ينقل ذلك المحدث. والثانى: أنه لم يتشهد فيهما، ولا سلم، وألحق المسلمون بهاتين السجدتين الصلاة، لما كانت صلاةً كَبَّرَ الرسول لهما، فأضيف إليهما التشهد، والسلام تأكيدًا لهما. وقال ابن المنذر: التسليم فى سجدتى السهو ثابت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من غير وجه، وفى ثبوت التشهد عنه (صلى الله عليه وسلم) فيهما نظر. وفى حديث ذى اليدين حجة لمالك على الشافعى فى قوله: إن سجود السهو كله فى الزيادة قبل السلام، لأنه (صلى الله عليه وسلم) زاد فى حديث ذى اليدين السلام، والكلام، ثم أكمل صلاته وسجد للسهو بعد السلام.

(3/224)


6 - باب مَنْ يُكَبِّرُ فِى سَجْدَتَىِ السَّهْوِ
/ 180 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِحْدَى صَلاتَىِ الْعَشِىِّ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَكْثَرُ ظَنِّى الْعَصْرَ - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِى مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: (لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ) ، قَالَ: بَلَى، قَدْ نَسِيتَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. / 181 - وفيه: ابن بُحَيْنَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) قَامَ فِى صَلاةِ الظُّهْرِ، وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا أَتَمَّ صَلاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، فَكَبَّرَ فِى كُلِّ سَجْدَةٍ، وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِىَ مِنَ الْجُلُوسِ. قال المهلب: التكبير فى سجود السهو ثابت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولذلك ألحق المسلمون فيهما التشهد والسلام. وفى هذا الحديث من الفقه أنه لو انحرف عن القبلة فى صلاته ساهيًا أو مشى قليلاً، أنه لا يخرجه ذلك عن صلاته، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قام إلى خشبة فى مقدم المسجد فوضع يده عليها، وخرج السرعان، وقالوا: إنه قصرت الصلاة، فلم ينقض ذلك صلاتهم، لأنه كان سهوًا، فدل أن السهو لا ينقض الصلاة، ولا يستعمل اليوم مثل هذا من الخروج من المسجد والكلام [. . . .] إعادة الصلاة، والعمل الكثير فى الصلاة مسقط لخشوعها، فلذلك استحب العلماء إعادتها من أولها إذا كثر العمل مثل هذا. واختلف العلماء فى الذى يسهو مرارًا فى الصلاة، فقال أكثر أهل العلم: يجزئه لجميع ذلك سجدتان، هذا قول النخعى، وربيعة،

(3/225)


ومالك، والثورى، والليث، والكوفيين، والشافعى، وأبى ثور، ومنهم من قال: يسجد فى ذلك كله قبل السلام، ومنهم من قال: بعد السلام، على حسب أقوالهم فى ذلك. وفيه قول ثانى: أن على من سها سهوين مختلفين أربع سجدات، هذا قول الأوزاعى. وقال ابن أبى حازم، وعبد العزيز بن أبى سلمة: إذا كان عليه سهوان فى صلاة واحدة، منه ما يسجد له قبل السلام، ومن ما يسجد له بعد السلام، فليسجد قبل السلام، وبعد السلام. قال ابن القصار: وحديث ذى اليدين حجة لأهل المقالة الأولى، وذلك أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سلم وهذا يوجب سجود السهو، ثم مشى إلى خشبة معترضة فى المسجد فاتكأ عليها، وهذا يوجب سجود السهو، ثم تكلم، فقال: (أصدق ذو اليدين) ، وهذا يوجب سجود سهو، ثم سجد لجميع ذلك (صلى الله عليه وسلم) سجدتين، وهذا حجة على من خالفه. وقال مالك: إنه إذا اجتمع سهوان فى الصلاة بزيادة ونقصان فسجودهما قبل السلام. أخذ فى الزيادة بحديث ذى اليدين، وأخذ فى النقصان بحديث ابن بحينة، وبهذا يصح استعمال الخبرين جميعا، واستعمال الأخبار أولى من ادعاء النسخ فيها، والفرق بين الزيادة والنقصان بَيِّن من طريق النظر، لأن السجود فى النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الجبر بعد الخروج من الصلاة والسجود فى الزيادة ترغيم للشيطان، وذلك ينبغى أن يكون بعد الفراغ من الصلاة. وسرعان الناس: أوائلهم، وكذلك سرعان الخيل.

(3/226)


7 - باب إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ
/ 182 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا نُودِىَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ الأذَانَ، فَإِذَا قُضِىَ الأذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِىَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِى كَمْ صَلَّى فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى، ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فأخذ قوم بظاهره، وقالوا: من شك فى صلاته، فلم يدر زاد أم نقص، فليسجد سجدتين، وهو جالس ثم يسلم، وليس عليه ذلك روى ذلك، عن أنس، وأبى هريرة، وعن الحسن البصرى. وقال آخرون: هذا الحديث إنما هو فى المستنكح الذى يكثر عليه السهو ويلزمه حتى لا يدرى أسها أم لا، فمن كانت هذه حاله أبدًا أجزأه أن يسجد سجدتى السهو دون أن يأتى بركعة، وإنما يأتى بركعة الذى لا يعتريه ذلك كثيرًا، قالوا: وبهذا التأويل تسلم الأحاديث من التعارض. وعلى هذا فَسَّرَ الليث بن سعد حديث أبى هريرة، ذكره عنه ابن وهب، وذكره ابن المواز عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم. ولمالك قول آخر فيمن كثر عليه السهو حتى يظن أنه لا يتم صلاته: فَلْيَلْهُ عنه ولا شىء عليه. قال عنه ابن نافع: لا يسجد له، وقال ابن عبد الحكم: من كثر عليه السهو فلا يبنى على شكه، وَلْيَلْهُ عنه،

(3/227)


ولو سجد بعد السلام كان أحبَّ إلىَّ، ومن لا يعتريه إلا غبا فَلْيَبْنِ على يقينه، ويسجد بعد السلام. وقال آخرون: حديث أبى هريرة ناقص يفسره حديث أبى سعيد الخدرى، وعبد الرحمن بن عوف، فى البناء على اليقين والإتيان بركعة للشاكِّ، وحديث أبى هريرة فيه مضمر قد ظهر فى حديث غيره فلا يجزئ من شك فى صلاته أن يخرج منها إلا حتى يستيقن تمامها، لأن الفرض لازم عليه بيقين فلا يسقط عنه إلا بيقين. هذا قول ربيعة، ومالك، والثورى، والشافعى، وأبى ثور، وإسحاق. وقال آخرون: الحكم فى الشك أن ينظر المصلى إلى أغلب ظنه فى ذلك، فإن مال إلى أحد العددين بنى على الأقل حتى يعلم يقينًا أنه قد صلى ما عليه، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه. واحتجوا فى ذلك بحديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين) . وقد ذكرت طرفًا من حجة من قال بالبناء على اليقين، ومن حجة من قال بالتحرى فى حديث ابن مسعود فى باب التوجه إلى القبلة حيث كان فى أول كتاب الصلاة، فأغنى عن إعادته. وقال آخرون: إذا لم يدر كم صلى أعادها أبدًا حتى يحفظ. روى هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وعن الشعبى، وشريح، وعطاء، وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعى، وحكى عن عطاء، وميمون بن مهران، وسعيد بن جبير قول آخر: أنهم إذا شكوا فى الصلاة أعادوها ثلاث مرات، فإذا كانت الرابعة لم يعيدوا. قال المؤلف: أما هذان القولان الآخران فمخالفان للآثار كلها، لحديث ابن مسعود فى التحرى، ولحديث أبى سعيد، وعبد الرحمن بن عوف فى البناء على اليقين، ولحديث أبى هريرة فى هذا الباب،

(3/228)


فلا أعلم له وجهًا إلا من جهة الاحتياط للصلاة، غير أن من كثر شكه ولم ينفك منه إن كُلف أبدًا ما ليس فى وسعه، ولا معنى لمن حَدّ فى ذلك ثلاث مرات أيضًا، وكذلك لا أعلم وجها لرواية ابن نافع عن مالك، أنه لا سجود على من كثر شكه، لأنها خلاف لحديث أبى هريرة. وقد احتج ابن القصار لقول مالك فى الذى يكثر عليه السهو أنه ليس عليه غير السجود فقط، فقال: الذى يكثر عليه السهو ويعتاده لا يتوصل إلى أداء صلاته فى غالب الحال إلا باجتهاد، ولو ألزمناه البناء على اليقين كلما شك أدى إلى أن لا يخرج من صلاته حتى يكثر العمل فيها، وكلما عاد إلى ما عنده أنه يقينُه عاوده الشك، فلحقته المشقة، وأدى إلى خروج الوقت، وفى هذا ما لا يخفى. فحكمه حكم المستحاضة التى يخرج منها الدم، لو أمرناها بالخروج من الصلاة وغسل الدم، والوضوء وهو لا ينقطع أدى إلى أن لا تصلى حتى يخرج الوقت، ولعلها لا تصلى أصلاً، فكذلك من عادته الشك، وكثرة السهو، فينبغى أن يمضى على صلاته، ويشبه هذا قول أبو حنيفة فإنه يقول: من شك فى صلاته فلم يدر كم صلى فإن وقع له ذلك كثيرًا بنى على اجتهاده وغالب ظنه، وإن كان ذلك أول ما عرض له فليستأنف صلاته. فخالفنا فى الذى لا يقع منه السهو أبدًا، فنحن نقول: يبنى، وهو يقول: يبتدئ صلاته والحجة عليه فى هذا حديثُ ابن مسعود أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من شك فى صلاته فليتحر الصواب، وليتم عليه) ، وأبو حنيفة يقول: لا يتم ويستأنف. وهو خلاف الحديث، وقد روى عن مكحول، والأوزاعى أنه من بنى على اليقين

(3/229)


فليس عليه سجدتان، ومن لم يبن فليسجد. ذكره الطبرى، وهو خلاف حديث ابن مسعود وغيره فى السجود لمن بنى على اليقين، وخلاف لقول الفقهاء.
8 - باب السَّهْوِ فِى الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَسَجَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ.
/ 183 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّى، جَاءَ الشَّيْطَانُ، فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لا يَدْرِىَ كَمْ صَلَّى؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ) . الكلام فى هذا الحديث كالكلام فى حديث الباب الذى قبله، منهم من جعله مبينا على حديث البناء على اليقين، ومنهم من جعله فى المستنكح ومنهم من أخذ بظاهره فى المستنكح وغيره، ولم يوجب الإتيان بركعة على حسب ما تقدم فى الباب قبل هذا، وأما سجود السهو فى التطوع فإن جمهور الفقهاء يوجبون ذلك عليه، إلا ابن سيرين وقتادة، فإنهما قالا: إذا سها فى التطوع فلا سجود عليه. والحجة للجماعة عليهما، قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن أحدكم إذا قام يصلى جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدرى كم صلى) . وقوله: (قام يصلى) تدخل فيه جميع الصلوات فرضها ونفلها، فهو عام فى كل ما يسمى صلاة، وقد أوجب (صلى الله عليه وسلم) السجود على الساهى، والسنة حجة على من خالفها فصح قول الجماعة. قال المهلب: وإذا كان الشيطان هو الذى يلبس عليه حتى ينسيه،

(3/230)


فليرغم أنفه بالسجود فى السهو، فيرجع راغم الأنف خاسئًا بالسجود الذى حرمه الله فائدته، وخيبه من رحمته بإبائه منه.
9 - باب إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّى فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَعَ
/ 184 - فيه: كُرَيْبٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ، أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالُوا: اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنَّا جَمِيعًا، وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ، وَقُلْ لَهَا: إِنَّا أُخْبِرْنَا عَنْكِ أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ نبى الله نَهَى عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ عَليهَا. قَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِى، فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا: فَرَدُّونِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَنْهَى عَنْهَا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَىَّ وَعِنْدِى نِسْوَةٌ مِنْ بَنِى حَرَامٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَقُلْتُ: قُومِى بِجَنْبِهِ، فَقُولِى لَهُ: تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الركعتين، ورأيتك تُصَلِّيهِمَا، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخِرِى عَنْهُ، فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (يَا بِنْتَ أَبِى أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِى نَاسٌ مِنْ عَبْدِالْقَيْسِ، فَشَغَلُونِى عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ) . اختلف العلماء فى الإشارة التى تفهم فى الصلاة، فقال مالك والشافعى: لا تقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تقطع الصلاة، وحكمها حكم الكلام. واحتجوا بما رواه ابن إسحاق،

(3/231)


عن يعقوب بن عتبة، عن أبى غطفان بن طريف، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ومن أشار فى صلاته إشارة، تفهم عنه فليُعد) . واحتج أهل المقالة الأولى بحديث هذا الباب، وقالوا: قد جاء من طرق متواترة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بإشارة مفهومة، فهو أولى من حديث أبى غطفان عن أبى هريرة، فليست الإشارة فى طريق النظر كالكلام، لأن الإشارة إنما هى حركة عضو، وقد رأينا حركة سائر الأعضاء غير اليد فى الصلاة لا تفسدها، فكذلك حركة اليد. وفى حديث عائشة جواز استماع المصلى إلى ما يخبره به من ليس فى الصلاة، وقد روى موسى عن ابن القاسم، أن من أخبر فى الصلاة بما يسرُّه، فحمد الله، أو بمصيبة فاسترجع، أو يخبر بشىء فيقول: الحمد لله على كل حال، أو الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، فلا يعجبنى وصلاته مجزئة. وقد تقدم فى باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها فى كتاب أوقات الصلوات، الجمع بين معنى هذا الحديث، وبين نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الصلاة بعد العصر للطبرى، فاطلبه هناك. قال المهلب: وفيه من الفقه أنه ينبغى أن يسأل أعلم الناس بالمسألة، وأن العلماء إذا اختلفوا رفعوا الأمر إلى من هو أعلم منهم وأفقه للمسألة لملازمة سبقت له، ثم يُقتدى به، ويُنتهى إلى فعله، وفيه فضل عائشة وعلمها، لأنهم اختصوها بالسؤال قبل غيرها.

(3/232)


قال غيره: وإنما رفعت المسألة إلى أم سلمة، والله أعلم، لأن عائشة كانت تصليهما بعد العصر، وعلمت أن عند أم سلمة من علمها مثل ما عندها، وأنها قد رأت الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصليهما فى ذلك الوقت فى بيتها، فأرادت عائشة أن تستظهر بأم سلمة تقويةً لمذهبها من أجل ظهور نهيه (صلى الله عليه وسلم) عنهما، وخشية الإنكار لقولها منفردة، وقد حفظ عن عائشة أنها قالت: (ما تركهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى بيتى سرًا ولا جهرًا، تريد جهرًا منها، وكان لا يصليهما فى المسجد مخافة أن يثقل على أمته) . وأما الركعتان اللتان صلاهما النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذلك اليوم فى بيت أم سلمة فهما غير اللتين كان يلتزم صلاتهما فى بيت عائشة بعد العصر، وإنما كانت الركعتان بعد الظهر على ما جاء فى الحديث، فأراد إعادتهما ذلك الوقت أخذًا بالأفضل، لا أن ذلك واجب عليه فى سنته، لأن السنن والنوافل إذا فاتت أوقاتها لم يلزم إعادتها، والله ولى التوفيق.
0 - باب الإشَارَةِ فِي الصَّلاةِ
قَالَهُ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 185 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ يُصْلِّح بَيْنَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَجَاءَ النبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وأَبُو بَكْرٍ فِى الصلاة، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّىَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، على ذلك. . . . / 186 - وفيه: أَسْمَاءَ، دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، وَهِىَ تُصَلِّى، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ

(3/233)


النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَقَالَتْ: بِرَأْسِهَا، أَىْ نَعَمْ. / 187 - وفيه: عَائِشَةَ، صَلَّى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا. . . الحديث. وهذا الباب كله كالذى قبله، فيه الإشارة المعهودة باليد، والرأس، وفيه جواز استفهام المصلى، ورده الجواب باليد والرأس خلافًا لقول الكوفيين، وروى ابن القاسم عن مالك من تكلم فى الصلاة، فأشار برأسه، أو بيده، فلا بأس بما خف ولا يكثر. وقال ابن وهب: لا بأس أن يشير فى الصلاة ب (لا) ، و (نعم) ، وقد اختلف قول مالك إذا تنحنح فى الصلاة لرجل يسمعه، فقال فى المختصر: إن ذلك لكلام. وروى عنه ابن القاسم أنه لا شىء عليه. قال الأبهرى: لأن التنحنح ليس بكلام، وليس له حروف هجاء.

(3/234)


كِتَاب الْجَنَائِزِ
- بَاب مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ. / 1 - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى فَأَخْبَرَنِى، أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِى، أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، وَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) . / 2 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ دَخَلَ النَّارَ) . وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قال عبد الواحد: فإن قال قائل: ليس ظاهر هذين الحديثين مما يوافق التبويب، قيل له: قد ذكر البخارى حديث أبى ذر هذا فى كتاب اللباس، وقال فيه: إن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من عبد، قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) . إلى قوله: (وإن زنا وإن سرق. . . .) الحديث. وفسره بأن قال بأثره: قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله، غفر له، فدل قوله هذا على أن من قال: لا إله إلا الله، وإن بَعُد قوله لها عن وقت موته، ثم مات على اعتقادها أنه ممن آخر كلامه لا إله إلا الله، وداخل فى معنى التبويب إذا لم يقل بعدها خلافها حتى مات. قال المؤلف: وقد روى ابن أبى الدنيا، قال: حدثنا يعقوب بن عبيد،

(3/235)


قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبى عريب، عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ، على ظاهر الترجمة. وروى ابن أبى شيبة، حدثنا أبو خالد، عن يزيد بن كيسان، عن أبى حازم، عن أبى هريرة، قال: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) . قال المهلب: لا خلاف بين أئمة المسلمين أنه من قال: لا إله إلا الله، ومات عليها أنه لابد له من الجنة، ولكن بعد الفصل بين العباد ورد المظالم إلى أهلها. وذكر ابن إسحاق، قال: حدثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حدث: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين بعث معاذ ابن جبل إلى اليمن وأوصاه أن ييسر ولا يعسر، ويبشر ولا ينفر، وقال: (إنه سيقدم عليك قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له) . قال غيره: وفى حديث أبى ذر وقول ابن مسعود رد على الرافضة والإباضية، وأكثر الخوارج فى قولهم: إن أصحاب الكبائر والمذنبين من المؤمنين يخلدون فى النار بذنوبهم، وقد نطق القرآن أيضًا بتكذيبهم. قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] . وقال أبو عثمان بن الحداد: والحجة عليهم فى أن الله تعالى لا يُخَلِّدُ فى النار من عمل عملاً مقبولاً منه، إذ قبول العمل يوجب ثوابه، والتخليد فى العذاب يمنع ثواب الأعمال، وقد أخبر الله تعالى فى كتابه الصادق به) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) [النساء: 40] ، وترك المثوبة على الإحسان ظلم، تعالى الله عن ذلك.

(3/236)


وقول وهب بن منبه: إن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك. فإنما أراد بالأسنان القواعد التى بنى الإسلام عليها، التى هى كمال الإيمان ودعائمه، خلاف قول الغالية من المرجئة والجهمية الذين يقولون: إن الفرائض ليست إيمانًا، وقد سماها الله إيمانًا بقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) [البقرة: 143] أى صلاتكم إلى بيت المقدس، وقال: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) [النور: 62] واستئذانهم له عمل مفترض عليهم سموا به مؤمنين كما سموا بإيمانهم بالله ورسوله. قال المؤلف: وقول ابن مسعود أصل فى القول بدليل الخطاب وإثبات القياس، والله الموفق للصواب.
- بَاب الأمْرِ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ
/ 3 - فيه: الْبَرَاءِ، قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: (أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِى، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. وَنَهَانَا: عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّىِّ، وَالإسْتَبْرَقِ) . / 4 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) . قال المؤلف: اتباع الجنائز ودفنها والصلاة عليها من فروض الكفاية عند جمهور العلماء، واختلف أصحاب مالك فى ذلك،

(3/237)


فذكر ابن المواز، قال عبد الملك: الصلاة على الميت فريضة يحملها من قام بها. وحكى ابن سحنون عن أبيه مثله، وقال أصبغ بن الفرج: هى سُنَّة، وعيادة المرضى ندب وفضيلة. وأما إجابة الداعى فإن كانت الدعوة إلى وليمة النكاح، فجمهور العلماء يوجبونها فرضًا، ويوجبون الأكل فيها على من لم يكن صائمًا إن كان الطعام طيبًا، ولم يكن فى الدعوة منكر، وغير ذلك من الدعوات يراه العلماء حسنًا من باب الألفة وحسن الصحبة. وأما نصر المظلوم ففرض على من يقدر عليه ويطاع أمره، وإبرار القسم ندب وحض إذا أقسم الرجل على أخيه فى شىء لا مكروه فيه ولا يشق عليه، فعليه أن يبرَّ قسمه، وذلك من مكارم الأخلاق، ورد السلام فرض على الكفاية عند مالك والشافعى، وعند الكوفيين فرض معين على كل واحد من الجماعة. وتشميت العاطس واجب وجوب سنة، والشرب فى آنية الفضة واستعمالها حرام على الرجال والنساء، وكذلك آنية الذهب، والتختم بالذهب حرام على الرجال خاصة، مباح للنساء، والحرير المصمت الذى لا يخالطه غيره لا يجوز لبسه للرجال، إلا أنهم اختلفوا فى لباسه للحرب، وحال التداوى للجرب وشبهه، وهو حلال للنساء. وسقط من حديث البراء الخصلة السابعة المنهى عنها، وهى ركوب المياثر، وذكرها فى حديث البراء فى كتاب الاستئذان، وفى كتاب الأشربة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (حقى المسلم على المسلم) يعنى حق حرمته

(3/238)


عليه، وجميل صحبته له ما لم يكن فرضًا فى الحديث كتشميت العاطس، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة، وهو كقول أبو هريرة: حق على المسلم أن يغتسل كل جمعة، وأن يستاك ويمس من طيب أهله. وليس شىء من ذلك عنده فرضًا، وسيأتى القول فى هذا الحديث مستوعبًا فى كتاب الاستئذان والسلام فهو موضعه، إن شاء الله تعالى، وفى كتاب النكاح فى إجابة دعوة الوليمة.
3 - بَاب الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا أُدْرِجَ فِى أَكْفَانِهِ
/ 5 - فيه: عَائِشَةَ أن أَبَا بَكْرٍ دخل عَلَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: بِأَبِى أَنْتَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، لا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِى كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا. فخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ، فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (إِلَى) الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا، حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا سمَعُ بَشَرٌ إِلا يَتْلُوهَا. / 6 - وفيه: أُمَّ الْعَلاءِ، بَايَعَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتِّ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً، فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِى أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّىَ، وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِى أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِى عَلَيْكَ، لَقَدْ

(3/239)


أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟) قُلْتُ: بِأَبِى وأمى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ، فَقَالَ: (أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّى لأرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِى - وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - مَا يُفْعَلُ بِى) ، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لا أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا. / 7 - وفيه: جَابِرَ، لَمَّا قُتِلَ أَبِى، جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، أَبْكِى، وَيَنْهَوْنِى عَنْهُ، وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لا يَنْهَانِى فَجَعَلَتْ عَمَّتِى فَاطِمَةُ تَبْكِى، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ) . قال المهلب: فيه جواز كشف الثوب عن الميت إذا لم يبدُ منه أذى، وفيه جواز تقبيل الميت عند وداعه، ونهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المكامعة، إنما هى فى حال الحياة، فلما ارتفعت فى الميت جاز تقبيله، وقد روى عبد الرزاق عن الثورى، عن عاصم بن عبيد الله، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل على عثمان بن مظعون فأكب عليه فقبله، ثم بكى، حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه. وفيه جواز البكاء على الميت من غير نوح، وكذلك فى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث جابر: (تبكين أو لا تبكين) إباحة البكاء أيضًا، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله. وأما قول أبى بكر الصديق: لا يجمع الله عليك موتتين، فإنما قال ذلك، والله أعلم، لأن عمر بن الخطاب وغيره قالوا: إن رسول الله لم يمت وسيبعث ويقطع أيدى رجال وأرجلهم، ذكرته عن عمر فى فضائل أبى بكر الصديق، فأراد أنه لا يجمع الله عليه ميتتين فى الدنيا، بأن يميته هذه الميتة التى قد ماتها ثم يحييه، ثم يميته ميتة أخرى. وليس قوله: لا يجمع الله عليك ميتتين، بمعارض لقوله تعالى:

(3/240)


) ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) [غافر: 11] ، لأن الميتة الأولى خلقه الله من تراب ومن نطفة، لأن التراب والنطفة موات، والموات كله لم يمت نفسه، وإنما أماته الله الذى خلقه، والموت الثانى الذى يموت الخلق، وأما قوله: (وأحييتنا اثنتين (يعنى حياة الدنيا والحياة فى الآخرة بعد الموت، هذا قول ابن مسعود والسائب بن يزيد وابن جريج، فقوله: لا يجمع الله عليك ميتتين كقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] . وفى الآية قول آخر روى عن الضحاك أنه قال: الميتة الأولى ميتته، والثانية موته فى القبر بعد الفتنة والمساءلة، واحتج بأنه لا يجوز أن يقال للنطفة والتراب ميت، وإنما يقال: ميت لمن تقدمت له الحياة، وهذا اعتراض فاسد، قال الله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) [يس: 33] ولم يتقدم لها حياة قط، وإنما جعلها الله جمادًا ومواتًا، وهذا من سعة كلام العرب، والقول الأول هو الذى عليه العلماء. وفيه أن أبا بكر الصديق أعلم من عُمر، وهذه إحدى المسائل التى ظهر فيها ثاقب علم أبى بكر، وفضل معرفته، ورجاحة رأيه وبارع فهمه، وسرعة انتزاعه بالقرآن، وثبات نفسه، وكذلك مكانته عند الأمة لا يساويه فيها أحد، ألا ترى أنه حين تشهد وبدأ بالكلام مال الناس إليه، وتركوا عمر. ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته فى نفوسهم على عمر، وسمو محله عندهم، أخذوا ذلك رواية عن نبيهم، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد أقر بذلك عمر بن الخطاب حين مات أبى بكر، فقال: والله ما أحب أن

(3/241)


ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبى بكر، ولوددت أنى شعرة فى صدر أبى بكر. وذكر الطبرى عن ابن عباس، فقال: والله إنى لأمشى مع عمر فى خلافته وبيده الدرة، وهو يحدث نفسه ويضرب قدمه بدرته ما معه غيرى إذ قال لى: يا ابن عباس، هل تدرى ما حملنى على مقالتى التى قلت حين مات رسول الله؟ قلت: لا أدرى والله يا أمير المؤمنين. قال: ما حملنى على ذلك إلا قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا) [البقرة: 143] فوالله إنى كنت لأظن أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها. وفى تأويل عمر هذه الحجة لمالك فى قوله: فى الصحابة مخطئ ومصيب، يعنى فى التأويل. وقال المهلب: وفى حديث أم العلاء أنه لا يقطع على أحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، ولكن يرجى للمحسن، ويخاف على المسئ، وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى) ، فيحتمل أن يكون قبل أن يعلمه الله بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد روى فى هذا الحديث (ما يفعل به) وهو الصواب، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يعلم من ذلك إلا ما يوحى به إليه، والله الموافق للصواب. وقال عبد الواحد: فإن قيل: هذا المعنى يعارض قوله فى حديث جابر: (ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) ، قيل: لا تعارض بينهما، وذلك أن الرسول لا ينطق عن الهوى، فأنكر على أم العلاء قطعها على ابن مظعون، إذ لم يعلم هو من أمره شيئًا، وفى قصة جابر قال بما علمه من طريق الوحى، إذ لا يجوز أن يقطع عليه السلام على مثل هذا إلا بوحى، فسقط التعارض

(3/242)


4 - بَاب الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. / 9 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَإِنَّ عَيْنَىْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ لَهُ) . قال المهلب: هذا صواب الترجمة: باب الرجل ينعى إلى الناس الميت بنفسه، وإنما نعى (صلى الله عليه وسلم) النجاشى للناس، وخصه بالصلاة عليه، وهو غائب، لأنه كان عند الناس على غير الإسلام، فأراد أن يعلم الناس كلهم بإسلامه، فيدعو له فى جملة المسلمين ليناله بركة دعوتهم، ويرفع عنه اللعن المتوجه إلى قومه. والدليل على ذلك أنه لم يصل (صلى الله عليه وسلم) على أحد من المسلمين ومتقدمى المهاجرين والأنصار الذين ماتوا فى أقطار البلدان، وعلى هذا جرى عمل المسلمين بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يصل على أحدٍ مات غائبًا، لأن الصلاة على الجنائز من فروض الكفاية يقوم بها من صلى على الميت فى البلد التى يموت فيها، ولم يحضر النجاشى مسلمٌ يصلى على جنازته، فذلك خصوص للنجاشى، بدليل إطباق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث. وقال بعض العلماء: إن روح النجاشى أحضر بين يدى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فصلى عليه، ورفعت له جنازته كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته، وعلم يوم موته ونعاه لأصحابه، وخرج فأمهم فى الصلاة عليه قبل أن يُوارَى، وهذه أدلة الخصوص، يدل على ذلك أيضًا إطباق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث، ولم

(3/243)


أجد لأحد من العلماء إجازة الصلاة على الغائب إلا ما ذكره ابن أبى زيد، عن عبد العزيز بن أبى سلمة، فإنه قال: إذا استوقن أنه غرق، أو قتل، أو أكلته السباع، ولم يوجد منه شىء صلى عليه كما فعل (صلى الله عليه وسلم) بالنجاشى، وبه قال ابن حبيب. وفى نعى النبى للنجاشى، وقوله: (أخذ الراية زيدٌ فأصيب) جواز نعى الميت للناس بخلاف قول من تأول نهى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن النعى أنه الإعلام بموت الميت، روى ذلك حذيفة: (أنه كان إذا مات له ميت، قال: لا تؤذنوا به أحدًا، فإننى أخاف أن يكون نعيًا، فإنى سمعت رسول الله ينهى عن النعى) ، وقال بذلك الربيع بن خثيم، وابن مسعود وعلقمة، وحديث النجاشى أصح من حديث حذيفة، وإنما الذى نهى عنه (صلى الله عليه وسلم) فهو نعى الجاهلية وأفعالها، وفيه علمٌ من أعلام النبوة بإخباره عن الغيب بخبر النجاشى، وخبر زيد وأصحابه، وسيأتى القول فى معنى حديث أنس فى كتاب الجهاد، إن شاء الله.
5 - بَاب الإذْنِ بِالْجَنَازَةِ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا آذَنْتُمُونِى) . / 10 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ، فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: (مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِى؟) قَالُوا: كَانَ اللَّيْلُ، وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. الإذن بالجنازة والإعلام بها سُنَّة بخلاف قول من كره ذلك، روى عن ابن عمر أنه كان إذا مات له ميت تحين غفلة الناس، ثم خرج

(3/244)


بجنازته. والحجة فى السنة لا فيما خالفها، وقد روى عن ابن عمر فى ذلك ما يوافق السنة، وذلك أنه نعى له رافع بن خديج، قال: كيف تريدون أن تصنعوا به؟ قالوا: نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قرى حول المدينة ليشهدوا، قال: نعم ما رأيتم. وكان أبو هريرة يمر بالمجالس، فيقول: إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته. قال المهلب: وهذا الذى صلى عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد ما دفن إنما فعله لأنه كان يخدم المسجد، وقد روى أبو هريرة فى هذا الحديث: (أن أسود، رجل أو امرأة، كان يكون فى المسجد يقمّه فمات) ، وروى مالك عن ابن شهاب، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف: أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله بمرضها، وكان يعود المساكين، وقال: (إذا ماتت فأذنونى) ، فخرج بجنازتها ليلاً. . . . وذكر الحديث، فإنما صلى على القبر، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان وعد ليصلى عليه ليكرمه بذلك، لإكرامه بيت الله تعالى ليحتمل المسلمون من تنزيه المساجد ما ينالون به هذه الفضيلة، وسيأتى اختلاف العلماء فى الصلاة على القبر بعد ما يدفن فى بابه، إن شاء الله تعالى.
6 - بَاب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ وَقَوْل اللَّهُ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155]
/ 11 - فيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاثٌ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ) . / 12 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : اجْعَلْ لَنَا

(3/245)


يَوْمًا، فَوَعَظَهُنَّ، وَقَالَ: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، كَانُوا حِجَابًا مِنَ النَّارِ) ، قَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: (وَاثْنَانِ) . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) . / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتوفىَ لِمُسْلِمٍ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَيَلِجَ النَّارَ، إِلا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ)) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) [مريم: 71] . قال المهلب: هذه الأحاديث تدل على أن أولاد المسلمين فى الجنة، وهو قول جمهور العلماء، وشذت المجبرة فجعلوا الأطفال فى المشيئة، وهو قول مهجور مردود بالسُّنة وإجماع الجماعة الذين لا يجوز عليهم الغلط، لأن يستحيل أن يكون الله تعالى يغفر لآبائهم بفضل رحمته، ولا يوجب الرحمة للأبناء، وهذا بَيِّنٌ لا إشكال فيه. وسيأتى الكلام فى الأطفال بعد هذا فى موضعه، إن شاء الله تعالى، وقد جاء أنه من مات له ولد واحد دخل الجنة، روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (قال الله عز وجل: ما جزاء عبدى إذا قبضت صفيه من الدنيا فيصبر ويحتسب إلا الجنة) ، ولا صفى أصفى من الولد. قال عبد الواحد: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (واثنان) بعد أن قال: (ثلاثة) يحتمل أنه لما قالت له المرأة: أو اثنان؟ نزل عليه الوحى فى الحين أن يجبيها بقوله: (واثنان) ولا يمتنع نزول الوحى على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى أسرع من طرفة العين، ويدل على ذلك ما ثبت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه لما نزلت عليه: (لا يستوى القاعدون من المؤمنين) [النساء: 95] قام إليه ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، إنى رجل ضرير البصر، فنزلت: (غير أولى الضرر) [النساء: 95] ، فألحقت بها.

(3/246)


وقوله عليه السلام: (إلا تحلة القسم) هو مخرج فى التفسير المسند، لأن القسم عند العلماء قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا) [مريم: 71] هذا قول أبى عبيد يقول: فلا يَرِدُهَا إلا بقدر ما يبرُّ اللهُ قسمهُ. قال الخطابى: وعارضنا ابن قتيبة، فقال: هذا حسن من الاستخراج إن كان هذا قسمًا، قال: وفيه وجه آخر، وهو أشبه بكلام العرب ومعانيهم، وهو إذا أرادوا تقليل مكث الشىء وتقصير مدته شبهوه بتحليل القسم، وذلك أن يقول للرجل بعده: إن شاء الله فيقولون: ما يقيم فلان عنه إلا تحلة القسم، وما ينام العليل إلا كتحليل الأليّة، مشهور فى كلامهم، قال: ومعناه أن النار لا تمسه إلا قليلاً كتحليل اليمين، ثم ينجيه الله منها. قال: ولا إشكال أن المعنى ما ذهب إليه أبو عبيد، إلا أنه أغفل بيان موضع القسم، فتوهم ابن قتيبة أنه ليس بقسم. وقد جاء ذلك فى حديث مرفوع رواه زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنى، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من حرس ليلة وراء عورة المسلمين تطوعًا لم ير النار تمسه إلا تحلة القسم) ، قال الله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيا) [مريم: 71] وفى هذا ما يقطع بصحة قول أبى عبيد. قال الخطابى: وموضع القسم مردود إلى قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) [مريم: 68] الآية، وفيه وجه آخر وهو أن العرب تحلف وتضمر المقسم به كقوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها (المعنى: وإن منكم والله إلا واردها، وقال الحسن وقتادة: (حتمًا مقضيا (قسمًا واجبًا، وهو قول ابن مسعود.

(3/247)


واختلف العلماء فى هذا الورود المذكور فى الآية، فقال جابر بن عبد الله وابن عباس: لا يبقى بَر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم. وقال آخرون: الورود الممر على الصراط. وروى ذلك عن ابن مسعود، وكعب الأحبار، ورواية عن ابن عباس. وقال آخرون: هو خطاب للكفار، روى ذلك عن ابن عباس، قال: هو رد على الآيات التى قبلها فى الكفار قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (إلى قوله: (وإن منكم إلا واردها) [مريم: 68، 71] . وقال ابن الأنبارى، وغيره: جائز أن يرجع من مخاطبته الغائب إلى لفظ المواجهة، ومن المواجهة إلى الغائب، قال تعالى: (وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا إن هذا كان لكم جزاءً) [الإنسان: 21، 22] فأبدل الكاف من الهاء، فعلى هذا صلح أن يكون خطابًا للمؤمنين، وقال مجاهد: الحُمَّى حظ المؤمن من النار. ثم قرأ: (وإن منكم إلا واردها (قال: الحُمَّى فى الدنيا الورود، فلا يَرِدُها فى الآخرة. والحجة له ما رواه أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عبد الله الأشعرى، عن أبى هريرة، قال: عاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا

(3/248)


معه مريضًا كان يتوعك، فقال: (أبشر فإن الله تعالى يقول: هى نارى أسلطها على عبدى المؤمن لتكون حظه من نار الآخرة) . وقال صاحب (العين) : بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم، والحنث: الذنب العظيم.
7 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ اصْبِرِى
/ 14 - فيه: أَنَس، قَالَ: مَرَّ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (اتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى) . قال المؤلف: إنما أمرها بالصبر لعظيم ما وعد الله عليه من جزيل الأجر. قال ابن عون: كل عمل له ثواب إلا الصبر، قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10] ، فأراد (صلى الله عليه وسلم) ألا تجتمع عليها مصيبتان مصيبة الهلاك، ومصيبة فقد الأجر الذى يبطله الجزع، فأمرها بالصبر الذى لابد للجازع من الرجوع إليه بعد سقوط أجره، وقد أحسن الحسن البصرى فى البيان عن هذا المعنى، فقال: الحمد لله الذى آجرنا على ما لابُدَّ لنا منه، وأثابنا على ما لو تكلفنا سواه صرنا إلى معصيته. فلذلك قال (صلى الله عليه وسلم) لها: (اتقى الله واصبرى) ، أى اتقى معصيته بلزوم الجزع الذى يحبط الأجر، واستشعرى الصبر على المصيبة بما وعد الله على ذلك، وقال بعض الحكماء لرجل عزاه: إن كل مصيبة لم يُذهِبْ فرحُ ثوابها بألم حزنها لهى المصيبة الدائمة، والحزن الباقى. وفى هذا الحديث دليل على جواز زيارة القبور، لأن ذلك لو كان

(3/249)


لا يجوز لما ترك (صلى الله عليه وسلم) بيان ذلك، ولأنكر على المرأة جلوسها عند القبر، وسيأتى بيان هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله.
8 - بَاب غُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ وَالسَّدْرِ
وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَلَهُ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ حَيًّا وَلا مَيِّتًا. وَقَالَ سَعدٌ: لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ) . / 15 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: (اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ، تَعْنِى إِزَارَهُ) . وترجم له: (باب يجعل الكافور فى آخره) . قال ابن المنذر: السُّنة أن يغسل الميت بالماء والسدر غسلاً، ولا معنى لطرح ورقات من السدر فى الماء كفعل العامة، لأن الغسل إنما يقع بالسدر المضروب بالماء، وأنكر أحمد الورقات التى يطرحها العامة فى الماء. جمهور العلماء على أن يغسل الميت الغسلة الأولى بالماء، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بماء فيه كافور، وروى قتادة عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل من أم عطية فيغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بماء فيه كافور، ومنهم من يذهب إلى أن الغسلات كلها بالماء والسدر على ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك بماء وسدر) ، وهو قول أحمد، ورووا فى حديث: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، غسل ثلاث غسلات كلهن بالماء والسدر) .

(3/250)


وكان إبراهيم النخعى لا يرى الكافور فى الغسلة الثالثة، وإنما الكافور عنده فى الحنوط، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، ولا معنى لقولهم، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اجعلن فى الآخرة كافورًا) وعلى هذا أكثر السلف. وقيل: إن الكافور بسبب الملائكة. وفى أمره (صلى الله عليه وسلم) باستعمال الكافور دليل على جواز استعمال المسك، وكل ما جانسه من الطيب فى الحنوط، وأجاز المسك أكثر العلماء، وأمر علىّ بن أبى طالب أن يجعل فى حنوطه، وقال: هو من أفضل حنوط النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، واستعمله أنس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكرهه عمر بن الخطاب، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وقال عطاء، والحسن: إنه ميتة. وفى استعمال النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، له فى حنوطه الحجة على من كرهه. واختلف الصحابة فى غُسل من غَسَّل ميتًا، فروى عن علىّ بن أبى طالب، وأبى هريرة أنَّ عليه الغسل. وهو قول ابن المسيب، وابن سيرين، والزهرى، وهى رواية ابن القاسم، عن مالك فى (العتبية) ، قال: وعليه أدركت الناس. ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت عميس. وقالت طائفة: لا غسل عليه. روى ذلك عن ابن مسعود، وسعد، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: القاسم، وسالم، والنخعى، والحسن البصرى، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والليث، وحكى ابن حبيب، عن مالك أنه لا غسل عليه، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتج ابن حبيب بحديث أسماء بنت عميس: (أنها غسلت أبا بكر الصديق بعد موته، فلما فرغت من غسله سألت من حضر من المهاجرين والأنصار هل عليها غسل؟ قالوا: لا) . قال ابن القصار: واختلف العلماء فى ابن آدم إذا مات، فقالت

(3/251)


طائفة: ينجس بالموت. وقالت طائفة: لا ينجس. وليس لمالك فيه نص، وقد رأيته لبعض أصحابه أنه طاهر، وهو الصواب، واختلف فيه قول الشافعى، والدليل على طهارته أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قبل عثمان بن مظعون لما مات والدموع تسيل على خديه، ولو كان نجسًا لم يجز أن يفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا، وخاصة فإن الدموع إذا سالت عليه وهو نجس لم يجز أن تلاصقها بشرة الحى، لأنها تصير نجسة رطبة. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن لا ينجس) ، وهو بعد موته مؤمن كما كان فى حياته، فثبتت طهارته كما قال ابن عباس. قال عبد الواحد: فإن قيل: فقد صح أن المؤمن لا ينجس، وأن المؤمن قد سقطت عنه العبادة بعد موته، فما وجه غسل الميت الذى ليس بنجس ولا متعبَّد، وما معنى غسله ثلاثًا؟ قيل: يحتمل أن يكون معنى غسله، والله أعلم، أنه تنظيف لمباشرة الملائكة إياه، وللقائه لله تعالى، ولذلك يجعل له الكافور ليلقاه طيب الرائحة، وأمر أن يغسل ثلاثًا، أو خمسًا، وليس التحديد فى ذلك بواجب، وإنما أريد بالغسل الإنقاء، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أو أكثر من ذلك إن رأيتن) . فإن قيل: إن واحدة تكفيه، فما معنى الثلاث والخمس؟ . قيل: للمبالغة فى غسله، ليلقى الله بأكمل الطهارات. فإن قيل: فماذا يطهر إذا لم يعلم به جنابة، ولا حيض بالمرأة، ولا بجسدها نجاسة؟ فالجواب: أنه يجوز أن يكون به جنابة لا نعلمها من احتلام وغيره، ويغشاه الموت فيموت جنبًا، أو يمس جسده فى مرضه شىء من النجاسات، ولا يعلم ذلك، فوجب أن يؤخذ له بالوثيقة ويحتاط له، ليوقن له أنه لقى الله طاهرًا، والله أعلم. وقد قال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى: إن كل ميت يجنب،

(3/252)


ولو مات وهو طاهر من ذلك كله لكان تطهيره حسنًا، إذ قد يكون به رائحةُ عرقٍ ذفرٍ من المرض، أو مهنة، لبعده عن الغسل، كما أمر الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، بالغسل يوم الجمعة لمن ليس بجنب ولا عليه نجاسة إلا زيادة فى التطهير لمناجاة ربه يوم الجمعة، فالميت أحوج إلى ذلك للقاء الله تعالى، وللقاء الملائكة.
9 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا
/ 16 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ونحن نغسل ابنته: اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ. . . .) الحديث. وَفِى حَدِيثِ حَفْصَةَ: (اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا) . قال ابن المنذر: فى حديث أم عطية دليل على أن أقل ما يغسل الميت ثلاث، وعلى أن الغاسل إذا رأى غسله أكثر من ثلاث ألا يغسله إلا وترًا، ومعنى أمره بالوتر، والله أعلم، ليستشعر المؤمن فى أعماله أن الله تعالى وحده لا شريك له كما قال (صلى الله عليه وسلم) لسعدٍ حين رآه يشير بأصبعين فى دعائه: (أحِّد أحِّد) . ولا يحفظ ذكر السبع فى حديث أم عطية إلا من رواية حفصة بنت سيرين عنها، ولم يروا ذلك محمد بن سيرين عن أم عطية إلا أنه روى هذه الألفاظ عن أخته، عن أم عطية، وروى سائر الحديث عن أم عطية. وقال مالك، والشافعى: يغسل الميت ثلاثًا أو خمسًا. وقال عطاء: أو سبعًا، وقال أحمد: لا يزاد على سبع. وقال الشافعى:

(3/253)


لا يقتصر عن ثلاث. وروى ابن وهب عن مالك أنه ليس لغسل الميت عندنا شىء موصوف، ولكنه يغسل ويطهر، وأحب إلىّ أن يغسل ثلاثًا، أو خمسًا، كما قال (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو حنيفة: إذا زاد على الثلاثة سقط الوتر. وهذا خلاف للحديث، وذهب الكوفيون، والثورى، ومالك، والمزنى أنه إذا خرج منه حدث بعد تمام غسله غسل ذلك الموضع، ولم يُعد غسله، لأنها عبادة على الحى قد أداها، وليس على الميت عبادة. وقال الشافعى: إن خرج منه شىء بعد الغسلة الثالثة أعيد غسله. وقال أحمد: يعاد غسله إذا خرج منه شىء إلى سبع غسلات، ولا يزاد عليها. والقول الأول أَوْلى، لأنه لو خرج من الحى بعد الغسل حدث لم ينتقض غسله، ولا يكون حكم الميت أكثر من حكم الحى.
- بَاب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ الْمَيِّتِ وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ
/ 17 - فيه: أُمّ عَطِيَّةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: (ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا) . واستحب العلماء أن يُبدأ بميامن الميت، ومواضع الوضوء، لفضل الميامن وفضل أعضاء الوضوء، لأن الغرر والتحجيل يكون فيها، وقال ابن سيرين: يبدأ بمواضع الوضوء ثم بميامنه. وقال أبو قلابة: يبدأ بالرأس واللحية، ثم الميامن. واختلف الفقهاء فى وضوء الميت، وفى غسله، فقال مالك: إن وضئ فحسن. وقال أبو حنيفة: لا يوضأ، لأن العبادة ساقطة عنه والتكليف، ولأن المضمضة أن يمج ذلك من فيه، والاستنشاق لمن له نفس يجذبه، والميت لا يقدر على ذلك. وقال الشافعى: يوضأ قبل غسله.

(3/254)


قال ابن القصار: والحجة لقول مالك أنه قد ثبت وجوب غسله كالجنب، فلما كان وضوء الجنب عند الغسل مستحبًا، كذلك هذا، ولما كان الحى يتوضأ فى غسله ليلقى ربه فى أعلى مراتب الطهارة، كان فى الميت الذى حصل فى أول منازل الآخرة أولى أن يلقى ربه فى أعلى مراتب الطهارة أيضًا. وقول الكوفيين: إن العبادة ساقطة عنه، وقد تعبدنا نحن بتطهيره، والمضمضة للتنظيف، ونحن نفعلها كما نغسل المواضع الغامضة منه، فإن ترك وضوؤه فلا بأس، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (وأى وضوء أعم من الغسل) .
- بَاب هَلْ تُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِى إِزَارِ الرَّجُلِ
/ 18 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: قال النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: (فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى) ، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَنَزَعَ إِزَارَهُ مِنْ حِقْوِهِ، وَقَالَ: (أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) . لا خلاف بين العلماء أنه يجوز أن تكفن المرأة فى ثوب الرجل، والرجل فى ثوب المرأة، قال ابن المنذر: أكثر العلماء يرى أن تكفن المرأة فى خمسة أثواب. وفى المجموعة قال ابن القاسم: الوتر أحب إلى مالك فى الكفن، وإن لم يوجد للمرأة إلا ثوبان لفت فيهما. وقال أشهب: لا بأس بالأكفان فى ثوب الرجل والمرأة. وقال ابن شعبان: المرأة فى عدد أثواب الأكفان أكثر من الرجل، وأقله لها خمسة. وقال أبو حنيفة وجماعة: أدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسُّنة فيها خمسة. وقال ابن المنذر: درع وخمار ولفافتان، لفافة تحت الدرع تلف بها، وأخرى فوقه، وثوب لطيف يشد على وسطها يجمع ثيابها.

(3/255)


وقوله: (أشعرنها إياه) أى اجعلنه يلى جسدها، والشعار الثوب الذى يلى الجسد عند العرب، وسيأتى تفسير الحَقْو فى باب الإشعار للميت، إن شاء الله تعالى.
- بَاب نَقْضِ شَعَرِ الْمَرْأَةِ
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ أَنْ يُنْقَضَ شَعَرُ الْمَرْأَةِ. / 19 - فيه: أُمّ عَطِيَّةَ، أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ الرَسُول ثَلاثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ، ثُمَّ غَسَلْنَهُ، ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاثَةَ قُرُونٍ. ناصيتها وقرنيها. وترجم له باب: (يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون) ، وباب: (يلقى شعر المرأة خلفها) ، وزاد فيه: (فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناه خلفها) . معنى نقض شعر المرأة، والله أعلم، لكى يبلغ الماء البشرة، ويعم الماء جميع جسدها، وتضفير شعرها بعد ذلك أحسن من استرساله وانتشاره، لأن التضفير يجمعه ويضمه. وقال الشافعى، وأحمد: يضفر رأس المرأة ثلاثة قرون: ناصيتها وقرنيها، ثم يلقى خلفها على حديث أم عطية. وهو قول ابن حبيب. وقال ابن القاسم فى العتبية: يلف شعر المرأة، وأما الضفر فلا أعرفه. وقال الكوفيون: يرسل من بين يديها من الجانبين جميعًا، ثم يسدل الخمار عليه. وقال الأوزاعى: ليس مشط رأس الميتة بواجب، ولكن يفرق شعرها وترسله مع خديها. وقول من تابع الحديث أولى، ولا حجة لمن خالفه.

(3/256)


- بَاب كَيْفَ الإشْعَارُ لِلْمَيِّتِ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ تَشُدُّ بِهَا الْفَخِذَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ. / 20 - وفيه: أُمّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ عَلَيْنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: (اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى) ، قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغْنَا، أَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: (أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) . وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلا أَدْرِى أَىُّ بَنَاتِهِ. وَزَعَمَ ابن سيرين أَنَّ الإشْعَارَ: الْفُفْنَهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلا تُؤْزَرَ. وقوله: (أشعرنها إياه) ، فإنه أراد اجعلنه على جسدها، ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأنصار شعار، والناس دثار) ، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما معنى أشعرنها إياه، أتؤزر؟ قال: لا أراه إلا: الففنها فيه. كقول ابن سيرين. قال المؤلف: فإذا لفت فيه مما يلى جسمها منه فهو شعار لها، وما فضل منه فتكرير لَفِّه عليها أستر لها من أن تؤزر فيه مطلقًا دون أن يلف عليها ما فضل منه، فلذلك فسر أن الإشعار أريد به لفها فى الإزار، وكان ابن سيرين أعلم التابعين، بغسل الموتى، هو وأيوب بعده. قال المهلب: وإنما أعطاها إزاره تبركًا بالنبى، و (الحَقْوُ) فى اللغة موضع عقد الإزار من الرَّجُل وهو الخصر، وقال صاحب العين: هو الكشح والجمع أَحْقاء، والحقو أيضًا الإزار. روى هذا كله فى الحديث، ففى هذا الحديث سمى الإزار حقوًا.

(3/257)


وفى باب: هل تكفن المرأة فى إزار الرجل، سمى الحقو موضع عقد الإزار، فقال: (فنزع من حقوه إزاره) ، فهذا شاهد لأهل اللغة، وقد استدل قوم من هذا الحديث أن غسل النساء للمرأة أولى من غسل زوجها لها، وهذا قول الشعبى، وأبى حنيفة، والثورى. وقالوا: إنما لم يجز غسلها، لأنه ليس فى عدة منها، ولو ماتت هى لم يمتنع من التزويج عقيب موتها، ولو مات هو لمنعت من التزويج حتى تخرج من عدتها. وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: يغسل الرجل امرأته إذا ماتت، واحتجوا بأن فاطمة بنت النبى (صلى الله عليه وسلم) أوصت إلى زوجها على أن يغسلها. وكان هذا بحضرة الصحابة، ولم ينكره منهم أحد، فصار إجماعًا. واعتل الكوفيون بأن لزوجها أن يتزوج أختها، فلذلك لا يغسلها، لأنه إذا غسلها وقد تزوج أختها فقد جمع بينهما، وهذا لا حجة فيه، لأنها فى حكم الزوجة بدليل الموارثة، لا فى حكم المبتوتة، ويجوز لكل واحد منهما من صاحبه من النظر والمباشرة ما لا يجوز لغيرهما. وقال ابن القصار: والجمع بين الأختين إنما حرم منه الجمع بينهما بعقد النكاح والنظر إلى كل واحدة منهما بعين الشهوة واللذة، وهذا غير موجود فى مسألتنا، وأما إذا نظر إلى إحداهما على طريق الحرمة المتقدمة، فهو جائز كمن ينظر إلى أختيه من الرضاع، وإلى أختين مملوكتين. وأما غسل المرأة زوجها فهو إجماع لا خلاف فيه. وقول المحدث: لا أدرى أى بناته. فقد روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت:

(3/258)


توفيت زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا) ، وقال بعض أهل السير: هى أم كلثوم.
- بَاب الثِّيَابِ الْبِيضِ لِلْكَفَنِ
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كُفِّنَ فِى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيها قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ. وترجم له باب: (الكفن بغير قميص) ، وباب: (الكفن بغير عمامة) . قال ابن المنذر: وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خير ثيابكم البياض، فألبسوها أحياءكم، وكفنوا بها موتاكم) ، والسحولية: البيض، والسحل: الثوب الأبيض، وقيل: إن (سحول) قرية باليمن تصنع ثياب القطن، وتنسب إليها، والكرسف: القطن، والفقهاء يستحبون فى الكفن ما فى هذا الحديث، ولا يرون فى الكفن شيئًا واجبًا لا يتعدى، وما ستر العورة أجزأ عندهم. قال مالك: ليس فى كفن الميت حدّ، ويستحب الوتر، وقال مرة: لا أحب أن يكفن فى أقل من ثلاثة أثواب. وقال ابن القصار: لا يستحب القميص فى الكفن، والسُّنَّة تركه. وبه قال الشافعى. وروى يحيى عن ابن القاسم فى العتبية أنه لا يقمص الميت، ولا يعمم، ويدرج فى ثلاثة أثواب بيض إدراجًا، كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان جابر بن عبد الله، وعطاء لا يعممان الميت. وقالت طائفة: لا بأس بالقميص، والعمامة فى الكفن. روى ذلك عن ابن عمر. وقال ابن حبيب: استحب مالك للرجل خمسة أثواب يعد فيها

(3/259)


القميص والعمامة والمئزر، ويلف فى ثوبين، وقال فى المدونة: من شأن الميت أن يعمم عندنا. وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يكفن فى قميص. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (ليس فيها قميص ولا عمامة) يدل أن القميص الذى غسل فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) نزع عنه حين كفن، لأنه إنما قيل: لا تنزعوا القميص ليستر به، ولا يكشف جسده، فلما ستر بالكفن استغنى عن القميص، ولو لم ينزع القميص حين كفن لخرج عن حد الوتر الذى أمر به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، واستحسنه فى غير ما شىء استشعارًا للتوحيد، وكانت تكون أربعة بالثوب المبلول، ويستبشع أن يكفن على قميص مبلول. فإن قيل: فقد روى يزيد بن أبى زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: (كفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ثلاثة أثواب: قميصه الذى مات فيه، وحلة نجرانية) . قيل: هذا حديث انفرد به يزيد بن أبى زياد، وهو لا يحتج به لضعفه، وحديث عائشة أصح، الذى نفت عنه القميص.
- بَاب الْكَفَنِ فِى ثَوْبَيْنِ
/ 22 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ؛ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا) . وترجم له باب: (الحنوط للميت) ، وقال فيه: (فأقصعته، أو قال: فأقعصته) ، وترجم له باب: (كيف يكفن المحرم) . قال المؤلف: قال مالك، وأبو حنيفة: لا أحب لأحد أن يكفن فى أقل من ثلاثة أثواب، وإن كفن فى ثوبين فحسنٌ على ظاهر قوله

(3/260)


عليه السلام: (كفنوه فى ثوبيه، ولا تمسوه طيبًا، ولا تخمروا رأسه) ، وإنما ترجم له باب الحنوط للميت، لأنه لما قال فى هذا الحديث: (لا تحنطوه) ، وكان محرمًا استدل البخارى من هذا أنه إذا لم يكن محرمًا أنه يحنط. واختلف العلماء كيف يكفن المحرم، فقال الشافعى، وأحمد بن حنبل: يكفن المحرم، ولا يغطى رأسه، ولا يقرب طيبًا، لأن حكم إحرامه باق. وهو قول علىّ، وابن عباس على ظاهر هذا الحديث. وقال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعى: يفعل بالمحرم ما يفعل بالحلال. وهو قول عثمان، وعائشة، وابن عمر. قال ابن القصار: والحجة لهذا القول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. . . .) ، فدل أن بموته تنقطع العبادة، وقد كفن ابن عمر ابنه، وخمر رأسه يوم مات، وهو محرم، وقال: لولا أنا حرم لطيبناه، وهذا يدل أن الحديث خاص فى ذلك الرجل بعينه. قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا) ، كما قال فى الشهداء، فإن الشهيد يبعث يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح مسكٍ، فأخبر عن حال كل من استحق الشهادة، ثم خص جعفر لما قطعت يداه، فقال: (له جناحان يطير بهما فى الجنة) ، ولم يقل ذلك فى غيره ممن قطعت يداه من الشهداء، فلذلك خَصَّ ذلك المحرم الذى وقص دون غيره. ويمكن أن يكون ذلك خصوصًا له من أجل أن الله تقبل حجه، ولا يعلم أحدٌ بعد الرسول هل تقبل الله حج غيره ممن يموت محرمًا؟

(3/261)


ولذلك غسل ابن عمر ابنه بالجحفة، وخمر رأسه ووجهه، إذ لم يعلم هل تقبل الله حجهُ؟ ويدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (كل كَلْمٍ يكلمه المسلم فى سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم فى سبيله) ، فأخبر أن ليس كل مكلوم يأتى جرحه اللون لون دم والريح ريح مسك، وإنما ذلك لمن خلصت نيته وجهاده لله، لا لجميع المكلومين. وقال ابن المنذر فى قوله: (كفنوه فى ثوبيه) دليل أن الكفن من رأس المال. وقوله: (فوقصته) تقول للعرب: وقص الشىء وقصًا كسر. ولم أجد فى اللغة (أوقصه) اللفظة التى شك فيها المحدث، والقصع: القتل، والماء يقصع العطش، أى يقتله وقصع القملة: قتلها، والقعص: القتل المعجل.
- بَاب الْكَفَنِ فِى الْقَمِيصِ الَّذِى يُكَفُّ أَوْ لا يُكَفُّ
/ 23 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ لَمَّا تُوُفِّىَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: أَعْطِنِى قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، فَقَالَ: آذِنِّى أُصَلِّى عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ عَلَيْهِ، جَذَبَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّىَ عَلَى الْمُنَافِقِين؟ َ فَقَالَ: (أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ) الحديث. / 24 - وفيه: جَابر، أَتَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. قال المؤلف: فى هذين الحديثين دليل على جواز الكفن فى القميص على ما ذهب إليه أبو حنيفة، واحتج أصحابه بقصة عبد الله

(3/262)


ابن أُبَىّ هذه. وقال أصحاب مالك: إنما دفع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إليه القميص، لأنه كانت لعبد الله بن أُبَىّ يدٌ عند النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وذلك أن يوم بدر أتى بأسارى، وكان العباس فى جملتهم، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، له قميصًا، فوجدوا قميص عبد الله بن أبى يقدر عليه، فكساه النبى إياه، قال ابن عيينة: فكافأه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن كفنه فى قميصه رجاء أن يخفف عنه من عذابه ما دام ذلك القميص عليه، ورجاء أن يكون معتقدًا لبعض ما كان يظهره من الإسلام فينفعه الله بذلك، ويدل على ذلك أن الله إنما أعلمه بأمره، ونهاه عن الصلاة عليه، وعلى غيره بعدما صلى عليه، وأما حين صلى عليه لم يعلم حقيقة أمره ولا باطنه. قال المهلب: وقوله فى الترجمة: الكفن فى القميص الذى يُكفَ أولا يُكفَ. إنما صوابه (يكفى) بإثبات الياء، ومعناه طويلاً كان ذلك القميص أو قصيرًا، فإنه يجوز الكفن فيه، وكان عبد الله بن أُبَىّ طويلاً، ولذلك كسا العباسَ قميصه، وكان العباس بائن الطول.
- بَاب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِىُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنَ الْكَفَنِ. / 25 - فيه: أن عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أُتِىَ يَوْمًا بِطَعَام، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَكَانَ خَيْرًا، مِنِّى، فَلَمْ نجد لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ،

(3/263)


أَوْ رَجُلٌ آخَرُ، خَيْرٌ مِنِّى، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا بُرْدَةٌ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِى حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِى. وترجم له باب (إذا لم يوجد إلا ثوب واحد) . ذهب جمهور العلماء إلى أن الكفن من رأس المال، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ، فقال: إنه من الثلث. يُروى ذلك عن جلاس بن عمرو، وروى فيه عن طاوس شذوذ آخر، قال: إن كان المال كثيرًا فهو من رأس المال، وإن كان يسيرًا فهو من الثلث. وهذا الحكم لا دليل عليه. قال المهلب: والحجة الواضحة للجماعة أن مصعب بن عمير، وحمزة لم يوجد لكل واحد منهما ما يكفن فيه، إلا بردة قصيرة، كفنه فيها رسول الله، ولم يلتفت إلى غريم ولا إلى وصية، ولا وارث، وبدَّاه على ذلك كله، فدل أنه من رأس المال، وقاله ابن المنذر. وفيه: جواز التكفين فى ثوب واحد عند عدم غيره كما ترجم له، والأصل فى ذلك ستر العورة، وإنما استحب لهما النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، التكفين فى تلك الثياب التى ليست بسابغة لأنهم فيها قُتلوا، وفيها يبعثون إن شاء الله. واختلفوا فى كفن المرأة ذات الزوج تموت، فقال الشعبى، وأحمد بن حنبل: كفنها من مالها. وقال مالك: كفنها على زوجها إن لم يكن لها مال. وقال ابن الماجشون: هو على الزوج، وإن كان لها مال كالنفقة. قال ابن حبيب، عن مالك مثل قول ابن الماجشون. وقال أصبغ: لا يكفنها فقيرة كانت أو مَلِيَّة.

(3/264)


وفى حديث عبد الرحمن من الفقه أن العالم ينبغى له أن يُذَكّر بسير الصالحين، وتقللهم من الدنيا لتقل رغبته فيها، ويبكى من تأخُّر لحاقه بالأخيار ويشفق من ذلك، ألا ترى أنه بكى وترك الطعام. وفيه: أنه ينبغى للمرء أيضًا أن يذكر نعم الله عنده، ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها، ويتخوف أن يُقَاصَّ بها فى الآخرة، ويذهب سعيه فيها. وقال عبد الواحد: إن قال قائل: لِمَ بكى عبد الرحمن وقد ضمن له النبى الجنة، وهو أحد العشرة؟ قيل له: كان الصحابة مشفقين خائفين من طول الحساب والوقوف له، مستصغرين لأنفسهم، راغبين فى إعلاء الدرجات، وإن كانت الجنة قد ضمنت لهم، فلذلك كانوا يبكون خوفًا من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى، ومن طول الحساب، والله أعلم.
- بَاب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلا مَا يُوَارِى به رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ
/ 26 - فيه: خَبَّاب، هَاجَرْنَا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلا بردًا، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإذْخِرِ.

(3/265)


قال ابن المنذر: وفيه دليل أن الثوب إذا ضاق فتغطية رأس الميت أولى أن يبدأ به من رجليه. وقال المهلب: إنما أمره (صلى الله عليه وسلم) بتغطية الأفضل إذا أمكن ذلك بعد ستر العورة، ولو ضاق الثوب عن تغطية رأسه وعورته لغطيت بذلك عورته، وجعل على سائره من الإذخر، لأن ستر العورة واجب فى حال الموت والحياة، والنظر إليها ومباشرتها باليد تحرم إلا من أحل الله له ذلك من الزوجين. وفى هذا الحديث ما كان عليه صدر هذه الأمة من الصدق فى وصف أحوالهم، ألا ترى إلى قوله: (فمنا من لم يأكل من أجره شيئًا) ، يعنى يكسب من الدنيا شيئًا، ولا اقتناه، وقصر نفسه عن شهواتها لينالها متوفرة فى الآخرة، و (منا من أينعت له ثمرته) ، يعنى من كسب المال، ونال من عرض الدنيا. وفى هذا الحديث أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار ودرجات الأخيار. وقوله: (يهدبها) يقال: هدبت الثمرة: جنيتها، وهدبت كل حلوبة: حلبتها بأطراف الأصابع.
- بَاب مَنِ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِى زَمَنِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ
/ 27 - فيه: سَهْل بن سعد، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِى، فَجِئْتُ لأكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلانٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا، قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِىُّ، - عليه

(3/266)


السلام -، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ قَالَ: إِنِّى وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لألْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِى. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. فيه من الفقه: جواز إعداد الشىء قبل الحاجة إليه، وقد حفر قوم من الصالحين قبورهم بأيديهم ليمثلوا حلول الموت فيهم، وأفضل ما ينظر فيه فى وقت المهل وفسحة الأجل الاستعداد للمعاد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (أفضل المؤمنين إيمانًا أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم له استعدادًا) . قال المهلب: وفيه قبول السلطان للهدية من الفقير. وفيه ترك مكافأته عليها بخلاف قول من قال إن هدية الفقير للمكافأة. وفيه أنه يسأل السلطان الفاضل والرجل العالم الشىء الذى له القيمة للتبرك به.
- بَاب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ
/ 28 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبى أمامة، وعائشة أنهم كرهوا للنساء اتباع الجنائز، وكره ذلك أبو أمامة، ومسروق، والنخعى، والحسن، ومحمد بن سيرين، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وقال الثورى: اتباع النساء الجنازة بدعة. وروى جواز اتباع النساء الجنازة عن ابن عباس، والقاسم، وسالم، وعن الزهرى، وربيعة، وأبى الزناد مثله، ورخص مالك فى ذلك، وقال: قد خرج النساء قديمًا فى الجنائز، وخرجت أسماء تقود فرس الزبير، وهى حامل، وقال: ما أرى بخروجهن بأسًا إلا

(3/267)


فى الأمر المستنكر. قال ابن المنذر: وقد احتج من كره ذلك بحديث أم عطية. قال المؤلف: واحتج به من أجاز ذلك أيضًا. وقال المهلب: هذا الحديث يدل على أن النهى من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، على درجات، فيه نهى تحريم، ونهى تنزيه، ونهى كراهية، وإنما قالت أم عطية: (ولم يعزم علينا) لأنها فهمت من النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك النهى إنما أراد به ترك ما كانت الجاهلية تقوله من الهجر وزور الكلام وقبيحه، ونسبة الأفعال إلى الدهر، فهى إذا تركت ذلك وبدلت منه الدعاء والترحم عليه كان خفيفًا، فهذا يدل أن الأوامر تحتاج إلى معرفة تلقى الصحابة لها، وينظر كيف تلقوها.
- بَاب إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا
/ 29 - فيه: أمّ عَطِيَّة، تُوُفِّيَ ابْن لها، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، دَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَتَمَسَّحَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إِلا بِزَوْجٍ. / 30 - وفيه: زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِى سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ نَعْىُ أَبِى سُفْيَانَ مِنَ الشَّأْمِ، دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ بعَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: إِنِّى كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً، لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . الإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلى والكحل، وكل ما كان من دواعى الجماع، يقال: امرأة حادّ ومحدّ. وأباح النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن تحد المرأة على غير زوجها من ذوى محارمها ثلاثة أيام، لما يغلب من لوعة الحزن، ويهجم من أليم الوجد، ولم يوجب ذلك عليها، وهذا مذهب الفقهاء، وحرم عليها من الإحداد ما فوق ذلك.

(3/268)


ومما يدل على أن الإحداد فى الثلاثة أيام على غير الزوج غير واجب إجماع العلماء على أن من مات أبوها، أو ابنها، وكانت ذات زوج، وطالبها زوجها بالجماع فى الثلاثة الأيام التى أبيح لها الإحداد فيها أنه يقضى له عليها بالجماع فيها، ونص التنزيل أن الإحداد على ذوات الأزواج أربعة أشهر وعشرًا واجب.
- بَاب زِيَارَةِ الْقُبُورِ
/ 31 - فيه: أَنَس، قَالَ: مَرَّ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (اتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى) ، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّى، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِى، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَتْ بَابَ الرسول فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى) . كره قوم زيارة القبور، لأنه روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أحاديث فى النهى عنها، وقال الشعبى: لولا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتى. قال إبراهيم النخعى: كانوا يكرهون زيارة القبور. وعن ابن سيرين مثله. ثم وردت أحاديث بنسخ النهى، وإباحة زيارتها، روى ابن أبى شيبة، عن عبد الرحيم ابن سليمان، عن يحيى بن الحارث، عن عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك، نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن زيارة القبور، ثم قال: (زوروها ولا تقولوا هُجرًا) . وروى معمر، عن عطاء الخراسانى، قال: حدثنى عبد الله بن

(3/269)


بريدة عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة) . وروى من حديث ابن مسعود عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وحديث أنس فى هذا الباب يشهد لصحة أحاديث الإباحة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إنما عرض على المرأة الباكية الصبر ورغبها فيه، ولم ينكر عليها جلوسها عنده، ولا نهاها عن زيارته، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لا يترك أحدًا يستبيح ما لا يجوز بحضرته ولا ينهاه، لأن الله تعالى فرض عليه التبليغ والبيان لأمته، فحديث أنس وشبهه ناسخ لأحاديث النهى فى ذلك، وأظن الشعبى والنخعى لم تبلغهم أحاديث الإباحة، والله أعلم. وكان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يأتى قبور الشهداء عند رأس الحول، فيقول: (السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) . وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان يفعلون ذلك. وزار النبى (صلى الله عليه وسلم) قبر أمه يوم فتح مكة فى ألف مُقَنَّعٍ. ذكره ابن أبى الدنيا، وذكر ابن أبى شيبة، عن على، وابن مسعود، وأنس بن مالك، إجازة زيارة القبور. وكانت فاطمة تزور قبر حمزة كل جمعة. وكان ابن عمر يزور قبر أبيه، فيقف عليه ويدعو له. وكانت عائشة تزور قبر أخيها عبد الرحمن وقبره بمكة. ذكر ذلك كله عبد الرزاق. وقال ابن حبيب: لا بأس بزيارة القبور والجلوس إليها، والسلام عليها عند المرور بها، وقد فعل ذلك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وفى (المجموعة) : قال على بن زياد: سئل مالك عن زيارة القبور، فقال:

(3/270)


قد كان نهى / عليه السلام، ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان، ولم يقل إلا خيرًا، لم أر بذلك بأسًا. وروى عنه أنه كان يضعف زيارتها، وقوله الذى تعضده الآثار وعمل به السلف أولى بالصواب، والأمة مجمعة على زيارة قبر الرسول، وأبى بكر، وعمر، ولا يجوز على الإجماع الخطأ، قاله المهلب. وكان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. رواه معمر، عن أيوب، عن نافع. قال المهلب: ومعنى النهى عن زيارة القبور، إنما كان فى أول الإسلام عند قربهم بعبادة الأوثان، واتخاذ القبور مساجد، والله أعلم، فلما استحكم الإسلام، وقوى فى قلوب الناس، وأمنت عبادة القبور والصلاة إليها، نسخ النهى عن زيارتها، لأنها تذكر الآخرة وتزهد فى الدنيا. وقد حدثنا أبو المطرف القنازعى، قال: حدثنا أبو محمد بن عثمان، قال أبو عبد الله الشبلى الزاهد: حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا موسى بن معاوية، عن يحيى بن يمان، عن طاوس، قال: كانوا يستحبون ألا يتفرقوا عن الميت سبعة أيام، لأنهم يفتنون ويحاسبون فى قبورهم سبعة أيام. وفى حديث أنس ما كان عليه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من التواضع والرفق بالجاهل، لأنه لم ينهر المرأة حين قالت له: إليك عنى، وعذرها بمصيبتها. وإنما لم يتخذ بوابين، لأن الله تعالى أعلمه أنه يعصمه من الناس. وفيه أنه من اعتذر إليه بعذر لائح أنه يجب عليه قبوله.

(3/271)


- بَاب قَوْلِ الرَّسُول (صلى الله عليه وسلم) : (يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ
إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] . وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: (لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الإسراء: 15] وَهُوَ كَقَوْلِهِ تعالى: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ) [فاطر: 18] وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، وَذَلِكَ لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) . / 32 - فيه: أُسَامَة، قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ، فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلامَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، ولِلَّه مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ) ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى النبى (صلى الله عليه وسلم) الصَّبِىُّ، وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ - قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ: (كَأَنَّهَا شَنٌّ) - فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) . / 33 - وفيه: أَنَس، قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَاهِ تَدْمَعَانِ، قَالَ: فَقَالَ: (هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: فَانْزِلْ، قَالَ: فَنَزَلَ فِى قَبْرِهَا. / 34 - وفيه: ابْن أَبِى مُلَيْكَةَ، قَالَ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بِمَكَّةَ، وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنِّى لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِى، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَلا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْمَيِّتَ

(3/272)


لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ، قَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِى، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ، فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ، فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ، دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِى، يَقُولُ: وَا أَخَاهُ، وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِى عَلَىَّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ) هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم: 43] . قَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا. قَالَتْ عائشة: إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى يَهُودِيَّةٍ، يَبْكِى عَلَيْهَا، فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِى قَبْرِهَا) . / 35 - وفى كتاب المغازى: قالت عائشة: إنما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه) . اختلف أهل العلم فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يعذب الميت ببكاء أهله عليه) ، فقالت طائفة: معناه أن يوصى بذلك الميت، فيعذب حينئذ بفعل نفسه لا بفعل غيره، وإليه ذهب البخارى فى قوله: إذا كان النوح من سنته، يعنى أن يوصى بذلك، وهو قول أهل الظاهر، وأنكروا قول عائشة، وأخذوا بحديث عمر، وابن عمر، والمغيرة أن الميت يعذب بما نيح. وقال آخرون: معناه أن يمدح الميت فى ذلك البكاء بما كان يمدح به أهل الجاهلية من الفتكات والغارات والقدرة على الظلم، وغير ذلك

(3/273)


من الأفعال التى هى عند الله ذنوب، فهم يبكون لفقدها ويمدحونه بها، وهو يعذب من أجلها. وقال آخرون: معناه أن الميت ليعذب ويحزن ببكاء أهله عليه، ويسوؤه إتيان ما يكره ربه، واحتجوا بحديث قَيْلَةَ حين ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنها قالت: بكيتُ ثم قلت: والله يا رسول الله، لقد ولدته حرامًا، فقاتل معك يوم الربذة، ثم ذهب يمترى لى من خيبر فأصابته حمى فمات. فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لو لم تكونى مسكينة لجررناك اليوم على وجهك، أتُغلب إحداكن على أن تصاحب صويحبةَ فى الدنيا معروفًا، حتى إذا حال بينه وبينه من هو أولى به، استرجع، فقال: رب أثبنى بما أمضيت، وأعنى على ما أبقيت، والذى نفس محمد بيده، إن إحداكن لتبكى فتستعين إليه صويحبة، فيا عباد الله، لا تعذبوا أمواتكم) . قال الطبرى: والدليل على أن بكاء الحى على الميت تعذيب من الحى له، لا تعذيب من الله ما رواه عوف عن جلاس بن عمرو، عن أبى هريرة، قال: (إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًا كرهوه، وإنهم ليستخبرون الميت إذا أتاهم: من مات بعدهم، حتى إن الرجل ليسأل عن امرأته هل تزوجت أم لا) . وروى محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى بشر، عن يوسف بن ماهك، قال: كان ابن عمر فى جنازة رافع بن خديج بين قامتى السرير، فقال: إن الميت ليعذب ببكاء الحى، فقال

(3/274)


ابن عباس: إن الميت لا يعذب ببكاء الحى. وذهبت عائشة إلى أن أحدًا لا يعذب بفعل غيره، وهو أمر مجتمع عليه، لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى () ولا تكسب كل نفس إلا عليها) [الأنعام: 164] . وكل حديث أتى فيه النهى عن البكاء فمعناه النياحة عند العلماء، لأن الله تعالى أضحك وأبكى، ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب) . وقال الرسول لعمر إذ نهى النساء عن البكاء: (دعهن يا عمر، فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب) . ونهى عن النياحة، ولعن النائحة والمُشِقَّة، وهى عن شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعوى الجاهلية. وفى حديث أسامة، وأنس فى هذا الباب جواز البكاء الخفيف بدمع العين، قال الشافعى: أرخص فى البكاء بلا ندبة، ولا نياحة، وما ذهبت إليه عائشة أشبه بدلائل الكتاب، وما زيد فى عذاب الكافر باستحقاقه لا بذنب غيره، لأنه إذا بُكى عليه بذكر فتكاته وغاراته فهو مستحق للعذاب بذلك، وأهله يَعُدُّون ذلك من فضائله وهو يعذب من أجلها، فإنما يعذب بفعله لا ببكاء أهله، هذا معنى قول عائشة: إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه، وهو موافق لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى (وتصويب الشافعى لقول عائشة، وإنكارها على ابن عمر يشبه أن يكون مذهب مالك، لدلالة ما فى موطئه عليه لأنه ذكر حديث عائشة، ولم يذكر خلافه عن أحد. وقوله: (ونفسه تقعقع) القعقعة: حكاية أصوات الرعد والجلود اليابسة وما أشبه ذلك، ورجل قعقاع وقعقعان، وهو الذى يسمع لمفاصل رجليه تقعقعًا، عن صاحب (العين) ، والشن: القربة

(3/275)


اليابسة، ومن أمثالهم: أَلِمْثِلِى يقعقع بالشأن، يريد أن مثلى لا يفزع بذلك.
- بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ
وَقَالَ عُمَرُ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِى سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ، أَوْ لَقْلَقَةٌ، وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ. / 36 - فيه: الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ، يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ) ، ورواه عمر عن الرسول. / 37 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ: جِىءَ بِأَبِى يَوْمَ أُحُدٍ، قَدْ مُثِّلَ بِهِ، حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ سُجِّىَ ثَوْبًا، فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ، فَنَهَانِى قَوْمِى، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ، فَنَهَانِى قَوْمِى، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقَالَ: (مَنْ هَذِهِ؟) فَقَالُوا: ابْنَةُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، قَالَ: (فَلِمَ تَبْكِى، أَوْ لا تَبْكِى، فَمَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ) . قال المؤلف: النوح محرم، لأنه من دين الجاهلية، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يشترط على النساء فى مبايعتهن على الإسلام ألا يَنُحْن، وهذا الباب يدل على أن النهى عن البكاء على الميت إنما هو إذا كان فيه نوح، ويدل على جواز البكاء بغير نوح قول عمر: دعهن يبكين ما لم يكن نقع أو لقلقة، فأباح لهن البكاء بغير نوح، وحديث المغيرة حجة لذلك، لشرطه (صلى الله عليه وسلم) فيه أنه يعذب بما نيح عليه، فدليله أن البكاء بغير نوح لا عذاب فيه، وحديث جابر نص فى ذلك، لأن زوجة جابر بكت عليه بحضرة الرسول، فلم يزد على أكثر من تسليتها بقوله: (إن الملائكة أظلته بأجنحتها حتى رفع) ،

(3/276)


فسلاها عن حزنها عليه بكرامة الله له، ولم يقل لها أنه يعذب ببكائك عليه. قال عبد الواحد: إن قيل: كيف أباح عمر لنسوة خالد البكاء عليه ما لم يكن نقع، أو لقلقة، ونهى صُهيبًا عن البكاء عليه فى الباب الذى قبل هذا؟ فالجواب: إنما نهى صهيبًا، لرفعه لصوته بقوله: وا أخاه، وا صاحباه، وخشى أن يكون رفعه لصوته من باب ما نهى عنه.
- بَاب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ
/ 38 - فيه: عَنْ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) . وترجم له باب (ليس منا من ضرب الخدود) ، وباب (ما ينهى عنه من الويل ودعوى الجاهلية) . قال المهلب: قوله: (ليس منا) أى ليس متأسيًا بسنتنا، ولا مقتديًا بنا، ولا ممتثلاً لطريقتنا التى نحن عليها، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من غشنا) لأن لطم الخدود وشق الجيوب من أفعال الجاهلية. وقال الحسن فى قوله تعالى: (ولا يعصينك فى معروف) [الممتحنة: 12] ، قال: لا ينحن، ولا يشققن، ولا يخمشن، ولا ينشرن شعرًا، ولا يدعون ويلاً. وقد نسخ الله ذلك بشريعة الإسلام، وأمر بالاقتصاد فى الحزن والفرح، وترك الغلو فى ذلك، وحَضَّ على الصبر عند المصائب واحتساب أجرها على الله، وتفويض الأمور كلها

(3/277)


إليه، فقال تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) [البقرة: 156] ، فحق على كل مسلم مؤمن عَلِمَ سرعة الفناء ووشك الرحيل إلى دار البقاء ألا يحزن على فائت من الدنيا، وأن يستشعر الصبر والرضا، لينال هذه الدرجات الرفيعة من ربه، وهى الصلاة والرحمة والهدى، وفى واحد من هذه المنازل سعادة الأبد، وهبنا الله الصبر والرضا بالقضاء إنه كريم وهاب.
- بَاب رِثَاءِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لسعْدَ بْنَ خَوْلَةَ
/ 39 - فيه: سَعْدِ، عادنِى النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِى. . . . الحديث إلى قوله: (اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابِى هِجْرَتَهُمْ، وَلا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (يرثى له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة) من قول سعد فى بعض الطرق، وأكثر الطرق أنه من قول الزهرى، وليس هو من قول الرسول، وسعد بن خولة زوج سبيعة الأسلمية، وإنما توجع له إذا مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها، وكان يحب له أن يموت فى مهاجره المدينة، ولذلك قال عمر: اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك، ووفاة ببلد رسولك. لأنه حرام على المهاجر الرجوع إلى وطنه الذى هجره لله، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث) . وكان عثمان وغيره لا يطوفون طواف الوداع، إلا ورواحلهم قد

(3/278)


رُحِّلَت، وذكر البخارى أن سعد بن خولة شهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وأنه من المهاجرين، خلاف قول عيسى بن دينار الذى قال: إنه أسلم ولم يهاجر، وكان من مهاجرة الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا ابن خمس وعشرين سنة، وشهد أحدًا، والخندق، والحديبية، وتوفى بمكة عند زوجته سبيعة الأسلمية فى حجة الوداع وهى حامل، ثم وضعت بعد موته بليال فتمت عدتها، ذكره مسلم عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعن يحيى بن بكير، عن الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، قال: توفى سعد بن خولة فى حجة الوداع. وقال الطبرى: مات سعد بن خولة بمكة سنة سبع فى الهدنة التى كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة عام الحديبية، فخرج سعد بن خولة مجتازًا لا لحج ولا لجهاد، لأنه لم يفرض حينئذ الحج، وأما سعد بن أبى وقاص، فإنما خرج إلى مكة حاجًا، ولو مات فيها لم يكن فى معنى سعد بن خولة الذى رثى له النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن من خرج لفرض وجب عليه وأدركه أجله فلا حرج عليه، ولا إثم، ولا يقال له: بائس، ولا يسمى تارك لدار هجرته. وروى عن الأعرج قال: خَلَّف النبى (صلى الله عليه وسلم) على سعد رجلاً، وقال: (إن مات بمكة فلا تدفنه بها) . وقوله: (اللهم امض لأصحابى هجرتهم) ، أى تردهم إلى المدينة دار الهجرة. وقوله: (ولا تردهم على أعقابهم) يقال: لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه: رجع على عقبه وحَارَ، ومنه قوله: أعوذ بك من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، أى من النقصان بعد الزيادة.

(3/279)


- بَاب مَا يُنْهَى مِنَ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
/ 40 - فيه: أَبُو مُوسَى، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ. قال المهلب: قوله: (برئ منه) أى لم يرض بفعله فهو منه برئ فى وقت ذلك الفعل، لا أنه برئ من الإسلام، وقال صاحب (الأفعال) : حلقت المرأة عند المصيبة: ولولت، والصلق: شدة الصوت، وفى الحديث: (ليس منا من صلق، أو حلق عند المصيبة) . والحالق: التى تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التى تشق ثيابها.
- بَاب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ
/ 41 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَابْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ - شَقِّ الْبَابِ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ، فَقَالَ: (انْهَهُنَّ) ، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ: (فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) ، فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْعَنَاءِ. / 42 - وفيه: أَنَس، قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ. قال الطبرى: إن قال قائل: إن أحوال الناس فى الصبر متفاوتة، فمنهم من يظهر حزنه على المصيبة فى وجهه بالتغير له، وفى عينيه، بانحدار الدموع، ولا ينطق بالسيئ من القول، ومنهم من يظهر ذلك فى وجهه، وينطق بالهُجْر المنهى عنه، ومنهم من يجمع ذلك كله،

(3/280)


ويزيد عليه إظهاره فى مطعمه وملبسه، ومنهم من يكون حاله فى حال المصيبة، وقبلها سواء، فأيهم المستحق اسم الصبر؟ . قيل: قد اختلف السلف قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم: المستحق اسم الصبر الذى يكون فى حال المصيبة مثله قبلها، ولا يظهر عليه خرم فى جارحة ولا لسان. قال غيره: كما زعمت الصوفية، أن الولىَّ لا تقم له الولاية إلا إذا تم له الرضا بالقدر ولا يحزن على شىء. والناس فى هذا الحال مختلفون، فمنهم من طبعه الجَلَد وقلة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالذى يكون فى طبعه الجزع، ويملك نفسه، ويستشعر الصبر أعظم أجرًا من الذى الجَلَد طبعه، والله أعلم. قال الطبرى: كما روى عن ابن مسعود أنه لما نعى إليه أخوه عتبة، قال: لقد كان من أعز الناس علىَّ، وما يسرنى أنه بين أظهركم الآن حيا، قالوا: وكيف وهو من أعز الناس عليك؟ قال: إنى لأؤجر فيه أحب إلىَّ من أن يؤجر فىَّ. وقال ثابت: إن صلة بن أشيم مات أخوه فجاءه رجل، وهو يطعم، فقال: يا أبا الصبهاء، إن أخاك مات. قال: هلم فكل قد نُعى إلينا إِذَنْ فَكُلْ. قال: والله ما سبقنى إليك أحدٌ ممن نعاه. قال: بقول الله: (إنك ميت وإنهم ميتون) [الزمر: 30] . وقال الشعبى: كان شريح يدفن جنائزه ليلاً يغتنم ذلك، فيأتيه الرجل حين يصبح فيسأله عن المريض، فيقول: هدأ، لله الشكر، وأرجو أن يكون مستريحًا. أخذه من قصة أم سليم. وكان ابن سيرين

(3/281)


يكون عند المصيبة كما هو قبلها، يتحدث ويضحك إلا يوم ماتت حفصة، رحمها الله، فإنه جعل يكشر، وأنت تعرف فى وجهه. وسئل ربيعة: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه. وقال آخرون: الصبر المحمود هو ترك العبد عند حدوث المكروه عليه وبثه للناس، ورضاه بقضاء ربه، وتسليمه لأمره، فأما حزن القلب، وحزن النفس، ودمع العين، فإن ذلك لا يُخرج العبد عن معانى الصابرين إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز له فعله، لأن نفوس بنى آدم مجبولة على الجزع على المصائب. قالوا: وقد مدح الله الصابرين، ووعدهم جزيل الثواب عليه، قالوا: وثواب الله عباده إنما هو على ما اكتسبوه من أعمال الخير دون ما لا صنع لهم فيه، وتغيير الأجساد عن هيئاتها، ونقلها عن طباعها التى جبلت عليه لا يقدر عليه إلا الذى أنشأها. والمحمود من الصبر هو ما أمر الله به، وليس فيما أمر به تغيير جبلة عما خلقت عليه، والذى أمر به عند نزول البلاء الرضا بقضائه، والتسليم لحكمه، وترك شكوى ربه، وكذلك فعل السلف. قال ربيعة بن كلثوم: دخلنا على الحسن، وهو يشكى ضرسه، فقال: رب مسنى الضر، وأنت أرحم الراحمين، وروى المقبرى عن أبى هريرة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدى المؤمن فلم يشتك إلى عُوَّاده أنشطته من عقال، وبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل) . وقال طلحة بن مصرف: لا تشك ضرك ولا مصيبتك.

(3/282)


قال: وأنبئت بأن يعقوب بن إسحاق، عليهما السلام، دخل عليه جاره، فقال: يا يعقوب، ما لى أراك قد تهشمت وفنيت، ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك، قال: هشمنى ما ابتلانى به من يوسف، فأوحى الله إلى يعقوب: أتشكونى إلى خلقى؟ قال: يا رب، خطيئة فاغفرها، قال: قد غفرتها لك. فكان إذا سئل بعد ذلك، قال: (إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله) [يوسف: 86] . وقد توجع الصالحون على فقد الرسول وحزنوا له أشد الحزن، قال طاوس: ما رأيت خلقًا من خلق الله أشد تعظيمًا لمحارم الله من ابن عباس، وما ذكرته قط فشئت أن أبكى إلا بكيت، ورأيت على خديه مثل الشراكين من بكائه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو عثمان: ورأيت عمر بن الخطاب لما جاءه نعى النعمان بن مقرن وضع يده على رأسه وجعل يبكى. ولما مات سعيد بن أبى الحسن بكى عليه الحسن حولا، فقيل له: يا أبا سعيد، تأمر بالصبر وتبكى؟ قال: الحمد لله الذى جعل هذه الرحمة فى قلوب المؤمنين يرحم بها بعضهم بعضًا، تدمع العين، ويحزن القلب، وليس ذلك من الجزع، إنما الجزع ما كان من اللسان واليد. وقال يحيى بن سعيد: قلت لعروة: إن ابن عمر يشدد فى البكاء على الميت، فقال: قد بكى على أبيه. وبكى أبو وائل فى جنازة خيثمة. فهؤلاء معالم الدين لم يروا إظهار الوجد على المصيبة بجوارح الجسم إذا لم يجاوزوا فيه المحذور خروجًا من معنى الصبر، ولا دخولاً فى معنى الجزع. وقد بكى (صلى الله عليه وسلم) على ابنته زينب، وعلى ابنه إبراهيم،

(3/283)


وفاضت عيناه، وقال: (هذه رحمة جعلها الله فى قلوب عباده) ، وبكى (صلى الله عليه وسلم) لقتل جلة الإسلام وفضلاء الصحابة، وتوجع لفقدهم، فإذا كان المتَّبَع به نرجو الخلاص من ربنا، وقد كان حزن بالمصيبة، وأظهر ذلك بجوارحه ودمعه، وأخبر أن ذلك رحمة جعلها الله فى قلوب عباده، فقد صح قول من وافق ذلك، وسقط ما خالفه.
- بَاب مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الحزن: الْقَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ، وَقَالَ يَعْقُوبُ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86] . / 43 - فيه: أَنَس، اشْتَكَى ابْنٌ لأبِى طَلْحَةَ، فَمَاتَ، وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا، وَنَحَّتْهُ فِى جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ: هَدَأ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ، فَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ: فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِمَا كَانَ منها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِى لَيْلَتِكُمَا) . قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ. قال المؤلف: أما من لم يظهر حزنه عند المصيبة، وترك ما أبيح له من إظهار الحزن الذى لا إسخاط فيه لله تعالى، واختار الصبر كفعل أم سليم، ومن قهر نفسه وغلبها على الصبر، ممن تقدم ذكره فى الباب قبل هذا، فهو آخذ بأدب الرب فى قوله: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) [النحل: 126] .

(3/284)


وفيه من الفقه: جواز الأخذ بالشدة، وترك الرخصة لمن قدر عليها، وأن ذلك مما ينال به العبد جزيل الثواب ورفيع الأجر. قال المهلب: فى قول أم سليم: (هدأ نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح) التسلية عن المصائب بالتعريض من الكلام الذى يحتمل معنيين، فإنها أخبرت بكلام لم تكذب فيه، ولكن ورت به عن المعنى الذى كان يحزنها، ألا ترى أن نفسه قد هدأ كما قالت بالموت وانقطاع النفس، وأوهمته أنه استراح قلقُه، وإنما استراح من نصب الدنيا وهمها. وفيه: أن المرأة تتزين لزوجها تعرضًا للجماع، لقوله: (ثم هيأت شيئًا) إنما أراد هيأت شيئًا من حالها، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لعله أن يبارك لهما) ، فأجاب الله تعالى قوله. وفيه: أنه من ترك شيئًا لله تعالى وآثر ما ندب إليه وحض عليه من جميل الصبر أنه معوض خيرًا فيما فاته، ألا ترى قوله: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن. قال الشيخ أبو الحسن بن القابسى: إنما حملت أم سليم حين مات الغلام بعبد الله بن أبى طلحة، والتسعة الذين قرءوا القرآن هم أولاد عبد الله هذا، وروى معمر عن ثابت، عن أنس، أنه لما جامعها قالت له: أرأيت لو أن رجلاً أعارك عارية، ثم بدا له فأخذها، أكنت تجزع؟ قال: لا، قالت: إن الله أعارك ابنك وقد أخذه، فالله أحق أن ترضى بفعله وتُسلم إليه، فغدا إلى الرسول فأخبره بقولها، فقال: (اللهم بارك لهما فى ليلتهما) ، فولدت غلامًا كان اسمه عبد الله، وكان من خير أهل زمانه.

(3/285)


ولقد أخذت أم سليم فى الصبر إلى أبعد غاية، على أن النساء أرق أفئدة، لأننا نقول: ما فى النساء ولا فى الجلة من الرجال مثل أم سليم، لأنها كانت تسبق الكثير من الشجعان إلى الجهاد، وتحتسب فى مداواة الجرحى، وثبتت يوم حنين فى ميدان الحرب والأقدام قد زلت، والصفوف قد انقضت، والمنايا قد فغرت، فالتفت إليها الرسول وفى يدها خنجر، فقالت: يا رسول الله، اُقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك، فلبسوا بشرٍ منهم.
30 - بَاب الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى
وَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْعِدْلانِ، وَنِعْمَت الْعِلاوَةُ: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156] الآية، وقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45] . / 44 - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى) . إن قيل: قد علمت أن العبد منهى عن الهُجر وتسخط قضاء الرب فى كل حال، فما وجه خصوص نزول الأولى بالصبر فى حال حدوثها؟ . قيل: وجه خصوص ذلك أن للنفس عند هجوم الحادثة محرك على الجزع، ليس فى غيرها مثله، وتلك حال يضعف عن ضبط النفس فيها كثير من الناس، ثم يصبر كل جازع بعد ذلك إلى السكون ونسيان المصيبة، والأخذ بقهر الصابر نفسه، وغلبته هواها عند صدمته إيثارًا لأمر الله على هوى نفسه، ومنجزًا لموعوده، بل السالى عن مُصابه لا يستحق اسم الصبر على الحقيقة، لأنه آثر السلو على الجزع واختاره.

(3/286)


وإنما الصابر على الحقيقة من صبر نفسه، وحبسها عن شهوتها، وقهرها عن الحزن والجزع والبكاء الذى فيه راحة النفس، وإطفاء لنار الحزن، فإذا قابل سورة الحزن وهجومه بالصبر الجميل، واسترجع عند ذلك، وأشعر نفسه أنه لله ملك، لا خروج له عن قضائه، وإليه راجع بعد الموت ويلقى حزنه بذلك، انقمعت نفسه، وذلك على الحق، فاستحقت جزيل الأجر. قال المهلب: (نعم العدلان، ونعمت العلاوة) فقيل: العدلان: الصلوات والرحمة، والعلاوة: (وأولئك هم المهتدون) [البقرة: 157] ، وقيل: (إنا لله وإنا إليه راجعون) [البقرة: 156] والعلاوة: التى يثاب عليها.
31 - بَاب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ الرسول: (تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ) . / 45 - فيه: أَنَس، دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لإبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ) ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) . قال المؤلف: قد تقدم فى الأبواب قبل هذا بيان البكاء والحزن المباحين والمحرمين بما فيه كفاية، لكنا كرهنا أن نخلى هذا الباب من شىء من الكلام فى هذا المعنى، هذا البكاء تفسير البكاء المباح والحزن الجائز، وذلك ما كان بدمع العين ورقة النفس، ولم يكن تسخطًا

(3/287)


لأمر الله، إذ الفطر مجبولة على الحزن، وقد قال الحسن البصرى: العين لا يملكها أحد، صبابة المرء بأخيه. وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان فى جنازة مع عمر فرأى امرأة تبكى فصاح عليها عمر، فقال النبى: (دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب) . فعذرها (صلى الله عليه وسلم) مع قرب العهد، لأن بعده ربما يكون [. . . . . .] للثكل، وفتور فورة الحزن، فإذا كان الحزن على الميت وفاء له ورقة عليه، ولم يكن سخطًا للقضاء ولا تشكيًا به، فهو مباح كما تقدم قبل هذا، لقوله: (إنها رحمة) . وقال أبو الحسن بن القابسى: قول أنس فى أبى سيف القين: (وكان ظئرًا لإبراهيم) هو الذى يحتج فى أن اللبن للفحل، وقيل: (كان ظئرًا) أى رضيعه وليس بشىء، لأن أبا سيف كان كالربيب، لأن فى نص الحديث ما يدل أن إبراهيم كان عند زوج أبى سيف وهو مريض. فيه: شدة إغراق النساء فى الحزن وجاوزهن الواجب فيه، لنقصهن، ومن رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وقد روى معمر عن الزهرى، قال: ثلاثة من أمر الجاهلية لا يدعها الناس أبدًا: الطعن فى الأحساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء. وروى عن الحسن البصرى فى قوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم: 21] أن المودة: الجماع، والرحمة: الولد، ذكره ابن وهب.

(3/288)


32 - بَاب الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ
/ 46 - فيه: ابْن عُمَر، اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَأَتَاهُ الرسول يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، وَعَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَوَجَدَهُ فِى غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ: (قَدْ قَضَى) ؟ قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَكَوْا، فَقَالَ: (أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) . وَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا، وَيَرْمِى بِالْحِجَارَةِ، وَيَحْثِى التُّرَابِ. قال المهلب: فيه جواز البكاء عند المريض، وليس ذلك من الجفاء عليه والتقريع له، وإنما هو إشفاق عليه، ورقة وحرقة لحاله، وقد بين فى هذا الحديث أنه لا يعذب بدمع العين، وحزن القلب، وإنما يعذب بالقول السيئ ودعوى الجاهلية، وقوله: (أو يرحم) يحتمل معنيين: أحدهما: أو يرحم إن لم ينفذ الوعيد فى ذلك، والثانى: يريد أو يرحمه إذا قال خيرًا، واستسلم لقضاء الله تعالى.
33 - بَاب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ النَّوْحِ وَالْبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ
/ 47 - فيه: عَائِشَة، قَتْلُ جَعْفَرٍ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. . .) الحديث إلى قوله: (فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) ، فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْعَنَاءِ. / 48 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّة، قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عِنْدَ الْبَيْعَةِ: أَنْ لا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ. . . .) الحديث. قال المؤلف: قد تقدم معنى هذا الباب، وأن النوح والبكاء على

(3/289)


سنة الجاهلية حرام قد نسخه الإسلام، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يشترط على النساء فى بيعة الإسلام ألا ينحن تأكيدًا للنهى عنه، وتحذيرًا منه. وفيه: أنه من نُهى عما لا ينبغى له فعله ولم ينته، أنه يجب أن يؤدب على ذلك ويزجر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) للرجل: (فاحث فى أفواههن التراب) ، حين انصرف إليه المرة الثالثة، وقال: إنهن غلبننا، وهذا يدل أن بكاء نساء جعفر، وزيد الذى نهين عنه لم يكن من النوح المحرم، لأنه لو كان من النوح المحرم لزجرهن حتى ينتهين عنه، لأن الله فرض عليه التبليغ والبيان، ولا يؤمن على النساء عند بكائهن الهائج لهن أن يضعف غيرهن، فيصلن به نوحًا محرمًا، فلذلك نهاهن (صلى الله عليه وسلم) قطعًا للذريعة. وفيه من الفقه: أن للعالم أن ينهى عن المباح إذا اتصل به فعل محذور، أو خيف مواقعته، لأن الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وهذا الحديث يدل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث (الموطأ) ، حين دخل الرسول على عبد الله بن الربيع يعوده، فصاح به فلم يجبه، فاسترجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقال: (غلبنا عليك أبا الربيع) ، فصاح النسوة وبكين، فجعل جابر يسكتهن، فقال رسول الله: (دعهن، فإذا وجبت فلا تبكين باكية) ، والوجوب: الموت. فدل أن هذا الحديث على الندب لا على الإيجاب، لأنه لو كان ترك البكاء عليه فرضًا بعد موته لما جاز لنساء جعفر أن يبكين بعد موته، ولوجب أن يقتصرن على السكوت، فلما اعترضت عائشة لرسول الله حين قالت له: والله ما أنت بفاعل. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لكن حمزة لا بواكى له) ، فدل على جواز البكاء على الميت بعد موته.

(3/290)


وقول أم عطية: (أخذ علينا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ألا ننوح) يبين أن النوح بدعوى الجاهلية محرم، لأنه لم يقع فى البيعة شىء غير فرض، وقولها: (فما وفت منا امرأة غير خمس) ، يصدق قول النبى فى النساء: (إنهن ناقصات العقل والدين، وإنهن خلقن من ضلع أعوج) ، ومن كان بهذه الصفة يعسر رجوعه إلى الحق وانقياده إليه. وروى معمر، عن الزهرى، قال: ثلاثة من أمر الجاهلية لا يدعها الناس أبدًا: الطعن فى الأحساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء.
34 - بَاب الْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ
/ 49 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ) . قال المهلب: مضى القيام للجنازة، والله أعلم، على التعظيم لأمر الموت، والإجلال لأمر الله، لأن الموت فزع، فيجب استقباله بالقيام له والجدّ، وقد روى هذا المعنى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وروى محمد بن كثير، عن الأوزاعى، عن يحيى، عن أبى سلمة، عن أبى سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله: (الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا) ، ذكره ابن أبى الدنيا، ورواه ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وأخذ بظاهر حديث عامر بن ربيعة جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء، وسأذكرهم فى الباب بعد هذا، إن شاء الله.

(3/291)


ورأت طائفة ألا يقوم للجنازة إذا مرت به، وقالوا: لمن تبعها أن يجلس، وإن لم توضع، واحتجوا بحديث علىّ بن أبى طالب: (أن رسول الله كان يقوم فى الجنازة، ثم قعد بعد ذلك) ، فدل هذا أن القيام منسوخ بالجلوس، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعى، وأما حديث علىّ فرواه مالك، عن يحيى بن سعيد، عن واقد بن عمرو، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم، عن علىّ ابن أبى طالب، قال: (قام رسول الله فى الجنائز ثم قعد) . رواه شعبة عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، عن علىّ بن أبى طالب، قال: (رأينا رسول الله قام فقمنا، ورأيناه قعد فقعدنا) ، فثبت نسخ الأخبار الأول بالقيام للجنازة. قال الطحاوى: وحدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا أنس بن عياض، عن أنيس ابن أبى يحيى، قال: سمعت أبى يقول: كان ابن عُمر وأصحاب النبى يجلسون قبل أن توضع الجنازة. فهذا ابن عمر يفعل هذا، وقد روى عن عامر بن ربيعة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خلاف ذلك، فدل ذلك على ثبوت نسخ ما حَدَّث بِهِ عامر بن ربيعة. وحدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه: أن القاسم كان يجلس قبل أن توضع الجنازة، ولا يقوم لها، ويخبر عن عائشة أنها قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها ويقولون: فى أهلك ما أنت فى أهلك. فهذه عائشة تنكر القيام أصلاً، وتخبر أن ذلك كان من فعل الجاهلية،

(3/292)


وستأتى زيادة فى هذا المعنى بعد هذا، إن شاء الله تعالى، فى باب من قام لجنازة يهودى.
35 - بَاب مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ
/ 50 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جِنَازَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا، فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا، أَوْ تُخَلِّفَهُ، أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ) . / 51 - وفيه: أبو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ) . قال المؤلف: أخذ بظاهر هذا الحديث طائفة وكانوا يقومون للجنازة إذا مرت بهم، روى ذلك عن أبى مسعود البدرى، وأبى سعيد الخدرى، وقيس بن سعد، وسهل بن حنيف، وسالم بن عبد الله، وقال أحمد وإسحاق: إن قام فلم أعبه، وإن قعد فلا بأس، ذكره ابن المنذر، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن هذا منسوخ، فإن أئمة الفتوى على ترك القيام. قوله: (فإن لم يكن ماشيًا معها) دليل على أن الجنازة من فروض الكفاية. قال ابن المنذر: وممن رأى ألا يجلس من تبع الجنازة حتى توضع عن مناكب الرجال: أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، والحسن بن على، والنخعى، والشعبى، والأوزاعى.

(3/293)


36 - بَاب مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلا يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ
/ 52 - فيه: أَبُو سَعِيد، كُنَّا فِى جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أَبُو سَعِيد، فَأَخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: قُمْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ. قال ابن المنذر: وممن رأى ألا يجلس ممن تبع الجنازة حتى توضع: الحسن بن علىّ، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، والنخعى، والشعبى، وبه قال الأوزاعى. قال المؤلف: وأما أمر أبى سعيد لمروان بالقيام، فلا أعلم من قال به، وممن روى عنه القيام للجنازة إذا مرت بهم ممن ذكرناهم فى الباب قبل هذا لم يحفظ عن أحد منهم مثل قول أبى سعيد. قال المهلب: وقعود أبى هريرة ومروان دليل على أنهما علما أن القيام ليس بواجب، وأنه أمر متروك ليس عليه العمل، لأنه لا يجوز أن يكون العمل على القيام عندهم ويجلسان، ولو كان أمرًا معمولاً به ما خفى على مروان مثله، لتكرُّر مثل هذا الأمر وكثرة شهودهم للجنائز، والعمل فى هذا على ما روى ابن وهب، عن ابن عمر، وأصحاب محمد، أنهم كانوا يجلسون قبل أن توضع الجنائز.
37 - بَاب مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِىٍّ
/ 53 - فيه: جَابِر، قَالَ: مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَقُمْنَا بِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِىٍّ، قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا) .

(3/294)


/ 54 - وفيه: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، إِنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ، فَقَامَ، فَقِيلَ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِىٍّ، فَقَالَ: (أَلَيْسَتْ نَفْسًا) . وكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَقَيْسٌ يَقُومَان. قال الطحاوى: قد ثبت نسخ هذه الآثار، ومما يبين ذلك ما حدثنا محمد بن بكر، حدثنا أحمد بن داود، ثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الليث بن أبى سليم، عن مجاهد، عن ابن سخبرة، قال: كنا قعودًا مع على بن أبى طالب ننتظر جنازة، فمرت أخرى فقمنا، فقال علىّ: ما هذا القيام؟ فقال أبو موسى: قال رسول الله: (إذا رأيتم جنازة مسلم، أو يهودى، أو نصرانى فقوموا، فإنكم لستم تقومون لها، إنما تقومون لمن معها من الملائكة) . فقال علىّ: إنما صنع ذلك رسول الله مرة واحدة، وكان يتشبه بأهل الكتاب فى الشىء، فإذا نُهى عنه تركه. فأخر على فى هذا الحديث أن رسول الله إنما كان يقوم على التشبيه بأهل الكتاب، وعلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء، حتى أُمر بالقعود. وحدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهانى، حدثنا شريك، عن عثمان بن أبى زرعة، عن زيد بن وهب، قال: تذاكرنا القيام إلى الجنازة عند علىٍّ، فقال أبو سعيد: قد كنا نقوم، فقال على: ذلك وأنتم يهود. فمعنى هذا أنهم كانوا يقومون على

(3/295)


شريعتهم، ثم نسخ ذلك بشريعة الإسلام. وقد روى أن قيامه (صلى الله عليه وسلم) كان لمعنى آخر. أخبرنا إبراهيم بن مرزوق، أخبرنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: سمعت محمد بن عمرو يحدث عن الحسن، وابن عباس، أو عن أحدهما، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مرت به جنازة يهودى، فقام، فقال: (آذانى نتن ريحها) . وذكر الطبرى عن الحسن بن على، أن رسول الله إنما قام لجنازة يهودى حين طلعت عليه، كراهية أن تعلو على رأسه.
38 - بَاب حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ
/ 55 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ، وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُونِى، قَدِّمُونىِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَىْءٍ إِلا الإنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ لصَعِقَ) . وترجم له باب: (قول الميت وهو على الجنازة قدمونى) . قال المؤلف: الترجمة تخرج من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (واحتملها الرجال) دليل أن النساء لا يحملنها، لأنهن لا يلزمهن ما يلزم الرجال من المؤن، والقيام بالحقوق، ونصرة الملهوف، وإعانة الضعيف، وقد سقط عنهن كثير من الأحكام، عذرهن الله بضعفهن، فقال: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) [النساء: 98] الآية، وقول بعض الناس فى قوله: (يسمعها كل شىء إلا الإنسان) إن قيل: ينبغى أن يسمعها الحيوان الصامت بدليل هذا الحديث، لأنه إنما

(3/296)


استثنى الإنسان فقط. قيل: هذا مما لفظه العموم، والمراد به الخصوص، وإنما معناه: يسمعها كل شىء مميز، وهم الملائكة والجن، وإنما يتكلم روح الجنازة، لأن الجنازة لا تتكلم بعد خروج الروح منها إلا أن يرده الله فيها، فإنما يسمع الروح من هو مثله ويجانسه، وهم الملائكة والجن، والله أعلم، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) المعنى الذى من أجله منع الإنسان أن يسمعها، وهو أنه كان يصعق لو سمعها، فأراد تعالى الإبقاء على عباده، والرفق بهم فى الدنيا، لتعمر ويقع فيها البلوى والاختبار.
39 - بَاب السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ: أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ، فَامْشِوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَرِيبًا مِنْهَا. / 56 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُن صَالِحَةً، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إليه، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) . قال الطحاوى: وقد روى شعبة، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة، أنهم كانوا معه فى جنازة فمشوا بها مشيًا لينًا، فانتهرهم أبو هريرة، وقال: كنا نرمل بها مع رسول الله. فأخذ قوم بهذا، وقالوا: السرعة بالجنازة أفضل. وخالفهم آخرون، وقالوا: المشى بها مشيًا لينًا أفضل. واحتجوا بما رواه شعبة، عن ليث ابن أبى سليم، قال: سمعت أبا بردة يحدث عن أبيه: أن النبى، - عليه

(3/297)


السلام -، مر عليه بجنازة وهم يسرعون بها، فقال: (لتكن عليكم السكينة) . وذكر ابن المنذر أنه مذهب ابن عباس. قال الطحاوى: فلم يكن عندنا فى هذا الحديث حجة على أهل المقالة الأولى، لأنه قد يجوز أن يكون فى مشيهم ذلك عنف مجاوز ما أمروا به فى حديث أبى هريرة من السرعة، فنظرنا فى ذلك هل نجد دليلاً على شىء من ذلك، فروى زائدة، عن ليث، عن أبى بردة، عن أبيه، قال: مر على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بجنازة يسرعون بها فى المشى، وهى تمخض مخض الزق، فقال: (عليكم بالقصد فى جنائزكم) . فيحتمل أن يكون أمرهم بالقصد، لأن تلك السرعة يخاف منها أن يكون من الميت فيها شىء، فنهاهم عن ذلك، وكان ما أمرهم به من السرعة فى الآثار الأول هى أفضل من هذه السرعة، فنظرنا فى ذلك أيضًا هل روى فيها شىء يدلنا على هذا المعنى، فحدثنا أبو أمية، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: حدثنا الحسن بن صالح، عن يحيى الجابر، عن أبى ماجد، عن ابن مسعود، قال: سألنا نبينا، (صلى الله عليه وسلم) ، عن السير بالجنازة، فقال: (ما دون الخبب، فإن يك مؤمنًا فما عجل فخير، وإن يك كافرًا فبعدًا لأهل النار) . فأخبر رسول الله فى هذا الحديث أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب، مثل ما أمر به من السرعة فى حديث أبى هريرة، هذا قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد. وهو قول جمهور العلماء. وروى عن النخعى أنه قال: انبسطوا بها، ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى.

(3/298)


وقال ابن حبيب: لا تمش بالجنازة الهوينا، ولكن مشى الرجل الشاب فى حاجته، وكذلك قال الشافعى: يسرع بها إسراع سجية مشى الناس. قال غيره: وقد تأول قوم فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أسرعوا بالجنازة) إنما أراد تعجيل الدفن بعد استيقان الموت، واحتجوا بحديث الحصين بن وَحْوَح: (أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه الرسول يعوده، فقال: (إنى لا أرى طلحة إلا وقد حدث به الموت، فآذنونى به وعجلوا، فإنه لا ينبغى لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهرانى أهله) . وكل ما احتمل فليس يبعد فى التأويل. وأما قول أنس: (أنتم مشيعون، فامشوا بين يديها وخلفها) اختلف فى ذلك على ثلاثة مذاهب، فقالت طائفة: يمشى أمامها وخلفها وحيث شاء. هذا قول أنس بن مالك، ومعاوية بن قرة، وسعيد بن جبير، وبه قال الثورى، قال: الفضل فى المشى أمامها وخلفها سواء. وقالت طائفة: المشى أمام الجنازة أفضل. روى ذلك عن ابن عمر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وعن أبى بكر، وعمر، وعثمان أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة، وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وطلحة، والزبير، وأبى قتادة، وأبى هريرة، وإليه ذهب القاسم، وسالم، والفقهاء السبعة المدنيون، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأحمد، وقال الزهرى: المشى خلف الجنازة من خطأ السنة. واحتج أحمد بتقديم عمر بن الخطاب الناس أمام جنازة زينب بنت جحش، وبحديث ابن عمر، وبعمل الخلفاء الراشدين المهديين. وقال ابن شهاب: ذلك عمل الخلفاء بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى هلم جرا.

(3/299)


وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعى: المشى خلفها أفضل. وهو قول على بن أبى طالب، واحتجوا بما رواه أبو الأحوص، عن أبى فروة الهمدانى، عن زائدة بن خراش، عن ابن أبزى، عن أبيه، قال: كنت أمشى فى جنازة فيها أبو بكر، وعمر، وعلى، رضى الله عنهم، فكان أبو بكر، وعمر يمشيان أمامها، وكان على يمشى خلفها، فقال على: إن فضل الذى يمشى خلف الجنازة على الذى يمشى أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وإنهما ليعلمان من ذلك مثل الذى أعلم، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس. قالوا: ومثل هذا لا يقال بالرأى، وإنما يقال بما وقفهم عليه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قالوا: وقد روى عن ابن عمر مثل هذا، روى أبو اليمان، حدثنا أبو بكر بن أبى مريم، عن راشد بن سعد، عن نافع، قال: خرج عبد الله بن عمر إلى جنازة فرأى معها نساء، فوقف، ثم قال: ردهن فإنهن فتنة الحى والميت، ثم مضى فمشى خلفها، قلت: يا أبا عبد الرحمن، كيف المشى فى الجنازة، أمامها أم خلفها؟ فقال: أما ترانى أمشى خلفها. فهذا ابن عمر يفعل هذا، وهو الذى يروى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يمشى أمامها، فدل ذلك أن رسول الله كان يفعله على جهة التخفيف على الناس، لا لأن ذلك أفضل من غيره. وقد روى مغيرة، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون السير أمام الجنازة، وتأولوا فى تقديم عمر بن الخطاب للناس فى جنازة زينب زوج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمام الجنازة أن ذلك كان من أجل النساء اللاتى كُنَّ خلفها، فكره عمر للرجال مخالطتهن، لا لأن المشى أمامها أفضل.

(3/300)


وقد روى يونس، عن ابن وهب أنه سمع من يقول ذلك، قال إبراهيم: كان الأسود إذا كان فى الجنازة نساء مشى أمامها، وإذا لم يكن معها نساء مشى خلفها. قال ابن المنذر: ومن تبع الجنازة حيثما مشى منها فليكثر ذكر الموت، والفكر فى صاحبهم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه، وليستعد للموت وما بعده، سهل الله لنا الاستعداد للقائه برحمته. وسمع أبو قلابة صوت قاصّ، فقال: كانوا يعظمون الموت بالسكينة. وآلَى ابنُ مسعود ألا يكلم رجلا رآه يضحك فى جنازة. وقال مطرف بن عبد الله: كان الرجل يلقى الخاص من إخوانه فى الجنازة له عهد عنده، فما يزيده على التسليم، ثم يُعرض عنه كأن له عليه موجدة، اشتغالاً بما هو فيه، فإذا خرج من الجنازة سَائَلَهُ عن حاله. وفى سماع أشهب: قال أسيد بن الحضير: لو كنتُ فى حالتى كلها مثلى فى ثلاث: إذا ذكرت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإذا قرأت سورة البقرة، وما شهدت جنازة قط فحدثتُ نفسى إلا بما يقولُ ويقالُ له إذا انصرف.
40 - بَاب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلاثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الإمَامِ
/ 57 - فيه: جَابِر، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلَّى عَلَى النَّجَاشِىِّ، فَكُنْتُ فِى الصَّفِّ الثَّانِى أَوِ الثَّالِثِ. الصفوف على الجنازة من سُنَّة الصلاة عليها، وقد روى مالك بن هبيرة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من مسلم يصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب) .

(3/301)


قال الطبرى: فينبغى لأهل الميت إذا لم يُخش عليه التغير أن ينتظروا اجتماع قومٍ تقوم منهم ثلاث صفوف لخبر مالك بن هبيرة. وقد روى الطبرى من حديث أبى هريرة، وعائشة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من مسلم صلى عليه مائة من المسلمين إلا شفعوا فيه) . وحديث ابن عباس، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من رجل يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله) . فإن قال قائل: ما وجه اختلاف العدد فى هذه الأحاديث الواردة فيمن يصلى على الميت فيغفر له بصلاتهم؟ . قيل: وجه ذلك، والله أعلم، أنها وردت جوابًا لسؤال سائلين مختلفين، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن ينطق عن الهوى، فكأن سائلا سأله من صلى عليه مائة رجل هل يشفعون فيه؟ قال: نعم، وسأله آخر: من صلى عليه أربعون رجلاً؟ فقال مثل ذلك. ولعله لو سُئل عن أقل من أربعين لقال مثل ذلك. وقد بيَّنا فى حديث مالك بن هبيرة ما يدل على أقل من أربعين، لأنه قد يمكن أن تكون الثلاث صفوف أقل من أربعين، كما يمكن أن تكون أكثر، وإنما عَيَّن المائة والأربعين فى الأحاديث المتقدمة وهو من حيز الكثرة، لأن الشفاعة كلما كثر المشفعون فيها كان أَوْكَدَ لها، ولا تخلو جماعة من المسلمين لهم هذا المقدار أن يكون فيها فاضل لا ترد شفاعته، أو يكون اجتماع هذا العدد بالضراعة إلى الله شفيعًا عنده.
41 - بَاب الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ
/ 58 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَعَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِىَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا.

(3/302)


/ 59 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَصَفَّهُمْ، فَكَبّروا أَرْبَعًا. / 60 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ تُوُفِّىَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ، فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ) ، [قَالَ:] فَصَفَفْنَا، فَصَلَّى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَيْهِ وَنَحْنُ مَعَهُ صُفُوفٌ. قال المؤلف: يحتمل أن يترجم البخارى، رحمه الله، هذا الباب والذى قبله خلافًا لعطاء، فإن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أفحق على الناس أن يسوُّوا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها فى الصلاة؟ قال: لا، لأنهم قوم يكبرون ويستغفرون. وروى حميد، عن أنس، قال: لما جاءت وفاة النجاشى للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصلى عليه، قال بعض أصحابه: صَلى عَلَى علج، فنزلت: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم) [آل عمران: 199] الآية.
42 - بَاب صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ على الْجَنَازَة
/ 61 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلا، فَقَالَ: (مَتَى دُفِنَ هَذَا؟) قَالُوا: الْبَارِحَةَ، قَالَ: (أَفَلا آذَنْتُمُونِى) ؟ قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ، فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ. قال المؤلف: فيه صلاة الصبيان مع الرجال على الجنائز، لأن ابن عباس كان حينئذ صغيرًا. وفيه من الفقه: أنه ينبغى تدريب الصبيان على جميع شرائع الإسلام، وحضورهم مع الجماعات ليستأنسوا إليها، وتكون لهم عادة إذا لزمتهم، وإذا ندبوا إلى صلاة الجنازة، ليدربوا

(3/303)


عليها، وهى من فروض الكفاية على البالغين، فأحرى أن يندبوا إلى صلاة الفريضة، التى هى فرض عين على كل بالغ، وقد روى عن الرسول أنه قال: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشرة، وقد تقدم ذلك فى كتاب الصلاة.
43 - بَاب سُنَّةِ الصَّلاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ
وَقَالَ الرسول: (مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ) ، وَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) ، وَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِىِّ) ، سَمَّاهَا صَلاةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلا سُجُودٌ، وَلا يُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يُصَلِّى إِلا طَاهِرًا، وَلا يُصَلِّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلا غُرُوبِهَا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ، وَأَحَقُّهُمْ بِالصَّلاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُ لِفَرَائِضِهِمْ، وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجَنَازَةِ، يَطْلُبُ الْمَاءَ وَلا يَتَيَمَّمُ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجَنَازَةِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهمْ بِتَكْبِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَرْبَعًا. وَقَالَ أَنَسٌ: التَّكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاةِ. وَقَالَ تَعالَى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) [التوبة: 84] ، وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ. / 62 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّنَا، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ.

(3/304)


قال المؤلف: غرض البخارى الرد على الشعبى، فإنه أجاز الصلاة على الجنازة بغير طهارة، قال: لأنها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود، والفقهاء مجمعون من السلف والخلف على خلاف قوله، فلا يلتفت إلى شذوذه. وأجمعوا أنها لا تصلى إلا إلى القبلة، ولو كانت دعاء كما زعم الشعبى لجازت إلى غير القبلة، واحتجاج البخارى فى هذا الباب يكفى بعضه، وهو أن النبى سماها صلاة، وقول السلف الذين ذكرهم فى الباب أن حكمها عندهم حكم الصلاة فى أن لا تصلى إلا بطهارة، وفيها تكبير وسلام، ولا تصلى عند طلوع الشمس ولا غروبها، وأن الرسول أَمَّهم فيها وصلوا خلفه، كما فعل فى الصلاة، إلا أنهم اختلفوا فى صلاتها إذا خشى فوتها بالتيمم، فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور: ولا تصلى إلا بطهارة، ولا يجوز التيمم لها، وأجاز التيمم لها إذا خاف فوتها: عطاء، وسالم، والنخعى، والزهرى، وربيعة، والليث، والثورى، وأبو حنيفة، والأوزاعى، وابن وهب صاحب مالك. وقال ابن حبيب: الأمر فى ذلك واسع. واحتج هؤلاء بأن صلاة الجنازة لها مزية على سائر النوافل، لأنه قد اختلف فيها، فقيل: إنها فريضة على الكفاية، وقيل: إنها سُنَّة مؤكدة، فإذا خيف عليها الفوت جاز استدراك فضيلتها بالتيمم. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: أجمع أهل العلم على أن من خاف فوت الجمعة، أنه لا يجوز له التيمم مثل أن يدرك الإمام فى الركعة الثانية، فإن تيمم أدركها مع الإمام، وإن توضأ فاتته، فكلهم قال: لا يتيمم وإن فاتته الجمعة فالذى يخاف فوت الجنازة

(3/305)


أولى بذلك، لأنها صلاة تفتقد إلى القبلة مع القدرة، وفيها تكبير وسلام، والتيمم طهارة ضرورية، وصلاة الجنازة لا ضرورة إليها، لأنه لا يخلو إما أن يكون وحده فيتوضأ ويصلى، أو يكون مع غيره ممن هو على وضوء، وإن كان ذلك الغير إذا صلى عليها كفى، وسقطت عن غيره، قال ابن القصار: وهذا لازم لها. واختلفوا فى رفع اليدين فى تكبير الجنازة، فقال مالك فى المدونة: لا يرفع يديه إلا فى التكبيرة الأولى، وروى مطرف وابن الماجشون مثله، وإليه ذهب الكوفيون والثورى. وروى ابن وهب عن مالك أنه يعجبه الرفع فى كل تكبيرة. وروى مثله عن ابن عمر، وسالم، وعطاء، والنخعى، ومكحول، والزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد وإسحاق. وذكر ابن حبيب عن ابن القاسم أنه لم يكن يرى الرفع فى الأولى ولا فى غيرها، قال ابن أبى زيد: والمعروف عن ابن القاسم الرفع فى الأولى، خلاف ما ذكره عنه ابن حبيب. واختلفوا فى التسليم على الجنازة، فقال كثير من أهل العلم: يسلم واحدة، روى ذلك عن على، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبى هريرة، وأبى أمامة بن سهل، وأنس، وجماعة من التابعين، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الكوفيون: يسلم تسليمتين: واختلف قول الشافعى على القولين. وقال مالك فى (المجموعة) : ليس عليهم رَدّ السلام على الإمام، وروى عنه ابن غانم قال: يرد على الإمام من سمع كلامه. وكره أكثر العلماء الصلاة على الجنازة فى غير مواقيت الصلاة، روى ذلك عن ابن عمر أنه كان يصلى عليها بعد العصر حتى تصفر الشمس، وبعد الصبح حتى يسفر، ونحوه عن الأوزاعى، والثورى، والكوفيين، وأحمد، وإسحاق، وكرهوا الصلاة عليها عند الطلوع،

(3/306)


وعند الغروب، وعند الزوال، زادو وقتًا ثالثًا، وخالفهم الشافعى، فقال: لا بأس بالصلاة عليها أى ساعة شاء من ليل أو نهار، وقال: إنما ورد النهى فى التطوع، لا فى الواجب والمسنون من الصلوات. واحتج الكوفيون بحديث عقبة بن عامر، قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن نصلى فيها، ونقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى تبيض، وعند انتصاف النهار حتى تزول، وعند اصفرار الشمس حتى تغيب. وقول الحسن: (أحق الناس بالصلاة على جنائزهم من رضوه لفرائضهم) . فإن أهل العلم اختلفوا من أحق بالصلاة عليها الولى، أو الوالى؟ فقال أكثر أهل العلم: الوالى أحق من الولى، روى عن علقمة، والأسود، والحسن، وجماعة، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. إلا أن مالكًا قال فى الوالى والقاضى: إن كانت الصلاة إليهم فهم أحق من الولى. وقال مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ: ليس ذلك إلى من إليه الصلاة من قاضٍ، أو صاحب شرطة، أو خليفة الوالى الأكبر، وإنما ذلك إلى الوالى الأكبر الذى تؤدى إليه الطاعة. وقال أبو يوسف، والشافعى: الولى أحق من الوالى. واحتج أصحاب الشافعى بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) [الأنفال: 75] فهم أَوْلى من غيرهم فى كل شىء إلا أن تقوم دلالة. وحجة القول الأول ما رواه الثورى، عن أبى حازم قال: شهدت الحسين بن على قدم سعيد بن العاص يوم مات الحسن بن على، رضى الله عنهما، وقال له: تقدم، فلولا السُّنَّة ما قدمتك،

(3/307)


وسعيد يومئذ أمير المدينة. وقال ابن المنذر: ليس فى هذا الباب أعلى من هذا، لأن جنازة الحسن شهدها عوام الناس من أصحاب الرسول، والمهاجرون، والأنصار، فلم يُنكرْ ذلك منهم أحد، فدل أنه كان عندهم الصواب.
44 - بَاب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِى عَلَيْكَ. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ: مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا، وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ. / 63 - فيه: ابْنُ عُمَرَ أَنّه حدث أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَقَالَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا، فَصَدَّقَتْ - يَعْنِى عَائِشَةَ - أَبَا هُرَيْرَةَ، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُهُ. اختلف العلماء فى الانصراف من الجنازة، هل يحتاج إلى أذن أم لا؟ فروى عن زيد ابن ثابت، وجابر بن عبد الله، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وقتادة، وابن سيرين، وأبى قلابة أنهم كانوا ينصرفون إذا رويت الجنازة، ولا يستأذنون، وهو قول الشافعى، وجماعة من العلماء. ولمالك وأصحابه جواز الانصراف قبل الصلاة عليها، وبعدها دون إذن، سأذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى. وقالت طائفة: لابد من الإذن فى ذلك، روى هذا عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة، والمسور بن مخرمة، والنخعى أنهم كانوا لا ينصرفون حتى يستأذنوا. وروى ابن عبد الحكم عن مالك، قال: لا يجب لمن شهد جنازة أن ينصرف عنها حتى يُؤذن له إلا أن يطول ذلك.

(3/308)


والقول الأول أَوْلى بالصواب بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من شهد جنازة فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان) لأن قوله: (حتى تدفن) لفظ حَضّ وترغيب، لا لفظ حتم ووجوب، ألا ترى قول زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذى عليك.
45 - بَاب مَنِ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ
/ 64 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّىَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ) ، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: (مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ) . قد قلنا أن الحديث يدل على أنه لا يحتاج إلى أذن فى الانصراف من الجنازة، لأنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) أن من شهد الصلاة فله قيراط، ومن شهد الدفن فله قيراطان. فوكله (صلى الله عليه وسلم) إلى اختياره أن يرجع بقيراط من الأجر إن أحب، أو بقيراطين، فدل على تساوى حكم انصرافه بعد الصلاة وبعد الدفن فى أنه لا إذن عليه لأحد فيه، حين رد الاختيار إليه فى ذلك، هذا مفهوم الحديث. وقد أجاز مالك وبعض أصحابه لمن شيع الجنازة أن ينصرف منها قبل أن يصلى عليها، فى سماع أشهب، قال: سألت مالكًا: هل يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلى عليها؟ قال: لا بأس بذلك، إن شاء الله. وروى عنه ابن القاسم أنه لا ينصرف قبل الصلاة إلا لحاجة أو علَّة. قال ابن القاسم: وذلك واسع لحاجة أو غيرها، وليست بفريضة، يعنى: إذا بقى من يقوم بها. قال ابن حبيب: لا بأس أن يمشى الرجل مع الجنازة ما أحب، وينصرف عنها قبل أن يصلى عليها. قاله جابر بن عبد الله.

(3/309)


46 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ
/ 65 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) النَّجَاشِىَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ، اليَوْمَ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا لأخِيكُمْ) . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. / 66 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ. قال المؤلف: المصلى موضع يُصلَّى فيه على الجنائز، وإنما ذكر المسجد فى هذه الترجمة لاتصاله بمصلى الجنائز، فلذلك ترجم له. قال ابن حبيب: إذا كان مُصلى الجنائز قريبًا من المسجد أو لاصقًا به مثل مصلى الجنائز بالمدينة، فإنه لاصق بالمسجد من ناحية السوق، فلا بأس بوضع الجنائز فى المصلى خارجًا من المسجد، وتمتد الصفوف بالناس فى المسجد كذلك. قال مالك: فلا يعجبنى أن يصلى على أحد فى المسجد. وهو قول ابن أبى ذئب، وأبى حنيفة، وأصحابه، وروى مثله عن ابن عباس. قال ابن حبيب: ولو فعل ذلك فاعل ما كان ضيقًا، ولا مكروهًا، فقد صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على سهيل بن بيضاء فى المسجد، وصلى صهيب على عمر فى المسجد، وهو قول عائشة، وقال ابن المنذر: صُلى على أبى بكر، وعمر فى المسجد، وأجاز الصلاة فى المسجد: الشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقال إسماعيل بن إسحاق: لا بأس بالصلاة على الجنازة فى المسجد إذا احتيج إلى ذلك. وحجة من لم ير الصلاة فى المسجد ما رواه ابن أبى ذئب عن صالح مولى التوأمة، عن أبى هريرة، عن الرسول أنه قال: (من صلى على جنازة فى المسجد فلا شىء له) .

(3/310)


قال الطحاوى: فلما اختلفت الآثار فى هذا الباب، احتجنا إلى كشف ذلك لنعلم المتأخر، فكان فى حديث عائشة دليل أنهم تركوا الصلاة على الجنائز فى المسجد بعد أن كانت تفعل فيه حتى ارتفع ذلك من فعلهم، وذهبت معرفته على عامتهم. وفى إنكار من أنكر ذلك على عائشة، وهم يومئذٍ أصحاب رسول الله دليل أنهم قد كانوا علموا فى ذلك خلاف ما علمت، وقال الذين احتجوا بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على سهيل بن بيضاء فى المسجد: الحجة فى رسول الله، وفيه الأسوة الحسنة، ألا ترى قول عائشة: ما أسرع ما نسى الناس. وليس من نسى علمًا بحجة على من ذكره وعلمه، ولو كان قولها خطأ عندهم لما سكتوا عن تبيينه لها. وقال إسماعيل بن إسحاق: وما روى عن الرسول أنه قال: (من صلى على ميت فى المسجد فلا شىء له) ، فإسناده ضعيف لا يثبت، وقاله ابن المنذر أيضًا.
47 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ
وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رُفِعَتْ، فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ: أَلا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ الآخَرُ: بَلْ يَئِسُوا، فَانْقَلَبُوا. / 67 - فيه: عَائِشَةَ، قالت: قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَساجد) . قَالَتْ: وَلَوْلا ذَلِكَ لأبْرَزُوا قَبْرَهُ، غَيْرَ أَنِّى أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. قال المهلب: هذا النهى من باب قطع الذريعة، لئلا يعبد قبره الجهالُ كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائها.

(3/311)


روى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية) أنه كره المسجد على القبور، فأما مقبرة داثرة يبنى عليها مسجد يُصلى فيه فلا بأس به. فى سماع أشهب قال مالك: أول من ضرب على قبر فسطاطًا عمر، ضرب على قبر زينب بنت جحش زوج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وأوصى أبو هريرة أهله عند موته ألا يضربوا عليه فسطاطًا، وهو قول أبى سعيد الخدرى، وسعيد بن المسيب، ذكره ابن وهب فى موطئه. قال ابن حبيب: ضرب الفسطاط على قبر المرأة أجوز منه على قبر الرجل، فأُجيز وكُره، ومن كرهه فإنما كرهه من جهة السمعة، وضربته عائشة على قبر أخيها، فنزعه ابن عمر، وضربه محمد بن الحنفية على قبر ابن عباس، فأقام عليه ثلاثة أيام. ومعنى ضرب القبة على الحسن حين ضربت عليه: سكنت وصلى فيها، فصارت مسجدًا على القبر، وإنما أورد ذلك دليلاً على الكراهية لقول الصائح: (ألا هل وجدوا. .) القصة.
48 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ من نِفَاسِهَا فقام وسطها
وترجم له بَاب: (أَيْنَ يَقُومُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ) ؟ . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى الأخذ بحديث سمرة، وقالوا: هذا المقام الذى ينبغى أن يقومه المصلى على الجنازة على المرأة والرجل، روى ذلك عن النخعى، وهو قول أبى حنيفة. وخالفهم فى ذلك آخرون، وقالوا: أما المرأة فهكذا يقام عند

(3/312)


وسطها، وأما الرجل فعند رأسه. روى هذا عن أبى يوسف، وأحمد بن حنبل. وروى ابن غانم، عن مالك، قال: يقوم عند وسط المرأة ولم يذكر الرجل. والحجة لأبى يوسف، وأحمد ما روى إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، حدثنا هشام، حدثنا أبو غالب، قال: رأيت أنس بن مالك صلى على رجل فقام عند رأسه، وجىء بجنازة امرأة فقام عند وسطها، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان يفعل رسول الله؟ قال: نعم. قال الطحاوى: فبين أنس فى هذا الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يقوم من المرأة عند وسطها على ما فى حديث سمرة، وزاد عليه حكم الرجل فى القيام منه للصلاة عند رأسه، فهو أولى من حديث سمرة. وقال أبو يوسف: إنما يقوم من المرأة عند وسطها، لأنها مستورة بالنعش، ومن الرجل حيال صدره، لأنه إن قام وسطه وقع بصره على فرجه، ولعل ذلك أن يبدو. قال الطحاوى: وزعم زاعم أن قيام المصلى عند وسط المرأة إنما كان لعلة أنه لم تكن نعوش، فكان يقوم بحيال عجيزتها يسترها عن القوم، وذلك محال، لأن النعوش قد اتخذت فى خلافة أبى بكر، وكان أول من اتخذت له فاطمة بنت رسول الله، لأنها قالت لهم عند وفاتها: إنى امرأة ضئيلة يرانى الناس بعد وفاتى، فأحب أن يستر نعشى بالثياب. وقالت أم سليم، وأسماء بنت عميس أنهما رأتا فى أرض الحبشة النعوش، وأنها للناس مغطاة، فاتخذ لها نعش، فاتخذت فيه وبقى الناس إلى يومنا هذا على ذلك. وفى المسألة قول ثالث ذكره سحنون فى (المدونة) عن ابن مسعود، قال: يقوم عند وسط الرجل، وفى المرأة عند منكبيها. وذكر ابن المنذر عن

(3/313)


الحسن، قال: لا يبالى أين قام من الرجل ومن المرأة. وبه قال ابن شعبان، وهذان القولان خلاف حديث سمرة وحديث أنس، ولا حجة لهما.
49 - بَاب التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعًا
قَالَ حُمَيْدٌ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ فَكَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ. / 68 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ. وجمهور الفقهاء على أن تكبير الجنازة أربع، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وزيد ابن ثابت، وابن عمر، وابن أبى أوفى، والبراء بن عازب، وأبى هريرة، وعقبة بن عامر، وهو قول عطاء، ومالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحمد، والشافعى. واختلف الصحابة فيها من ثلاث إلى تسع، وما سوى الأربع شذوذ لا يلتفت إليه، وقال النخعى: قبض رسول الله والناس مختلفون، فمنهم من يقول: كبر النبى أربعًا، ومنهم من يقول: خمسًا وسبعًا، فلما كان عمر جمع الصحابة، فقال: انظروا أمرًا تجتمعون عليه، فأجمع رأيهم على أربع تكبيرات، فيحتمل أن يكون ما روى عن الصحابة من خلاف فى ذلك كان قبل اجتماع الناس على أربع، وحديث النجاشى أصح ما روى فى ذلك. وقد صلى أبو بكر الصديق على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فكبر أربعًا، وصلى عمر على أبى بكر فكبر أربعًا، وصلى صهيب على عمر فكبر أربعًا، وصلى الحسن بن علىٍّ عَلَى علىٍّ فكبر أربعًا، وصلى عثمان على جنازة فكبر أربعًا، وعن ابن عباس وأبى هريرة والبراء مثله، فصار الإجماع منهم قولاً وعملاً ناسخًا لما خالفه، وصار إجماعهم

(3/314)


حجة، وإن كانوا فعلوا فى عهد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خلافه لأنهم مأمونون على ما فعلوا كما هم مأمونون على ما رووا. فإن قيل: فكيف يكون ذلك ناسخًا، وقد كبر علىّ بعد ذلك أكثر من أربع تكبيرات، على سهل بن حنيف ستًا، وعلى أبى قتادة سبعًا؟ . قيل له: إن عليًا فعل ذلك لأن أهل بدر كان حكمهم فى الصلاة عليهم أن يزاد فيها من التكبير على ما يكبر على غيرهم من سائر الناس، والدليل على ذلك ما رواه ابن أبى زياد، عن عبد الله بن معقل، قال: صليت مع علىّ عَلَى جنازة، فكبر عليها خمسًا، ثم التفت، فقال: إنه من أهل بدر، ثم صليت مع علىٍّ عَلَى جنائز، كل ذلك يكبر أربعًا. قال الطحاوى: فكان هذا حكم الصلاة على أهل بدر، وقد حدثنى القاسم بن جعفر، حدثنى زيد بن أخزم، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا سليمان بن بشير، قال: صليت خلف الأسود بن يزيد، وهمام بن الحارث، والنخعى، فكانوا يكبرون أربعًا أربعًا، قال همام: وجمع عمر بن الخطاب الناس على أربع إلا على أهل بدرٍ، فإنهم كانوا يكبرون عليهم خمسًا وستًا وسبعًا. قال مالك: وإن صلى خلف من يكبر الخامسة، فلا يسلم إلا بسلامه، ورواه عنه ابن الماجشون، وقاله مطرف. وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أن المأموم يقطع بعد الرابعة، وكذلك فى سماع ابن وهب، وهو قول أبى حنيفة. ولم يحفظ عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه سلم على الجنازة من طريق الرواية، وأجمع الصحابة والتابعون، وأئمة الفتوى بعده على

(3/315)


السلام فيها، إلا أن الفقهاء اختلفوا هل يُسلم واحدة، أو اثنتين، وأكثر السلف والخلف على أنها تسليمة واحدة، وروى عن الشعبى أنه يُسلم تسليمتين، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه. وقال الثورى: واحدة عن يمينه.
50 - بَاب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا. / 69 - وفيه: طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. واختلف العلماء فى القراءة بفاتحة الكتاب على الجنازة، فروى عن ابن مسعود، وابن الزبير، وابن عباس، وعثمان بن حبيب، وأبى أمامة بن سهل بن حنيف، أنهم كانوا يقرءون فاتحة الكتاب على ظاهر حديث ابن عباس، وهو قول مكحول والحسن البصرى، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: ألا ترى قول ابن عباس: لتعلموا أنها سُنَّة، والصاحب إذا قال سُنَّة فإنما يريد سُنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وذكر أبو عبُيد فى (فضائل القرآن) عن مكحول، قال: أم القرآن قراءة ومسألة ودعاء. وممن كان لا يقرأ على الجنازة وينكر ذلك: عمر بن الخطاب، وعلىّ بن أبى طالب، وابن عمر، وأبو هريرة، ومن التابعين: عطاء، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وسعيد ابن جبير، والشعبى، والحكم، وبه قال مالك والثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، قال

(3/316)


مالك: الصلاة على الجنازة إنما هو دعاء، وليس قراءة فاتحة الكتاب معمولاً بها ببلدنا. قال الطحاوى: يحتمل أن تكون قراءة من قرأ فاتحة الكتاب من الصحابة على وجه الدعاء لا على وجه التلاوة، وقالوا: إنها سُنَّة، يحتمل أن الدعاء سُنَّة، لما روى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم أنكروا ذلك، ولما لم يقرءوا بعد التكبيرة الثانية دل أنه لا يقرأ فيما قبلها، لأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، ولما لم يتشهد فى آخرها دل أنه لا قراءة فيها.
51 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنُ
/ 70 - فيه: ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مر عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ، وَصَلَّوْا خَلْفَهُ. / 71 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَسْوَدَ، رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الرسول بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: (مَا فَعَلَ ذَلِكَ؟) قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَفَلا آذَنْتُمُونِى) ؟ فَقَالُوا: كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، فَقَالَ: (فَدُلُّونِى عَلَى قَبْرِهِ) ، فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. اختلف العلماء فيمن فاتته الصلاة على الجنازة، هل يصلى على قبرها؟ فروى عن علىّ، وابن مسعود، وعائشة أنه أجازوا ذلك، وبه قال الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأحاديث هذا الباب وغيرها، وقالوا: لا يصلى على قبر إلا قرب ما يدفن، وأكثر ما حَدُّوا فيه شهرًا، إلا إسحاق فإنه قال: يصلى الغائب من شهر إلى ستة أشهر، والحاضر إلى ثلاثة.

(3/317)


وكره قوم الصلاة على القبر، وروى عن ابن عمر أنه كان إذا انتهى إلى جنازة قد صلى عليها دعا وانصرف ولم يصل عليها، وهو قول النخعى، والحسن البصرى، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، والليث. وقال ابن القاسم: قلت لمالك: فالحديث الذى جاء عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه صلى على قبر امرأة؟ قال: قد جاء هذا الحديث ليس عليه العمل. وقال أبو الفرج: صلاة النبى على من دُفن خاص له، لا يجوز لغيره، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن هذه القبور مملوءة ظلمة حتى أصلى عليها) . وقال أبو حنيفة: لا يصلى على قبر مرتين إلا أن يصلى عليها غير وليها، فيعيد وليها الصلاة عليها. وقال الطحاوى: يسقط الفرض بالصلاة الأولى إذا صلى عليها الولى، والصلاة الثانية لو فعلت لم تكن فرضًا فلا يصلى عليها، لأنهم لا يختلفون أن الولى إذا صلى عليه لم يجز له إعادة الصلاة ثانية لسقوط الفرض، وكذلك غيره من الناس إلا أن يكون الذى صلى عليها غير الولى، فلا يسقط حق الولى، لأن الولى كان إليه فعل فرض الصلاة على الميت. وما روى عن الرسول فى إعادة الصلاة، فلأنه كان إليه فعل فرض الصلاة، فلم يكن يسقطه فعل غيره، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) تَقَدَّم إليهم أن يُعلموا، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يموت منكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتمونى به، فإن صلاتى عليه رحمة) . وقد ذكر ابن القصار نحو هذه الحجة سواء، واحتج أيضًا بالإجماع فى ترك الصلاة على قبر الرسول، ولو جاز ذلك لكان قبره أولى أن

(3/318)


يُصلى عليه أبدًا، ثم كذلك أبو بكر وعمر، فلما لم ينقل أن أحدًا صلى عليهم، كان ذلك من أقوى الدلالة على أنه لا يجوز. واختلفوا فيمن دُفن ونُسيت الصلاة عليه، فقال أبو حنيفة ومحمد: يصلى على القبر ما بينهم وبين ثلاث. وقال ابن وهب: إذا ذكروا ذلك عند انصرافهم من دفنه، فإنه لا ينبش وليصلوا على قبره، سمعت هذا. وقاله يحيى بن يحيى، وروى موسى وعيسى، عن ابن القاسم أنه يخرج بحضرة ذلك ويصلى عليه، وإن خافوا أن يتغير. وقاله عيسى بن دينار، وروى موسى، عن ابن القاسم، قال: وكذلك إذا نسوا غسله مع الصلاة عليه. وفى المبسوط: روى ابن نافع عن مالك إذا نسيت الصلاة حتى يفرغ من دفنه لا ينشره، ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له، وهو قول أشهب، وسحنون، ولم ير بالصلاة على القبر. وقوله: (يقم المسجد) يعنى يكنسه، يقال: قم فلان بيته يقمه، إذا كنسه، والقمامة: الكناسة، والمقمة المكنسة، ومن قولهم: اقتم فلان ما على الخوان، إذا أكل [. . . .] كالبيت المكنوس، والقميم يبس البقل، وقمت الشاة: رعت، والإقمام: ضرب الفحل الإبل، يقال: أقم الفحل الإبل إذا ضربها. وقال الخطابى: حديث ابن عباس يروى على وجهين: أحدهما: أن يجعل المنبوذ نعتًا للقبر ومعناه أنه قبر منبوذ عن القبور، والوجه الآخر: أن تكون الرواية على إضافة القبر إلى المنبوذ، معناه:

(3/319)


أنه مرّ بقبر لقيط فصلى عليه، والمنبوذ الملقوط، وهو المزكوم أيضًا، يقال: زكمت به أمه فهو زكمة فلان.
52 - بَاب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ
/ 72 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا وُضِعَ الْعَبْدُ فِى قَبْرِهِ، وَتُوُلِّىَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ) ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ وِالْمُنَافِقُ، فَيَقُولُ: لا أَدْرِى، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْنِ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) فى الميت: (إنه يسمع قرع نعالهم) ، وكلامه مع الملكين يبين قوله: (وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] أنه على غير العموم. قال المهلب: ولا معارضة بين الآية والحديث، لأن كل ما نسب إلى الموتى من استماع النداء والنوح، فهى فى هذا الوقت عند الفتنة أول ما يوضع الميت فى قبره أو متى شاء الله أن يرد أرواح الموتى ردها إليهم لما شاء) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) [الأنبياء: 23] ، ثم قال بعد ذلك: لا يسمعون، كما قال تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) [النمل: 80] ،) وما أنت بمسمع من فى القبور (. وفيه: أن فتنة القبر

(3/320)


حق، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وسيأتى الكلام فيه فى بابه، إن شاء الله. وأما قوله: (يسمعها من يليه) فالذى يليه هم الملائكة الذين يلون فتنته ومسألته فى قبره، والثقلان: الجن والإنس منعهم الله سماع صيحته إذا دفن فى قبره. فإن قال قائل: الجن من الثقلين، وقد منعهم الله سماع هذه الصيحة، ولم يمنعهم سماع كلام الميت إذا حمل، وقال: قدمونى قدمونى، فما الفرق بين ذلك؟ قيل: إن كلام الميت حين يحمل إلى قبره هو فى حكم الدنيا، وليس فيه شىء من الجزاء والعقوبة، لأن الجزاء لا يكون إلا فى الآخرة، وإنما كلامه اعتبار لمن سمعه وموعظة، فأسمعها الله الجن، لأنه جعل فيهم قوة يثبتون بها عند سماعه، ولا يضعفون بخلاف الإنسان الذى كان يصعق لو سمعه، وصيحة الميت فى القبر عند فتنته هى عقوبة وجزاء، فدخلت فى حكم الآخرة، فمنع الله الثقلين، اللذين هما فى دار الدنيا، سماعَ عقوبته وجوابه فى الآخرة، وأسمعه سائر خلقه. وقوله: (لا دريت ولا تليت) الأصل فيه تلوت، فردوه إلى الياء ليزدوج الكلام، هذا قول ثعلب. وقال ابن السكيت: (تليت) هاهنا اتباع ولا معنى لها. وقال ابن الأنبارى: إنما قيل للجن والإنس: الثقلان، لأنهما كالثقل للأرض وعليها، والثقل بمعنى الثقيل، وجمعها: أثقال، ومجراهما مجرى قول العرب مِثْل وَمثيل، وشبه وشبيه، وكانت العرب تقول للرجل الشجاع: ثقل على الأرض، فإذا مات أو قتل: سقط ذلك عنها. قالت الخنساء ترثى أخاها: أبعد ابن عمرو من الربذة حلت بها الأرض أثقالها

(3/321)


53 - بَاب مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِى الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا
/ 73 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِى إِلَى عَبْدٍ لا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ إلَيْهِ عَيْنَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَىْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْفنهُ مِنَ الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأحْمَرِ) . قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنكر بعض أهل البدع والجهمية هذا الحديث ودفعوه، وقالوا: لا يخلو أن يكون موسى عرف ملك الموت، أو لم يعرفه، فإن كان عرفه فقد ظلمه واستخف برسول الله، ومن استخف برسول الله فهو مستخف بالله، وإن كان لم يعرفه فرواية من روى أنه كان يأتى موسى عيانًا لا معنى لها. قال الجهمى: وزعمت الحشوية أن الله لم يقاصص الملك من اللطمة وفقء العين، والله تعالى لا يظلم أحدًا. قال ابن خزيمة: وهذا اعتراض من أعمى الله بصيرته، ولم يبصره رشده، ومعنى الحديث صحيح على غير ما ظنهُ الجهمى، وذلك أن موسى (صلى الله عليه وسلم) لم يبعث الله إليه ملك الموت، وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارًا وابتلاء، كما أمر الله خليله إبراهيم بذبح ابنه، ولم يُرد تعالى إمضاء الفعل ولا قتل ابنه، ففداه بذبح عظيم) وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) [الصافات: 104، 105] ولو أراد قبض روح موسى حين ألهم ملك الموت لكان ما أراد، لقوله تعالى: (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [النحل: 40] .

(3/322)


وكانت اللطمة مباحة عند موسى إذا رأى شخصًا فى صورة آدمى قد دخل عنده لا يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الرسول فقء عين الناظر فى دار المسلم بغير إذن، رواه بشير ابن نهيك، عن أبى هريرة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من اطلع فى دار قوم بغير إذن، ففقأ عينه فلا دية ولا قصاص) . ومحال أن يعلم موسى أنه ملك الموت ويفقأ عينه، وكذلك لا ينظره إلا بعلمه. وقد جاءت الملائكةُ خليل الله إبراهيم ولم يعرفهم فى الابتداء حتى أعلموه أنهم رسل ربهم، قال تعالى: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلامًا قال سلام (إلى) خيفة) [هود: 69، 70] ولو علم إبراهيم فى الابتداء أنهم ملائكة الله لكان من المحال أن يقدم إليهم عجلاً، لأن الملائكة لا تطعم، فلما وجس منهم خيفة، قالوا: لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط، وقد أخبر الله أن رسله جاءت لوطًا فسيئ بهم وضاق بهم ذرعًا، ومحال أن يعلم فى الابتداء أنهم رسل الله ويضيق بهم ذرعًا، أو يسيئ بهم. وقد جاء الملك إلى مريم فلم تعرفه، واستعاذت منه، ولو علمت مريم فى الابتداء أنه ملك جاء يبشرها بغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويكون نبيًا ما استعاذت منه. وقد دخل الملكان على داود فى شبه آدميين يختصمان عنده ولم يعرفهما وإنما بعثهما الله ليتعظ بدعوى أحدهما على صاحبه، ويعلم أن الذى فعله لم يكن صوابًا فتاب إلى الله وندم، قال تعالى: (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا) [ص: 24] ، فكيف يُستنكر ألا يعرف موسى ملك الموت حين دخل عليه. وقد جاء جبريلُ النبى (صلى الله عليه وسلم) وسأله عن الإيمان والإسلام فى صورة لم يعرفه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولا أحد من أصحابه، فلما

(3/323)


ولَّى أخبر النبى أنه جبريل، وقال: (ما أتانى فى صورة قط إلا عرفته، غير هذه المرة) . وكان يأتيه فى بعض الأوقات مرة فى صورة، ومرة فى صورة أخرى، وأخبر (صلى الله عليه وسلم) أنه لم ير جبريل فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين. وأما قول الجهمى: إن الله لم يقاصص ملك الموت من اللطمة، فهو دليل على جهل قائله، ومن أخبره أن بين الملائكة وبين الآدميين قصاص. ومن أخبره أن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقاصصه الله منه. وقد أخبرنا الله تعالى أن موسى قتل نفسًا ولم يقاصص الله منه لقتله. وقيل: إذا كانت اللطمة غير مباحة يكون حكمها على كل الأحوال حكم العمد، فيه القصاص، أو تكون فى بعض الأحوال خطأ تجب فيه الدية على العاقلة، وما الدليل أن فقء عين ملك الموت كان عمدًا فيه القصاص دون أن يكون خطأ، وهل تركُ القصاص من موسى لملك الموت لو كان فقأ عين الملك عمدًا، وكان حكم الملائكة مع بنى آدم القصاص كحم الآدميين، إلا كترك القصاص من موسى لقتيله، وكترك القصاص من أحد بنى آدم لأخيه. وقد يأمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالأمر على وجه الاختبار والابتلاء، لا على وجه الإمضاء لأمره، كما أمر (صلى الله عليه وسلم) بإقامة الحد على الرجل الذى زعمت المرأة أنه وطئها من غير إقرار الرجل، ولا إقامة بينة عليه، فبان للنبى فى المتعفف من الوطء، وصح عنده أن الذى رمته به المرأة كان زنا، وهذا كأمر سليمان بن داود بقطع الصبى باثنين، وإنما أراد أن يختبر من أمُّ الصبى، لأن الأم أحنى على ولدها وأشفق، فلما رضيت إحداهما بقطع الصبى، ورضيت الأخرى بدفعه

(3/324)


إلى الثانية، بان عنده وظهر أن أم الصبى اختارت حياة ابنها، وكذلك بعث الله ملك الموت إلى موسى للابتلاء والاختبار. وقد أخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) أن الله تعالى لم يقبض نبيًا قط حتى يريه مقعده من الجنة ويخيره، فلا يجوز أن يؤمر ملك الموت بقبض روحه قبل أن يريه مقعده من الجنة، وقبل أن يخيره، والله ولى التوفيق. ومعنى سؤال موسى أن يدنيه من الأرض المقدسة، والله أعلم، لفضل من دُفن فى الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين، فاستحب مجاورتهم فى الممات، كما يستحب جبرتهم فى المحيا، ولأن الفضلاء يقصدون المواضع الفاضلة، ويزورون قبورها ويدعون لأهلها. قال المهلب: إنما سأل الدنو من الأرض المقدسة ليسهل على نفسه، وتسقط عنه المشقة التى تكون على من هو بعيد منها من المشى وصعوبته عند البعث والحشر. قال غيره: ومعنى بعده منها (رمية بحجر) ليعمى قبره، لئلا يعبد قبره جهالُ أهل ملته، ويقصدونه بالتعظيم، والله أعلم، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أخبر أن اليهود تفعل ذلك بقوله: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ذلك) .
54 - بَاب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلا
/ 74 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ، قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ يسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: (مَنْ هَذَا؟) فَقَالُوا: فُلانٌ، دُفِنَ الْبَارِحَةَ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ. قال ابن المنذر: أجاز أكثر العلماء الدفن بالليل، فممن دفن بالليل أبو بكر الصديق، دفنه عمر بن الخطاب بعد صلاة العشاء، ودُفنت عائشة وعثمان بن عفان بالليل أيضًا، ودفن علىُّ بن أبى طالب زوجته فاطمة ليلاً، فَرَّ بِهَا من أبى بكر أن يصلى عليها، كان بينهما شىء،

(3/325)


رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار، أن حسن بن محمد أخبره بذلك، وقال: أوصته فاطمة بذلك. ورخص فى ذلك عقبة بن عامر، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وهو قول الزهرى، والثورى، والكوفيين، وابن أبى حازم، ومطرف بن عبد الله، ذكره ابن حبيب، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكان الحسن البصرى يكره الدفن بالليل، والدفنُ بالليل مباح، لأن الرسول صلى على الذى دفن بالليل، وعلى المسكينة، ولم ينكر ذلك عليهم. وذكر الطحاوى من حديث جابر، وابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نهى عن الدفن ليلاً، وقد يكون النهى عن ذلك ليس من طريق كراهية الدفن بالليل، أراد رسول الله أن يصلى على جميع موتى المسلمين لما لهم فى ذلك من الفضل والخير، وروى عن أبى هريرة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، دخل المقبرة فصلى على رجل بعد ما دفن، فقال: (ملئت هذه القبور نورًا بعد أن كانت مظلمة عليهم) . وقيل: إنما نهى عن ذلك لمعنى آخر رواه أشعث عن الحسن، أن قومًا كانوا يسئون أكفان موتاهم، فنهى رسول الله عن دفن الليل. وأخبر الحسن أن النهى عن الدفن ليلاً إنما كان لهذه العلة، وقد روى جابر بن عبد الله نحوًا من ذلك. روى ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: خطب بنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن فى كفن غير طائل فدفن ليلاً، فزجر أن يقبر الرجل ليلاً لكى يصلى عليه، إلا أن يضطر إلى ذلك، وقال: (إذا

(3/326)


وارى أحدكم أخاه فليحسن كفنه) . قال الطحاوى: فجمع فى هذا الحديث العلتين اللتين قيل إن النهى كان من أجلهما. قال الطحاوى: وقد فعل ذلك رسول الله، وروى ابن إسحاق، عن فاطمة بنت محمد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: ما علمنا بدفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى سمعنا بصوت المساحى من آخر الليل ليلة الأربعاء. وقال عقبة بن عامر: (ثلاث ساعات كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهانا أن نصلى فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس إلى الغروب حتى تغرب) . فدل أن ما سوى هذه الأوقات بخلافها فى الصلاة على الموتى ودفنهم.
55 - بَاب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقبور
/ 75 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بالْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، فَذَكَرَ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ، أُولَئِكِ هم شِرَارُ الْخَلْقِ) . لأنهم كانوا يعبدون تلك القبور، ولذلك نهى (صلى الله عليه وسلم) أن يتخذوا قبره مسجدًا، قطعًا للذريعة فى ذلك لئلا يعبد الجهل قبره، وقد تقدم هذا المعنى فى باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور.

(3/327)


56 - بَاب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ
/ 76 - فيه: أَنَس، قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: (هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟) فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: (فَانْزِلْ فِى قَبْرِهَا) ، قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: قَالَ فُلَيْحٌ أُرَاهُ يَعْنِى: الذَّنْبَ. قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يقارف الليلة) أراد الجماع، وليس كما قال فليح أنه الذنب، لأن المقارفة أيضًا عند العرب: المجامعة. قال أبو عبيد: فى حديث عائشة (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصبح جنبًا فى رمضان من قراف غير احتلام، ثم يصوم) . قال أبو عبيد: القراف هاهنا: الجماع، وكل شىء خالطته وواقعته فقد قارفته. وقد روى البخارى فى تاريخه ما يشهد لذلك، قال: حدثنا عبد الله بن محمد المسندى، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، قال: لما ماتت رقية، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة) ، فلم يدخل عثمان القبر. قال البخارى: لا أدرى ما هذا والنبى (صلى الله عليه وسلم) لم يشهد رقية، وقال الطبرى: روى أنس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما نزلت أم كلثوم بنت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى قبرها، قال: (لا ينزل فى قبرها أحد قارف الليلة) . فذكرُ رقية فيه وهم، والله أعلم. ولذلك ذكر البخارى فى هذا الباب حديث أنس، قال: (شهدنا بنت النبى. . . .) ، ولم يذكر فيه رقية، ولم يذكر حديث المسندى فى هذا، وهذا يدل على صواب قول الطبرى، والله أعلم. وذكر البخارى أن أم كلثوم كانت تحت عثمان بن عفان بعد رقية ابنة النبى (صلى الله عليه وسلم) .

(3/328)


وذهب العلماء إلى أن زوج المرأة أولى بإلحادها من الأب والولد، ولا خلاف بينهم أنه يجوز للفاضل غير الولى أن يلحد المرأة إذا عدم الولى، ولما كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولم يجز لأحد التقدم بين يديه فى شىء لقوله تعالى: (لا تقدموا بين يدى الله ورسوله) [الحجرات: 1] لم يكن لعثمان أن يتقدم بين يدى رسول الله فى إلحاد زوجته. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هل فيكم أحد لم يقارف أهله الليلة؟) فيحتمل أن يستدل على معناه بقوله فى حديث المسندى: (فلم يدخل عثمان القبر) ودل سكوت عثمان وتركه المشاحة فى إلحاد أهله أنه قد كان قارف تلك الليلة بعض خدمه، لأنه لو لم يقارف لقال: أنا لم أقارف فأتولى إلحاد أهلى، بل كان يحتسب خدمته فى ذلك من أزكى أعماله عند الله، وكان أولى من أبى طلحة لو ساواه فى ترك المقارفة. فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يمنعه إلحادها حين لم يمنعه حزنه بموت ابنة رسول الله، وانقطاع صهره منه، عن المقارفة تلك الليلة على طراوة حزنه وحادث مصابه لمن لا عوض منها، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببى ونسبى) . رواه عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو رافع، والمسور، كلهم عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذكرها كلها الطبرى. فعاقبه (صلى الله عليه وسلم) بأن حرمه هذه الفضيلة، وكان عثمان كثير الخدم والمال، وفيه فضل عثمان وإيثاره الصدق حتى لم يَدَّعِ تلك الليلة ترك المقارفة، وإن كان عليه بعض الغضاضة فى إلحاد غيره لزوجته.

(3/329)


57 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى الشَّهِيدِ
/ 77 - فيه: جَابِرِ، قَالَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ) ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِى اللَّحْدِ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. / 78 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: (إِنِّى فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّى وَاللَّهِ لأنْظُرُ إِلَى حَوْضِى الآنَ، وَإِنِّى أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ، وَإِنِّى وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِى، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا) . وترجم لحديث جابر بَاب (دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاثَةِ فِى قَبْرٍ وَاحِدٍ) ، وباب (مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ) ، وباب (مَنْ يُقَدَّمُ فِى اللَّحْدِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك: الذى سمعته من أهل العلم والسُّنَّة أن الشهداء لا يغسلون، ولا يصلى على أحد منهم، ويدفنون فى ثيابهم التى قتلوا فيها، وهو قول عطاء، والنخعى، والحكم، والليث، والشافعى، وأحمد. وقال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى: يصلى عليه ولا يغسل، وهو قول مكحول. وقال عكرمة: لا يغسل الشهيد، لأن الله قد طيبه، ولكن يصلى عليه. وقال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى: يغسل الشهيد ويصلى عليه، لأن كل ميت يجنب. وحجة مالك، ومن وافقه حديث جابر أنهم لم يغسلوا ولم يُصلى عليهم، وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى دم الشهيد: (اللون لون دم، والريح ريح المسك) . وقد روى فى الحديث: (إذا كان يوم القيامة

(3/330)


وبعث الله العباد، قام الشهداء من قبورهم، ووثبوا على خيولهم مستشفعين إلى الله بذلك) . فوجب ألا تغير أحوالهم أخذًا بالسُّنة التى رواها جابر فى قتلى أُحُد. قال ابن القصار: ويوم أُحُد قتل فيه سبعون نفسًا، فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللون لون دم والريح ريح مسك) نهى عن الصلاة عليه، لأنه ميت لا يغسل فوجب ألا يصلى عليه، دليله السقط الذى لم يستهل، وإذا سقط فرض الطهارة سقط فرض الصلاة، قال الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] وقال (صلى الله عليه وسلم) : (صلوا على موتاكم) . وقد نفى الله عنهم الموت، وأوجب لهم الحياة، فلا تجب الصلاة عليهم. واحتج أبو حنيفة، ومن وافقه بحديث عقبة بن عامر: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى على أهل أُحُد بعد ثمانى سنين صلاته على الميت) ، وبما روى أنه صلى على حمزة سبعين صلاة، قالوا: فلو لم تجز الصلاة على الشهداء ما صلى عليهم، روى ذلك من حديث ابن عباس، وابن الزبير، فأما حديث ابن الزبير فرواه أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبى بكر بن عياش، عن يزيد بن أبى زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يوضع بين يديه يوم أُحُد عشرة فيصلى عليهم وعلى حمزة، ثم يرفع العشرة، وحمزة موضوع، ثم يوضع عشرة فيصلى عليهم وعلى حمزة معهم، يكبر عليهم سبع تكبيرات، حتى فرغ) . وحديث ابن الزبير ذكره ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده. وقال أهل المقالة الأولى: يحتمل أن يكون حديث ابن عباس، وابن

(3/331)


الزبير أنه صلى على قتلى أُحُد على من حمل فعاش، حتى تستعمل الأحاديث، ويجوز أن يكون صلى عليهم أى: دعا لهم، وعلى هذا يتأول حديث عقبة أنه دعا لهم كما يدعى للميت بالمغفرة والرحمة، لأن الصلاة من النبى لأمته هى بمعنى الدعاء لهم، ألا ترى قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) [التوبة: 103] أن المراد به الدعاء لهم. والدليل على صحة هذا التأويل حديث ابن إسحاق، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: أخبرنى أبو مويهبة، مولى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: قال لى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع) ، فاستغفر لهم ثم انصرف، فقال لى: (إن الله قد خيرنى فى مفاتيح خزائن الأرض، والخلد فيها ثم الجنة، أو لقاء ربى، فاخترت لقاء ربى) . وأصبح رسول الله من ليلته تلك فبدأه وجعه الذى مات فيه، فكأن خروجه إلى البقيع كالمودع للأحياء والأموات، حتى نعيت إليه نفسه، فهذا تفسير حديث ابن عباس، وابن الزبير، وحديث عقبة، وأن الصلاة فيها بمعنى الدعاء والاستغفار، كما دل عليه كتاب الله. وأما صلاته على حمزة فهو خصوص له، لأنه كبر عليه سبع تكبيرت، وهم لا يقولون بأكثر من أربع، وحمزة مخصوص بإعادة الصلاة عليه لو صح ذلك، لإجماع العلماء أنه لا يجوز أن يصلى على قبر لم يصل عليه إلا بحدثان ذلك، وأكثر ما حُدَّ فى ذلك ستة أشهر.

(3/332)


وقد عارض حديث ابن عباس، وابن الزبير، ما روى أسامة بن زيد، عن الزهرى، عن ابن عباس، (أن النبى لم يصل على أحد من قتلى أُحُد غير حمزة) . فصار مخصوصًا بذلك، لأنه وجده فى القتلى قد جرح ومُثل به، فقال: (لولا أن تجزع عليه صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع) ، فكفنه فى نمرة إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه بدا رأسه، ولم يصل على أحد غيره، وقال: (أنا شهيد عليكم اليوم) . ويشهد لهذا المعنى حديث جابر، وهذا أولى ما قيل به فى هذا الباب، لأنه أصح من الأحاديث المعارضة له، وقول سعيد بن المسيب، والحسن مخالف للآثار، فلا وجه له. واختلف الفقهاء إذا جرح فى المعركة، ثم عاش بعد ذلك، أو قتل ظلمًا بحديدة، أو غيرها فعاش، فقال مالك: يغسل ويصلى عليه. وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة: إن قتل ظلمًا فى المصر بحديدة لم يغسل، وإن قتل بغير الحديدة غسل. وحجة مالك ما رواه نافع، عن ابن عمر، أن عمر غُسل وصلى عليه، لأنه عاش بعد طعنته وكان شهيدًا. قال ابن القصار: ولم ينكر هذا أحد من الصحابة. قال: وكذلك جرح علىّ بن أبى طالب، فعاش ثم مات من ذلك، فغسل وصلى عليه، ولم ينكره أحد. قال الطبرى: وفيه من الفقه أن الموت إذا كثر فى موضع بطاعون أو غيره، أو كثر القتل فى معركة حتى تعظم المؤنة فى حفر قبر لكل رجل منهم، أن تدفن الجماعة منهم فى حفرة واحدة، كالذى فعل (صلى الله عليه وسلم) فى جمع مشركى بدر فى قليب واحد، وهم سبعون رجلاً. واختلفوا فى دفن الاثنين والثلاثة فى قبر، فكره ذلك الحسن البصرى، وأجازه غير واحد من أهل العلم، فقالوا: لا بأس أن يدفن الرجل والمرأة فى القبر الواحد، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، غير أن الشافعى وأحمد، قالوا ذلك فى موضع

(3/333)


الضرورات. وحجتهم حديث جابر المتقدم، وقال: يقدم أسنهم وأكثرهم أخذًا للقرآن، ويقدم الرجل أمام المرأة. قال المهلب: وهذا خطاب للأحياء أن يتعلموا القرآن، ولا يغفلوه حين أكرم الله حملته فى حياتهم وبعد مماتهم. والفَرط: المتقدم. والنمرة: كساء من شعر أو شقة من شعر. عن الطبرى. وقال ابن السكيت: إذا نسج الصوف وجعل له هدب، فهى نمرة وبرد وشملة.
58 - باب الإذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِى الْقَبْرِ
/ 79 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى وَلا تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى، أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إِلا لِمُعَرِّفٍ) ، قَالَ الْعَبَّاسُ: إِلا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ: (إِلا الإذْخِرَ) . قال المؤلف: اتفق العلماء على جواز قطع الإذخر خاصة من منبته بمكة، وأن غيره من النبات محرم قطعه، وأما الحشيش فإنه الورق الساقط والعشب المنكسر، ويجوز عند العلماء استعماله، وإنما يحرم قطعه من منبته فقط. وفى هذا الحديث جواز استعمال الإذخر وما جانسه من الحشيش الطيب الرائحة فى قبور الأموات، وأهل مكة يستعملون من الإذخر دريره ويطيبون بها أكفان الموتى، ففهم البخارى أن ما كان من

(3/334)


النبات فى معنى الإذخر، فهو داخل فى الإباحة، كما أن المسك وما جانسه من الطيب فى الحنوط داخل فى معنى إباحة الكافور للميت، وسيأتى معنى هذا الحديث فى آخر كتاب الحج فى أبواب أحكام الحرم، إن شاء الله تعالى.
59 - باب هَلْ يُخْرَجُ الْمَيِّتُ مِنَ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ
/ 80 - فيه: جَابِر، أَتَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا. وَقَالَ أَبُو هَرُيرة: وَكَانَ عَلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِاللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْبِسْ أَبِى قَمِيصَكَ الَّذِى يَلِى جِسْدَكَ، قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه الصلاة والسلام، أَلْبَسَ عَبْدَاللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ. / 81 - وفيه: جَابِر، لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِى أَبِى مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِى إِلا مَقْتُولا فِى أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله، وَإِنِّى لا أَتْرُكُ بَعْدِى أَعَزَّ عَلَىَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِنَّ عَلَىَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ

(3/335)


فِى قَبْره، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِى أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ. قال المهلب: فى هذا الحديث جواز إخراج الميت بعد ما يدفن إذا كان لذلك معنى، مثل أن ينسى غسله أو ما أشبه ذلك. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى النبش عمن دفن ولم يغسل، فكلهم يجيز إخراجه وغسله، هذا قول مالك، والثورى، والشافعى، إلا أن مالكًا، قال: ما لم يتغير، فى رواية على بن زياد عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا وضع فى اللحد وغطى بالتراب، ولم يغسل، لم ينبغ لهم أن ينبشوه من قبره، وهو قول أشهب، والقول الأول أصح، بدليل حديث جابر. ولذلك اختلفوا فيمن دفن بغير صلاة، قال ابن القاسم: يخرج بحدثان ذلك ما لم يتغير حتى يغسل ويصلى عليه. وهو قول سحنون، وقال أشهب: إن ذكروا ذلك قبل أن يهال عليه التراب، أخرج وصلى عليه، وأن أهالوا عليه التراب، فليترك، وإن لم يُصل عليه، وروى ابن نافع، عن مالك فى (المسبوط) : إذا نُسيت الصلاة على الميت حتى يفرغ من دفنه، لا أرى أن ينبشوه لذلك، ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له. ومن كتاب ابن سحنون: وإذا نسوا فى القبر ثوبًا، أو كساءً لرجل، فإنه ينبش ويخرج، وفى العتبية، قال سحنون: ولو ادعى رجل أن الثوب الذى على الكفن له أو كان خاتمًا أو دينارًا، فإن كان ذلك يعرف، أو أقرَّ بِهِ أهل الميت، ولم يَدَّعُوه لهم أو للميت، جعل لهم سبيل إلى إخراج الميت. وفى سماع عيسى عن ابن القاسم: إذا دفن

(3/336)


فى ثوب ليس له فلينبش لإخراجه لربه، إلا بأن يطول أو يروح الميت فلا أرى لذلك سبيلاً. وفى قول جابر: (نفث عليه من ريقه) حجة على من قال: إن ريق ابن آدم ونخامته نجس، وهو قول يروى عن سلمان الفارسى، والعلماء كلهم على خلافه، والسنن وردت بردِّه، ومعاذ الله أن يكون ريق النبى نجسًا، وينفثه على وجه التبرك به، وهو صلى الله عليه عَلَّمنا النظافة والطهارة، وبه طهرنا الله من الأدناس. وجماعة الفقهاء يقولون بطهارة ريق ابن آدم ونخامته على نص هذا الحديث، وفيه أن الشهداء لا تأكل الأرض لحومهم، ويمكن أن يكون ذلك فى قتلى أُحُد خاصة، ويمكن أن يشركهم فى ذلك غيرهم ممن خصه الله بذلك من خيار خلقه، ومثل هذا الحديث ما روى مالك فى الموطأ، عن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، أنه بلغه أن عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كانا قد حفر السيل قبريهما، وهما ممن استشهد يوم أُحُد، فحفر عنهما ليُغيَّرا من مكانهما، فَوُجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يداه عن جرحه، ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أُحُد وبين يوم حُفر عنهما ست وأربعون سنة. وروى ابن عيينة، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: لما أراد معاوية أن يُجرىَ العَيْنَ بأُحُد، نودى بالمدينة: من كان له قتيل فليأت. قال جابر: فأتيناهم فأخرجناهم رطابًا يتثنون، فأصابت المسحاة أصبع

(3/337)


رجل منهم فانفطرت دمًا. وقال سفيان: بلغنى أنه حمزة ابن عبد المطلب، وهذا الوقت غير الوقت الذى أخرج فيه جابر أباه من قبره.
60 - باب الشَّقِّ وَاللَّحْدِ فِى الْقَبْرِ
وسمى اللّحْدِ، لأنه فِى ناحية ملتحدًا معتدلاً، ولو كان مستقيمًا لكان جرفًا. / 82 - فيه: جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟) فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِى اللَّحْدِ، فَقَالَ: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاءِ. . . . . .) الحديث. قال عيسى بن دينار: اللحد أحب إلى العلماء، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لُحِدَ له، ونصب على لحده اللبن، ولَحَد (صلى الله عليه وسلم) لابنه إبراهيم ونصب عليه اللبن، ولحد لأبى بكر وعمر، وأوصى عمر أهله: إذا وضعتمونى فى لحدى فأفضوا بخدى إلى الأرض. وأوصى ابن عمر أن يلحد له، واستحب ذلك النخعى، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وقالوا: هذا الذى اختار الله لنبيه. وقال عيسى بن دينار: اللحد: أن يحفر له تحت الجرف فى حائط قبلة القبر. وفى سماع ابن غانم: اللحد والشق كل واسع، واللحد أحب إلىّ. وقال الشافعى: إن كانت أرضًا شديدة لُحد لهم، وإن كانت رقيقة شق لهم. وقد روى عن الرسول من حديث جرير وغيره

(3/338)


أنه قال: (اللحد لنا، والشق لغيرنا) ، ولهذا الحديث، والله أعلم، كره الشق.
61 - باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِىُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِىِّ الإسْلامُ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أُمِّهِ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَقَالَ: الإسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعْلَى. / 83 - فيه: ابْن عُمَر، قال: انْطَلَقَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، عِنْدَ أُكُمِ بَنِى مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لابْنِ صَيَّادٍ: (تَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَتَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَضَهُ، وَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ، فَقَالَ لَهُ: (مَاذَا تَرَى؟) قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِى صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (خُلِّطَ عَلَيْكَ الأمْرُ) ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا) ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ رسول الله: (إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِى قَتْلِهِ) . وَقَالَ سَالِمٌ، عن ابْنَ عُمَر: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ النّبِىَ، - عليه السلام -،

(3/339)


وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَرَآهُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ -[يَعْنِى فِى قَطِيفَةٍ] لَهُ - فِيهَا رَمْرَمةٌ، فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ: يَا صَافِ - وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ - هَذَا مُحَمَّدٌ، فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) ، وَقَالَ شُعَيْبٌ: رَمْرَمَةٌ فَرَصَهُ. / 84 - وفيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ غُلامٌ يَهُودِىٌّ يَخْدُمُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ الرسول يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ) ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ) . / 85 - وفيه: ابْنَ عَبَّاس، كُنْتُ أَنَا وَأُمِّى مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ، وَأُمِّى مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى، وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإسْلامِ، يَدَّعِى أَبَوَاهُ الإسْلام، َ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإسْلامِ، إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّىَ عَلَيْهِ، وَلا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لا يَسْتَهِلُّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ. . . .) الحديث. قال المهلب: يُصلى على الصبى الصغير المولود فى الإسلام، لأنه

(3/340)


كان على دين أبويه، وأما الصغير العجمى، فإنه يعرض عليه الإسلام، لعرض رسول الله على ابن صياد بقوله: (أتشهد أنى رسول الله) ؟ ولعرضه الإسلام على الصبى اليهودى الذى كان يخدمه. وقال ابن القاسم: إذا أسلم الصغير وقد عقل الإسلام، فله حكم المسلمين فى الصلاة عليه، ويباع على النصرانى إن ملكه، لأن مالكًا يقول: لو أسلم وقد عقل الإسلام، ثم بلغ فرجع عنه أجبر عليه. قال أشهب: وإن لم يعقله ثم أجبر الذمى على بيعه، ولا يؤخذ الصبى بإسلامه إن بلغ. وأجمع العلماء فى الطفل الحربى يُسبى ومعه أبواه أن إسلام الأب إسلام له، واختلفوا إذا أسلمت الأم، فذهب مالك إلى أنه على دين أبيه، وحجته إجماع العلماء أنه ما دام مع أبويه لم يلحقه، فحكمه حكم أبويه أبدًا حتى يبلغ، فكذلك إذا سبى لا يغير السباء حكمه حتى يبلغ، فيعبر عن نفسه، وكذلك إن مات لا يصلى عليه، وهو قول الشعبى. وقال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد: إسلام الأم إسلام للابن، كقول الحسن وشريح، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، ويصلى عليه إن مات عندهم. وقال سحنون: إنما يكون إسلام الأم إسلام له إذا لم يكن معه أبوه، وهو على دين أمه. قال عبد الواحد: وقول سحنون يعضده قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه) ، فشرك بينهما فى ذلك، فإذا انفراد أحدهما دخل فى معنى الحديث، وهذا معنى رواية معن عن مالك ومن وافقه. وإنما دعا النبى، - عليه السلام -، اليهودى الذى خدمه إلى الإسلام

(3/341)


بحضرة أبيه، لأن الله تعالى أخذ عليه فرض التبليغ لعباده، ولا يخاف فى الله لومة لائم. واختلفوا إذا لم يكن معه أبواه، ووقع فى المقاسم دونهما، ثم مات فى ملك مشتريه، فقال مالك فى المدونة: لا يصلى عليه إلا أن يجيبه إلى الإسلام بأمر يعرف أنه عفله، وهو المشهور من مذهبه. وروى معن: إذا لم يكن معه أحد من آبائه ولم يبلغ أن يتدين أو يُدْعَى، ونوى سيده الإسلام صلى عليه، وأحكامه أحكام المسلمين فى الدفن فى مقابر المسلمين والموارثة، وهو قول ابن الماجشون، وابن دينار، وأصبغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعى، والشافعى. واتفق جمهور العلماء على أنه لا يصلى على السقط حتى يستهل، وهو قول مالك والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وروى عن ابن عمر أنه يصلى عليه وإن لم يستهل، وهو قول أحمد وإسحاق، ذكره ابن المنذر، والصواب قول الجمهور، لأن من لم يستهل لم تصح له حياة، ولا يقال فيه أنه ولد على الفطرة، وإنما سن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الصلاة على من مات ممن تقدمت له حياة، لا من لم تصح له حياة. قال المهلب: وفى حديث ابن صياد من الفقه جواز التجسس على من يخشى منه فساد الدين والدنيا، وهذا الحديث يبين أن قوله تعالى: (ولا تجسسوا) [الحجرات: 12] ليس على العموم، وإنما المراد به عن التجسس على من لم يخش منه القدح فى الدين، ولم يضمر الغل للمسلمين، واستتر بقبائحه، فهذا الذى حاله التوبة والإنابة، وأما من خُشى منه مثل ما خُشى من ابن صياد، أو من كعب بن الأشرف وأشباههما ممن

(3/342)


كان يضمر الفتك بأهل الإسلام، فجائز التجسس عليه، وإعمال الحيلة فى أمره إذا خُشى منه. وقد ترجم لحديث ابن صياد فى كتاب الجهاد باب (ما يجوز من الاحتيال والحذر على من تخشى معرته) . وفيه من الفقه: أن للإمام أو الرئيس أن يعمل نفسه فى أمور الدين ومصالح المسلمين، وإن كان له من يقوم فى ذلك مقامه. وفيه: أن للإمام أن يهتم بصغار الأمور، ويبحث عنها خشية ما يئول منها من الفساد. قال عبد الواحد: قوله: (إن يكن هو فلن تسلط عليه) ، يعنى إن يكن الدجال فلن تسلط عليه، لأنه لابد أن ينفذ فيه قدر الله. وفيه: أنه يجب التثبت فى أصل التهم، وأن لا تستباح الدماء إلا بيقين، لقوله: (فإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله) ، وقيل: إن للإمام أن يصبر ويعفو إذا جُنى عليه، أو قوبل بما لا ينبغى، لقول ابن صياد للنبى: (أشهد أنك رسول الأميين) ، ولم يعاقبه. وفيه: أن للإمام والرئيس أن يكلم الكاهن، والمنجم على سبيل الاختبار لما عندهم، والعيب لما يَدَّعُونهُ، والإبطال لما ينتحلونه. وقال صاحب (العين) : الدخ، الدخان، وقوله (صلى الله عليه وسلم) لابن صياد: (اخسأ فلن تعدو قدرك) أى لن تعدو الكهانة، وإنما أنت كاهن ودجال، وقال صاحب (العين) : الزمزمة، أصوات العلوج عند الأكل، والزمزمة من الرعد ما لم يفصح.
62 - باب إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
/ 86 - فيه: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى طَالِبٍ: (أى عَمِّ، قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ

(3/343)


بِهَا عِنْدَ اللَّهِ) ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ، آخِرَ مَا كَلَّمَهُم: ْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمَا وَاللَّهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ. . .) . قال المهلب: إنما تنفع كلمة التوحيد لمن قالها قبل المعاينة للملائكة التى تقبض الأرواح، فحينئذ تنفعه شهادة التوحيد، وهو الذى يدل عليه كتاب الله، قال تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت) [النساء: 17] ، يعنى حضور ملك الموت، وهى المعاينة لقبض روحه، ولا يراهم أحد إلا عند الانتقال من الدنيا إلى دار الآخرة فَعَلِمَ ما انتقل إليه حين أدركه الغرق، بقوله: (آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) [يونس: 90] فقيل له: (الآن وقد عصيت قبل) [يونس: 91] وجاء فى التفسير أنه لما عاين ملك الموت، ومن معه من الملائكة أيقن، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل. حثا جبريل فى فمه الحمأة ليمنعه استكمال التوحيد حنقًا عليه، ويدل على ذلك قوله: (يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) [الأنعام: 158] ، أى لما رأى الآية التى جعلها الله علامة لانقطاع التوبة وقبولها، لم ينفعه ما كان قبل ذلك كما لم ينفع الإيمان بعد رؤية ملك الموت. قال المؤلف: وقد روى عن الرسول أنه قال لعمه عند الموت: (قل لا إله إلا الله، أحاج إليك بها عند الله) ، فإن قال قائل: فأى محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله به الجنة؟ . فالجواب: أنه

(3/344)


يحتمل وجوهًا فى التأويل: أحدها: أن يكون ظن (صلى الله عليه وسلم) أن عمه اعتقد أن من آمن فى مثل حاله لا ينفعه إيمانه، إذ لم يقارنه عمل سواه من صلاة وصيام وزكاة وحج وشرائط الإسلام كلها، فأعلمه (صلى الله عليه وسلم) أن من قال: لا إله إلا الله، عند موته أنه يدخل فى جملة المؤمنين، وإن تعرى من عمل سواها. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة، وأيقن بالموت، وصار فى حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذى قال فيه: أنا على ملة عبد المطلب عند خروج نفسه، فرجا له (صلى الله عليه وسلم) إن قال: لا إله إلا الله، وأيقن بنبوته أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله فى أن يتجاوز عنه، ويتقبل منه إيمانه فى تلك الحال، ويكون ذلك خاصًا لأبى طالب وحده لمكانه من الحماية والمدافعة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد روى مثل هذا المعنى عن ابن عباس. قال المؤلف: ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) قد نفعه وإن كان مات على غير الإسلام، لأنه يكون أخف أهل النار عذابًا، فنفعه له لو شهد بشهادة التوحيد، وإن كان ذلك عند المعاينة، أحرى بأن يكون، ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن أبا طالب كان ممن عاين براهين النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصدق معجزاته، ولم يشك فى صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيب النبى. وكان سائر المشركين ينظرون إلى رؤسائهم ويتبعون ما يقولون، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باءوا بإثمهم على تكذيب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فرجا له (صلى الله عليه وسلم) المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله، حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته وإثم من اقتدى به فى ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه بقوله: (أحاج لك بها عند الله) لئلا

(3/345)


يتردد فى الإيمان، ولا يتوقف عليه لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته، وتورطه فى أنه كان مضلا لغيره. وقيل: إن قوله: (أحاج لك بها عند الله) كقوله: (أشهد لك بها عند الله) لأن الشهادة المرجحة له فى طلب حقه، ولذلك ذكر البخارى هذا الحديث فى هذا الباب بلفظ (الشهادة) لأنه أقرب للتأويل، وذكر قوله: (أحاج لك بها عند الله) فى قصة أبى طالب فى كتاب مبعث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لاحتمالها التأويل، والله الموفق.
63 - باب الْجَرِيدِة عَلَى الْقَبْرِ
وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ على قَبْرِه جَرِيدَانِ. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلامُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ. وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: رَأَيْتُنِى وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِى زَمَنِ عُثْمَانَ، وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِى يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، حَتَّى يُجَاوِزَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: أَخَذَ بِيَدِى خَارِجَةُ، فَأَجْلَسَنِى عَلَى قَبْرٍ، وَأَخْبَرَنِى عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ ابْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ. / 87 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ) ، ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِى كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: (لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا) . وترجم له باب: (عذاب القبر من الغيبة والبول) . قال المؤلف: إنما خص الجريدتين للغرز على القبر من دون سائر النبات والثمار، والله أعلم، لأنها أطول الثمار بقاءً، فتطول مدة

(3/346)


التخفيف عنهما، وهى شجرة شبهها (صلى الله عليه وسلم) بالمؤمن، وقيل: إنها خلقت من فضلة طينة آدم، وإنما أوصى بريدة أن يجعل على قبره الجريدتان تأسيًا بالنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وتبركًا بفعله، ورجاء أن يخفف عنه، وقوله: (لعله أن يخفف عنهما) ف (لعل) معناها عند العرب: الترجى والطمع. ومعنى الحديث: الحض على ترك النميمة، والتحرز من البول، والإيمان بعذاب القبر، كما يرحم الله جماعة أهل السّنة، وإنما ترجم له باب (عذاب القبر من الغيبة والبول) ، وفى نص الحديث: (النميمة) فإنه استدل البخارى منه على أن تلك النميمة كان فيها شىء من الغيبة، والنميمة والغيبة محرمتان، وهما فى النهى عنهما سواء. وأما الجلوس على القبور فقد رويت أحاديث فى النهى عن القعود عليها، روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرنى أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، قال: سمعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) (ينهى أن يقعد على القبور، أو يبنى أو يجصص عليها) . وعن أبى بكرة، وابن مسعود: (لأن أطأ على جمرة نار حتى تطفأ أحب إلىّ من أن أطأ على قبر) . وأخذ النخعى، ومكحول، والحسن، وابن سيرين بهذه الأحاديث، وجعلوها على العموم، وكرهوا المشى على القبور والقعود عليها، وأجاز مالك، والكوفيون الجلوس على القبور، وقالوا: إنما نهى عن القعود عليها للمذاهب، فيما نرى والله أعلم، يريد حاجة الإنسان. واحتج بعضهم بأن على بن أبى طالب كان يتوسد القبور، ويضطجع عليها، وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، أن زيد

(3/347)


ابن ثابت، قال: (هلم يا ابن أختى أخبرك، إنما نهى رسول الله عن الجلوس على القبر لحدث بول أو غائط) ، فبين زيد فى هذا الحديث الجلوس المنهى عنه فى الآثار الأول ما هو، وروى مثله عن أبى هريرة، ذكره ابن وهب فى موطئه. قال الطحاوى: فعلمنا أن المقصود بالنهى هو الجلوس للبول والغائط لا ما سواهما، وقد تقدم فى كتاب الطهارة من معنى هذا الحديث ما تعلق بالباب، وسيأتى منه أيضًا فى كتاب الأدب، إن شاء الله تعالى.
64 - باب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ
/ 88 - فيه: عَلِىٍّ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَعَدَ، وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ، وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً) ، فَقَالَ رَجُلٌ لرَسُولَ اللَّهِ: أَفَلا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، قَالَ: (أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (الآيَةَ) . قال المؤلف: فيه جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والمواعظ. قال المهلب: ونَكْتُهُ (صلى الله عليه وسلم) بالمخصرة فى الأرض هو أصل ما أفتى به أهل العلم من تحريك الإصبع فى الصلاة للتشهد،

(3/348)


ومعنى النكت بالمخصرة هو إشارة إلى المعانى، وتفصيل الكلام وإحضار القلب للفصول، والمعنى، والمخصرة: عصا، وهذا الحديث أصل لأهل السُّنَّة فى أن السعادة والشقاء خلق لله، بخلاف قول القدرية الذين يقولون: إن الشر ليس بخلق لله، وفيه رد على أهل الجبر، لأن المجبر لا يأتى الشئ إلا وهو يكرهه، والتيسير ضد الجبر، ألا ترى قول الرسول: (إن الله تجاوز لى عن أمتى ما استكرهوا عليه) والتيسير هو أن يأتى الإنسان الشىء وهو يحبه، وسيأتى بقية الكلام فى هذا الحديث فى كتاب القدر، إن شاء الله تعالى.
65 - باب مَا جَاءَ فِى قَاتِلِ النَّفْسِ
/ 89 - فيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قال: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِا فِى نَارِ جَهَنَّمَ) . / 90 - وفيه: جُنْدَب، عن الرسول، قَالَ: (كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَدَرَنِى عَبْدِى بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) . / 91 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الَّذِى يَخْنُقُ نَفْسَهُ، يَخْنُقُهَا فِى النَّارِ، وَالَّذِى يَطْعُنُهَا، يَطْعُنُهَا فِى النَّارِ) . أجمع الفقهاء وأهل السُّنَّة أن من قتل نفسه أنه لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنه يصلى عليه، وإثمه عليه كما قال مالك، ويدفن فى مقابر المسلمين، ولم يكره الصلاة عليه إلا عمر بن عبد العزيز، والأوزاعى فى خاصة أنفسهما، والصواب قول الجماعة، لأن الرسول سن الصلاة على المسلمين، ولم يستثن منهم أحدًا، فيصلى على جميعهم الأخيار والأشرار إلا الشهداء الذين أكرمهم الله بالشهادة.

(3/349)


قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (بدرنى عبدى بنفسه، حرمت عليه الجنة) وسائر الأحاديث، فحملها عند العلماء فى وقت دون وقت إن أراد الله أن ينفذ عليه الوعيد، لأن الله فى وعيده للمذنبين بالخيار عند أهل السُّنَّة، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، فإن عذبه فإنما يعذبه مدة ما ثم يخرجه بإيمانه إلى الجنة، ويرفع عنه الخلود والتأبيد على ما جاء فى نص القرآن وحديث الرسول، فالقرآن قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48، 116] ، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قال: لا إله إلا الله، حرمه الله على النار) ، يعنى حرم خلوده على النار. وقوله: (من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال) كاذب لا كافر، ولا يخرج بهذا القول من الإسلام إلى الدين الذى حلف به، لأنه لم يقل ما يعتقده، ولذلك استحق اسم الكذب، فوجب أن يكون كما قال كاذبًا لا كافرًا. قال غيره: ومعنى الحديث النهى عن الحلف بما حلف به من ذلك والزجر عنه، وتقدير الكلام: من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال، يعنى فهو كاذب حقًا، لأنه حين حلف بذلك ظن أن إثم الكذب واسمه ساقطان عنه لاعتقاده أنه لا حرمة لما حلف به، لكن لما تعمد ترك الصدق فى يمينه، وعدل عن الحق فى ذلك، لزمه اسم الكذب، وإثم الحلف، فهو كاذب كذبتين: كاذب بإظهار تعظيم ما يعتقد خلافه، وكذب بنفيه ما يعلم إثباته أو بإثبات ما يعلم نفيه. فإن ظن ظان أن فى هذا الحديث دليل على إباحة الحلف بملة غير

(3/350)


الإسلام صادقًا لاشتراطه فى الحديث أن يحلف به كاذبًا، قيل له: ليس كما توهمت، لورود نهى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن الحلف بغير الله نهيًا مطلقًا، فاستوى فى ذلك الكاذب والصادق، وفى النهى عنه، وسيتكرر هذا الحديث فى كتاب الأيمان والنذور، وفى كتاب الأدب، ويأتى هناك من الكلام ما يقتضيه التبويب، إن شاء الله تعالى.
66 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ
/ 92 - فيه: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ بْنُ سَلُولَ دُعِىَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيُصَلِّىَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّى عَلَى ابْنِ أُبَىٍّ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (أَخِّرْ عَنِّى يَا عُمَرُ) ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: (إِنِّى خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّى إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا) ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا (إِلَى قَوْلِهِ: (وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 84] ، قَالَ: فَتَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال المؤلف: فرض على جميع المؤمنين، متعين على كل واحد منهم ألا يدعو للمشركين، ولا يُستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم لقوله تعالى: (ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين (إلى) الجحيم) [التوبة: 113] ، فإن قيل: إن إبراهيم استغفر لأبيه وهو كافر،

(3/351)


فالجواب: أن الله قد بيَّن عذره فى ذلك، فقال: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) [التوبة: 114] ، فدعا له وهو يرجو إجابته ورجوعه إلى الإيمان) فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه) [التوبة: 114] . ففى هذا من الفقه: أنه جائز أن يُدعى لكل من يرجى من الكفار إنابته بالهداية ما دام حيا، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما شَمَّتَهُ أحد المنافقين واليهود قال: (يهديكم الله ويصلح بالكم) ، وقد يعمل الرجل بعمل أهل النار، ويختم له بعمل أهل الجنة. وفيه: تصحيح القول بدليل الخطاب، لاستعمال الرسول له، ذلك أن إخبار الله أنه لا يغفر له ولو استغفر له سبعين مرة، يحتمل أنه لو زاد على السبعين أنه يغفر له لكن لما شهد الله أنه كافر بقوله: (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) [التوبة: 80] دلت هذه الآية على تغليب أحد الاحتمالين، وهو أنه لا يغفر له لكفره، فلذلك أمسك (صلى الله عليه وسلم) عن الدعاء له. قال الطبرى: وفيه الإبانة عن نهى الله ورسوله عن الصلاة على المنافقين، لاعتقادهم وإن كانوا يظهرون الإسلام اعتصامًا به وحقنًا لدمائهم، فأما القيام على قبورهم فغير محرم على غير رسول الله، بل جائز لوليِّه القيام عليه لإصلاحه ودفنه، وبذلك صح الخبر عن الرسول، وعمل به أهل العلم بعده، فدل ذلك أن القيام على قبره كان مخصوصًا بتحريمه رسول الله. والدليل على صحة ذلك ما حدثنا إسماعيل بن موسى، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبى إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علىّ، قال: لما مات أبو طالب أتيت النبى، فقلت له: إن عمك

(3/352)


الضال قد هلك، قال: اذهب فواره، ولا تحدثن شيئًا، فأتيته، فأمرنى أن اغتسل، ودعا لى بدعوات ما يسرنى أن لى بها حمر النعم. وروى الثورى، عن الشيبانى، عن سعيد ابن جبير، قال: مات رجل يهودى وله ابن مسلم، فذكر ذلك لابن عباس، قال: كان ينبغى له أن يمشى معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًا، فإذا مات وكله إلى شأنه، ثم قرأ: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه) [التوبة: 114] الآية. قال النخعى: توفيت أم الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة، وهى نصرانية، فاتبعها أصحاب رسول الله تكرمة للحارث ولم يصلوا عليها. قال المؤلف: وفى إقدام عمر على مراجعة الرسول فى الصلاة عليه من الفقه: أن الوزير الفاضل الناصح لا حرج عليه أن يخبر سلطانه بما عنده من الرأى، وإن كان مخالفًا لرأيه، وكان عليه فيه بعض الجفاء إذا علم فضل الوزير وثقته وحسن مذهبه، فإنه لا يلزمه اللوم على ما يؤديه اجتهاده إليه، ولا يتوجه إليه سوء الظن، وأن صَبْرَ السلطان على ذلك من تمام الفضل، ألا ترى سكوت النبى عن عمر، وتركه الإنكار عليه، وفى رسول الله أكبر الأسوة.
67 - باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ
/ 93 - فيه: أَنَس، مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَجَبَتْ) ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: (وَجَبَتْ) ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة، ُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأرْضِ) . / 94 - وفيه: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ

(3/353)


لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) ، فَقُلْنَا: وَثَلاثَةٌ؟ قَالَ: (وَثَلاثَةٌ) ، فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: (وَاثْنَانِ) ، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ. قال أبو جعفر الداودى: معنى هذا الحديث عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق، لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق، فلا يدخلون فى معنى هذا الحديث، والمراد، والله أعلم، إذا كان الثناء بالشرِّ ممن ليس له بعدو، لأنه قد يكون للرجل الصالح العدو، فإذا مات عدوه ذَكَر عند ذلك الرجل الصالح شرًا، فلا يدخل الميت فى معنى هذا، لأن شهادته كانت لا تجوز عليه فى الدنيا، وإن كان عدلاً، للعداوة، والبشرُ غير معصومين. قال عبد الواحد: إن قال قائل: حديث أنس يعارضه قوله (صلى الله عليه وسلم) فى باب ما ينهى عنه من سب الأموات: (لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) . قيل له: حديث أنس هذا يجرى مجرى الغيبة فى الأحياء، فإن كان الرجل أغلب أحواله الخير، وقد تكون منه الفلتة، فالاغتياب له محرم، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة فيه. فكذلك الميت إذا كان أغلب أحواله الخير لم يجز ذكر ما فيه من شر ولا سبه به، وإن كان أغلب أحواله الشر فيباح ذكره منه، وليس ذلك مما نهى عنه من سب الأموات، ويؤيد ذلك ما أجمع عليه أهل العلم من ذكر الكذابين وتجريح المجرَّحين. وفيه وجه آخر: وهو أن حديث: (لا تسبوا الأموات) عام، وسببه ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أمسكوا عن ذى قبر) ، فيحتمل أن يكون (صلى الله عليه وسلم) أباح ذكر الميت بما فيه من غالب الشر عند موته

(3/354)


خاصة، ليتعظ بذلك فساق الأحياء، فإذا صار الميت فى قبره وجب الإمساك عنه لإفضائه إلى ما قدم كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، فسقط التعارض. فإن قيل: فلا حجة فى جواز تجريح المحدثين، لأن الضرورة دعت إلى ذلك حياطة لحديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فجاز تخصيصهم للضرورة. قيل له: هو مثل الذى غلب عليه الفسق، فوجب ذكر فسقه تحذيرًا من حاله، وهو من هذا الباب، ومثله، مما لا اعتراض لك فيه، ذكره (صلى الله عليه وسلم) للذى يعمل حسنة وهو مؤمن، فبذلك غفر له، فذكره بقبيح عمله إذا كان الغالب على عمله الشرّ انتفع بخشية الله تعالى. قال المؤلف: فإن قال قائل: فإن حديث أنس مخالف لحديث عمر، لأنه لم يشترط فى الذين أثنوا على الجنازة خيرًا وشرًا عددًا من الناس لا يجزئ أقل منهم، وأحال فى ذلك (صلى الله عليه وسلم) ما يغلب على الرجل بعد موته عند جملة من الناس من ثناء الخير والشر، أنه المحكوم به له فى الآخرة، وقد جاء بيان هذا فى حديث آخر: (إن الله إذا أحب عبدًا أمر الملائكة أن تنادى فى السماء: ألا إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يجعل له القبول فى الأرض، وإذا أبغض عبدًا. . . .) كذلك فهو معنى قوله: (أنتم شهداء الله فى الأرض) لأن المحبة والبغضة من عنده تعالى، ويشهد لصحة هذا قوله تعالى: (وألقيت عليك محبة منى) [طه: 39] . فإن قيل: فهذا المعنى مخالف لحديث عمر، لأنه شرط فيه أربعة شهداء، أو ثلاثة، أو اثنين، وفى الحديث الأول شرط جملة كثيرة من المؤمنين، وإن لم يحصرهم عدد. قيل: ليس كما توهمت، وإنما

(3/355)


اختلف العددان لاختلاف المعنيين، وذلك أن الثناء قد يكون بالسماع المتصل على الألسنة، فاستحب فى ذلك التواتر والكثرة، والشهادة لا تكون إلا بالمعرفة والعلم بأحوال المشهود له، فناب فى ذلك أربعة شهداء، وذلك على ما يكون من الشهادة، لأن الله جعل فى الزنا أربعة شهداء، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه ثلاثة، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه اثنان، وذلك أقل ما يجزئ من الشهادة على سائر الحقوق، رحمة من الله لعباده المؤمنين، وتجاوزًا عنهم حين أجرى أموره فى الآخرة على ما أجراه فى الدنيا، وقَبِلَ شهادة رجلين من عباده المؤمنين بعضهم على بعض فى أحكام الآخرة. روى ابن وضاح، قال: حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بقية، قال: حدثنا الضحاك بن حُمرة، عن صالح الأملوكى، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من ميت يموت فيشهد له رجلان من جيرته الأدنيين، فيقولان: اللهم لا نعلم إلا خيرًا، إلا قال الله لملائكته: أشهدكم أننى قد قبلت شهادتهم، وغفرت له ما لا يعلمون) .

(3/356)


68 - باب مَا جَاءَ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ (إلى) الْهُونِ) [الأنعام: 93]
. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْهُونُ هُوَ الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ الرِّفْقُ، وَقَوْلُهُ تعالى: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) [التوبة: 101] ، وَقَوْلُهُ: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (إلى) أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 45] . / 95 - فيه: الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِى قَبْرِهِ أُتِىَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ () [إبراهيم: 27] . وَقَالَ شُعْبَة: نَزَلَتْ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ. / 96 - وفيه: ابْنَ عُمَر، اطَّلَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ، فَقَالَ: (وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟) فَقِيلَ لَهُ: أتَدْعُو أَمْوَاتًا قَدْ جُيَّفُوا؟ فَقَالَ: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لا يُجِيبُونَ) . وقَالَتْ عَائِشَة: إِنَّمَا قَالَ الرسول: (إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ) ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] . وَقد قَالَتْ عَائِشَة: أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ،

(3/357)


فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (نَعَمْ، عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ) ، فَمَا صَلَّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صَلاةً إِلا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. / 97 - وفيه: أَسْمَاءَ، قَامَ النّبِىّ خَطِيبًا، فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الذِّى يَفْتَتِنُ به الْمَرْءُ. / 98 - وفيه: أَنَس، قَالَ الرَسُول: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَان، ِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ له: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ. . . .) ؟ الحديث (فَيُضْرَبُ بِمَطَرِقَة مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إلا الثَّقَلَيْنِ) . قال أبو بكر بن مجاهد: أجمع أهل السُّنَّة أن عذاب القبر حق، وأن الناس يُفتنون فى قبورهم بعد أن يُحيوا فيها ويُسألوا فيها، ويثبت الله من أحب تثبيته منهم. وقال أبو عثمان بن الحداد: وإنما أنكر عذاب القبر بشر المريسى والأصم وضرار، واحتجوا بقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] واحتجوا بمعارضة عائشة لابن عمر. قال القاضى أبو بكر بن الطيب وغيره: قد ورد القرآن بتصديق الأخبار الواردة فى عذاب القبر، قال تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) [غافر: 46] وقد اتفق المسلمون أنه لا غدوة ولا عشى فى الآخرة، وإنما هما فى الدنيا، فهم يعرضون مماتهم على النار قبل يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، قال تعالى: (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر: 46] ، فإذا جاز أن يكون المكلَّف بعد موته معروضًا على النار غدوا وعشيًا، جاز أن يسمع

(3/358)


الكلام ويمنع الجواب، لأن اللذة والعذاب تجىء بالإحساس، فإذا كان كذلك وجب اعتقاد رد الحياة فى تلك الأجساد، وسماعهم للكلام، والعقل لا يدفع هذا، ولا يوجب حاجة إلى بلة ورطوبة، وإنما يقتضى حاجتها إلى المحل فقط، فإذا صح رد الحياة إلى أجسامهم مع ما هم عليه من نقص البنية، وتقطع الأوصال، صح أن يوجد فيهم سماع الكلام، والعجز عن رد الجواب. وقد ذكر البخارى فى غزوة بدر بعد قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ، قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم، توبيخًا ونقمة وحسرة وندمًا. وعلى تأويل قتادة فقهاء الأئمة وجماعة أهل السُّنَّة، وعلى ذلك تأوله عبد الله بن عمر، راوى الحديث عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . قال القاضى: وليس فى قول عائشة ما يعارض قول ابن عمر، لأنه يمكن (صلى الله عليه وسلم) أن يكون قد قال فى قتلى بدر القولين جميعًا، ولم تحفظ عائشة إلا أحدهما، لأن القولين غير متنافيين، أن ما دعوا الله لا ينفى رد الحياة إلى أجسامهم، وسماعهم للنداء بعد موتهم إذا عادوا أحياء. وقال الطبرى فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون) ، اختلف السلف من العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت جماعة يكثر تعدادهم بالعموم، وقالت: إن الميت يسمع كلام الأحياء، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) لأهل القليب ما قال، وقال: (ما أنتم بأسمع منهم) ، واحتجوا بأحاديث فى معنى قوله فى الميت: (إنه ليسمع قرع نعالهم) .

(3/359)


ذكْرُ من قال يسمعون كلام الأحياء ويتكلمون، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن عوف، حدثنا عوف، عن جلاس، عن أبى هريرة، قال: (إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًا كرهوه، وإنهم يستخبرون الميت إذا أتاهم من مات بعدهم، حتى إن الرجل ليسأل عن امرأته أتزوجت أم لا؟ وحتى إن الرجل ليسأل عن الرجل، فإذا قيل له: قد مات، قالوا: هيهات ذهب، فإن لم يحسوه عندهم، قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية) . وروى ابن وهب، عن العطاف بن خالد، عن خالته، وكانت من العوابد، أنها كانت تأتى قبور الشهداء، قالت: صليت يومًا عند قبر حمزة بن عبد المطلب، فلما قمت، قلت: السلام عليكم فسمعت أذناى رد السلام يخرج من تحت الأرض، أعرفه كما أعرف أن الله خلقنى، وما فى الوادى داعٍ ولا مجيب، فاقشعرت كُلُّ شعرة منى. وعن عامر بن سعد: أنه كان إذا خرج إلى قبور الشهداء يقول لأصحابه: ألا تسلمون على الشهداء فيردون عليكم. وقال آخرون: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ما أنتم بأعلم أنه حق منهم، ورووا ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وذكروا قول عائشة حين أنكرت على ابن عمر، وقالت: إنما

(3/360)


قال عليه السلام: إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم الحق. قالوا: فخبر عائشة بين ما قلنا من تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. أنه يراد به ما أنتم بأعلم لا أنه خبر عن أنهم يسمعون أصوات بنى آدم وكلامهم، قالوا: ولو كانوا يسمعون كلام الناس وهم موتى، لم يكن لقوله: (إنك لا تسمع الموتى) [النمل: 80] ) وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] معنى. قال الطبرى: والصواب من القول فى ذلك أن كلا الروايتين عن النبى فى ذلك صحيح لعدالة نقلتها، والواجب الإيمان بها، والإقرار بأن الله يُسمع من يشاء من خلقه بعد موتهم، ما شاء من كلام خلقه، ويُفهم ما يشاء منهم ما يشاء، ويُنعِّم من أحب منهم، ويعذب فى قبره الكافر، ومن استحق العذاب كيف أراد، على ما صحت به الأخبار عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وليس فى قوله: (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] ، حجة فى دفع ما صحت به الآثار من قوله لأصحابه فى أهل القليب: (ما أنتم بأسمع منهم) ، ولا فى إنكار من أنكر ما ثبت من قوله: (إنه ليسمع قرع نعالهم) إذا كان قوله: (وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] ، و) إنك لا تسمع الموتى) [النمل: 80] محتملاً من التأويل وجهًا سوى ما تأوله من زعم أن الميت لا يسمع كلام الأحياء، وذلك أن يكون معناه: فإنك لا تسمع الموتى بطاقتك وقدرتك، إذ كان خالق السمع غيرك، ولكن الله هو الذى يُسمعهم.

(3/361)


وذلك نظير قوله: (وما أنت بهاد العمى عن ضلاتهم) [النمل: 81] وذلك بالتوفيق والهداية بيد الله دون من سواه، فنفى عن نبيه أن يكون قادرًا أن يسمع الموتى إلا بمشيئة، كما نفى أن يكون قادرًا على هداية الضلال إلا بمشيئته، وإنما أنت نذير، فبلغ ما أُرسلت به. والثانى: أن يكون المعنى: فإنك لا تسمع الموتى إسماعًا ينتفعون به، لأنهم قد انقطعت عنهم الأعمال، وخرجوا من دار العمل إلى دار الجزاء، فلا ينفعهم دعاؤك إياهم إلى الإيمان بالله وبطاعته، فكذلك هؤلاء الذين كتب عليهم ربك أنهم لا يؤمنون، لا يسمعهم دعاؤك إياهم إسماعًا ينتفعون به، لأن الله قد حتم عليهم ألا يؤمنوا، كما حتم على أهل القبور من أهل الكفر أنهم لا ينفعهم بعد كونهم فى القبور عمل، لأن الآخرة ليست بدار امتحان، وإنما هى دار جزاء. وكذلك قوله: (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] الجهال، يريد أنك لا تقدر على إفهام من جعله الله جاهلاً، ولا تقدر على إسماع من جعله الله أصم عن الهدى، وفى صدر الآية ما يدل على هذا، لأنه قال: (وما يستوى الأعمى والبصير) [فاطر: 19] يعنى بالأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن) ولا الظلمات ولا النور) [فاطر: 20] يعنى بالظلمات: الكفر، والنور: الإيمان،) ولا الظل ولا الحرور) [فاطر: 21] يعنى بالظل: الجنة، وبالحرور: النار،) وما يستوى الأحياء ولا الأموات) [فاطر: 22] يعنى بالأحياء: العقلاء، وبالأموات: الجهال، ثم قال: (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور (يعنى: إنك لا تسمع الجهال الذين كأنهم

(3/362)


موتى فى القبور، ولم يرد بالموتى الذين ضربهم مثلاً للجهال شهداء بدر، فيحتج علينا بهم، أولئك أحياء كما نطق التنزيل. وقال أبو عثمان بن الحداد: وليس فى قوله تعالى: (لا يذقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] ما يعارض ما ثبت من عذاب القبر، فقال: (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] الآية، فلما كانت حياة الشهداء قبل محشرهم ليست برادة، لقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] ومن أنكر حياة الشهداء بعد موتهم قبل محشر الناس، وادعى أن قوله تعالى: (أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] يوم القيامة أبطل ما اقتضاه قوله: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) [آل عمران: 169] لأن الشهداء وغيرهم من جميع الناس يتوافون يوم القيامة، ويستحيل فيمن وافاه غيره أن يقال فى الذى وافاه أنه سيلحقه، ويقال فيه بأنه خلفه. قال غيره: والأخبار فى عذاب القبر صحيحة متواترة لا يصح عليها التواطؤ، وإن لم يصح مثلها لم يصح شىء من أمر الدين. واختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: (سنعذبهم مرتين) [التوبة: 101] ، قال الحسن، وابن جريج: عذاب الدنيا وعذاب القبر، وقال مجاهد: القتل والسباء، وأما قوله: (فاليوم تجزون عذاب الهون) [الأحقاف: 20] فى الآخرة. وقال غيره: لما بعثوا وصاروا إلى النار قالت الملائكة: اليوم تجزون عذاب الهون، قال: الهوان.

(3/363)


69 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
/ 99 - فيه: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: (يَهُودُ تُعَذَّبُ فِى قُبُورِهَا) . / 100 - وفيه: ابْنَةُ خَالِدِ أم سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. / 101 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدْعُو: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) . قال المؤلف: هذه الآثار تشهد للآثار التى فى الباب قبل هذا، أن عذاب القبر حق على ما ذهب إليه أهل السُّنَّة، ألا ترى الرسول استعاذ بالله منه، وقد عصمه الله وطهره، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فينبغى لكل من علم أنه غير معصوم ولا مطهر أن يكثر التعوذ مما استعاذ منه نبيه، ففى أكرم الأكرمين أسوة. فإن قيل: فإذا أخبر الله نبيه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما وجه استعاذته (صلى الله عليه وسلم) من شىء قد علم أنه قد أعيذ منه؟ . فالجواب: أن فى استعاذته (صلى الله عليه وسلم) من كل ما استعاذ منه إظهارًا للافتقار إلى الله، وإقرارًا بالنعم، واعترافًا بما يتجدد من شكره عليها ما يكون كفًا لها ألا ترى أنه كان يصلى حتى تتفطر قدماه فيقال له: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . فمن عظمت عليه نعم الله وجب عليه أن يتلقاها بعظيم الشكر، لاسيما أنبياءه وصفوته من خلقه الذين اختارهم، وخشيةُ العباد لله

(3/364)


على قدر علمهم به. وفى استعاذته مما أُعيذ منه تعليم لأمته، وتنبيه لهم على الاقتداء به واتباع سُنته وامتثال طريقته، والله أعلم.
70 - باب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ
/ 102 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال بعض أهل بلدنا: معنى العرض فى هذا الحديث الإخبار بأن الله موضعُ أعمالكم، والجزاء لها عند الله، وأريد بالتكرير بالغداة والعشى تذكارهم بذلك، ولسنا نشك أن الأجساد بعد الموت والمساءلة هى فى الذهاب وأكل التراب لها والفناء، ولا يعرض شىء على فانٍ، فَبَانَ أن العرض الذى يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الأرواح خاصة، وذلك أن الأرواح لا تفنى، وأنها باقية إلى أن يصير العباد إلى الجنة أو النار. وقال القاضى ابن الطيب: اتفق المسلمون أنه لا غدو ولا عشى فى الآخرة، وإنما هو فى الدنيا، فهم معروضون بعد مماتهم على النار، وقيل: يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، فمن عرض عليه النار غدوًا وعشيًا أحرى أن يسمع الكلام. قال غيره: واستدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، وهو أصح ما ذهب إليه فى ذلك، لأن الأحاديث بذلك أثبت من غيرها. قال الداودى: ومما يدل على حياة الروح والنفس، وأنهما لا يفنيان قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها (إلى) مسمى) [الزمر: 42] ، والإمساك لا يقع على الفانى.

(3/365)


71 - باب كَلامِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَنَازَةِ
/ 103 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُونِى، قَدِّمُونِى، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَىْءٍ إِلا الإنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإنْسَانُ لَصَعِقَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل أن روح الميت تتكلم بعد مفارقته لجسده، وقبل دخوله فى قبره، والكلام لا يكون إلا من الروح، وقد جاءت آثار تدل على معرفة الميت من يحمله ويدخله فى قبره، وروى الطبرى، قال: حدثنا محمد بن يزيد الأدمى، حدثنا أبو عامر، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثى، حدثنا سعيد بن عمرو بن سليمان الزرقى، قال: سمعت رجلاً اسمه معاوية، أو ابن معاوية، قال: سمعت من أبى سعيد الخدرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إن الميت ليعرف من يحمله ومن يغسله ومن يدليه فى قبره) . وحدثنا محمد بن يزيد، حدثنا محمد بن عثمان بن صفوان، حدثنا حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: إذا مات الميت فملك قابض نفسه، فما من شىء إلا وهو يراه عند غسله، وعند حمله حتى يصل إلى قبره.

(3/366)


قال عبد الواحد: إن قال قائل: كيف ترجم البخارى باب (كلام الميت على الجنازة) وأدخل حديثًا يدل أن الجنازة: الميت؟ قيل: إنما ترجم ذلك لمعرفته باللغة، قال صاحب العين: الجنَازة، بالفتح: الميت، والجنِازة، بالكسر: خشب السرير الذى يحمل عليه الميت، فإنما أراد كلام الميت على النعش، وبالله التوفيق.
72 - باب مَا قِيلَ فِى أَوْلادِ الْمُسْلِمِينَ
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ) . / 104 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاثَةٌ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ) . / 105 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ رسُول اللَّه لَمَّا تُوُفِّىَ إِبْرَاهِيمُ: (إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِى الْجَنَّةِ) . وقال بعض العلماء: الثلاثة داخلة فى حيز الكثير، وقد يصاب المؤمن فيكون فى إيمانه من القوة ما يصبر للمصيبة، ولا يصبر لتردادها عليه، فلذلك صار من تكررت عليه المصائب فَصَبَر، أوْلَى بجزيل الثواب، والولد من أجل ما يسر به الإنسان لقد يرضى أن يفديه بنفسه، هذا هو المعهود فى الناس والبهائم، فلذلك قصد رسول الله إلى أعلى المصائب والحض على الصبر عليها. وقد روى عنه أنه قال: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جُنَّة من النار) ، ومعنى الحِسْبَةِ: الصبر لما ينزل به، والاستسلام لقضاء الله عليه، فإذا طابت نفسه على الرضا عن

(3/367)


الله فى فعله، استكمل جزيل الأجر، وقد جاء أنه ليس شىء من الأعمال يبلغ مبلغ الرضا عن الله فى جميع النوازل، وهذا معنى قوله: (رضى الله عنهم ورضوا عنه) [المائدة: 119] يريد رضى أعمالهم، ورضوا عنه بما أجرى عليهم من قضائه، وما أجزل لهم من عطائه. وقوله: (لم يبلغوا الحنث) يريد لم يبلغوا أن تجرى عليهم الأقلام بالأعمال، والحنث: الذنب العظيم. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) ، هو دليل قاطع أن أولاد المسلمين فى الجنة، لأنه لا يجوز أن يرحم الله الآباء من أجل من ليس بمرحوم، ويشهد لصحة هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) فى ابنه إبراهيم: (إن له مرضعًا فى الجنة) ، وعلى هذا القول جمهور علماء المسلمين أن أطفال المسلمين فى الجنة إلا المجبرة، فإنهم عندهم فى المشيئة، وهو قول مجهول مردود بإجماع الحجة الذين لا يجوز عليهم الغلط، ولا يسوغ مخالفتهم.
73 - باب أولاد المشركين
/ 106 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، وأَبُو هُرَيْرَةَ، أن النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سُئِلَ عَنْ أَوْلادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: (اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . / 107 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) .

(3/368)


74 - بَاب
/ 108 - فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟) فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: (مَا شَاءَ اللَّهُ) ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ: (هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟) قُلْنَا: لا، قَالَ: (لَكِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَأَخَذَا بِيَدِى، فَأَخْرَجَانِى إِلَى الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ - قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى: كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يدخله فِى شِدْقِهِ - حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ، أَوْ صَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، وَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَوا أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ - قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ: وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ - رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِى النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِى فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ، رَمَى فِى فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ

(3/369)


كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِى أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِى فِى الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلانِى دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِى مِنْهَا، فَصَعِدَا بِى الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلانِى دَارًا هِىَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِى اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِى عَمَّا رَأَيْتُ، قَالا: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِى رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بما فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِى الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِى النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِى أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ أَوْلادُ النَّاسِ، وَالَّذِى يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الأولَى الَّتِى دَخَلْتَها دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى، فَإِذَا فَوْقِى مِثْلُ السَّحَابِ، قَالا: ذَاكَ مَنْزِلُكَ، قُلْتُ: دَعَانِى أَدْخُلْ مَنْزِلِى، قَالا: إِنَّهُ بَقِىَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ) . قال بعض العلماء: جهل قوم معنى الفطرة فى هذا الحديث، وقالوا: إنها الإسلام، فتأولوا فى قوله: (فطرت الله التى فطر الناس عليها) [الروم: 30] يعنى دين الإسلام، روى هذا عن أبى هريرة وعكرمة، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة، والزهرى، وقال جماعة من العلماء وأهل اللغة: الفطرة فى هذا الحديث: الخلقة التى خلق عليها المولود المضطرة إلى الإفداء يريد كأنه قال - عليه السلام -: كل

(3/370)


مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التى لا تصل بخلقتها إلى معرفة، واحتجوا على أن الفطرة: الخلقة بقوله تعالى: (فاطر السموات والأرض) [الأنعام: 14] يعنى خالقهن، وبقوله: (وما لى لا أعبد الذى فطرنى) [يس: 22] أى خلقنى، وقال: المراد بقوله: (فطرت الله التى فطر الناس عليها) [الروم: 30] الخلقة، بدليل قوله: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] يعنى لا تبديل لخلقته عما خلقه عليه. وقد ثبت عن الرسول قال: (لما خلق الله آدم مسح ظهره بيمينه، وكلتا يديه يمين، ثم قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح الأخرى، وقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون) ، فلما صح عندنا هذا الحديث مع تصديق الله له بقوله: (وإذ أخذ ربك من بنى آدم (إلى) بلى) [الأعراف: 172] علمنا أن أخذه لهم من ظهر آدم إنما كان للإشهاد عليهم، وكان هذا الأخذ هو الاختراع الأول فى إخراجهم من العدم إلى الوجود، ثم ردهم فى ظهور آبائهم على ما جاء فى الخبر. فبان أن هذه الفطرة هى الخلقة الأولى التى فطر الناس عليها لا تبديل لها، وقد جاء فى الأخبار أنه حين أشهدهم على أنفسهم أو جميعهم على أنفسهم بالعبودية ولله تعالى بالربوبية، لكنه كان إقرار أصحاب اليمين بألسنتهم، وقلوبهم ليتم علم الله بهم، ومراده فيهم، وإقرار الآخرين بألسنتهم دون قلوبهم خذلانًا من الله ليتم مراده، وعلمه فيهم أنهم من أهل النار. فإذا صاروا فى بطون أمهاتهم ظهر فيهم بعض علم الله السابق

(3/371)


فيسأل الملكُ الله عن خلقه: الأنثى والذكر، والسعادة والشقاوة، والرزق والأجل، فيكتب ذلك فى بطن أمه، فبان أن الفطرة التى يولد عليها هى الخلقة الأولى التى سبقت له، التى لا يجوز تبديلها، فإن كان فى الفطرة الأولى مؤمنًا ولد مؤمنًا، وإن كان فيها كافرًا ولد كافرًا على ما سبق له فى علم الله، يصدق ذلك قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] لكن لا يظهر عليه شىء من ذلك فى حال ولادته، وإنما يظهر عليه إذا ظهر عمله بالقول والجوارح. فإن قيل: فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه. . .) الحديث، فينبغى أن يكون سالمًا من اليهودية، أو النصرانية حين تلده أمه، ألا ترى قوله: (كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء، هل ترى فيها جدعاء) . قيل له: فى قوله: (كل مولود يولد على الفطرة) بيان أن الفطرة الإيمان العام، وإنما فيه أنه يولد على تلك الخلقة التى لم يظهر منها إيمان ولا كفر، لكن لما حملهم آباؤهم على دينهم ظهر منهم ما حملوهم عليه من يهودية أو نصرانية، ثم أراد الله إمضاء ما علمه وقدره فى كل واحد منهم بما أجرى له فى بُدِّ الأمر من كفر، أو إيمان، ختم لهم به. يدل على ذلك حديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب الأول فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) . وقال فى أهل النار مثل ذلك. فبان أن الكتاب الأول هو المعمول عليه الذى لا يجوز تبديله، ولو كانت الفطرة: الإسلام لما جاز أن يكون أحدٌ كافرًا لقوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] لأنه لا يجوز أن يكفر من خلقه الله للإيمان.

(3/372)


وقد اختلف العلماء فى أطفال المشركين، فقال أكثرهم: هم فى المشيئة، وتأولوا فى قوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين) [المدثر: 39] ، قال: هم أطفال المؤمنين، وقيل: هم أصحاب الملائكة، وقال آخرون: حكم الأطفال حكم آبائهم فى الدنيا والآخرة، وهم مؤمنون بإيمانهم، وكافرون بكفرهم، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى أطفال المشركين يصابون فى الحرب: (هم من آبائهم) . وقال آخرون: أولاد الكفار يمتحنون فى الآخرة. وقال آخرون: أولاد المشركين فى الجنة مع أولاد المسلمين، واحتجوا بحديث سمرة ابن جندب، ذكره البخارى فى كتاب التعبير: (وأما الرجل الطويل الذى فى الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال بعض المسلمين: يا رسول الله، فأولاد المشركين؟ فقال رسول الله: وأولاد المشركين) . وهذه الحجة قاطعة، وهذه الرواية يفسرها ما جاء فى حديث هذا الباب أن الشيخ إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس، لأن هذا اللفظ يقتضى عمومه لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وهذا القول أصح ما فى هذا الباب من طريق الآثار وصحيح الاعتبار. فإن قيل: فإذا صح هذا القول فى أطفال المشركين، فما معنى قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين؟) وهذا يعارض حديث سمرة الذى بيَّن فيه حكمهم، أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين. قيل: هذا يحتمل وجوهًا من التأويل: أحدها: أن يكون قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين) ، قيل: أن يعلمه الله أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين، لأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وإنما ينطق عن الوحى. ويحتمل قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين) أى على أى دين

(3/373)


كان يميتهم لو عاشوا فبلغوا العمل، فأما إذ عدم منهم العمل، فهم فى رحمة الله التى ينالها من لا ذنب له. وقيل: قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين) مجمل يفسره قوله: (وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم) [الأعراف: 172] الآية، فهذا إقرار عام يدخل فيه أولاد المشركين والمسلمين، فمن مات منهم قبل بلوغ الحنث ممن أقر الإقرار أولاد الناس كلهم، فهو على إقراره المتقدم لا يقضى له بغيره، لأنه لم يدخل عليه ما ينقضه إلى أن يبلغ الحنث، فسقطت المعارضة بين الآثار، فهذه الوجوه المحتملة. وأما من قال: حكمهم حكم آبائهم، فهو مردود بقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 164] وإنما حكم لهم بحكمهم فى الدنيا لا فى أحكام الآخرة، أى أنهم إن أصيبوا فى التبييت والغارة لا قود فيهم ولا دية، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن قتل النساء والصبيان فى الحرب. وأما من قال: إنهم يمتحنون فى الآخرة، فهو قول لا يصح، لأن الآثار الواردة بذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة، والآخرة دار جزاء ليست دار عمل وابتلاء. وقوله: (كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء) مجتمعة الخلق صحيحة (هل تحس فيها من جدعاء) يقول: هل ترى فيها من جدع؟ أى نقصان حين تنتج، وإنما يصيبها الجدع والنقصان بعد ذلك، فكذلك يُهودُ هؤلاء أبناءهم وينصرونهم بعد أن كانوا على الفطرة كما أن المنتوج من الإبل لولا أن هؤلاء قطعوا أذنه لكان صحيحًا، وذلك كله بقدر الله. وقوله: (بيده كلوب) والكلاب: خشبة فى رأسها عُقَّافَة،

(3/374)


وقوله: (تدهده) يقال: دهدهت الحجر، ودهديته إذا دحرجته، أدهدهه وأدهديه دهدهة ودهاهًا ودهدًا.
75 - باب مَوْتِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ
/ 109 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ الصديق، فَقَالَ: فِى كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتْ: فِى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ، فَقَالَ لَهَا: فِى أَىِّ يَوْمٍ تُوُفِّىَ؟ قَالَتْ: يَوْمَ الاثْنَيْنِ، قَالَ: فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالَتْ: يَوْمُ الإثْنَيْنِ، قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَ اللَّيْلِ، فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِى هَذَا، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ، وَكَفِّنُونِى فِيهما، قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلَقٌ، قَالَ: إِنَّ الْحَىَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ، فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاثَاءِ، وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ. قال المؤلف: إنما سأل أبو بكر الصديق ابنته عن أى يوم توفى فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طمعًا أن يوافق ذلك اليوم تبركًا به، وقديمًا أحب الناس التبرك بأثواب الصالحين، وموافقتهم فى المحيا والممات، رغبة فى الخير، وحرصًا عليه، كفعل ابن عمر فى كثير من حركات النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وآثاره التى ليست بسنن، فكان يقف فى الموضع الذى وقف النبى ويدور بناقته فى المكان الذى أدار فيه النبى ناقته، وهذا كله وإن لم يوجب فضلاً، فإن ابن عمر إنما فعل ذلك محبة فى النبى، ومحافظة على اقتفاء آثاره، ومن اقتدى به (صلى الله عليه وسلم) فيما لا يلزم من حركاته كان أحرص على الاقتداء به فيما يلزم اتباعه فيه. وقد اتفق أهل السُّنَّة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولد يوم الاثنين،

(3/375)


وأنزل عليه يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفى يوم الاثنين، وكان يصوم يوم الاثنين والخميس، وذكر مالك فى الموطأ، عن أبى هريرة، أنه قال: (تعرض أعمال الناس كل جمعة مرتين: يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدًا كانت بينه وبين أخيه شحناء) ، فهذه فضيلة يوم الاثنين والخميس. وقد روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فيمن مات يوم الجمعة فضيلة، ذكرها ابن أبى الدنيا، قال: حدثنا أحمد بن الفرج الحمصى، قال: حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا معاوية ابن سعيد، عن أبى قبيل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يقول: (من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتان القبر) . وروى ابن وهب، عن الليث بن سعد، عن أبى عثمان الوليد بن الوليد، أن أبا عبيدة بن عقبة، قال: (من مات يوم الجمعة أمن فتنة القبر) ، وقال: إنى ذكرته للقاسم بن محمد، فقال: صدق أبو عبيدة. وقوله: (ردع من زعفران) أى لطخ، قال أبو على: يقال: بدا من الزعفران ردعه أى ملتطخه. قال أبو عبيدة: وقوله: (الحى أحوج إلى الجديد) خلاف قول من يقول: يتزاورون فى أكفانهم، فيجب تحسينها، ألا تراه يقول: (فإنما هو للمهلة) ويشهد لذلك قول حذيفة حين أتى بكفنه ريطتين، فقال: لا تغالوا بكفنى، الحى أحوج إلى الجديد من الميت، أى لا ألبث إلا يسيرًا حتى أبدل منهما

(3/376)


خيرًا منهما، أو شرًا منهما، ومنه قول ابن الحنفية: ليس للميت من الكفن شىء، وإنما هو تكرمة للحى. وأما من خالف هذا ورأى تحسين الأكفان، فروى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يبعثون فيها يوم القيامة. وعن معاذ بن جبل مثله، وأوصى ابن مسعود أن يكفن فى حلة بمائتى درهم. وروى روح، عن زكريا بن إسحاق، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه) . قال ابن المنذر: وبحديث جابر قال الحسن وابن سيرين، وكان إسحاق يقول: يغالى بالكفن إذا كان موسرًا، وإن كان فقيرًا فلا يغال به. وقوله: (إنما هو للمهلة) قال أبو عبيد: المهل فى هذا الحديث: الصديد والقيح، والمهل فى غير هذا: كل فلز أذيب كالذهب والفضة والنحاس. وقال أبو عمرو: المهل فى حديث أبى بكر الصديق: القيح، وفى غيره: دُرْدِىّ الزيت. وقال الأصمعى: حدثنى رجل، وكان فصيحًا، أن أبا بكر قال: إنما هو للمهلة والتراب. وقال بعضهم: بكسر الميم يقال للمهلة. وقال ابن دريد: فى هذا الحديث: (إنما هو للمهلة) قال: المهلة: صديد الميت، زعموا، والمهلة: ضرب من القطران، والمهلة: ما سلخت من الحرة من رماد أو غيره.

(3/377)


76 - باب مَوْتِ الْفَجْأَةِ بَغْتَةِ
/ 110 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أُمِّى افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ) . قال المؤلف: الافتلات عند العرب: المباغتة، يقول: ماتت بغتة، وإنما هو مأخوذ من الفلتة. وروى وكيع عن عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله عن موت الفجأة، قال: (راحة على المؤمن، وأسف على الفاجر) والأسف: الغضب، ويحتمل أن يكون ذلك، والله أعلم، لما فى موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الإعداد للمعاد، والاغترار الكاذبة، والتسويف بالتوبة. وقد روى من حديث يزيد الرقاشى، عن أنس بن مالك، قال: كنا نمشى مع الرسول فجاء رجل، فقال: يا رسول الله، مات فلان، فقال: (أليس كان معنا آنفًا) ؟ قالوا: بلى، قال: (سبحان الله، كأنه أخذه على غصب، المحروم من حرم وصيته) . ذكر هذين الحديثين ابن أبى الدنيا، قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن كعب الأزدى، قال: حدثنا ابن كريز، عن أنس بن مالك، قال: من أشراط الساعة حفز الموت، قيل: يا أبا حمزة، ما حفز الموت؟ قال: موت الفجأة. وقوله: (فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) هو كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ينقطع عمل ابن آدم بعد موته إلا من ثلاث: صدقة تجرى بعده، أو علم علمه يعمل به، أو ابن صالح يدعو له) .

(3/378)


77 - باب مَا جَاءَ فِى قَبْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ / 111 - فيه: عَائِشَةَ، أَنْ الرَسُول كَانَ يتفقد فِى مَرَضِهِ: (أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا) ، اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِى قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِى وَنَحْرِى، وَدُفِنَ فِى بَيْتِى. وَقَالَتْ عَائِشَة: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَرَضِهِ الَّذِى توفى فيه: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَوْلا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِىَأَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) . وَقَالَ سُفْيَانَ التَّمَّارِ: أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُسَنَّمًا. وَقَالَ عُرْوَةَ: لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطُ فِى زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِى بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ، فَفَزِعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: لا وَاللَّهِ مَا هِىَ قَدَمُ النَّبِىُّ مَا هِىَ إِلا قَدَمُ عُمَرَ. وأوصت عَائِشَةَ ابْن الزُّبَيْر: لا تَدْفِنِّى مَعَهُمْ، وَادْفِنِّى مَعَ صَوَاحِبِى بِالْبَقِيعِ، لا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا. / 112 - وفيه: عُمَر، أنه قَالَ لابنه عَبْدَ اللَّه: اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ عَلَيْكِ السَّلامَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَىَّ، قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِى فَلأوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِى، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا كَانَ شَىْءٌ أَهَمَّ إِلَىَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ، فَاحْمِلُونِى، ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِى فَادْفِنُونِى، وَإِلا فَرُدُّونِى إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى لا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِى، فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ، وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ

(3/379)


الْمُؤْمِنِينَ، بِبُشْرَى اللَّهِ، كَانَ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ فِى الإسْلامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ، فَقَالَ: لَيْتَنِى يَا ابْنَ أَخِى، وَذَلِكَ كَفَافًا لا عَلَىَّ وَلا لِى، أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِى بِالْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأنْصَارِ خَيْرًا: (الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ (أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ. قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الحديث، والله أعلم، أن يبين فضل أبى بكر وعمر بما لا يشركهما فيه أحد، وذلك أنهما كانا وزيرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حياته، وعادا ضجيعيه بعد مماته، فضيلة خصهما الله بها، وكرامة حباهما بها، لم تحصل لأحد، ألا ترى وصية عائشة إلى ابن الزبير أن لا يدفنها معهم خشية أن تزكى بذلك، وهذا من تواضعها وإقرارها بالحق لأهله وإيثارها به على نفسها من هو أفضل منها، ولم تر أن تُزَكَّى بدفنها مع الرسول، ورأت عمر بن الخطاب لذلك أهلاً. وإنما استأذنها عمر فى ذلك ورغب إليها فيه، لأن الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به نفسها لذلك، فآثرت به عمر، وقد كانت عائشة رأت رؤيا دلتها على ما فعلت حين رأت ثلاثة أقمار سقطن فى حجرها، فقصتها على أبى بكر الصديق، فلما توفى رسول الله، ودفن فى بيتها قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها. فيه من الفقه: الحرص على مجاورة الموتى الصالحين فى القبور طمعًا أن تنزل عليهم رحمة فتصيب جيرانهم، أو رغبة أن ينالهم دعاء من يزورهم فى قبورهم من الصالحين.

(3/380)


وقول عمر: (فإذا قبضت فاحملونى، ثم قل: يستأذن عمر) ، ففبه من الفقه: أن من وُعِدَ أنه يجوز له الرجوع فيها، ولا يقضى عليه بالوفاء بها، لأن عمر لو علم أنه لا يجوز لعائشة الرجوع فى عدتها، لما قال ذلك، وسيأتى فى كتاب الهبة ما يلزم من العدة وما لا يلزم منها، واختلاف الناس فيها، إن شاء الله. وفيه من الفقه: أنه من بعث رسولاً فى حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه، وقبل إيراده الرسالة عليه، ولا يُعدُّ ذلك من قلة الصبر، ولا يُذُّم فاعله بل هو من الحرص على الخير، لقوله لابنه وهو مُقبلٌ: ما لديك. وفيه: أن الخليفة مباح له أن لا يستخلف على المسلمين غيره، لأن رسول الله لم يستخلف أحدًا، وأن للإمام أن يترك الأمر شورى بين الأمة إذا علم أن فى الناس بعده من يحسن الاختيار للأمة. وفيه: إنصاف عمر وإقراره بفضل أصحابه. وفيه: أن المدح فى الوجه بالحق لا يُذم المادح به، لأن عمر لم ينه الأنصارى حين ذكر فضائله، فبان بهذا أن المدح فى الوجه المنهى عنه إنما هو المدح بالباطل. وفيه: أن الرجل الفاضل ينبغى له أن يخاف على نفسه ولا يثق بعمله، ويكون الغالب عليه الخشية، ويصغر نفسه، لقوله: ليتنى تخلصت من ذلك كفافًا، وقد سئلت عائشة عن قول الله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) [المؤمنون: 60] ، فقالت: نعم، الذين يعملون الأعمال الصالحة ويخافون ألا تتقبل منهم، وعلى هذا مضى خيار السلف، كانوا من عبادة ربهم فى الغاية القصوى، ويعدُّون

(3/381)


أنفسهم فى الغاية السفلى خوفًا على أنفسهم، ويستقلون لربهم ما يستكثره أهل الاغترار. فقد ثبت عن عمر أنه تناول تبنة من الأرض، فقال: يا ليتنى هذه التبنة، يا ليتنى لم أك شيئًا، يا ليت أمى لم تلدنى، يا ليتنى كنت نسيًا منسيًا، وقال: لو كانت لى الدنيا لافتديت بها من النار ولم أرها. وقال قتادة: قال أبو بكر الصديق: وددت أنى كنت خضرة تأكلنى الدواب. وقالت عائشة عند موتها: وددت أنى كنت نسيًا منسيًا. وقال أبو عبيدة: وددت أنى كبش يذبحنى أهلى يأكلون لحمى ويحسون مرقى. وقال عمران بن حصين: وددت أنى رماد على أكمة تسفينى الرياح فى يوم عاصف. ذكر ذلك كله الطبرى، وسيأتى فى كتاب الزهد والرقائق، باب (الخوف من الله) زيادة فى هذا المعنى، إن شاء الله. وفيه: أن الرجل الفاضل والعالم ينبغى له نصح الخليفة، وأن يوصيه بالعدل وحسن السيرة فيمن ولاه الله رقابهم من الأمة، وأن يحضه على مراعاة أمور المسلمين وتفقد أحوالهم، وأن يعرف الحق لأهله. وفيه من الفقه: أن الرجل الفاضل ينبغى أن [. . . . . .] . وفى استبطاء النبى (صلى الله عليه وسلم) يوم عائشة من الفقه: أنه يجوز للرجل الفاضل الميل بالمحبة إلى بعض أهله أكثر من بعض، وأنه لا إثم عليه فى ذلك إذا عدل بينهن فى القسمة والنفقة. وقول سفيان: أنه رأى قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) مسنمًا، فقد روى ذلك عن غيره. قال الطحاوى: وقد قال إبراهيم النخعى: أخبرنى من رأى قبر النبى (صلى الله عليه وسلم)

(3/382)


وصاحبيه مسنمة ناشزة من الأرض عليها مرمر أبيض. وقال الليث: حدثنى يزيد بن أبى حبيب أنه يستحب أن يسنم القبر، ولا يرفع، ولا يكون عليه تراب كثير. وهو قول الكوفيين والثورى أن القبور تسنم، وإن رفع فلا بأس. وقال ابن حبيب مثله. وقال طاوس: كان يعجبهم أن يرفع القبر شيئًا حتى يعلم أنه قبر. وقال الشافعى: تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع، تكون على وجه الأرض نحوًا من شبر، قال: وبلغنا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سطح قبر ابنه إبراهيم، وأن مقبرة المهاجرين والأنصار مسطحة قبورهم. وقال أبو مجلز: تسوية القبور من السُّنة. واحتج أيضًا بحديث القاسم بن محمد، وأنه رأى قبر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصاحبيه لاطية بالأرض مسطوحة بالبطحاء، وقد بَيَّنَت عائشة العِلَّة فى البناء على قبره وتحظيره وذلك خشية أن يتخذ مسجدًا.
78 - باب مَا يُنْهَى عنه مِنْ سَبِّ الأمْوَاتِ
/ 113 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) . قال المؤلف: هذا الحديث مثل قول عائشة: كفوا عن ذى قبر. قال بعض العلماء: معناه من أهل الإيمان، وقد ذكرت عائشة فى هذا الحديث علة الإمساك عن ذى قبر، وهو قولها: فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا، يعنى إلى ما عملوه من حسن أو قبيح، وقد أحصاه الله ونسوه، وقد ختم الله لأهل المعاصى من المؤمنين بخاتمة حسنة تخفى عن الناس، فمن سبهم فقد أثم، وقد جاء أنه لا يجب القطع على أحد بجنة ولا نار، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) فى الميت الذى شهد له

(3/383)


بالجنة: (والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى) . فلهذا وجب الإمساك عن الموتى، والله أعلم. قال عبد الواحد: إن قيل: قد ذكر الله عز وجل، فلتات خطايا الأنبياء فى كتابه وهم أموات، وجعلها قراءة تتلى. قيل: لا معارضة لك بذلك؛ لأن الله تعالى إنما ذكر خطاياهم موعظة لخلقه، ليرى المذنبين أنه قد عاتب أنبياءه وأصفياءه على الفلتة من الذنوب، ليحذر الناس المعاصى وليعلموا أنهم أحق بالعقاب من الأنبياء ليزدجروا، وأيضًا فإن لوم تلك الذنوب قد سقط عن الأنبياء بإعلام الله لنا فى كتابه بتوبتهم منها، وغفرانه إياها لهم، وأيضًا فإنه تعالى جعل عقابهم على تلك الفلتات فى الدنيا رحمة لهم، ليلقوه مطهرين من تلك الذنوب، وموتانا بخلاف ذلك لا نعلم ما أفضوا إليه، فلذلك نهينا عن ذكرهم بذنوبهم، وقد تقدم فى باب (ثناء الناس على الميت) إشباع القول فيمن يجب ذكره بذنبه، ومن يجب الإمساك عنه، وبالله التوفيق.
79 - باب ذِكْرِ شِرَارِ الْمَوْتَى
/ 114 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ أَبُو لَهَبٍ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَنَزَلَتْ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد: 1] . قال المؤلف: ذكر شرار الموتى من أهل الشرك خاصة جائز، لأنهم لا شك أنه مقطوع عليهم بالخلود فى النار، فذكر شرارهم أيسر من حالهم التى صاروا إليها، مع أن فى الإعلان بقبيح أفعالهم مقبحًا

(3/384)


لأحوالهم وذمًا لهم، لينتهى الأحياء عن مثل أفعالهم ويحذروها، جَنَّبنا الله أفعال الكفار، وأجارنا من النار. قال عبد الواحد: عجبًا من البخارى فى تخريجه لهذا الحديث فى هذا الباب، وإن كان تبويبه له يدل على أنه أراد به العموم فى شرار المؤمنين والكافرين، وأظنه نسى الحديث الذى أورده فى باب (ثناء الناس على الميت) فكان أولى بهذا، وهو حديث أنس: (أنهم مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال: وجبت. . . .) الحديث، فترك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نهيهم عن ثناء الشر، ثم أخبر أنه بذلك الثناء الشر وجبت له النار، وقال: (أنتم شهداء الله فى الأرض) ، فدل ذلك أن للناس أن يذكروا الميت بما فيه من شر إذا كان شره مشهورًا، وكان مما لا غيبة فيه لشهرة شره، وقد تقدم فى باب (ثناء الناس على الميت) الكلام فى الجمع بين هذا الحديث وبين قوله: (لا تسبوا الأموات) ، وبالله التوفيق. وقال صاحب (العين) : تب الإنسان: ضعف وخسر، قال الراجز: أحسن بها من صفقة لم تستقل تبت يدا صافقها ماذا فعل وتب: هلك، وفى القرآن: (وما كيد الكافرين إلا فى تباب) [غافر: 37] ، وتَبَّ الإنسان: شاخ.

(3/385)


صفحة فارغة

(3/386)


الجزء الثاني من كتاب شرح البخاري تأليف الشيخ الإمام العالم الفاضل أبي الحسن علي ابن خلف بن عبد الملك بن بطال يعرف بابن اللحام من أهل قرطبة رضي الله عنه

(3/387)


صفحة فارغة

(3/388)