شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
وَبِهِ تَوْفِيِقى وَعَلَيهِ أَتَوكْل
- كِتَاب الزَّكَاةِ
- وُجُوبِ الزَّكَاةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 43] . وقال ابن عباس: حدثنى أبو سفيان بن حرب فذكر حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يأمر بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف) . / 1 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (ادْعُوهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِى أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ) . / 2 - وفيه: أَبِو أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى

(3/389)


الْجَنَّةَ؟ قَالَ: (مَا لَهُ، مَا لَهُ) ، وَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَبٌ مَا لَهُ، تَعْبُدُ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ) . / 3 - وفيه: أَبِو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: (تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ) ، قَالَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) . / 4 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: مُرْنَا بِشَىْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ: (آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ: الإيمَانِ بِاللَّهِ، وَشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ. . .) الحديث. / 5 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ؟) فَقَالَ: وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رأيت أن الله قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.

(3/390)


قال المؤلف: فرض الله تعالى الزكاة، بقوله: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [البقرة: 43] وهذه الآية تشهد لصحة هذه الأحاديث. والزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، قال عليه الصلاة والسلام: (بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) فهذه دعائم الإسلام وقواعده، لا يتم إسلام من جحد واحدة منها ألا ترى فهم أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، لهذا المعنى وقوله: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال) وأجمع العلماء على أن مانع الزكاة تؤخذ من ماله قهرًا، وإن نصب الحرب دونها قوتل اقتداءً بأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى أهل الردة. وكانت الردة على ثلاثة أنواع: قوم كفروا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، وقوم آمنوا بمسيلمة وهم أهل اليمامة، وطائفة منعوا الزكاة وقالوا: ما رجعنا عن ديننا، ولكن شححنا على أموالنا، فرأى أبو بكر، رضى الله عنه، قتال الجميع، ووافقه على ذلك جميع الصحابة بعد أن خالفه عمر فى ذلك، ثم بان له صواب قوله، فرجع إليه، فسبى أبو بكر، رضى اله عنه، نساءهم، وأموالهم اجتهادًا منه، فلما ولى عمر، رضى الله عنه، بعده، رأى أن يرد ذراريهم ونساءهم إلى

(3/391)


عشائرهم، وفداهم، وأطلق سبيلهم، وذلك أيضًا بمحضر الصحابة من غير نكير، والذى رد منهم عمر لم يأب أحد منهم الإسلام، وعذر أبا بكر فى اجتهاده، وهذا أصل فى أن كل مجتهد مصيب. وقال بعض العلماء: حكم أبو بكر فى أهل الردة بالسبى، وأخذ المال وجعلهم كالناقضين، وحكم فيهم عمر بحكم المرتدين، فرد النساء والصغار من الرق إلى عشائرهم كذرية من ارتد فله حكم الإسلام إلا من تمادى بعد بلوغه، والذين ردهم عمر لم يأب أحد منهم الإسلام، وعلى هذا الفقهاء، وبه قال ربيعة الرأى، وابن الماجشون، وابن القاسم، وذهب أصبغ بن الفرج إلى فعل أبى بكر، رضى الله عنه، أنهم كالناقضين، وتأويل أبى بكر مستنبط من قوله تعالى، فى الكفار: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5] فجعل من لم يلتزم ذلك كله كافرًا يحل دمه وأهله وماله، ولذلك قال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) . وقال أبو جعفر الداودى: قال أبو هريرة: والله الذى لا إله إلا هو، لولا أبو بكر ما عبد الله، قيل له: اتق الله يا أبا هريرة، فكرر اليمين، وقال: لما توفى رسول الله ارتدت العرب، وكثرت أطماع الناس فى المدينة وأرادته الصحابة على إمساكه بجيش

(3/392)


أسامة، والكف عمن منع الزكاة، فقال: والله لو لم يتبعنى أحد لجاهدتهم بنفسى حتى يعز الله دينه أو تنفرد سالفتى. فاشتد عزم الصحابة حينئذ، وقمع الله أهل المطامع عما أرادوه. قال المؤلف: وهذا كله يشهد لتقدم أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى العلم ورسوخه فيه، وأن مكانه من العلم ونصرة الإسلام لا يوازيه فيه أحد، ألا ترى رجوع جماعة الصحابة إلى رأيه فى قتال أهل الردة، ولا يجوز عليهم اتباعه تقليدًا له دون تبيين الحق لهم، وذلك أنه احتج عليهم أن الزكاة قرينة الصلاة، وأنها من حق المال، وأن من جحد فريضة فقد كفر، ولم يعصم دمه ولا ماله، وأنه لا يعصم ذلك إلا بالوفاء بشرائع الإسلام، ولذلك قال عمر رضى الله عنه: (فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق) ، أى عرفت أنه على الحق بما بينه أبو بكر من استدلاله على ذلك، فبان لعمر وللجماعة الحق فى قوله، فلذلك اتبعوه. وأما قوله: (لو منعونى عناقًا) فإنما خرج كلامه على التقليل و [. . . .] لأن العناق عند أهل اللغة: الجدية إذا قويت على الرعى

(3/393)


قبل أن يأتى عليها حول، ولا تؤخذ فى الصدقة عند أكثر أهل العلم، ولو كانت عناقًا كلها. ومن روى (عقالاً) فاختلف أهل اللغة فى تأويله، فقال أبو عبيد: العقال: صدقة عام. وقال ابن الكلبى: كان معاوية قد بعث عمرو بن عتبة ابن أخيه مصدقًا، فجار عليهم، فقال: سعى عقالا فلم يترك لنا سبدًا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين قال أبو عبيد: فهذا كلام العرب، وقد قيل: هو عقال الناقة، وكان الواقدى يزعم أن هذا رأى مالك بن أنس، وابن أبى ذئب. قال أبو عبيد: والأول أشبه عندنا بالمعنى، والشواهد فى كلام العرب عليه أكثر، وقد روى ابن وهب، عن مالك أن العقال: الفريضة من الإبل. قال أبو سليمان الخطابى: قد خولف أبو عبيد فى هذا التفسير. وذهب غير واحد من العلماء إلى تفسيره على غير هذا الوجه، أنكر العبدى ما ذهب إليه أبو عبيد، وقال: إنما يضرب المثل فى هذا بالأقل فما فوقه، كما يقول الرجل للرجل إذا منعه الكثير من المال: لا أعطيك ولا درهمًا منه. وليس بالسائغ أن يقول: لا أعطيك ولا مائة ألف. وقال: ليس بسائغ فى كلامهم أن العقال صدقة عام. والبيت الذى احتج به ليس بالبيت الذى يحتج به، قال: وأيضًا فإن العرب لم تقل له: لا أعطيك إلا عامًا واحدًا. وإنما منعوا الصدقات على الأبد، فكيف يقول العقال الذى منعوه: صدقة عام، وهم يتأولون أنهم كانوا مأمورين بأدائها إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) دون القائم بعده؟ .

(3/394)


وسمعت ابن عائشة يقول: العقال: الحبل. وذلك أن الصدقة كانت إذا هبط بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عُقِلَ بكُلِّ عقال بعيران، ولذلك سمى الحبل الذى يقرن به بين البعير: القرن، بفتح الراء، والقرن أيضًا: البعير المقرون إلى آخر. وفيه قول آخر، قاله النضر بن شميل، قال: العرب تقول: أفرضت إبلكم: إذا وجبت فيها الفريضة وأشنقت، والشنق أن يكون فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان إلى خمس وعشرين، فإذا وجبت فيها ابنة مخاض فهى العقال. وهذا يشبه رواية ابن وهب. وفيه قول آخر، قاله أبو سعيد الضرير، قال: العقال: كل ما آخذ من الأصناف من الإبل، والبقر، والغنم، والثمار التى يؤخذ منها العشر، ونصف العشر، فهذا كله عقال فى صنفه، وسمى عقالاً: لأن المؤدى إليه قد عقل عنه طلبة السلاطين وتبعته، وعقل عنه الإثم الذى يطلبه الله به إذا منع الزكاة، ولذلك سميت العاقلة التى تؤدى دية الخطأ، لأنها إذا فعلت عقلت عن وليها تبعة أولياء المقتول. وفيه قول آخر، قاله المبرد، قال: إذا أخذ المصدق من الصدقة ما فيها، ولم يأخذ ثمنها قالوا: أخذ عقالاً، فإذا أخذ الثمن، قالوا: أخذ نقدًا. وأنشد: أتانا أبو الخطاب يضرب طبله فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدًا

(3/395)


وفى أكثر الروايات: (لو منعونى عناقًا) وهو مشاكل لما ذهب إليه العبدى فى معنى العقال، وفى رواية أخرى ذكرها ابن الأعرابى: (والله لو منعونى جديًا أذوط لقاتلتهم عليه) ، قال: والذوط: الصغير الفك والذقن. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم الصلاة، والزكاة. . .) إلى آخر الحديث، فإنما أمره أن يدعو إلى الشهادة من لم يكن أسلم من أهل الكتاب، وقد جاء هذا بينًا فى حديث معاذ فى باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس بعد هذا فى الصدقة: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال لمعاذ: إنك تأتى أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات) ، وقد تقدم معنى قول الرجل: (والله لا أزيد على هذا) فى كتاب الإيمان، فأغنى عن إعادته، وقد تقدم فيه معنى حديث وفد عبد القيس أيضًا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى أيوب: (أرب ما له) ، فإنه يروى بكسر الراء، وفتح الباء، ويروى: (أرَبٌ ما له) بفتح الراء وضم الباء وتنوينها، وفسر ابن قتيبة الرواية بكسر الراء وفتح الباء، فقال: هو من الأراب مأخوذ، والأراب: الأعضاء، واحدها: أرب، ومنه قيل: قطعته أربًا أربًا، أى عضوًا عضوًا، قال: ومعنى قوله: (أرب ما له) أى سقطت أعضاؤه وأصيبت، وهى

(3/396)


كلمة مقولة لا يراد بها إذا قيلت وقوع الأمر، كقولهم: عقرى حلقى، أى عقرها الله وحلقها، أى أصابها بوجع فى حلقها، وكقولهم: قاتله الله، وتربت يداك، وأشباه هذا كثير. ومن رواه (أرَبٌ ما له) فمعناه نحو معنى قوله: فى حديث سعد بن الأخرم حين أخذ بزمام ناقته (صلى الله عليه وسلم) بعرفة، وهو يريد أن يسأله، فصاح به الناس من أصحابه، فقال: (دعوه، فأربٌ ما جاء به، فقال: يا رسول الله، دلنى على عمل يقربنى من الجنة، ويباعدنى من النار، فقال: إن كنت أوجزت فى الخطبة، فقد أعظمت وأطولت، فقال: تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحب للناس ما تحب أن يؤتى إليك، وما كرهت أن يؤتى إليك فدع الناس منه، خل عن زمام الناقة) . رواه الأعمش، عن شمر، عن المغيرة بن سعد بن الأخرم، عن أبيه، أو عن عمه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ويمكن أن تكون هذه القصة هى التى روى أبو أيوب فى حديثه، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكرر قوله: (ما له ما له) إلا أنه أنكر عليه حبسه زمام ناقته أو غير ذلك مما لم يكن له فعله، والله أعلم،

(3/397)


وفسر الطبرى قوله: (فأرب ما جاء به) ، وقال معناه: فحاجة ما جاءت به، والأرب: الحاجة، و (ما) التى فى قوله: (ما جاء به) صلة فى الكلام، كما قال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) [النساء: 155] ، والمعنى فأرب جاء به. قال المؤلف: وعلى هذا التقدير تكون (ما) التى فى حديث أبى أيوب فى قوله: (أربٌ ما له) زائدة، كأنه قال: أرب له، هذا أحسن من قول ابن قتيبة. قال عبد الواحد: وقوله فى حديث ابن أخرم: (إن كنت أوجزت فى الخطبة) ولم تكن هناك خطبة، فإن العرب تسمى كل كلام وسؤال: خطبة، لأنه مشتق من الخطاب. قال المهلب: وقوله فى حديث أبى أيوب: (وتصل الرحم) بعد الصلاة والزكاة، يدل أن السائل كان محتاجًا إلى التنبيه على ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يقدم تعريف أمته بما هم إليه أحوج.
- باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ
وقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: 11] / 6 -

(3/398)


فيه: جَرِيرُ، بَايَعنا النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قال المؤلف: هذا الباب فى معنى الذى قبله، وقد أخبر الله تعالى فى هذه الآية أن الأخوة فى الدين إنما تستحق بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ودل ذلك أنه من لم يقمها فليس بأخ فى الدين، وفى هذه الآية حجة لأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى قتاله لأهل الردة حين منعوا الزكاة، وقد أجمع العلماء فى الرجل يقضى عليه القاضى بحق لغيره فيمتنع من أدائه أن واجبًا على القاضى أن يأخذه من ماله، فإن نصب الحرب دونه وامتنع، قاتله حتى يأخذه منه، فإن أتى القاتل على نفسه فشر قتيل، فحق الله الذى أوجبه للمساكين أولى بذلك وذكر النصح لكل مسلم فى البيعة مع الصلاة والزكاة يدل على حاجة جرير وقومه إلى ذلك، وكان جرير رئيس قومه.
3 - باب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ
وَقَوله تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ (إلى قوله: (فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة: 34 - 35] . / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَأْتِى الإبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِى الْغَنَمُ

(3/399)


عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا) ، قَالَ: (وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ) ، قَالَ: (وَلا يَأْتِى أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا ثُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلا يَأْتِى بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِى بِشِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا النّبِىّ: (لا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) [آل عمران: 180] الآيَةَ) . قال المؤلف: تأول العلماء أن قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) [التوبة: 34] الآية، وعيد لمن منع الزماة، ومن أدى زكاة ماله فليس بداخل فى هذه الآية. قال المهلب: فى هذه الآية فرض زكاة الذهب، ولم ينقل عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فرض زكاة الذهب من طريق الخبر كما نقل عنه زكاة الفضة، وهو قوله: (فى الرِّقة ربع العشر، وليس فيما دون

(3/400)


خمس أواق من الورق صدقة) ، إلا أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته) يدخل فى عمومه الذهب والفضة بالدليل، وإنما لم ترو زكاة الذهب من طريق النص عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، والله أعلم، لكثرة الدراهم بأيديهم، وأن بها كان تجارتهم، ولقلة الذهب عندهم، وكان صرف الدينار حينئذ عشرة دراهم، فعدل المسلمون بخمس أواق من الفضة عشرين مثقالاً، وجعلوه نصاب زكاة الذهب وتواتر العمل به وعليه جماعة العلماء أن الذهب إذا كانت عشرين مثقالاً وقيمتها مائتا درهم أن فيها الزكاة نصف دينار إلا ما اختلف فيه عن الحسن أنه قال: ليس فيما دون أربعين دينارًا زكاة وهو شذوذ لا يلتفت إليه. وذهبت طائفة إلى أن الذهب إذا بلغت قيمتها مائتى درهم ففيها ربع العشر، وإن كان أقل من عشرين مثقالاً، وهذا قول عطاء وطاوس والزهرى. واختلفوا فى تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) فى الإبل: (ومن حقها أن تحلب على الماء) فذهبت طائفة إلى أن فى المال حقًا سوى الزكاة. وقال أبو هريرة: (حق الإبل أن تنحر السمينة، وتمنح الغزيرة، وتقعد الظهر، ويضرب الفحل، ويسقى اللبن، وتأولوا فى قوله تعالى: (والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) [المعارج: 24، 25] ، فقالوا: مثل فك العانى، وإطعام الجائع الذى يخاف ذهاب نفسه، والمواساة فى المسغبة

(3/401)


والعسرة. وهو قول الحسن البصرى، والشعبى، وعطاء، وطاوس، وتأول مسروق فى قوله تعالى: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة (قال: هو الرجل يرزقه الله المال، فيمنع قرابته صلته، فيجعل حية طوقها، وأكثر العلماء على أن ذلك كله فى الزكاة المفروضة، ولا حق عندهم فى المال سوى الزكاة، وتأولوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن حقها أن تحلب على الماء) ، أن ذلك حق فى كرم المواساة، وشريف الأخلاق لا أن ذلك فرض، والحجة لهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان له مال، فلم يؤد زكاته مثل له. . .) والزكاة لا يفهم منها إلا زكاة الفرض، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة (أنه جاء فى مانع الزكاة، وفى هذا الحديث خلاف تأويل مسروق، وقد انتزع ابن مسعود بهذه الآية فى مانع الزكاة أيضًا. قال إسماعيل بن إسحاق: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحدّ ولا يحدّ لها وقت فتجب بها المواساة للضرورة التى تنزل من ضيف مضطر، أو جائع يعلم أنه مضطر، أو غاز مثله أو ميت ليس له من يواريه فيجب حينئذ على من يمكنه المواساة التى يزول بها حد الضرورة. والشجاع: الحية الذى يقوم على ذنبه، وربما بلغ رأس الفارس، والزبيبتان نقطتان منتفختان فى شدقيه كالرغوة، يقال: إنهما

(3/402)


يبرزان حين يهج ويغضب. وقيل: إنهما سوداوان على عينيه، وهى علامة الحية الذكر المؤذى. وقيل: الأقرع الذى أبيض رأسه من كثرة السم. وقوله: (لها يعار) قال صاحب الأفعال: اليعار: صوت المعزى، وقد يعرت تيعر، واليعر: الجدى، واليعور: الشاة التى تبول على حالبها وتَبْعَرُ فيفسد اللبن. وثغت الشاة تثغو ثغاءٌ، ورغاء البعير رُغاءً: صاح.
4 - باب مَا أُدِّىَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ لِقَوْلِ الرسول: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ
/ 9 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنه قَالَ له أَعْرَابِىٌّ: أَخْبِرْنِى عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة: 34] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأمْوَالِ. / 10 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ) . / 11 - وفيه: زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِى ذَرٍّ، فَقُلْتُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِى هذه

(3/403)


الآية: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِى أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فِى ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِى، فَكَتَبَ إِلَىَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَىَّ النَّاسُ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِى قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ [الَّذِى] أَنْزَلَنِى هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَىَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ. / 12 - وفيه: الأحْنَفِ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِمْ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْىِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، فيَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى، فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، وَلا أَدْرِى مَنْ هُوَ، قُلْتُ: لا أُرَى الْقَوْمَ إِلا قَدْ كَرِهُوا مقالتك، قَالَ: إِنَّهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ لِى خَلِيلِى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟) قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِىَ مِنَ النَّهَارِ، وَأَنَا أُرَى أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُرْسِلُنِى فِى حَاجَةٍ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ) ، وَإِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، لا وَاللَّهِ لا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ. قال الطبرى: الكنز فى كلام العرب كل شىء مجموع بعضه إلى بعض فى بطن الأرض كان أو على ظهرها، ولذلك تقول العرب للشىء المجتمع: مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض، ومنه قول الهُذلى:

(3/404)


لا دَرَّ دَرِّىَ إن أطعمت نازلكم قِرْفَ الحَتِىِّ وعندى البُرُّ مكنوز الحتى: سويق المقل. واختلف السلف فى معنى الكنز، فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته، وقالوا: معنى قوله تعالى: (ولا ينفقونها فى سبيل الله) [التوبة: 34] لا يؤدون زكاتها، وهذا قول عمر، وابن عمر، وابن عباس، وعبيد بن عمير، وجماعة. وقال آخرون: الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، وإن أديت زكاته. رواه جعدة بن هبيرة، عن على بن أبى طالب، قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كان أكثر من ذلك فهو كنز، وقال غيره: الكنز ما فضل عن حاجة صاحبه إليه. وهذا مذهب أبى ذر. روى أن نصل سيف أبى هريرة كان من فضة فنهاه عنه أبو ذر، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها) . واتفق أئمة الفتوى على قول عُمر، وابن عمر، وابن عباس، واحتج له الطبرى بنحو ما نزع به البخارى، فقال: الدليل على أن كل ما رأيت زكاته فليس بكنز إيجاب الله تعالى على لسان رسوله فى خمس أواق ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرض الله تعالى على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير

(3/405)


من المال، وإن بلغ ألوفًا إذا أديت زكاته فليس بكنز، ولا يحرم على صاحبه اكتنازه، لأنه لم يتوعد الله عليه بالعقاب، وإنما توعد الله بالعقاب على كل مال لم تؤد زكاته، وليس فى القرآن بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذى إذا جمع بعضه إلى بعض استحق جامعة الوعيد، فكان معلومًا أن بيان ذلك إنما يؤخذ من وقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو ما بيناه أنه المال الذى لم يؤد حق الله منه من الزكاة دون غيره من المال. قال غيره: وإنما كتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذر، لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له، وكان وقع فى جيشه تشتيت من ميل بعضهم إلى قول أبى ذر، فلذلك أقدمه عثمان إلى المدينة، إذ خشى الفتنة فى الشام ببقائه، لأنه كان رجلاً شديدًا لا يخاف فى الله لومة لائم. قال المهلب: وكان هذا توقيرًا من معاوية لأبى ذر حين كتب إلى السلطان الأعلى يستجلبه، وصانه معاوية من أن يخرجه فتكون عليه وصمة. وقد ذكر الطبرى: أنه حين كثر الناس عليه بالمدينة يسألونه عن سبب خروجه من الشام، خشى عثمان من التشتيت بالمدينة ما خشيه معاوية بالشام، فقال له: تنح قريبًا. فقال: إنى والله لن أدع ما كنت أقوله فسار إلى الربذة، وبينها وبين المدينة ثلاثة أيام.

(3/406)


وفى هذا من الفقه: أنه جائز للإنسان الأخذ بالشدة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإن أدى ذلك إلى فراق وطنه. وفيه: أنه جائز للإمام أن يخرج من توقع ببقائه وقوع فتنة بين الناس. وفيه: ترك الخروج على الأئمة، والانقياد لهم، وإن كان الصواب فى خلافهم. وفيه: جواز الاختلاف والاجتهاد فى الآراء، ألا ترى أن عثمان ومن كان بحضرته من الصحابة لم يردوا أبا ذر عن مذهبه، ولا قالوا له: إنه لا يجوز لك اعتقاد قولك، لأن أبا ذر نزع بحديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، واستشهد به، وذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أحب أن لى مثل أُحُدٍ ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير) ، وكذلك حين أنكر على أبى هريرة نصل سيفه استشهد على ذلك بقوله، (صلى الله عليه وسلم) : (من ترك صفراء، أو بيضاء كوى بها) . وهذا حجة فى أن الاختلاف فى العلم باق إلى يوم القيامة، لا يرتفع إلا بإجماع. وقد روى ابن أبى شيبة، عن محمد بن بشر، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله بن الأقنع الباهلى، عن الأحنف بن قيس، قال: كنت جالسًا فى مسجد المدينة فأقبل رجل لا تراه حلقة إلا فروا منه حتى انتهى إلى الحلقة التى كنت فيها، فثبتُّ وفروا، فقلت: على ما يفر الناس منك؟ قال: إنى أنهاهم عن الكنوز، قلت: إن أعطياتنا قد ارتفعت وكثرت فتخاف علينا منها؟ قال: أما اليوم فلا، ولكنها توشك أن تكون أثمان دينكم، فدعوهم وإياها. وقال

(3/407)


المهلب: وفى قوله: (بشر الكانزين برضف) وجوب مبادرة إخراج الزكاة عند حولها والتحذير من تأخيرها. وقوله: (فنظرت إلى الشمس ما بقى من النهار) فهو مثل لتعجيل الزكاة، يريد ما أحب أن أحبس ما أوجبه الله وحَلَّ وقته بقدر ما بقى من النهار. والرضف: الحجارة المحماة. والنغض: الغضروف من الكتف. الخطابى: نغض الكتف: فرغه، وسمى نغضا، لأنه ينغض من الإنسان إذا أسرع، أى يتحرك. ومنه يقال: نغض الرجل رأسه، إذا حركه. ومنه قوله تعالى: (فسينغضون إليك رءوسهم (] الإسراء: 51] .
5 - باب إِنْفَاقِ الْمَالِ فِى حَقِّهِ
/ 13 - فيه: ابْنِ مَسْعُود، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) . قال بعض أهل العلم: إنفاق المال فى حقه ينقسم ثلاثة أقسام: فالأول أن ينفق على نفسه، وأهله، ومن تلزمه نفقته غير مقتر عما يجب لهم، ولا مسرف فى ذلك، كما قال تعالى:

(3/408)


) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا) [الفرقان: 67] ، وهذه النفقة أفضل من الصدقة، ومن جميع النفقات، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها فِى فىّ امرأتك) . وقسم ثان: وهو أداء الزكاة، وإخراج حق الله تعالى لمن وجب له. وقد قيل: من أدى الزكاة فقد سقط عنه اسم البخل. وقسم ثالث: وهو صلة الأهل البعداء ومواساة الصديق، وإطعام الجائع، وصدقة التطوع كلها فهذه نفقة مندوب إليها مأجور عليها، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الساعى على الأرملة واليتيم كالمجاهد فى سبيل الله) . فمن أنفق فى هذه الوجوه الثلاثة فقد وضع المال فى موضعه، وأنفقه فى حقه، ووجب حسده، وكذلك من آتاه الله حكمته فعلمها فهو وارث منزلة النبوة، لأنه يموت ويبقى له أجر من علّمه، وعمل بعلمه إلى يوم القيامة، فينبغى لكل مؤمن أن يحسد من هذه حاله، والله يؤتى فضله من يشاء.
6 - باب الرِّيَاءِ فِى الصَّدَقَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى) [البقرة: 264] الآية. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (صَلْدًا (لَيْسَ عَلَيْهِ شَىْءٌ. والرياء يبطل الصدقة وجميع الأعمال، لأن المرائى إنما يعمل من

(3/409)


أجل الناس ليحمدوه على عمله، فلم يحمده الله تعالى حين رضى بحمد الناس عوضًا عن حمد الله وثوابه، وراقب الناس دون ربه، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) عن الله عز وجل: (من عمل عملاً أشرك فيه معى غيرى فهو له، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك) . وجاء فى الحديث أن الرياء الشرك الأصغر. وكذلك المن والأذى يبطلان الصدقة، لأن المنان بها لم يتق الله فيها، ولا أخلصها لوجهه تعالى، ولا ينفع عمل بغير نية، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى) ، وكذلك المؤذى لمن تصدق عليه يبطل إثمُ الأذى أجرَ الصدقة، وقد نهى الله تعالى عن انتهار السائل، فما فوق ذلك من الأذى أَدْخَلُ فى النهى، والله أعلم. قال عبد الواحد: كان ينبغى للبخارى، رحمه الله، أن يخرج فى هذا الباب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها. . .) الحديث. فهو يشبه التبويب، لأن من ابتغى وجه الله يسلم من الرياء، وابتغاء غير وجه الله هو عين الرياء.
7 - باب لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلا يَقْبَلُ إِلا مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) [البقرة: 263] الآية.

(3/410)


استدلال البخارى بهذه الآية صحيح وذلك أنه لما كان حرمانُ السائل، والقولُ المعروف والاستغفار له خيرًا من صدقة يتبعها أذى، صح وثبت أن الصدقة إذا كانت من غلول أنها غير متقبلة، لأن الأذى للمسلمين فى الغلول أشد عند الله من أذى المتصدق عليه وحده. قال عبد الواحد: كان ينبغى للبخارى أن يخرج فى هذا الباب قوله تعالى: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) [البقرة: 267] فهو أليق بالترجمة، والحديثُ الذى خرجه فى الباب بعد هذا وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من تصدق بصدقة من كسب طيب. . . .) يصلح فيه.
8 - باب الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 276] الآية. / 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلا الطَّيِّبَ - فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِا، كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أو فصيله، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) . قوله تعالى: (ويربى الصدقات (يعنى يضعف أجرها لربها وينميها، ألا ترى قوله - عليه السلام -: (ثم يربيها كما يربى

(3/411)


أحدكم فلوه، أو فصيله) ، ولما كان الربا قد أخبر الله أنه يمحقه، لأنه حرام دلت الآية أن الصدقة التى تربو وتتقبل لا تكون إلا من غير جنس الممحوق، وذلك الحلال، وقد بين ذلك (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (ولا يقبل الله إلا الطيب) . وقال ابن الأنبارى: الزكاة فى اللغة أصلها الزيادة، سميت بذلك لأنها تزيد فى المال الذى يخرج منه. يقال: زكا الشىء زكاة، إذا زاد، والزكا بالقصر معناه: زوجان ذكر وأنثى، أو شيئان مصطحبان يجريان مجرى الذكر والأنثى، والمراد بذكر اليمين فى هذا الحديث: التحفى بالصدقة، والرضا عنها، والحض عليها، والله تعالى لا يوصف بالجوارح فيكون له يمين وشمال. قال أبو بكر بن فورك: المراد بوصف الله تعالى باليمين أنه لما وصف باليدين، ويد الجارحة تكون إحداهما يمينًا، والأخرى شمالاً، واليسرى تنقص أبدًا فى الغالب عن اليمين فى القوة، والبطش عرفنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (وكلتا يديه يمين) كمال صفة الله تعالى أنه لا نقص فيها، وأن ما وصف به من اليدين ليس كما يوصف به ذو الجارحة التى تنقص مياسره عن ميامنه.

(3/412)


9 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ
/ 15 - فيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِى عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِى الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، فيَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلا حَاجَةَ لِى بِهَا) . / 16 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِى يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لا أَرَبَ لِى فيه) . / 17 - وفيه: عَدِىَّ بْنَ حَاتِمٍ يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَجَاءَهُ رَجُلانِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَةَ، وَالآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ، فَإِنَّهُ لا يَأْتِى عَلَيْكَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ، وَأَمَّا الْعَيْلَةُ، فَإِنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ فلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ، ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالاً، فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) . / 18 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، فلا يَجِدُ من يقبلها، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ) .

(3/413)


ففى هذا الباب: الحض على الصدقة، والترغيب فيها ما وُجِد أهلها المستحقون لها، خشية أن يأتى الزمان الذى لا يوجد فيه من يأخذ الصدقة، وهو زمان كثرة المال وفيضه، قرب الساعة. وفى قوله: (فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة) حض على القليل من الصدقة. وقوله: (فإن لم يجد فبكلمة طيبة) حض أيضًا على أن لا يحقر شيئًا من الخير بالقول والفعل، وإن قَلَّ ذلك، وإذا كانت الكلمة الطيبة يتقى بها النار، فالكلمة الخبيثة يستوجب بها النار. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (يرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يَلُذْنَ به من قلة الرجال، وكثرة النساء) ، فهذا والله أعلم يكون عند ظهور الفتن، وكثرة القتل فى الناس، وهذا كله من أشراط الساعة. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عدى: (ليقفن أحدكم بين يدى الله ليس بينه وبينه حجاب) ، فإنما هذا على جهة التمثيل ليفهم الخطاب لأن الله تعالى لا يحيط به شىء، ولا يحجبه حجاب، تعالى الله عن ذلك، وإنما يستتر تعالى عن أبصارنا بما وضع فينا من الحجب، والضعف عن الإدراك لنوره فى الدنيا، فإذا كان فى الآخرة، وكشف تلك الحجب عن أبصارنا فقواها حتى تدرك معاينة ذاته كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) .

(3/414)


وقوله: (حتى يهم رب المال من يقبل صدقته) ، قال صاحب العين: يقال: أهمنى الأمر مثل أغمنى، وهمنى هما: رابنى. وقوله: (بغير خفير) فالخفير: المجير، والخفارة: الذمة.
- باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ
) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ (إلى قوله: (فيها مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [البقرة: 265، 266] / 19 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَىْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِى، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 79] . قَالَ أَبُو مَسْعُود: كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ، فَيُحَامِلُ، فَيُصِيبُ الْمُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ. / 20 - وفيه: عَدِىَّ، سَمِعْتُ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) . / 21 - وفيه: عَائِشَةَ، دَخَلَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى

(3/415)


شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (مَنِ ابْتُلِىَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ) . قال المؤلف: قوله: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) حض على الصدقة بالقليل، وقد تصدقت عائشة بتمرة، وتصدقت بحبة عنب، وقالت: كم فيها من مثاقيل الذر. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) لأبى تميمة الهجيمى: (لا تحقرن شيئًا من المعروف ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى) . وفى حديث أبى مسعود ما كان عليه السلف من التواضع، والحرص على الخير واستعمالهم أنفسهم فى المهن والخدمة رغبةً منهم فى الوقوف عند حدود الله، والاقتداء بكتابه، وكانوا لا يتعلمون شيئًا من القرآن إلا للعمل به، فكانوا يحملون على ظهورهم للناس ويتصدقون بالثمن لعدم المال عندهم حينئذ، وقوله: (نحامل) يعنى نحمل لغيرنا، ونحامل وزنه، تفاعل، والمفاعلة لا تكون إلا من اثنين كالمبايعة والمعاملة، ألا ترى أنه حين نزلت) يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة) [المجادلة: 12] شق عليهم العمل بها، فنسخت عنهم بقوله: (فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [المجادلة: 13] . وقال على بن أبى طالب: إن فى كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلى، ولا يعمل بها أحد بعدى، كان لى دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تصدقت بدرهم حتى نفذ، ثم نسخت.

(3/416)


وفى حديث عائشة أن النفقة على البنات، والسعى عليهن من أفضل أعمال البر، وأن ذلك ينجى من النار.
- باب فَضْلِ صَدَقَةِ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعَ فِيهِ وَلا خُلَّةَ) [البقرة: 254] ) وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10] . / 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ. فيه: أن أعمال البر كلما صعبت كان أجرها أعظم، لأن الصحيح الشحيح إذا خشى الفقر، وأمل الغنى صعبت عليه النفقة، وسول له الشيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمن تصدق فى هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيخشى عليه الضرار بميراثه والجوار فى فعله، ولذلك قال ميمون بن مهران حين قيل له: إن رقية امرأة هشام

(3/417)


ماتت، وأعتقت كل مملوك لها، فقال ميمون: يعصون الله فى أموالهم مرتين، يبخلون بها، وهى فى أيديهم، فإذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها.
- بَاب
/ 23 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قُلْنَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَيُّنَا أَسْرَعُ لُحُوقًا بك؟ قَالَ: (أَطْوَلُكُنَّ يَدًا) ، فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ. هذا الحديث سقط منه ذكر زينب، لأنه لا خلاف بين أهل الأثر والسير أن زينب أول من مات من أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن عبد الرحمن بن أبزى، قال: صليت مع عمر بن الخطاب على أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت أول نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) توفيت بعده. وروى ابن أبى خيثمة، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا المسعودى، قال: حدثنا القاسم بن معن، قال: كانت زينب بنت جحش أول نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لحوقًا به. وروى مسلم فى كتابه حديث عائشة على خلاف ما ذكره البخارى، فقال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى السينانى، قال: حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :

(3/418)


(أسرعكن لحاقًا بى أطولكن يدًا) ، قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا، فكانت أطولنا يدًا زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. وذكر مسلم الحديث الطويل الذى فيه إرسال أزواج النبى لفاطمة إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) يسألنه العدل فى بنت أبى قحافة، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) زينب، وهى التى كانت تسامينى منهن فى المنزلة عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم أر امرأة قط خيرًا فى الدين من زينب وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها فى العمل الذى تتصدق به، وتتقرب به إلى الله عز وجل. وقال المهلب: اليد فى هذا الحديث: الإنعام والإفضال، وفيه: أن الحكم للمعانى لا للألفاظ، بخلاف قول أهل الظاهر، ألا ترى أن أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سبق إليهن أنه أراد طول اليد التى هى الجارحة، فلما لم تتوف سودة التى كانت أطولهن يد الجارحة، وتوفيت زينب قبلهن علمن أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يرد طول العضو، وإنما أراد بذلك كثرة الصدقة، لأن زينب هى التى كانت تحب الصدقة.

(3/419)


- باب صَدَقَةِ الْعَلانِيَة
) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [البقرة: 274] اختلف العلماء فى المعنى الذى نزلت فيه هذه الآية، فروى مجاهد عن ابن عباس، أنها نزلت فى على بن أبى طالب، كانت معه أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهمًا، وبالنهار درهمًا، وسرًا درهمًا، وعلانية درهمًا. وقال الأوزاعى: نزلت فى الذين يرتبطون الخيل خاصة فى سبيل الله، ينفقون عليها بالليل والنهار. وروى عن قتادة قول ثالث: أنها نزلت فيمن أنفق ماله فى سبيل الله، لقول الرسول، (صلى الله عليه وسلم) : (إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا عن يمينه، وعن شماله، وقليل ما هم) هؤلاء قوم أنفقوا أموالهم فى سبيل الله الذى افترض وارتضى من غير سرف ولا إملاق، ولا تبذير، ولا فساد. ولا خلاف بين أئمة العلم أن إعلان صدقة الفريضة أفضل من إسرارها، وأن إسرار صدقة النافلة أفضل من إعلانها على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله.
- باب صَدَقَةِ السِّرِّ
وَقَالَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) : (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ) . وَقَوْلِهِ: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 271] الآيَةَ.

(3/420)


عند كافة العلماء أن صدقة السر فى التطوع أفضل من العلانية، وتأولوا قوله، (صلى الله عليه وسلم) : (فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) . أن المراد بذلك صدقة التطوع، وروى عن ابن عباس فى قوله: (إن تبدوا الصدقات فنعما هى) [البقرة: 271] الآية. قال: جعل الله تعالى صدقة التطوع فى السرِّ تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفرض علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفًا، وكذلك جميع الفرائض، والنوافل فى الأشياء كلها. وقال سفيان: (إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم (قال: سوى الزكاة، وهذا قول كالإجماع. وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) مثل ضربه فى المبالغة بالاستتار بالصدقة، لقرب الشمال من اليمين، وإنما أراد بذلك أن لو قدر أن لا يعلم من يكون عن شماله من الناس ما تتصدق به يمينه لشدة استتاره، وهذا على المجاز كقوله تعالى: (واسأل القرية) [يوسف: 82] لأن الشمال لا توصف بالعلم. وقوله تعالى: (والله بما تعملون خبير) [البقرة: 271] أى والله بما تعملون فى صدقاتكم من إخفائها وإعلانها، وفى غير ذلك من أموركم ذو خبرة وعلم لا يخفى عليه شىء منه، فهو محيط به مُحْصٍ له على أهله حتى يوفيهم جزاء قليله وكثيره.

(3/421)


- باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِىٍّ وَهُوَ لا يَعْلَمُ
/ 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (قَالَ رَجُلٌ: لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدَيْ غَنِىٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِىٍّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ، وَعَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِىٍّ، فَأُتِىَ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِىُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ) . قال المهلب: قوله فى الحديث: (فأتى فقيل له: أما صدقتك على سارق. . .) إلى آخر الحديث، يعنى أنه أُرى ذلك فى المنام، والرؤيا حق. وقوله: (فلعله أن يستعف عن سرقته) ، فإن لعل من الله على معنى القطع والحتم، ودل ذلك أن صدقة الرجل على السارق والزانية والغنى قد تقبلها الله، لأنها إذا كانت سببًا إلى ما يرضى الله فلا شك فى فضلها وقبولها. واختلف العلماء فى الذى يعطى الفقير من الزكاة على ظاهر فقره ثم تبين غناه، فقال الحسن البصرى: إنها تجزئه. وهو قول أبى حنيفة، ومحمد، قالوا: لأنه قد اجتهد، وأعطى فقيرًا عنده،

(3/422)


وليس عليه إلا الاجتهاد. وأيضًا فإن الصدقة إذا خرجت من مال المتصدق على نية الصدقة أنها جازية عنه حيث وقعت ممن بسط إليها إذا كان مسلمًا بدليل هذا الحديث قاله المهلب. وقال أبو يوسف، والثورى، والحسن بن حى، والشافعى: لا تجزئه، لأنه لم يضع الصدقة موضعها، وقد أخطأ فى اجتهاده كما أنه لو نسى الماء فى رحله، وتيمم لصلاته لم تجزئه صلاته. واختلف قول ابن القاسم: هل تجزئه أم لا، فقال ابن القصار: وقول مالك يدل على هذا، لأنه نص فى كفارة اليمين إن أطعم الأغنياء أنه لا يجزئه، وإن كان قد اجتهد فالزكاة أَوْلَى. وأما الصدقة على السارق والزانية، فإن العلماء متفقون أنهما إن كانا فقيرين فهما ممن تجوز له الزكاة.
- باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لا يَشْعُرُ
/ 25 - فيه: مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ، بَايَعْتُ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَا وَأَبِى وَجَدِّى وَخَطَبَ عَلَىَّ فَأَنْكَحَنِى، وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِى يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ) . اتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الابن، ولا إلى الأب، إذا كانا ممن تلزم المزكى نفقتهما لأنها وقاية لماله،

(3/423)


ولم يختلفوا أنه يجوز له أن يعطيهما ما شاء من صدقة تطوع أو غيرها. والمراد بهذا الحديث عندهم صدقة التطوع. واختلفوا فى دفع الزكاة إلى سائر القرابات المحتاجين الذين لا تلزم النفقة عليهم، فروى عن ابن عباس أنه يجزئه، وهو قول عطاء، والقاسم، وسعيد بن المسيب، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وقالوا: هى لهم صلة وصدقة. وقال ابن المسيب: أولى الناس بزكاة مالى يتيمى ومن كان منى. وروى مطرف عن مالك أنه لا بأس أن يعطى قرابته من زكاته إذا لم يعط من يعول، فقال: رأيت مالكًا يعطى قرابته من زكاته، وهو قول أشهب. وقال الحسن البصرى وطاوس: لا يعطى ذوى قرابته من الزكاة شيئًا. وذكر ابن المواز، عن مالك أنه كره أن يخص قرابته بزكاته، وإن لم تلزمه نفقتهم. قال المهلب: وفيه أن للابن أن يخاصم أباه، وليس بعقوق إذا كان ذلك فى حق، على أن مالكًا قد كره ذلك، ولم يجعله من باب البر. وفيه: أن ما خرج إلى الابن من مال الأب على وجه الصدقة، أو الصلة أو الهبة لله، وحازه الابن أنه لا رجوع للأب فيه، بخلاف الهبة التى للأب أن يعتصرها ولم يكن له أن يقبض

(3/424)


الصدقة وكل هبة وصدقة وعطية لله تعالى، فليس له أن يقبضها لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (العائد فى صدقته كالكلب يعود فى قيئه) . وسيأتى حكم الرجوع فى الهبات، ثم الاختلاف فى ذلك فى كتاب الهبة، إن شاء الله.
- باب الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ
/ 26 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ. . . . . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ. . . . . . . . . .) الحديث. لما كانت اليمين أفضل من الشمال، وكانت الصدقة يراد بها وجه الله، استحب فيها أن تناول بأشرف الأعضاء، وأفضل الجوارح. وقد تقدم فى باب صدقة السر أن إخفاء النوافل والاستتار بها أفضل عند الله من إظهارها، بخلاف الفرائض. قال عبد الواحد: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) مثل ضربه بالاستتار بالصدقة لقرب الشمال من اليمين، وإنما أراد بذلك أن لو قدر ألا يعلم من يكون عن شماله من الناس ما تصدق به يمينه لشدة استتاره، وهذا على المجاز كقوله تعالى: (واسأل القرية) [يوسف: 82] لأن الشمال لا توصف بالعلم، وبالله التوفيق.

(3/425)


- باب مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ) . / 27 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا) . وترجم له باب (أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة) . وترجم له باب (أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد) وزاد: عن أبى موسى، قال النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (الخازن المسلم الأمين الذى ينفق ما أُمر به كاملاً موفرًا طيبًا نفسه، فيدفعه إلى الذى أُمر له به أحد المصدقين) . قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) [المائدة: 2] ، فدلت هذه الآية على اشتراك المتعاونين على الخير فى الأجر، وجاء هذا المعنى فى هذه الأحاديث، إلا أنه لا يجوز لأحد أن يتصدق من مال أحد غيره بغير إذنه، لكن لما كانت امرأة الرجل لها حق فى ماله، وكان لها النظر فى بيتها جاز لها الصدقة بما لا يكون إضاعة للمال، ولا إسرافًا، لكن بمقدار العرف والعادة، وما تعلم أنه لا يؤلم زوجها، وتطيب به نفسه. فأخبر (صلى الله عليه وسلم) أنها تؤجر على ذلك، ويؤجر زوجها بما كسب، ويؤجر الخادم الممسك لذلك، وهو الخازن المذكور فى الحديث، إلا أن مقدار أجر كل واحد منهم لا يعلمه إلا الله، غير أن الأظهر أن الكاسب أعظم أجرًا.

(3/426)


وقوله: باب من أمر خادمه بالصدقة، ولم يناول بنفسه ينفك من قوله فى الحديث: (وللخادم مثل ذلك) ، لأن الخادم لا يجوز أن يتصدق من مال مولاه إلا بما أمره بالصدقة به، بخلاف الزوجة، لأن الخادم ليس له فى متاع مولاه تصرف، ولا حكم، وإنما هو خازن عليه فقط، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، شرط فى الخازن أن يؤدى الذى أمر به موفرًا طيبًا به نفسه، وكذلك يصح له الأجر، لأن من لم تطب نفسه على فعل الخير فلا نية له فيه، لأنه لا عمل إلا بنية، وكذلك إذا نقص المسكين مما أمر له به فقد خانه، فنقص أجره وخشى عليه الإثم.
- باب لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى
وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ، أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْهِبَةِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ. قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) ، إِلا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، كَفِعْلِ أَبِى بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ آثَرَ الأنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ. وَنَهَى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ كَعْب: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى

(3/427)


أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) ، قُلْتُ: فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِى الَّذِى بِخَيْبَرَ. / 28 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) . / 29 - وفيه: حَكِيمِ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ) . وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ. قال بعض أهل العلم: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) دليل على أن النفقة على الأهل أفضل من الصدقة، لأن الصدقة تطوع، والنفقة على الأهل فريضة. وقوله: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) أى لا صدقة إلا بعد إحراز قوته وقوت أهله، لأن الابتداء بالفرائض قبل النوافل أولى، وليس لأحد إتلاف نفسه، وإتلاف أهله بإحياء غيره، وإنما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه، وأهله، إذ حق نفسه وحق أهله أوجب عليه من حق سائر الناس، ولذلك قال: (وابدأ بمن تعول) ، وقال لكعب: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) . قال الطبرى: فإن قيل: هذا المعنى يعارض فعل أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، حين تصدق بماله كله، وأمضاه النبى (صلى الله عليه وسلم) . قيل: قد اختلف العلماء فيمن تصدق بماله كله فى صحة بدنه

(3/428)


وعقله، فقالت طائفة: ذلك جائز إذا كان فى صحته. واعتلوا بخبر أبى بكر حين تصدق بماله كله، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قَبِلَ ذلك ولم ينكره ولا رَدَّهُ، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، والجمهور. وقال آخرون: ذلك كله مردود، ولا يجوز شىء منه. رُوى ذلك عن عمر بن الخطاب أنه رد على غيلان بن سلمة نساءه، وكان طلقهن، وقسم ماله على بنيه، فَرَدَّ عمر ذلك كله. وقال آخرون: الجائز من ذلك الثلث، ويرد الثلثان واعتلوا بحديث كعب بن مالك، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) رَدَّ صدقته إلى الثلث. هذا قول مكحول، والأوزاعى. وقال آخرون: كل عطية تزيد على النصف ترد إلى النصف. روى ذلك عن مكحول. قال الطبرى: والصواب فى ذلك عندنا أن صدقة المتصدق بماله كله فى صحة بدنه وعقله جائزة، لإجازة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صدقة أبى بكر بماله كله، وإن كنت لا أرى أن يتصدق بماله كله، ولا يجحف بماله ولا بعياله، وأن يستعمل فى ذلك أدب الله تعالى لنبيه، (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا) [الإسراء: 29] وأن يجعل من ذلك الثلث كما أمر الرسولُ كعبَ بن مالك وأبا لبابة. وأما إجازته لأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، الصدقة بماله كله، فهو إعلام منه أمته أن ذلك جائز غير مذموم وردُّه على

(3/429)


كعب، وأبى لبابة ما رَدَّ، وأمرهُ لهما بإخراج الثلث إعلامٌ منه بموضع الاستحباب والاختيار، لا حَظْرا منه للصدقة بجميع المال، والدليل على ذلك إجماع الجميع على أن لكل مالك مالا إنفاق جميعه فى حاجاته، وصرفه فيما لا يحرم عليه من شهواته، فمثله إنفاق جميعه فيما فيه القربة إلى الله، إذ إنفاقه فى ذلك أولَى من إنفاقه فى شهواته، ولذاته. قال غيره: وأما قوله: وأما من تصدق وعليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه. فهو إجماع من العلماء لا خلاف بينهم فيه. وقوله: إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيؤثر على نفسه. فإنما يرجع هذا الاستثناء إلى قوله: من تصدق وهو محتاج. ولا يرجع إلى قوله: أو عليه دين، للإجماع الذى ذكرنا، ومن بلغ منزلة الإيثار على نفسه، وعلم أنه يصبر على الفقر، ويصبر أهله عليه، فمباح له أن يؤثر على نفسه، ولو كان بهم خصاصة، وجائز له أن يتصدق وهو محتاج، ويأخذ بالشدة كما فعل الأنصار بالمهاجرين، وكما فعل أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، وإن عرف أنه لا طاقة له ولا لأهله على مقارعة الفقر والحاجة، فإمساكه لماله أفضل، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) وقوله: (وابدأ بمن تعول) وقد روى عباد بن العوام عن عبد الملك بن عمير، عن عطاء، عن أبى هريرة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) لفظ الترجمة وهو معنى قوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) .

(3/430)


اليد العليا خير من اليد السفلى) . فيه ندب إلى التعفف عن المسألة، وحض على معالى الأمور، وترك دنيئها، والله يحب معالى الأمور، وفيه: حض على الصدقة أيضًا. لأن العليا يد المتصدق، والسفلى يد السائل، والمعطِى مفضل على المعطَى، والمفضَّل خير من المفضَّل عليه، ولم يُرِدْ (صلى الله عليه وسلم) أن المفضَّل فى الدنيا خير فى الدين، وإنما أراد فى الإفضال والإعطاء. قال الخطابى: وتفسيره فى هذا الحديث: اليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة تفسير حسن، وفيه وجه آخر أشبه بمعنى الحديث، وهو أن تكون العليا هى المتعففة، وقد روى ذلك مرفوعًا: حدثونا عن علىِّ بن عبد العزيز، حدثنا عارم، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يخطب يقول: (اليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا المتعففة) . ورواه ابن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا المنفقة، واليد السفلى السائلة) . قال أبو داود: ورواه عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مثله، ويؤكد هذا ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عروة، وسعيد بن المسيب، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه، فقال حكيم: ما كنت أظن يا رسول الله

(3/431)


[أن] تقصر بى دون أحد. فزاده حتى رضى، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، قال: ومنك يا رسول الله؟ قال: (ومنى) ، قال: والذى بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا، فلم يقبل عطاء ولا ديوانًا حتى مات. قال أبو سليمان: فلو كانت اليد العليا المعطية، لكان حكيم قد توهم أن يدًا خير من يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقوله: (ومنك يا رسول الله) يريد أن التعفف من مسألتك كهو من مسألة غيرك، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (نعم) ، فكان بعد ذلك لا يقبل العطاء من أحد. وروى فى وجه ثالث عن الحسن، قال: اليد العليا المعطية، واليد السفلى المانعة. قال المؤلف: وحديث عروة وسعيد مرسل، والمسند أقطع فى الحجة عند التنازع.
- بَاب الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى (الآيَةَ [البقرة: 262] ذكر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فى الذى يعطى ماله المجاهدين فى سبيل الله معونة لهم على جهاد العدو، ثم يمن عليهم بأنه قد صنع إليهم معروفًا إما بلسان أو بفعل، والأذى أن يقول: إنهم لم

(3/432)


يقوموا بالواجب عليهم فى الجهاد. وشبه ذلك من القول، ومن أخرج شيئًا لله لم ينبغ أن يمن به على أحد، لأن ثوابه على الله تعالى. وروى أبو ذر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذى لا يعطى شيئًا إلا منهُ، والمنفقة سلعته بالحلف، والمسبل إزاره) . ذكره مسلم من حديث سفيان، عن الأعمش، عن سليمان ابن مسهر، عن خراشة بن الحر، عن أبى ذر.
- باب مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا
/ 30 - فيه: عُقْبَةَ بْن الْحَارِثِ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ - أَوْ قِيلَ لَهُ - فَقَالَ: (كُنْتُ خَلَّفْتُ فِى الْبَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ) . فى هذا الحديث: حض وندب على تعجيل الصدقات وأفعال البر كلها إذا وجبت، وإنما عجل (صلى الله عليه وسلم) تلك الصدقة، لأنه خشى أن يكون محتاجًا من وجب له حق فى ذلك التبر فيحبس عنه حقه تلك الليلة، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا فبين لأمته، ليقتدوا به (صلى الله عليه وسلم) .

(3/433)


- باب التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا
/ 31 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلا بَعْدُ، ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ، وَبِلالٌ مَعَهُ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ. / 32 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: (اشْفَعُوا، تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ) . / 33 - وفيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: قَالَ لِىَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُوكِى، فَيُوكَى الله عَلَيْكِ ولا تُحْصِى فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْكِ) . وترجم لحديث أسماء باب (الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ) ، وزاد فى آخره: (ارْضَخِى مَا اسْتَطَعْتِ) . قال المؤلف: الشفاعة فى الصدقة وسائر أفعال البر، مرغب فيها، مندوب إليها، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اشفعوا تؤجروا) ، فندب أمته إلى السعى فى حوائج الناس، وشرط الأجر على ذلك، ودَلَّ قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء) أن الساعى مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه ولم تنجح طلبته، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه) . وقد احتج أبو حنيفة والثورى بحديث ابن عباس، فأوجبوا الزكاة فى الحلى للباس، وقال مالك: لا زكاة فى الحلى، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء.

(3/434)


قال ابن القصار، والمهلب: ولا حجة فى حديث ابن عباس لمن أوجب الزكاة فى الحلى، لأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما حَضَّهُنَّ على صدقة التطوع لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تصدقن ولو من حليكن) ، ولو كان ذلك واجبًا، لما قال: (ولو من حليكن) . قال عبد الواحد: ومما يَرُدُّ قول أبى حنيفة أن لو كان ذلك من باب الزكاة لأعطينه بوزن ومقدار، فدل أنه تطوع. قال أبو عبيد: الحلى الذى يكون زينة النساء ومتاعًا هو كالأثاث، وليس كالرقة التى وردت السنة بأخذ ربع العشر منها. والرقة عند العرب الورق ذات السكة السائرة بين الناس، وعلى هذا جرى العمل بالمدينة لا خلاف عندهم أنه لا زكاة فيه، وذكر مالك، عن عائشة، أنها كانت تحلى بنات أخيها يتامى كن فى حجرها بالحلى فلا تخرج منه الزكاة، وكان يفعله ابن عمر. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أسماء: (لا توكى فيوكى الله عليك) ، فإنما سألته عن الصدقة، وقالت له: يا رسول الله، ما لى إلا ما يُدخل علىّ الزبير، أفأتصدق؟ قال: (تصدقى ولا توكى فيوكى الله عليك) . وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن ابن أبى مليكة، أن عائشة قالت لخادمها: ما أعطيت السائل؟ فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحصى فيحصى الله عليك) ، ومعنى قوله: (لا توكى فيوكى الله عليك) ، أى لا توكى مالك عن الصدقة، فلا تتصدقى

(3/435)


خشية نفاده، فيوكى الله عليك، أى يمنعك كما منعت السائل. دَلَّ هذا الحديث أنَّ الصدقة قد تنمى المال، وتكون سببًا إلى البركة والزيادة فيه، وأن من شح ولم يتصدق، فإن الله يوكى عليه، ويمنعه من البركة فى ماله والنماء فيه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ارضخى ما استطعت) ، أى تصدقى ما استطعت. والعرب تقول: رضخ له من ماله رضخًا، أى أعطاه قليلاً من كثير، عن صاحب الأفعال، وقال صاحب العين: القُلْبُ من الأسورة ما كان قلدًا واحدًا. والقُلْب: الحية البيضاء، والخرص حلقة فى الأذن، عن غيره.
- باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ
/ 34 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قول رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِىءٌ، فَكَيْفَ قَالَ؟ قُلْتُ: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ) . قَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ كَانَ يَقُولُ: (الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ) الحديث. قوله: (فتنة الرجل فى أهله وولده وجاره) يريد ما يفتتن به من صغار الذنوب التى تكفرها الصلاة والصدقة وما جاء منه، وسأشبع القول فى تفسير هذا الحديث فى كتاب الصيام، فى باب الصوم كفارة، إن شاء الله تعالى. قال المهلب: وفيه: ضرب الأمثال فى العلم. وفيه: حجة لما

(3/436)


يتكلم به أهل العلم من قطع الذرائع، ويعبرون عنه بغلق الباب وبفتحه كما عبر عنه حذيفة وعمر، وأن ذلك من المتعارف من الكلام. وفيه: أنه قد يكون عند الصغير من العلم ما ليس عند العالم المبرز. وفيه: أن العلم قد يرمز به رمزًا ليفهم المرموز له دون غيره، لأنه ليس كل العلم تجب إباحته إلى من ليس بمتفهم له، ولا عالم بمعناه. وفيه: أن الكلام فى الحدثان مباح إذا كان فى ذلك أثر عن النبوة، وما سوى ذلك ممنوع، لأنه لا يصدق منه إلا أقل من عشر العشر، وذلك الجزء إنما هو على غلبة الظن، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيزيد إليها أكثر من مائة كذبة) .
- باب مَنْ تَصَدَّقَ فِى الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ
/ 35 - فيه: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَتَاقَةٍ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ) . قال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث: أن كل مشرك أسلم أنه يكتب له أجر كل خير عمله قبل إسلامه، ولا يكتب عليه بشىء من سيئاته، لأن الإسلام يهدم ما قبله من الشرك، وإنما كتب له الخير، لأنه إنما أراد به وجه الله، لأنهم كانوا مقرين بالله إلا أن علمهم كان مردودًا عليهم لو ماتوا على شركهم، فلما

(3/437)


أسلموا تفضل الله عليهم، فكتب لهم الحسنات، ومحا عنهم السيئات، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد) . ومما يدل على صحة ذلك ما رواه عبد الله بن وهب، قال: حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه، كتب الله كل حسنة كان زلفها، ومحا عنه كل سيئة كان زلفها، وكان عمله بَعْدُ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله) . قال المهلب: ولعل حكيمًا لو مات على جاهليته أن يكون ممن يخفف عنه من عذاب النار، كما جاء فى أبى طالب أنه أخف أهل النار عذابًا، ومثل ذلك ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، أن أبا لهب أعتق جارية يقال لها: ثويبة، وكانت قد أرضعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فرأى أبا لهب بعضُ أهله فى النوم، فسأله فقال: ما وجدت بعدكم من راحة غير أنى سقيت فى هذه، وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، بعتقى ثويبة) . وسيأتى فى كتاب العتق فى باب عتق المشرك، اختلاف أهل العلم فى عتق المشرك، إن شاء الله.

(3/438)


- بَاب قَوْله تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (إلى) لِلْعُسْرَى) [الليل: 5 - 10]
/ 36 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) . قال المؤلف: معنى هذا الحديث: الحض على الإنفاق فى الواجبات، كالنفقة على الأهل وصلة الرحم، ويدخل فيه صدقة التطوع، والفرض، ومعلوم أن دعاء الملائكة مجاب، بدليل قوله: (فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ومصداق الحديث قوله تعالى: (وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه) [سبأ: 39] يعنى ما أنفقتم فى طاعة الله، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ابن آدم، أنفق أُنفق عليك) . واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقال ابن عباس: قوله: (وصدق بالحسنى) [الليل: 6] صدق بالخلف من الله تعالى. وقال الضحاك: صدق بلا إله إلا الله. وروى عن ابن عباس أيضًا. وقال مجاهد: صدق بالجنة. وقال قتادة: صدق بموعود الله على نفسه، فعمل به. قال ابن الأدفوى: وأشبه الأقوال عندى قول من قال: وصدق بالخلف من الله تعالى لنفقته، يدل على ذلك قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى (فكان أولى المعانى به أن يكون عقيبه الخبر بتصديقه بوعد الله بالخلف، ويؤيد ما قلناه حديث أبى هريرة، وقول الملائكة: (اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا

(3/439)


تلفًا) ، وأنزل الله تعالى فى القرآن) فأما من أعطى واتقى (الآية. وقال ابن إسحاق: نزلت هذه الآية فى أبى بكر الصديق، روى أنه اشترى تسعة كانوا فى أيدى المشركين لله، فأنزل الله هذه الآية. وروى أنها نزلت فى رجل ابتاع نخلة كانت على حائط أيتام، فكان يمنعهم أكل ما سقط منها، فابتاعها رجل منه، وتصدق بها عليهم. وقوله تعالى: (فسنيسره لليسرى) [الليل: 7] يريد الحالة اليسرى، وهى العمل بما يرضاه الله تعالى منه فى الدنيا ليوجب له به الجنة فى الآخرة. وقالوا فى قوله تعالى: (وكذب بالحسنى) [الليل: 9] وكذب بالخلف، عن ابن عباس، وروى عنه أيضًا: كذب بلا إله إلا الله. وقال قتادة: كذب بموعود الله تعالى. وقال مجاهد: (وكذب بالحسنى (الجنة) فسنيسره للعسرى (أى للعمل بالمعاصى. ودلت هذه الآية أن الله تعالى الموفق للأعمال الحسنة والسيئة، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل الشقاء، ثم قرأ: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى) [الليل: 5، 6] الآية) . وقال الضحاك: العسرى: النار. فإن قيل: التيسير إنما يكون للحسنى فكيف جاء للعسرى؟ . فالجواب: أنه مثل قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) [آل عمران: 21] أى أن ذلك يقوم لهم مقام البشارة.

(3/440)


وأنشد سيبويه: تحية بينهم ضرب وجيع وقال الفراء: إذا اجتمع خير وشر، فوقع للخير تيسير، جاز أن يقع للشر مثله.
- باب مَثَلِ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ
/ 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ، فَلا يُنْفِقُ إِلا سَبَغَتْ، أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ، حَتَّى تُخْفِىَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ، فَلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا، وَلا تَتَّسِعُ) . قال المهلب: فيه أن الله تعالى ينمى مال المتصدق، ويستره ببركة نفقته بالنماء فى ماله، ألا ترى ضربه (صلى الله عليه وسلم) المثل بالجبتين، فإن المنفق يستره الله بنفقته من قرنه إلى قدمه، وجميع عوراته بالفعل فى الدنيا وبالأجر فى الآخرة، فماله لا يشتد عليه، وأما البخيل فيظن أن ستره فى إمساك ماله، فمالُه لا يمتد عليه فلا يستر من عوراته شيئًا حتى تبدو للناس فيبقى منكشفًا كمن يلبس جبة تبلغ إلى ثدييه، ولا تجاوز قلبه الذى يأمره بالإمساك، فهو يفتضح فى الدنيا، ويؤزر فى الآخرة.

(3/441)


- باب صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ (الآية [البقرة: 267] . قال المؤلف: روى عن ابن عباس فى قوله: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم (قال: من أطيب أموالكم وأنفسها. وقال على بن أبى طالب: من الذهب والفضة. وقال مجاهد: من التجارة الحلال. وقال عبيدة السلمانى: سألت على بن أبى طالب عن هذه الآية، فقال: نزلت فى الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الردئ، فأنزل الله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) [البقرة: 267] وروى هذا القول عن قتادة، والحسن، وعطاء، ومجاهد. وقال آخرون: معنى قوله: (ولا تيمموا الخبيث (من الحرام) منه تنفقون (وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب. هذا قول ابن زيد، والتأويل هو قول الصحابة والعلماء.
- باب عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ
/ 38 - فيه: أَبُو موسى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ) ، فَقَالُوا: يَا رسول اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: (يَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ

(3/442)


نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ) ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: (يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ) ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: (فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ) . محمل هذا الحديث عند الفقهاء على الحض والندب على الصدقة، وأفعال الخير كلها، وهو مثل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (على كل سلامى من الناس صدقة) ، أى أنهم مندوبون إلى ذلك، فإن قيل: كيف يكون إمساكه عن الشر صدقة؟ قيل: إذا أمسك شره عن غيره، فكأنه قد تصدق عليه بالسلامة منه، وإن كان شرًا لا يعدو نفسه، فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم.
- باب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أَعْطَى شَاةً
/ 39 - فيه: أُمّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: بُعِثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الأنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (عِنْدَكُمْ شَىْءٌ) ، فَقُلْتُ: لا، إِلا مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ، فَقَالَ: (هَاتِ، فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) . اختلف العلماء فى قدر ما يجوز أن يعطى الإنسان من الزكاة، فذكر ابن القصار عن مالك أنه قال: يُعطى الفقير من الزكاة قدر كفايته وكفاية عياله، ولم يبين مقدار ذلك لمدة معلومة. وعندى أنه يجوز أن يعطيه ما يغنيه حتى يجب عليه ما يزكى.

(3/443)


قال المهلب: قد بين المدة فى رواية على، وابن نافع فى المجموعة، قال مالك: يُعطى الفقير قوت سنته، ثم يزيده للكسوة بقدر ما يرى من حاجته. وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطى إنسان واحد من الزكاة مائتى درهم، فإن أعطيته أجزأك. وقال المغيرة: لا بأس أن يعطيه من الزكاة أقل مما تجب فيه الزكاة، ولا يعطى ما تجب فيه الزكاة. وقال الثورى، وأحمد بن حنبل: لا يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهمًا إلا أن يكون غارمًا. وقال الشافعى: يعطى من الزكاة حتى يغنى، ويزول عنه اسم المسكنة، ولا بأس أن يعطى الفقير الألف، وأكثر من ذلك، لأنه لا تجب عليه الزكاة إلا بمرور الحول. وهو قول أبى ثور. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يعطى من زكاة غنمه للرجل شاة ولأهل البيت الشاتين، والثلاث، وإذا كثرت الحاجة فلا بأس أن يجمع النفر فى الشاة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (هات فقد بلغت محلها) أى قد صارت حلالاً بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية، وهو مثل قوله فى لحم بريرة الذى أهدته لعائشة: (هو عليها صدقة، ولنا هدية) . وقد ترجم لهذا الحديث بعد هذا باب إذا تحولت الصدقة.

(3/444)


30 - باب زَكَاةِ الْوَرِقِ
/ 40 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة ذَوْدٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرَقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ. . .) الحديث. قال أبو عبيد: الأوقية اسم لوزن مبلغه أربعون درهمًا كيلاً. ولم يجز أن تكون الأوقية على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) مجهولة القدر، ثم توجب الزكاة فيها، ولا يعلم مقدار وزنها. قال: وكانت الدراهم غير معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان، فجمعها وجعل كل عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل. وقوله: (كانت الدراهم غير معلومة) يريد لم يكن عليها نقش، وإنما كانت قطع فضة غير مضروبة ودراهم من ضرب الروم، فكره عبد الملك ضرب الروم وردَّها إلى ضرب الإسلام. فى قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) فائدتان: إحداهما: نفى الزكاة عما دون خمس أواق. والثانية: إيجابها فى ذلك المقدار، وما زاد عليه بحسابه هذا يوجبه ظاهر الحديث، لعدم النص على العفو فيما بعد الخمس الأواق حتى يبلغ مقدارًا ما، فلما عدم النص فى ذلك وجب القول بإيجابها فى القليل والكثير. روى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وهذا قول النخعى، وعمر بن عبد العزيز،

(3/445)


وابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: لا شىء فيما زاد على الخمس الأواق حتى تبلغ الزيادة أربعين درهمًا، فإذا بلغتها كان فيها درهم. روى هذا القول عن عمر بن الخطاب، رواه الليث، عن يحيى بن أيوب، عن حميد، عن ابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، وطاوس، وعطاء، والشعبى، ومكحول، وابن شهاب، وإليه ذهب أبو حنيفة. قال ابن القصار: واحتجوا بما رواه عبادة بن نُسى عن معاذ بن جبل، أن رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) ، أمره حين بعثه إلى اليمن أن لا يأخذ من الكسور شيئًا، إذا بلغ الورق مائتى درهم، أخذ منه خمسة دراهم، ولا يأخذ مما زاد حتى تبلغ أربعين. قال الطبرى: وعلتُهم من طريق النظر القياس على أوقاص البقر، وما بين الفريضتين فى الإبل والغنم أنه لا شىء فى ذلك، فالواجب أن يكون كذلك كل مال وجبت فيه الصدقة أن لا يكون بين الفريضتين غير الفرض الأول. واحتج أهل المقالة الأولى بأن قالوا: إن عبادة بن نُسى لم يسمع من معاذ شيئًا، وراويه: أبو العطوف وهو متروك الحديث، فلا تجوز الحجة به، وعلتهم من طريق النظر القياس على الحبوب والثمار وأن الذهب والفضة معينان مستخرجان من الأرض بكلفة ومؤنة، ولا خلاف بين الجميع أن ما زاد على خمسة أوسق من الحب، وما توصل إليه بمثل ذلك من التمر

(3/446)


والزبيب، فيه من الصدقة بحساب ذلك، فالواجب قياسًا أن يكون مثله كل ما وجبت فيه الصدقة مما استخرج من الأرض بكلفة ومؤنة، وهذا القول هو الصواب. قال ابن القصار: ونقول: إن الأموال تختلف بعد إخراج النصاب الأول، فما كان إخراج الزكاة من زيادته لا يشق ويمكن أن يخرج منفصلاً لم يجعل له عفو فيما زاد على النصاب، وما لا يمكن إخراج الحق منه منفصلاً، أو فى وجوب الحق فيه مشقة، لأنه يؤدى إلى الإضرار وسوء المشاركة، ولم يمكن استخلاص حق الفقراء منه إلا بهذه المشقة أُخِّرَ حتى يمكن أخذه منفصلاً، فجعل له نصاب آخر بعد الأول، وأما الدراهم والدنانير والحبوب، فيمكن الأخذ من القليل والكثير منها من غير ضرر للشركة، لاحتمال التجزئة والتبعيض، فاختلف حكمها، وحكم المواشى من هذا الوجه، وقياسهم فاسد، فيما روى عن أبى حنيفة، فى خمسين من البقر مسُنِّة وربع.
31 - باب الْعَرْضِ فِى الزَّكَاةِ
قَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ لأهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِى بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ، أَوْ لَبِيسٍ فِى الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لأصْحَابِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَأَمَّا خَالِدٌ، فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ) ، فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ

(3/447)


الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، فَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْعُرُوضِ. / 41 - فيه: ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَىْءٌ) . / 42 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج إِلى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بالصدقة. . . . .) الحديث. اختلف العلماء فى أخذ العروض والقيم فى الزكاة، فقال مالك والشافعى: لا يجوز ذلك. وجوزه أبو حنيفة، واحتج أصحابه بما ذكر البخارى من أخذ معاذ للعروض فى الزكاة، وبحديث أنس عن أبى بكر، وقال: وكان معاذ ينقل الصدقات إلى المدينة، فيتولى رسول الله قسمتها، فإن كانت هذه الصدقة نقلها إلى المدينة فى حياة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقسمها بين فقراء المدينة، فلا محالة أنه قد أقره على جواز أخذ البدل فى الزكوات، لأنه قد علم (صلى الله عليه وسلم) أن الزكوات ليس فيها ما هو من جنس الثياب، وأنها لا تؤخذ إلا على وجه البدل، فصار إقراره له على فعله دلالة على الجواز،

(3/448)


وإن كان بعد موته فقد وضعها أبو بكر بحضرة الصحابة فى مواضعها مع علمهم أن الثياب لا تجب فى الزكاة، فصار ذلك إقرارًا منهم على جواز أخذ القيم، فتحصل للمسألة اتفاق بين الصحابة، قالوا: وكذلك أمره (صلى الله عليه وسلم) بإخراج بنت لبون، عن بنت مخاض، ويزيد المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، وهذا على طريق القيمة، قالوا: وإذا جاز أن يخرج عن خمس من الإبل شاة وهو من غير الجنس، جاز أن يخرج دينارًا عن الشاة. واحتجوا بما روى عن عمر بن الخطاب، أنه كان يأخذ العروض فى الزكاة ويجعلها فى صنف واحد من الناس، ذكره عبد الرزاق، عن الثورى، عن ليث، عن رجل حدثه عن عمر، ولهذا المذهب احتج البخارى، على كثرة مخالفته لأبى حنيفة، لكن اتباع الأحاديث قاده إلى موافقته. وقول البخارى: فجعلت المرأة تلقى خرصها وسخابها فلم يخص الذهب والفضة من العروض. وموضع الحجة منه أن السخاب ليست من فضة ولا ذهب. قال ابن دريد: السخاب: قلادة من قرنفل أو غيره، والجمع: سُخُب. ومن حلى النساء: الوَقْف، وهو من عاج وذَبْل، ما لم يكن من فضة ولا ذهب، فهو من العروض. فأراد البخارى أنه (صلى الله عليه وسلم) أخذ ذلك كله، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى باب من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده. واحتج المخالفون لهذا المذهب بأن قالوا: حديث معاذ خاص له لحاجة علمها بالمدينة، رأى أن المصلحة فى ذلك، وقامت الدلالة على أن غيره لا يجوز له أخذها، قالوا: وكذلك أخذ عمر العروض

(3/449)


على وجه التطوع لا على صدقة الفريضة، وقالوا فى حديث أنس: أنه لم يعمل به أهل المدينة، ولا أمر أبو بكر ولا عمر به السعاة، فوجب تركه لمعنى علموه. واحتج بحديث معاذ من أجاز نقل الصدقة إلى بلد آخر غير البلد الذى جُبيت فيه وستأتى هذه المسألة بعد هذا فى باب (أخذ الصدقة من الأغنياء وترد فى الفقراء) ، إن شاء الله. ووقع فى هذا الباب فى قول معاذ: ائتونى بعرض ثياب خميص بالصاد، والصواب فيه بالسين، كذلك فسره أبو عبيد، وأهل اللغة. قال صاحب العين: الخميس والمخموس: ثوب طوله خمسة أذرع. وذكره أبو عبيد، عن الأصمعى، وقال: عن أبى عمرو الشيبانى إنما قيل له: خميس، لأن أول من أمر بعمله ملك من ملوك اليمن يقال له: الخمس. فنسب إليه، واستشهد بقول أعشى بن قيس يصف نبات الأرض: يوما تَراها كشِبْه أَرْدِيِةَ ال خِمْسِ ويومًا أَدِيمها نَغِلا وقال الطبرى: فى قولهم: (مخموس) يدل أنه مما جاء مجىء ما يصرف من الأشياء التى أصلها مفعول إلى فعيل مثل جريج أصله: مجروح، وقتيل أصله: مقتول.

(3/450)


32 - باب لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ
وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مِثْلَهُ. / 43 - فيه: ثُمَامَةُ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، كَتَبَ لَهُ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) . واختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقال مالك فى الموطأ: تفسير قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يجمع بين متفرق) وهو أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة، قد وجب على كل واحد منهم فى غنمه الصدقة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة، فنهوا عن ذلك، وتفسير قوله: (ولا يفرق بين مجتمع) أن الخليطين يكون لكل واحد منهم مائة شاةٍ وشاةٌ، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فإذا أظَلَّهُما المُصَدِّق، فرقا غنمهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة فنهوا عن ذلك. فقيل: لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وإنما يعنى بذلك أصحاب المواشى. وهو قول الثورى، وكذلك قال الأوزاعى: هو خطاب لرب المال، وذلك أن يفترق الخلطاء عند قدوم المصدق، يريدون به بخس الصدقة. قال: ويصلح أن يراد به الساعى يجمع بين مفترق ليأخذ

(3/451)


منهم أكثر مما عليهم اعتداء، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، قالا: المراد به رب المال والساعى، فإذا كان لرجل مائة وعشرون شاة، فلا يفرقها أربعين أربعين، ليأخذ ثلاث شياه منها، لأن فيها مجتمعة شاة واحدة، فنهى الساعى عن ذلك. (ولا يجمع بين متفرق) رجل له مائة شاة وشاة، وآخر له مثلها، فإذا تركا على افتراقهما، كان فيها شاتان، وإذا جمعا كان فيها ثلاث شياه، وكذلك أصحاب الماشية يكون لرجلين أربعون شاة، فإذا جاء المصدق فَرَّقَاها على نفسين أو ثلاثة، فلا يكون فيها شىء، ولو تركت كان فيها شاة، أو يكون لثلاثة أربعون أربعون فإذا جاء المصدق جمعوها فتصير لواحد، فيأخذ منها شاة، فهذا لا يحل لرب المال، ولا للساعى. قال الشافعى: والخشية: خشية الساعى أن تقل الصدقة، وخشية رب المال أن تكثر الصدقة، وليس واحد منهما أولى بالخشية من الآخر، فأمر أن يقر كل على حاله إن كان مجتمعًا صَدَّق مجتمعًا، وإن كان مفترقًا صَدَّق مفترقًا. وقال أبو حنيفة: معنى قوله: (لا يجمع بين متفرق) أن يكون بين الرجلين أربعون شاة، فإن جمعاها صارت فيها شاة واحدة، ولو فرقاها عشرين عشرين لم يكن فيها شىء. قالوا: ولو كانا شريكين متفاوضين لم يجمع بين أغنامهما. قال: ومعنى قوله: (لا يفرق بين مجتمع) أن يكون

(3/452)


للرجل مائة وعشرون شاة، ففيها شاة واحدة، فإن فرقها المصدق فجعلها أربعين أربعين ففيهما ثلاث شياه، فنهى عن ذلك. وقال أبو يوسف: معنى قوله: (لا يجمع بين متفرق) أن يكون للرجل ثمانون شاة، فإذا جاء المصدق، قال: هى بينى وبين إخوتى لكل واحد منا عشرون فلا زكاة فيها، أو يكون له أربعون ولإخوته أربعون أربعون، فيقول: هذه كلها لى، وليس فيها إلا شاة واحدة، فهذه خشية الصدقة، لأن الذى يؤخذ منه يخشى الصدقة. قال: ويكون وجه آخر أن يجىء المصدق إلى ثلاثة إخوة، لواحد منهم عشرون ومائة شاة فعليه شاة فيقول: هذه بينكم، لكل واحد أربعون فأنا آخذ منها ثلاث شياه لكل أربعين شاة، أو يكون لهم جميعًا أربعون شاة، فلا يكون عليهم زكاة، فيقول المصدق: هذه لواحد منكم فأنا آخذ منها شاة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخلطاء فى الصدقة كغير الخلطاء، لا يجب على كل واحد منهما فيما يملك إلا مثل الذى يجب عليه لو لم يكن خليطًا كالذهب والفضة والزرع، ولا يغير سنة الزكاة خلط أرباب المواشى بعضها ببعض. قال الطبرى وغيره: وما تأوله أبو حنيفة وأصحابه تسقط معه فائدة الحديث، لأن نهيه (صلى الله عليه وسلم) أن يجمع بين مفترق ويفرق بين مجتمع، إنما أراد به: لا يجمع أرباب المواشى ولا المصدق بين المواشى المفترقة بإفراق الأرباب، ولا يفرقوا بين المواشى المجتمعة بخلط أربابها بينها، وأراد (صلى الله عليه وسلم) إقرار الأموال المفترقة

(3/453)


والمختلطة على ما كانت عليه قبل لحوق الساعى، ولا يتحيل بإسقاط صدقة بتفريق ولا جمع، ولو كان تفريقها مثل جمعها فى الحكم ما أفاد ذلك فائدة ولا نهى عنه، وإنما نهى عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهى عنه، ولولا أن ذلك معناه لما كان لتراجع الخليطين بالتسوية بينهما معنى معقول، لأنهما إذا كانا يصدقان وهما خليطان صدقة المفردين لم يجب لأحدهما قبل صاحبه بسبب ما أخذ منه من الصدقة تباعة ولا تراجع، فلا يجوز أن يخاطب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمته خطابًا لا يفيدهم معنى. وفى أمره (صلى الله عليه وسلم) الخليطين بالتراجع بينهما بالسوية صحة القول بأن صدقة الخلطة صدقة الواحد، ولولا ذلك ما انتفعا بالخلطة. قال ابن القصار: وقوله: (يتراجعان بينهما) يقتضى أن يكونا اثنين، وهذا لا يجىء على مذهب أبى حنيفة بوجه. قال الخطابى: قوله: (التى فرض رسول الله) معناه: قدرها وبينها، وأصل الفرض: القطع، ومنه أخذ فرض النفقات، وهو بيان مقدارها، وكذلك فرض المهر. قال الله تعالى: (أو تفرضوا لهن فريضة) [البقرة: 236] ، ومثله فرض الجند، وهو ما يقطع لهم من العطاء. قال: وإنما تأولناه على فرض التقدير دون فرض الإيجاب والإلزام؛ لأن فرض الزكاة قد لزم بالكتاب فوقعت به الكفاية، وإنما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها ما هو بيان لها.

(3/454)


33 - باب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ
قَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ: إِذَا عَلِمَ الْخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلا يُجْمَعُ مَالُهُمَا. وَقَالَ سُفْيَانُ: لا يَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً، وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً. / 44 - فيه: قَالَ ثُمَامَة، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ) . قال ابن أبى زيد: قال بعض العلماء من أصحابنا: الخليط فى الغنم الذى لا يشارك صاحبه فى الرقاب ويخالطه فى الاجتماع والتعاون، والشريك المشارك فى الرقاب، فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريكًا. قال الله تعالى فى الخلطاء من غير شركة: (وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض) [ص: 24] الآية. وفى أول القصة: (إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة) [ص: 23] . ومن المجموعة، وكتاب ابن المواز وغيره عن مالك: الخليط الذى غنمه من غنم صاحبه، والذى لا يعرف غنمه هو الشريك، وله حكم الخليط فى الزكاة. وقال الشافعى: الذى لا أشك فيه أن الخليطين الشريكان إذا لم يقتسما الماشية. قال ابن المنذر: وأما قول طاوس وعطاء: (إذا علم الخليطان مالهما فلا يجمع مالهما) ، فهى غفلة منهما، إذ غير جائز أن يتراجعا بالسوية والمال بينهما لا يَعرف أحدُهما ماله من مال صاحبه. واختلفوا فى ما يوجب الخلطة، فقال مالك: إذا كان الراعى واحدًا والفحل واحدًا والمراح واحدًا فهم خلطاء، وإن

(3/455)


افترقوا فى المبيت والحلاب، قال ابن القصار: فذكر مالك ثلاثة أوصاف، وقال مالك فى كتاب ابن المواز: إذا كان الفحل واحدًا، والراعى واحدًا، والمراح واحدًا فهم خلطاء. وإن كان بعض هذه يجزئ من بعض. قال أشهب: ما لم يفترقا فى الأكثر. وقاله ابن القاسم. قال ابن القصار: وكان الأبهرى يقول: إن اجتمع وصفان أيهما كان صحت الخلطة. وحكى عن بعض شيوخه أنه كان يراعى وصفًا واحدًا وهو الراعى، قال: لأنه كالإمام الذى يتميز به حكم الجماعة من حكم الانفراد. وقال أشهب فى المجموعة: لا تكون خلطة بوصف واحد. وعند الشافعى: لا يكونان خليطين إلا بأربعة أوصاف: المسرح، والمبيت، والحوض، والفحل، فمتى أخل بشرط من هذا لم تكن خلطة، وزكى كل واحد زكاة نفسه. قال ابن القصار: والصحيح عندى أن الخلطة تصح بشرطين، ولكن يراعى فيها أكثر ما يدخل الرفق والترفيه على الخليطين، وإذا كان الراعى واحدًا ترفها فى الأجرة، فليس من يرعى لواحد كمن يرعى لاثنين، وإذا كان الفحل واحدًا فكذلك، وإذا كان السقى من حوض، أو بئر يحتاج إلى من يعالجه فكذلك، ففى الغالب أن الأغنام إذا خرجت إلى المسرح لا تكاد تخلو من الاجتماع فى وصف ما، فإذا زاد عليه وصف آخر فيه رفق، وترفيه حصلت الخلطة. وعند أبى حنيفة وأصحابه أن الخلطة لا تغير حكم الانفراد فلم تراع أوصافها، وإنما دفع أبو حنيفة الخلطة، والله أعلم

(3/456)


السلام: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) ، وقوله: (ولا فيما دون أربعين من الغنم شىء) ورأوا أن الخلطة تغير هذا الأصل، فلم يقولوا بها، ولم يراع مالك مرور الحول كله على الخلطاء، فإذا خالطه قبل حلول الحول بشهر، أو بشهرين فهو عنده خليط. والشافعى يراعى مرور الحول كله عليهما. قال ابن القصار: وعلة مالك أن الرفاهية بالخلطة قد حصلت، ونقصان الزكاة وزيادتها يعتبر بآخر الحول. وقبل ذلك لم يكن من أهل الزكاة. وقال مالك: فى الخليطين لا يزكيان وكاة الواحد حتى يكون لكل واحد منهما نصاب، فحينئذ يترادان على كثرة الغنم وقلتها، فإن كان لأحدهما دون النصاب لم يؤخذ منه شىء، ولم يرجع عليه صاحبه بشىء. وهو قول الثورى، والكوفيين، وأبى ثور. وقال الليث، والشافعى، وأحمد: عليهما الزكاة، ولو لم يكن لكل واحد منهما نصاب. واحتج الشافعى فقال: لما لم أعلم خلافًا إذا كان ثلاثة خلطاء لهم مائة وعشرون شاة أن عليهم فيها شاة واحدة وأنهم يصدقون صدقة الواحد فنقصوا المساكين شاتين من مال الخلطاء، لو تفرق كل واحد منهم لم يجز إلا أن يقال: لو كانت أربعون بين ثلاثة رجال كان عليهم شاة، لأنه لما غيرت الخلطة أصل الفريضة فوجب فى الأربعين ثلث شاة وجب أن يغير النصاب، فيكون النصاب بينهم نصاب الواحد كما تكون زكاة الواحد، قال: وبهذا أقول فى الزرع أيضًا، فلو أن حائطًا كان حبسًا

(3/457)


على مائة إنسان لم يخرج إلا عشرة أوسق أخذت منه صدقة كصدقة الواحد، واحتج مالك بقوله: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) وقول عمر فى سائمة الغنم: (إذا بلغت أربعين ففيها شاة) . قال الطبرى: فغير جائز أن يوجب فيما نفى النبى أن تكون فيه الصدقة صدقة، لأن ذلك لو جاز جاز لآخر أن يبطل الصدقة فيما أوجبها فيه فأبطلنا الصدقة فيما أبطلها فيه (صلى الله عليه وسلم) ، وجعلنا حكم الخليطين حكم الواحد فيما لم تبطل فيه الصدقة، وإنما الخليطان اللذان عناهما النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من كان فى غنمه ما تجب فيه الزكاة. قال مالك فى كتاب ابن المواز: وإنما يتراد الخليطان بقدر العدد لا بقدر ما يلزم الواحد فى الانفراد، ولولا ذلك ما انتفعا بالخلطة. قال غيره: وذلك أن يكون لأحدهما أربعون شاة وللآخر ثمانون، فعلى صاحب الثمانين ثلثا شاة، وعلى صاحب الأربعين ثلث شاة، ولو كان لأحدهما خمسون وللآخر أربعون، لكان على صاحب الخمسين خمسة أتساع شاة، وعلى الآخر أربعة أتساعها.
34 - باب زَكَاةِ الإبِلِ
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 45 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّى صَدَقَتَهَا؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا) .

(3/458)


قال المهلب: كان هذا القول منه (صلى الله عليه وسلم) قبل فتح مكة، لأنه لو كان بعده لقال له: لا هجرة بعد الفتح، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) علم أن الأعراب قلما تصبر على المدينة لشدتها ولأوائها ووبائها، ألا ترى قلة صبر الأعرابى الذى استقاله بيعته حين مسته حُمّى المدينة، فقال للذى سأله عن الهجرة: إذا أديت الزكاة، التى هى أكبر شىء على الأعراب، ثم منحت منها وجبتها يوم ردها من ينتظرها من المساكين، فقد أديت المعروف، من حقوقها فرضًا وفضلاً، فاعمل من وراء البحار، فهو أقل لفتنتك كما افتتن المستقيل للبيعة، لأنه قد شرط عليه ما يخشى من منع العرب الزكاة التى بها افتتنوا بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب الهبات فى باب المنحة، فقال فيه: (فهل تمنح منها؟ قال: نعم، قال: فهل تحلبها يوم وردها؟ فقال: نعم) . وقال بعض العلماء: كانت الهجرة على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا. والدليل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى سأله عن الهجرة: (إن شأنها لشديد، فهل لك من إبل) ؟ ولم يوجب عليه الهجرة. قال أبو عبيد فى كتاب الأموال: كانت الهجرة على أهل الحاضرة، ولم تكن على أهل البادية.

(3/459)


وسيأتى شىء من الكلام فى الهجرة فى باب لا هجرة بعد الفتح فى كتاب الجهاد، إن شاء الله تعالى. قال الخطابى: قوله: (لن يَتِرَك) يعنى لن ينقصك، يقال: وتره يتره ترة، قال تعالى: (ولن يتركم أعمالكم) [محمد: 35] ومثله: (لا يلتكم من أعمالكم شيئًا) [الحجرات: 14] يعنى لن ينقصكم. وفيه لغتان: ألت يألت ألتًا، ولات يليت ليتًا، عن اليزيدى.
35 - باب مَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ
/ 46 - فيه: ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ، وَيُعْطِى شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عنده صَدَقَة بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَيُعْطِى مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ) . قال المؤلف: أما قوله: (من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده) ، فلم يأت ذكره فى هذا الحديث، وذكر فى باب

(3/460)


العرض فى الزكاة، وهذه غفلة من البخارى، رحمه الله، قال فيه: (ومن بلغت صدقته ابنة مخاض، وليست عنده، وعند ابنة لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، فإن لم يكن عنده ابنة مخاض، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه، وليس معه شىء) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى المال الذى لا توجد فيه السن التى تجب، ويوجد دونها أو فوقها، فكان النخعى يقول بظاهر هذا الحديث: إذا أخذ سنًا فوق سن رد عليهم عشرين درهمًا، أو شاتين، وإذا أخذ سنًا دون سن ردوا عليه عشرين درهمًا أو شاتين. وهو قول الشافعى، وأبى ثور. وفيها قول ثان، روى عن على بن أبى طالب: أن يرد عشرة دراهم أو شاتين. وهو قول الثورى. وفيها قول ثالث: وهو أن تؤخذ قيمة السن التى تجب عليه. وهو قول مكحول، والأوزاعى. وفيها قول رابع: قال أبو حنيفة: تؤخذ قيمة السن الذى وجب عليه، وإن شاء أخذ الفضل منها ورد عليهم فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها، وأخذ الفضل دراهم، ولم يعين عشرين درهمًا ولا غيرها وجوز أخذ ابن اللبون مع وجود بنت المخاض إذا كانت قيمتهما واحدة. وقال مالك: على رب المال أن يبتاع للمصدق السن التى تجب عليه ولا ضير فى أن يعطيه بنت مخاض عن بنت لبون، ويزيد ثمنًا، أو يعطى بنت لبون عن بنت مخاض، ويأخذ ثمنًا. وقال

(3/461)


ابن القاسم فى المجموعة: لا ينبغى أن يعطى أفضل، ويأخذ ثمنًا، أو أدنى ويؤدى ثمنًا، فإن ترك أجزأه. وقال ابن المواز: قال ابن القاسم، عن مالك فيمن عليه شاة فى خمس ذود فدفع فيها دراهم، قال: لولا خوفى أن يدخل فيه الظلم لم أر به بأسًا، ثم رجع فقال: لا يدفع إلا شاة، فإن دفع دراهم أجزأه، وبه أخذ ابن القاسم، وقاله سحنون. قال أشهب فيمن أدى قيمة صدقته أو أجبره المصدق على ذلك: أنه يجزئه إذا تعجله، للخلاف فيه. وحجة مالك فى منعه أخذ القيم فى الزكاة أنه من ابتياع الصدقة عنده. قال ابن القصار: أخذ مالك فى ذلك بكتاب عمر بن الخطاب فى الصدقة، وفيه: (فى خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين: بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون ذكر، وفيما فوق ذلك إلى خمس وأربعين: ابنة لبون، وفيما فوق ذلك إلى ستين: حقة طروقة الفحل، وفيما فوق ذلك إلى خمس وسبعين: جذعة، وفيما فوق ذلك إلى تسعين: ابنتا لبون، وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة: حقتان طروقتا الفحل، فإن زاد على ذلك ففى كل أربعين: ابنة لبون، وفى كل خمسين حقة) . ولم يأخذ مالك بحديث أنس، عن أبى بكر، ولا وجد العمل عليه بالمدينة، وأخذ بكتاب عمر فى الصدقة، وهو معروف مشهور عندهم بالمدينة. قال عبد الواحد: ومن منع أخذ القيم فى الزكاة فاحتج بأن ذلك من ابتياع الصدقة فليست بحجة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد أجاز للمعرى ابتياع عريته، وهى صدقة تَمْر إلى الجداد،

(3/462)


فاجتمع فى هذا إجازة ابتياع الصدقة وبيع التمر بالتمر نسيئة إذ لم يكن بد من ذلك للضرر الداخل على المعرى، فكذلك أخذ القيم جائز، وهى أخف من العرية لضرورة استهلاك حق المساكين فى ماله. وقال المهلب: إذا لم يجد السن، وأخذ غيرها، وجعل معها شاتين أو عشرين درهمًا، فليس ذلك من ابتياع الصدقة، لأن الصدقة لم تتعين فيبتاعها، وإنما هى معدومة مستهلكة، فعليه قيمة المستهلك فى إبله من جنس إبله أو غير جنسها، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أوجب فى خمس من الإبل شاة وليست من جنسها، وقال فى الخليطين: فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، والتراجع لا يكون إلا بالتقويم وأخذ العوض. وقال الطبرى: لما جعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، للمصدق إذا وجبت فى الإبل سن، ولم يجدها ووجد دونها أن يأخذ ما وجد ويلزمه دراهم أو غيرها، وإن وجد عنده فوق السن أن يأخذها، ويرد عليه قيمة ذلك دراهم أو غنمًا، وهذا لا شك أخذ عوض وبدل من الواجب على رب المال، وإنه إن لم يكن بيعًا وشراء فنظير للبيع والشراء، وذلك لأن البيع إنما هو إزالة ملك مالك إلى غيره بعوض، فكذلك المعطى ابنة مخاض وعشرين درهمًا،

(3/463)


أو شاتين مكان ابنة لبون لا شك أنه يعتاض بدراهمه فضل ما بين ابنة مخاض، وابنة لبون، التى هى صدقة ماله، وأكثر العلماء على القول بحديث أنس، أو بعضه، ولم أجد من خالفه كله غير مالك ابن أنس.
36 - باب زَكَاةِ الْغَنَمِ
/ 47 - فيه: ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ:
(بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِى أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا، فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلا يُعْطِ، فِى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ - يَعْنِى سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ - فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِى كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا أَرْبَعٌ مِنَ الإبِلِ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإبِلِ، فَفِيهَا شَاةٌ، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِى

(3/464)


سَائِمَتِهَا، إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاثِ مِائَةٍ، فَفِيهَا ثَلاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاثِ مِائَةٍ، فَفِى كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِى الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) . قال المهلب: قوله فى الحديث: (فما دونها من الغنم) يريد أن من الغنم يصير أخذ الزكاة إلى أربع وعشرين، وليس فى شىء من زكاة الإبل خلاف بين العلماء إلا فى قوله: (فإذا زادت واحدة على عشرين ومائة) ، فإن مالكًا اختلفت الرواية عنه، فروى عنه ابن القاسم، وابن عبد الحكم أن الساعى بالخيار بين أن يأخذ ثلاث بنات لبون، أو يأخذ حقتين على ما يراه صلاحًا للفقراء، وهو قول مطرف، وابن أبى حازم، وابن دينار، وأصبغ، وقال ابن القاسم: فيها ثلاث بنات لبون، ولا يخير الساعى، إلا أن تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة، وابنتا لبون. وهذا قول الزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور. وروى عبد الملك، وأشهب، وابن نافع، عن مالك أن الفريضة لا تتغير عن الحقتين بزيادة واحدة حتى تزيد عشرًا فيكون فيها بنتا لبون وحقة، وهو مذهب أحمد، قال عبد الملك عن مالك: إنما يعنى بقوله فى الحديث فيما زاد

(3/465)


على عشرين ومائة، يريد زيادة تحيل الأسنان، ولا تزول عن الحقتين إلى ثلاثين ومائة. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثورى: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة، فيكون فى خمس شاة، وفى عشر شاتان، فإذا صارت مائة وأربعين من الإبل ففيها حقتان وأربع شياه، فإذا بلغت مائة وخمسة وأربعين ففيها حقتان، وبنت مخاض كما كان فى ابتداء الإبل، فإذا بلغت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق، فإذا زادت استأنفت الفرائض كما استأنفت فى أولها. وأما وجه قول مالك فى أن الساعى بالخيار، فلأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما قال: (فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففى كل خمسين حقة) كان فى المائة حقتان بإجماع، فللمصدق أخذها من رب الماشية إذا كانت الزيادة على ذلك قبل أن تبلغ خمسًا وعشرين لا شىء فيها بإجماع، وله أيضًا أن يأخذ ثلاث بنات لبون لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا زادت على عشرين ومائة، ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة) كان فى المائة حقتان، فله إذا كان ذلك أن يتخير أفضل المنزلتين لأهل الحاجة. قاله الطبرى. قال غيره: ووجه قول ابن شهاب الذى اختاره ابن القاسم، فلأن أصل العبادات لما كانت مبنية على الاحتياط، وكان اسم الزيادة يقع على الواحد كان من الاحتياط للزكاة أن يتغير الحكم فى العشرين ومائة إذا زادت واحدة فتنتقل عن حكم الحقتين إلى حكم الثلاث بنات لبون، وهذا أحوط، ويعضده رواية الزهرى، عن سالم، عن أبيه، قال: إذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون.

(3/466)


وكذلك فى كتاب الصدقات لعمرو بن حزم، وقول مالك أقيس، لأن الواحدة من الإبل لا تغير حكم الزكاة فى الأحوال التى تقع زكاتها منها، وإنما هو لغو، ولو غيرت حكمها، ونقلتها من حال إلى حال لوجب أن تؤخذ الزكاة من الواحدة الزائدة كما تؤخذ من العشرين ومائة، فيكون فى كل أربعين وثلث ابنه لبون، ولا يؤخذ من ستين ومائة أربع بنات لبون، لأنها لا تبلغ أربعين وثلثًا، فلما أجمعوا أن هذا لا يجوز دل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة) إنما أراد الزيادة التى تجمع بحلولها فى المال الحقة وبنات اللبون، لا ما سواها. قال ابن القصار: ووجه رواية عبد الملك عن مالك ما رواه محمد بن عبد الرحمن الأنصارى، أن عمر بن عبد العزيز طلب كتاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وكتاب عمر فى الصدقة، وفيه: (فإذا بلغت عشرين ومائة فليس فيما زاد فيها مما دون العشرة شىء حتى تبلغ ثلاثين ومائة، ففيها بنتا لبون وحقة إلى أن تبلغ أربعين ومائة، ففيها حقتان وبنت لبون) . فهذا الخبر مفسر، وفى خبر أنس زيادة مبهمة ومحتملة للواحدة والعشر، ولا ينتقل عن الحقتين إلا بدليل، وفى زيادة العشر تنتقل بيقين، لأن فى ظاهر الخبر ذكر السنين لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى كل خمسين حقة، وفى كل أربعين بنت لبون) ، فيحتاج إلى فريضة تجمع الأمرين جميعًا. وقال الطبرى: اختلفت الأخبار فى ذلك، فروى ما يوافق كل طائفة فمن شاء أخذ بقول من شاء منهم. قال ابن القصار: أما قول أبى حنيفة أن الفريضة تستأنف، فهو

(3/467)


خلاف حديث أنس عن أبى بكر، وهو المعول عليه فى هذا الباب، وفيه: (فإذا زادت على عشرين ومائة ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة) ولم يخص زيادة من زيادة، ولا ذكر استئناف الغنم، وكذلك فى رواية الزهرى عن سالم، عن أبيه، وفى كتاب عمر بن الخطاب، وهذه جملة الأخبار المعمول عليها، وهى مخالفة لقول أبى حنيفة، قال: وأما صدقة الغنم، فلا شىء فيها حتى تبلغ أربعين إلى عشرين ومائة، ففيها شاة، وفيما فوق ذلك إلى مائتين شاتان، وهذا إجماع، وإذا زادت واحدة على مائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففى كل مائة شاة، وهذا قول مالك، وأبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وجماعة أهل الأثر، وهو قول على، وابن مسعود، وروى عن النخعى أنه قال: إذا كانت الغنم ثلاثمائة وشاة، ففيها أربع شياه، وإذا كانت أربع مائة شاة، ففيها خمس شياه، وبه قال الحسن بن صالح، وهذا القول مخالف للآثار المرفوعة فى ذلك، فلا وجه له. وأجمعوا على أن الزكاة فى السائمة من الإبل والبقر والغنم. والسائمة: هى الراعية، واحتج مالك على ذلك بقول الله تعالى: (ومن شجر فيه تسيمون) [النحل: 10] يقول: فيه ترعون. واختلفوا فى العوامل، فقال مالك والليث: فى العوامل والمعلوفة الزكاة كهى فى السوائم، وهو قول مكحول، وعمر بن عبد العزيز، والزهرى، وروى عن على ومعاذ أنه لا زكاة فيها، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعلة قائل هذه المقالة القياس على إجماع الجميع ألا صدقة فى

(3/468)


العروض التى هى لغير التجارة، لأن أهلها اتخذوها للزينة والجمال لا لطلب الربح فيها بالتجارة، فكذلك حكم عوامل المواشى مثلها لا صدقة فيها، وإنما تجب الصدقة فيما يتخذ منها للنتاج والنسل وارتفع عن أهلها مئونة علفها بالسوم. وفى حديث أنس: (فى سائمة الغنم الصدقة) ، وكذلك فى كتاب عمر بن الخطاب فى (الموطأ) ، فدليله أن غير السائمة لا شىء فيها، فكذلك سائمة الإبل والبقر. قال ابن القصار: والحجة لمالك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى كل خمس ذود من الإبل شاة) ، ولم يخص سائمة من عاملة، وكذلك قال فى الغنم فى كتاب عمرو بن حزم فى الصدقة: (فى كل أربعين شاة) ولم يخص، وأيضًا فإن العوامل سائمة فى طبعها وخلقتها، وسواء رعت، أو أمسكت عن الرعى، السوم صفة لازمة لها، كما يقال: ما جاءنى من إنسان ناطق، والنطق من حد الإنسان اللازم له سواء سكت أو نطق، قال: وأيضًا فإن المؤنة التى تلزم فى المعلوفة لا مدخل لها فى إسقاط الزكاة أصلاً، وإنما لها مدخل فى التخفيف والتثقيل، كالعشر ونصف العشر فى زكاة الحرث، فإذا لم يدخل التخفيف فى العوامل لأجل المؤنة بقيت الزكاة على ما كانت عليه، لأن النماء موجود فى السائمة من الدر والنسل والوبر والحمل على ظهورها، وقد قال يحيى بن سعيد وربيعة: لم تزل إبل الكراء تزكى عندنا بالمدينة. فإن قيل: إن عاصم بن ضمرة قد روى عن الحارث، عن على أن

(3/469)


النبى، - عليه السلام -، قال: (ليس فى العوامل شىء) ، ومن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قيل: عاصم والحارث ضعيفان، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرسل، وأصحاب الشافعى لا يقولون بالمراسيل. وقال الخطابى: وقوله: (ومن سئل فوقها فلا يعط) يتأول على وجهين: أحدهما ألا يعطى الزيادة، والآخر ألا يعطى شيئًا من الصدقة، لأنه إذا طلب فوق الواجب كان خائنًا، فإذا ظهرت خيانته سقطت طاعته. قال المؤلف: وقوله: (وفى الرقة ربع العشر، فإن لم يكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شىء) يعنى تسعين ومائة درهم، لأن نصاب الورق الذى تجب فيه الزكاة خمس أواق، وهو مائتا درهم، لأن الأوقية أربعون درهمًا، وقد تقدم بيان ذلك.
37 - باب لا تُؤْخَذُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلا ذَاتُ عَوَارٍ وَلا تَيْسٌ إِلا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ
/ 48 - فيه: ثُمَامَة، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الصَّدَقَةَ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا يُخْرَجُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلا تَيْسٌ إِلا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ) .

(3/470)


عامة الفقهاء على العمل بهذا الحديث، ويذهبون إلى أن المأخوذ فى الصدقات العدل كما قال عمر بن الخطاب، وذلك عدل بين غثاء المال وخياره، قال مالك فى المجموعة: والتيس من ذوات العوار وهو دون الفحل. وقوله: (إلا أن يشاء المصدق) فمعناه عند مالك والشافعى: أن تكون الهرمة، وذوات العوار، والتيس خيرًا للمساكين فى سمنها، أو ثمنها من التى أخرج إليه صاحب الغنم، فأخذ ذلك باجتهاده، والعَوار بفتح العين: العيب كله، والعُوار بضم العين: ذهاب العين الواحدة. وقال الطبرى: جعل النبى المشيئة إلى المصدق فى أخذ ذلك وتركه، فالواجب عليه أن يعمل بما فيه الصلاح لأهل الصدقة ورب الماشية بما يكون عدلاً للفريقين، فيأخذ ذلك إذا كان فى تركه، وتكليف رب الماشية غيرها مضرة عليه، وذلك أن تكون الغنم كلها هرمة، أو جرباء، أو تيوسًا، ويكون فى تكليفه صاحبها غيرها مضرة عليه، فيأخذ منها أو يترك أخذ ذلك إذا كانت الماشية فتية سليمة إناثًا كلها أو أكثرها، فيأخذ منها السليمة من العيوب، وذلك عدل، إن شاء الله، على الفريقين. قال المؤلف: وقد اختلف قول مالك إذا كانت عجافًا كلها أو معيبة أو جرباء أو تيوسًا، فقال فى المدونة: لا يأخذ منها ويلزم صاحبها أن يأتى بما يجوز صحيحة غير معيبة. وذكر ابن المواز أن عثمان بن الحكم سأل مالكًا عن الساعى يجدها عجافًا كلها؟ قال: يأخذ منها ولو كانت ذات عوار كلها، أو تيوسًا فليأت بغيرها.

(3/471)


وروى ابن وهب عن مالك، قال: لا تؤخر الصدقة، وإن عجفت الغنم، قال سحنون، وهو قول المخزومى، وابن الماجشون، ومطرف، وذكر ابن المنذر، عن أبى يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعى: إذا كانت جرباء كلها أخذ منها، قال الشافعى: لأنى إذا كلفتُهُ صحيحة فقد أوجبتُ عليه أكثر مما وجب عليه، ولم توضع الصدقة إلا رفقًا بالمساكين من حيث لا يضر بأرباب الأموال. وروى عن أبى حنيفة فى المعيبة أنها تؤخذ. وقد اختلف أهل العلم فيما عدا ما ذكر فى هذا الحديث مما لا يجوز للمصدق أخذه، فروى عن عمر بن الخطاب أنه قال للساعى: عُدّ عليهم البهيمة، حتى تعد السخلة يحملها الراعى على يده ولا يأخذها. وهو قول مالك فى المدونة. وجماعة من العلماء لا يجوزون أخذ السخال وذوات العيوب والهرمة ما وجدوا فى الغنم الثنية والجذعة، وسأذكر اختلافهم فى ذلك فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وقال أبو عبيد: غرا الإبل السخال الصغر، واحدها: غرى. قال غيره: هو ولد الضائنة إذا وضعته أمه ذكرًا كان أو أنثى، وهو بَهْمَة وبهم أيضًا.
38 - باب أَخْذِ الْعَنَاقِ فِى الصَّدَقَةِ
/ 49 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ بِالْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.

(3/472)


قال أهل اللغة: العناق: ولد الماعز إذا أتى عليه أربعة أشهر وفصل عن أمه وقوى على الرعى فهو جدى، والأنثى: عناق، والجمع: عنوق وعنق، فإذا أتى عليه الحول فالذكر تيس، والأنثى عنز، ثم يكون التيس جذعًا فى السنة الثانية، ثم ثنيا فى الثالثة. وقال أشهب وابن نافع: الجذع فى الضأن والمعز ابن سنة، وهو الذى يجوز فى الصدقة. وعلى هذا جماعة العلماء إلا النخعى والحسن، والكوفيين، فإنهم قالوا: لا تؤخذ الجذعة فى الصدقة. واختلف أهل العلم فى أخذ العناق فى الصدقة والسخال والبهم إذا كانت الغنم كذلك كلها، أو كانت الإبل فصلانًا والبقر عجولاً كلها. قال مالك: عليه فى الغنم شاة جذعة، أو ثنية، وعليه فى الإبل والبقر ما فى الكبار منها. وهو قول زفر، وأبى ثور. وقال أبو يوسف، والأوزاعى، والشافعى، وإسحاق: يؤخذ منها إذا كانت صغارًا من كل صنف واحد منها. وقال أبو حنيفة، والثورى، ومحمد: لا شىء فى الفصلان، ولا فى العجول، ولا فى صغار الغنم لا منها، ولا من غيرها، ذكره ابن المنذر، وذكر عنهم خلافه فقال: كان أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، ويعقوب، ومحمد، والشافعى، وأحمد بن حنبل، يقولون: فى أربعين عجلاً مسنة. وعلى هذا القول هم موافقون لقول مالك. قال ابن القصار: والحجة لمالك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى

(3/473)


كل أربعين شاة شاة) ، والشاة: اسم يختص بالكبير فى غالب العرف، فدل أن الواجب فيها شاة لا سخلة، وأيضًا قول عمر بن الخطاب: اعدد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم. وهذا يدل أنها تُعَدَّ، كانت أمهاتها باقية، أو قد عدمت. ومن الحجة لأبى حنيفة فى قوله للذى لم يوجب فى الصغار شيئًا: إذ لم يجز أخذ السخلة من أربعين شاة، كذلك لا يؤخذ من أربعين سخلة شىء فيقال له: هذا لا يلزم لأننا لا نأخذ سخلة من الكبار ولا من الصغار، وإنما نأخذ السن المجعول، فكما نأخذ شاة من أربعين كبارًا، كذلك نأخذ شاة من أربعين صغارًا. فإن احتج من أجاز أخذ الصغار إذا كانت صغارًا كلها بقول الصديق: (والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله) ، فدل أنها تؤخذ فى الصدقة، قيل: تأويل قوله: (يؤدونها) أى يؤدون عنها ما يجوز أداؤه ويشهد لصحة هذا قول عمر: (اعدد عليهم السخلة ولا تأخذها) ، وإنما خرج قول الصديق على التقليل و [. . . . . .] ، ألا ترى أنه روى: (لو منعونى عقالاً) وقد اختلف فى تفسيره على ما تقدم فى أول كتاب الزكاة. ومذهب مالك أن نصاب الغنم يكمل بأولادها كربح المال سواء، وذلك مخالف عنده لما أفاد منها بشراء أو هبة، أو ميراث لا يكمل منه النصاب، ويستأنف به حولاً، وإن كان عنده نصاب، ثم استفاد بغير

(3/474)


ولادة زكاة مع النصاب، وهو قول أبى حنيفة، وقال الشافعى: لا يضم نتاج الماشية إلا إلى النصاب، ولا يكمل به النصاب.
39 - باب لا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِى الصَّدَقَةِ
/ 50 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ، تؤخذ من أغنيائِهِم وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ) . وقد تقدم القول فى هذا الحديث فى أول كتاب الزكاة، وقد احتج أصحاب الشافعى لمذهبه فى أن السخال يؤخذ منها ما يؤخذ فى الكبار بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (وتوق كرائم أموال الناس) ، قال: فإذا لم يملك كريم مال فلا يكلف سواه. قال ابن القصار: ويقال له: وكذلك أيضًا نهى عن أخذ الدون، وكلف الوسط، وليس إذا كلف الوسط كلف كريم ماله، ألا ترى أنا نرفه رب المال إذا كانت غنمه كرامًا كلها رُبَّى مواخض ولوابن، وشاة اللحم، والفحل، فلا نأخذ منها، فكذلك نرفه الفقراء بأن لا نأخذ الصغيرة، ونأخذ السن المجعول، وهذا هو العدل بينهم وبين أرباب المواشى، كما قال عمر، رضى الله عنه.

(3/475)


40 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَة
/ 51 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ) . قال ابن قتيبة: ذهب قوم إلى أن الذود جمل واحد، وإلى أنه جمع، والذى عندى أن الذود ما بين الثلاث إلى العشر، وهو أول اسم جماعات الإبل، ولو كان الذود واحدًا ما جاز أن يقال: خمس ذود، كما لا يقال: خمس ثوب، وخمس درهم، ولكان الوجه أن يقال: خمسة أذواد و: خمسة أثواب. وقال أبو حاتم السجستانى: قالوا تاركين لقياس الجميع: ثلاث ذود لثلاث من الإبل، وأربع ذود، كما قالوا: ثلاثمائة وأربعمائة إلى تسعمائة والقياس ثلاث مئين، أو مئات. وقد قالوا: أذواد كثيرة فى العشر، ولا يكادون يقولون: ثلاث مئين، والفقهاء يقولون: الذود جمل واحد، ولا يعرف ذلك أهل اللغة وقد سمى الله الزكاة صدقة، فقال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) [التوبة: 103] . وأجمع أهل العلم على أن ما دون خمس ذود من الإبل لا صدقة فيها، وأن فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمس عشرة ثلاث شباه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس عشرين بنت مخاض، وهذا أول نصاب يؤخذ فيه من الإبل على ما جاء فى

(3/476)


كتاب أبى بكر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الصدقة، وقد تقدم فى زكاة الورق، وستأتى صدقة الحبوب والطعام فى موضعها، إن شاء الله.
41 - باب زَكَاةِ الْبَقَرِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ) . / 52 - فيه: أَبُو ذَرٍّ، انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، أَوْ وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ كَمَا حَلَفَ، مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لا يُؤَدِّى حَقَّهَا إِلا أُتِىَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ) . فى هذا الحديث دليل على وجوب زكاة البقر، وسائر الأنعام من أجل الوعيد الذى جاء فيمن لم يؤد زكاتها. أما مقدار نصاب زكاة البقر، ومقدار ما يؤخذ منها فهو فى حديث معاذ بن جبل، وهو متصل مسند من رواية معمر والثورى، عن الأعمش، عن أبى وائل، عن مسروق، عن معاذ بن جبل، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة) ، وكذلك فى كتاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لعمرو بن حزم، وفى كتاب الصدقات لأبى بكر، وعمر، وعلى ذلك مضى الخلفاء، وعليه عامة الفقهاء.

(3/477)


قال ابن المنذر: ولا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم، وفى ذلك شذوذ لا يلتفت إليه، روى عن ابن المسيب، والزهرى، وأبى قلابة فى كل خمس من البقر شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمس عشرة ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا جاوزت فبقرتان إلى عشرين ومائة، فإذا جاوزت ففى كل أربعين بقرة بقرة. وروى عن أبى قلابة أنه قال: فى كل خمس شاة إلى أن تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع، واعتل قائلوا هذه المقالة بحديث لا أصل له رواه حبيب بن حبيب، عن عمرو بن هرم، أنه فى كتاب عمرو بن حزم، وحجتهم من طريق النظر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد عدلها بالإبل، إذ جعل الواحدة منها تجزئ عن سبعة فى الهدايا والضحايا كما تجزئ الإبل، فإذا كانت تعادلها فزكاتها زكاة الإبل. قالوا: وخبر معاذ منسوخ بكتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى عماله الذى رواه عمرو بن هرم. قال الطبرى: وحديث عمرو بن هرم واه غير متصل، ولا يجوز الاحتجاج بمثله فى الدين والمعروف فى كتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الصدقة لآل عمرو بن حزم خلاف ذلك، وجماعة الفقهاء على أنه لا شىء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ ستين، فإذا بلغت

(3/478)


ستين ففيها تبيعان، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، وبهذا قال أبو يوسف، ومحمد، وسئل أبو حنيفة، فقال: ما زاد على الأربعين من البقر فبحسابه، ففى خمسة وأربعين مسنة وثُمُن، وفى خمسين مسنة وربع، وعلى هذا كل ما زاد أقل أو كثر، هذا هو المشهور عن أبى حنيفة، وقد روى أسد بن عمرو، عن أبى حنيفة مثل قول الجماعة، ولا نقول إلا قولهم، لأنهم الحجة على من خالفهم، وفى حديث معاذ أنه قال: (لم يأمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الأوقاص بشىء
. 42 - باب فضل الزَّكَاةِ عَلَى الأقَارِبِ
وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ) . / 53 - فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ.

(3/479)


/ 54 - وفيه: أَبُو سَعِيد، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى أَضْحًى، أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ، جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فقَالَتْ: يَا رسول اللَّه، إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِى حُلِىٌّ لِى، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ) . قال المؤلف: من روى مال رايح بالياء فمعناه: يروح عليه أجره كلما أطعمت الثمار، ومن روى رابح بالباء، فمعناه: ذو ربح، وذلك أن صاحبه وضعه موضح الربح يوم القيامة، وقال الخطابى: وقوله: رابح، أى ذو ربح، كقولك: ناصب، أى ذو نصب. قال النابغة: كِلينى لهَمٍّ يا أميمةَ نَاصِبِ والرايح: القريب المسافة، الذى يروح خيره، ولا يعزب نفعه. وقوله: (بخ) كلمة إعجاب، وقد تخفف وتثقل، فإذا كررت فالاختيار أن تنون الأول وتسكن الثانى، وهكذا هو فى كل كلام مثنى، كقولهم: صهٍ صهْ، وطابٍ طابْ، ونحوهما، وقال الأحمر: فى بخ أربع لغات: الجزم، والخفض، والتشديد، والتخفيف.

(3/480)


وقوله: (وإن أحب أموالى إلى بيرحاء) فيه من الفقه: حب الرجل الصالح للمال، وقد قال أبو بكر لعائشة: ما أحد أحب إلى غنى منك، ولا أعز على فقرًا منك. وفيه: إباحة دخول أجنة الإخوان، والشرب من مائها، والأكل من ثمارها بغير إذنهم إذا علم أن أَنْفُسَ أصحابها تطيب بذلك، وكان مما لا يتشاح فيه. قال المهلب: وفيه أن الصدقة إذا كانت جزلة أن صاحبها يمدح بها ويغبط لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بخ، ذلك مال رابح) فسلاه (صلى الله عليه وسلم) بما يناله من ربح الآخرة، وما عوضه الله فيها عما عجله فى الدنيا الفانية. وفيه: أن ما فوته الرجل من حميم ماله، وغبيط عقاره عن ورثته بالصدقة أنه يستحب له أن يرده إلى أقاربه غير الورثة، لئلا يفقد أهله نفع ما خوله الله، عز وجل، وفى كتاب الله ما يؤيد هذا، قال تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) [النساء: 8] فثبت بهذا المعنى أن الصدقة على الأقارب وضعفاء الأهلين أفضل منها على سائر الناس إذا كانت صدقة تطوع، ودل على ذلك حديث زينب امرأة ابن مسعود. وقوله (صلى الله عليه وسلم) لها: (لك أجران: أجر القرابة والصدقة) وقال لميمونة حين أعتقت جارية لها: (أما إنك لو أعطيتها لأخوالك كان

(3/481)


أعظم لأجرك) واستعمل الفقهاء الصدقة الفريضة فى غير الأقارب لئلا يصرفوها فى ما يجرى بين الأهلين من الحقوق والصلات والمرافق، لأنهم إذا جعلوا الصدقة الفريضة فى هذا المعتاد بين الأهلين، فكأنهم لم يخرجوها من أموالهم إلا لانتفاعهم بها، وتوقير تلك الصلات بها، فإذا زال هذا المعنى جازت الزكاة للأقارب الذين لا تلزمهم نفقتهم. وقد تقدم اختلاف العلماء فى الزكاة على الأقارب فى باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر فأغنى عن إعادته، ولم يختلف العلماء أن قوله: (فى أقاربه وبنى عمه) أنهم أقارب أبى طلحة لا أقارب النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقد روى ذلك الثقات، حدثنا بعض مشايخنا، قال: حدثنا أبو عمرو الباجى، قال: حدثنا أبى، قال: حدثنا محمد بن فطيس، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصارى، حدثنا أبى، حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس أنه قال: (كانت لأبى طلحة أرض فجعلها لله، فأتى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال له: (اجعلها فى أقاربك، فجعلها لحسان، وأُبى بن كعب، قال أنس: وكانا أقرب إليه منى) . وفيه: استعمال عموم اللفظ، ألا ترى إلى فهم الصحابة لذلك، وأنهم لم يتوقفوا حتى يتبين لهم بآية أخرى، أو بسنة مبينة لمراد الله تعالى فى الشىء الذى يجب أن ينفقه عباده، لأنهم يحبون أشياء كثيرة، فبدر كل واحد منهم إلى نفقة أحب أمواله إليه، فتصدق

(3/482)


أبو طلحة بحائطه، وكذلك فعل زيد بن حارثة، وروى ابن عيينة، عن ابن المنكدر، قال: (لما نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) [آل عمران: 92] ، قال زيد: اللهم إنك تعلم أنه ليس لى مال أحب إلىّ من فرسى هذه، وكان له فرس، فجاء به إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: هذا فى سبيل الله. فقال لأسامة بن زيد: (اقبضها منه) ، فكأن زيدًا وجد فى نفسه من ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله قد قبلها منك) . وفعل مثل ذلك ابن عمر، روى أنه كانت له جارية جميلة كان يحبها فأعتقها لهذه الآية، ثم اتبعتها نفسه، فأراد أن يتزوجها فمنعه بنوه، فكان بعد ذلك يقرب بنيها من غيره لمكانها من نفسه، روى الثورى أن أم ولد الربيع بن خثيم، قالت: كان إذا جاءنا السائل يقول لى: يا فلانة، أعط السائل سكرًا؛ فإن الربيع يحب السكر. قال سفيان: يتأول) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (، وفى هذا الحديث فقه من معانى الصدقات والهبات، سيأتى فى موضعه، إن شاء الله.
43 - باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى فَرَسِهِ صَدَقَةٌ
/ 55 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى فَرَسِهِ وَغُلامِهِ صَدَقَةٌ) . وترجم له باب (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى عَبْدِهِ صَدَقَةٌ) ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فيه: (فِى عَبْدِهِ) .

(3/483)


اتفق جمهور العلماء على أنه لا زكاة فى الخيل، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وهو قول الشعبى، والنخعى، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن البصرى، والحكم، والثورى، ومالك، والأوزاعى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وخالف الجماعة أبو حنيفة وزفر، فقالا: فى كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قومها، وأعطى من كل مائتى درهم خمسة دراهم. ومن حجتهما ما رواه جويرية، عن مالك، عن الزهرى، أن السائب بن يزيد أخبره، قال: لقد رأيت أبى يقوّم الخيل، ثم يدفع صدقتها إلى عمر. واحتجوا بحديث أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذكر الخيل، فقال: (هى لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما التى هى له ستر فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملاً، ولم ينس حق الله فى ظهورها وبطونها فى عسرها ويسرها) . رواه سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة. فاحتج عليهم أهل المقالة الأولى، فقالوا: لا حجة لكم فى رواية جويرية، لأن عمر لم يأخذ ذلك منهم على أنه واجب عليهم، وقد بين السبب فى ذلك ما رواه مالك فى الموطأ أن أهل الشام، قالوا لأبى عبيدة بن الجراح: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ذلك، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فأبى، ثم كلموه أيضًا، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: إن أَحَبُّوا فخذها منهم، وارددها عليهم، وارزق رقيقهم، وفى إباء عمر، وأبى

(3/484)


عبيدة من أخذ الزكاة منهم دليل واضح أنه لا زكاة فيها، ولو كانت واجبة ما امتنعًا من أخذ مال أوجبه الله تعالى لأهله ووضعه فيهم. وروى معمر عن أبى إسحاق أنه قال: لما ألحوا على أبى عبيدة وألح أبو عبيدة على عمر، قال: هذا شىء لم يفعله اللذان كانا قبلى، ولكن انتظروا حتى أشاور المسلمين، فشاور عمر الصحابة فى ذلك، فقال له على بن أبى طالب: لا بأس بذلك إن لم تصر بعدك جزية يؤخذون بها، فأخذها لبذلهم لها، وطوعهم بها، لا بوجوبها عليهم. قال الطحاوى: فدل هذا الحديث أن ما أخذ عمر منهم لم يكن زكاة، ألا ترى قوله: إن للذين كانا قبلى، يعنى رسول الله، وأبا بكر، لم يأخذا من الخيل صدقة، ولم ينكر على عمر ما قال من ذلك أحد من أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ودل قول علىّ لعمر: لا بأس بذلك إن لم تصر بعدك جزية يؤخذون بها، أن عمر إنما أخذ ذلك لسؤالهم إياه، وأن لهم منع ذلك متى أحبوا، ثم سلك عمر بالعبيد فى ذلك مسلك الخيل، ولم يدل ذلك أن العبيد الذين لغير التجارة يجب فيهم الصدقة، وإنما كان ذلك على التبرع من مواليهم بإعطاء ذلك، والأمة مجمعة أنه لا زكاة فى العبيد غير زكاة الفطر إذا كانوا للقِنْيَةِ، فإن كانوا للتجارة فالزكاة فى أثمانهم، ويلزم تقويمهم كسائر العروض التى للتجارة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ولم ينس حق الله فى ظهورها) ، فإنه يجوز أن يكون ذلك الحق حقًا سوى الزكاة، فإنه روى ذلك عن

(3/485)


رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبى حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (فى المال حق سوى الزكاة) ، وتلا: (ليس البر أن تولوا وجوهكم) [البقرة: 177] إلى آخر الآية، فلما رأينا المال قد جعل الله فيه حقًا سوى الزكاة، احتمل أن يكون ذلك الحق هو الذى فى الخيل أيضًا، وحجة أخرى أن الزكاة فى الحديث الذى روى عن أبى هريرة إنما هو فى الخيل المرتبطة لا فى الخيل السائمة، وحجة أخرى أنا رأينا رسول الله ذكر الإبل السائمة أيضًا، فقال: (فيها حق أيضًا، فسئل عن ذلك الحق ما هو؟ فقال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحة سمينها) . حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . فلما كانت الإبل فيها حق سوى الزكاة احتمل أن يكون كذلك فى الخيل، وحديث أبى هريرة أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليس على المسلم فى عبده ولا فرسه صدقة) الحجة القاطعة فى ذلك. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الذين يوجبون فيها الزكاة لا يوجبونها حتى تكون ذكورًا وإناثًا، ويلتمس صاحبها نسلها، ولا تجب الزكاة فى ذكورها خاصة، ولا فى إناثها خاصة، وكانت الزكوات المتفق عليها فى المواشى السائمة تجب فى الإبل والبقر والغنم ذكورًا كانت كلها أو إناثًا، فلما استوى حكم الذكور فى ذلك خاصة، وحكم الإناث خاصة، وحكم الذكور والإناث، وكانت الذكور من الخيل خاصة، والإناث منها

(3/486)


خاصة، لا تجب فيها زكاة كان كذلك فى النظر الذكور منها والإناث إذا اجتمعت لا تجب فيها زكاة. وقال الطحاوى، والطبرى: والنظر أن الخيل فى معنى البغال والحمير التى قد أجمع الجميع ألا صدقة فيها، ورد المختلف فيه إلى المتفق عليه إذا اتفقا فى المعنى أولى.
44 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى
/ 56 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: (إِنّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا) ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَيَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَلا يُكَلِّمُكَ؟ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، فَقَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ) ؟ فَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ، فَقَالَ: (إِنَّهُ لا يَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حِنْطًا، أَوْ يُلِمُّ إِلا آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ، وَبَالَتْ، وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ - أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) - وَإِنَّهُ

(3/487)


مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: احتج قوم بهذا الحديث فى تفضيل الفقر على الغنى، وليس كما تأولوه، بل هو حجة عليهم، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يخش عليهم ما يفتح عليهم من زهرة الدنيا إلا إذا ضيعوا ما أمرهم الله به من إنفاقه فى حقه، وإذا كسبوه من غير وجهه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يأتى الخير بالشر) يعنى المال إذا كسب من وجهه وفعل به ما أمرهم الله، ثم ضرب لهم مثلاً بقوله: (وإن مما ينبت الربيع يقتلُ أو يُلِمُّ) يعنى أن الاستكثار من المال والخروج من حد الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المأكل مسقم، ضرب هذا مثلاً للحريص على جمع المال، المانع له من حقه، والربيع تنبت فيه أحرار الشعب التى تَحْلَوْلَيْهَا الماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها فتهلك. وقوله: (أو يلم) يعنى يقرب من الهلاك، يقال: ألم الشىء: قرب، والرحضاء: عرق الحمى، وقد رحض ورحضت الثوب: غسلته، وقوله: (إلا آكلة الخضر) يعنى التى تخرج مما جمعت منه ورعت ما ينفعها إخراجه من البراز والبول، فهذا لا يقتلها ما رعت، فضرب هذا (صلى الله عليه وسلم) مثلاً لمن تصدق، وأخرج من ماله ما ينفعه إخراجه مما لو أمسكه لضره إثمه كما يضر

(3/488)


التى رعت لو أمسكت البول والغائط ولم تخرجه، وبين هذا المعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى المال: (فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين وابن السبيل) ، وفى هذا تفضيل للمال. وقال الخطابى: الخضر ليس من أحرار البقول التى تسكثر منها الماشية فتنهكه أكلا، ولكن من الجنبة التى ترعاها بعد هيج الشعب ويبسه، وأكثر ما رأيت العرب تقول: الخضر لما اخضر من الكلأ الذى لم يصفر، والماشية من الإبل ترتع منه سنًا سنًا، فلا تستكثر منه فلا تحبط بطونها عليه، وقد ذكره طرفة، وبين أنه ينبت فى الصيف فقال: كبَنَات المَخْرِ يَمْأَدْنَ إذا أَنْبَتَ الصيف عَسَالِيجَ الخَضِرْ والخضر من كلأ الصيف، وليس من أحرار بقول الربيع، والنعم لا تستوبله، ولا تحبط بطونها عليه، وأما قوله: (وإن هذا المال خضرة) ، فإن العرب تسمى الشىء الحسن المشرق خضرًا تشبيهًا بالنبات الأخضر الغض، قال تعالى: (فأخرجنا منه خضرًا) [الأنعام: 99] ومنه قولهم: اختضر الرجل، إذا مات شابًا، لأنه يؤخذ فى وقت الحسن والإشراق، يقول: إن المال يعجب الناظرين إليه، ويحلو فى أعينهم، فيدعوهم حسنه إلى الاستكثار منه، فإذا فعلوا ذلك تضرروا به كالماشية إذا استكثرت فى المرعى ثلطت والثلط: السلح الرقيق. قال ابن الأنبارى: قوله - عليه السلام -: (إن هذا المال خضرة

(3/489)


حلوة) يدل أن المال يؤنث، وقال غيره: ليس بتأنيث، لأن قوله: (خضرة حلوة) لم يأت على الصفة، وإنما أتى على التمثيل والتشبيه، كأنه قال: إن هذا المال كالبقلة الخضرة الحلوة، ونقول: إن هذا السجود حسنة، والسجود مذكر، فكأنه قال: السجود فعلة حسنة. قال المهلب: وفيه: جواز ضرب الأمثال فى الحكمة، وإن كان لفظها بالبراز والبول والكلام الوضيع، وفيه: جواز اعتراض التلميذ على العالم فى الأشياء المجملة حتى يفسر له ما يبين معناها، وفيه: دليل على أن الاعتراض إذا لم يكن موضعه بيّنًا أنه منكر على المعترض به، ألا تراهم أنكروا على السائل، وقالوا له: تكلم النبى، ولا يكلمك؟ إلا أن قوله: (أين السائل) ؟ فكأنه حمده، يدل أن من سأل العالم وباحثه عما ينتفع به، ويفيد حكمه أنه محمود من فعله. وفيه: أن للعالم إذا سئل أن يمطل بالجواب حتى يتيقن أو يطلع المسألة عند من فوقه من العلماء، كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى سكوته عنه حتى استطلعها من قبل الوحى، وفيه: أن المكتسب للمال من غير حله غير مبارك له فيه، لقوله: (كالذى يأكل ولا يشبع) لأن الله تعالى قد رفع عنه البركة، وألقى فى قلوب آكليه ومكتسبيه الفاقة، وقلة القناعة، ويشهد لهذا قوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربى الصدقات) [البقرة: 276] فالمحق أبدًا فى المال المكتسب من غير الواجب.

(3/490)


قوله: (يكون شهيدًا عليه يوم القيامة) يعنى، والله أعلم، أنه يمثل له ماله شجاعًا أقرع، ويأتيه فى صورة تشهد عليه بالخيانة، لأنه آية معجزة، ولا أكبر شهادة من المعجزات، وفيه: أن للعالم أن يحذر من يجالسه من فتنة المال وغيره، وينبههم على مواضع الخوف من الافتتان به، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن مما أخشى عليكم) فوصف لهم ما يخاف عليهم، ثم عرفهم بمداواة تلك الفتنة، وهى إطعام المسكين واليتيم وابن السبيل، وقد جاء عن النبى أن الصدقة على اليتيم تذهب قساوة القلب، وسأذكره فى باب فضل من يعول يتيمًا، فى كتاب الأدب، إن شاء الله.
45 - باب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأيْتَامِ فِى الْحَجْرِ
قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 57 - فيه: زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْن مسعود، أنها كَانَتْ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِى حَجْرِهَا، فَقَالَتْ لِعَبْدِاللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِى حَجْرِى مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِى أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِى، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلالٌ، فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِى، وَأَيْتَامٍ لِى فِى حَجْرِى؟ قَالَ: (نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ) .

(3/491)


/ 58 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِىَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِى أَبِى سَلَمَةَ، إِنَّمَا هُمْ بَنِىَّ، فَقَالَ: (أَنْفِقِى عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ) . قال ابن المنذر: أجمع العلماء أن الرجل لا يعطى زوجته من الزكاة، لأن نفقتها تجب عليه، وهى غنية بغناه، واختلفوا فى المرأة هل تعطى زوجها من الزكاة؟ فأجاز ذلك أبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأبو ثور، وأبو عبيد، وجوزه أشهب إذا لم يرجع إليها شىء من ذلك، ولا جعلته وقاية لمالها فيما يلزم نفسها من مواساته، وتأدية حقه، فإن رجع إليها شىء من ذلك لم يجزئها. وقال مالك: لا تعطى المرأة زوجها من زكاة مالها. وهو قول أبى حنيفة. واحتج من جوز ذلك بحديث زينب امرأة ابن مسعود، وقالوا: جائز أن تعطيه من الزكاة، لأنه داخل فى جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، وأيضًا فإن كل من لا يلزم الإنسان نفقته فجائز أن يضع فيه الزكاة، والمرأة لا يلزمها النفقة على زوجها، ولا على بنيه قال المهلب: والدليل على أن المرأة لا تلزمها النفقة على بنيها قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [البقرة: 233] . قال الطحاوى: واحتج عليهم أهل المقالة الثانية، فقالوا: إن تلك الصدقة التى فى حديث زينب إنما كانت من غير الزكاة، وقد بين ذلك ما رواه الليث عن هشام بن عروة، عن أبيه،

(3/492)


عن عبيد الله بن عبد الله، عن رائطة بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود، وكانت امرأة صناع وليس لعبد الله بن مسعود مال، فكانت تنفق عليه، وعلى ولده منها، فقالت: لقد شغلتنى والله أنت وولدك عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدق معكم بشىء، فسألت رسول الله هى وهو، فقالت: يا رسول الله، إنى امرأة ذات صنعة، أبيع منها، وليس لزوجى ولا لولدى شىء، فشغلونى فلا أتصدق، فهل لى فيهم أجر؟ فقال: (لك فى ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقى عليهم) . قال الطحاوى: ففى هذا الحديث أن تلك الصدقة لم تكن زكاة، ورائطة هذه هى زينب امرأة عبد الله، لا نعلم أن عبد الله كانت له امرأة غيرها فى زمن رسول الله، فكانت تنفق عليه وعلى ولده من عمل يدها، وقد أجمعوا أنه لا يجوز أن تنفق على ولدها من زكاتها، فلما كان ما أنفقت على ولدها ليس من الزكاة، فكذلك ما أنفقت على زوجها ليس من الزكاة، وقد روى أبو هريرة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مثل ذلك، حدثنا فهد، حدثنا على بن معبد، حدثنا إسماعيل بن أبى كثير الأنصارى، عن عمر بن نبيه الكعبى، عن المقبرى، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) انصرف من صلاة الصبح يومًا، فأتى على النساء فى المسجد، فقال: (يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب بعقول ذوى الألباب

(3/493)


منكن، إنى رأيتكن أكثر أهل النار، فتقربن إلى الله ما استطعتن) . وكان فى النساء امرأة ابن مسعود، فانصرفت إلى ابن مسعود، فأخبرته بما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأخذت حليًا لها، فقال ابن مسعود: أين تذهبين بهذا الحلى؟ فقالت: أتقرب به إلى الله وإلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لعل الله أن لا يجعلنى من أهل النار. قال: هلمى ويلك، تصدقى به عَلىَّ وعلى ولدى. فقالت: لا والله حتى أذهب به إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فذهبت به فسألته، فقال: (تصدقى به عليه، وعلى بنيه، فإنهم له موضع) . فبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه أراد بقوله: (تصدقى) صدقة التطوع التى تكفر بها الذنوب، لأنه أمرها بالصدقة بكل الحلى، وذلك من التطوع لا من الزكاة، لأن الزكاة لا توجب الصدقة بكل المال، وإنما توجب الصدقة بجزء منه، وهذا دليل على فساد تأويل أبى يوسف، ومن ذهب مذهبه فقد بطل بما ذكرنا أن يكون فى حديث زينب ما يدل أن المرأة تعطى زوجها من زكاة مالها إذا كان فقيرًا.
46 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة: 60]
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِى فِى الْحَجِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنِ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ جَازَ وَيُعْطِى فِى الْمُجَاهِدِينَ، وَالَّذِى لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ تَلا: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) [التوبة: 60] الآيَةَ، فِى أَيِّهَا أَعْطَيْتَ

(3/494)


أَجْزَأَتْ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى لاسٍ حَمَلَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ. / 59 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْبُدَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَهِىَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا) . اختلف أهل العلم فى تأويل قوله تعالى: (وفى الرقاب (قال ابن عباس: يجوز أن يشترى من الصدقة رقابا فيعتقهم، وهو قول الحسن ومالك فى المدونة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال مالك: لا يشترى إلا مؤمنًا ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين، قال: ولا يعطيها المكاتبين، لأن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، فربما عجز فصار عبدًا، وقال أبو حنيفة، والليث، والشافعى: لا يجزئ أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ومعنى قول الله تعالى: (وفى الرقاب (هم المكاتبون، وهو قول النخعى، وروى ابن القاسم ومطرف، عن مالك لا بأس أن يُعطى المكاتب ما تتم به كتابته.

(3/495)


واحتج المخالفون لمالك بأن كل صنف أعطاهم الله الصدقة على سبيل التمليك، فكذلك الرقاب يجب أن يكون المراد به من تملك الصدقة، والعبد لا يملك الصدقة وأيضًا، فإن الله ذكر الأصناف الثمانية، وجمع بين كل صنفين متقاربين فى المعنى، فجمع بين الفقراء والمساكين، وجمع بين العاملين والمؤلفة قلوبهم، لأنهما يستعان بهما إما فى جباية الصدقة، وإما فى معاونة المسلمين، وجمع بين ابن السبيل وسبيل الله، لتقاربهما فى المعنى وهو قطع المسافة، وجمع بين الرقاب والغارمين، فأخذ المكاتب لغرم كتابته كأخذ الغارمين للديون. قال ابن القصار: والحجة لمالك عموم قوله تعالى: (وفى الرقاب (وإطلاق الرقاب يقتضى عتق الرقاب فى كل موضع أطلق ذكرها، مثل كفارة الظهار، قال تعالى فيها: (فتحرير رقبة (وكذلك فى اليمين، ولم يرد بذلك المكاتبين، وإنما أراد العبيد، ولو أراد المكاتبين لكان يكفى بذكر الغارمين، لأن المكاتب غارم، فهو داخل فيهم، وشراء العبد أولاً أولى من المكاتب، لأن المكاتب قد حصل له سبب العتق بمكاتبة سيده له، والعبد لم يحصل له سبب عتق، وأيضًا فلو أعطينا المكاتب، فإن تم عتقه كان الولاء لسيده فيحصل له المال والولاء، وإذا اشترينا عبدًا فأعتقناه كان ولاؤه للمسلمين، فكان أولى وأليق بظاهر الآية. قال غيره: وأما قول الحسن: إن اشترى أباه من الزكاة جاز، فينبغى أن يجوز على أصل مالك، لأنه يجيز عتق الرقاب من

(3/496)


الزكاة، إلا أنه يكرهه لما فيه من انتفاعه بالثناء عليه بأنه ابن حر، ولا يجوز عند أبى حنيفة والشافعى. واختلفوا فى قوله تعالى: (وفى سبيل الله (فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأبو ثور، وإسحاق: هم الغزاة، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه، قالوا: لا يعطى الغازى إلا أن يكون محتاجًا، وقال مالك والشافعى: يعطى وإن كان غنيًا. وقال ابن عباس، وابن عمر: (فى سبيل الله (الحجاج، ولا بأس أن يأخذوا من الزكاة. وقال محمد بن الحسن: من أوصى بثلث ماله فى سبيل الله، فللوصى أن يجعله فى الحاج المنقطع به. واحتج بأن رجلاً وقف ناقة له فى سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحج وتركبها، فسألت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (اركبيها، فإن الحج من سبيل الله) فدل أن سبل الله كلها داخلة فى عموم اللفظ، رواه شعبة عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، قال: أرسل مروان إلى أم معقل يسألها عن هذا الحديث، وإلى هذا ذهب البخارى، ولذلك ذكر حديث أبى لاس: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حملهم على إبل الصدقة للحج. وتأول قوله: إن خالدًا قد احتبس أدراعه وأعبده فى سبيل الله) أنه يجوز أن يدخل فيه كل سبل الله: الحج، والجهاد، وغيره، وذكر قول الحسن أنه أجاز أن يعتق أباه من الزكاة، ويعطى فى المجاهدين والذى لم يحج، وتلا: (إنما الصدقات) [التوبة: 60] الآية، قال: فى أيها أعطيت أجزأت. قال ابن القصار: وحجة من قال هم الغزاة، أن كل موضع ذكر فيه سبيل الله، فالمراد منه الغزو والجهاد، قال الله تعالى:

(3/497)


) الذين يقاتلون فى سبيله صفا) [الصف: 4] وقال: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله) [التوبة: 20] ، فكذلك آية الصدقات. وقال أبو عبيد: لا أعلم أحدًا أفتى بأن تصرف الزكاة إلى الحج، وقال ابن المنذر: لا يعطى منها فى الحج، لأن الله قد بيّن من يعطاها، إلا أن يثبت حديث أبى لاس، فإن ثبت وجب القول به فى مثل ما جاء الحديث خاصة، رواه ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبى لاس الخزاعى. وأما قول أبى حنيفة: لا يعطى المجاهد من الزكاة إلا أن يكون محتاجًا، فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: (وفى سبيل الله (فإذا غزا الغنى فأعطى كان ذلك فى سبيل الله، وأما السنة فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز فى سبيل الله، أو مسكين تُصُدِّقَ عليه منها فأهدى منها للغنى) . قال المهلب: وفى حديث أبى هريرة معان منها: أن ابن جميل كان منافقًا فمنع الزكاة تربصًا، فاستتابه الله عز وجل فى كتابه، فقال: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) [التوبة: 74] ، فقال: استتابنى ربى. فتاب وصلحت حاله، وأما العباس فإنه كان استدان فى مفاداة نفسه ومفاداة عقيل، فكان من الغارمين الذين لا تلزمهم الصدقة. وقال أبو عبيد فى قوله: (فإنها عليه ومثلها معها) نراه،

(3/498)


والله أعلم، أنه كان أخر عنه الصدقة عامين من أجل حاجة العباس، فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها على وجه النظر، ثم يأخذها منه بعد، كما أخر عمر بن الخطاب صدقة عام الرمادة، فلما حَيىَ الناس فى العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين. وأما الحديث الذى يروى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنا قد تعجلنا من العباس صدقة عامين) فهو عندى من هذا أيضًا، إنما تعجل منه أنه أوجبها عليه وضمنه إياها، ولو لم يقبضها منه، فكانت دينًا على العباس، ألا ترى قوله: (فإنها عليه، ومثلها معها) ، وقد روى حجية عن على أن العباس سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يعجل صدقته للمساكين قبل محلها، فأذن له. فيكون معنى قوله فهى عليه صدقة، أى فهى عليه واجبة (فأداها قبل محلها، ومثلها معها) أى قد أداها أيضًا لعام آخر، لأنه قد روى أنها كانت صدقة عامين، وهذا أيضًا معنى رواية من روى (فهى عليه) ، ولم يذكر (صدقة) . وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرنى يزيد بن خالد، أن عمر بن الخطاب، قال للعباس لابّان الزكاة: وأد زكاة مالك، وكان الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، أمره بذلك، فقال: أديتها قبل ذلك. فذكر ذلك عمر للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (صدق قد أداها قبل) ، وروى ورقاء، عن أبى الزناد: (فهى علىَّ) فالمعنى أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يؤديها عنه برًا به، لقوله فى الحديث: (أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه) .

(3/499)


(وأما خالد فإنه احتبس أدراعه وأعبده فى سبيل الله) ، فحسب له النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذلك عوضًا من الصدقة التى وجبت عليه وخاصَّهُ بها، هذا على من جعل هذه الصدقة صدقة الفريضة، وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: حُدِّثت حديثًا عن الأعرج، عن أبى هريرة، أن رسول الله ندب الناس فى الصدقة. وذكر الحديث، فيكون على هذا معنى قوله: (فهى عليه صدقة ومثلها معها) يريد أنه سيتصدق بها وبمثلها، لأنه لا يمتنع من شىء ألزمه إياه من التطوع، بل هو يعده كاللازم. قال ابن القصار: وهذا أليق بالقصة، لأنه قد أمر بصدقة فنكرها، وأما عذر خالد فإنه واضح، لأنه من أخرج أكثر ماله وأوقفه فى سبيل الله، لا تحتمل حاله صدقات التطوع، ويكون ابن جميل شح فى التطوع الذى لا يلزمه، ولا يظن بواحد منهم منع الواجب. وقد احتج من جعل الصدقة فى حديث العباس صدقة الفريضة بهذا الحديث، فأجاز تعجيل الزكاة قبل محلها، وهو قول النخعى، وقتادة، والحسن، وسعيد بن جبير، والزهرى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وخالفهم آخرون، وقالوا: لا يجوز تعجيل الزكاة قبل محلها، روى ذلك عن عائشة، وابن سيرين، وهو قول مالك والليث، وقالوا: هو كالذى يصلى

(3/500)


ويصوم قبل الوقت، وروى ابن القاسم، عن مالك: أنه لا يجوز تعجيلها قبل الحول إلا بيسير، وقال ابن حبيب: قال من لقيت من أصحاب مالك: لا تجزئه إلا فيما قرب مثل الخمسة أيام أو العشرة قبل الحول، وقال ابن القاسم: الشهر قريب على تزحيف وكره ذلك. قال الطبرى: والذى شبه الزكاة بالصيام والصلاة فليس بمشبه، وذلك أنه لا خلاف بين جميع السلف والخلف فى أن الصدقة لو وجبت فى ماشية رجل فهرب بها من المصدق فظهر عليه المصدق، فأخذ زكاتها وربها كاره، أنها تجزئ عنه، ولا خلاف بينهم أنه لو امتنع من أداء صلاة مكتوبة فأخذ بأدائها كرها فصلاها، وهو غير مريد قضائها أنها غير مجزئة عنه، فبان بذلك أن الصلاة مخالفة للزكاة فى تعجيلها إذ كانت الصلاة لا تجزئ من لزمته إلا بعمل ببدنه ونيته متقربًا بها إلى الله تعالى. والعجب ممن زعم فى الزكاة أنها لا تجزئ عمن قدمها قبل محلها، لأنه متطوع بإعطائها والتطوع لا يجزئ عن الفرائض، وليس كما ظن، لأن الذى يعجله لا يعطيه بمعنى الزكاة، وإنما يعطيه من يعطيه دينًا له عليه على أن يحتسبه عند محله زكاة من ماله، وعلى هذا الوجه كان استسلاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من العباس صدقته قبل وجوبها فى ماله، فإن ظن ظان أنه غير جائز له احتسابها من زكاته بعد وجوبها عليه، كما غير جائز له أن يصلى الظهر قبل

(3/501)


وقتها على أن يحتسبها ظهرًا إذا دخل وقتها، وأن يصوم شعبان على أن يحتسبه من رمضان بعد دخول رمضان، فقد أفحش الخطأ، وذلك لأن الصلاة والصيام من الفروض التى على من وجبت عليه عملها ببدنه، وليست كذلك الزكاة، لأن الزكاة حق أوجبها الله لأهل الصدقات، فهم شركاء لأرباب الأموال فيها إذا وجبت لهم، فإذا وصلت إليهم حقوقهم منها فقد برئ أربابها سواء أدوا ذلك بأنفسهم، أو أداه عنهم مؤدٍ بأمرهم، أو أخذه منهم آخذ أباح الله له أخذه لأهل السهمان برضى رب المال كان أخذه أو بغير رضاه، والدليل على ذلك مال المعتوه واليتيم يؤدى عنه وليه الزكاة، فيجزئ عنه. فإن قيل: فإن حديث أبى هريرة كان فى جواز تقديم صدقة التطوع، لأنه قال فى الحديث: (إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر بصدقة) فنكرها. وقال ابن جريج فى الحديث: (إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ندب الناس فى الصدقة) . قيل: قد صح الخبر عن على: أن العباس سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تعجيل صدقته قبل وجوبها عليه، فرخص له فى ذلك. حدثناه أحمد بن منصور، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن حجاج بن دينار، عن الحكم، عن حجية، عن على، ولا يقال فى التطوع منع إلا من منع صدقة الفريضة. وقد اختلفت الرواية فى قوله: (أدراعه وأعبده) فروت طائفة

(3/502)


(أعبده) بالباء، جمع عبد، وروى أبو ذر (أعتده) بالتاء، جمع عتد، وهو الفرس، وفى كتاب مسلم، وأبى داود (أعتاده) بالألف، وهذا شاهد بصحة رواية من روى (أعتده) بالتاء، لأنه لا يقال فى جمع أعبد: أعباد، والمعروف من عادة الناس فى كل زمن تحبيس الخيل والسلاح فى سبيل الله لا تحبيس العبيد، وقال صاحب العين: فرس عتد وعتيد، أى معد للركوب، وكذلك سميت عتيدة الطيب، وقال غيره: الذكر والأنثى فيه سواء، قال سلامة بن جندل: بِكُلِّ مُجَنَّب كالسيد نهدٍ وكُلِّ طُوَالةٍ عتيدٍ نزِاق ومما يدل أنه عَتَد بفتح التاء مجيئه للذكر والأنثى بلفظ واحد، وهذا حكم المصادر.
47 - باب الاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ
/ 60 - فيه: أَبُو سَعِيد، أن نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: (مَا يَكُونُ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) . / 61 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِىَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ) .

(3/503)


/ 62 - وفيه: حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) ، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّى أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تُوُفِّىَ. فى حديث أبى سعيد من الفقه: إعطاء السائل مرتين من مال واحد. وفيه: حجة لمن يعطى الفقير باسم الفقر، وباسم ابن السبيل من مال واحد، كذلك سائر سهام الصدقات وقياسه عندهم الوصايا، يجيزون لمن أوصى له بشى إذا قبضه أن يعطى مع المساكين إن كان ذلك الشىء لا يخرجه عن حد المسكنة، وأبى من ذلك ابن القاسم، وطائفة من الكوفيين. وفيه: ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الكرم والسخاء والإيثار على نفسه. وفيه: الاعتذار للسائل إذا لم يجد ما يعطيه. وفيه: الحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله، وانتظار رزق الله،

(3/504)


وأن الصبر أفضل ما أعطيه المؤمن، ولذلك الجزاء عليه غير مقدر، ولا محدود، قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10] . وفى حديث أبى هريرة: الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، وأن يمتهن المرء نفسه فى طلب الرزق وإن ركب المشقة فى ذلك، ولا يكون عيالاً على الناس ولا كَلا، وذلك لما يدخل على السائل من الذل فى سؤاله، وفى الرد إذا رد خائبًا، ولما يدخل على المسئول من الضيق فى ماله إن هو أعطى لكل سائل، ولهذا المعنى قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، وكان مالك يرى ترك ما أعطى الرجل على جهة الصدقة أحب إليه من أخذه، وإن لم يسأله. قال المهلب: فى حديث حكيم من الفقه: أن سؤال السلطان الأعلى ليس بعار، وفيه: أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وتخييبه وموعظته، وأمره بالتعفف وترك الحرص على الأخذ كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالأنصار وبحكيم حين ألحفوا فى مسألته مرة بعد أخرى، كلما أعطاهم سألوه، فأنجح الله موعظته ومَحَا بِهَا حرص حكيم، فلم يرزأ أحدًا بعده. وقوله: (فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه) يدل أن القناعة وطلب الكفاية والإجمال فى الطلب مقرون بالبركة، وأن من طلب المال بالشره والحرص، فلم يأخذه من حقه لم يبارك له فيه، وعوقب بأن حرم بركة ما جمع. وفى قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فضل المال والغنى

(3/505)


إذا أنفق فى طاعة الله، وفيه: بيان أن لا يسأله الإنسان شيئًا إلا عند الحاجة والضرورة، لأنه إذا كانت يده سفلى مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الضرورة. وفيه من الفقه: أن من كان له عند أحد حق من تعامل أو غيره، فإنه يجبر على أخذه إذا أبى، فإن كان مما لا يستحقه أن لا يبسط اليد إليه، فلا يجبر على أخذه خلاف قول مالك، وإنما أشهد عمر على إباء حكيم، لأنه خشى سوء التأويل عليه، فأراد أن يبرئ ساحته بالإشهاد عليه. وفيه: أنه لا يستحق أخذ شىء من بيت المال إلا بعد أن يعطيه الإمام إياه، وأما قبل ذلك فليس ذلك مستحق له، ولو كان ذلك مستحقًا لقضى على حكيم بأخذه، وعلى ذلك يدل نص القرآن قال تعالى، حين ذكر قسم الصدقات وفى أى الأصناف تقسم: (كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر: 7] ، فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره، وإنما قال العلماء فى أسباب الحقوق فى بيت المال تشددًا على غير المَرْضِىّ من السلاطين ليغلقوا باب الامتداد منهم إلى أموال المسلمين، والتسبب إليها بالباطل، ويدل على ذلك فتيا مالك فيمن سرق من بيت المال أنه يقطع، ومن ربَّ الجارية من الفىء أنه يحد، ولو استحقه فى بيت المال أو فى الفىء شيئًا على الحقيقة قبل إعطاء السلطان له ذلك لكانت شبهة يدرأ عنه الحد بها، وجمهور الأمة على أن للمسلمين حق فى بيت المال والفىء، ويقسمه الإمام على اجتهاده، وسيأتى ذلك فى كتاب الجهاد، إن شاء الله.

(3/506)


48 - باب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلا إِشْرَافِ نَفْسٍ
/ 63 - فيه: عُمَر، قَالَ: كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِينِى الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّى، فَقَالَ: (خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَىْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) . قال الطحاوى: ليس معنى هذا الحديث فى الصدقات، وإنما هو فى الأموال التى يقسمها الإمام على أغنياء المسلمين وفقرائهم، فكانت تلك الأموال يعطاها الناس لا من جهة الفقر، ولكن بحقوقهم فيها، فكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمر حين أعطاه قوله: (أعطه من هو أفقر إليه منى) لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، ثم قال له: (خذه فتموله) ، هكذا رواه شعيب عن الزهرى، فدل أن ذلك ليس من أموال الصدقات، لأن الفقير لا ينبغى له أن يأخذ من الصدقات ما ينبغى له أن يتخذه مالاً، كان عن مسألة أو غير مسألة، ثم قال: (إذا جاءك من هذا المال) الذى هذا حكمه (فخذه) . قال الطبرى: اختلف العلماء فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (ما جاءك من هذا المال فخذه) بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد، فقال بعضهم: هو ندب من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لكل من أعطى عطية إلى قبولها كائنًا من كان معطيها، سلطانًا أو عاميًا، صالحًا أو فاسقًا، بعد أن يكون ممن تجوز عطيته. ذكر من قال ذلك: روى عن أبى هريرة أنه قال: (ما أحد يهدى إلى هدية إلا قبلتها، فأما أن أسأل فلا) . وعن أبى الدرداء مثله،

(3/507)


وقبلت عائشة من معاوية، وقال حبيب بن أبى ثابت: رأيت هدايا المختار تأتى ابن عمر، وابن عباس فيقبلانها، وقال عثمان بن عفان: جوائز السلطان لحم ظبى ذكى، وبعث سعيد بن العاص إلى على بن أبى طالب هدايا فقبلها، وقال: خذ ما أعطوك، وأجاز معاوية الحسين بأربعمائة ألف، وسئل أبو جعفر محمد بن على بن حسين عن هدايا السلطان، فقال: إن علمت أنه من غصب أو سحت فلا تقبله، وإن لم تعرف ذلك فاقبله، فإن بريرة تصدق عليها بلحم فأهدته لآل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (هو عليها صدقة، ولنا هدية) ، وقال: (ما كان من مأثم فهو عليهم، وما كان من مهنأ فهو لك) . وقبلها علقمة، والأسود، والنخعى، والحسن البصرى، والشعبى. وقال آخرون: بل ذلك ندب من النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته إلى قبول عطية غير ذى سلطان، فأما السلطان فإن بعضهم كان يقول: حرام قبول عطيته، وبعضهم كرهها. ذكر من قال ذلك: روى أن خالد بن أسيد أعطى مسروقًا ثلاثين ألفًا، فأبى أن يقبلها، فقيل له: لو أخذتها فوصلت بها رحمك، فقال: أرأيت لو أن لصًا نقب بيتًا ما أبالى أخذتها أم أخذت ذلك. ولم يقبل ابن سيرين ولا أبو رزين ولا ابن محيريز من السلطان، وقال هشام بن عروة: بعث إلىّ عبد الله بن الزبير، وإلى أخى بخمسمائة دينار، فقال أخى: ردها فما أكلها أحد وهو غنى عنها إلا أحوجه الله إليها. وقال ابن المنذر: كره جوائز السلطان: محمد بن واسع، والثورى، وابن المبارك، وأحمد ابن حنبل، وجماعة.

(3/508)


وقال آخرون: بل ذلك ندب إلى قبول هدية السلطان دون غيره. وروى عن عكرمة أنه قال: إنا لا نقبل إلا من الأمراء. قال الطبرى: والصواب عندى أنه ندب منه (صلى الله عليه وسلم) أمته إلى قبول عطية كل معط جائز عطيته، سلطانًا كان أو رعية، وذلك أن الرسول قال لعمر: (ما آتاك الله من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فاقبله) ، فندبه (صلى الله عليه وسلم) إلى قبول كل ما آتاه الله من المال من جميع وجوهه من غير تخصيص وجه من الوجوه دون غيره، سوى ما استثناه (صلى الله عليه وسلم) ، وذلك ما جاء من وجه حرام عليه، فلا يحل له قبوله، كالذى يغصب رجلاً مسلمًا ماله ثم يعطيه بعينه آخر، والذى يُعطاه يعلم غصبه، أو سرقته، أو خيانته، فإن قبله كان واجبًا عليه رده. فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من أنه لا يحرم على امرئ قبول عطية أحد يجوز حكمه فى ماله إلا عطية حرم الله قبولها، فما وجه فعل من رد عطايا السلاطين، وامتنع من قبول هدايا الأمراء، وقد ندب (صلى الله عليه وسلم) إلى قبول عطية كل أحد؟ . قيل له: إن من رد من ذلك شيئًا إنما كان على من كان الأغلب من أمره أنه لا يأخذ المال من وجهه، فرأى أن الأسلم لدينه والأبرأ لعرضه ترك قبوله إذ كان الأمر بالقبول غير حتم واجب، وإنما هو ندب إلى قبول ما لا شك فى حله، فإذا كان فيه لبس فالحق ترك قبوله، وما لم يكن حلالاً يقينًا فلم يدخل فى أمره (صلى الله عليه وسلم) عمر بقبوله، فأحله محل الشبهات التى مَنْ وَاقَعَها لم يُؤمَنْ منه مواقعة الحرام.

(3/509)


فإن قيل: فما تقول فيمن قبل ممن لم يتبين من أين أخذ المال ولا فيما وضعه؟ . قيل: ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فما علمت يقينًا أنه حلال فلا أستحب رده، وما علمت يقينًا أنه حرام فلا أستحل قبوله وما لم أعلم وجه مصيره ولا سبب وصوله إليه، فذلك ما قد وضع عنى تكلف البحث عن أسبابه، وألزمنى فى الظاهر الحكم بأنه أولى به من غيره، ما لم يستحقه عليه مستحق، كما أحكم بما فى يد أعدل العدول أنه أولى بما فى يده ما لم يستحقه عليه مستحق، فسوى عز وجل بين حكم أفضل خلقه فى ذلك وأفجرهم، فالواجب على التسوية فى قبول عطية كل واحد منهما وردها من جهة ما يحل ويحرم، وإن اختلفا فى أن البر أحق بأن يسر بقبول عطيته من الفاجر. فإن قيل: يجوز على هذا مبايعة من يخالط، ماله الحرام وقبول هداياه؟ . قيل: قد كره ذلك قوم وأجازه آخرون، فممن كرهه: عبد الله بن يزيد، وأبو وائل، والقاسم، وسالم، وروى أنه توفيت مولاة لسالم كانت تبيع الخمر بمصر فترك ميراثها، وكانت تبيع مولاة للقاسم الفضة بالفضة متفاضلة فترك ميراثها أيضًا، وقال مالك: قال عبد الله بن يزيد بن هرمز: إنى لأعجب ممن يرزق الحلال فيرغب فى الربح فيه الشىء اليسير من الحرام فيفسد المال كله، وكره الثورى المال الذى يخالطه الحرام. وأما الذين أجازوا ذلك، فروى عن ابن مسعود أن رجلا سأله فقال: إن لى جارًا لا يتورع من أكل الربا، ولا من أخذ ما لا يصلح، وهو يدعونا إلى طعامه، وتكون

(3/510)


لنا الحاجة فنستقرضه؟ فقال: أجبه إلى طعامه واستقرضه، فلك المهنأ وعليه المأثم، وسئل ابن عمر عن أكل طعام من يأكل الربا فأجازه، وسئل النخعى عن الرجل يرث الميراث منه الحلال والحرام، قال: لا يحرم عليه إلا حرام بعينه، وعن سعيد بن جبير أنه مر بالعشارين وفى أيديهم شماريخ، فقال: ناولونا من سحتكم هذا، إنه عليكم حرام ولنا حلال، وأجاز الحسن البصرى أكل طعام العشار والصراف والعامل، وعن مكحول والزهرى، إذا اختلط المال الحلال والحرام فلا بأس به، وإنما يكره من ذلك الشىء يعرف بعينه، وأجاز ذلك ابن أبى ذئب، قال ابن المنذر: واحتج من رخص فى ذلك بأن الله تعالى ذكر اليهود فقال: (سماعون للكذب أكالون للسحت) [المائدة: 42] وقد رهن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) درعه عند يهودى. وقال الطبرى: وفى إباحة الله أخذ الجزية من أهل الكتاب مع علمه بأن أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير، وهم يتعاملون بالربا، أبين الدلالة على أن من كان من أهل الإسلام بيده مال لا يدرى أمن حرام كسبه أم من حلال، فإنه لا يحرم قبوله لمن أعطيه، وإن كان لا يبالى اكتسبه من غير حله بعد أن لا يعلمه حرامًا بعينه، وبنحو ذلك قالت الأئمة من الصحابة والتابعين، ومن كرهه فإنما ركب فى ذلك طريق الورع، وتجنب الشبهات، والاستبراء لدينه، لأن الحرام لا يكون إلا بينًا غير مشكل، والله الموافق. وقوله: (غير مشرف) يعنى: غير متعرض ولا حريص عليه بشره وطمع، وأصله من قولهم: أشرف فلان على كذا، إذا تطاول له

(3/511)


ورماه ببصره، ومنه قيل للمكان المرتفع: شرف، وللشريف من الرجال شريف لا رتفاعه عمن هو دونه بمكارم الأخلاق. قال المهلب: وفى حديث عمر من الفقه أن للإمام أن يعطى الرجل العطاء وغيره أحوج إليه منه، إذا رأى لذلك وجهًا لسابقة أو لخير، أو لغناء عن المسلمين، وفيه أن ما جاء من المال الطيب الحلال من غير مسألة، فإن أخذه خير من تركه إذا كان ممن يجمل الأخذ منه، وفيه أن رد عطاء الإمام ليس من الأدب، لأنه داخل تحت عموم قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) [الحشر: 7] فإذا لم يأخذه فكأنه لم يأتمر لله، فكأنه من سوء الأدب.
49 - باب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا
/ 64 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِىَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِى وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ) . وَقَالَ: (إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ) . قال المهلب: فيه ذم السؤال وتقبيحه، وفهم البخارى، رحمه الله، أن الذى يأتى يوم القيامة لا لحم فى وجهه من كثرة السؤال أنه السائل تكثرًا بغير ضرورة إلى السؤال، ومن سأل تكثرًا فهو غنى لا تحل له الصدقة، فعوقب فى الآخرة. قال عبد الواحد: عوقب فى وجهه بأن جاء لا لحم فيه، فجازاه الله من جنس ذنبه حين بذل وجهه وعنده كفاية. قال المهلب: والمزعة: القطعة من اللحم، فإذا جاء لا لحم فى

(3/512)


وجهه فتؤذيه الشمس فى وجهه أكثر من غيره، ألا ترى قوله فى الحديث: (إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن) فحذر (صلى الله عليه وسلم) من الإلحاف فى المسألة لغير حاجة إليها، وأما من سأل مضطرًا فقيرًا فمباح له المسألة، ويرجى له أن يؤجر عليها إذا لم يجد عنها بدًا، ورضى بما قسم الله لهن ولم يتسخط قدره. قال الخطابى: معنى الحديث أنه يأتى يوم القيامة ذليلا ساقط القدر، لا وجه له عند الله، فهذا التأويل على المجاز، والأول على الحقيقة. وروى شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة الفزارى، عن سمرة بن جندب، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (للسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو فى أمر لا يجد منه بدًا) .
54 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273] وَكَمِ الْغِنَى، وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ) ، يقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا) [البقرة: 273]
/ 65 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى تَرُدُّهُ الأكْلَةَ وَالأكْلَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِى، أَوْ لا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا) .

(3/513)


/ 66 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ بِهِ، فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ) . / 67 - وفيه: الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا، قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. / 68 - فيه: سَعْدٍ، أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ رَهْطًا، وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ رَجُلا لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّى لأرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: (أَوْ مُسْلِمًا) ، قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلا، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ فِيهِ. . الحديث. قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأعْطِى الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِى النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ) . / 69 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، ثُمَّ يَغْدُوَ - أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الْجَبَلِ - فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ، وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ) . قال المؤلف: قال مجاهد فى قوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله) [البقرة: 73] هم فقراء المهاجرين بالمدينة خاصة مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بالصدقة عليهم، وقيل: حصروا أنفسهم للغزو ومنعهم فرض الجهاد من التصرف، وقيل: إنها كانت الأرض كلها كفرًا بها وحربًا على أهل البلد وكانوا

(3/514)


لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدو، فلا يستطيعون تصرفًا فى البلاد ابتغاء المعاشر فيستغنوا به عن الصدقة رهبة للعدو وخوفًا على أنفسهم. وقوله: (لا يسألون الناس إلحافًا) [البقرة: 273] اختلف المفسرون فى تأويله، فقيل: يسألون ولا يلحفون فى المسألة، وقيل: إنهم لا يسألون الناس أصلا، قال ابن الأدفوى: أى لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف كما قال امرؤ القيس: على لاحبٍ لا يهتدى لمناره أى: ليس له منار يهتدى بها، والدليل على أنهم لا يسألون وصف لله لهم بالتعفف، ولو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم. قال المؤلف: ويشهد لهذ التأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس المسكين الذى يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذى لا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) ، واحتج من أوجب لهم السؤال، ونفى عنهم الإلحاف بقوله فى الحديث الأول: (ولكن المسكين الذى ليس له غنى ويستحى، أو لا يسأل الناس إلحافًا) . قالوا: والمسألة بغير إلحاف مباحة إلى المضطر إليها، يدل على ذلك ما رواه مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بنى أسد، عن رسول الله قال: (من يسأل الناس وله أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافًا) فدل هذا الحديث أن من لم يكن له أوقية فهو غير ملحف ولا ملوم فى المسألة، ومن لم يكن ملومًا فى مسألته، فهو ممن يليق به اسم التعفف، وليس قول من قال: لو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم بصحيح، لأن

(3/515)


السؤال المذموم إنما هو لمن كان غنيًا عنه لوجود أوقية أو عدلها. فالحديثان مختلفان فى المعنى لا ختلاف ظاهرهما، فالحديث الأول: نفى فيه الإلحاف، ودل على السؤال، والحديث الثانى: نفى فيه السؤال أصلاً، وانتفى فيه الإلحاف بنفى السؤال، وإنما اختلف الحديثان لا ختلاف أحوال السائلين، لأن الناس يختلفون فى هذا المعنى، فمنهم من يصبر عن السؤال عند الحاجة ويتعفف، ويدافع حاله، وينتظر الفرج من الله تعالى، ومنهم من لا يصبر ويسأل بحسب حاجته وكفايته، ومنهم من يسأل وهو يجد للاستكثار، وهذا هو الملحف الذي لا ينبغى له المسألة، وقد يحتمل أن يكون الحديثنا معناهما واحد فى نفى السؤال أصلا، ويحتمل أن يكونا جميعًا حقيقى المعنى فى إثبات السؤال، ونفى الإلحفاف. فإن قيل: كيف وقد قال فى الحديث الواحد: (لا يقوم فيسأل الناس؟) قيل: فى أكثر أمره وغالب حاله، ويلزم نفسه التعفف عن المسألة حتى تغلبه الحاجة والفقر، ويقع سؤاله فى النادر والشاذ، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يضع عصاه عن عاتقه) ومعلوم أنه أراد فى بعض الأوقات، وكما قال: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى) وقد يحل له فى بعض الأوقات، ومن كان سؤاله عند الضرورة وفى النادر، فليس بملحف فى المسألة، واسم التعفف أولى به، لدليل حديث عطاء بن يسار. وقوله: (ليس المسكين الذى ترده اللقمة واللقمتان) يريد ليس المسكين المتكامل أسباب المسكنة، لأنه بمسألته يأتيه الكفاف والزيادة عليه، فيزول عنه اسم المبالغة فى المسكنة، وإنما

(3/516)


المسكين المتكامل أسباب المسكنة من لا يجد غنى ولا يتصدق عليه كقوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) [البقرة: 177] أى: ليس ذلك غاية البر، لأنه لا يبلغ بر من آمن بالله واليوم الآخر الآية. واختلف أهل اللغة والفقهاء فى الفقير والمسكين، من هو أسوأ حالا منهما؟ فقال ابن السكيت وابن قتيبة: المسكين أسوأ حالا من الفقير، لأن المسكين الذى قد سكن وخشع، والفقير له بعض ما يغنيه واحتجوا بقول الشاعر: أما الفقير الذى كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سَبَدُ فذكر أنه كانت له حلوبة، وجعلها وفقًا لعياله، أى قدر قوتهم، وحكى ابن القصار أنه هذا قول أصحاب مالك وقول أبى حنيفة. وقال طائفة: الفقير أسوأ حالا من المسكين، هذا قول الأصمعى وابن الأنبارى، وهو قو الشافعى، واحتجوا بقوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربًا فى الأرض) [البقرة: 273] الآية، وبقوله: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر) [الكهف: 79] فأخبر أن المسكين يملك بعض السفينة. قالوا: والفقر هو استئصال الشىء، يقال: فقرتهم الفاقرة، إذا أصابتهم داهية أهلكتهم، والفقير عند العرب الذى قد انكسر فقار ظهره، ومن صار هكذا فقد حل به الموت، وقد يقال: مسكين لغير الفقير، ولكن لما نقصت حالته عن الكمال فى بعض الأمور كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (مسكين مسكين من لا زوجة له) وقال لقيلة: (يا

(3/517)


مسكينة عليك بالسكينة) قالوا: وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم أحينى مسكينًا، وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين) وتعوذ بالله من الفقر، فعلم أنه أسوأ حالا وأشد من المسكنة. وقد قالت طائفة من السلف: الفقير الذى لا يسأل، والمسكين الذى يسأل، روى هذا عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، والزهرى، وروى عن على بن زياد عن مالك أنه قال: الفقير الذى لا غنى له ويتعفف عن المسألة، والمسكين الذى لا غنى له ويسأل. واختلفوا أيضًا كم الغنى الذى لا يجوز لصاحبه أخذ الصدقة، وتحرم عليه المسألة؟ فقال بعضهم: هو بوجود المرء قوت يومه لغدائه وعشائه، وهذا قول بعض المتصوفة الذين زعموا أنه ليس لأحد ادخار شىء لغد، قولهم مردود بما ثبت عن النبى وأصحابه أنهم كانوا يدخرون. وقال آخرون: لا تجوز المسألة إلا عند الضرورة، وأحلوا ذلك محل الميتة للمضطر، وقال آخرون: لا تحل المسألة بكل حال، واحتجوا بما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لأبى ذر: (لا تسأل الناس شيئًا) وجعلوا ذلك نهيًا عامًا عن كل مسألة، وبما رواه ابن أبى ذئب عن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، عن ثوبان مولى رسول الله أنه قال (صلى الله عليه وسلم) : (من تكفل لى بواحدة تكفلت له بالجنة) ، قال ثوبان: أنا، قال: (لا تسأل الناس شيئًا، فكان سوطه يقع فما يقول لأحد ناولنيه فينزل فيأخذه) . وقال قيس بن عاصم لبنيه: إياكم والمسألة فإنها آخر كسب المرء، فإن أحدًا لن يسأل إلا ترك كسبه. وقالت طائفة: لا يأخذ الصدقة

(3/518)


من له أربعون درهما لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا) ، وممن قال بذلك أبو عبيد روى عن مالك أنه قال: يعطى من له أربعون درهمًا إذا كان له عيال. وقالت طائفة: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهمًا، هذا قول النخعى، والثورى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث يروى عن ابن مسعود عن النبى بذلك، وعلله يحيى ابن سعيد وشعبة فقالا: يرويه حكيم بن جبير، وهو ضعيف. وقالت طائفة: من ملك مائتى درهم تحرم عليه الصدقة المفروضة. وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه، ورواه المغيرة المخزومى عن مالك، وقال المغيرة: لا بأس أن يعطى أقل مما تجب فيه الزكاة ولا يعطى ما تجب فيه الزكاة واحتج أصحاب أبى حنيفة بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم) فجعل المأخوذ منه الزكاة غير المردود عليه، ومن معه مائتا درهم تؤخذ منه الزكاة، فلم يجز أن ترد عليه لما فيه من إبطال الفرق بين الجنسين بين الغنى والفقير. قال الطحاوى: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سأل وله أوقية أو عدلها) منسوخ بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سأل وله خمس أواق، فقد سأل إلحافًا) فجعل هذا حدًا لمن لا تحل له الصدقة. قال بعض العلماء: وكل من حد من الفقهاء فى الغنى حدًا أو لم يحد، فإنما هو بعد ما لا غنى عنه من دار تحمله ولا تفضل عنه، وخادم هو محتاج إليها، ولا فضل له من مال يتصرف فيه، ومن كان هكذا فأجمع الفقهاء أنه يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه.

(3/519)


قال الطبرى: والصواب عندنا فى ذلك أن المسألة مكروهة لكل أحد إلا المضطر يخاف على نفسه التلف بتركها، ومن بلغ حد الخوف على نفسه من الجوع ولا سبيل له إلى ما يرد به رمقه ويقيم به نفسه إلا بالمسألة، فالمسألة عليه فرض واجب، لأنه لا يحل له إتلاف نفسه وهو يجد السبيل إلى إحيائها بما أباح الله له إحياءها به والمسألة مباحة لمن كان ذا فاقة وإن كرهناها له ما وجد عنها مندوحة بما يقيم به رمقه من عيش وإن خاف، وإنما كرهناها له لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ولقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبلة فيحتطب خير له من أن يسأل الناس) ولا مأثم عليه إلا على سائل سأل من غنى متكثرًا بها ماله فالمسألة عليه حرام. قال المهلب: وفى حديث سعد من الفقه الشفاعة للرجل من غير أن يسألها ثلاثًا فى الصدقات وغيرها، وفيه النهى عن القطع لأحد من الناس بحقيقة الإيمان، وقد تقدم فى كتاب الإيمان. وفيه: أن العالم يجب أن يدعو الناس إلى ما عنده وإلى الحق والعلم بكل شى حتى بالعطاء، وفيه: أن الحرص على هداية غير المهتدى آكد من الإحسان إلى المهتدى، وفيه أنه قد يعطى من المال أهل النفاق ومن على غير حقيقة الإسلام على وجه التألّف إذا طمع بإسلامه، وفى أحاديث هذا الباب كله الأمر بالتعفف والاستغناء وترك السؤال. وقال المؤلف: وفى دليل قوله: (للفقراء الذين أحصروا

(3/520)


فى سبيل الله) [البقرة: 273] ودليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأله الناس) بيان ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) من قوله: (لا تحل الصدقة لذى مرة سوى) أن معناه الخصوص؛ لأن قوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربًا فى الأرض (يدل أنه لو زال عنهم الإحصار لقدروا على الضرب فى الأرض، ودل ذلك على أنهم ذو مرة أقوياء، وقد أباح لهم تعالى أخذ الصدقة بالفقر خاصة، وكذلك قوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب) يدل على هذا المعنى؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا ذو المرة السوى، ولم تحرم عليه المسألة. قال الطحاوى: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى) رواه سفيان عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ورواه أبو بكر ابن عياش، عن أبى حصين، عن سالم بن أبى الجعد، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فذهب قوم إلى الأخذ بهذا الحديث، وقالوا: لا تحل الصدقة لذى مرة سوى، وجعلوه كالغنى. هذا قول الشافعى، وإسحاق، وأبى ثور، وأبى عبيد، ذكره ابن المنذر، وذكر ابن القصار أنه قول عبد الله بن عمرو، راوى الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وخالفهم آخرون فقالوا: كل فقير من قوى وزَمِنٍ فالصدقة له حلال، وتأولوا قوله: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى) لأن معناه الخصوص، هذا قول الطبرى، قال: إنه لا خلاف بين جميع علماء الأمة أن الصدقة المحرمة التى يكون أصلها محبوسًا

(3/521)


وغلتها صدقة على الغنى والفقير أنه يجوز للأغنياء أخذها وتملكها، فمعلوم بذلك أن الصدقات التطوع لم تدخل فى هذا الحديث، وإنما عنى بها الصدقات المفروضة للفقراء فى بعض الأحوال، ولذلك أجمعوا على أن غنيا فى بلده لو كان فى سفر فذهبت نفقته، فلم يجد ما يتحمل به إلى بلده أن له أن يأخذ من الصدقة المفروضة ما يتحمل به إلى موضع ماله، فمعلوم بذلك أن الحديث معناه الخصوص، وأنه معنى به من الصدقة المفروضة بعضها لما ذكرناه، ولأن الله قد جعل فى الصدقة المفروضة حقًا لصنوف من الأغنياء وهم المجاهدون فى سبيل الله، والعاملون عليها، وأبناء السبيل الذين لهم ببلدهم غنى، وهم منقطع بهم فى سفرهم، فكذلك ذو المرة السوى فى حال تعذر الكسب عليه، جاز له الصدقة المفروضة، فأما التطوع منها ففى كل الأحوال. وقال الطحاوى: لا تحرم الصدقة بالصحة إذا أراد بها سد فقره، وإنما تحرم عليه إذا أراد بها التكثر والاستغناء، يدل على ذلك ما رواه شعبة عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، قال: سمعت سمرة بن جندب، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء تركه، إلا أن يسأل ذا سلطان أو فى أمر لا يجد منه بدًا) قد أباح فى هذا الحديث المسألة فى كل أمر لابد من المسألة فيه، وذلك إباحة المسألة بالحاجة لا بالزمانة. وروى يحيى بن سعيد عن مجالد، عن الشعبى، عن وهب ين خنبش، قال: جاء رجل إلى النبى - عليه السلام -، وهو

(3/522)


واقف بعرفة فسأله رداءه، فأعطاه إياه، فذهب به ثم قال النبى: (إن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثرى به، فإنه خموش فى وجهه، ورضف يأكله من جهنم، إن قليل فقليل، وإن كثير فكثير) ، فأخبر (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الحديث أن المسألة تحل بالفقر والغرم، ولا يختلف فى ذلك حال الزمن والصحيح. وكانت المسألة التى أباحها النبى (صلى الله عليه وسلم) ، هى للفقر لا لغيره وكان تصحيح الأخبار عندنا يوجب أن من قصد إليه النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (لا تحل الصدقة لذى مرة سوى) هو غير من استثناه فى هذه الأحاديث، وأن الذى تحرم عليه الصدقة من الأصحاء، هو الذى يريد أن يكثر ماله بالصدقة، حتى تصح هذه الآثار وتتفق معانيها، ولا تتضاد، وتوافق معنى الآية المحكمة، وهى قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) [التوبة: 60] الآية؛ لأن كل من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف فهو من أهل الصدقة التى جعلها الله لهم فى كتابه وسنة رسوله زمنًا كان أو صحيحًا، وهذا الذى حملنا عليه وجوه هذه الآثار هو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد. قال المؤلف: وهو قول مالك أيضًا، وروى المغيرة عنه أنه يعطى القوى البدن من الزكاة ولا يمنع لقوة بدنه، من (المجموعة) .
51 - باب خَرصِ التمرِ
/ 70 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، غَزَوْنَا مَعَ رَسُولُ اللَّهِ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَلَمَّا جَاءَ وَادِىَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ فِى حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ:

(3/523)


(اخْرُصُوا) ، وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَقَالَ لَهَا: (أَحْصِى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا) ، فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ) ، فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَىِّءٍ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ، فَلَمَّا أَتَى وَادِىَ الْقُرَى، قَالَ لِلْمَرْأَةِ: (كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ) ؟ قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِى فَلْيَتَعَجَّلْ) ، فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ: كَلِمَةً مَعْنَاهَا: أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: (هَذِهِ طَابَةُ) ، فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا، قَالَ: (هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنْصَارِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (دُورُ بَنِى النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِى عَبْدِالأشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِى سَاعِدَةَ، أَوْ دُورُ بَنِى الْحَارِثِ ابْنِ الْخَزْرَجِ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ، يَعْنِى خَيْرًا) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الثمرة التى يجب فيها العشر تخرص وهى رطب تمرًا فيعلم مقدارها فتسلم إلى أربابها ويملك بذلك حق الله فيها ويكون عليه مثلها مكيلة ذلك تمرًا، وكذلك يفعل بالعنب، واحتجوا بحديث أبى حميد، وفيه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، خرصها وقال لأصحابه: (اخرصوا) ، وأنه بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فخرص عليهم النخل أول ما يطيب الثمر.

(3/524)


قال ابن المنذر: ممن كان يرى الخرص: عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمد، والحسن البصرى، وعطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأبو ثور، وعامة أهل العلم، وخالف ذلك أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا: ليس فى شىء من الآثار المروية بالخرص أن الثمرة كانت رطبًا فى وقت ما خرصت، وكيف يجوز أن تكون رطبًا، فيجعل لصاحبها فيها حق الله بمكيلة ذلك تمرًا يكون عليه نسيئة، وقد نهى رسول الله عن ذلك. قال الطحاوى: ووجه الخرص عندنا إنما أريد بخرص ابن رواحة ليعلم مقدار ما فى أيدى كل قوم من الثمار، فيؤخذ منه بقدره وقت الصرام لا أنهم يملكون شيئًا مما يجب لله ببدل، لا يؤخذ منهم ذلك الوقت، ويدل على ذلك حديث أبى حميد الساعدى، وهو قوله: (فخرصها رسول الله وخرصناها عشرة أوسق، وقال: أحصها حتى نرجع إليك، إن شاء الله) ، فدل هذا أنها لم تملك بخرصهم إياها ما لم تكن مالكة له قبل ذلك، وإنما أرادوا أن يعلموا مقدار ما فى نخلها، ثم يأخذون منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما يجب فيها، هذا معنى الخرص عندنا. قالوا: وقد قيل فى الخرص أنه كان فى أول الزمان على ما قال أهل المقالة الأولى من تمليك الخراص أصحاب الثمار حق الله فيها، وهى رطب، ببدل يأخذونه منهم تمرًا، ثم نسخ ذلك بنسخ الربا والمزابنة، قال غيره: وقالوا: إن الخرص لا يوجب العلم والإحاطة، وقد يختلف فهو كالتبخيت والظن اللذين لا يجوز الحكم بهما. قال ابن القصار: وما هرب منه أبو حنيفة من تضمين أرباب

(3/525)


الأموال حق الفقراء، فإن أصحاب مالك، وأصحاب الشافعى لا يضمنون أرباب الأموال، لأن الثمرة لو تلفت بعد الخرص لم يضمنهم شيئًا. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن الخارص إذا خرص التمر، ثم أصابته جائحة لا شىء عليه إذا كان ذلك قبل الجداد. قال ابن القصار: لأننا نخرصها حتى يتصرف أصحاب الثمار بالأكل والبيع وغير ذلك إن اختاروا، فحينئذ يضمنون حق الفقراء، لأننا لو منعناهم من التصرف لحقتهم المشقة والضرر، ولو أبحنا لهم التصرف نقص حق الفقراء، فكان الحظ فى خرصها عليهم ليعلم مقدار ما يجب للفقراء، فإن سلمت أخذنا القدر الذى يجب لهم، إلا أن يتصرفوا فيها فحينئذ يضمنون. ومن الحجة لنا أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نهى عن المزابنة، وأرخص فى العرايا أن تباع بخرصها، فأجاز البيع إذا لم يقصد به المزابنة فى الخرص ليعلم حظ المساكين ويحفظ عليهم وليس ببيع، والخرص أولى أن يجوز، وقد ثبت ذلك عن عائشة، فقالت: (خرص النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لئلا يتلف حق المساكين، وليحصى الزكاة قبل أن تؤكل) ، لأنه لو منع رب المال من الاستمتاع بماله لأدى ذلك الإضرار به، فكان فى الخرص رفق برب المال والفقراء. وأما قولهم: فإن الخرص منسوخ بنسخ الربا، فالجواب: أن بعض آية الربا منسوخة بالخرص ومخصوصة به كما خصت الحوالة من بيع الدين بالدين، والقرض من بيع الذهب والفضة بمثلهما إلى

(3/526)


أجل، والإقالة والشركة من بيع الطعام قبل قبضه، وكذلك العرية وبيعها من جملة المزابنة حين لم يقصد بها المغابنة والمكايسة، والخرص ليس بربا لأنه لا نبيع شيئًا بأكثر منه، وإنما هو ليعرف حق المساكين، وقد أنفذ الأئمة بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الخراص، وجرى العمل بذلك، فهى سنة معمول بها. وأما قولهم: فإن الخرص ظن، فإن الحكم قد ورد فى الشريعة بغالب الظن كثيرًا مع جواز وقوع الاختلاف فيه، وعدم الإحاطة، ألا ترى أن الحكم بقيم المتلفات إنما هو بالاجتهاد، وكذلك أمور الديانات المستدل عليها من العقليات والشرعيات قد صار أكثرها معرضًا للخلاف ومنازعة العقلاء، ولم يجب مع ذلك بطلان الاستدلال، ولأن اختلاف المستدلين إنما هو لخطأ فى الاستدلال، وكذلك حكم الحاكم قد يجوز مع الخطأ، ولم يجب لذلك بطلان حكمه. وأما خرص العنب فإنما هو بحديث عتاب بن أسيد، رواه عبد الرحمن بن إسحاق، وابن عيينة، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، مرسل عن عتاب بن أسيد، قال: أمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أخرص العنب وآخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخيل تمرًا. وأجمعوا أن الخرص فى أول ما يطيب الثمر ويزهى بصفرة أو حمرة، وكذلك العنب إذا جرى فيه الماء وصلح للأكل، واختلفوا فيما يأكله الرجل من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجداد، هل يُحْسب

(3/527)


عليه أم لا؟ فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وزفر: يحسب عليه ذلك، وقال الليث، والشافعى: لا يحسب عليه، ويترك له الخارص ما يأكله أهله رطبًا ولا يخرصه، والحجة لهما ما رواه الثورى عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، قال: كان عمر بن الخطاب يأمر الخراص أن يخففوا، وأن يرفعوا عنهم قدر ما يأكلون. قال الشافعى: قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) [الأنعام: 141] يدل أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد، وحمل مالك ومن وافقه قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده (على العموم، أى آتوا حق جميع المأكول والباقى. قال المهلب: فيه من الفقه: أن الإمام يدرب أصحابه ويعلمهم أمور الدنيا كما يعلمهم أمور الآخرة، وفيه: من علامات النبوة، لأنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) عن الريح التى هبت قبل كونها، وهذا لا يعلم إلا بالوحى، وفيه: جواز قبول هدايا المشركين، وسيأتى مذاهب العلماء فى ذلك فى كتاب الهبة، إن شاء الله. وقوله: (جبل يحبنا ونحبه) يعنى أهل الجبل، لقوله تعالى: (واسأل القرية التى كنا فيها) [يوسف: 82] يريد أهلها، قال الخطابى: فحمل الكلام على عمومه وحقيقته أولى من حمله على المجاز وتخصيصه من غير دليل، وقد ثبت (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ارتج حراء تحته، فقال: اثبت، فليس عليك إلا نبى أو. . . . . فسكن) . وأخبره اللحم المسموم أنه مسموم، فلم ينكر حب الجبل.

(3/528)


52 - باب الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالْمَاءِ الْجَارِى وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِى الْعَسَلِ شَيْئًا
/ 71 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، وَكَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفَيمَا سُقِىَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ) . قال أبو عبيد: العثرى والعذى ما سقته السماء، وما سقته الأنهار والعيون فهو سيح وغيل، والبعل: ما شرب بعروقه من الأرض من غير سقى سماء ولا غيرها، والنضح ما سقى بالسواقى، وقال غيره: وأجمع العلماء على القول بظاهر هذا الحديث فى المقدار المأخوذ، وذلك العشر فى البعل وفيما سقت العيون والأنهار، لأن المؤنة فيه قليلة، وما سقى بالدلو فنصف العشر فى الحبوب والثمار التى تجب فيها الزكاة على ما نذكره، إن شاء الله، فأما مقدار المأخوذ منه فهو فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) . واتفق جمهور العلماء بالحجاز والعراق والشام على أن التأويل عندهم فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر) إذا كان الذى سقته السماء خمسة أوسق، وهو مثل قوله: (فى الرقة ربع العشر) مع قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ، لأنا نقضى بالخاص على العام، والعام قوله: (فيما سقت السماء العشر) ، وقوله: (وفى الرقة ربع العشر) ، والخاص قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس فيما دون خمسة أوسق

(3/529)


صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة) هذا قول مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال النخعى وأبو حنيفة وزفر: الزكاة فى كل ما أخرجت الأرض من قليل ذلك وكثيره العشر، أو نصف العشر، ولم يعتبروا خمسة أوسق فى مقدار المأخوذ منه، وهذا خلاف السنة والعلماء، وقد تناقض أبو حنيفة فى هذه المسألة، لأنه استعمل المجمل والمفسر فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى الرقة ربع العشر) مع قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ولم يستعمله فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فيما سقت السماء العشر) مع قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وكان يلزمه القول به. ولا زكاة فى العسل عند مالك والشافعى، وهو مذهب ابن عمر، وقال أبو حنيفة: فيه العشر، وقال ابن المنذر: وليس فى وجوب الزكاة فيه خبر يثبت عن النبى، ولا إجماع، فلا زكاة فيه.
53 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
/ 72 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ، وَلا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ، البخارى: هَذَا تَفْسِيرُ الأوَّلِ؛ لأنه لم يوقت فى الأول، يعنى حديث ابن عمر: (. فيما سقت السماء العشر) ،

(3/530)


وبيَّن فى هذا ووقت، فالزيادة مقبولة، والمفسر يقضى على المجمل إذا رواه أهل الثبت، كما روى الفضل بن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يصل فى الكعبة. وقال بلال: قد (صلى) فأخذ بقول بلال، وترك قول الفضل. قال المؤلف: هذا الذى رواه البخارى عليه أئمة الفتوى بالأمصار، وأن الخمسة الأوسق هو بيان المقدار المأخوذ منه العشر، أو نصف العشر، وشذَّ أبو حنيفة وزفر فى ذلك، وقيل: أنهما خالفا الإجماع، فأوجبا العشر أو نصف العشر فى قليل ما تخرجه الأرض وكثيره، وخالفه صاحباه فى ذلك. وقال ابن القصار: الحجة عليه أن ما طريقه المواساة فى الصدقات يقتضى أوله حدًا ونصابًا كالذهب والفضة والماشية، والنصاب إنما وضع فى المال لمبلغ الحد الذى يحمل المواساة من غير إجحاف لرب المال، ولا تعذر عليه، وخالف أيضًا أبو حنيفة معنى آخر من هذا الحديث، فأوجب العشر أو نصف العشر فى البقول والرياحين والفواكه، وما لا يوسق كالرمان والتفاح والخوخ وشبه ذلك، والجمهور على خلافه لا يوجبون الزكاة إلا فيما يوسق ويقتات ويدخر، قال مالك: السنة عندنا فى الحبوب التى يدخرها الناس ويأكلونها، أن يؤخذ منها العشر، أو نصف العشر إذا بلغ ذلك خمسة أوسق والوسق: ستون صاعًا، والصاع: أربعة أمداد بمد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وما زاد على خمسة أوسق ففيه الزكاة بحساب ذلك، قال: والحبوب التى فيها الزكاة: الحنطة والشعير، والسلت،

(3/531)


والذرة، والدُّخْن، والأرز، والحمص، والعدس، والجلبان، واللوبيا، والفول، والجلجلان، وما أشبه ذلك من الحبوب التى تصير طعامًا يؤخذ منها الزكاة بعد أن يصير حبًا ويحصد، والناس مصدقون فيما رفعوه من ذلك، ولا زكاة فى البقول والخضر كلها والتوابل. قال ابن القصار: لم ينقل عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أحد بالحجاز أنه أخذ من البقول والفواكه الزكاة، ومعلوم أنها كانت عندهم بالمدينة، وأهل المدينة متفقون على ذلك عاملون به إلى وقتنا هذا ومحال أن يكون فى ذلك زكاة، ولا تؤخذ مع وجود هذه الأشياء عندهم وحاجتهم إليها، ولو أخذ منها مرة واحدة لم يجز أن يذهب عليهم حتى يطبقوا على خلافه إلى هذه الغاية. 54 - باب أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِىُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ؟ / 73 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ، فَيَجِىءُ هَذَا بِتَمْرِهِ، وَهَذَا بِتَمْرِهِ، حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ، فَقَالَ: (أَوْ مَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) لا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ) . قال بعض أهل العلم: سنة أخذ صدقة التمر عند جداده، لقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) [الأنعام: 141] ، فإن أخرجها عند محلها فسرقت

(3/532)


أو سقطت فقال مالك وأبو حنيفة: يجزئ عنه، وهو قول الحسن البصرى، وقال الزهرى، والثورى، وأحمد: هو ضامن لها حتى يضعها مواضعها. وقال الشافعى: إن كان بقى له من ماله ما فيه زكاة زَكَّاه، وحجة القول الأول أن إخراجها موكول إليه، وهو مؤتمن على إخراجها، فإذا أخرجها من ماله وجعلت فى يده جعلت يده كيد الساعى، وقد اتفقنا أن يد الساعى يد أمانة، فإذا قبض الزكاة ولم يفرط فى دفعها وتلفت بغير صنعه لم يضمن، فكذلك رب المال، لأن الزكاة ليست متعلقة بذمته، وإنما تجب فى ماله، وإذا أخر إخراج الزكاة، حتى هلكت، فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى: إذا أمكن الأداء بعد حلول الحول وفرط حتى هلك المال فعليه الضمان. قال المهلب: وفيه من الفقه: دفع الصدقات إلى السلطان، وفيه: أن المسجد قد ينتفع به فى أمر جماعة المسلمين لغير الصلاة، ألا ترى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جمع فيه الصدقات وجعله مخزنًا لها، وكذلك أمر أن يوضع فيه مال البحرين وأن يبات عليه حتى قسمه فيه، وكذلك كان يقعد فيه للوفود والحكم بين الناس، ومثل ذلك مما هو أبين منه لعب الحبشة بالحراب، وتعلم المثاقفة، وكل ذلك إذا كان شاملاً لجماعة المسلمين، وإذا كان العمل لخاصة الناس فيكره مثل الخياطة والجزارة، وقد كره قوم التأديب فى المسجد، لأنه خاص، ورخص فيه آخرون لما يرجى من نفع تعلم القرآن فيه، وفيه: جواز دخول الأطفال فى المسجد واللعب فيه بغير ما يسقط حرمته إذا

(3/533)


كان الأطفال ممن إذا نهوا انتهوا، وفيه: أنه ينبغى أن يجنب الأطفال ما يجنب الكبار من المحرمات، وفيه: أن الأطفال إذا نهوا عن الشىء يجب أن يعرفوا لأى شىء نهوا عنه، ليكبروا على العلم ليأتى عليهم وقت التكليف وهم على علم من الشريعة. وقال الطبرى: وفيه الدليل على أن لأولياء الصغار المعاتبة وتجنيبهم التقدم على ما يجب على الأصحاء البالغين الانزجار عنه، والحول بينهم وبين ما حرم الله على عباده فعله، وذلك أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، استخرج التمرة من الصدقة من فىّ الحسن، وهو طفل لا تلزمه الفرائض، ولم تجر عليه الأقلام، ولا شك أنه لو أكل تمر جميع الصدقات لم تلزمه تبعة عند الله، وإن لزم ماله غرمه، فلم يخله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأكل لا من أجل ما كان يلزمه من ضمن ذلك، ولكن من أجل أنه كان مما حرم الله على أهل التكليف من أهل بيته، فبان بذلك أن الواجب على ولى الطفل والمعتوه إن رآه قد تناول خمرًا يشربها، أو لحم خنزير يأكله، أو مالاً لغيره ليتلفه أن يمنعه من فعله، ويحول بينه وبين ذلك. وفيه: الدليل الواضح على صحة قول القائلين أن على ولى الصغيرة المتوفى عنها زوجها أن يجنبها الطيب والزينة والمبيت عن المسكن الذى تسكنه والنكاح، وجميع ما يجب على البوالغ المعتدات اجتنابه، وخطأ قول من قال: ليس ذلك على الصغيرة اعتلالاً منهم أنها غير متعبدة بشىء من الفرائض، لأن الحسن كان لا تلزمه الفرائض، فلم يكن لإخراج التمرة من فيه معنى إلا من أجل ما كان على النبى من منعه ما على المكلفين الامتناع منه من أجل أنه وليّه.

(3/534)


55 - باب مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوِ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَقَوْلُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا) ، فَلَمْ يَحْظُرِ الْبَيْعَ بَعْدَ الصَّلاحِ عَلَى أَحَدٍ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَت عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ.
/ 74 - وفيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاحِهَا، قَالَ: (حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُها) . / 75 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِىَ قَالَ: ومَا تُزْهِىَ؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَارَّ. اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك: من باع أصل حائطه أو أرضه، وفى ذلك زرع أو ثمر قد بدا صلاحه وحل بيعه، فزكاة ذلك التمر على البائع إلا أن يشترطها على المبتاع، ووجه قوله أن المراعاة فى الزكاة إنما تجب بطيب الثمرة، فإذا باعها ربها وقد طاب أولها فقد باع ماله، وحصة المساكين معه، فيحمل على أنه قد ضمن ذلك ويلزمه. وقال أبو حنيفة: المشترى بالخيار بين إنفاذ البيع ورده، فالعشر مأخوذ من الثمرة من يد المشترى، ويرجع على البائع بقدر ذلك، ووجه قوله فى العشر مأخوذ من الثمرة، لأن سنة الساعى أن يأخذ الزكاة من كل ثمرة يجدها، فوجب الرجوع على البائع بقدر ذلك، كالعيب الذى يرجع بقيمته، وقال الشافعى فى أحد قوليه: إن البيع فاسد، لأنه باع ما يملك وما لا يملك، وهو نصيب المساكين

(3/535)


ففسدت الصفقة، وعلى هذا القول رد البخارى بقوله فى هذا الباب فلم يحظر البيع بعد الصلاح على أحد، ولم يخص من وجبت عليه الزكاة ممن لم تجب، والشافعى منع البيع بعد الصلاح فخالف إباحة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لبيع الثمار إذا بدا صلاحها، واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى أنه إذا باع أصل الثمرة وفيها ثمر لم يبد صلاحه أن البيع جائز، والزكاة على المشترى لقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) [الأنعام: 141] وأما الذى ورد فيه نهى النبى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها هو بيع الثمرة خاصة دون الأصل، لأنه يخشى عليه أن لا تتم الثمرة، فيذهب مال المشترى فى غير عوض، وإن ابتاع رقبة الثمرة، وإن كان فيها ثمر لم يبد صلاحه، فهو جائز، لأن البيع إنما وقع على الرقبة لا ثمرتها التى لم تظهر بعد، فهذا الفرق بينهما.
56 - باب هَلْ يَشْتَرِى الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ؟ وَلا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِىَ صَدَقَهُ غَيْرُهُ لأنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) إِنَّمَا نَهَى الْمُتَصَدِّقَ خَاصَّةً عَنِ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ
/ 76 - فيه: ابْنَ عُمَر، أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَأْمَرَهُ، فَقَالَ:

(3/536)


(لا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ) ، فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلا جَعَلَهُ صَدَقَةً. وَقَالَ عُمَر: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِى كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لا تَشْتَرِهِ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صَدَقَتهِ كَالْعَائِدِ فِى قَيْئِهِ) . كره أكثر العلماء شراء الرجل صدقته لحديث عمر فى الفرس، وهو قول مالك، والليث، والكوفيين، والشافعى، وسواء عندهم صدقة الفرض أو التطوع، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخ بيعه، والأولى به التنزه عنها، وكذلك قولهم فيما يخرجه المكفر عن كفارة اليمين مثل الصدقة سواء. قال ابن المنذر: ورخص فى شراء الصدقة: الحسن، وعكرمة، وربيعة، والأوزاعى، وقال ابن القصار: قال قوم: لا يجوز لأحد أن يشترى صدقته، ويفسخ البيع، ولم يذكر قائلى ذلك، ويشبه أن يكونوا أهل الظاهر، وحجة من لم يفسخ البيع أن الصدقة راجعة إليه بمعنى غير معنى الصدقة، كما خرج لحم بريرة، وانتقل عن معنى الصدقة المحرمة على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى معنى الهدية المباحة له. قال ابن القصار: وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة) وذكر منهم من اشتراها بماله، ولم يفرق بين أن يكون المشترى لها صاحبها أو غيره، ورواه أبو سعيد الخدرى، وقد تقدم فى باب قوله تعالى: (وفى الرقاب) [البقرة: 177] قبل هذا.

(3/537)


وأجمعوا أن من تصدق بصدقة ثم ورثها أنه حلال له، وروى سفيان، عن عبد الله ابن عطاء، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن امرأة جاءت إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقالت: يا رسول الله، إنى تصدقت على أمى بجارية وإنها ماتت، قال: (وجب أجرك، ورَدَّها عليك الميراث) ، فإن قيل: فلم كرهتم شراءه إياها؟ . قيل: لئلا يحابيه الذى تصدق عليه بها فيصير عائدًا فى بعض صدقته، لأن العادة أن الذى تصدق عليه بها يسامحه إذا باعها، وقد أخبر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى لحم بريرة أنه إذا كانت الجهة التى يأخذ بها الإنسان غير جهة الصدقة جاز ذلك، ومن ملكها بماله لم يأخذها من جهة الصدقة، فدل هذا المعنى أن النهى فى حديث عمر فى الفرس محمول على وجه التنزه لا على التحريم، لأن المتصدق عليه بالفرس لما ملك بيعه من سائر الأجانب، وجب أن يملكه من المتصدق عليه، دليله إن وهب له جاز أن يشتريه الواهب. وقال الطبرى: معنى حديث عمر فى النهى عن شراء صدقة التطوع خاصة، لأنه لا صدقة فى الخيل، فيقال: إن الفرس الذى تصدق به عمر كان من الصدقة الواجبة، وصح أنه لم يكن حبيسًا لأنه لو كان حبيسًا لم يكن ليباع، فعلم أنه كان مما تطوع به عمر. قال غير الطبرى: ولا يكون الحبس إلا لينفق عليه المحبس من ماله، وإذا خرج خارج إلى العدو دفعه إليه مع نفقته، على أن يغزو به ويصرفه إليه، فيكون موقوفًا على مثل ذلك، فهذا لا يجوز بيعه بإجماع، وأما إذا جعله فى سبيل الله وملكه الذى دفعه إليه، فهذا يجوز بيعه.

(3/538)


قال الطبرى: والدليل على جواز شراء صدقة الفرض وصحة البيع فيها ما ثبت عن الرسول فيمن وجبت عليه سن من الإبل فلم تكن عنده، وكان عنده دونها أو فوقها أن يأخذ ما وجد ويرد دراهم أو غنمًا، إن كان أخذ أفضل من الذى له، وإن كان الذى وجد عنده دون، أن يأخذه ويلزمه دراهم، أو غنمًا وهذا لا شك أخذ عوض وبدل من الواجب على رب المال، وإذا جاز تملك الصدقة بالشراء قبل خروجها من يد المتصدق بعوض، فحكمها بعد القبض كذلك، وبنحو ذلك قال جماعة من العلماء، حدثنا محمد ابن بزيع، حدثنا بشر بن مفضل، عن الأشعث، أن الحسن حدثهم أن عمر بن الخطاب كان لا يكره أن يشترى الرجل صدقته إذا خرجت من يد صاحبها إلى غيره، وهو قول الحسن، وابن سيرين، فأما إن رجعت إلى المتصدق صدقته بميراث، أو هبة من المتصدق عليه، أو غيره فإنه لا يكره له تملكها، ولا يكون عائدًا فى صدقته لحديث بريرة، وسيأتى الكلام فى حديث عمر فى كتاب الجهاد باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فرآها تباع، وفى كتاب الأوقاف، وفى آخر كتاب الهبات على حسب ما يقتضيه التبويب، إن شاء الله.
57 - باب مَا يُذْكَرُ فِى الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)
/ 77 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (كِخْ كِخْ) ، لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: (أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) .

(3/539)


قال المؤلف: اختلف العلماء فى الصدقة المحرمة على آل النبى، فقال الطحاوى: قال أبو يوسف ومحمد: يحرم على بنى هاشم صدقة الفريضة والتطوع، وكره أصبغ بن الفرج لهم فيما بينهم وبين الله أن يأخذوا من التطوع. وقال الطحاوى: اختلف فى ذلك قول أبى حنيفة، فروى عنه مثل هذا القول، وروى عنه أن صدقة الفريضة، وسائر الصدقات حلال لبنى هاشم، وقال مالك: الصدقة المحرمة عليهم هى الزكاة لا التطوع، وذكر الطبرى عن أبى يوسف أنه يحل لبنى هاشم الصدقة بعضهم من بعض، ولا يحل لهم من غيرهم، وذكر الطحاوى أن علة أبى حنيفة فى ذلك أن الصدقات إنما كانت محرمة عليهم من أجل ما جعل لهم فى الخمس من سهم ذوى القربى، فلما انقطع عنهم ذلك ورجع إلى غيرهم بموت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حل بذلك لهم ما كان حرم عليهم. قال المؤلف: فأما أهل المقالة الأولى فإنهم أخذوا بعموم النهى، فكرهوا جميع أنواع الصدقات، ولا يصح تأويلهم، لأن هذه التمرة التى أخرج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من فى الحسن بن على كان من تمر الصدقة المفروضة التى كان يقسمها النبى، (صلى الله عليه وسلم) . قال الطحاوى: وإنما حرم على بنى هاشم من الصدقات لقرابتهم مثل ما حرم على الأغنياء لأموالهم، فأما الصدقة التى يراد بها طريق الهبات، وإن سميت صدقات فلا تدخل فى التحريم، ألا ترى لو أن رجلاً أوقف داره على غنى أن ذلك جائز، ولا يمنعه ذلك غناه، وحكم ذلك خلاف حكم سائر الصدقات من الزكوات والكفارات،

(3/540)


وكذلك من كان من بنى هاشم فذلك حلال، وقد روى الطبرى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه حرم الصدقة المفروضة على بنى هاشم وهذا نص قاطع، قال الطبرى: وفى إخراج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، التمرة من فى الحسن فساد قول من زعم أن الصدقة المفروضة حلال لآل النبى، وفساد قول من زعم أنها تحرم عليهم من غيرهم، وأنها حلال لبعضهم من بعض، وذلك أن الأخبار وردت أن الصدقة محرمة عليه وعلى أهل بيته، وبذلك نطق القرآن، وذلك لقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة فى القربى) [الشورى: 23] ، وذلك أنه لو حلت له الصدقة فأخذها منهم، وجد القوم السبيل أن يقولوا: إنما تدعونا إلى ما تدعونا إليه لتأخذ أموالنا وتعطيها إلى أهل بينك ولا تدعونا إلى سبيل الرشاد، ولكنه أمر (صلى الله عليه وسلم) بأخذها من أغنياء كل قبيلة وردها فى فقرائهم، ليعلموا أنه إنما يدعوهم إلى مصلحتهم دون عوض يأخذه منهم، وبذلك بعثت الرسل من قبله، فقال نوح إذ كذبه قومه، وقال هود إذ كذبته عاد، وقال صالح إذ كذبته ثمود: (وما أسألكم عليه من أجر) [الشعراء: 145] وإنما سألوا الأجر من الله تعالى. قال المهلب: وإنما حرمت الصدقة عليه وعلى آله، لأنها أوساخ الناس، ولأن أخذ الصدقة منزلة ذل وضعة، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، فجعل يد الذى يأخذ السفلى، والأنبياء وآلهم منزهون عن الذل، والضعة، والخضوع، والافتقار إلى غير الله.

(3/541)


وقد فرض الله عليه وعلى الأنبياء قبله ألا يطلبوا على شىء من الرسالة أجرًا، فلو أخذ الصدقة لكانت كالأجرة، وكذلك لو أخذها الذين تلزمهم صلته لكان ذلك كالواصل إليه، فلذلك حرمها عليهم، قال الطبرى: وأما الذين حظروا على بنى هاشم أخذ الصدقة المفروضة من غيرهم، وأباحوا أخذها من بعضهم لبعض، فإنهم لا القياس فى ذلك أصابوا، ولا خبر الرسول اتبعوا، وذلك أن كل صدقة وزكاة أوساخ الناس، وغسالة ذنوب من أخذت منه هاشمبًا كان أو نبطيًا، ولم يفرق الله ولا رسوله بين شىء منها بافتراق حال المأخوذ ذلك منه، وصاحبهم أشد قولاً منهم، لأنه لزم ظاهر التنزيل، وهو قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) [التوبة: 60] وأنكر الأخبار الواردة بتحريم الصدقة على بنى هاشم، فلا ظاهر التنزيل لزموا، ولا بالخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) قالوا. قال المهلب: وفى هذا الحديث أن قليل الصدقة لا يحل لآل محمد بخلاف اللقطة التى لا يحرم منها ما لا قيمة له، لقوله (صلى الله عليه وسلم) فى التمرة الملقاة: (لولا أنى أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) . قال المؤلف: واختلف العلماء فى آل النبى (صلى الله عليه وسلم) من هم؟ فقال مالك: هم بنو هاشم خاصة. قال ابن حبيب: ولا يدخل فى آل محمد من كان فوق بنى هاشم من بنى عبد مناف، أو بنى قصى، أو غيرهم، وهكذا فسر ابن الماجشون ومطرف، وحكاه الطحاوى عن أبى حنيفة، وذكر عبد الرزاق عن الثورى، عن يزيد بن حيان التيمى،

(3/542)


قال: سمعت زيد بن أرقم، وقيل له: من آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة؟ قال: آل على بن أبى طالب، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وقال الشافعى: آل محمد بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، أخى هاشم أيضًا ممن لا تحل لهم الصدقة. وقال أصبغ بن الفرج: آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة عشيرته الأقربون، الذين ناداهم حين أنزل عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء: 214] وهم آل عبد المطلب، وآل هاشم، وآل عبد مناف، وقصى، وقال أصبغ: وقد قيل: قريش كلها. وقوله: (كخ كخ) ، قال أبو على البغدادى: يقال للصبى إذا زجروه عن الشىء يريد أكله. كخ كخ بكسر الكاف مرتين.
58 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - عليه السلام -
/ 78 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، وَجَدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاةٌ لِمَيْمُونَةَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا) ، قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) . / 79 - وفيه: عَائِشَةَ، (أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلاءَهَا. . . .) الحديث. (وَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِلَحْمٍ، فَقُلْتُ: هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ النّبِىّ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . قال المؤلف: اتفق كافة الفقهاء على أن أزواج النبى، - عليه السلام -،

(3/543)


لا يدخلن فى آله الذين تحرم عليهم الصدقة، فمواليهن أحرى بالصدقة على ما ثبت فى شاة ميمونة ولحم بريرة. وإنما اختلف العلماء فى موالى بنى هاشم خاصة إن كان لهم حكم بنى هاشم فى تحريم الصدقة عليهم أم لا فذهب الكوفيون، والثورى، وابن الماجشون، ومطرف، وابن نافع إلى أن الصدقة محرمة على موالى بنى هاشم كتحريمها على بنى هاشم، واحتجوا بحديث أبى رافع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنا آل محمد لا نأكل الصدقة، وموالى القوم منهم) . وذهب مالك، وابن القاسم، والشافعى، إلى أن موالى بنى هاشم تحل لهم الصدقات وتأولوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (موالى القوم منهم) على الخصوص، قال ابن القاسم: ومثل الحديث الذى جاء (ابن أخت القوم منهم) قال أصبغ: وتفسير مولى القوم منهم يريد فى الحرمة والبر منهم به، كما جاء فى الحديث: (أنت ومالك لأبيك) يريد فى البر والمطاوعة لا فى اللازم ولا فى القضاء.
59 - باب إِذَا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ
/ 80 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ) ؟ فَقَالَتْ: لا، إِلا شَىْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنَ الشَّاةِ الَّتِى بَعَثَتْ بِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: (إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) . / 81 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أُتِىَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ) .

(3/544)


قال بعض العلماء: لما كانت الصدقة يجوز فيها التصرف للفقير بالبيع والهبة، لصحة ملكه لها، وأهدتها نسيبة وبريرة إلى عائشة، حكم لها بحكم الهبة، وتحولت عن معنى الصدقة بملك المتصدق عليه بها، وانتقلت إلى معنى الهدية الحلال للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، لما فى الهدية من تألف القلوب والدعاء إلى المحبة. وجائز أن يثبت عليها بمثلها وأفضل منها فترتفع المنة والذلة، ولا يجوز ذلك فى الصدقة، فافترق حكمهما لافتراق المعنى فيهما، وقال سحنون: لا بأس أن يشترى الرجل كسور السؤال منهم، واستدل على ذلك بقول الرسول فى لحم بريرة: (هو لها صدقة ولنا هدية) . وقال الطحاوى: فى حديث أم عطية، وحديث بريرة دليل على أنه يجوز للهاشمى أن يستعمل على الصدقة، ويأخذ جعله على ذلك، وقد كان أبو يوسف يكره ذلك إذا كانت جعالتهم منها. قال: لأن الصدقة تخرج من ملك المتصدق إلى غير الأصناف التى سماها الله، فيملك المصدق بعضها، وهى لا تحل له، واحتج بحديث أبى رافع، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث رجلاً من بنى مخزوم على الصدقة، فقال لأبى رافع: اصحبنى كيما تصيب منها، فقال: لا حتى أستأذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأتاها فذكر ذلك له، فقال: إن آل محمد لا تحل لهم الصدقة، وموالى القوم من أنفسهم. وخالف أبا يوسف فى ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس أن يجتعل منها

(3/545)


الهاشمى، لأنه إنما يجتعل على عمله، وذلك قد يحل للأغنياء، فلما كان هذا لا يَحْرُمُ على الأغنياء يُحَرِّمُ عليهم غناهم الصدقة، كان ذلك أيضًا فى النظر لا يَحْرُمُ على بنى هاشم الذى يُحَرِّمُ عليهم نسبهم الصدقة. وقال الطحاوى: فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزًا للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أكله، لأنه إنما ملكه بالهدية، جاز أيضًا للهاشمى أن يجتعل من الصدقة، لأنه إنما تملكها بعمله لا بالصدقة، هذا هو النظر عندنا، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف.
60 - باب أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الأغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِى الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا
/ 82 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: (إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) .

(3/546)


قال المؤلف: قال الله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها (إلى) وابن السبيل) [التوبة: 60] ، واختلف العلماء فى الصدقات، هل هى مقسومة على من سمى الله تعالى فى هذه الآية؟ فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: يجوز أن توضع الصدقة فى صنف واحد من الأصناف المذكورة فى الآية على قدر اجتهاد الإمام، وهو قول عطاء، والنخعى، والحسن البصرى، وقال الشافعى: هى مقسومة على ثمانية أصناف لا يصرف منها سهم عن أهله ما وجدوا، وهو قول عكرمة، وأخذ بظاهر الآية، قال: وأجمعوا لو أن رجلاً أوصى بثلثه لثمانية أصناف لم يجز أن يجعل ذلك فى صنف واحد، فكان ما أمر الله بقسمته على ثمانية أصناف أولى أن لا يجعل فى واحد، ومعنى الآية عند مالك والكوفيين: إعلام من الله تعالى لمن تحل له الصدقة، بدليل إجماع العلماء أن العامل عليها لا يستحق ثمنها، وإنما له بقدر عمالته، فدل ذلك أنها ليست مقسومة على ثمانية أصناف بالسوية، واحتجوا بما روى عن حذيفة، وابن عباس أنهما قالا: إذا وضعتها فى صنف واحد أجزأك، ولا مخالف لهما من الصحابة، فهو كالإجماع، وقال مالك والكوفيون: المؤلفة قلوبهم قد سقطوا ولا مؤلفة اليوم، وليس لأهل الذمة فى بيت المال حق، وقال الشافعى: المؤلفة قلوبهم من دخل فى الإسلام، ولا يعطى مشرك يتألف على الإسلام. واختلفوا فى نقل الصدقة من بلد إلى بلد، فقال الشافعى: لا يجوز نقلها من بلد إلى بلد آخر، وقال مالك: إذا وجد المستحقون

(3/547)


للزكاة فى البلد الذى تؤخذ فيه لم تنقل عنه إلى بلد آخر، وذكر ابن المواز، عن مالك لو أن رجلاً بالشام أنفذ زكاته إلى المدينة كان صوابًا، ولو أنفذها إلى العراق لم أر به بأسًا، وقال أبو حنيفة: يجوز نقلها إلى بلد آخر مع وجود الفقراء فى البلد الذى تؤخذ فيه، وإن كنا نكرهه، واحتج الشافعى بحديث معاذ حين بعث إلى اليمن فأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم فيردها فى فقرائهم، فأخبر أنها ترد فى فقراء اليمن إذا أخذت من أغنيائهم. واحتج من أجاز نقلها إلى بلد آخر بما روى عن معاذ أنه قال لأهل اليمن: ائتونى بعرض ثياب خميس، أو لبيس فى الصدقة، فإنها أنفع لأهل المدينة، فأعلمهم أنه ينقلها إلى المدينة، وكان عدى بن حاتم ينقل صدقة قومه إلى أبى بكر بالمدينة، فلم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة. وقوله: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) . فيه: أن للإمام أن يعظ من ولاه النظر فى أمور رعيته، ويأمره بالعدل بينهم، ويخوفه عاقبة الظلم، ويحذره وباله، قال الله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين (ولعنة الله الإبعاد من رحمته. والظلم محرم فى كل أمة، وقد جاء فى الحديث: أن دعوة المظلوم لا ترد وإن كانت من كافر، ومعنى ذلك أن الله تعالى لا يرض ظلم الكافر كما لا يرضى ظلم المؤمن، وأخبر تعالى أنه لا يظلم الناس شيئًا، فدخل فى عموم هذا اللفظ جميع الناس من مؤمن وكافر.

(3/548)


61 - باب صَلاةِ الإمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً (إلى قوله: (سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة: 103]
/ 83 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ) ، فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى) . قال أهل الظاهر: إذا أخذ الإمام الصدقة من صاحبها وجب عليه أن يدعو له، وقال جميع الفقهاء: إن ذلك غير واجب، واحتج أهل الظاهر بقوله تعالى: (وصل عليهم) [التوبة: 103] قالوا: والأمر يقتضى الوجوب، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد دعا لآل أبى أوفى، وفعله ممتثل، والاقتداء به واجب. قال ابن القصار: حجة الجماعة أنه لا يخلو أن يكون الأمر إذا لم يدع له أن تجزئه الزكاة أم لا؟ فإن قالوا: لا تجزئه دللنا بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة (وهذا قد أعطاها، فإن قالوا: تجزئه، دللنا أن الإمام لا يجب عليه شىء بقوله (صلى الله عليه وسلم) : خذ الصدقة من أغنيائهم وردها فى فقرائهم، ولم يقل: ادع لهم، ولو كان مأمورًا بالدعاء لذكره، ليعلم كما علمنا وجوب الزكاة، ولأمر به السعاة، ولم ينقل أحد أنه أمرهم بذلك. وأما قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم (فإنما أراد إذا ماتوا، هكذا يقتضى إطلاق الصلاة فى الشريعة، ولو ثبت أنه أراد الدعاء لكان خصوصًا للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لقوله: (إن صلاتك سكن لهم (فلا يعلم هذا فى غير النبى، ويجوز أن يحمل على الاستحباب بدليل أن كل حق لله أو للآدميين استوفاه الإمام فلا يجب عليه الدعاء لمن استوفاه منه كالحدود والكفارات والديون.

(3/549)


62 - باب مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ هُوَ شَىْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِى الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ، فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الرِّكَازِ الْخُمُسَ لَيْسَ فِى الَّذِى يُصَابُ فِى الْمَاءِ. / 84 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ فِى الْبَحْرِ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَرَمَى بِهَا فِى الْبَحْرِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا. . . . .) ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، (فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ) . اختلف العلماء فى العنبر واللؤلؤ حين يخرجان من البحر هل فيهما خمس أم لا؟ فجمهور العلماء على ألا شىء فيهما، وأنهما كسائر العروض، وهذا قول أهل المدينة، والكوفيين، والليث، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وقال أبو يوسف: فى اللؤلؤ والعنبر وكل حلية تخرج من البحر خمس. وهو قول عمر بن عبد العزيز، والحسن البصرى، وابن شهاب. قال ابن القصار: وهذا غلط، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (وفى الركاز الخمس) فدل أن غير الركاز لا خمس فيه، والبحر لا ينطلق عليه اسم ركاز، واللؤلؤ والعنبر متولدان من حيوان البحر فأشبها السمك والصدف. قال غيره: وحجة أخرى أن الله فرض الزكاة، فقال: (خذ من

(3/550)


أموالهم صدقة} فأخذ الرسول من بعض الأموال دون بعض، فعلمنا أن الله تعالى لم يرد جميع الأموال، فلا سبيل إلى إيجاب زكاة إلا فيما أخذه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووقف عليه أصحابه. قال المهلب: فى أخذ الرجل الخشبة حطبًا لأهله دليل أن ما يوجد فى البحر من متاع البحر وغيره أنه لا شىء فيه، وهو لمن وجده حتى يستحق ما ليس من متاع البحر من الأموال كالدنانير والثياب وشبه ذلك، فإذا استحق رد إلى مستحقه، وما ليس له طالب ولم تكن له كبير قيمة، وحكم بغلبة الظن بانقطاعه كان لمن وجده ينتفع به، ولا يلزمه فيه تعريف إلا أن يوجد فيه دليل يستدل به على مالكه كاسم رجل معلوم، أو علامة، فيجتهد فيه الفقهاء فى أمر التعريف له. وفيه: أن الله تعالى متكفل بعون من أراد الأمانة ومعينه على ذلك. وفيه: أن الله يجازى على الإرفاق بالمال بحفظه عليهم مع الأجر المدخر لهم فى الآخرة، كما حفظه على المسلف حين رده الله إليه، وهذان فضلان كبيران لأهل المواساة والثقة بالله والحرص على أداء الأمانة. وفيه: دليل على جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة فيه.
63 - باب فِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ: الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فِى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ، وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَعْدِنِ

(3/551)


جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) ، وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِى أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لأنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ، إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَىْءٌ، فقَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ الشَىْءٌ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ: أَرْكَزْتَ ثُمَّ نَاقَضَ، وَقَالَ: لا بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ، وَلا يُؤَدِّىَ الْخُمُسَ. / 85 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) . قال ابن حبيب: الركاز دفن الجاهلية خاصة، والكنز دفن الإسلام، فدفن الإسلام فيه التعريف ودفن الجاهلية فيه الخمس فى قليله وكثيره، وباقية لمن وجده سواء كان فى أرض العرب، أو أرض عنوة، أو صلح، قاله مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، وأصبغ، ورواه ابن وهب، عن على بن أبى طالب، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والليث، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أنه فرق بين أرض العنوة، والصلح فى ذلك، فقال: من أصابه ببلد العنوة فليس لمن وجده، وفيه الخمس وأربعة أخماسه لمن افتتح تلك البلاد، ولورثتهم إن هلكوا، ويتصدق به عنهم إن لم يعرفوا.

(3/552)


وقد رد عمر السفطين اللذين وجدا بعد الفتح وسكنى البلاد، قال: وإن كانت أرض فهو كله لهم، لا خمس فيه إذا عرف أنه من أموالهم، وإن عرف أنه ليس من أموال أهل تلك الذمة ولم يرثه عنهم أهل هذه الذمة، فهو لمن وجده وكذلك إن وجده رجل فى دار صلح من صالح عليها، فهو لرب الدار لا شىء فيه، لأن من ملك شيئًا من أرض الصلح ملك ما تحتها. قال سحنون: فإن لم تعرف أعنوة هى الأرض أو صلح، فهو لمن أصابه بعد أن يخمسه، قال الأبهرى: وإنما جعل فى الركاز الخمس، لأنه مال كافر لم يملكه مسلم، فأنزل واجده بمنزلة الغانم مال الكافر، فكان له أربعة أخماسه، واحتج الطحاوى، فقال: لا فرق بين أرض العنوة وأرض الصلح، لأن الغانمين لم يملكوا الركاز كما أن من ملك أرض العرب لا يملك ما فيها من الركاز، وهو للواجد دون المالك بإجماع، فوجب رد ما اختلفوا فيه من أرض الصلح إلى ما أجمعوا عليه من أرض العرب. قال ابن المواز: واختلف قول مالك فيما وجد من دفنهم سوى العين من جوهر وحديد ونحاس ومسك وعنبر، فقال: ليس بركاز، ثم رجع فقال: له حكم الركاز، وأخذ ابن القاسم بالقول الأول أنه ليس بركاز، قال ابن أبى زيد: وهو أبين، لأنه لا خمس إلا فيما أوجف عليه، وإنما أخذ من الذهب والفضة، لأنه الركاز نفسه الذى جاء فيه النص، وقال مطرف، وابن الماجشون،

(3/553)


وابن نافع: إنه ركاز. وبه قال أشهب إلا النحاس، والرصاص، ومن جعل ذلك كل ركازًا شبهه بالغنيمة يؤخذ منها الخمس، سواء كانت عينًا أو عرضًا، واختلفوا فى من وجد ركازًا فى منزل اشتراه، فروى على بن زياد، عن مالك أنه لرب الدار دون من أصابه، وفيه الخمس، وهو قول أبى حنيفة ومحمد، وقال ابن نافع: هم لمن وجده دون صاحب المنزل، وهو قول الثورى، وأبى يوسف. وقال ابن المنذر: لا خلاف بين العلماء أن فى الركاز الخمس، ولا نعلم أحدًا خالف ذلك إلا الحسن البصرى فأوجب فيه الخمس إذا وجد فى أرض الحرب، وأوجب الزكاة فيه إذا وجد فى أرض العرب، قال غيره: وهذا غلط، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (وفى الركاز الخمس) ، وهذا عموم فى كل ركاز سواء كان فى أرض العرب أو غيرها، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يخص أرضًا دون أرض. واختلفوا فى المعدن، فعند مالك، والليث أن المعادن مخالفة للركاز، لأنه لا ينال شىء منها إلا بالعمل، بخلاف الركاز، وفيها الزكاة إذا حصل له نصاب ولا يستأنف له الحول، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، قال مالك: لما كان ما يخرج من المعدن يعتمل وينبت كالزرع، كان مثله فى تعجيل زكاته يوم حصاده، كما قال الله فى الزرع، ولا يسقط الدين زكاة المعدن كالزرع، وما كان فى المعدن من الندرة يؤخذ بغير تعب ولا عمل فهو ركاز، وفيه الخمس.

(3/554)


وعند الشافعى فى المعدن الزكاة، إلا أنه اختلف قوله، فقال مرة: الزكاة فى قليله وكثيره، وقال مرة: لا زكاة فيه حتى يبلغ نصابًا، وكذلك اختلف قوله فى الندرة توجد فيه، فمرة قال فيها الخمس، كقول مالك، ومرة قال فيها: الزكاة ربع العشر على كل حال، وذهب أبو حنيفة والثورى، والأوزاعى إلى أن المعدن كالركاز، وفيه الخمس فى قليله وكثيره على ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وفى الركاز الخمس) واحتج أبو حنيفة بقول العرب: أركز الرجل إذا أصاب ركازًا، وهو قطع من الذهب تخرج من المعادن، هذا قول صاحب العين. وذكر ابن المنذر، عن الزهرى، وأبى عبيد أن الركاز: المال المدفون والمعدن جميعًا، وفيهما الخمس كقول أبى حنيفة، وهما إمامان فى اللغة ومن حجة مالك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (المعدن جبار، وفى الركاز الخمس) ووجه حجته أنه (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المعدن والركاز بواو فاصلة، فصح أن الركاز ليس بمعدن من جهة الاسم، وأنهما مختلفان فى المعنى فدل ذلك أن الخمس فى الركاز لا فى المعدن، وما ألزمه البخارى أبا حنيفة، من قوله: قد يقال لمن وهب له الشىء أو ربح ربحًا كثيرًا، أو كثر ثمره أركزت، فهى حجة قاطعة لأنه لا يدل اشتراك المسميات فى الأسماء على اشتراكهما فى المعانى والأحكام، إلا أن يوجب ذلك ما يوجب التسليم له. وقد أجمعوا على أن من وهب له مال أو أكثر ربحه أو ثمره فإنما يلزمه فى ذلك الزكاة خاصة على سنتها، ولا يلزمه فى شىء منه

(3/555)


الخمس، وإن كان يقال فيه أركز، كما يلزمه فى الركاز الذى هو دفن الجاهلية إذا أصابه، فاختلف الحكم، وإن اتفقت التسمية. ومما يدل على ذلك حديث مالك بن ربيعة (أن رسول الله أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية) ولا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة، فلما ثبت أنه لم يؤخذ منها غير الزكاة فى عصر النبى وعصر الصحابة، علم أن الذى يجب فى المعادن هو الزكاة، وأما قول البخارى عن أبى حنيفة، ثم ناقض، فقال: لا بأس أن يكتمه ولا يؤدى الخمس، فهو تعسف منه، وليس بمناقضة، لأن الطحاوى حكى عن أبى حنيفة أنه قال: من وجد ركازًا فلا بأس أن يعطى الخمس للمساكين، وإن كان محتاجًا جاز له أن يأخذه لنفسه، وإنما أراد أبو حنيفة أنه تأول أن له حقًا فى بيت المال، وله نصيب فى الفىء، فذلك جاز أن يأخذ الخمس لنفسه عوضًا من ذلك، لأن أبا حنيفة أسقط الخمس من المعدن بعد ما أوجبه فيه، فتأول عليه البخارى غير ما أراده، وبالله التوفيق.
64 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) [التوبة: 60] وَمُحَاسَبَةِ الْمُصَدِّقِينَ مَعَ الإمَامِ
/ 86 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا مِنَ الأسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ. اتفق العلماء أن العاملين عليها هم السعاة المتولون لقبض الصدقة، واتفقوا أنهم لا يستحقون على قبضها جزءًا منها معلومًا سبعًا أو ثمنًا، وإنما للعامل بقدر عمالته على حسب اجتهاد

(3/556)


الإمام، ودلت هذه الآية على أن لمن شغل بشىء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك كالولاة والقضاة وشبههم، وسيأتى قول من كره ذلك من السلف فى كتاب الأحكام فى باب رزق الحكام والعاملين عليها، إن شاء الله. قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه: جواز محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته. قال غيره: وهذا الحديث هو أصل فعل عمر بن الخطاب فى مقاسمته العمال، وإنما فعل ذلك لما رأى ما نالوه من كثرة الأرباح، وعلم أن ذلك من أجل سلطانهم، وسلطانهم إنما كان بالمسلمين، فرأى مقاسمة أموالهم نظرًا للمسلمين واقتداء بقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أفلا جلس فى بيت أبيه، وأمه فيرى أيهدى له شىء أم لا) . ومعناه أنه لولا الإمارة لم يهد إليه شىء، وهذا اجتهاد من عمر، وإنما أخذ منهم ما أخذ لبيت مال المسلمين لا لنفسه، وسيأتى فى باب احتيال العامل ليهدى له فى آخر كتاب ترك الحيل زيادة فى هذا المعنى، إن شاء الله، قال المهلب: وفيه من الفقه: أن العالم إذا رأى متأولاً قد أخطأ فى تأويله خطأ يعم الناس ضرره أن يعلم الناس كافة بموضع خطئه، ويعرفهم بالحجة القاطعة لتأويله كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بابن اللتبية فى خطبته للناس. وفيه: جواز توبيخ المخطئ. وفيه: جواز تقديم الأدون إلى الإمارة والأمانة والعمل وثم من هو أعلى منه وأفقه، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قدم ابن اللتبية وثم من صحابته من هو أفضل منه.

(3/557)


65 - باب اسْتِعْمَالِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا لأبْنَاءِ السَّبِيلِ
/ 87 - فيه: أَنَس، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ. . . . . الحديث. قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب، والله أعلم، إثبات وضع الصدقات فى صنف واحد ممن ذكر فى آية الصدقة خلافًا للشافعى الذى لا يجوز عنده قسمة الصدقات إلا على ثمانية أسهم، والحجة بهذا الحديث قاطعة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أفرد أبناء السبيل بالانتفاع بإبل الصدقة وألبانها دون غيرهم، وقد تقدم هذا المعنى، قال صاحب العين: اجتويت الأرض إذا لم توافقك. وقال الطبرى: افتعلت من الجوى، والجوى أصله فساد يكون فى الجوف يقال منه: قد جوى الرجل يجوى جوى شديدًا، فلذلك كره العرنيون المدينة لما أصابهم من الداء فى أجوافهم. وقال ابن قتيبة: اجتويت البلاد، إذا كرهتها وإن كانت موافقة لك فى بدنك استوبأتها إذا لم توافقك فى بدنك، وإن أحببتها، وقول صاحب العين أشبه بهذا الحديث، وسيأتى ما فيه من غريب اللغة بعد هذا.
66 - باب وَسْمِ الإمَامِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ
/ 88 - فيه: أَنَس، قَالَ: غَدَوْتُ إِلَى النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِعَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ فِى يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ. قال المهلب: فيه من الفقه: أن للإمام أن يتناول أمور المسلمين بنفسه

(3/558)


ويلى أمر الصدقة بيده، وفيه: جواز إيلام الحيوان وبنى آدم، إذا كان فى ذلك منفعة، وكان ألما لا يجحف بهم. قال الطبرى: وقد تظاهرت الأخبار عن الصحابة والتابعين أنهم وسموا البهائم، وروى يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه نهى عن الوسم فى الوجه) . وروى ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لعن من يسم فى الوجه. قال الطبرى: فغير جائز لأحد عرف نهى النبى، (صلى الله عليه وسلم) عن الوسم فى الوجه أن يسم بهيمة فى وجهها، فإن قال: فأى المواضع يجوز الوسم فيه؟ قيل: حيث شاء ربها إذا عدا به وجهها، وإن كان أحب الأماكن أن يسم من الإبل والبغال والحمير جاعرتها، ومن الغنم آذانها، وقد روى شعبة، عن هشام بن زيد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: غدوت إلى النبى بعبد الله بن أبى طلحة ليحنكه، فإذا النبى يسم غنمًا. قال شعبة: وأكبر علمى أنه قال: فى آذانها، وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه وسم الخيل التى حمل عليها فى سبيل الله فى أفخاذها، وروى عنه (صلى الله عليه وسلم) خبر فى إسناده نظر أنه أمر بوسم الإبل فى أفخاذها. قال المهلب: وفيه: أن للإمام أن يتخذ ميسمًا لخيله ولخيل السبيل، ليميز بعضها من بعض، وليس للناس أن يتخذوا مثل خاتمه وميسمه، لينفرد السلطان بعلامة لا يشارك فيها، وفيه: أن الطفل إذا وُلِدَ حَسُنَ أن يُقْصَدَ به أهل الفضل والصلاح ليحنكوه ويدعوا له بالبركة، وتلك كانت عادة الناس بأبنائهم فى زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تبركًا بريقه ودعوته ويده - عليه السلام -.

(3/559)


67 - باب فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً
/ 89 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنه قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالأنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ. قال المؤلف: ذهب جماعة الفقهاء إلى أن صدقة الفطر فريضة فرضها رسول الله، وقال مالك: هى داخلة فى جملة قوله تعالى: (وآتوا الزكاة (واختلف أصحابه فى وجوبها، فقال بعضهم: هى فريضة، وقال بعضهم: هى سنة مؤكدة، وذكر ابن المواز، عن أشهب، قال: لا أرى أن تُبدأ الزكاة على العتق المعين، ولا تبدأ إلا على الوصايا، وتُبدأ على زكاة الفطر، لأنها فرض وزكاة الفطر سنة، وزكاة الفطر بعد زكاة الأموال، وقال أبو حنيفة: هى واجبة، وليست بفريضة، وكل فرض عنده واجب، وليس كل واجب فرضًا، بل الفرض آكد من الواجب. قال بعض أهل العراق: هى منسوخة بالزكاة وروى عن قيس بن سعد بن عبادة، أنه قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمر بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم يأمر بها، ولم ينه عنها، ونحن نفعله) ، وتأول قول ابن عمر: (فرض رسول الله) بمعنى أنه قدر ذلك كما يقال: فرض القاضى النفقة، أى قدرها قالوا: ألا ترى قوله تعالى فى آية الصدقات بعد ذكر الأصناف الثمانية: (فريضة من الله) [التوبة: 60] قالوا: وأهل المدينة وأهل العراق

(3/560)


متفقون على أن قوله تعالى: (فريضة من الله (لا يراد بها الفرض، فكذلك قول ابن عمر. قال عبد الواحد: ومما يدل أنها ليست بفريضة إجماع الأمة على أن الرجل يلزمه الأداء عن زوجته وخادمه وولده الفقراء، وقد أجمعوا أن لا زكاة على الفقراء، فدل هذا أن صدقة الفطر خارجة عن باب الفرض، ومن جعلها خارجة من آية الزكاة، يَرُدُّ قَوْلَهُ حديثه (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم) وصدقة الفطر تجب على غير الأغنياء. واحتج من قال أنها فريضة بظاهر قول ابن عمر: (فرض رسول الله) ، واسم الفرض لا يقع إلا على الواجب، ولا يجوز للراوى أن يعبر بالفرض عن السنة ويترك العبارة التى تختص بالسنة مع علمه بالفرق بينهما إلا والمراد اللزوم. واختلف العلماء فى وجوبها على الفقير، واختلف فى ذلك قول مالك، فقال فى المدونة: تجب زكاة الفطر على من يحل له أخذها، وقد قال قبل ذلك: من له أن يأخذها فلا تجب عليه، وهو قول ابن الماجشون، وأبى حنيفة، وروى عنه أشهب: من لم يكن له شىء فلا شىء عليه، وروى عنه ابن وهب: إن وجد من يسلفه فليستسلف، قال ابن المواز: ليس عليه أن يستسلف، وليس هو ممن تجب عليه، وهو قول ابن حبيب. وفى العتبية عن مالك إذا أدَّى الفقير زكاة الفطر، فلا أرى أن يأخذ منها، ثم رجع فأجازه إن كان محتاجًا، وقال الشافعى: إذا

(3/561)


فضل عن قوت المرء وقوت عياله مقدار زكاة الفطر، فعليه أن يؤدى، وهو قول أحمد، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس على من تحل له صدقة الفطر إخراجها حتى يملك مائتى درهم، واحتج بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم) ، وهذا فقير فوجب أن تصرف إليه الزكاة، ولا تؤخذ منه، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ، فثبت بهذا نفيها عن الفقير. قال ابن القصار: وحجة القول الأول قول ابن عمر: (فرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدقة الفطر على كل حر وعبد، وذكر وأنثى من المسلمين) ، ولم يخص من له نصاب ممن لا نصاب له، فهو عام. وقال (صلى الله عليه وسلم) : (أغنوهم عن طواف هذا اليوم) والمخاطب غنى بقوت يومه، ولم يفرق بين أن يكون المأمور غنيًا أو فقيرًا، وأيضًا فإن زكاة الفطر حق فى المال لا تزداد بزيادة المال، ولا تفتقر إلى نصابٍ أصله الكفارة.
68 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
/ 90 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قال ابن القصار: لم يختلف علماء الأمصار أن على السيد أن يخرج زكاة الفطر عن عبيده المسلمين، وقال أهل الظاهر: إن زكاة الفطر تلزم العبد فى نفسه، وعلى السيد تمكينه من اكتساب

(3/562)


ذلك وإخراجه عن نفسه، واستدلوا بقوله: (على كل حر وعبد) وإلى هذا القول ذهب البخارى فى هذا الباب، والدليل للجماعة قول نافع: فكان ابن عمر يعطى عن الصغير والكبير حتى إن كان ليعطى عن بنَىَّ. فهذا يدل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (على العبد) إنما معناه على سيد العبد، والخطاب للعبد، والمراد مالكه المحتمل لها عنه، لأن العبد لا يملك شيئًا، ألا ترى أن العبد لا تلزمه زكاة ماله، لأن ملكه غير مستقر، ونفقته واجبة على سيده، وإن كان له مال، فإذا أذن له سيده أن ينفق على نفسه من المال ويزكى زكاة الفطر جاز، لأنه يكون كأن سيده انتزع منه ذلك المقدار، و (على) بمعنى (عن) لغة مشهورة للعرب، قال القحيف: إذا رضيت علىَّ بنو قشير لعمر الله أعجبنى رضاها أى رضيت عنى، وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: لما فرضت على المملوك كان السيد الغارم عنه، لأنه عبد مملوك لا يقدر على شىء، فكذلك إذا جنى كان الغرم على سيده. واختلفوا فى إخراج صدقة الفطر عن العبد الكافر، فقال سعيد بن المسيب والحسن: لا يؤدى إلا عمن صام وصلى. وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وحجتهم قوله فى حديث ابن عمر: (من المسلمين) فدل أن الكفار بخلاف ذلك. وقال آخرون: يجب على السيد أن يخرج عن عبده الكافر، هذا قول عطاء، ومجاهد، والنخعى، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الثورى، وسائر الكوفيين، وإسحاق، واحتج لهم الطحاوى بأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من المسلمين) خطاب متوجه معناه إلى السادة،

(3/563)


يريد أن من يلزمه إخراج الزكاة عن نفسه، وعن عبده لا يكون إلا مسلمًا، وأما العبد فإنه لم يدخل فى هذا الحديث، لأنه لا يملك شيئًا ولا يفرض عليه شىء، وإنما أريد بالحديث مالك العبد، ألا ترى إجماعهم فى العبد يعتق قبل أن يؤدى عنه مولاه صدقة الفطر أنه لا يلزمه إذا ملك بعد ذلك مالا إخراجها عن نفسه، كما يلزمه إخراج كفارة ما حنث فيه من الأيمان وهو عبد، فإنه لا يكفرها بصيام، ولو لزمته صدقة الفطر لأداها عن نفسه بعد عتقه، وقال ابن المنذر: القول الأول أصح، لأنها طهرة للمسلمين وتزكية، والكافر لا يتزكى، فلا وجه لأدائها عنه، وحجة هذا القول ما رواه أبو داود بإسناده، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. فدل هذا الحديث أن زكاة الفطر لا تكون إلا عن مسلم، والله أعلم.
69 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ
/ - فيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىَّ، كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. لم يختلف العلماء أن الطعام المذكور فى هذا الحديث هو البُّر، واختلفوا فى مكيلته فى صدقة الفطر، فروى عن الحسن البصرى، وأبى العالية، وجابر بن زيد، أنه لا يجزئ من البر إلا صاع، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: يجزئ من البر نصف صاع،

(3/564)


ولا يجزئ مما ذكر فى الحديث إلا صاع، وهو قول أبى حنيفة، والثورى. قال ابن المنذر: وروى عن أبى بكر وعثمان، ولا يثبت عنهما، وروى عن على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وأبى هريرة، وابن الزبير، ومعاوية، وأسماء واختلف عن على، وابن عباس، فروى عنهما القولان جميعًا واحتج الكوفيون بقول ابن عمر: فعدل الناس بالتمر والشعير نصف صاع من بر، والناس فى ذلك الزمان كبار الصحابة. وحجة من أوجب صاعًا من بر حديث أبى سعيد، وأنه ذكر فيه صاعًا من طعام وصاعًا من سائر الحبوب، ولم يفصل بين واحد منهما فى المكيلة، فوجب أن لا يتعدى هذا المقدار. قال أشهب: سمعت مالكًا سئل عمن يقول: مدين من بُرّ، فقال: القول ما قال رسول الله: (صاع) ، فذكر له الأحاديث التى تروى عن رسول الله فى المدين من الحنطة فأنكرها. قال ابن القصار: وأيضًا فإن اعتبار القيمة لا وجه له، وذلك أن قيمة التمر والشعير تختلف، ثم لم ينظر إلى ذلك واعتبرت المكيلة ومقدارها، فكذلك البر، وعندنا أن البر والشعير جنس واحد فى تحريم التفاضل بينهما، وجمعهما فى الزكاة لتقاربهما فى المنفعة، ولكونهما قوتًا يستغنى به الفقير عن قوت يومه، فلا ينبغى أن يفترق حكمهما. قال ابن القاسم: ويخرج أهل كل بلد من جل عيشهم، فالتمر عيش أهل المدينة، ولا يخرج أهل مصر إلا البر، إلا أن يغلو سعرهم،

(3/565)


ويصير جل عيشهم الشعير فيجزئهم، وذكر عبد الرزاق، عن ابن عباس، قال: من أدى زبيبًا قبل منه، ومن أدى تمرًا قبل منه، ومن أدى شعيرًا قبل منه، ومن أدى سلتا قبل منه صاع صاع.
70 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْعِيدِ
/ 92 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ. وفيه: أَبُو سَعِيد، كُنَّا نُخْرِجُ فِى عَهْدِ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأقِطُ وَالتَّمْرُ. قال أَبُو سَعِيد: فلما جاء معاوية وجاءت السمراء، قال: أرى مدًا من هذا يعدل مدين. قال المؤلف: السنة إخراج زكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة، لأمر النبى بذلك، وروى هذا عن ابن عباس، وابن عمر وعطاء، وهو قول مالك والكوفيين. وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز فى قوله: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) [الأعلى: 14، 15] ، قالا: هى صدقة الفطر. وقال ابن مسعود: من أراد الخروج إلى الصلاة تصدق بشىء، وقال عطاء: الصدقات كلها. وقال ابن عباس: (قد أفلح من تزكى (من الشرك) وذكر اسم ربه (قال: وحد الله سبحانه فصلى الصلوات الخمس، قال عكرمة: (قد أفلح (من قال: لا إله إلا الله. وقول أبى سعيد: كنا نخرج يوم الفطر، هو مجمل يحتمل أن يكون قبل الصلاة، ويحتمل أن يكون بعد الصلاة، وإذا كانت صدقة الفطر لإغناء السؤال عن المسألة ذلك اليوم جاز إخراجها بعد الصلاة؛

(3/566)


لأن ذلك كله يوم الفطر وفى المدونة، إن أداها بعد الصلاة فواسع، وقد رخص قوم فى تأخيرها عن يوم الفطر، روى ذلك عن النخعى وابن سيرين، وقال أحمد بن حنبل: أرجو ألا يكون به بأس، وروى عن ابن شهاب أنه لا بأس أن تؤدى زكاة الفطر قبله بيوم أو بيومين أو بعده بيوم أو يومين، وكان يخرجها هو قبل أن يغدو. وقال ابن القاسم فى المدونة: إن أداها قبل الفطر بيوم أو يومين أجزأه، وقال أصبغ: لا بأس أن يخرجها قبل الفطر بيومين أو ثلاثة وتجزئه، قال ابن المواز: ولو هلكت ضمنها، واختلف قول مالك فى وقت وجوب صدقة الفطر، فروى عنه أشهب أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر، وبه قال أشهب والشافعى وروى عنه ابن القاسم، وعبد الملك ومطرف أنها تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر وبه قالوا وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. قال ابن القصار: والحجة لرواية أشهب قول ابن عمر: فرض رسول الله صدقة الفطر من رمضان وأول فطر يقع من رمضان هو ليلة العيد، ووجه الرواية الأخرى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (أغنوهم عن المسألة فى هذا اليوم) أمر بأدائها يوم الفطر فدل أنه أول أحوال الوجوب.
71 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الْمَمْلُوكِينَ لِلتِّجَارَةِ: يُزَكَّى فِى التِّجَارَةِ، وَيُزَكَّى فِى الْفِطْرِ
/ 93 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ النَّبِىُّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، أَوْ قَالَ: (رَمَضَانَ عَلَى الذَّكَرِ وَالأنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ،

(3/567)


فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ) ، قَالَ نافع: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِى التَّمْرَ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ، فَأَعْطَى شَعِيرًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِى عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ حَتَّى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِىَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. وترجم له باب صدقة الفطر عن الصغير، قال مالك: أحسن ما سمعت أن الرجل تلزمه زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته، ولابد له من أن ينفق عليه، وعن مكاتبه ومدبريه ورقيقه غائبهم وشاهدهم، للتجارة كانوا أو غير تجارة إذا كان مسلمًا، وهو قول جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة والثورى: لا تلزمه زكاة الفطر عن عبيد التجارة، وهو قول عطاء والنخعى، وحجة من أوجب الزكاة قوله: (فرض النبى صدقة الفطر على الحر والمملوك) وهو على عمومه فى كل العبيد، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخص عبد الخدمة من عبد التجارة، وكذلك خالف أبو حنيفة والثورى الجمهور فقالا: ليس على الزوج أن يؤدى عن زوجته ولا خادمها صدقة الفطر. قال ابن القصار: والحجة للجمهور أن على بمعنى عن فقوله فى الحديث: (على الذكر والأنثى) معناه: عمن يلزم الرجل نفقته، وقد روى عن نافع ستة نفر: عن كل حر وعبد، ويدل على صحة هذا قول نافع: فكان ابن عمر يعطى عن الصغير والكبير، وأيضًا فإن زكاة الفطر تتبع النفقة لإجماعهم أن نفقة الصغير

(3/568)


المعسر على أبيه ففطرته عليه، وإذا أيسر سقطت عنه نفقته وفطرته، ولما وجبت نفقة الزوجة على زوجها وجبت فطرتها عليه. فإن قيل: العبد تجب عليه نفقة امرأته، ولا تلزمه فطرتها، قيل: ليس للعبد أن ينفق عليها من مكاسبه إلا بإذن السيد، فإذا أذن له قلنا له: زك عنها زكاة الفطر، ولست أعرفه منصوصًا، واختلفوا فى الولد الصغير إذا كان موسرًا، فذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعى وأحمد إلى أن نفقته فى ماله، فكذلك زكاة الفطر، وذهب محمد بن الحسن إلى أن نفقته فى ماله، وزكاة الفطر على أبيه، وهذا غلط، لأن كل من لا تلزمه نفقته لا تلزمه عنه زكاة الفطر، دليله الأجنبى والأب إذا كان موسرًا، قوله: (فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرًا) يدل أنه لا يجوز أن يعطى فى زكاة الفطر إلا من قوته، لأن التمر كان من جل عيشهم بالمدينة، فأعطى شعيرًا حين لم يجد التمر، وقوله: (وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها قبل الفطر بيومين) يريد الذين تجتمع عندهم ويتولون تفرقتها صبيحة يوم العيد لأنها السنة، وكان ابن عمر كثير الاتباع ولا يخالف السنة. وروى ابن جريج قال: أخبرنى عبيد الله بن عمر قال: أدركت سالم بن عبد الله وغيره من علمائنا وأشياخنا فلم يكونوا يخرجونها إلا حين يغدون، وقال عكرمة وأبو سلمة: كانوا يخرجون زكاتهم ويأكلون قبل أن يخرجوا إلى المصلى. تم كتاب الزكاة [والحمد لله رب العالمين، يتلوه كتاب الصيام - إن شاء الله] .
. . . . . . . . . . .

(3/569)