شرح صحيح
البخارى لابن بطال الجزء الرابع
(4/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الصَّيامِ
- باب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ
وَقَوْلِ اللَّهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة 183] الآية / 1 - فيه:
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ
عَلَىَّ مِنَ الصَّلاةِ؟ قَالَ: (الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ،
إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا) ، قَالَ: أَخْبِرْنِى مَا
فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ قَالَ: (شَهْرَ
رَمَضَانَ، إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا) ، قَالَ:
أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ
الزَّكَاةِ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) بِشَرَائِعَ الإسْلامِ، قَالَ: وَالَّذِى
أَكْرَمَكَ، بالحق لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلا أَنْقُصُ
مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ،
أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ) . وفيه: ابن عمر: صام
النبى عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك، وكان عبد
الله بن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وفيه: عائشة: أن
قريشًا كانت تصوم عاشوراء فى الجاهلية، ثم أمر رسول الله
بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) : (من شاء فليصمه، ومن شاء فليفطره) .
(4/5)
وقال المؤلف: قوله تعالى: (كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة: 183] ، أى فرض عليكم كما
فرض على الذين من قبلكم، والكتاب فى اللغة بمعنى الوجوب
والفرض، قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)
[البقرة: 178] بمعنى فر ض، وقال ابن عباس فى هذه الآية:
كان كتاب الصيام على أصحاب محمد، أن الرجل كان يأكل ويشرب
وينكح ما بينه وبين أن يصلى العتمة أو يرقد، فإذا صلى
العتمة أو رقد، منع من ذلك إلى مثلها من القابلة، فنسختها
هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ) [البقرة: 187] الآية. وروى: أن صرمة بن مالك
كان شيخًا كبيرًا جاء إلى أهله وهو صائم، فدعا بعشائه،
فقالوا: امهل حتى نجعل لك طعامًا سَخنًا تفطر عليه، فوضع
الشيخ رأسه فنام، فجاءوا بطعامه، فقال: قد كنت نمت، فلم
يطعم، فبات ليلته يتسلق ظهرًا لبطن، فلما أصبح أتى النبى،
عليه السلام، فنزلت هذه الآية: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) [البقرة: 187] الآية. وجاء عمر بن
الخطاب فأراد أهله، فقالت: إنها قد كانت نامت، فظن أنها
اعتلت عليه، فواقعها، وفعل مثل ذلك كعب بن مالك، فذكر ذلك
للنبى، عليه السلام، فنزلت: (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ
كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ (، إلى قوله: (ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187] ،
وقد تقدم الكلام فى قوله: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص،
وقوله عليه السلام: (أفلح إن تصدق) ، فى كتاب الإيمان،
فأغنى عن إعادته هاهنا.
(4/6)
قال المهلب: وفيه أن أداء الفرائض يوجب
الجنة، وأن عمل السنن والرغائب يوجب الزيادة فى الجنة. قال
الطبرى: وأما الآثار فى صيام عاشوراء، فإن أهل العلم
اختلفوا فى حكم صومه اليوم، هل هو فى فضله وعيظ ثوابه على
مثل ذلك الذى كان عليه قبل أن يفرض رمضان؟ فقالت طائفة:
كان ذلك يومًا تصومه اليهود شكرًا لله على أن نجى موسى
وبنى إسرائيل من البحر وأغرق فرعون، فصامه رسول الله وأمر
بصومه، فلما فرض رمضان لم يأمر بصومه ولم ينه عنه، فمن شاء
صامه ومن شاء تركه. وقال آخرون: لم يزل رسول الله يصومه
ويحث أمته على صومه حتى مضى بسبيله، عليه السلام، روى هذا
عن ابن عباس، قال: ما رأيت رسول الله يومًا يتحرى فضله إلا
يوم عاشوراء وشهر رمضان. فإن قيل: فما وجه كراهية ابن عمر
صومه؟ . قيل: نظير كراهية من كره صوم رجب، إذ كان شهرًا
تعظمه الجاهلية، فكره أن يعظم فى الإسلام ما كان يعظم فى
الجاهلية، من غير تحريم صومه على من صامه، ولا مؤيسه من
الثواب الذى وعد الله صائمه على لسان رسوله إذا صامه
مبتغيًا بصومه ثواب الله، لا مريدًا به إحياء سنة أهل
الشرك، وكذلك صوم رجب، وسيأتى بقية القول فى هذا المعنى فى
باب صوم عاشوراء بعد هذا إن شاء الله.
(4/7)
- باب فَضْلِ الصَّوْمِ
/ 2 - فيه: أَبِو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبىِّ، عليه
السلام: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلا يَرْفُثْ، وَلا
يَجْهَلْ، فإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ،
فَلْيَقُلْ: إِنِّى صَائِمٌ، مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِى
نَفْسِى بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ
عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ
وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى، الصِّيَامُ لِى
وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا) . قوله: (الصيام جنة) ، أى ستر من النار،
ومنه قيل للترس: مجن؛ لأن صاحبه يستتر به. وقوله: (فلا
يرفث) ، فالرفث هاهنا الفحش والخنا، والجهل ما لا يصلح من
القول والفعل، قال الشاعر: فنجهل فوق جهل الجاهلينا ألا لا
يجهلن أحد علينا والجهل: السفه. قال المهلب: واختلف أهل
العلم فى معنى قوله: (فليقل: إنى صائم) ، فقيل: يقول: إنى
صائم، للذى يشاتمه، ليكف عن شتمه، واستدل بعضهم بقول مريم:
(إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 26] ، فكان حكم الصيام عند
مريم وأهل زمانها أن لا يتكلموا فيه، وكان هذا متعارفًا
عندهم. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أبلغك أنه يؤمر الإنسان
إذا دعى إلى طعام أن يقول: إنى صائم؟ قال: سمعنا أبا هريرة
يقول: إذا كنت صائمًا، فلا تساب ولا تجهل، فإن جهل عليك
فقل: إنى صائم. وروى عن ابن مسعود: إذا دعى أحدكم إلى طعام
وهو صائم، فليقل: إنى صائم، وقاله قتادة، والزهرى. وقال
طائفة: معنى قوله: (فليقل: إنى صائم) ، أى يذكر نفسه بذلك،
ولا يجهر به، ولا يراجع به
(4/8)
من سبه؛ لأنه إذا تكلم به، فقد أظهر نيته،
وربما دخل فيه الرياء، قال ثابت: ومعنى القول هاهنا:
العلم. قال الشاعر: خلوت ولكن قل على رقيب إذا ما خلوت
الدهر يومًا فلا تقل ومثله قول مجاهد فى قوله تعالى:
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ
مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا) [الإنسان: 9] قال: أما
إنهم لم يتكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى
عليهم به؛ ليرغب فى ذلك راغب، وعلى هذا المعنى يدل قوله فى
الحديث: (الصيام لى وأنا أجزى به) ، ولا يكون لله خالصًا
إلا بانفراده بعلمه دون الناس. وقوله: (الصيام لى وأنا
أجزى به) ، فالصيام وجميع الأعمال لله، لكن لما كانت
الأعمال الظاهرة يشرك فيها الشطان بالرياء وغيره، وكان
الصيام لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيثيبه عليه على قدر
خلوصه لوجهه، جاز أن يضيفه تعالى إلى نفسه. قال الطبرى:
ألا ترى قوله فى الحديث: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من
أجلى) ، وكان ابن عيينة يقول فى قوله: (ألا الصوم فإنه لى)
، قال: لأن الصوم هو الصبر، يصبر الإنسان نفسه عن المطعم
والمشرب والمنكح، ثم قرأ: (إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]
وهذا كله إنما يكون فيما خلص لله من الرياء قال عبد الواحد
أيضًا قوله عليه السلام عن الله تعالى أنه قال: (من عمل
عملا أشرك فيه غيرى فهو له، وأنا أغنى الشركاء عن
(4/9)
الشرك) فجعل عمل الرياء لغيره، وجعل ما خلص
من الرياء له تعالى، وقال آخرون: إنما خص الصوم بأن يكون
هو الذى يتولى جزاءه، لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان،
ولا فعل فتكتبه الحفظة، إنما هو نية فى القلب، وإمساك عن
المطعم والمشرب، فيقول: أنا أتولى جزاءه على ما أحب من
التضعيف، وليس على كتاب كتب، وهذا القول ذكره أبو عبيد.
قال الطبرى: والصواب عندى القول الأول، وأما معنى قوله:
(وأنا أجزى به) ، فأنا المنفرد بجزائه على عمله ذلك لى بما
لا يعلم كنه مبلغه غيرى، إذ كان غير الصيام من أعمال
الطاعة قد علم غيرى بإعلامى إياه أن الحسنة فيها بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال المؤلف: وقد روى يحيى بن
بكير عن مالك فى هذا الحديث بعد قوله: (الحسنة بعشر
أمثالها) ، فقال: (كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف
إلا الصيام فهو لى وأنا أجزى به) . فخص الصيام بالتضعيف
على سبعمائة ضعف فى هذا الحديث، وقد نطق التنزيل بتضعيف
النفقة فى سبيل الله أيضًا كتضعيف الصيام، فقال عز وجل:
(مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ
اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى
كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن
يَشَاء) [البقرة: 261] وجاء فى ثواب الصبر مثل ذلك وأكثر،
فقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم
بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] فيحتمل والله أعلم أن تكون
هاتان الآيتان نزلتا على النبى عليه السلام، بعد ما أعلمه
الله
(4/10)
ثواب الصيام، لأنه لا ينطق عن الهوى،
والفضائل إنما تدرك من طريق الوحى. وقال عبد الواحد: أما
قول من قال: كل عمل تكتبه الحفظة إلا الصيام فإنما هو نية
فى القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب فلا يكتب فغير صحيح،
لأن الحفظة تعلم الإمساك عن الأكل، وهو حقيقة إذا اطعلت
على الإمساك عن الأكل فى خلوته فقد علمت صيامه، لأنه ليس
يرائى أحد الحفظة، ولا ينتفع بالرياء إلا إذا أكل فى
الباطن، فإذا كف عن الأكل فى الباطن وتمادى على ذلك فقد
علمت صيامه، وليس أيضًا قول من تأول فى قوله: (إِنِّى
نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) [مريم: 26] ، أن مريم كانت
صائمة فى ذلك الوقت صواب، بدليل قوله تعالى فى الآية:
(وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى
عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا
فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ
أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 25، 26] ، فأخبر أن
ذلك كان بعد أكلها وشربها، ويشهد لذلك أنها كانت نفساء،
والنفساء لا تصوم، وإنما معنى قولها: (إِنِّى نَذَرْتُ
لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) [مريم: 26] ، أى إمساكًا عن الكلام،
والعرب تقول: صام، إذا أمسك عن الكلام، فإن قيل: فكيف نذرت
أن تمسك عن الكلام وقد قيل لها: (فَقُولِى (؟ قيل: المراد
هاهنا: تقول بالإشارة بدليل قوله بعد هذا: (فَأَشَارَتْ
إِلَيْهِ) [مريم: 29] الآية، وقال زيد بن أسلم: كانت بنو
إسرائيل يصومون من الكلام كما يصومون من الطعام ولا
يتكلمون إلا بذكر الله. وقوله: (لخلوت فم الصائم) بضم
الخاء، هو مصدر خلف
(4/11)
فمه يخلف يعنى تغير رائحته فى آخر النهار،
لأن الفم يتغير بترك الطعام، قال أبو عبيد: خلف اللبن
وغيره: تغير ريحه وطعمه، وقال صاحب العين الخالف: اللحم
المتغير الريح، قال الخطابى: فأما الخلوف بفتح الخاء، فهو
الذى يعد ثم يخلف، قال النمر بن تولب: جزى الله عنى جمرة
ابنة نوفل جزاء خلوف بالخلافة كاذب وقوله: (أطيب عند الله
من ريح المسك) ، يريد أزكى عند الله الواحد: ومعنى قوله:
(عند الله) يريد فى الآخرة، أى يجازيه يوم القيامة بتطييب
نكهته الكريهة فى الدنيا حتنى تكون كريح المسك، والدليل
على أنه أراد الآخرة بقوله: (عند الله) قوله تعالى:
(وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ) [الحج: 47] يريد أيام
الآخرة، ومن هذا الباب قوله عليه السلام فى الشهيد: (أنه
يأتى يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا اللون لون الدم والريح
ريح المكسك) ، فأخبر أنه يجازى الشهيد فى الآخرة بأن يجعل
رائحة دمه الكريهة فى الدنيا كريح المسك فى الآخرة.
(4/12)
3 - باب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ
/ 3 - فيه: حُذَيْفَةَ: قَالَ عُمَرُ مَنْ يَحْفَظُ حَدِيث
النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى الْفِتْنَةِ؟ قَالَ
حُذَيْفَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (فِتْنَةُ
الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا
الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ) ، قَالَ: لَيْسَ
أَسْأَلُ عَنْ ذِهِ، إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنِ الَّتِى
تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ الحديث. الفتنة عند
العرب: الابتلاء والاختبار، وهى فى هذا الحديث شدة حب
الرجل لأهله، وشغفه بهن، كما روى عبد الله بن بريدة، عن
أبيه، قال: (رأيت رسول الله يخطب، فجاء الحسن والحسين
عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله
فرفعهما ووضعهما فى حجره، ثم قال: صدق الله) إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]
رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ فقال له: أتدعو الله ألا يرزقك
مالا وولدًا فاستعذ بالله من مضلات الفتن. وقال ابن مسعود:
لا يقل أحدكم: اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، فليبس أحد إلا
وهو مشتمل على فتنة، لأن الله يقول: (إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]
فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن. ومن فتنة
الأهل أيضًا الإسراف والغلو فى النفقة عليهن، والشغل
بأمورهن عن كثير من النوافل، وفتنته فى ماله أن يشتد سروره
به حتى يغلب عليه، وهذا مذموم، ألا ترى أن النبى لما نظر
إلى علم الخميصة فى الصلاة ردها إلى أبى جهم وقال: (كاد
يفتننى) فتبرأ ممال خشى منه الفتنة، وكذلك عرض لأبى طلحة
حين كان يصلى فى حائطه فطار دبسى فأعجبه فأتبعه بصره ثم
رجع إلى صلاته
(4/13)
فلم يَدْرِ كَمْ صلى، لقد لحقنى فى مالى
هذا فتنة، فجاء إلى النبى فذكر ذلك له فقال: هو صدقة يا
رسول الله فضعه حيث شئت، ومن فتنة المال أيضًا ألا يصل منه
أقاربه، ويمنع معروفه أجانبه، وفتنته فى جاره أن يكون أكثر
مالا منه وحالا، فيتمنى مثل حله، وهو معنى قوله تعالى:
(وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)
[الفرقان: 20] فهذه الأنواع وما شابهها مما يكون من
الصغائر فدونها تكفرها أعمال البر، ومصداق ذلك فى قوله
تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)
[هود: 114] قال أهل التفسير: الحسنات هاهنا: الصلوات
الخمس، والسيئات: الصغائر.
4 - باب الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ
/ 4 - فيه: سَهْلٍ قال: قال النَّبِىِّ عليه السلام:
(إِنَّ فِى الْجَنَّةِ بَابًا، يُقَالُ: لَهُ الرَّيَّانُ،
يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا
يَدْخُلُ أَحَدٌ منه غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ
الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدْخُلُ أَحَدٌ
غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ
مِنْهُ أَحَدٌ) . / 5 - وفيه: أَبِو هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ النبى عليه السلام: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِى
سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِىَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا
عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الصَّلاةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِىَ مِنْ بَابِ
الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِىَ
مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِى
أَنْتَ وَأُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ
يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ،
(4/14)
فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ
الأبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ: (نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ
تَكُونَ مِنْهُمْ) . قال المهلب: إنما أفرد الصائمين بهذا
الباب ليسارعوا إلى الرى من عطش الصيام فى الدنيا إكرامًا
لهم واختصاصًا، وليكون دخولهم فى الجنة هينًا غير متزاحم
عليهم عند أبوابها، كما خص النبى أبا بكر الصديق بباب فى
المسجد يقرب منه خروجه إلى الصلاة ولا يزاحمه أحد، وأغلق
سائرها إكراهًا له وتفضيلاً. ومعنى قوله: (زوجين) أى
شيئين، كدينارين أو ثوبين، وشبه ذلك، والحجة لذلك ما رواه
حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، وحميد، عن الحسن، عن صعصعة
بن معاوية، عن أبى ذر، أن النبى عليه السلام، قال: (من
أنفق زوجين من ماله ابتدرته حجبة الجنة) ، ثم قال:
(بعيرين، شاتين، حمارين، درهمين) ، قال حماد: أحسبه قال:
(خفين) . , وروى أسد بن موسى، نا مبارك بن فضالة، عن
الحسن، عن صعصعة، قال: لقيت أبا ذر بالربذة، وهو يسوق
بعيرا له عليه مزادتان، قال: سمعت النبى عليه السلام يقول:
(ما من مسلم ينفق من كل ماله زوجين فى سبيل الله إلا
استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده) ، قلت: زوجين
من ماذا؟ قال: إن كان صاحب خيل ففرسين، وإكان صاحب إبل
فبعيرين، وإن كان صاحب بقر فبقرتين) ، حتى عد أصناف المال.
فإن قال قائل: إن النفقة إنما تسوغ فى باب الجهاد وباب
الصدقة، فكيف تكوت فى باب الصلاة والصيام؟ .
(4/15)
قال عبد الواحد: معنى زوجين أراد نفسه
وماله، والله أعلم، قال المؤلف: والعرب تسمى ما يبذله
الإنسان من نفسه واجتهاده نفقة فيقول أحدهم فيما تعلم من
العلم أو صنعة من سائر الأعمال: أنفقت فى هذا عمرى، وبذلت
فيه نفسى، قال حبيب بن أوس، كم بين قوم إنما نفقاتهم مال
وقوم ينفقون نفوسًا. قال المهلب: فتكون النفقة على هذا
الوجه فى باب الصلاة والصيام من الجسم بإتعابه له، فإن
قيل: كيف تكون النفقة فى زوجين، وإنما نجحد الفعل فى هذا
الباب نفقة الجسم لا غير؟ فالجواب: أن نفقة المال مقترنة
بنفقة الجسم فى ذلك، لأنه لابد للمصلى والصائم من قوت يقيم
رمقه، وثوب يستره، وذلك من فروض الصلاة، ويستعين بذلك على
طاعة الله تعالى، فقد صار منفقًا لزوجين: لنفسه وماله، وقد
تكون النفقة فى باب الصلاة، أن يبنى لله مسجدًا للمصلين،
لدلالة قوله: (من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا فى
الجنة) ، والنفقة فى الصيام إذا فطر صائمًا فكأنما صام
يومًا ويعضده قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، فجعل الإطعام
للمسكين عوضًا من صيام يوم، وأبواب الجنة ثمانية، وإنما
ذكر منها فى الحديث أربعة. وروى عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) : (إن من أبواب الجنة أبواب الواطئين) . ذكر إسماعيل
بن أبى خالد، عن يونس بن خباب، قال: أخبرت أن رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) قال: (إن للجنة ثمانية أبواب منها:
باب للصائمين، وباب للمجاهدين، وباب للمتصدقين، وباب
للواطئين، وليس أحد من هذه الأصناف يمر بخزنة الجنة إلا
كلهم يدعوه: هلم إلينا يا
(4/16)
عبد الله) ، ومن أبواب الجنة باب الكاظمين
الغيظ والعافين عن الناس. وذكر ابن البراء فى كتاب الروضة،
عن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا روح، عن أشعث، عن الحسن، قال:
إن الله فى الجنة بابًا لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة،
فقال أحمد لابنه: يا بنى ما خرجت من دار أبى إسحاق حتى
أحللته ومن معه إلا رجلين: ابن أبى دؤاد، وعبد الرحمن بن
إسحاق فإنهما طلبا دمى، وأنا أهون على الله من أن
يُعَذِّبَ فىّ أحدًا، أشهدك أنهم فى حل. ومنها: باب
التوبة، روى عن ابن مسعود أنه سأله رجل عن ذنب ألم به، هل
له من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود، ثم التفت فرأى عينيه
تذرقان، فقال: إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا
باب التوبة فإن عليه ملكًا موكلاً به لا يغلق، فاعمل ولا
تيأس. ووجه الإنفاق فى ذلك ما يتقوى به على طاعة الله،
ويتحلل من المحارم التى سلفت منه، ويؤدى المظالم إلى
أهلها، ويمكن أن يكون الباب الباقى، باب المتوكلين الذين
يدخلون الجنة فى سبعين ألفا من باب واحد، لا يدخل أولهم
حتى يدخل آخرهم، وجوههم كالبدر: الذين لا يسترقون، ولا
يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، ووجه الإنفاق فى
ذلك أنهم ينفقون على أنفسهم فى حال المرض المانع لهم من
التصرف فى طلب المعاش، صابرين على ما أصابهم، وينفقون على
من أصابه ذلك البلاء من غيرهم. ومنها: باب الصابرين لله
على المصائب، المحتسبين الذين يقولون عند
(4/17)
نزولها: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعونَ) [البقرة: 156] الآية، ومنها: باب الحافظين
فروجهم والحافظات المستعفين بالحلال عن الحرام، وغير
المتبعين للشهوات، ووجه الإنفاق فى ذلك: الصداق والوليمة
والإطعام حتى اللقمة يضعها فى فىِّ امرأته والله أعلم
بحقيقة الثلاثة الأبواب. فإن قيل: فإذا جاز أن يسمى
استعمال الجسم فى طاعة الله نفقة، فيجوز أن يدخل فى معنى
الحديث (من أنفق نفسه فى سبيل الله فاستشهد وأنفق كريم
ماله) ؟ قيل: نعم وهو أعظم أجرًا من الأول. ويدل على ذلك
ما رواه سفيان، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال:
قال رجل: يا رسول الله، أى الجهاد أفضل؟ قال: (أن يعقر
جوادك ويهراق دمك) . قال عبد الواحد: فإن قيل: هل يدخل فى
ذلك صائم رمضان، والمزكى لماله، ومؤدى الفرائض؟ قيل:
المراد بالحديث النوافل وملازمتها والتكثير منها، فذلك
الذى يستحق أن يدعى من أبوابها لقوله: (فمن كان من أهل
كذا) . قال المهلب: قول أبى بكر: ما على أحد يدعى من تلك
الأبواب من ضرورة، يريد أنه من لم يكن إلا من أهل خصلة
واحدة من هذه الخصال، ودعى من باب تلك الخصلة، فإنه لا
ضرورة عليه، لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة. وقوله: (هل
يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم) ، يريد أن من كان
من أهل الصلاة والجهاد والصيام والصدقة أنه يدعى منها
كلها، فلا ضرورة عليه فى دخوله من أى باب شاء، لاستحالة
دخوله منها كلها معا، ولا يصح دخوله إلا من باب واحد،
ونداؤه منها كامل إنما هو على سبيل الإكرام والتخيير له فى
الدخول من أيها شاء.
(4/18)
قال عبد الواحد: وفيه أن أعمال البر كلها
يجوز أن يقال فيها فى سبيل الله ولا يخص بذلك الجهاد وحده.
5 - باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ، أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ
، وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) : (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ) ، وَقَالَ: (لا
تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ) . / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ النَّبِىّ عليه السلام: (إِذَا جَاء
رَمَضَانَ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ
أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ) . / 7 -
وفيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِىّ عليه السلام:
(إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ
فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ)
. يعنى هِلالِ رَمَضَانَ. قال ابن النحاس: قال ابن النحاس:
كان عطاء ومجاهد يكرهان أن يقال: رمضان، قالا: وإنما نقول
ما قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ) [البقرة: 185] ،
لأنا لا ندرى لعل رمضان اسم من أسماء الله. قال: وهذا قول
ضعيف، لأنا وجدنا النبى، عليه السلام، قال: (رمضان) ، بغير
شهر، فقال: (من صام رمضان) ، ولا تقدموا رمضان، والأحاديث
كثيرة فى ذلك. وأبواب السماء فى هذا الحديث يراد بها أبواب
الجنة بدليل قوله فى الحديث: (وغلقت أبواب جهنم) ، وقد
تبين هذا المعنى فى رواية مالك عن عمه أبى سهيل بن مالك،
عن أبيه، عن أبى هريرة أنه قال:
(4/19)
(رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب
النار، وصفدت الشياطين) ، وهذا حجة فى أن الجنة فى السماء،
وتأول العلماء فى قوله: (فتحت أبواب الجنة وسلسلت
الشياطين) ، معنيين. أحدهما: أنهم يسلسلون على الحقيقة،
فيقل أذاهم ووسوستهم ولا يكون ذلك منهم كما هو فى غير
رمضان، وفتح أبواب الجنة على ظاهر الحديث. والثانى: على
المجاز، ويكون المعنى فى فتح أبواب الجنة ما فتح الله على
العياد فيه من الأعمال المستوجب بها الجنة من الصلاة
والصيام وتلاوة القر آن، وأن الطريق إلى الجنة فى رمضان
أسهل والأعمال فيه أٍرع إلى القبول، وكذلك أبواب النار
تغلق بما قطع عنهم من المعاصى، وترك الأعمال المستوجب بها
النار، ولقلة ما يؤاخذ الله العباد بأعمالهم السيئة،
يستنفذ منها ببركة الشهر أقوامًا ويهب المسئ للمحسن،
ويتجاوز عن السيئات فهذا معنى الغلق، وكذلك قوله: (سلسلت
الشياطين) ، يعنى: أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم فى
الأغلب عن المعاصى والميل إلى وسوسة الشياطين وغرورهم،
ذكره الداودى والمهلب. واحتج المهلب لقول من جعل المعنى
على الحقيقة فقال: ويدل على ذلك ما يذكر من تغليل
الشيباطين ومردتهم بدخول أهل المعاصى كلها فى رمضان فى
طاعة الله، والتعفف عما كانوا عليه من الشهوات، وذلك دليل
بين.
(4/20)
6 - باب مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ
النَّبِىِّ: (يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ
. / 8 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه
السلام: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ،
وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . قوله: (إيمانًا) ،
يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه
وقيامه، وقوله: (احتسابًا) ، يريد بذلك يحتسب الثواب على
الله، وينوى بصيامه وجه الله، وهذا الحديث دليل بين أن
الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق
النيات، كما قال عليه السلام: (الأعمال بالنيات، ولكل امرئ
ما نوى) ، وهذا يرد قول زفر، فإنه زعم أنه يجزئ صوم رمضان
بغير نية، وقوله مردود بهذه الآثار، وإذا صح أنه لا عمل
إلا بنية، صح أنه لا يجزئ صوم رمضان إلا بنية من الليل،
كما ذهب إليه الجمهور. وخالف ذلك أبو حنيفة، والأوزاعى،
وإسحاق، وقالوا: يجزئه التبييت قبل الزوال، ولا سلف لهم فى
ذلك، والنية إنما ينبغى أن تكون متقدمة قبل العمل، وحقيقة
التبييت فى اللغة يقتضى زمن الليل، وروى هذا عن ابن عمر،
وحفصة، وعائشة، ولا مخالف لهم، وقد تقدم ما للعلماء فى
قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) ، فى آخر كتاب
الإيمان، فى باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة.
(4/21)
7 - باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِىُّ
عليه السلام يَكُونُ فِى رَمَضَانَ
/ 9 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه
السلام، أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ
مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،
وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِى رَمَضَانَ
حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ النَّبِىُّ، عليه السلام،
عليه الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ
أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) . قال
المهلب: وامتثل النبى، عليه السلام، فى هذا قول الله
تعالى: وأمره بتقديم الصدقة بين يدى نجوى الرسول الذى كان
أمر به تعالى عباده، ثم عفا عنهم، لإشفاقهم من ذلك، فامتثل
عليه السلام ذلك عند مناجاته جبريل صلى الله عليه وعلى
جميع الملائكة، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب بدء الوحى.
قال المهلب: وفيه بركة مجالسة الصالحين، وأن فيها تذكار
لفعل الخير، وتنبيها على الازديار من العمل الصالح، ولذلك
أمر عليه السلام بمجالسة العلماء، ولزوم حلق الذكر، وشبه
الجليس الصالح بالعطار إن لم يصبك من متاعه لم تعدم طيب
ريحه. ألا ترى قول لقمان لابنه: يا بنى جالس العلماء،
وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما
يحيى الأرض الميتة بوابل السماء، وقال مرة أخرى: فلعل أن
تصضيبهم رحمة فتنالك معهم، فهذه ثمرة مجالسة أهل الفضل
ولقائهم. وفيه: بركة أعمال الخير، وأن بعضها يفتح بعضًا،
ويعين على بعض، ألا ترى أن بركة الصيام، ولقاء جبريل وعرضه
القرآن عليه زاد
(4/22)
فى وجود النبى، عليه السلام، وصدقته حتى
كان أجود من الريح المرسله. قال عبد الواحد: ونزول جبريل
فى رمضان للتلاوة دليل عظيم لفضل تلاوة القرآن فيه، وهذا
أصل تلاوة الناس للقرآن فى كل رمضان، تأسيًا به (صلى الله
عليه وسلم) ، ومعنى مدارسة جبريل للنبى، عليه السلام، فيه،
لأنه الشهر الذى أنزل فيه القرآن، كما نص الله تعالى.
وفيه: أن المؤمن كلما ازداد عملاً صالحًا وفتح له باب من
الخير فإنه ينبغى له أن يطلب بابا آخر، وتكون عينه ممتدة
فى الخير إلى فوق عمله، ويكون خائفا وجلاً، غير معجب
بعمله، طالبًا للارتقاء فى درجات الزيادة.
8 - باب مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ
بِهِ فِى الصَّوْمِ
/ 10 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النِّبِىّ،
عليه السلام: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ،
وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِى أَنْ
يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) . قال المهلب: فيه دليل أن
حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن
الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض
لسخط ربه وترك قبوله منه. وقال غيره: وليس معناه أن يؤمر
بأن يدع صيامه إذا لم يدع قول الزور، وإنما معناه التحذير
من قول الزور، وهذا كقوله، عليه السلام: (من باع الخمر
فليشقص الخنازير) ، يريد أى يذبحها، ولم يأمره بشقصها،
ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر، فكذلك حذر
الصائم من قول الزور والعمل به ليتم أجر صيامه، فإن قيل:
(4/23)
فما معنى قوله: (فليس لله حاجة) ، والله لا
يحتاج إلى شئ؟ قيل معناه: فليس لله إرادة فى صيامه فوضع
الحاجة موضع الإرادة.
9 - باب هَلْ يَقُولُ إِنِّى صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ
/ 11 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النبى، عليه
السلام: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ،
فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ
جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلا
يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ
قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِى
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ
أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ،
لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ
فَرِحَ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) . قال
الداودى: تخصيصه فى هذا الحديث ألا يرفث ولا يجهل، وذلك لا
يحل فى غير الصيام، وإنما هو تأكيد لحرمة الصوم عن الرفث
والجهل، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 1،
2] ، والخشوع فى الصلاة أوكد منه فى غيرها، وقال فى الأشهر
الحرم: (فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة:
36] ، فأكد حرمة الأشهر الحرم، وجعل الظلم فيها آكد من
غيرها، فينبغى للصائم أن يعظم من شهر رمضان ما عظم الله
ورسوله، ويعرف ما لزمه من حرمة الصيام. قال غيره: واتفق
جمهور العلماء على أن الصائم لا يفطره السب والشتم
والغيبة، وإن كان مأمورًا أن ينزه صيامه عن اللفظ
(4/24)
القبيح، وقال الأوزاعى: إنه يفطر بالسب
والغيبة، واحتج بما روى أن الغيبة تفطر الصائم. قال ابن
القصار: معناه أنه يصير فى معنى المفطر فى سقوط الأجر لا
أنه يفطر فى الحقيقة، كقوله تعالى: (وَلاَ يَغْتَب
بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) [الحجرات: 12] ، ومن اغتاب فلم
يكن آكلا لحم أخيه ميتًا فى الحقيقة، وإنما يصير فى معناه
ويجوز أن يكون فى معنى التغليظ، كما قال: الكذب مجانب
للإيمان، فإن قيل: فما معنى قوله: (فليقل إنى صائم) ،
والمندوب إليه أن يستتر بعمله ليكثر ثوابه؟ قيل: إذا قال:
إنى صائم، ارتدع وعلم أنه إذا اجترأ عليه فى صوم كان أعظم
فى الإثم، فليعلم أيضًا أن الصوم يمنع من الرد عليه، ومثل
هذا لا يكره إذا كان لعذر، وقيل معناه: أن يقول ذلك لنفسه،
وقد تقدم هذا المعنى فى باب: فضل الصوم.
- باب الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزْوبَةَ
/ 12 - فيه: ابن مسعود قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ،
عليه السلام، فَقَالَ: (مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ
فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ
لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ
بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) . قال المؤلف: ندب
النبى، عليه السلام، لأمته النكاح، ليكونوا على كمال من
أمر دينهم، وصيانة لأنفسهم فى غض أبصارهم
(4/25)
وحفظ فروجهم لما يخشى على من زين الله فى
قلبه حب أعظم الشهوات، ثم عليه السلام، أن الناس كلهم لا
يجدون طولا إلى النساء، وربما خافوا العنت بفقد النكاح
فعوضهم منه ما يدافعون به سورة شهواتهم، وهو الصيام. فإنه
وجاء، والوجاء: القطع، يعنى: أنه مقطعة للانتشار وحركة
العروق التى تتحرك عند شهوة الجماع، وأصل الوجاء عند العرب
أن ترض البيضتان، يقال: وجأ فلان الكبش، وهو كبش موجوء،
فإذا سلت البيضتان، فهو الخصى، وفى كتاب العين: وجأت الرجل
ضربته. والباءة فى كلام العرب: الجماع، وتجمع بآء، كما
تجمع الراءة رآء.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام: (إِذَا رَأَيْتُمُ
الْهِلالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا
وَقَالَ عَمَّارٍ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ، فَقَدْ
عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ. / 13 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ
عليه السلام: (لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلالَ،
وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ
فَاقْدُرُوا لَهُ) . / 14 - وقَالَ بْنِ عُمَرَ: قَالَ
النبى، عليه السلام: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ
لَيْلَةً، فَلا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ الْهلالَ،
فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ
ثَلاثِينَ) .
(4/26)
/ 15 - وقَالَ أَبَا هُرَيْرَةَ: قَالَ
النَّبِىُّ، عليه السلام: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ
وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّىَ عَلَيْكُمْ
فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ) . ذهب كافة
الفقهاء إلى أن معنى قوله عليه السلام: (فاقدروا له) ،
مجمل يفسره قوله: (فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) ، ولذلك
جعل مالك فى الموطأ (فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) ، بعد
قوله: (فاقدروا له) ، كما صنع البخارى، لأنه مفسر ومبين
لمعنى قوله: (فاقدروا له) ، وحكى محمد بن سيرين أن بعض
التابعين كان يذهب فى معنى قوله عليه السلام: (فاقدروا له)
، إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب،
ويقال: إنه مطرف بن الشخير. وقوله عليه السلام: (فإن غم
عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) ، نص فى أنه عليه
السلام لم يرد اعتبار ذلك بالنجوم والمنازل، لأنه لو كلف
ذلك أمته لشق عليه، لأنه لا يعرف النجوم والمنازل إلا قليل
من الناس، ولم يجعل الله تعالى فى الدين من حرج، وإنما
أحال عليه السلام على إكمال ثلاثين يومًا، وهو شىء يستوى
فى معرفته الكل، وقد انضاف إلى أمره باعتبار العدد ثلاثين
عند عدم الرؤية فعله فى نفسه. فروى عن عائشة أنها قالت:
(كان رسول الله يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من سائر
الشهور، فإذا رأى هلال رمضان صام، وإن غم عليه عد شعبان
ثلاثين يومًا وصام) ، ولو كن هاهنا علم آخر لكان يفعله أو
يأمر به. وجمهور الفقهاء على أنه لا يصام رمضان إلا بيقين
من خروج
(4/27)
شعبان، إما برؤية الهلال أو إكمال شعبان
ثلاثين يومًا، وكذلك لا يقضى بخروج رمضان إلا بيقين مثله،
لأنه ممكن فى الشهر أن يكون تسعة وعشرين يومًا، فالرؤية
تصحح ذلك وتوجب اليقين كإكمال العدة ثلاثين يقينًا، هذا
معنى قوله: (فاقدروا له) ، عند العلماء، ولابن عمر فيه
تأويل شاذ لم يتابع عليه وسنذكره فى باب نهى النبى عن صيام
يوم الشك، إن شاء الله. وقال الطبرى: أما حديث ابن عمر أن
النبى، عليه السلام، قال: (الشهر تسع وعشرون ليلة) ، فإن
معناه: الشهر الذى نحن فيه والذى قد علمتم إخبارى عنه، لأن
الألف واللام إنما تدخلهما العرب فى الأسماء إما لمعهود قد
عرفه المخبر والمخبر، وإما للجنس العام من المشهور ومعلوم
أن النبى، عليه السلام، لم يقصد بذلك الخبر عن الجنس، لأنه
لو كان كذلك لم يقل: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ،
فأحال على الرؤية، ونحن نرى الشهر يكون مرة ثلاثين ومرة
تسعة وعشرين فعلم أن قوله: (الشهر تسع وعشرون) ، أن ذلك قد
يكون فى بعض الأحوال، وقد جاء هذا عن ابن عمر، عن النبى،
عليه السلام، بينا فى قوله: (إنا أمة مية لا نكتب ولا
نحسب، الشهر هكذا، وهكذا يعنى: مرة تسعًا وعشرين، ومرة
ثلاثين) . وروى عن عروة، عن عائشة نها أنكرت قول من قال أن
النبى، عليه السلام، قال: (الشهر تسع وعشرون) ، وقالت لا
والله
(4/28)
ما قال كذلك، إنما قال حين هجرنا: لأهجرنكم
شهرًا، وأقسم على ذلك، فجاءنا حين ذهب تسع وعشرون ليلة،
فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت شهرًا فقال: (إن الشهر كان
تسعًا وعشرين ليلة) .
- باب شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ
/ 16 - فيه: أَبو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه
السلام: (شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ، وَذُو
الْحَجَّةِ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث على
وجهين، فذكر أحمد بن عمرو البزار أن معناه: لا ينقصان
جميعًا فى سنة واحدة. قال المهلب: وقد روى زيد بن عقبة، عن
سمرة بن جندب، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (شهرا عيد
لا يكونان ثمانية وخمسين يومًا) . والوجه الثانى قال
المهلب: معناه: أنه لا ينقص عند الله، تعالى أجر العاملين
فيهما، وإن كانا ناقصيبن فى العدد. قال الطحاوى: وقد دفع
قوم التأويل الأول بالعيان، قالوا: لأنا قد وجدناهما
ينقصان فى أعوام، ويجتمع ذلك فى كل واحد منهما، فدفعوا ذلك
بهذا، وبحديث رسول الله أنه قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا
لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) ، وبقوله: (إن الشهر
قد يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين) ، فأخبر أن ذلك جائز
فى كل شهر من الشهور، إذ لم يخص بذلك شهرًا من سائر
الشهور، فدل على أن شهر رمضان وذى الحجة وما
(4/29)
سواهما قد يكونان تسعًا وعشرين، وقد يكونان
ثلاثين، فثبت بذلك أن معنى قوله: (شهرا عيد لا ينقصان) ،
ليس على نقصان العدد، ولكنه على نقصان الأحكام، والوجه
عندنا أنهما لا ينقصان، وإن كانا تسعًا وعشرين فهما شهران
كاملان، لأن فى أحدهما الصيام، وفى الآخر الحج، والأحكام
فى ذلك متكاملة غير ناقصة، ويدل على ذلك قوله عليه السلام:
(من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)
، فمن صامه ناقصًا أو تاما كان أجره واحدًا. قال المؤلف:
فإن قال قائل: إن كان أراد بقوله عليه السلام: (لا ينقصان)
: من الأجر والحكم وإن كانا ناقصين فى العدد، فإنا نجد
رمضان يصام كله، فيكون مرة تاما ومرة ناقصًا، ونقصانه فى
آخره، وذو الحجة إنما يقع الحج فى العشر الأول منه، فلا
حرج على أحد فى نقصانه ولا تمامه، لأن العبادة منه فى أوله
خاصة. قيل: قد يكون فى أيام الحج من النقصان والإغماء مثل
ما يكون فى آخر رمضان، وذلك أنه قد يغمى هلال ذى القعدة
ويقع فيه غلط بزيادة يوم أو نقصان يوم، فإذا كان ذلك، وقع
وقوف الناس بعرفة مرة اليوم الثامن من ذى الحجة، ومرة
اليوم العاشر منه، وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة:
من وقف بعرفة بخطأ شامل لجميع أهل الموقف فى يوم قبل يوم
عرفة أو بعده أنه مجزئ عنه، لأنهما لا ينقصان عند الله من
أجر المتعبدين بالاجتهاد، كما لا ينقص أجر رمضان الناقص،
وهو قول عطاء، والحسن، وأبى حنيفة، والشافعى. واحتج أصحاب
الشافعى على جواز ذلك بصيام من التبست عليه الشهور أنه
جائز أن يقع صيامه قبل رمضان أو بعده، قالوا: كما
(4/30)
يجزئ حج من وقف بعرفة قبل يوم عرفة أو
بعده، وروى يحيى بن يحيى، عن ابن القاسم أنهم إن أخطئوا
ووقفوا بعد يوم عرفة يوم النحر أنه يجزئهم، وإن قدموا
الوقوف يوم التروية لم يجزئهم، وأعادوا الوقوف من الغد،
وهذا يخرج على أصل مالك فيمن التبست عليه الشهور فصام
رمضان ثم تبين له أنه أوقعه بعد رمضان أنه يجزئه، ولا
يجزئه إذا أوقعه قبل رمضان، كمن اجتهد وصلى قبل الوقت أنه
لا يجزئه. وقد قال بعض العلماء: إنه لا يقع وقوف الناس
اليوم الثامن أصلا، لأنه لا يخلو من أن يكون الوقوف برؤية
أو إعماء، فإن كان برؤية وقفوا اليوم التاسع، وإن كان
بإغماء وقفوا اليوم العاشر.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام: (لا نَكْتُبُ وَلا
نَحْسُبُ
/ 13 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ، عليه
السلام: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا
نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِى مَرَّةً
تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاثِينَ) . قال المؤلف:
فيه بيان، لقوله عليه السلام: (فاقدروا له) ، أن معناه
إكمال العدد ثلاثين يومًا، كما تأول الفقهاء،
(4/31)
ولا اعتبار فى ذلك بالنجوم والحساب، وهذا
الحديث ناسخ لراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول
على الرؤية فى الأهلة التى جعلها الله مواقيت للناس فى
الصيام والحج والعدد والديون، وإنما لنا أن ننظر من علم
الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان، وأما ما غمض حتى لا يدرك
إلا بالظنون وتكييف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نهينا
عنه، وعن تكلفه. وعلة ذلك أن رسول الله إنما بعث إلى
الأميين الذين لا يقرءون الكتاب، ولا يحسبون بالقوانين
الغائبة، وإنما يحسبون الموجودات عيانا.
- باب لا يَتَقَدَّمُ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أو
يَوْمَيْنِ
/ 18 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ: النَّبِىِّ،
عليه السلام: (لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ
بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ
كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ) .
قال المؤلف: ذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز أن يصام آخر يوم
من شعبان تطوعًا إلا أن يوافق صومًا كان يصومه، وأخذوا
بظاهر هذا الحديث، وروى ذلك عن عمر، وعلى، وعمار، وحذيفة،
وابن مسعود، ومن التابعين سعيد بن المسيب، والشعبى،
والنخعى، والحسن، وابن سيرين، وهو قول الشافعى، وكان ابن
عباس، وأبو هريرة يأمران أن يفصل بين شعبان ورمضان بفطر
يوم أو يومين، كما استحبوا أن يفصلوا بين صلاة الفريضة
والنافلة بكلام أو قيام وتقدم أو تأخر، وقال عكرمة: (من
صام يوم الشك فقد عصى الله ورسوله) .
(4/32)
وأجازت طائفة صومه تطوعا، روى عن عائشة،
وأسماء أختها أنهما كانتا تصومان يوم الشك، وقالت عائشة:
(لئن أصوم آخر يوم من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من
رمضان) ، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأحمد،
وإصحاق. قال ابن القصار: وحجة هذا القول أنا إنما نكره صوم
يوم الشك قطعًا أن يكون من رمضان أو على وجه المراعاة خوفا
أن يكون من رمضان، فليحق بالفرض ما ليس من جنسه، فأما إذا
أخلص النية للتطوع، فلم يحصل فيه معنى الشك، فإنما نيته
أنه من شعبان، فهو كما يصومه عن نذر أو قضاء رمضان، وإنما
النهى عن أن يصومه على أنه إن كان من رمضان فذاك وإلا فهو
تطوع. واختلفوا إذا صامه على أنه من رمضان، قال مالك: سمعت
أهل العلم ينهون عن أن يصام اليوم الذى يشك فيه من شعبان
إذا نوى به رمضان، ويروى أنه من صامه على غير رؤية، ثم جاء
الثبت أنه من رمضان أن عليه قضاءه، قال مالك: وعلى هذا
الأمر عندنا. وفيه قول آخر، ذكر ابن المنذر، عن عطاء، وعمر
بن عبد العزيز، والحسن أنه إذا نوى صومه من الليل على أنه
من رمضان ثم علم بالهلال أول النهار أو آخره نه يجزئه، وهو
قول الثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأصحابه، وذهب ابن عمر
إلى أنه يجوز صيامه إذا حال دون منظر الهلال ليلة ثلاثين
من شعبان غيم وسحاب ويجزئهم من رمضان، وإن ثبت بعد ذلك أن
شعبان من تسع
(4/33)
وعشرين وبه قال أحمد بن حنبل: وهو قول شاذ،
وهذا صوم يوم الشك، وهو خلاف للحديث فلا معنى له، وقول أهل
المدينة أولى لنهيه عليه السلام أن يتقدم صوم رمضان، ولقول
عكرمة، وعمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم.
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187]
الآية
/ 19 - فيه: الْبَرَاءِ: كَانَ أَصْحَابُ النبى، عليه
السلام، إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ
الإفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ
لَيْلَتَهُ وَلا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ
بْنَ صِرْمَةَ كَانَ صَائِمًا، فأَتَى امْرَأَتَهُ،
للإفطار، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ، قَالَتْ: لا،
وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ
يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ
فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا
انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِىَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ
لِلنَّبِىِّ، عليه السلام، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ) [البقرة:
187] الآية فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الأبْيَضُ) [البقرة: 187] . قال المؤلف: ذكر
إسماعيل بن إسحاق، عن زيد بن أسلم، وإبراهيم التينى، فالا:
كان المسلمون فى أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب،
إذا نام أحدهم لم يطعم حتى تكون القابلة، فنسخ الله ذلك،
وقال مجاهد: كان رجال من المسلمين يختانون أنفسهم فى ذلك،
فعفا الله عنهم، وأحل لهم الأكل والشرب والجماع بعد
(4/34)
الرقاد، وقبله فى الليل كله، وقال ابن
عباس: الرفث، الجماع، وقال: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ
لَكُمْ) [البقرة: 187] الولد، وهو قول مجاهد، والحسن،
والضحاك وجماعة، وقال زيد بن أسلم) وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ
اللهُ لَكُمْ) [البقرة: 187] الجماع، وقد روى أبو الجوزاء
عن ابن عباس أنه قال: ابتغوا ليلة القدر، قال إسماعيل:
وقولهم أنه الجماع، فهو مذهب حسن، لأن الذى كتب لهم يدل
على أنه شىء لهم فى خاصة أنفسهم، وأنه شىء قد وجب لهم،
فكان المعنى، والله أعلم) فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) [البقرة:
187] أى: جامعوهن) وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)
[البقرة: 187] أى: ما أحل الله لكم من ذلك بعد أن كان
محضورًا عليكم، فهو شىء أوجب لهم، والولد ليس بشىء أوجب
لهم ولا كتب لهم لأنه قد يولد لرجل ولا يولد لآخر. وأما
رواية أبى الجوزاء عن ابن عباس فى ليلة القدر فهو مما كتب
للمسلمين، وهو شىء لا يدفع، غير أن الكلام قد سيق فى معنى
الجماع، والله أعلم.
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ) [البقرة:
187] الآية
/ 20 - فِيهِ: الْبَرَاءُ عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام.
قَالَ عَدِىِّ: لَمَّا نَزَلَتْ: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ من
الفجر) [البقرة 187] عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أبيض، وإلى
عقال أَسْوَدَ،
(4/35)
فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِى،
فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِى اللَّيْلِ، فَلا يَسْتَبِينُ لِى،
فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذلك لَهُ،
فَقَالَ: (إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ
النَّهَارِ) . / 21 - وفيه: سَهْلِ قَالَ: أُنْزِلَتْ)
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ (وَلَمْ يَنْزِلْ:
(مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا
أَرَادُوا الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِى رِجْلِهِ
الْخَيْطَ الأبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأسْوَدَ، وَلا يَزَلْ
يَأْكُلُ ويشرب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: (مِنَ الْفَجْرِ (فَعَلِمُوا
أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. قال
المؤلف: قال أبو عبيد: الخيط الأبيض هو الصبح المصدق،
والخيط الأسود هو الليل، والخيط هو النور، قال ابن المذر:
اختلف العلماء فى الوقت الذى يحرم فيه الطعام والشراب على
من يريد الصوم، فذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأبو ثور
إلى أنه يحرم الطعام والشراب عند اعتراض الفجر الآخر فى
الأفق، وروى معنى هذا عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وهو
قول عطاء، وعوام علماء الأمصار. وفيه قول ثان رويناه، عن
أبى بكر الصديق، وعلى، وحذيفة، وابن مسعود وغيرهم، فروينا
عن سالم بن عبيد، أن أبا بكر الصديق نظر إلى الفجر مرتين
ثم تسحر فى الثالثة، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقام بلال
الصلاة، وعن على أنه قال حين صلى الفجر: الآن حين يتبين
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وروينا عن حذيفة: أنه
لما طلع الفجر تسحر ثم صلى، وروينا عن ابن مسعود مثله.
(4/36)
قال المؤلف: وزاد الطحاوى: فلما صلى حذيفة
قال: هكذا فعل رسول الله غير أن الشمس لم تطلع، وروى حماد،
عن أبى هريرة أنه سمع النداء والإناء على يده فقال:
أحرزتها ورب الكعبة، وقال هشام بن عروة: كان عروة يأمرنا
بهذا، يعنى إذا سمع النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى
يقضى حاجته منه، ورواه الحسن عن النبى، عليه السلام،
مرسلاً. وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إنما
كانوا يعدون الفجر الذى يملأ الطرق والبيوت، قال ابن
المنذر: فتأول بعضهم قوله فى حديث عدى بن حاتم: (إنما ذلك
سواد الليل وبياض النهار) ، قال: فبياض النهار أن ينتشر فى
الطرق والسكك، والبيوت، وقت صلاة المسفرين بصلاة الصبح،
وذكر إسحاق بن راهويه عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول: لولا
الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت. قال إسحاق: بعد أن ذكر ما
ذكرناه عن أبى بكر وعلى وحذيفة: هؤلاء لم يروا فرقًا بين
الأكل وبين الصلاة المكتوبة، رأوا أن تصلى المكتوبة بعد
طلوع الفجر المعترض ورأوا الأكل بعد طلوع الفجر المعترض
صباحًا حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل، ومال إسحاق
إلى القول الأول، ثم قال: من غير أن يطعن على هؤلاء الذين
تأولوا الرخصة فى الوقت: فمن أكل فى ذلك الوقت فلا قضاء
عليه ولا كفارة إذا كان متأولا. واحتج أصحاب مالك للقول
الأول فقالوا: الصائم يلزمه اغتراف طرفى النهار، وذلك لا
يكون إلا بتقدم شىء وإن قل من السحر، وأخذ شىء من الليل،
لأن عليه أن يدخل فى إمساك أول جزء من
(4/37)
اليوم بيقين، كما أن عليه أن يدخل فى أول
رمضان بيقين، والأكل مناف لأول جزء من الإمساك، فينبغى له
أن يقدم الإمساك ليتحقق له أنه حصل فى طلوع الفجر ممسكا،
ومن أكل حتى يتبين له الفجر ويعلمه فقد حصل أكلا فى أول
اليوم. وذكر الطحاوى حديث حذيفة، ولم يذكر حديث أبى بكر،
ولا على، ولا فعل أبى هريرة، وابن مسعود، ثم قال: فدل حديث
حذيفة على أن أول وقت الصيام طلوع الشمس، وأن ما قيل طلوع
الشمس ففى حكم الليل، وهذا يحتمل عندنا أن يكون بعد ما
أنزل الله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ)
[البقرة: 187] قبل أن ينزل: (مِنَ الْفَجْرِ (على مكا فى
حديث سهل، ثم أنزل الله بعد ذلك: (مِنَ الْفَجْرِ (وذهب
علم ذلك على حذيفة، وعلمه غيره، فعمل حذيفة بما علم إذ لم
يعلم الناسخ، وعلم غيره، الناسخ فصار إليه، ومن علم شيئا
أولى ممن لم يعلمه فدل ما ذركناه على أن الدخول فى الصيام
من طلوع الفجر، وعلى أن الخروج منه بدخول الليل، ثم كان
قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ
(غاية لم يدخلها فى الصيام. قال المؤلف: فكما لم يدخل أول
الليل فى الصيام، فكذلك لا يدخل أول النهار فى الإفطار.
واختلفوا فيمن أكل وهو شاك فى طلوع الفجر، فقالت طائفة:
الأكل والشرب مباح حتى يتيقن طلوع الفجر الآخر. وروى
سفيان، عن أبان، عن أنس بن مالك، عن أبى بكر الصديق قال:
(إذا
(4/38)
نظر الرجلان إلى الفجر فقال أحدهما: طلع،
وقال الآخر: لم يطلع فليأكلا حتى يتبين لهما) ، وعن ابن
عباس قال: أحل الله الأكل والشرب ما شككت. وروى وكيع، عن
عمارة بن زاذان، عن مكحول قال: رأيت عمر أخذ دلوا من زمزم
ثم قال لرجلين: أطلع الفجر؟ فقال أحدهما: لا، وقال الآخر:
نعم فشرب، ومكحول هذا ليس بالشامى، وهو قول عطاء، وأبى
حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، كلهم قال:
لا قضاء عليه، وليس كمن يأكل، وهو يشك فى غروب الشمس. وقال
مالك: من أكل وهو شاك فى الفجر فعليه القضاء. وقال ابن
حبيب: والقضاء عنده استحباب، إلا أن يعلم أنه أكل بعد
الفجر فيصير واجبًا كمن أفطر وظن أنه قد أمسى ثم ظهرت
الشمس، واحتج ابن حبيب لقول من أباح الأكل بالشك قال: هو
القياس، لقول الله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ) [البقرة: 187] ،
قال ابن الماجشون: وهو العلم به، وليس الشك علمًا به، ولكن
الاحتياط أن لا يأكل فى الشك. ومن حجة العراقيين فى سقوط
القضاء قالوا: إذا شك فى طلوعه فالأصل بقاء الليل، وقد قال
تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ (فلم يمنعهم من الأكل حتى يستبين لهم الفجر،
قاله الثورى، وهذا قد أكل قبل أن يتبين له، فلا معنى
للقضاء. قالوا: ومذهب العلماء البناء على اليقين، ولا يوجب
الشىء بالشك، والليل عنده يقينى، فلا يزال إلا بيقين،
وبهذا وردت السنة فى
(4/39)
قوله عليه السلام: (من شك فى صلاته فلم يدر
أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليبن على اليقين) ، ومن شك هل
زالت الشمس لم تلزمه الصلاة. قالوا: وقد اتفقنا أنه إذا
أكل يوم الشك أنه لا قضاء عليه إذا لم يتبين أنه من رمضان،
ومسألتنا كذلك، وقد أكل فى زمن يجوز أن يكون من الليل،
ويجوز أن يكون من النهار، فلم يلتفت إلى التجويز مع
استصحاب حكم الليل، كما لم يوجب الإعادة فى يوم الشك مع
استصحاب حكم شعبان. قالوا: وهذه المسألة مبنية على أصولنا
فيمن تيقن بالطهارة ثم شك فى الحديث. واحتج أصحاب مالك
لإيجاب فقالوا: الطعام والشراب يحرم عند اعتراض الفجر
الآخر، وصوم رمضان عليه بيقين، ولا يسقط حكم الصوم إلا
بيقين، ومن شك هل أكل بعد الفجر أو قبله فليس يتيقن دخوله
فى الإمساك، وهو كمن شك فى غروب الشمس فأكل، وكمن شك فى
زوال الشمس فلا تجزئه الصلاة، لأن الوقت عليه بيقين، وكذلك
لو شك فى دخول رمضان فصام على الشك لم يجزئه عن رمضان،
وكذلك لو شك هل كبر للإحترام لم يجزئه، لأن عليه الدخول فى
الصلاة بيقين كما يدخل فى وقتها بيقين، كذلك عليه أن يدخل
فى أول جزء من اليوم بيقين، كما عليه أن يدخل فى أول رمضان
بيقين، أعنى باعتقاد صحيح، قاله ابن القصار. وقد فرق ابن
حبيب بين من أكل وهو شاك فى الفجر، وبين من أكل وهو شاك فى
غروب الشمس، وسنذكر ذلك فى باب إذا أفطر فى رمضان ثم طلعت
عليه الشمس، إن شاء الله.
(4/40)
واختلف أصحاب مالك فيمن طلع عليه الفجر،
وهو يأكل أو يطأ، فقال ابن القاسم: فليلق ما فى فمه،
ولينزل عن امرأته، ولم يفرق بين الأكل والوطء، وقال ابن
الماجشون: ليس الأكل كالجماع، لأن إزالته لفرجه جماع بعد
الفجر، ولكن لم يبتدئه ولم يتعمده، فعليه القضاء إذا تنحى
مكانه، فإن عاد أو خضخض فعليه القضاء والكفار، وهو قول
الشافعى. وقال أبو حنيفة والمزنى: لا كفارة عليه، واحتجوا
بأنه إذا أولج ثم قال: إن جامعتك فأنت طلق، فلبث فإنه لا
حنث عليه ولا مهر، فلم يجعلوا اللبث كالإيلاج فى وجوب
المهر والحد، وجعلتم اللبث هاهنا كاٌيلاج فى وجوب الكفار،
وفى حديث عدى وسهل أن الحكم للمعانى لا للألفاظ، بخلاف قول
أهل الظاهر. وقوله: (فعلموا: إنما يعنى الليل والنهار) ،
حجة فى أن النهار من طلوع الفجر، وذكر البخارى فى التفسير
زيادة فى حديث عدى بن حاتم، قال: (إنك لعريض القفا إن
أبصرت الخيطين) ، قال الخطابى: وعريض القفا يفسر على
وجهين: أحدهما أن يكون كناية عن العبارة أو سلامة الصدر،
يقال للرجل الغبى: إنك لعريض القفا. والوجه الآخر: أن يكون
أراد إنك غليظ الرقبة وافر اللحم، لأن من أكل بعد الفجر لم
ينهكه الصوم ولم يبن له أثر فيه.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ: (لا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ
سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلالٍ
/ 22 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ بِلالا كَانَ يُؤَذِّنُ
بِلَيْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :
(كُلُوا وَاشْرَبُوا
(4/41)
حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ،
فَإِنَّهُ لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ) ،
قَالَ الْقَاسِمُ: (وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا
إِلا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا) . معنى حديث عائشة،
ومعنى لفظ الترجمة واحد وإن اختلف اللفظ، ولم يصح عند
البخارى عن النبى، عليه السلام، حديث لفظ الترجمة، واستخرج
معناه من حديث عائشة، ولفظ الترجمة رواه، وكيع عن أبى
هلال، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول
الله: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر
المستطيل، ولكن الفجر المستطير فى الأفق) ، وقال الترمذى:
وهو حديث حسن. قال المهلب: والذى يفهم من اختلاف ألفاظ هذا
الحديث أن بلالا كانت رتبته وخطئه أن يؤذن بليل على ما
أمره به النبى، عليه السلام، من الوقت، ليرجع القائم وينبه
النائم، وليدرك السحور منهم من لم يتسحر، وقد روى هذا كله
ابن مسعود عن النبى، عليه السلام، فكانوا يتسحرون بعد
أذانه. وقال الطحاوى: فى هذا الحديث قرب أذان ابن أم مكنوم
من ذانن بلال الذى كان يؤذنه بالليل. قال الداودى: قوله:
لم يكن بين أذانيهما إلا أن ينزل ذا ويرقى ذا، وقد قيل له:
أصبحت أصبحت، دليل أن ابن أم مكتوم كان يراعى قرب طلوع
الفجر أو طلوعه، لأنه لم يكن يكتفى بأذان بلال فى عمل
الوقت، لأن بلالا فيما يدل عليه الحديث كان تختلف أوقاته،
وإنما حكى من قال: ينزل ذا ويطلع ذا، ما شاهد فى بعض
الأوقات، ولو كان فعله لا يختلف اكتفى به النبى، عليه
السلام،
(4/42)
ولم يقل: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم
مكتوم) ، ولقال: فإذا فرغ بلال فكفوا، ولكنه جعل أول أذا
ابن أم مكتوم علامة للكف، ويحتمل أن يكون لابن أم مكتوم من
يراعى له الوقت، ولولا ذلك لكان ربما خفى عنه الوقت، ويبين
ذلك ما روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم قال:
كان ابن أم مكتوم ضرير البصر، ولم يكن يؤذن حتى يقول له
الناس حين ينظرون إلى فروع الفجر: أذن، وقد روى الطحاوى عن
على بن معبد، عن روح، عن شعبة، قال: سمعت خبيب بن عبد
الرحمن يحدث عن عمته أنيسة، وكانت قد حجت مع النبى أنها
قالت: كان إذا نزل بلال وأراد أن يصعد ابن أم مكتوم تعلقوا
به وقالوا: كما أنت حتى نتسحر.
- بَاب تعجيل السَّحُورِ
/ 23 - فيه: سَهْلِ قَالَ: (كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِى
أَهْلِى، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِى أَنْ أُدْرِكَ
السُّجُودَ مَعَ النبى، عليه السلام) . قال المهلب: قوله:
تعجيل السحور، إنما يريد تعجيل الأكل فيه، لمراهقتهم
بالأكل والشرب لآخر الليل ابتغاء القوة على الصوم، ولبيان
علم الصبح بالفجر الأول ولم يحتج أن يجعل له حريم مع العلم
عليه، وروى مالك عن عبد الله بن أبى بكر، قال: سمعت أبى
يقول: (كنا ننصرف فى رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة
(4/43)
الفجر) ، وكان رسول الله يغلس بالصبح
ليتمكن من طول القراءة وترتيلها، ليدرك المتفهم التفهم
والتدبر، وليمتثل قول الله فى الترتيل والتدبير، ولو ترجم
له باب: تأخير السحور لكان حسنًا.
- باب قَدْرِ كَمْ بَيْنَ السَّحُورِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ
/ 24 - فيه: زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: (تَسَحَّرْنَا
مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، ثُمَّ قَامَ إِلَى
الصَّلاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأذَانِ
وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً) . قال
المهلب: هذا يدل على تأخير السحور ليتقوى به على الصوم،
وإنما كان يؤخره إلى الفجر الأول الذى هو البياض المعترض
فى الأفق، ولذلك جعل الله الفجر الأول حدا للأكل بقدر ما
يتم أكله ويطلع الفجر الثانى، ولولا هذا الفجر الأول لصعب
ضبط هذا الوقت على الناس، فقيل لهم: إذا رأيتم الفجر الأول
فهو نذير بالثانى، وهو بأثره بقدر ما يتعجل الأكل وينهض
إلى الصلاة. وفيه: دليل على تقدير الأوقات بأعمال الأبدان،
والاستدلال على المغيب بالعادة فى العمل، ألا ترى فى حديث
طلوع الشمس من مغربها أنه لا يعرف تلك الليلة التى تطلع من
صبيحتها إلا المتهجدون بتقدير الليل بمقدار صلاتهم
وقراءتهم المعتادة، والعرب تقدر الأوقات بالأعمال،
فيقولون: قدر حلب شاة، وفواق ناقة.
(4/44)
- باب بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ
إِيجَابٍ؛ لأنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، وَأَصْحَابَهُ
وَاصَلُوا وَلَمْ يُذْكَرِ السَّحُورُ
/ 25 - فيه: ابن عمر: أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام،
وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ
فَنَهَاهُمْ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ: (لَسْتُ
كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّى أَظَلُّ أُطْعَمُ وَأُسْقَى) . /
26 - وفيه: أَنَسَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام:
(تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِى السَّحُورِ بَرَكَةً) . قال ابن
المنذر: أجمع العلماء أن السحور مندوب إليه مستحب، ولا
مأثم على من تركه، وحض أمته عليه السلام، عليه ليكون قوة
لهم على صيامهم، وروى ابن عباس عن النبى، عليه السلام، أنه
قال: (استعينوا بأكل السحر على صيام النهار، وبقائلة
النهار على قيام الليل) ، وقد سماه عليه السلام الغداء
المبارك من حديث العرباض بن سارية، وروى عمرو بن العاص عن
النبى، عليه السلام، أنه قال: (فصل ما بين صيامنا وصيام
أهل الكتاب أكلة السحر) ، ذكر هذه الآثار ابن المنذر. وقول
البخارى فى هذه الترجمة أن الرسول وأصحابه واصلوا، ولم
يذكر سحوره غفلة منه، لأنه قد خرج فى باب الوصال حديث أبى
سعيد أن الرسول قال لأصحابه: (أيكم أراد أن يواصل فليواصل
حتى السحر) ، وفهم من ذلك أنه، عليه السلام، أراد قطع
الوصال بالأكل فى السحر فحديث أبى سعيد مفسر يقضى على
المجمل الذى لم يذكر فيه سحور، وقد ترجم له البخارى باب:
الوصال إلى السحر.
(4/45)
- باب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا
وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ
يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لا، قَالَ:
إِنِّى صَائِمٌ يَوْمِى هَذَا، وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ،
وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ. / 27
- فيه: سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ: أَنَّ النَّبِىَّ، عليه
السلام، بَعَثَ رَجُلا يُنَادِى فِى النَّاسِ يَوْمَ
عَاشُورَاءَ: (إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ، أَوْ
فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلا يَأْكُلْ) . قال
المؤلف: عرض البخارى فى هذا الباب إجازة صوم النافلة بغير
تبييت، وذكر ذلك عن بعض الصحابة، وقد روى عن ابن مسعود،
وأبى أيوب الأنصارى أيضًا إجازة ذلك، وذكره الطحاوى عن
عثمان بن عفان، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى،
وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، كلهم يجيز أن ينوى النافلة
بالنهار، واحتجوا بحديث سلمة بن الأكوع هذا وبحديث عائشة
بنت طلحة عن عائشة أن النبى، عليه السلام، كان يدخل على
بعض أزواجه فيقول: (هل عنكم من غداء؟ فإذا قالوا: لا، قال:
فإنى إذا صائم) ، وقال الكوفيون، والشافعى: يجزئه أن ينوى
صوم النافلة بعد الزوال. وذهب مالك، وابن أبى ذئب، والليث،
والمزنى إلى أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل
كالفرضسواء، وهو مذهب ابن عمر، وعائشة وحفصة، وحجتهم ما
رواه الليث عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبى بكر، عن
الزهرى، عن سالم، عن أبيه، عن
(4/46)
حفصة، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (من
لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) قال النسائى:
الصواب فى هذا الحديث أنه موقوف، لأن يحيى بن أيوب ليس
بالقوى. واحتج ابن القصار بعموم هذا القول، ولم يفرق بين
فريضة ولا نافلة، واحتج أيضًا بقوله: (الأعمال بالنيات) ،
وكل جزء من النهار الإمساك فيه عمل، فلا يصح بغير نية فى
الشرع، ولنا أن نقيس الصيام على الصلاة، لأنه لم يختلف
فرضها ونفلها فى باب النية. قالوا فى حديث سلمة بن الأكوع:
إن صوم عاشوراء منسوخ فنسخت شرائطه، فلا يجوز رد غيره
إليه، وحديث عائشة رواه طلحة بن يحيى، واضطرب فى إسناده،
فرواه عنه طائفة عن مجاهد، عن عائشة، وروته طائفة عنه عن
عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين ومنهم من لا يقول
فيه: (إذًا) ويقول: (إنى صائم) . قال ابن القصار: يحتمل أن
يكون معناه أن يسألهم عليه السلام عن الغداء ليعلم هل
عندهم شىء، وهم يظنون أنه يتغدى، وهو ينوى الصوم ليقول
لهم: اجعلوه للإفطار، فتسكن نفسه إليه، فلا يتكلف ما يفطر
عليه، فلما قالوا له: (لا) قال: (إنى صائم إذا) ، أى أنى
كما كنت، أو إنى بمنزلة الصائم، ويحتمل أن يكون عزم على
الفطر لعذر وجده، فلما قيل له: ليس عندنا شىء، تمم الصوم،
وقال: إنى صائم كما كنت، وإذا احتمل هذا كله لم تخص
الظواهر به، والأصول تشهد لما قلنا.
(4/47)
واحتج الكوفيون بحديث سلمة بن الأكوع،
وقالوا: هو حجة لنا فى أن كل صوم فرض فى وقت معين فإنه لا
يحتاج إلى تبييت من الليل كالنذر المعين، ويجوز أن ينوى له
بالنهار قبل الزوال، وكل صوم واجب فى الذمة ولا يتعلق بوقت
معين فلابد فيه من النية فى الليل، قالوا: ألا ترى أن
النبى، عليه السلام، أمر الناس بيوم عاشوراء بعد ما أصبحوا
أن يصوموا، وهو يومئذ عليهم فرض كما صار صوم رمضان بعد ذلك
على الناس فرضا، وكان تصحيح هذه الأخبار أن يحمل حديث
عاشوراء فى صوم الفرض فى اليوم المعين، لأن عاشوراء فرض فى
يوم معين كرمضان فرض فى أيام معينة، فلما كان يجزئ صوم
عاشوراء من نوى صومه بعد ما أصبح، كذلك شهر رمضان. وقال
الأوزاعى: كقول أبى حنيفة، وذهب مالك، والليث، والشافعى،
وأحمد إلى أنه لابد فى صوم الفرض من نية متقدمة فى الليل،
واحتج ابن القاصر لهم فقال: إنا لا نسلم استدلال من خالفنا
بحديث سلمة بن الأكوع أن صوم عاشوراء كان واجبًا، بدليل
قوله فيه: (من أكل فليصم) ، فأمر من كان آكلاً بالإمساك،
ولم يأمره بالقضاء، ولو كان واجبًا لأمره بقضائه، وقوله
عليه السلام: (نحن أحق بصيامه) ، يدل أنه كان على وجه
التطوع حين نسخ برمضان، فزال حكمه، ولو قلنا: إن صومه كان
واجبًا، لقلنا: إن صومه إنما وجب فى الوقت الذى أمر به،
وقد زال ذلك بزواله، فحصلت النية متقدمة عليه، ولا يقاس
عليه وسأتقصى الكلام فى صوم عاشوراء فى بابه بعد هذا، إن
شاء الله.
(4/48)
- باب الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا
/ 28 - فيه: عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ: (أَنْ النَّبىُّ،
عليه السلام، كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ، وَهُوَ جُنُبٌ
مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ) ، وَقَالَ
مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ: أُقْسِمُ
بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ،
وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، ثُمَّ قُدِّرَ
لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، وَكَانَتْ
لأبِى هُرَيْرَةَ هُنَاكَ أَرْضٌ، فَقَالَ
عَبْدُالرَّحْمَنِ لأبِى هُرَيْرَةَ: إِنِّى ذَاكِرٌ لَكَ
أَمْرًا وَلَوْلا مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَىَّ فِيهِ لَمْ
أَذْكُرْهُ لَكَ، فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ
سَلَمَةَ فَقَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَنِى الْفَضْلُ بْنُ
عَبَّاسٍ، وَهُنَّ أَعْلَمُ، وَقَالَ هَمَّامٌ، وَابْنُ
عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ: (كَانَ
النَّبِىُّ، عليه السلام، يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ)
وَالأوَّلُ أَسْنَدُ. وأجمع فقهاء الأمصار على الأخذ بحديث
عائشة، وأم سلمة فى من أصبح جنبًا أنه يغتسل ويتم صومه،
وقال ابن المنذر: وروى عن الحسن البصرى فى أحد قوليه أنه
يتم صومه ويقضيه، وعن سالم بن عبد الله مثله، واختلف فيه
عن أبى هريرة، فأشهر قوليه عند أهل العلم: أنه لا صوم له،
وفيه قول ثالث عن أبى هريرة، قال: إذا علم بجنابته ثم نام
حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى يصبح فهو صائم. وروى
ذلك عن طاوس، وعروة بن الزبير، وعن النخعى قول رابع: وهو
أن ذلك يجزئه فى التطوع، ولا يجزئه فى الفرض، واحتجوا
بحديث أبى هريرة أن النبى، عليه السلام، قال: (من أصبح
جنبًا أفطر ذلك اليوم) ، ولم يقل أحد به من فقهاء الأمصار
غير الحسن بن صالح.
(4/49)
واحتج ربيعة بن أبى عبد الرحمن لجماعة
الفقهاء بقوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا
مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] فأباح لنا الأكل
والجماع إلى طلوع الفجر، فوجب أن يقع الغسل بعد طلوع
الفجر، ولولا أن الغسل إذا وقع بعد طلوع الفجر أجزأ الصوم
لما أباح الجماع إلى وقت طلوعه، ذكره ابن القصار. وقال
الطحاوى: وحجة الجماعة حديث عائشة وأم سلمة، وأيضًا فإن
أبا هريرة الذى روى حديث الفضل قد رجع عن فتياه إلى قول
عائشة وأم سلمة، ورأى ذلك أولى مما حدثه به الفضل عن
النبى، عليه السلام، وروى منصور عن مجاهد، عن أبى بكر بن
عبد الرحمن، أن أنا هريرة رجع عن ذلك لحديث عائشة، وروى
محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة أنه نزع عن ذلك
أيضًا. قال الطحاوى: والنظر فى ذلك أنا رأيناهم قد أجمعوا
أن صائمًا لو نام نهارًا فأجنب أن ذلك لا يخرجه عن صومه،
فأردنا أن ننظر هل يكون حكم الجنابة إذا طرأت على الصوم
خلاف حكم الصوم إذا طرأ عليها؟ فرأينا الأشياء التى تمنع
من الدخول فى الصوم من الحيض والنفاس إذا طرأ ذلك على
الصوم، أو طرأ عليه الصوم فهو سواء، ألا ترى أنه ليس لحائض
أن تدخل فى الصوم وهى حائض، وأنها لو دخلت فى الصوم طاهرًا
ثم طرأ عليها الحيض فى ذلك اليوم أنها
(4/50)
بذلك خارجة من الصوم، وكان حكم الجنابة إذا
طرأت على الصوم لم تبطله بإجماعهم، فالنظر على ذلك أن يكون
كذلك إذا طرأ عليها الصوم لم تمنع من الدخول فيه. وفى حديث
الباب من الفقه أن الشىء إذا نوزع فيه وجب رده إلى من يظن
علمه عنده، لأن أزواج النبى أعلم الناس بهذا المعنى، وفيه:
أن الحجة القاطعة عند الاختلاف فيما لا نص فيه سنة رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) ، وفيه اعتراف العالم بالحق
وإنصافه إذا سمع الحجة، وقد ثبت أن أبا هريرة لم يسمع ذلك
من النبى، عليه السلام، ففى رواية الزهرى، عن أبى بكر بن
عبد الرحمن، عن أبى هريرة أنه قال: حدثنيه الفضل بن عباس،
وفى رواية المقبرى، عن أبى هريرة، قال: حدثنيه ابن عباس،
وفى رواية عمر بن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده،
عن أبى هريرة، قال: هن أعلم برسول الله منا حدثنيه أسامة
بن زيد. ذكره النسائى.
- باب الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ
يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْجُهَا.
/ 29 - فيه: عَائِشَةَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام،
يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ
أَمْلَكَكُمْ لإرْبِهِ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَآرِبُ:
حَاجَةٌ، قَالَ طَاوُسٌ: أُولِى الإرْبَةِ: الأحْمَقُ لا
حَاجَةَ لَهُ فِى النِّسَاءِ. وقال جابر بن زيد: إن نظر
فأمنى يتم صومه. والمباشرة والقبلة للصائم حكمهما واحد،
وقال أشهب:
(4/51)
القبلة أيسر من المباشرة، وقال ابن حبيب:
المباشرة والملاعبة، والقبلة، وإدامة النظر، والمحادثة
تنقص أجر الصائم، وإن لم تفطره. واختلفوا فى المباشرة،
فكرهها قوم من السلف، وروى ابن وهب عن ابن أبى ذئب، أن
شعبة مولى ابن عباس حدثه أن ابن عباس كان ينهى الصائم عن
القبلة، والمباشرة، قال: وأخبرنى رجال من أهل العلم عن ابن
عمر مثله، وروى حماد بن سلمة، عن عائشة أنها كرهت ذلك،
وروى مثله عن ابن المسيب، وعطاء، والزهرى، ورخص فيه آخرون،
روى عن ابن مسعود أنه كان يباشر امرأته نصف النهار، وهو
صائم، وعن سعد بن أبى وقاص مثله، وروى أبو قلابة عن مسروق
أنه سأل عائشة: ما يحل للرجل من امرأته وهو صائم؟ قالت: كل
شىء إلا الجماع، وكان عكرمة يقول: لا بأس بالمباشرة
للصائم، لأن الله أحل له أن يأخذ بيدها وأدنى جسدها ولا
يأخذ بأقصاه. قال المهلب: وكل من رخص فى المباشرة للصائم
فإنما ذلك بشرط السلام مما يخاف عليه من دواعى اللذة
والشهوة، ألا ترى قول عائشة عن النبى، عليه السلام: (وكان
أملككم لإربه) . ولهذا المعنى كرهها من كرهها، وروى حماد
عن إبراهيم، عن الأسيود: (أنه سأل عائشة عن المباشرة
للصائم، فكرهتها، فقلت: بلغنى أن النبى، عليه السلام، كان
يباشر وهو صائم، فقالت: أجل، إن رسول الله كان أملك لإربه
من الناس أجمعين) . وحماد عن داود، عن سعيد، عن ابن عباس
أن رجلا قال
(4/52)
له: إنى تزوجت ابنة عم لى جميلة فبنيت فى
رمضان، فهل لى إن قبلتها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال:
نعم. قال: قبل. قال: فهل لى إلى مباشرتها من سبيل؟ قال: هل
تملك نفسك؟ قال: نعم. قال: فباشر. قال: فهل لى أن أضرب
بيدى على فرجها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم.
قال: فاضرب. وقال مالك فى المختصر: لا أحب للصائم فى فرض
أو تطوع أن يباشر أو يقبل، فإن فعل ولم يمذ فلا شىء عليه،
فإن أمذى فعليه القضاء، وهو قول مطرف، وابن الماجشون،
وأحمد بن حنبل، وقال بعض البغداديين من أصحاب مالك: القضاء
فى ذلك عندنا استحباب، وروى عيسى عن ابن القاسم أنه إن
أنعظ وإن لم يمذ فإنه يقضى، وأنكره سحنون، وهو خلاف قول
مالك، وقال أبو حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور: لا
شىء عليه إذا أمذى، وهو قول الحسن والشعبى، وحجتهم أن اسم
المباشرة ليس على ظاهره، وإنما هو كناية عن الجماع، ولم
يختلف العلماء أن قوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ
(يراد به الجماع، فكل مباشرة اختلفوا فيها فالواجب ردها
إلى ما أجمعواعليه منها. واختلفوا إذا باشر أو جامع دون
الفرج فأمنى، فقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: عليه
القضاء فقط، لأن الكفارة إنما تجب عندهم بالإيلاج فى الفرج
والجماع التام، وقال عطاء: عليه القضاء مع الكفارة، وهو
قول الحسن البصرى، وابن شهاب، ومالك، وابن
(4/53)
المبارك، وأبى ثور، وإسحاق، وحجة هذا القول
أنه إذا باشر أو جامع دون الفرج فأنزل فقد حصل المعنى
المقصود من الجماع، لأن الإنزال أقصى ما يطلب من الالتذاذ،
وهو من جنس الجماع التام فى إفساد الصوم، فقد وجبت فيه
الكفارة.
- باب الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى
يُتِمُّ صَوْمَهُ. / 30 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (إِنْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيُقَبِّلُ
بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ ضَحِكَتْ) . /
31 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (بَيْنَا أَنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ، عليه السلام، فِى الْخَمِيلَةِ؛ إِذْ
حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى،
فَقَالَ: (مَا لَكِ أَنَفِسْتِ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ،
فَدَخَلْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ، وَكَانَتْ هِىَ
وَرَسُولُ اللَّهِ يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ،
وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ) . قال ابن المنذر:
اختلف العلماء فى القبلة للصائم، فرخص فيها جماعة، روى ذلك
عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة، وابن عباس، وعائشة، وبه قال
عطاء، والشعبى، والحسن، وهو قول أحمد، وإسحاق، وقال ابن
مسعود: إن قبل وهو صائم صام يومًا مكانه، قال الثورى: وهذا
لا يؤخذ به، وكره ابن عمر القبلة للصائم، ونهى عنها، وقال
عروة: لم أر القبلة للصائم تدعو إلى خير، وذكر الطحاوى عن
شعبة، عن عمران بن
(4/54)
مسلم، عن زاذان، عن عمر بن الخطاب قال: لأن
أعض على جمرة أحب إلىّ من أن أقبل وأنا صائم، وروى الثورى
عن عمران بن مسلم، عن زاذان، عن ابن عمر مثله، وذكر عن
سعيد بن المسيب، قال: الذى يقبل امرأته وهو صائم ينقض
صومه، وكره مالك القبلة للشيخ والشاب، وأخذ بقول ابن عمر،
وأباحتها فرقة للشيخ وحظرتها على الشاب، روى ذلك عن ابن
عباس، ورواه مورق عن ابن عمر، وهو قول أبى حنيفة، والثورى،
والأوزاعى، والشافعى. قال الطحاوى: فأما ما روى عن ابن
مسعود فقد روى عنه خلافه، روى إسرائيل عن طارق، عن حكيم بن
جابر، عن ابن مسعود أنه كان يباشر امرأته وهو صائم، وما
ذكره من قول سعيد أنه ينقض صومه فإن ما روى عن رسول الله
أنه كان يقبل وهو صائم، أولى من قول سعيد، فلو قال قائل:
إنما خص به رسول الله، ألا ترى قول عائشة: (وأيكم كان أملك
لإربه من رسول الله) قيل: إن قولها هذا إنما هو على أنها
لا تأمن عليهم، ولا يأمنون على أنفسهم ما كان رسول الله
يأمن على نفسه، لأنه محفوظ، والدليل على أن القبلة عندها
لا تفظر الصائك ما قد رويناه عنها أنها قالت: (ربما قبلنى
رسول الله وباشرنى وهو صائم، وأما أنتم فلا بأس للشيخ
الكبير الضعيف) ، رواه عمرو بن حريث، عن الشعبى، عن مسروق،
عنها، أرادت به أنه لا يخاف من إربه، فدل ذلك أن من لم يخف
من القبلة شيئًا وأمن على نفسه أنها له مباحة، وقالت مرة
أخرى حين سئلت عن القبلة للصائم، فقالت جوابًا لذلك: (كان
(4/55)
رسول الله يقبل وهو صائم) ، فلو كان حكم
رسول الله عندها فى ذلك بخلاف حكم غيره من الناس، لما كان
ما علمته من فعل رسول الله جوابًا لما سئلت عنه من فعل
غيره. ويبين ذلك ما رواه مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن
يسار: أن رجلا قبل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدًا
شديدًا، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة
زوج النبى فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله
كان يقبل وهو صائم، فرجعت فأخبرت ذلك زوجها، فزاده شرا،
وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، ثم
رجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله فأخبرته، فغضب
رسول الله، وقال: والله إنى لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده)
. فدل هذا المعنى استواء حكم رسول الله وسائر الناس فى حكم
القبلة إّا لم يكن معها الخوف على ما بعدها مما تدعو إليه،
ولهذا المعنى كرهها من كرهها، وقال: لا أراها تدعو إلى
خير، يريد إذا لم يأمن على نفسه، ليس لأنها حرام عليه،
ولكن لا يأمن إذا فعلها أن تغلبه شهوته فيقع فيما يحرم
عليه، فإذا ارتفع هذا المعنى كانت مباحة. وقال أبو حنيفة
والثورى والأوزاعى والشافعى: إن من قبل فأمذى فلا قضاء
عليه، وإن نظر فأمنى لم ينقض صومه، وإن قبل أو لمس فأمنى
أفطر ولا كفارة عليه، لأن الكفارة عندهم لا تجب إلا على من
أولج فأنزل، وقال مالك: إن قبل فأنزل فعليه القضاء
والكفارة، وكذلك إن نظر فتابع النظر، لأن الإنزال هو
المبتغى من الجماع،
(4/56)
وسواء أكان بإيلاج أو غيره، قال: فإن قبل
فأمذى، أو نظر فأمذى فعليه القضاء، ولا كفارة عليه ولا
قضاء فى ذلك عند الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى على ما
تقدم فى الباب قبل هذا.
- باب اغْتِسَالِ الصَّائِمِ
وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ ثَوْبًا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ،
وَهُوَ صَائِمٌ، وَدَخَلَ الشَّعْبِىُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ
صَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأْسَ أَنْ
يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أَوِ الشَّيْءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
لا بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ
أَحَدِكُمْ فَلْيُصْبِحْ دَهِينًا مُتَرَجِّلا. وَقَالَ
أَنَسٌ: إِنَّ لِى أَبْزَنَ أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا
صَائِمٌ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَسْتَاكُ أَوَّلَ
النَّهَارِ وَآخِرَهُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ
بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، قِيلَ لَهُ طَعْمٌ قَالَ:
وَالْمَاءُ لَهُ طَعْمٌ، وَأَنْتَ تتمَضْمِضُ بِهِ، وَلَمْ
يَرَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْكُحْلِ
لِلصَّائِمِ بَأْسًا. / 32 - فيه: عَائِشَةُ وأُمِّ
سَلَمَةَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يُدْرِكُهُ
الْفَجْرُ فِى رَمَضَانَ جنبًا مِنْ غَيْرِ حُلْمٍ،
فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ) . وذكر الطحاوى عن الكوفيين أن
الصائم لا يفطره الانغماس فى
(4/57)
الماء، ولم يذكروا كراهية، وقال الليث
والشافعى: لا بأس به، وذكر الطحاوى عن مالك أنه كرهه، وروى
ابن القاسم عن مالك فى المجموعة أنه لا بأس أن يغتسل
الصائم ويتمضمض من العطش خلاف ما ذكره الطحاوى. وقال الحسن
بن حى: يكره الانغماس فيه إذا صب على رأسه وبدنه، ولا يكره
أن يستنقع فيه، وحديث عائشة وأم سلمة حجة على من كره ذلك،
وروى مالك: عن سمى مولى أبى بكر، عن أبى بكر بن عبد
الرحمن، عن بعض أصحاب النبى، عليه السلام: (أن النبى خرج
فى رمضان يوم الفتح صائمًا، فلما أتى العرج شق عليه
الصيام، فكان يصب على رأسه الماء وهو صائم) . وقال الحسن:
رأيت عثمان بن أبى العاص بعرفة وهو صائم يمج الماء ويصب
على رأسه. وأما ذوق الطعام للصائم، فقال الكوفيون: إذا لم
يدخل حلقه لا يفطره وصومه تام، وهو قول الأوزاعى، وقال
مالك: أكرهه ولا يفطره إن لم يدخل حلقه، وهو قول الشافعى،
وقال ابن عباس: لا بأس أن تمضغ الصائمة لصبيها الطعام، وهو
قول الحسن البصرى، والنخعى، وكره ذلك مالك، والثورى،
والكوفيون، وقال الكوفيون: إلا لمن لم تجد بدا من ذلك.
وأما الدهن للصائم فاستحبته طائفة، روى عن قتادة أنه قال:
يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصوم، وأحازة
الكوفيون والشافعى، وقال: لا بأس أن يدهن الصائم شاربه،
وممن أجازة الدهن للصائم مطرف: وابن عبد الحكم وأصبغ، ذكره
ابن حبيب، وكرهه ابن أبى ليلى.
(4/58)
واختلفوا فى الكحل للصائم، فرخص فيه ابن
أبى أوفى، وعطاء، والشعبى، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة،
والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأبى ثور، وحكاه ابن حبيب عن
مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وقال ابن الماجشون: لا بأس
بالكحل بالإثمد للصائم، وليس ذلك مما يصام منه، ولو كان
ذلك لذكروه كما ذكروا فى المحرم، وأما الكحل الذى يعمل
بالعقاقير، ويوجد طعمه، ويخرق إلى الجوف فأكرهه، والإثمد
لا يوجد طعمه وإن كان ممسكًا، وإنما يوجد من المسك طعم
ريحه لا طعم ذوقه. ورخص فى الإثمد قتادة، وقال ابن أبى
ليلى وابن شبرمة: إن اكتحل الصائم قضى يومًا مكانه، وكرهه
الثورى وأحمد وإسحاق، وفى المدونة: لا يكتحل الصائم، فإن
اكتحل بإثمد أو صبر أو غيره فوصل إلى حلقه يقضى يومًا
مكانه، وكره قتادة الاكتحال بالصبر، وأجازه عطاء والنخعى،
وسيأتى اختلاف العلماء فى السواك الرطب واليابس فى بابه
بعد هذا، إن شاء الله، ويأتى اختلافهم فى المضمضة
والاستنشاق للصائم إذا دخل الماء إلى حلقه فى بابه بعد هذا
إن شاء الله.
- باب الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا
قَالَ عَطَاءٌ: إِنِ اسْتَنْثَرَ، فَدَخَلَ الْمَاءُ فِى
حَلْقِهِ فلا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: إِنْ دَخَلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلا شَيْءَ
عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: إِنْ جَامَعَ
نَاسِيًا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ.
(4/59)
/ 33 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىِّ، عليه السلام: (إِذَا نَسِىَ فَأَكَلَ
وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ
اللَّهُ وَسَقَاهُ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى
الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، فقالت طائفة: فلا شىء عليه،
روينا هذا القول عن على، وابن عمر، وأبى هريرة، وعطاء،
وطاوس، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثورى،
والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق واحتجوا
بهذا الحديث وقالت طائفة: عليه القضاء، هذا قول ربيعة،
ومالك، وسعيد بن عبد العزيز، واحتج له ربيعة فقال: ما نعلم
ناسيًا لشىء من حقوق الله إلا وهو عائد له. قال ابن
القصار: والأكل مناف للصوم، وقد تقرر أنه لو أكل وعنده أن
الفجر لم يطلع، وكان قد طلع إن عليه القضاء، كذلك إذا وقع
فى خلاف الصوم، ولا فرق بين أن يظن أنه يأكل قبل الفجر أو
يظن أنه يأكل فى يوم من شعبان أو شوال أن عليه القضاء،
واحتج مالك لذلك بقول عمر بن الخطاب: الخطب يسير وقد
اجتهدنا. قال مالك: ولا شك أن عمر قضى ذلك اليوم، وذكره
ابن وهب، قال ابن المنذر: وحجة القول الأولقوله عليه
السلام فىلا من أكل أو شرب ناسيًا أنه يتم صومه، وغير جائز
أن يأمر من هذه صفته أن يتم صومه فيتمه ويكون غير تام، هذا
يستحيل وإذا أتمه فهو صوم تام ولا شىء على من صومه تام.
قال المؤلف: فعارض هذا أهل المقالة الثانية وقالوا: أما
قوله: (فليتم صومه) ، فمعناه أنه لما كان قبل أكله داخلا
فى
(4/60)
صوم جاز أن يقال له: تتم صومك الذى كنت
دخلت فيه، وعليك القضاء، لأنك مفطر قاله ابن القصار، وقال
المهلب: معنى قوله (فإن الله أطعمه وسقاه) ، إثبات عذر
الناسى وعلة لسقوط الكفارة عنه، وأن النسيان، لا يرفع نية
الصوم التى بيتها، فأمره عليه السلام بإتمام العمل على
النية، وأسقط عنه الكفارة، لأنه ليس كالمنتهك العامد، ووجب
عليه القضاء بنص كتاب الله تعالى وهو قوله: (فَعِدَّةٌ
مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ، فإن قيل: إنه لم
ينقل فى الحديث القضاء، فلا قضاء عليه، قيل: يجوز ألا يشكل
القضاء على السائل أو ذكره، ولم ينقل كما لم ينقل فى حديث
الذى وطئ أهله فى رمضان القضاء عليه ولا على امرأته، فلا
تعلق لهم بهذا. قال ابن القصار: وليس معكم أن قوله عليه
السلام: (فإن الله أطعمه وسقاه) كان فى رمضان، فيحمل
الحديث على صوم التطوع، وأنه يكون بذلك مفطرًا، ولا قضاء
عليه. وكذلك اختلفوا فيمن جامع ناسيًا فى شهر رمضان، فقالت
طائفة: لا شىء عليه. قال ابن المنذر: روينا هذا عن الحسن،
ومجاهد، وبه قال الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وإسحاق،
وأبو ثور، وقالت طائفة: عليه القضاء، روينا هذا عن ابن
عباس، وعطاء، وهو قول مالك والليث، والأوزاعى، وفيه قول
ثالث: وهو أن عليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون،
وأحمد بن حنبل، ورواية ابن نافع عن مالك، واحتج ابن
الماجشون بأن الذى قال للنبى، عليه السلام: (وطئت أهلى) لم
يذكر عمدًا ولا سهوًا، فالناسى
(4/61)
والعامد سواء، واختاره ابن حبيب. قال ابن
القصار: واستدلاله بهذا على وجوب الكفارة خطأ، لأنه عليه
السلام، أوجب عليه الكفارة لعمده، ألا ترى أنه قال له:
(هلكت) فلحقه المأثم، والناسى لا يكون هالكًا، لأنه لا
مأثم عليه، وهذا خلاف الإجماع فلا يعتد به، وكفارة رمضان
إنما تتعلق بالمأثم، بدلالة سقوطها عن الحائض والمسافر
والمريض، والناسى أعذر منهم. وقال ابن المنذر: فى قول
الرجل للنبى، عليه السلام: (احترقت) ، وترك النبى إنكار
ذلك عليه أبين البيان أنه كان عامدًا، لإجماعهم على سقوط
المأثم عمن جامع ناسيًا، ويدل على ذلك قول الرسول: (أين
المحترق؟) وغير جائز أن توجب السنة على من وطئ ناسيًا
مأثمًا، وإجماع الناس على ارتفاع المأثم عنه. وأما الذباب
يدخل حلق الصائم، فروى عن ابن عباس أنه لا شىء عليه، وهو
قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. قال ابن
المنذر: ولم يحفظ عن غيرهم خلافهم. قال ابن القصار: سبق
الذباب إلى الحلق لا يمكن التحرز منه، وهو كغبار الطريق
والدقيق فلم يكلفه. قال ابن المنذر: وهذا يلزم مالكًا حين
أوجب على المرأة توطأ مستكرهة القضاء والكفارة ويلزم من
أوجب عليها القضاء، ومن أسقط القضاء عمن دخل حلقه الذباب
مغلوبًا عليه لزمه أن يقول مثله فى المرأة التى يستكرهها
زوجها أو يأتيها وهى نائمة.
(4/62)
- باب السِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ
لِلصَّائِمِ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: (رَأَيْتُ
النَّبِىَّ، عليه السلام، يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لا
أُحْصِى، أَوْ أَعُدُّ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ
النَّبِىِّ: (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ
لِلرَّبِّ) . وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: يَبْتَلِعُ
رِيقَهُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) : (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى
لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ) ،
وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ
مِنْ غَيْرِهِ. / 34 - وفيه: (عُثْمَانَ أَنَّه تَوَضَّأَ،
فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ
وَاسْتَنْثَرَ) الحديث. واختلف العلماء فى السواك للصائم
فى كل وقت من النهار، فأجازه الجمهور، قال مالك أنه سمع
أهل العلم لا يكرهون السواك للصائم فى أى ساعات النهار شاء
غدوة وعشية، ولم يسمع أحدًا من أهل العلم يكره ذلك ولا
ينهى عنه، وقد روى ذلك عن عائشة، وابن عمر، وابن عباس، وبه
قال النخعى، وابن سيرين، وعروة، والحسن، وإليه ذهب أبو
حنيفة وأصحابه، وقال عطاء: أكرهه بعد الزوال إلى آخر
النهار من أجل الحديث فى خلوف فم الصائم، وهو قول مجاهد،
وإليهخ ذهب الشافعى، وأحمد،
(4/63)
وإسحاق، وأبو ثور، وحجة القول الأول ما
نزعه البخارى من قوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتى
لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) ، وهذا يقتضى إباحته فى كل
وقت، وعلى كل حال، لأنه لم يخص الصائم من غيره، وهذا
احتجاج حسن لا مزيد عليه. واحتج ابن المنذر بهذا الحديث فى
إباحة السواك للمحرم، وقال: هو داخل فى عموم هذا الحديث،
قال: ولا أعلم أحدًا من أهل العلم منع المحرم من السواك
واختلفوا فى السواك بالعود الرطب للصائم، فرخصت فيه طائفة،
روى ذلك عن ابن عمر، وإبراهيم، وابن سيرين، وعروة، وهو قول
أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وكرهت
طائفة السواك الرطب، روى ذلك عن الشعبى، وقتادة، والحكم،
وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، والحجة لمن أجاز الرطب أمره
عليه السلام، بالسواك عند كل وضوء، كما لم يخص الصائم من
غيره بالإباحة، كذلك لم يخص السواك الرطب من غيره
بالإباحة، فدخل فى عموم الإباحة كل جنس من السواك رطبًا أو
يابسًا، ولو افترق حكم الرطب واليابس فى ذلك لبينه عليه
السلام، لأن الله فرض عليه البيان لأمته، وحديث عثمان فى
الوضوء حجة واضحة فى ذلك وهو انتزاع ابن سيرين حين قال: لا
بأس بالسواك الرطب، قيل: له طعم. قال: والماء له طعم، وأنت
تتمضمض به، وهذا لا انفكاك منه، لأن الماء أرق من ريق
المتسوك وقد أباح
(4/64)
الله المضمضة بالماء فى الوضوء للصائم،
وإنما كرهه من كرهه خشية من ألا يعرف أن يحترس من ازدراد
ريقه، قال ابن حبيب: من استاك بالأخضر ومج من فيه ما اجتمع
فى فيه، فلا شىء عليه، ولا بأس به للعالم الذى يعرف كيف
يتقى ذلك، ومن وصل من ريقه إلى حلقه شىء فعليه القضاء.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام: (إِذَا تَوَضَّأَ
فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ) ، وَلَمْ
يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ،
إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَلْقِهِ وَيَكْتَحِلُ. وَقَالَ
عَطَاءٌ: إِنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِى فِيهِ
مِنَ الْمَاءِ لا يَضِرُهُ، إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ
وَمَاذَا بَقِىَ فِى فِيهِ، وَلا يَمْضَغُ الْعِلْكَ
فَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ لا أَقُولُ أَنَّهُ
يُفْطِرُ، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ. اختلف العلماء فى
الصائم يتمضمض أو يستنشق أو يستنثر فيدخل الماء فى حلقه،
فقالت طائفة: صومه تام ولا شىء عليه، هذا قول عطاء وقتادة
فى الاستنثار، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الحسن: لا شىء
عليه إن مضمض فدخل الماء فى حلقه. وهو قول الأوزاعى، وكان
الشافعى يقول: لو أعاد احتياطًا، ولا يلزمه أن يعيد. وقال
أبو ثور: لا شىء عليه فى المضمضة والاستنشاق. وإلى هذا ذهب
البخارى، وقالت طائفة: يقضى يومًا مكانه. وهذا قول مالك
والثورى، وقال أبو حنيفة وأصحابه فى المضمضة: إن كان
ذاكرًا لصومه قضى، وإن كان ناسيًا فلا شىء عليه. وفرق
آخرون
(4/65)
بين المضمضة للصلاة المكتوبة والنافلة،
فأوجبوا القضاء فى النافلة وأسقطوه فى المكتوبة، روى هذا
عن ابن عباس، والنخعى، وابن أبى ليلى، قال ابن القصار:
وحجة من أوجب القضاء أنه ليس المضمضة والاستنشاق هما
الموصلان الماء إلى جوفه، وإنما توصله المبالغة، والاحتراز
منها ممكن فى العادة، وإن لم يبالغ فالمضمضة سبب ذلك
أيضًا، وهذا بمنزلة القبيلة إذا حصل معها الإنزال سواء
كانت القبلة مباحة أو غير مباحة، لأنه لما كانت القبلة مع
الإنزال تفطر، كذلك المضمضة مع الازدراد، وأظن أبا حنيفة
إنما فرق بين الذاكر لصومه والناسى على أصله فى كل من أكل
ناسيًا فى رمضان أنه لا شىء عليه، وقد تقدم ذلك فى باب
الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، فأغنى عن إعادته، ولا معنى
لقول من فرق بين الوضوء للمكتوبة والنافلة بغير دليل ولا
حجة. وأما السعوط للصائم فذهب الثورى، وأبو حنيفة،
وأصحابه، والأوزاعى، وإسحاق إلى أنه إذا استعط فعليه
القضاء، يعنون إذا احتاج إليه للتداوى، وقال مالك: إذا وصل
ذلك إلى فمه لضرورته إلى التداوى به فعليه القضاء. وقال
الشافعى: إذا وصل طعم ذلك إلى دماغه عليه القضاء، غير أن
أل الشافعى أنه لا كفارة على من أكل عمدًا، قال إسحاق: إن
دخل حلقه عليه القضاء والكفارة، قال ابن المنذر: وقال
قائل: لا قضاء عليه، وقد روينا عن النخعى روايتين: إحداهما
كراهية السعود، والأخرى الرخصة فيه. قال المؤلف: والحجة
المتقدمة لمن أوجب القضاء فى المضمضة إذا
(4/66)
أوصل الماء منها إلى الجوف، هى الحجة فى
إيجاب القضاء عن السعود إذا وصل ذلك فمه أو جوفه. قال ابن
المنذر: وحجة من لم ير القضاء فى ذلك أن القضاء إلزام فرض،
ولا يجب ذلك إلا بسنة أو إجماع، وذلك غير موجود، وما حكاه
البخارى عن عطاء أنه إن مضمض ثم أفرغ ما فى فيه لم يضره أن
يزدرد ريقه وما بقى فى فيه، فلا يوهم هذا أن عطاء يبيح أن
يزدرد ما بقى فى فيه من الماء الذى تمضمض به، وإنما أراد
أنه إذا مضمض ثم أفرغ ما فى فيه من الماء أنه لا يضره أن
يزدرد ريقه خاصة، لأنه لا ماء فى فيه بعد تفريغه له، قال
عطاء: وماذا بقى فى فيه؟ هكذا رواه عبد الرزاق عن ابن
جريج، عن عطاء، وأظنه سقط (ذا) للناسخ، والله أعلم. قال
ابن المنذر: وأجمعوا أنه لا شىء على الصائم فى ما يزدرده
مما يجرى مع الريق مما بين أسنانه من فضل سحور أو غيره مما
لا يقدر على إخراجه وطرحه، وكان أبو حنيفة يقول: إذا كان
بين أسنانه لحم فأكله متعمدًا فلا قضاء عليه ولا كفارة،
وفى قول سائر أهل العلم إما عليه القضاء والكفارة أو
القضاء على حسب اختلافهم فيمن أكل عامدًا فى الصيام، قال
ابن المنذر: هو بمنزلة الأكل فى الصوم فعليه القضاء.
واختلفوا فى مضغ العلك للصائم، فرخصت فيه طائفة، روى ذلك
عن عائشة وعطاء، وقال مجاهد: كانت عائشة ترخص فى الغار
وحده، وكرهت ذلك طائفة، روى ذلك عن النخعى،
(4/67)
والشعبى، وعطاء، والكوفيين، والشافعى،
وأشهب، وأحمد، وإسحاق، إلا أنه لا يفطر ذلك عند الكوفيين
والشافعى، وإسحاق، ولم يذكر عنهم ابن المنذر الفرق بين مجه
وازدراده، وعند أصحاب مالك إن مجه فلا شىء عليه، وإن
ازدرده فقد أفطر.
- باب إِذَا جَامَعَ فِى رَمَضَانَ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: (مَنْ
أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلا
مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ)
. وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِىُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ،
وَإِبْرَاهِيمُ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ: يَقْضِى يَوْمًا
مَكَانَهُ. / 35 - فيه: عَائِشَةَ: (إِنَّ رَجُلا أَتَى
النَّبِىَّ، عليه السلام، فِى رَمَضَانَ، فَقَالَ له
إِنَّهُ احْتَرَقَ، قَالَ: (مَا لَكَ) ؟ قَالَ: أَصَبْتُ
أَهْلِى فِى رَمَضَانَ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السلام،
بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقَ، فَقَالَ: (أَيْنَ
الْمُحْتَرِقُ) ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: (تَصَدَّقْ
بِهَذَا) . اختلف العلماء فيما يجب على الواطىء عامدًا فى
نهار من شهر رمضان، فذكر البخارى عن جماعة من التابعين أن
على من أفطر القضاء فقط بغير كفارة، قال المؤلف: فنظرت
أقوال التابعين الذين ذكرهم البخارى فى صدر هذا الباب فى
المصنفات، فلم أر
(4/68)
قولهم بسقوط الكفارة إلا فى المفطر بالأكل
لا فى المجامع، فيحتمل أن يكون عندهم الآكل والمجامع سواء
فى سقوط الكفارة، إذ كل ما أفسد الصيام من أكل وشرب أو
جماعة فاسم فطر يقع عليه، وفاعله مفطر بذلك من صيامه، وقد
قال عليه السلام، فى ثواب الصائم: (قال الله تعالى: يدع
طعامه وشرابه، وشهوته من أجلى) ، فدخلت فى ذلك أعظم
الشهوات، وهى شهوة الجماع. وذكر عبد الرزاق عن سعيد بن
المسيب: ن كل من أكل فى شهر رمضان عامدًا عليه صيام شهر،
وذكر عن ابن سيرين: عليه صيام يوم، وأوجب جمهور الفقهاء
على المجامع عامدًا الكفارة والقضاء، هذا قول مالك، وعطاء،
والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى، وأحمد، وإسحاق،
واحتجوا بإعطاء النبى للمحترق المكتل ليتصدق به، قالوا:
فثبت بهذا الخبر الكفارة على المجامع، ولا وجه لقول من لم
ير الكفارة فى ذلك لخلافهم السنة الثابتة والجمهور، وقد
تقدم فى (باب: من أكل وشرب ناسيًا) ، أن فى قول الرجل: إنه
احترق، دليلاً أنه كان عامدًا منتهكًا فى وطئه، لأن الله
قد رفع الحرج عن السهو والخطأ، ويؤيد هذا قوله عليه
السلام: (أين المحترق؟) فأثبت له حكم العمد بهذا، لأنه لا
ينطق عن الهوى. وذكر الطحاوى فى (شرح معانى الآثار) ، قال:
ذهب قوم إلى أن من وقع بأهله فى رمضان فعليه أن يتصدق، ولا
يجب عليه من الكفارة غير ذلك، واحتجوا بهذا الحديث. ولم
يسم القائلين بذلك
(4/69)
وحديث أبى هريرة أول منه، لأنه قد كان قبل
الذى فى حديث عائشة شىء حفظه أبو هريرة ولم تحفظه عائشة،
فهو ألو لما زاد فى الحديث من العتق والصيام، فأما قول
البخارى: ويذكر عن أبى هريرة: (من أفطر يومًا من رمضان
متعمدًا لم يقضه صيام الدهر) ، فرواه الثورى عن حبيب بن
أبى ثابت، عن ابن المطوس، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن
النبى، عليه السلام، وهو حديث ضعيف لا يحتج بمثله، وقد
صضحت الكفارة بأسانيد صحاح، ولا تعارض بمثل هذا الحديث،
وقال البخارى فى التاريخ: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث،
ولا نعرف له غيره، ولا أدرى سمع أبوه من أبى هريرة أم لا،
واسمه: يزيد بن المطوس. واختلفوا فيمن أكل عامدًا فى
رمضان، فقال مالك: وأبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، وأبو
ثور، وإسحاق: عليه ما على المجامع من الكفارة مع القضاء،
وهو قول عطاء، والحسن، والزهرى، وقال الشافعى، وأحمد بن
حنبل: عليه القضاء دون الكفارة، وهو قول النخعى، وابن
سيرين، وقالوا: إن الكفارة إنما وردت فى المجامع خاصة،
وليس الآكل مثله بدليل قوله عليه السلام: (من استقاء فعليه
القضاء) ، وهو مفطر عمدًا، وكذلك مزدرد الحصى عمدًا عليه
القضاء، وحجة من أوجب الكفارة أن الأكل والشرب فى القياس
كالجماع سواء، وأن الصوم فى الشريعة الامتناع من الأكل
والشرب والجماع، فإذا ثبت فى الشريعة فى وجه واحد منهما
حكم فسبيل نظيره فى ذلك الحكم سبيله، لأن المعنى الجامع
بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدًا، وذلك أن
الأكل
(4/70)
والجماع كانا محرمين فى ليل الصوم بعد
النوم، فنسخ الله ذلك رفقًا بعباده، وأباح الجماع والأكل
إلى الفجر، وقال تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
الَّليْلِ) [البقرة: 187] ، فبقى الأكل والجماع بالنهار
محرمين، وأوجب عليه السلام على الواطئ فى رمضان الكفارة،
فوجب أن يكون حكم الأكل فى الكفارة مثله، إذ هما فى
التحريم سواء. وأما قوله عليه السلام: (من استقاء فعليه
القضاء) ، فقد ثبت بقوله: عليه القضاء أنه مفطر، فإن كان
استقاء لحاجة دعته إلى ذلك، فهو كالعليل الذى يحتاج إلى
شرب الدواء، وهو مفطر غير مأثوم ولا ممنوع، فلا كفارة
عليه، وإن كان لغير حاجة فهو منتهك لحركة الصوم، فعليه
الكفارة، وقد أوجب عطاء على المستقىء عمدًا لغير عذر
القضاء والكفارة، وهو قول أبى ثور، ويدخل على الشافعى
التناقض فى قياسه الأكل على القىء، لأنه فرق بين الأكل
والقىء فى المكره، فقال: إذا أكره على الأكل فعليه القضاء،
وإن أكره على القىء فلا قضاء عليه، فيلزمه أن يفرق فى
الصيام بين القىء والأكل والجماع، ولا يجمع بينها. وقد
اختلف الفقهاء فى قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، قال مالك:
عليه قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، وهو قول أبى حنيفة
وأصحابه، والثورى، وأبى ثور، وأحمد، وإسحاق، وقال
الأوزاعى: إن كفر بالعتق أو الإطعام صام يوًا مكان ذلك
اليوم الذى أفطر، وإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء
ذلك اليوم، وقال الشافعى: يحتمل أن تكون الكفارة بدلا من
الصيام، ويحتمل أن يكون الصيام مع الكفارة، وأحب إلى أن
يكفر
(4/71)
ويصوم، وحجة من أوجب صوم اليوم مع الكفارة
أن الكفارة عقوبة للذنب الذى ركبه، والقضاء بدل من اليوم
الذى أفسده، فكما لا يسقط عن المفسد حجه بالوطء إذا أهدى
البدن، فكذلك قضاء اليوم، والله أعلم. واعتل من لم يَرَ مع
الكفارة صيام اليوم بأنه ليس فى حديث عائشة ولا خبر أبى
هريرة فى نقل الحفاظ ذكر القضاء، وإنما فيهما الكفارة فقط،
فيقال له: قد روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: (أن
أعرابيا جاء ينتف شعره، وقال: يا رسول الله، وقعت على
امرأتى فى رمضان، فأمره رسول الله أن يقضى يومًا مكانه) ،
وهو من مرسلات سعيد بن المسيب، وهى حجة عند الفقهاء، وكتاب
الله يشهد بصحته، وهو قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِّنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ولا تبرأ الذمة إلا بيقين
الأداء وهو قضاء اليوم مع الكفارة. واختلفوا فى مقدار
الكفارة، فقال مالك والشافعى: الإطعام فى ذلك مد لكل مسكين
بمد النبى، عليه السلام، وقال أبو حنيفة: إن أخرج من البر
فنصف صاع لكل مسكين، ومن التمر والشعير صاع، والحجة لمالك
أن العرق الذى فى الحديث مبلغه خمسة عشر صاعًا، وذلك ستون
مدا. وروى ابن المنذر عن مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن
منصور، عن الزهرى، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة:
أن رجلا أتى النبى فقال: يا رسول الله، إنى وقعت على
امرأتى فى رمضان؟ فقال: (أعتق رقبة) ،
(4/72)
قال: لا أجد، قال: (صم شهرين متتابعين) ،
قال: لا أستطيع، قال: (أطعم ستين مسكينًا) ، قال: لا أجد،
فأتى النبى، عليه السلام، بمكتل فيه خمسة عشر صاعًا، قال:
(خذ هذا فأطعمه عنك) الحديث. قال ابن المنذر: فقد أمر
النبى، عليه السلام، الواقع على أهله فى رمضان بعد أن
أعلمه أن الذى يجب على من لا يجد الرقبة إطعام ستين
مسكينًا أن يتصدق بخمسه عشر صاعًا من تمر، وذلك مد لكل
مسكين، وفى إعطاء الرسول للرجل الصاع ليتصدق به حجة لمالك
فى اختياره الإطعام فى كفارة المفطر فى رمضان، لأنه يشبه
البدل من الصيام، ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير
والمفرط فى قضاء رمضان حتى يدخل عليه رمضان آخر لا يؤمر
بالإطعام وهذا مأخوذ من قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ،
وذكر أبو عبيد عن الأصمعى، قال: أصل العرق: السقيفة
المنسوجة من الخوص قبل أن يجعل منها زبيل، فسمى الزبيل
عرقًا بذلك، زعم الأخفش أنه سمى عرقًا، لأنه يعمل عرقة
عرقة ثم تضم، والعرقة الطريقة، ولذلك سميت درة الكتاب عرقة
لعرضها واصطفافها، يقال: عرقة وعرق، كما يقال: علقة وعلق.
(4/73)
30 - باب إِذَا جَامَعَ فِى رَمَضَانَ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ
فَلْيُكَفِّرْ
/ 36 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: جَاءَ إِلَى النبى، عليه
السلام، رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ،
قَالَ: (مَا لَكَ) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى،
وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (هَلْ تَجِدُ
رَقَبَةً تُعْتِقُهَا) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ
تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ؟
قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ
مِسْكِينًا) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِىُّ،
عليه السلام، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِىَ
النَّبِىُّ، عليه السلام بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ،
وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ، قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ) ؟
فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: (خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) ،
قَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّى يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ
بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِى، فَضَحِكَ النَّبِىُّ
حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَطْعِمْهُ
أَهْلَكَ) . وترجم له باب: (المجامع فى رمضان هل يطعم أهله
من الكفارة إذا كانوا محاويج) ، وفيه: أن الرجل قال للنبى:
(إن الأخر وقع على امرأته فى رمضان) . اختلف العلماء فى
الواطئ فى رمضان إذا وجب عليه التكفير بالإطعام دون غيره،
ولم يجد ما يطعم كالرجل الذى ورد فى هذا الحديث، قال ابن
شهاب: إباحة النبى لذلك الرجل أكل الكفارة لعسرته رخصة له
وخصوص، وقال: لو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من
التكفير، وزعم الطبرى أن قياس قول أبى حنيفة، والثورى،
وأبى ثور أن الكفارة دين عليه لا يسقطها عنه عسرته كسائر
الكفارات، وقال عيسى بن دينار: الكفارة على المعسر واجبة،
فإذا أيسر أداها، وقال الأوزاعى: الكفارة ساقطة عن ذمته
إذا كان
(4/74)
محتاجًا، لأنه لما جاز للمكفر أن يطعم أهله
الكفارة علم أنها ساقطة عن ذمته، قيل للأوزاعى: أنسأل فى
الكفارة؟ قال: لا، رد رسول الله كفارة المفطر عليه وعلى
أهله، فليستغفر الله ولا يعد، ولم ير عليه شيئًا، وهو قول
أحمد بن حنبل. وقال الشافعى: يحتمل أن تكون الكفارة دينًا
عليه متى أطاقها أداها، وإن كان ذلك ليس فى الخبر، وهو أحب
إلينا وأقرب إلى الاحتياط وله احتمالات أخر، هذا الوجه
الذى أستحب، سأوردها فى هذا الذى بعد هذا، وأرد فيه قول من
جعل الكفارة ساقطة عن المعسر خلاف من ذكرت قوله فى هذا
الباب، إن شاء الله. ويحتمل أنه لما كان فى الوقت الذى
أصاب فيه أهله ليس ممن يقدر على واحدة من الكفارات، تطوع
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأن قال له فى شىء أتى به:
(كَفِّر) . فلما ذكر الحاجة ولم يكن الرجل قبضه. قال له:
(كله وأطعمه أهلك) ، وجعل التمليك له حينئذ مع القبض،
ويحتمل أن يكون لما ملكه وهو محتاج، وكان إنما تجب عليه
الكفارة إذا كان عنده فضل، ولم يكن عنده فضل، قال له كله،
هو وأهله، لحاجته ويحتمل إذا كان لا يقدر على شىء من
الكفارات، وكان لغيره أن يكفر عنه، كان لغيره أن يتصدق
عليه وعلى بيته بتلك الكفارة إذا كانوا محتاجين، وتجزئ عنه
ويحتمل أن تسقط عنه الكفارة لعدمه، كما سقطت الكفارة عن
المغمى عليه إذا كان مغلوبًا. قال المهلب: قوله عليه
السلام: (كله) دليل على أنه إذا وجبت على معسر كفارة
إطعام، وكان محتاجًا إلى إبقاء رمق
(4/75)
نفسه وأهله أن يؤثرها بذلك الإطعام، ويكون
ذلك مجزئًا عنه على قول من رأى سقوط الكفارة عنه بالعسرة،
وعلى مذهب الآخرين يكون فى ذمته إلى الميسرة، ورد ابن
القصار على من رأى سقوط الكفارة عنه بالعسرة فقال: أما
إباحته عليه السلام للواطئ أكل الكفارة، فلا يمتنع من بقاء
حكم الكفارة فى ذمته، لأنه لما أخبر عن حاجته أباح له
الانتفاع بما أعطاه، ولم يتعرض لحكم ما فى ذمته، فبقى ذلك
بحاله. وقال غيره: فإن احتج محتج فى سقوط الكفارة بقوله
عليه السلام: (أطعمه أهلك) . ولم يقل له: وتؤديها إذا
أيسرت، لأنها لو كانت واجبة لم يسكت حتى يبين ذلك، قيل له:
ولا قال له رسول الله: إنها ساقطة عنك لعسرك بعد أن كان
أخبره بوجوبها عليه وكل ما وجب عليه أداؤه فى اليسار لزم
الذمة إلى الميسرة. قال المهلب: وفيه أن الصدقة على أهل
الفقير واجبة بهذا الحديث واحتج بهذا الحديث من جعل كفارة
المفطر فى رمضان مرتبة على ما جاء فى هذا الحديث، أولها
بالعتق، فإن لم يجد صام، فإن لم يقدر أطعم، هذا قول أبى
حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى
ثور، وفى المدونة قال ابن القاسم: لا يعرف مالك فى الكفارة
إلا الإطعام، لا عتقًا ولا صومًا، وقال فى كتاب الظهار: ما
للعتق وماله قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، قال المؤلف:
(4/76)
وأمر المحترق بالصدقة، وروى عن مالك أنه
مخير بين العتق أو الصيام أو الإطعام، ذكره ابن القصار،
والحجة له حديثه عن الزهرى، عن حميد، عن أبى هريرة (أن
رجلاً أفطر فى رمضان، فأمره النبى أن يعتق أو يصوم أو
يطعم) ، و (أو) موضعها فى كلام العرب للتخيير، ولا توجب
الترتيب، ويجوز أن يكون أبو هريرة قد حفظ الفتيا من الرسول
فى مرتين فرواه مرة على التخيير، ومرة على الترتيب،
ليعلمنا الجواز فى التخيير أو الندب إلى تقديم العتق، ولا
يكون أحدهم ناسخًا للآخر. وقال الطحاوى: إنما أمره النبى،
عليه السلام، بكل صنف من أصناف الكفارة الثلاثة لما لم يكن
واجدًا للصنف الذى ذكر له قبله على ما ثبت فى حديث هذا
الباب، وقال بعض العراقيين: القصة واحدة، والراوى واحد وهو
الزهرى، وقد نقل التخيير والترتيب، ولا يجوز أن يكون خيره
ورتبه، فلابيد من المصير إلى أحد الروايتين، فالمصير إلى
الترتيب أولى من وجوه: أحدها: كثرة ناقليها، والثانى: أن
من نقل الترتيب فإنما نقل لفظه عليه السلام، ومن نقل
التخيير فإنما نقل لفظًا لراوٍ، وإن كانا فى الحجة سواء،
وإذا تعارضا كان المصير إلى من نقل لفظه عليه السلام أولى.
والثالث: أن من نقل الترتيب نقل الخبر مفسرًا، لأنه قال
له: (أعتق، قال: لا أجد، قال: فصم) ، ومن نقل التخيير لم
يذكر أنه أمره بالصيام والإطعام بعد أن ذكر الأعرابى عجزه،
وهذه زيادة، و
(4/77)
الرابع: أن فيه احتياطًا، لأنها إن كانت
على التخيير أجزأه إذا رتب، وإن كانت على الترتيب لم يجزئه
ما دونه. واختلفوا فى المرأة إذا وطئها طائعة فى رمضان،
فقال مالك: عليها مثل ما على الرجل من الكفارة، وهو قول
أبى حنيفة، وأبى ثور، وقال الشافعى: تجزئ الكفارة التى
كفرها الرجل عنهما، وفيه قول ثالث: أن الكفارة الواحدة
تجزئهما إلا الصيام، فإنه عليهما، يصوم كل واحد منهما
شهرين متتابعين، وإن أكرهها فالصوم عليه وحده. واختلفوا
إذا وطئها مكرهة، فقال مالك: عليهخ كفارتان عنه وعنها،
وكذلك إن وطئ أمته كفر كفارتين، وقال أبو حنيفة: عليه
كفارة واحدة ولا شىء عليها، وقال الشافعى: ليس عليها كفارة
سواء طاوعته أو أكرهها، واحتج بأن النبى إنما أجاب السائل
بكفارة واحدة ولم يسأله هل طاوعته أم أكرهها، ولو اختلف
الحكم لم يترك النبى تبيين ذلك، وحجة من أوجب عليها
الكفارة إن طاوعته القياس على قضاء ذلك اليوم، فلما وجب
عليها قضاء ذلك اليوم، وجب عليها الكفارة عنه، وأما وجوب
الكفارة عليه عنها إذا أذكرهها، فلأنه سبب إفساد صومها
بتعديه الذى أوجب الكفارة عليه عن نفسه،، فوجب أن يكفر
عنها، وهذا مبنى على أصولهم إذا أكرهها، وأفسد حجها
بالوطء، فعليه أن يحجها من ماله، ويهدى عنها، وكذلك إذا
حلق رأس محرم نائم، فإنه ينسك عنه، لأنه أدخل ذلك عليه
بتعديه من غير اختيار من المفعول به ذلك، ولا يلزم على هذا
الناسى،
(4/78)
والحائض، والمريض وغيرهم من المعذورين إذا
أفطروا، لأن السبب أتاهم من قبل الله تعالى، وفى مسألتنا
الفطر أتى من قبل الواطئ، والكفارة تتعلق بالذمة، لأن ماله
لو تلف لم تسقط. وقوله: (إن الأخر وقع على امرأته) قال
ثابت: الأخر على مثال فعل هو الأبعد، وقال بعضهم: الأخير
الأبعد، والآخر الغائب، وقال قيس بن عاصم لبنيه: يا بنى،
إياكم ومسألة الناس، فإنها آخر كسب المرء يعنى: أرذله
وأوسخه.
31 - باب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ
يروى عن أَبَى هُرَيْرَةَ: إِذَا قَاءَ فَلا يُفْطِرُ،
إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلا يُولِجُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَالأوَّلُ أَصَحُّ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: الفطَّرْ مِمَّا دَخَلَ
وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ
وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ يَحْتَجِمُ
بِاللَّيْلِ، وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلا، وَيُذْكَرُ
عَنْ سَعْدٍ وَزَيْدِ ابْنِ أَرْقَمَ وَأُمِّ سَلَمَةَ
احْتَجَمُوا صِيَامًا، وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ
عَلْقَمَةَ: كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلا
تَنْهَى، وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ
مَرْفُوعًا: (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) ، قِيلَ
لَهُ: عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ
قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ. / 37 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ
(أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، احْتَجَمَ وَهُوَ
مُحْرِمٌ،
(4/79)
وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، قِيلَ لأَنَس:
أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ:
لا، إِلا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ) . قال المؤلف: أما قول
أبى هريرة: (إذا قاء فلا يفطر) ، فقد روى مرفوعًا من حديث
عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبى
هريرة، قال: قال رسول الله: (من استقاء فعليه القضاء، ومن
ذرعه القىء فلا قضاء عليه) ، وهذا الحديث انفرد به عيسى بن
يونس، عن هشام بن حسان، وعيسى ثقة، إلا أن أهل الحديث
أنكروه عليه، ووهم عندهم فيه، وقال البخارى: لا يعرف إلا
من هذا الطريق، ولا أراه محفوظًا وروى معاوية بن سلام عن
يحيى بن أبى كثير، قال: أخبرنى عمر بن الحكم بن ثوبان أنه
سمع أبا هريرة يقول: إذا قاء أحدكم فلا يفطر، فإنما يخرج
ولا يدخل. وهذا عندهم أصح موقوفًا على أبى هريرة. وأجمع
الفقهاء أن من ذرعه القىء فلا قضاء عليه، واختلفوا فى من
استقاء، فقال مالك، والليث، والثورى، وأبو حنيفة،
والشافعى، وأحمد: من استقاء عامدًا فعليه القضاء، وعليه
الجمهور، روى ذلك عن على، وابن عمر، وأبى هريرة. وقال
الأوزاعى وأبو ثور: عليه القضاء والكفارة مثل كفارة الآكل
عامدًا فى رمضان، وهو قول عطاء، واحتجوا بحديث الأوزاعى عن
يعيش بن الوليد بن هشام أن أباه حدثه قال: حدثنا معدان بن
طلحة أن أبا الدرداء حدثه: أن رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) قاء فأفطر، قالوا: وإذا كان القيىء يفطر الصائم فعلى
من تعمده ما على من تعمد الأكل والشرب والجماع القضاء
(4/80)
والكفارة، وتأول الفقهاء هذا الحديث قالوا:
معنى قاء أى استقاء، قال الطحاوى: ويجوز أن يكون قوله:
(قاء فأفطر) أى: قاء فضعف فأفطر، وقد يجوز هذا فى اللغة،
وقد روى هذا المعنى محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبى حبيب،
عن أبى مرزوق، عن فضالة بن عبيد: أن رسول الله دعا بإناء
فشرب، فقيل: يا رسول الله، هذا يوم كنت تصومه، قال: (أجل،
إنى قئت فأفطرت) ، وهذا معناه ولكنى قئت فضعفت عن الصيام
فأفطرت، وليس فى هذين الحديثين دليلا أن القىء كان مفطرًا
له، إنما فيهما أنه قاء فأفطر بعد ذلك. وأما الحجامة
للصائم: فجمهور الصحابة والتابعين والفقهاء على أنه لا
تفطره، وروى عن على بن أبى طالب أنها تفطر الصائم، وهو قول
الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأحاديث (أفطر الحاجم
والمحجوم) ، وقد صحح على بن المدينى، والبخارى منها حديث
شداد وثوبان. قال ابن القصار: وحجة الجماعة ما رواه ابن
عباس: أن النبى، عليه السلام، احتجم وهو صائم، واحتجم وهو
محرم. فإن صح حديثهم، فحديث ابن عباس ناسخ له، لأن فى حديث
شداد بن أوس أن النبى، عليه السلام، قال عام الفتح فى
رمضان لرجل كان يحتجم: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، والفتح
كان فى سنة ثمان، وحجة الوداع سنة عشر، فخبر ابن عباس
متأخر ينسخ المتقدم، فإن قيل: لا حجة فى هذا، لأن النبى لم
يكن محرمًا إلا وهو مسافر، لأنه خرج إلى مكة وأحرم ودخلها
وهو مسافر، وللمسافر أن يفطر
(4/81)
بالحجامة وغيرها، وهذا سؤال لهم جيد،
فنقول: إن الخبر لم ينقل إلا لفائدة، فهذا يقتضى أنه وجد
منه كمال الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه فأفطر بعد ذلك
إذ الراوى لم يقل: احتجم فأفطر، وعندكم أن الفطر يقع بأول
خروج الدم، ولا يبقى صائمًا إلى أن تتم الحجامة، والخبر
يقتضى أن يكون صائمًا فى حال حجامته وبعد الفراغ، والحجامة
كالفصاد وهو لا يفطر الصائم، قال الطحاوى: وليس ما رووه من
قوله عليه السلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، ما يدل أن ذلك
الفطر كان لأجل الحجامة، وإنما كان بمعنى آخر كانا
يفعلانه، كما يقال: فسق القاسم، ليس بأنه فسق بقيامه،
ولكنه فسق بمعنى آخر غير القيام. وروى يزيد بن ربيعة
الدمشقى عن أبى الأشعث الصنعانى قال: إنما قال رسول الله:
(أفطر الحاجم والمحجوم) ، لأنهما كانا يغتابان، وليس
إفطارهما ذلك كالإفطار بالأكل والشرب والجماع، لكن حبط
أجرهما باغتيابهما، فصار بذلك مفطرين، لا أنه إفطار يوجب
عليهما القضاء، كما قالوا: الكذب يفطر الصائم، إنما هو
بمعنى حبوط الأجر، وقد روى عن جماعة من الصحابة فى ذلك
معنى آخر، روى قتادة عن أبى المتوكل الناجى، عن أبى سعيد
الخدرى قال: إنما كرهت الحجامة للصائم، من أجل الضعف، وعن
ابن عباس، وأنس بن مالك مثله، فدلت هذه الآثار على أن
المكروه من أجل الحجامة فى الصيام هو الضعف الذى يصيب
الصائم فيفطر من أجله بالأكل والشرب، وقد روى هذا المعنى
عن أبى العالية، وأبى قلابة، وسالم، والنخعى، والشعبى،
والحسين
(4/82)
ابن على، وقال القاسم بن محمد فى ما يذكر
من قول الناس (أفطر الحاجم والمحجوم) ، فقال: لو أن رجلا
حجم يده أو بعض جسده لم يفطره ذلك، قال الطحاوى، وتأويل
أبى الأشعث أشبه بالصواب، لأن الضعف لو كان هو المقصود
بالنهى لما كان الحاجم داخلا فى ذلك، فإذا كان الحاجم
والمحجوم قد جمعا فى ذلك أشبه أن يكون ذلك لمعنى واحد هما
فيه سواء، مثل الغيبة التى هما فيها سواء، كما قال أبو
الأشعث. وحديث ابن عباس المقنع فى هذا الباب. قال الطحاوى:
وأما طريق النظر فرأينا خروج الدم أغلظ أحواله أن يكون
حدثًا تنتقض به الطهارة. وقد رأينا الغائط والبول خروجهما
حدث تنتقض به الطهارة، ولا ينقض الصيام، فالنظر على ذلك أن
يكون الدم كذلك، ورأينا لا يفطره فصد العروق فالحجامة فى
النظر كذلك، وبالله التوفيق.
32 - باب الصَّوْمِ فِى السَّفَرِ وَالإفْطَارِ
/ 38 - فيه: ابْنَ أَبِى أَوْفَى: كُنَّا مَعَ النَبِى،
عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: (انْزِلْ
فَاجْدَحْ لِي) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
الشَّمْسُ، قَالَ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ
لِي) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ:
(انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ،
فَشَرِبَ، ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَاهُنَا، ثُمَّ قَالَ:
(إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا،
فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) .
(4/83)
/ 39 - وفيه: حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو،
قَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنى أسرد الصوم أَأَصُومُ
فِى السَّفَرِ) ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ:
(إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ) . قال ابن
المنذر: فى هذا الحديث من الفقه تخيير الصائم فى الصيام فى
السفر أو الفطر، وفيه دليل أن أمره تعالى للمسافر بعدة من
أيام أخر، إنما هو لمن أفطر، لا أن عليه أن يفطر ويقضى،
وممن روى عنه تخيير المسافر فى الصيام ابن عباس، وذكر أنس
وأبو سعيد ذلك عن أصحاب الرسول، وبه قال سعيد بن المسيب،
وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والنخعى، ومجاهد،
والأوزاعى، والليث. واختلفوا فى الأفضل من ذلك لمن قدر
عليه، فروى عن عثمان بن أبى العاصى، وأنس ابن مالك صاحبى
النبى أن الصوم أفضل، وهو قول النخعى، وسعيد بن جبير،
والأسود بن يزيد، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك،
والثورى، والشافعى، وأبو ثور: الصوم أحب إلينا، وروى عن
ابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبى، أن الفطر
أفضل، لأنه رخصة وصدقة تصدق الله بها فيجب قبولها، وهو قول
الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وروى عن عمر بن الخطاب، وأبى
هريرة، وابن عمر، وابن عباس إن صام فى السفر لم يجزئه،
وعليه أن يصوم فى الحضر، وعن عبد الرحمن
(4/84)
ابن عوف، قال: الصائم فى السفر كالمفطر فى
الحضر، وذكر هذا كله ابن المنضر، وبهذا قال أهل الظاهر،
وقد صح التخيير فى الصيام فى السفر أو الفطر عن النبى،
عليه السلام، من حديث حمزة ابن عمرو، وحديث أنس، وابن
عباس، وأبى سعيد الخدرى، وأن النبى، عليه السلام، وأصحابه
صاموا مرة فى السفر، وأفطروا أخرى، فلم يعب بعضهم ذلك على
بعض، فلا يلتفت إلى من خالف ذلك، لأن الحجة فى السنة.
وقوله: (يا رسول الله، الشمس) ، إنما أراد أن نور الشمس
باق، وظن أن ذلك يمنعه من الإفطار، فأجابه النبى، عليه
السلام، أن ذلك لا يضر إذا أقبل الليل، وسيأتى الكلام فى
حديث ابن أبى أوفى فى باب: (متى يحل فطر الصائم) . قوله:
(اجدح لى) ، قال أبو عبيد: المُجدّح: الشراب المخوض
بالمِجدَح، وقال صاحب (العين) : المجدح: خشبة فى رأسها
خشبتان معترضتان.
33 - باب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ
سَافَرَ
/ 40 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِى رَمَضَانَ
فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ
النَّاسُ) . وَالْكَدِيدُ: مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ
وَقُدَيْدٍ. / 41 - فيه: أَبِو الدَّرْدَاءِ، قَالَ:
(خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى بَعْضِ
(4/85)
أَسْفَارِهِ فِى يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى
يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ
الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلا مَا كَانَ مِنَ
النَّبِىِّ، عليه السلام، وَابْنِ رَوَاحَةَ) . فى حديث
ابن عباس إباحة السفر فى رمضان والفطر فيه، وهو رد لما روى
عن على بن أبى طالب أنه قال: (من استهل عليه هلال رمضان
مقيمًا صم سافر أنه ليس له أن يفطر لقول الله تعالى:
(فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة:
185] . والمعنى عنده: من أدرك رمضان وهو مسافر فعدة من
أيام أخر، ومن أدركه حاضرًا فليصمه، وهو قول عبيدة
السلمانى وسويد بن غفلة، وأبى مجلز، وهذا القول مردود لسفر
النبى، عليه السلام، فى رمضان، وإفطاره فيه فى الكديد،
وجمهور الأمة على خلاف هذا القول، لثبوت السنة بالتخيير فى
الصيام أو الفطر فى السفر، ولصيامه عليه السلام فى سفره.
قال ابن المنذر: وإنما أمر من شهد الشهر كله أن يصوم، ولا
يقال لمن شهد بعض الشهر أنه شهد الشهر كله، لأن النبى أنزل
عليه الكتاب، وأوجب عليه بيان ما أنزل عليه، سافر فى رمضان
وأفطر فى سفره. قال المؤلف: ومعنى حديث أبى الدرداء فى هذا
الباب هو أنه عليه السلام كان صائمًا، وابن رواحة، وسائر
أصحابه مفطرون، فلو لم يجز الفطر فى رمضان لمن سافر فيه ما
ترك النبى أصحابه مفطرين فيه، ولا سوغهم ذلك. وفى حديث ابن
عباس وأبى الدرداء رد لقول من قال: إن الصيام فى السفر لا
يجزئ، لأن الفطر عزيمة من الله وصدقة، ألا ترى صيامه عليه
السلام فى السفر فى اليوم الشديد الحر، وقول أبى الدرداء:
(وما فينا صائم إلا النبى، عليه السلام،
(4/86)
وابن رواحة) فلو كان الفطر عزمة من الله
تعالى، لم يتحمل النبى مشقة الصيام فى شدة الحر، وإنما
أراد أن يسن لأمته ليقتدوا به، وقد روى على بن معبد، عن
عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن طاوس، عن
ابن عباس، قال: (إنما أراد النبى بالفطر فى السفر التيسير
عليكم، فمن يسر عليه الصيام فليصم، ومن يسر عليه الفطر
فليفطر) . فهذا ابن عباس لم يجعل إفطار النبى فى السفر بعد
صيامه فيه ناسخًا للصوم فى السفر، ولكنه جعله على جهة
التيسير.
34 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام لِمَنْ ظُلِّلَ
عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ: (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ
الصَّوْمُ فِى السَّفَرِ
/ 42 - فيه: جَابِرِ: كَانَ النبى (صلى الله عليه وسلم)
فِى سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ،
فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: (لَيْسَ
مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِى السَّفَرِ) . احتج محتج من
أهل الظاهر بهذا الحديث، وقال: ما لم يكن من البر فهو من
الإثم، فدل ذلك أن صوم رمضان لا يجزئ فى السفر. قال
الطحاوى: قيل له هذا الحديث خرج لفظه على شخص معين، وهو
رجل رآه رسول الله وهو صائم قد ظلل عليه، وهو يجود بنفسه
فقال ذلك القول، ومعناه ليس البر أن يبلغ الإنسان بنفسه
هذا المبلغ، والله قد رخص فى الفطر، والدليل على صحة هذا
التأويل صوم رسول الله فى السفر فى شدة الحر، ولو كان
إثمًا لكان رسول الله
(4/87)
أبعد الناس منه، ومعنى قول النبى، عليه
السلام: (ليس من البر الصوم فى السفر) . أى ليس هو أبر
البر، لأنه قد يكون الإفطار أبر منه إذا كان فى حج أو جهاد
ليقوى عليه، وهذا كقوله: (ليس المسكين بالطواف الذى ترده
التمرة والتمرتان) ، ومعلوم أن الطواف مسكين، وأنه من أهل
الصدقة، وإنما أراد المسكين الشديد المسكنة الذى لا يسأل
ولا يتصدق عليه.
35 - باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِىِّ، عليه السلام،
بَعْضُهُمْ على بَعْض فِى الصَّوْمِ وَالإفْطَارِ
/ 43 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: (كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ
النَّبِىِّ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ،
وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) . هذا حجة على من رغم
أن الصائم فى السفر لا يجزئه صومه، لأن تركهم لإنكار الصوم
والفطر يدل أن ذلك عندهم من المتعارف المشهور الذى تجب
الحجة به، ولا حجة مع أحد فى خلاف السنة الثابتة، فقد ثبت
أنه عليه السلام صام فى السفر، ولم يعب على من صام، ولا
على من أفطر فوجب التسليم له.
36 - باب مَنْ أَفْطَرَ لِيَرَاهُ النَّاسُ
/ 44 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى
بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى
فيه، لِيُرِيَهُ النَّاسَ، فَأَفْطَرَ حَتَّى
(4/88)
قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ،
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدْ صَامَ رَسُولُ
اللَّهِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ
أَفْطَرَ. اختلف العلماء فى الفطر المذكور فى هذا الحديث،
فقال قوم: معناه أنه أصبح مفطرًا قد نوى الفطر فى ليلته،
وهذا جائز بإجماع العلماء أن يبيت المسافر الفطر إن
اختاره، وقال آخرون: معناه أنه أفطر فى نهاره بعد أن قد
مضى صدر منه، وأن الصائم جائز له أن يفعل ذلك فى سفره، لأن
النبى صنع ذلك رفقًا بأمته، وقد جاء هذا مبينًا فى حديث
جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: (أن رسول الله خرج إلى
مكة عام الفتح فى رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام
الناس وهم مشاة وركبان، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم
الصوم، وإنما ينظرون إلى ما فعلت، فدعا بقدح من ماء فرفعه
حتى نظر الناس إليه، وصام بعض، فقيل للنبى، عليه السلام:
إن بعضهم قد صام، فقال: (أولئك العصاة) . قال المؤلف: وهذا
الحديث يبين معنى الترجمة، وأنه عليه السلام، إنما أفطر
ليراه الناس فيقتدوا به ويفطرون، لأن الصيام قد نهكهم وأضر
بهم، فأراد الرفق بهم والتيسير عليهم أخذًا بقوله تعالى:
(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ) [البقرة: 185] ، فأخبر تعالى أنه أطلق الإفطار
فى السفر إرادة التيسير على عباده، فمن أراد رخصة الله
فأفطر فى سفره أو مرضه لم يكن معنفًا، ومن اختار الصوم،
وهو يسير عليه فهو له أفضل لصحة الخبر عن النبى أنه صام
حين شخص من المدينة متوجهًا إلى مكة حتى بلغ عسفان أو
الكديد، وصام معه أصحابه إذ
(4/89)
كان ذلك يسيرًا عليهم، وأفطر وأمر أصحابه
لما دنا من عدوه، فصار الصوم عسيرًا، إذ كان لا يؤمن عليهم
الضعف والوهن فى حربهم لو كانوا صيامًا عند لقاء عدوهم،
فكان الإفطار حينئذ أولى بهم من الصوم، وأفضل عند الله لما
يرجون من القوة على العدو وإعلاء كلمة الدين بالإفطار،
قاله الطبرى، وروى شعبة عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن
عمير: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أصحابه يوم
فتح مكة، فقال: أفطروا فإنه يوم قتال) . وروى حماد، عن
الجريرى، عن أبى نضرة، عن جابر: (أن النبى، عليه السلام،
كان فى سفر فأتى على غدير فقال للقوم: (اشربوا) ، فقالوا:
يا رسول الله، أنشرب ولا تشرب؟ فقال: (إنى أيسركم، إنى
أركب وأنتم مشاة، فشرب وشربوا) . واختلف الفقهاء فى من
اختار الصوم فى السرف وأصبح صائمًا ثم أفطر نهارًا من غير
عذر، فقال مالك: عليه القضاء والكفارة، لأنه كان مخيرًا فى
الصوم والفطر، فلما اختار الصوم لزمه ولم يكن له الفطر،
وقد روى عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أصحابه إلا عبد
الملك فإنه قال: إن أفطر بجماع كَفَّر، لأنه لا يقوى بذلك
على سفره ولا عذر له، وقال سائر الفقهاء بالحجاز والعراق:
أنه لا كفارة عليه، والحجة فى سقوط الكفارة واضحة بحديث
ابن عباس وجابر، ومن جهة النظر أيضًا، لأنه متأول غير هاتك
لحرمة صومه عند نفسه، وهو مسافر قد دخل فى عموم إباحة
الفطر، وقال ابن القابسى: هذا الحديث لم يسمعه ابن عباس من
النبى، ولكنه يعد من جملة المسند، لأنه لم يروه إلا عن
صاحب، وقد انفرد الصحابة بتسليم هذا
(4/90)
المعنى لهم وليس لغيرهم، ويذكر عن أنس أنه
قال عن الصحابة: (يروى بعضنا عن بعض، وليس فينا من يكذب) .
37 - باب: قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ) [البقرة 184]
وقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ
نَسَخَتْهَا: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ (إلى) تَشْكُرُونَ) [البقرة 185] . وَقَالَ
ابْنُ أَبِى لَيْلَى: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ:
نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ
أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ
مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِى ذَلِكَ
فَنَسَخَتْهَا: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة:
184] ، فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ. / 45 - فيه: ابْنُ عُمَرَ
قَرَأَ: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) [البقرة: 184] ،
قَالَ: هِىَ مَنْسُوخَةٌ. اختلف العلماء فى تأويل هذه
الآية، فروى عن ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد
أنهم قرءوها: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ (، قال:
الذين يحملونه ولا يطيقونه فدية، فعلى هذا تكون الآية
محكمة غير منسوخة يعنى فى الشيخ والحامل والمرضوع، قال أبو
عبيد: وهو قول حسن، ولكن الناس ليسوا عليه، لأن الذين ثبت
بين اللوحين فى مصاحف أهل الحجاز والشام والعراق) وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ (، ولا تكون الآية على هذا اللفظ
إلا منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس وسلمة بن الأكوع، وابن
عمر، وابن أبى ليلى، وعلقمة، وابن شهاب، فتفرق الناس فى
ناسخ
(4/91)
هذه الآية ومنسوخها على أربع منازل، لكل
واحدة منهن حكم سوى حكم الأخرى، فالفرقة الأولى منهم: وهم
الأصحاء ففرضهم الصيام لا يجزئهم غيره، لزمهم ذلك بالآية
المحكمة، وهى قوله: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . والثانية: هم مخيرون بين
الإفطار والصيام، ثم عليهم القضاء بعد ذلك ولا إطعام
عليهم، وهم المسافرون والمرضى بقوله: (فَمَن كَانَ مِنكُم
مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ) [البقرة: 184] . والثالثة: هم الذين لهم الرخصة فى
الإطعام ولا قضاء عليهم، وهم الشيوخ الذين لا يطيقون
الصيام. والرابعة: هم الذين اختلف العلماء فيهم بين القضاء
والإطعام. وبكل ذلك قد جاء تأويل القرآن، وأفتت به
الفقهاء، فذهب القاسم، وسالم، وربيعة، ومكحول، ومالك، وأبو
ثور إلى أن الشيخ إن استطاع الصوم صام، وإلا فليس عليه شىء
لقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا) [البقرة: 286] إلا أن مالكًا يستحب له الإطعام
عن كل يوم مدا، وحجة هذا القول أن الله تعالى، إنما أوجب
الفدية قبل النسخ على المطيقين دون غيرهم، وخيرهم فيه بين
أن يصوموا بقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ (ثم نسخ ذلك وألزمهم الصوم حتمًا، وسكت عمن لا
يطيق فلم يذكره فى الآية، فصار فرض الصيام زائلاً عنهم كما
زال فرض الزكاة والحج عن المعدمين الذين لا يجدون إليها
سبيلاً، وأبى ذلك أهل العراق، والثورى، وأوجبوا الفدية على
الشيخ، وقالوا: إن الزكاة والحج لا يشبهان الصيام، لأن
الكتاب والسنة فرق بينهما، وذلك أن الله تعالى، جعل من
الصوم
(4/92)
بدلا أوجبه على كل من حيل بينه وبين الصيام
وهو الفدية، كما جعل التيمم بدلا من الطهور واجبًا على كل
من أعوزه الماء، وكما جعل الإيماء بدلا من الركوع والسجود
لمن لا يقدر عليهما، ولم يجعل من الزكاة والحج بدلا لمن لا
يقدر عليهما، وإلى هذا ذهب الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى.
وأما الفرقة الرابعة: فالحوامل والمراضع، وفيهن اختلف
الناس قديمًا وحديثًا، فقال بعض العلماء: إذا ضعفن عن
الصيام وخافت على نفسها وولدها أفطرت وأطعمت عن كل يوم
مسكينًا، فإذا فطمت ولدها قضته، وهو قول مجاهد، وبه قال
الشافعى وأحمد، وقال آخرون: عليهما الإطعام ولا قضاء، وهو
قول ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقال آخرون:
عليهما القضاء ولا إطعام عليهما، وجعلوهما بمنزلة المريض،
وهو قول عطاء، والنخعى، والحسن، والزهرى، وربيعة،
والأوزاعى، وأبى حنيفة، والثورى، وروى ابن عبد الحكم عن
مالك مثله، ذكره ابن القصار، وهو قول أشهب، وفرقة رابعة
فرقت بين الحبلى، والمرضع فقال فى الحبلى: هى بمنزلة
المريض تفطر وتقضى ولا إطعام عليها، والمرضع تفطر وتطعم
وتقضى، هذا قول مالك فى المدونة، وهو قول الليث. قال أبو
عبيد: وكل هؤلاء إنما تأولوا قوله تعالى: (وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (فمن أوجب القضاء
والإطعام معًا ذهب إلى أن الله حكم فى تارك الصوم من عذر
بحكمين، فجعل الفدية فى آية والقضاء فى أخرى، فلما لم يجد
ذكر الحامل والمرضع مسمى فى واحدة منهما جمعهما جميعًا
عليهما احتياطًا لهما وأخذًا
(4/93)
بالثقة، وأما الذين رأوا أن يطعما ولا
يقضيا فإنهم أرادوا أنهما ليستا من السفر ولا من المرضى
الذين فرهم القضاء، ولكنهما ممن كلف الصيام وطوقه وليس
بمطيق، فهم من أهل الفدية لا يلزمهم سواها لقوله تعالى:
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ) [البقرة: 248] ، وهى قراءة ابن عباس وفتياه،
وقد يجوز هذا القول على قراءة من قرأ: (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (أى يطيقونه بجهد ومشقة، ويكون معنى
القراءتين واحدًا. قاله غير أبى عبيد. وأما الذين أوجبوا
عليهما القضاء بلا طعام ذهبوا إلى أن الحمل والرضاع علتان
من العلل، لأنه يخاف فيهما من التلف على الأنفس ما يخاف من
المرض، قال أبو عبيد، وقد وجدنا شاهدًا لهذا القول ودليلا
عليه، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، قال: حدثنى
أبو قلابة، عن أنس بن مالك قال: (أتيت النبى، عليه السلام،
فى إبل لجار لى، أخذت، فوافقته يأكل فدعانى إلى طعامه
فقلت: إنى صائم، قال: ادن أخبرك عن ذلك، إن الله وضع عن
المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع) ، قال أبو
عبيد: فقرن رسول الله الحامل والمرضع بالمسافر، وجعلهما
معًا فى معنى واحد، فصار حكمهما كحكمه، فهل على المسافر
إلا القضاء لا يعدوه إلى غيره.
(4/94)
38 - باب مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ (. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فِى صَوْمِ
الْعَشْرِ: لا يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بصوم بِرَمَضَانَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ
رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ
طَعَامًا، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مُرْسَلا
وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُطْعِمُ، وَلَمْ يَذْكُرِ
اللَّهُ الإطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ: (فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ (. / 46 - فيه: عَائِشَةَ: (كَانَ يَكُونُ
عَلَىَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ
أَقْضِىَ إِلا فِى شَعْبَانَ) ، قَالَ يَحْيَى: الشُّغْلُ
مِنَ النَّبِىِّ، عليه السلام، أَوْ بِالنَّبِىِّ. إنما
حمل عائشة على قضاء رمضان فى شعبان الأخذ بالرخصة
والتوسعة، لأن ما بين رمضان عامها ورمضان العام المقبل وقت
للقضاء، كما أن وقت الصلاة له طرفان، ومثله قوله عليه
السلام: (ليس التفريط فى النوم، إنما التفريط فى اليقظة) ،
على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى، وأجمع أهل
العلم على أن من قضى ما عليه من رمضان فى شعبان بعده أنه
مؤد لفرضه غير مفرط. واختلفوا هل يجوز أن يقضى رمضان
متفرقًا فقال طائفة: لا يقضيه إلا متتابعًا، روى ذلك عن
على بن أبى طالب، وابن عمر، وعائشة، وهو قول الحسن البصرى،
والنخعى، وعروة بن الزبير، وهو قول أهل الظاهر، وقالت
طائفة: يجوز أن يقضى
(4/95)
متفرقًا، روى ذلك عن ابن عباس، وأبى هريرة،
وأنس بن مالك، ومعاذ، وحذيفة، وهو قول جماعة أئمة الأمصار،
قال ابن القصار: وحجة الجماعة ظاهر قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (ولم يخص، فعلى أى وجه قضاه جاز، هذا
مقتضى اللفظ، فإن قيل: فإن عائشة قالت: نزلت) فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (متتابعات، فسقطت متتابعات، قيل: قد
أخبرت أنها ساقطة، فلا حكم لها حتى تثبت القراءة، وهذه حجة
لنا. واختلفوا فى المسافر والمريض إذا فرطا فى قضاء رمضان
حتى جاء رمضان آخر، فروى عن أبى هريرة، وابن عباس أنه يصوم
الذى حصل فيه، فإذا خرج قضى ما كان عليه وعليه الفدية، وهو
قول عطاء، والقاسم، والزهرى، ومالك، والأوزاعى، والثورى،
والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس
عليه إلا القضاء فقط ولا إطعام عليه، وحجة من قال بالإطعام
ما حكاه الطحاوى عن يحيى بن أكثم قال: فتشت عن أقاويل
الصحابة فى هذه المسألة فوجدت عن ستة منهم قالوا: عليه
القضاء والفدية، ولم أجد لهم مخالفًا، فإن قيل: فقد قال
عليه السلام للواطئ فى رمضان: (اقض يومًا مكانه) ، ولم
يذكر له حَدا، قيل: قد قامت الدلالة على الحَدِّ من تأخير
عائشة له إلى شعبان، فعلم أنه الوقت المضيق، فإذا ثبت أن
للقضاء وقتًا يؤدى فيه ويفوت، ثبتت الفدية، لأنه يشبه الحج
الذى يفوت وقته، ألا ترى أن حجة القضاء إذا دخل وقتها
وفاتت وجب الدم، فكذلك إّا فات الصوم وجبت الفدية.
واختلفوا فيما يجب عليه إن لم يصح من مرضه حتى دخل رمضان
(4/96)
المقبل، فقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن
جبير: يصوم الثانى ويطعم عن الأول ولا قضاء عليه، وقال
الحسن، والنخعى، وطاوس، ومالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة،
والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: يصوم الثانى، ويقضى
الأول، ولا فدية عليه، لأنه لم يفرط.
39 - باب الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلاةَ
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ
الْحَقِّ لَتَأْتِى كَثِيرًا عَلَى خِلافِ الرَّأْيِ، فَلا
يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنِ اتِّبَاعِهَا، مِنْ
ذَلِكَ: أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِى الصِّيَامَ، وَلا
تَقْضِى الصَّلاةَ. / 47 - فيه: أَبِو سَعِيدٍ قَالَ
النَّبىُّ، عليه السلام: (أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ
تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ، فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا) .
قال المهلب: هذا الحديث أصل لترك الحائض الصوم والصلاة،
وفيه من الفقه أن للمريض ترك الصيام، وإن كان فيه بعض
القوة إذا كان يدخل عليه المشقة والخوف، ألا ترى أن الحائض
ليست تضعف عن الصيام ضعفًا واحدًا، وإنما يشق عليها بعض
المشقة من أجل نزف دمها، وضعف النفس عند خروج الدم معلوم
ذلك من عادة اليسير فغلبت على كل النساء، وفى جميع
الأحوال، رحمةً من الله، ورعفًا لقليل الحرج وكثيره، وأمرت
بإعادة
(4/97)
الصيام من قول الله تعالى: (فَمَن كَانَ
مِنكُم مَّرِيضًا (ونزف الدم مرض) فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ (، ولم تؤمر بإعادة الصلاة، لأنها أكبر الفرائض
وأكثرها ترددًا، ولما يلزم من المحافظة على وضوئها والقيام
إليها، وإحضار النية للمناجاة، كما شهد الله تعالى لذلك
بقوله: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى
الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45] ، وهى التى حطها الله فى أصل
الفرض من خمسين إلأى خمس، فلو أمرت بإعادة الصلوات لتضاعف
عليها الفرض، إذ المرأة نصف دهرها أو نحوه حائض، فكان
الناس يصلون صلاة واحدة وتصلى هى فى كل صلاة صلاتين،
فتختلف أحوال النساء والرجال، والله أعلم. واختلفوا فى
المرأة تطهر من حيضتها فى بعض النهار، والمسافر يقدم،
والمريض يبرأ، فقال أبو حنيفة والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق:
يلزمهم كلهم الإمساك بقية النهار، وإن قدم المسافر مفطرًا
فلا يطأ زوجته لتعظيم حرمة الشهر، وقال مالك، والشافعى،
وأبو ثور: يأكلون بقية يومهم، وللمسافر المفطر يقدم أن يطأ
زوجته إذا وجدها قد طهرت من حيضتها، واحتج الأولون بقوله
عليه السلام، يوم عاشوراء: (من أكل فليمسك بقية نهاره) .
فأمرهم بالإمساك مع الفطر، وهذا المعنى موجود فى الإقامة
الطارئة فى بعض النهار قال ابن القصار: والحجة لمالك،
والشافعى قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة:
184] ، وهؤلاء قد أفطروا فحكم الإفطار لهم باق، والفطر
رخصة للمسافر، ومن تمام الرخصة ألا يجب عليه أكثر من يوم،
فلو أمرناه أن يمسك بعد ذلك ثم يصوم يومًا آخر مكانه،
(4/98)
كنا قد منعناه من الرخصة، وأوجبنا عليه فى
ترك اليوم أكثر من يوم والله إنما قال: (فَعِدَّةٌ مِّنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ (، وكذلك الحائض كان يلزمها أكثر من يوم،
وإنما يلزم الصيام من يصح منه الصيام الذى لا يجب معه
قضاء، وأما صوم يوم عاشوراء فإنما لزمهم صومه من الوقت
الذى خوطبوا فيه، ولم يجب عليهم الابتداء، لأنهم لم يعلموا
ذلك إلا وقت قيل لهم، وأيضًا فإنهم متطوعون، وأمره
بالإمساك لهم كان مستحبًا، فلا يلزم الاعتراض به.
40 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلاثُونَ رَجُلا
يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ. / 48 - وفيه: عَائِشَةَ أَنَّ
النبى، عليه السلام، قَالَ: (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوم
صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ) . / 49 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا
صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ،
فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى) . وروى عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: (أن امرأة جاءت إلى النبى، عليه السلام،
فَقَالتْ: إِنَّ أُخْتِى مَاتَتْ) . وقَالَ أيضًا: (إِنَّ
أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ) . قَالَ أيضًا:
(إنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا) . اختلف العلماء فيمن عليه صوم من شهر رمضان فمات
قبل أن
(4/99)
يقضيه، فقالت طائفة: جائز أن يصام عن
الميت، وهو قول طاوس، والحسن، والزهرى، وقتادة، وبه قال
أبو ثور، وأهل الظاهر، واحتجوا بهذه الأحاديث التى ذكرها
البخارى. وقال أحمد بن حنبل: يصوم عنه وليّه فى النذر،
ويطعم عنه فى قضاء رمضان، وذكر ابن وهب عن الليث أنه يصوم
عنه وليه فى النذر، وقال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة: لا
يصوم أحدٌ عن أحدٍ، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى،
وحجة هؤلاء أن ابن عباس لم يخالف بفتواه ما رواه إلا لنسخٍ
علمه، وكذلك روى عبد العزيز بن رفيع، عن عمرة، عن عائشة
أنها قالت: (يطعم عنه فى قضاء رمضان ولا يصام عنه) ولهذا
قال أحمد بن حنبل: إن معنى حديث ابن عباس فى النذر دون
قضاء رمضان من أجل فتيا ابن عباس، وقد ذكر ذلك البخارى فى
بعض طرق الحديث فى هذا الباب، وقال أبو داود فى حديث
عائشة: معناه فى النذر. قال ابن القصار: ومعنى الأحاديث
التى احتجوا بها عندنا أن يفعل عنه وليه ما يقوم مقام
الصيام، وهو الإطعام، ويستحب لهم فيصيرون كأنهم صاموا عنه.
قال المهلب: ولو جاز أن يقضى عمل البدن عن ميت قد فاته
لجاز أن يصلى الناس عن الناس، ويؤمنون عنهم ولو كان سائغًا
لكان رسول الله أحرص الناس أن يؤمن عن عمه أبى طالب لحرصه
على إدخاله فى الإسلام، والإيمان من عمل القلب،
(4/100)
والقلب عضو من أعضاء البدن اللازم لها
الأعمال، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يؤمن أحد عن أحد، ولا
يصلى أحد عن أحد. واختلفوا فى الصوم والحج، فيجب أن يرد
حكم ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه، قال ابن القصار: ولما
لم يجز الصيام عن الشيخ الكبير فى حياته كان بعد الموت
أولى من أن لا يجوز، وذهب الكوفيون والشافعى، وأحمد،
وإسحاق، وأبو ثور إلى أنه واجب أن يطعم عنه من رأس ماله
وإن لم يوص، إلا أبا حنيفة فإنه قال: يُسْقِطُ عنه ذلك
الموت، وقال مالك: الإطعام غير واجب على الورثة إلا أن
يوصى بذلك إليهم فيكون فى ثلثه، فإن قال من أوجب الإطعام
أن النبى، عليه السلام، شبهه بالدين قيل: هو حجة لنا، لأنه
قال: (أفأقضيه عنها؟) ونحن نقول: قضاؤه أن يطعم عن كل يوم
مسكينًا. وقوله: (أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟) ،
إنما سأله هل كنت تفعل ذلك تطوعًا، لأنه لا يجب عليه أن
يقضى دين أمه إذا لم يكنه لها تركة.
41 - باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ
وَأَفْطَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ حِينَ غَابَ قُرْصُ
الشَّمْسِ. / 50 - فيه: عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عليه السلام:
(إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ
النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ
أَفْطَرَ الصَّائِمُ) . / 51 - وفيه: ابْنِ أَبِى أَوْفَى:
كُنَّا مَعَ النبى فِى سَفَرٍ، وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا
غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ: (يَا
فُلانُ، قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ،
(4/101)
لَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَها ثلاثًا، فَنَزَلَ
فَجَدَحَ لَهُ، فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ
اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ
الصَّائِمُ) . وترجم لحديث ابن أبى أوفى قال: يفطر بما
تيسر بالماء وغيره. وقال المؤلف: أجمع العلماء أنه إذا
غربت الشمس فقد حل فطر الصائم، وذلك آخر النهار وأول أوقات
الليل، قال الطبرى: إن قال قائل: قوله: (فقد أفطر الصائم)
أَعَزْمٌ من النبى على الصائم أن يفطر عند إقبال الليل أم
ندب؟ قيل: هو عزم عليه أن يكون معتقدًا أنه مفطر وأن وقت
صومه قد انقضى، غير عزم عليه أن يأكل أو يشرب. فإن قال
قائل: وما الدليل على ذلك؟ قيل: إجماع الجميع من أهل العلم
على أن المرء قد يكون مفطرًا بترك العزم على الصوم من
الليل مع تركه نية الصوم نهاره أجمع، وإن لم يأكل ولم
يشرب، وكان معلومًا بذلك أن اعتقاد المعتقد بعد انقضاء وقت
الصوم للإفطار وترك الصوم. وإن لم يفعل شيئًا مما أبيح
للمفطر فعله، موجب له اسم المفطر، إذا كان ذلك كذلك، وكان
الجميع مجمعين على أن الأكل والشرب غير فرض على الصائم فى
ذلك الوقت مع إجماعهم أن وقت الصوم قد انقضى بمجىء الليل
وإدبار النهار، كان بينا أن معنى أمره بالإفطار فى تلك
الحال إنما هو أمر عزم منه على ما وصفنا. فإن قيل: فإذا
كان كما ذكرت من أنه معنى به العزم على اعتقاد الإفطار
وترك العزم على الصوم، فما أنت قائل فى ما روى عنه عليه
السلام أنه كان يواصل؟ قيل: كان وصاله من السحر إلى السحر،
(4/102)
ولعله كان ذلك توخيًا منه للنشاط على قيام
الليل، فإنه كان إذا دخل العشر شد مئزره، ورفع فراشه، لأن
الطعام مثقل للبدن، مفتر عن الصلاة، مجتلب للنوم، فكان
يؤخر الإصابة من الطعام إلى السحر، إذ كان الله قد أعطاه
من القوة على تأخير ذلك إلى ذلك الوقت والصبر عنه ما لم
يعط غيره من أمته، وقد بين لهم ذلك بقوله: (إنى لست
كهيئتكم إنى أظل يطعمنى ربى ويسقينى) . فأما الصوم ليلاً
فلا معنى له، لأنه غير وقت للصوم، لقوله: (إذا غربت الشمس
فقد أفطر الصائم) ، أى حل وقت فطره على ما تقدم، وسيأتى فى
باب (الوصال) من فعله من السلف، ومن كرهه، وتمام الكلام
فيه، إن شاء الله. قال المؤلف: وقوله عليه السلام: (فاجدح
لنا، قال: يا رسول الله لو أمسيت، ثلاثًا) ، فيه من الفقه
أن الناس سراع إلى إنكار ما يجهلون، كما فعل خادم النبى،
عليه السلام، حين توقف عن إنقاذ أمره لما جهله من الدليل
الذى علمه النبى، عليه السلام، وفيه أن الجاهل بالشىء
ينبغى أن يسمح له فيه المرة والثانية، وتكون الثالثة فاصلة
بينه وبين معلمه، كما فعل النبى، عليه السلام، حين دعا
عليه بالويل لكثرة التغيير، وكذلك فعل الخضر بموسى فى
الثالثة قال له: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ)
[الكهف: 78] ، وذلك كان شرط موسى لنفسه بقوله: (إِن
سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى)
[الكهف: 76] .
(4/103)
42 - باب تَعْجِيلِ الإفْطَارِ
/ 52 - فيه: سَهْلِ، قَالَ عليه السلام: (لا يَزَالُ
النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ) . / 53 -
وفيه: ابْنِ أَبِى أَوْفَى، قَالَ: (كُنْتُ مَعَ
النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَصَامَ حَتَّى
أَمْسَى، قَالَ لِرَجُلٍ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ،
قَالَ: لَوِ انْتَظَرْتَ حَتَّى نُمْسِيَ، قَالَ:
(فانْزِلْ فَاجْدَحْ لِى، إِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ قَدْ
أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) .
قال المهلب: إنما حض عليه السلام على تعجيل الفطر لئلا
يزاد فى النهار ساعة من الليل، فيكون ذلك زيادة فى فروض
الله، ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى له على الصيام، وقد روى
محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، قال: قال رسول
الله: (لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر لأن
اليهود يؤخرون) . وقال عمرو بن ميمون الأودى: كان أصحاب
محمد أسرع الناس فطرًا، وأبطأهم سحورًا. وقال سعيد بن
المسيب: كتب عمر إلى أمراء الأجناد: لا تكونوا مسبوقين
بفطركم، ولا منتظرين لصلاتكم اشتباك النجوم، وروى عبد
الرزاق عن ابن جريج، قال: (سمعت عروة بن عياض يخبر عبد
العزيز بن عبد الله أنه يؤمر أن يفطر قبل أن يصلى ولو على
حسوة) . وروى أيضًا عبد الرزاق عن صاحب له، عن عوف، عن أبى
رجاء قال: (كنت أشهد ابن عباس عند الفطر فى رمضان، فكان
يوضع له طعامه، ثم يأمر مراقبًا يراقب الشمس، فإذا قال: قد
وجبت، قال: كلوا، ثم قال: كنا نفطر قبل الصلاة) ، وليس ما
رواه مالك فى الموطأ، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن:
(أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل
الأسود قبل أن يفطرا، ويفطران بعد الصلاة) ،
(4/104)
بمخالف لما روى من تعجيل الفطر، لأنهما
إنما كانا يراعيان أمر الصلاة، وكانا يعجلان الفطر بعدها
من غير كثرة تنقل، لما جاء من تعجيل الفطر، ذكره الداودى.
43 - باب إِذَا أَفْطَرَ فِى رَمَضَانَ ثُمَّ طَلَعَتِ
الشَّمْسُ
/ 54 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: (أَفْطَرْنَا عَلَى
عَهْدِ رسول الله يَوْمَ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ
الشَّمْسُ) ، قِيلَ لِهِشَامٍ بن عروة: فَأُمِرُوا
بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: بُدَّ مِنْ القَضَاءٍ؟ وَقَالَ
مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ هِشَامًا، لا أَدْرِى أَقَضَوْا أَمْ
لا. جمهور العلماء يقولون بالقضاء فى هذه المسألة، وقد روى
ذلك عن عمر بن الخطاب من رواية أهل الحجاز وأهل العراق،
فأما رواية أهل الحجاز، فروى ابن جريج، عن زيد بن أسلم، عن
أبيه قال: (أفطر الناس فى شهر رمضان فى يوم غيم ثم طلعت
الشمس، فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا، نقضى يومًا) ،
هكذا قال ابن جريج عن زيد بن أسلم، عن أبيه، وهو متصل.
ورواية مالك فى الموطأ عن زيد بن أسلم، عن أخيه أن عمر.
وهى مرسلة، لأن خالد ابن أسلم أخا زيد لم يدرك عمر، وأما
رواية أهل العراق، فروى الثورى، عن جبلة بن سحيم بن حنظلة،
عن أبيه أنه شهد عمر، فذكر القصة، وقال: (يا هؤلاء، من كان
أفطر فإن قضاء يوم يسير) ، وجاء رواية أخرى عن عمر أنه
قال: (لا قضاء عليه) . روى معمر، عن الأعمش، عن زيد بن
أسلم قال: ' أفطر الناس في زمن عمر، فطلعت، فطلعت الشمس
فشق ذلك على) الناس فقالوا:
(4/105)
نقضي هذا اليوم؟ [فقال عمر] : ولم نقضي؟
والله ما تجانفنا الإثم '. والرواية الأولى أولى بالصواب،
وقد روى القضاء عن ابن عباس ومعاوية، وهو قول عطاء،
ومجاهد، والزهرى، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى،
وأحمد، وأبى ثور، وقال الحسن البصرى: لا قضاء عليه
كالناسى، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وحجة من أوجب القضاء
إجماع العلماء أنه لو غم هلال رمضان فأفطروا، ثم قامت
البينة برؤية الهلال أن عليهم القضاء بعد إتمام صيام
يومهم، وقال المهلب: ومن حجتهم أيضًا قول الله تعالى:
(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة:
187] ، ومن أفطر ثم طلعت الشمس فلم يتم الصيام إلى الليل
كما أمره الله فعليه القضاء من أيام أخر بنص كتاب الله.
قال ابن القصار: يحتمل ما روى عن عمر أنه قال: (لا نقضى،
والله ما تجانفنا الإثم) ، أن يكون ترك القضاء إذا لم يعلم
ووقع الفطر على الشك، وتكون الرواية عنه بثبوت القضاء إذا
وقع الفطر فى النهار بغير شك. قال المؤلف: وقد ذكرنا فى
مسألة الذى يأكل وهو يشك فى الفجر من جعله بمنزلة من أكل
وهو يشك فى غروب الشمس، ومن فرق بين ذلك فى باب قوله
تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة: 187] الآية، وفرق
ابن حبيب بين من أكل وهو يشك فى الفجر وبين من أكل وهو يشك
فى غروب الشمس، وأوجب القضاء للشاك فى غروب الشمس، واحتج
بأن الأصل بقاء النهار، فلا يأكل حتى يوقن بالغروب، والأصل
فى الفجر بقاء الليل، فلا يمسك عن الأكل حتى يوقن بالنهار،
وبهذا قال المخالفون لمالك فى هذا الباب.
(4/106)
44 - باب صَوْمِ الصِّبْيَانِ
وَقَالَ عُمَرُ لِنَشْوَانٍ فِى رَمَضَانَ: وَيْلَكَ،
صِبْيَانُنَا صِيَامٌ، فَضَرَبَهُ. / 55 - فيه:
الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: أَرْسَلَ
النَّبِىُّ، عليه السلام، غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى
الأنْصَارِ: (مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ
بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ،
قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ
صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ
الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ
أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإفْطَارِ) .
أجمع العلماء أنه لا تلزم العبادات والفرائض إلا عند
البلوغ، إلا أن كثيرًا من العلماء استحبوا أن يدرب الصبيان
على الصيام والعبادات رجاء بركتها لهم، وليعتادوها، وتسهل
عليهم إذا لزمتهم، قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه أن
من حمل صبيا على طاعة الله ودربه على التزام شرائعه فإنه
مأجور بذلك، وأن المشقة التى تلزم الصبيان فى ذلك غير
محاسب بها من حملهم عليها. قال ابن المنذر: واختلفوا فى
الوقت الذى يؤمر فيه الصبيان بالصيام، فكان الحسن، وابن
سيرين، وعروة، وعطاء، والزهرى، وقتادة، والشافعى يقولون:
يؤمر به إذا أطاقه، وقال الأوزاعى: إذا أطاق صوم ثلاثة
أيام تباعًا لا يخور فيهن ولا يضعف حمل على صوم رمضان،
واحتج بحديث ابن أبى لبيبة عن أبيه، عن جده، عن النبى،
عليه السلام، أنه قال: (إذا صام الغلام ثلاثة أيام
(4/107)
متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان) ،
وقال إسحاق: إذا بلغ ثنتى عشرة سنة أحببت له أن يتكلف
الصيام للعادة، وقال ابن الماجشون: إذا أطاقوا الصيام
ألزموه، فإن أفطروا لغير عذر ولا علة فعليهم القضاء. وقال
أشهب: يستحب لهم إذا أطاقوه.
45 - باب الْوِصَالِ وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ فِى اللَّيْلِ
صِيَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة 187] وَنَهَى النَّبِىُّ، عليه
السلام، رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَمَا
يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ
. / 56 - فيه: أَنَسٍ: قَالَ عليه السلام: (لا
تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: لَسْتُ
كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّى أُطْعَمُ وَأُسْقَى) ، أَوْ
إِنِّى أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى. / 57 - وفيه: أَبو
سَعِيدٍ: قَالَ عليه السلام: (لا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ
أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ.
. .) الحديث. وترجم له باب الوصال إلى السحر، اختلف
العلماء فى تأويل أحاديث الوصال، فقال قائلون: إنما هى
رسول الله عن الوصال رحمة لأمته وإبقاء عليهم، فمن قدر
عليه فلا حرج، لأنه لله تعالى، يدع طعامه وشرابه، وقد واصل
جماعة من السلف، ذكر الطبرى بإسناده عن ابن الزبير أنه كان
يواصل سبعة أيام حتى تيبس أمعاؤه، فإذا كان اليوم السابع
أتى بسمن و [. . . . . . .] فتحساه
(4/108)
حتى يفتق الأمعاء، وعن عبد الرحمن بن أبى
نعم أنه كان لا يفطر فى رمضان كله إلا مرتين، وحكى مالك عن
عامر بن عبد الله بن الزبير: (أنه كان يواصل ليلة ست عشرة
وليلة سبع عشرة من رمضان، لا يفرق بينهما، فقيل له: ماذا
تجده يقوتك فى وصالك؟ قال: السمن أشربه، أجده يبل عروقى،
فأما الماء فإنه يخرج من جسدى) . وأجاز ابن وهب، وأحمد بن
حنبل، وإسحاق الوصال من سحر إلأى سحر، واحتجوا بحديث أبى
سعيد أن النبى، عليه السلام، قال: (لا تواوصلوا، وأيكم
أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) . فأذن فى ذلك لمن أطاقه
من أمته على النحو الذى يجوز، وذلك تأخير الأكل إلى السحر،
ونهى عنه من كان له غير مطيق بقوله: (فاكلفوا من العمل ما
تطيقون) بعد أن بين لهم أنه قد أعطى من القوة على الوصال
ما لم يعط غيره بقوله: (إنى لست كهيئتكم، إنى أبيت يطعمنى
ربى ويسقينى) . فأما الصوم ليلا فلا معنى له، لأن ذلك غير
وقت للصوم، كما شعبان غير وقت لصوم شهر رمضان، وكذلك لا
معنى لتأخير الأكل إلى السحر لمن كان صائمًا فى رمضان إذا
لم يكن تأخيره ذلك طلبًا للنشاط على قيام الليل، لأن فاعل
ذلك إن لم يفعله لما ذكرناه فإنه مجيع نفسه فى غير ما فيه
لله رضا، فلا معنى لتركه الأكل بعد مغيب الشمس لقوله عليه
السلام: (إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم) ، وكره مالك،
والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وجماعة الوصال على كل حال
لمن قدر عليه، ولم يجيزوه لأحد، واحتجوا أنه عليه السلام
نهى عنه وقال: (إذا نهيتكم عن شىء فانتهوا) . قالوا: ولما
(4/109)
قال: (لست كهيئتكم) ، أعلمهم أن الوصال لا
يجوز لغيره، واحتجوا بقوله عليه السلام: (إذا غربت الشمس
فقد أفطر الصائم) . قالوا: فهذا يدل أن الوصال للنبى، عليه
السلام، خصوص، وأن المواصل لا ينتفع بوصاله، لأن الليل ليس
موضعًا للصوم بدليل هذا الحديث، وبقوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . قال الطبرى:
وأما ما روى عن بعض الصحابة وغيرهم من تركهم الأكل الأيام
ذوات العدد ليلاً ونهارًا، فإن ذلك كان منهم على أنحاء
شتى، فمنهم من كان ذلك منه لقدرته عليه، فيصرف فطره، إذ لم
يكن يمنعه تركه من أداء فرائض الله الواجبة عليه إلى أهل
الفقر والحاجة، طلب ثواب الله وابتغاء وجهه، مثل ما روى عن
الحسن أنه قال: لقد أدركنا أقوامًا، وصحبنا طوائف، إن
أحدهم يمسى وما عنده من العشاء إلا قدر ما يكفيه، ولو شاء
لأتى عليه، فيقول: ما أنا بآكله حتى أجعل لله منه، ومنهم
من كان يفعله استغناء عنه إذا كانت نفسه قد مرنت عليه
واعتادته، كما حدثنى أبو كريب عن أبى بكر بن عياش، عن
الأعمش، عن إبراهيم التيمى قال: ربما لبثت ثلاثين يومًا ما
أطعم من غير صوم إلا الحبة، وما يمنعنى ذلك من حوائجى، قال
الأعمش: وكان إبراهيم التيمى يمكث شهرين لا يأكل، ولكنه
كان يشرب شربة نبيذ، ومنهم من كان يفعله منعًا لنفسه
شهوتها ما لم تَدْعُهُ إلأيه الضرورة، ولا خاف العجز عن
أداء الواجب لله عليه، إرادة منه قهرها، وحملها على
الأفضل، كالذى روينا عن مجاهد أنه قال: (لو أكلت كل ما
أشتهى ما سويت حشفة) . فما روى عن السلف أنهم كانوا
يواصلون الأيام الكثيرة فإنه على بعض هذه الوجوه التى
ذكرت، لا أنه كان يصوم الليل، أو على أنه
(4/110)
كان يرى أن تركه الأكل والشرب فيه كصوم
النهار ولو كان ذلك صومًا، كان لمن شاء أن يفرد الليل
بالصوم دون النهار، والنهار دون الليل ويقرنهما إذا شاء،
وفى إجماع من تقدم وتأخر ممن أجاز الوصال، وممن كرهه، على
أن إفراد الليل بالصوم إذا لم يتقدمه صوم نهار تلك الليلة
غير جائز، أَدَلُّ الدليل على أن صومه غير جائز، وإن كان
تقدمه صوم نهار تلك الليلة. وقوله: (إنى أبيت أطعم وأسقى)
، فيه تأويلان: أحدهما: على ظاهر الحديث يطعمه الله
ويسقيه. والثانى: على الاستعارة. والمعنى أن الله تعالى،
يرزقه قوة على الصيام كقوة من أكل وشرب، والدليل على صحة
هذا القول الآخر أنه لو أطعم وأسقى على الحقيقة لم يكن
مواصلاً، ولكان مفطرًا.
46 - باب التَّنْكِيلِ لِمَنْ أَكْثَرَ الْوِصَالَ
رَوَاهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام. / 58 - فيه:
أَبَو هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنِ
الْوِصَالِ فِى الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: (وَأَيُّكُمْ مِثْلِى، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى
رَبِّى وَيَسْقِينِ) ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا
عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا،
ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: (لَوْ تَأَخَّرَ
لَزِدْتُكُمْ) ، كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ
يَنْتَهُوا. قال المهلب: لما نهاهم عليه السلام عن الوصال
فلم ينتهوا، بين لهم أنه مخصوص بالقوة بقوله: (إنى لست
كهيئتكم) ، لأن الله يطعمه ويسقيه، فأرادوا تحمل المشقة فى
الاستنان به، والاقتداء
(4/111)
به، فواصل بهم كالمنكل لهم على تركهم ما
أمرهم به من الرخصة، فبان بهذا أن الوصال ليس بحرام، لأنه
لو كان حرامًا ما واصل بهم، ولا أتى معهم الحرام الذى
نهاهم عنه.
47 - باب مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِى
التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ
أَوْفَقَ لَهُ
/ 59 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى النَّبِىُّ،
عليه السلام، بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ،
فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ
الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟
قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ
فِى النساء فِى الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:
فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّى صَائِمٌ،
قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ:
فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ
ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ
اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا،
قَالَ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا،
وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأهْلِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى
النَّبِىَّ، عليه السلام، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:
(صَدَقَ سَلْمَانُ) . اختلف العلماء فيمن دخل فى صلاة أو
صيام تطوع فقطعه عامدًا، فروى عن على بن أبى طالب، وابن
عباس، وجابر بن عبد الله نه لا قضاء عليه، وبه قال الثورى،
والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث أبى جحيفة وقالوا:
ألا ترى سلمان لما أمر بالفطر
(4/112)
جوزه النبى، عليه السلام، وجعله أفقه منه،
واحتج ابن عباس لذلك فقال: (مثل ذلك كمثل رجل طاف سبعًا ثم
قطعه فلم يوفه، فله ما احتسب، أو صلى ركعة ثم انصرف ولم
يصل أخرى، فله ما احتسب، أو ذهب بمال يتصدق به فرجع ولم
يتصدق، أو تصدق ببعضه وأمسك بعضًا) ، فكره ابن عمر ذلك
وقال: (المفطر متعمدًا فى صوم التطوع ذلك اللاعب بدينه) ،
وكره النخعى، والحسن البصرى، ومكحول الفطر فى التطوع،
وقالوا: يقضيه، وذكر ابن القصار عن مالك أمنه من أفطر فى
التطوع لغير عذر فعليه القضاء، وإن أفطره لعذر فلا قضاء
عليه، وقال أ [وحنيفة وأصحابه: عليه القضاء وإن أفطر لعذر.
واحتج مالك لمذهبه بما رواه فى (الموطأ) ، عن ابن شهاب أن
عائشة، وحفصة زوجى النبى، عليه السلام، أصبحتا صائمتين
متطوعتين، فأهدى لهما طعام، فأفطرتا عليه، فدخل عليهما
رسول الله فأخبرتاه بذلك فقال رسول الله: (اقضيا مكانه
يومًا آخر) . فكان معنى هذا الحديث عند مالك أنهما أفطرتا
بغير عذر، فلذلك أمرهما بالقضاء، ومن حجته أيضًا قوله
تعالى: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] ، ومن
أفطر متعمدًا بعد دخوله فى الصوم فقد أبطل عمله، وقوله
تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) [البقرة:
196] ، وأجمع المسلمون أن المفسد لحجة التطوع وعمرته أن
عليه القضاء، فالقياس على هذا الإجماع يوجب القضاء على
مفسد صومه عامدًا، فإن قيل: فقد روى عن النبى، عليه
السلام، أنه قال: (اقضيا إن شئتما يومًا مكانه) قيل: لا
يصح، ولو صح لكان معناه أنهما أفطرتا لعذر، فقال لهما:
(اقضيا إن شئتما) . وأفطرتا فى حال أخرى لغير
(4/113)
عذر، فأمرهما بالقضاء حتى لا تتنافى
الأحاديث، عن ابن القصار. ومن حجة أبى حنيفة ظاهر حديث
مالك أن النبى، عليه السلام، قال لعائشة وحفصة: (اقضيا
يومًا مكانه) ، ولم يشترط ذلك لعذر ولا غيره، فدل أنه موجب
للقضاء فى جميع الأحوال. قال الطحاوى: والنظر فى ذلك أنا
رأينا أشياء تجب على العباد بإيجابهم لها على أنفسهم، منها
الصلاة والصدقة والحج والعمرة والصيام، فكان من أوجب شيئًا
من ذلك على نفسه فقال: لله علىّ كذا، وجب الوفاء عليه
بذلك، وكان من دخل فى حج أو عمرة تطوعًا ثم أراد الخروج
منهما لم يكن له ذلك، وكان بدخوله فيهما فى حكم من قال:
لله علىّ حج أو عمرة، فعليه الوفاء بهما، وإن خرج منهما
بعذر أو بغير عذر فعليه قضاؤهما، والصلاة والصيام فى النظر
كذلك. قال المهلب: وفى حديث أبى جحيفة حُجة لمالك أن من
أفطر لعذر أنه لا قضاء عليه، لأن فطر أبى الدرداء إنما كان
لوجه من أوجه الاجتهاد فى السنة وسلوك السبيل الوسطى، ولم
يكن إفطاره منتهكًا ولا متهاونًا فيجب عليه القضاء، وإنما
يجب القضاء على من أفطر متهاونًا بحرمة الصيام لغير عذر
ولا وجه من أوجه الصواب. ألا ترى أن ابن عمر لم يجد ما
يصفه به إلا أن قال: ذلك المتلاعب بدينه، فإذا لم يكن
متلاعبًا وكان لإفطاره وجه لم يكن عليه قضاء، وفيه النهى
عن التعمق والغلو فى العبادة. واحتج الشافعى على من احتج
عليه بالإجماع فى الحج التطوع والعمرة أنه ليس لأحد الخروج
منهما، ومن خرج منهما قضاهما، فإن الصيام قياس على ذلك،
فقال: الفرق بين ذلك أن من أفسد
(4/114)
صلاته أو صيامه أو طوافه كان عاصيًا لو
تمادى فى ذلك فاسدًا، وهو فى الحج مأمور بالتمادى فيه
فاسدًا، ولا يجوز له الخروج منه حتى يتمه على فساده، ثم
يقضيه، وليس كذلك الصوم والصلاة.
48 - باب صَوْمِ شَعْبَانَ
/ 60 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ عليه السلام،
يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى
نَقُولَ لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ النبى اسْتَكْمَلَ
صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ
صِيَامًا مِنْهُ فِى شَعْبَانَ) . وَقَالَتْ أيضًا: (لَمْ
يَكُنِ النَّبِىُّ، عليه السلام، يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ
مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ
كُلَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا
تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا.
. .) الحديث. قال المهلب: فيه من الفقه أن أعمال التطوع
ليست منوطة بأوقات معلومة، وإنما هى على قدر الإرادة لها
والنشاط فيها، وقد روى فى بعض الحديث أن هذا الصيام الذى
كان يصوم فى شعبان كان لأنه عليه السلام يلتزم صوم ثلاثة
أيام من كل شهر كما قال لعبد الله بن عمرو، لأن الحسنة
بعشر أمثالها، فذلك صيام الدهر فكان يلتزم ذلك، فربما شغل
عن الصيام أشهرًا فيجمع ذلك كله فى شعبان ليدركه قبل صيام
الفرض، وفيه وجه آخر، ذكر الطحاوى، وابن أبى شيبة من حديث
يزيد بن هارون، عن صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس، قال:
سئل رسول الله أى الصوم أفضل؟ قال: (صوم شعبان تعظيمًا
لرمضان) .
(4/115)
وفيه وجه آخر، ذكر الطحاوى من حديث ابن
مهدى، قال: حدثنا ثابت بن قيس أبو الغصن، عن أبى سعيد
المقبرى، عن أسامة بن زيد، قال: كان رسول الله يصوم يومين
من كل جمعة لا يدعهما: يوم الاثنين والخمس، فقال عليه
السلام: (هذان يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين،
فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم) ، قال: وما رأيت رسول الله
يصوم من شهر ما يصوم من شعبان، فسألته عن ذلك. فقال: (هو
شهر ترفع فيه الأعمال لرب العالمين، فأحب أن يرفع عملى
وأنا صائم) . وقول عائشة فى حديث يحيى عن أبى سلمة بأنه
كان يصوم شعبان كله، فليس على ظاهره وعمومه، والمراد أكثره
لا جميعه، وقد جاء ذلك عنها مفسرًا، روى ابن وهب عن أسامة
بن زيد، قال: حدثنى محمد بن إبراهيم، عن أبى سلمة، قال:
(سألت عائشة عن صيام رسول الله فقالت كان يصوم حتى نقول لا
يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان يصوم شعبان، أو عامة
شعبان) . وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن ابن أبى لبيد،
عن أبى سلمة، قال: سألت عائشة عن صيام رسول الله. . .)
فذكرت الحديث، وقالت: (ما رأيت رسول الله أكثر صيامًا منه
فى شعبان، فإنه كان يصومه كله إلا قليلاً) . وهذه الآثار
تشهد لصحتها رواية أبى النضر عن أبى سلمة، عن عائشة: (أنه
ما استكمل صيام شهر قط إلا رمضان) ، ومنها حديث ابن عباس
الذى فى الباب بعد هذا، فهى أولى من رواية يحيى عن أبى
سلمة. وقوله: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) ، فإن الله
تعالى لا يجوز
(4/116)
عليه الملل، ولا هو من صفاته، وإنما سمى
المجازاة باسم الفعل، وهذا هو أعلى طبقات الكلام، وقد تقدم
بيان هذا بزيادة فيه فى كتاب الإيمان فى باب: أحب الدين
إلى الله أدومه، وفى آخر كتاب الصلاة فى باب: ما يكره من
التشديد فى العبادة.
49 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النَّبِىِّ، عليه
السلام، وَإِفْطَارِهِ
/ 61 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (مَا صَامَ
النَّبِىُّ، عليه السلام، شَهْرًا كَامِلا قَطُّ غَيْرَ
رَمَضَانَ، وَيَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لا
وَاللَّهِ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ: لا
وَاللَّهِ لا يَصُومُ) . / 62 - وفيه: أَنَس: (كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ
أَلا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَلا
يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لا تَشَاءُ تَرَاهُ مِنَ
اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلا رَأَيْتَهُ، وَلا نَائِمًا إِلا
رَأَيْتَهُ. . .) الحديث. قال المهلب: فى هذه الأحاديث من
الفقه أن النوافل ليس لها أوقات معلومة، وإنما يراعى فيها
وقت النشاط لها والحرص عليها. وفيه أن النبى، عليه السلام،
لم يلزم سرد الصيام الدهر كله، ولا سرد الصلاة الليل كله،
رفقًا بنفسه وأمته لئلا يقتدى به فى ذلك فيجحف، وإن كان قد
أُعطى عليه السلام من القوة فى أمر الله ما لو التزم الصعب
منه لم ينقطع عنه فركب من العبادة الطريقة الوسطى، فصام
وأفطر، وقام ونام، وبهذا أوصى عبد الله بن عمرو حين أراد
التشديد على نفسه فى العبادة فقال: (إنك لا تستطيع ذلك،
فصم وأفطر، وقم ونم) ، فكان إذ كبر يقول: يا ليتنى قبلت
رخصة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) .
(4/117)
وقوله: (ما مست حريرة ألين من كف رسول
الله) . فهذا يدل على كمال فضائل رسول الله خَلْقًا
وخُلقًا، وأما طيب رائحته فإنما طيبها الله لمباشرته
الملائكة ومناجاته لهم، وقول ابن عباس: (إن النبى، عليه
السلام، ما صام شهرًا كاملا قط غير رمضان) ، يشهد لحديث
أبى النضر عن أبى سلمة، عن عائشة بالصحة، وهما مبيِّنان
لرواية يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة، عن عائشة (أنه عليه
السلام كان يصوم شعبان كله) ، أن المراد بذلك أكثره على ما
جاء فى حديث محمد بن إبراهيم، وابن أبى لبيد جميعًا عن أبى
سلمة المذكورين فى الباب قبل هذا.
50 - باب حَقِّ الضَّيْفِ فِى الصَّوْمِ
/ 63 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
قَالَ: (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ. . .) فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ إِلىَ قوله: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا. . .) إِلى آخره. وقد جاء عن النبى، عليه السلام،
إكرام الضيف وبره، وذلك من سنن المرسلين، ألا ترى ما صنع
إبراهيم بضيفه حين جاءهم بعجل سمين، وقال عليه السلام: (من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، ومن إكرام
الضيف أن تأكل معه، ولا توحشه بأن يأكل وحده، وهو معنى
قوله عليه السلام: (إن لضيفك عليك حقًا) ، يريد أن تطعمه
أفضل ما عندك، وتأكل معه، ألا ترى أن أبا
(4/118)
الدرداء كان صائمًا فزاره سلمان، فلما قرب
إلأيه الطعام قال: لا آكل حتى تأكل، فأفطر أبو الدرداء من
أجله وأكل معه. والزور: الضيف، والرجل يأتيه زائرًا الواحد
والاثنان والثلاثة. والمذكر والمؤنث فى ذلك بلفظ واحد،
يقال: هذا رجل زور، ورجلان زور، وقوم زور، فيوحد فى كل
موضع، لأنه مصدر وضع موضع الأسماء، مثل ذلك هم قوم صوم
وفطر وعدل فى أن المذكر والمؤنث بلفظ واحد.
51 - باب حَقِّ الْجِسْمِ فِى الصَّوْمِ
/ 64 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو، قَالَ لِى
رَسُولُ اللَّهِ: (يَا عَبْدَاللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ
أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟
فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَلا
تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ
لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ
لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ
تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ
بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِذَّا ذَلِكَ
صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ) ، فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ
عَلَىَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَجِدُ
قُوَّةً، قَالَ: (فَصُمْ صِيَامَ أَخْىِ دَاوُدَ، وَلا
تَزِدْ عَلَيْهِ) ، قُلْتُ: وَمَا صِيَامُ دَاوُدَ نَبِىِّ
اللَّهِ؟ قَالَ: (نِصْفَ الدَّهْرِ) ، فَكَانَ
عَبْدُاللَّهِ يَقُولُ: بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِى
قَبِلْتُ رُخْصَةَ رسول الله) . قال المهلب: وحق الجسم أن
يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل، لأنه إذا أجهد نفسه
قطعها عن العبادة وفترت، وقد جاء فى
(4/119)
الحديث (أن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا
أبقى) ، وقال عليه السلام: (أحب العمل إلى الله ما داوم
عليه صاحبه وإِنْ قَلَّ) ، وقال: (اكلفوا من العمل ما
تطيقون) ، فنهى عليه السلام عن التعمق فى العبادة وإجهاد
النفس فى العمل خشية الانقطاع، ومتى دخل أحد فى شىء من
العبادة لم يصلح له الانصراف عنها. وقد ذم الله من فعل ذلك
بقوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا)
[الحديد: 27] الآية، فوبخهم على ترك التمادى فيما دخلوا
فيه، ولهذا قال عبد الله بن عمرو حين ضعف عن القيام بما
كان التزمه: (ليتنى قبلت رخصة رسول الله) .
52 - باب صَوْمِ الدَّهْرِ
/ 65 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: أُخْبِرَ رَسُولُ
اللَّهِ أَنِّى أَقُولُ: وَاللَّهِ لأصُومَنَّ النَّهَارَ،
وَلأقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ
قُلْتُهُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى، قَالَ: (فَإِنَّكَ لا
تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ،
وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ
الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ
صِيَامِ الدَّهْرِ) ، قُلْتُ: فَإِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ
مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ
يَوْمَيْنِ) ، قُلْتُ: إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ
ذَلِكَ، قَالَ: (فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا،
فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ) ،
فَقُلْتُ: إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ
عليه السلام: (لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) .
(4/120)
قال المهلب: فيه من الفقه أن التألى على
الله فى أمر لا يجد منه سعة ولا إلى غيره سبيلاً منهى عنه،
كما نهى النبى، عليه السلام، عبد الله بن عمرو عن ما تألى
فيه من قيام الليل وصيام النهار، وكذلك من حلف ألا يتزوج
ولا يأكل ولا يشرب، فهذا كله غير لازم عند أهل العلم لقوله
تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) [التحريم: 1] وللذى حلف ألا ينكح أن
ينكح، وكذلك سائر المحرجات الشاملة مباح له إتيان ما حلف
عليه وعليه كفارة اليمين بالله. وفيه: أن التعمق فى
العبادة والإجهاد للنفس مكروه لقلة صبر الشر على التزامها
لا سيما فى الصيام الذى هو إضعاف للجسم، وقد رخص الله فيه
فى السفر، لإدخال الضعف على من تكلف مشقة الحل والترحال،
فكيف إذا انضاف ذلك إلى من كلفه الله قتال أعدائه الكافرين
حتى تكون كلمة الله هى العليا، ألا ترى أن النبى، عليه
السلام، قال ذلك فى هذا الحديث عن داود: (وكان لا يفر إذا
لاقى) ، فإنه أبقى لنفسه قوة، لئلا تضعف نفسه عند المدافعة
واللقاء. وقد كره قوم من السلف صوم الدهر، روى ذلك عن عمر،
وابن مسعود، وأبى ذر، وسلمان، وعن مسروق، وابن أبى ليلى،
وعبد الله بن شداد، وعمرو بن ميمون، واعتلوا بقوله عليه
السلام فى صيام داود: (لا أفضل من ذلك) . وقوله: (لا صام
من صام الأبد، مرتين) ، وقالوا: إنما نهى عن صيام الأبد
لما فى ذلك من الإضرار بالنفس، والحمل عليها، ومنعها من
الغذاء الذى هو قوامها
(4/121)
وقوتها على ما هو أفضل من الصوم كالصلاة
النافلة وقراءة القرآن والجهاد وقضاء حق الزور والضعيف،
وقد أخبر عليه السلام بقوله فى صوم داود: (وكان لا يفر إذا
لاقى) ، أن من فضل صومه على غيره إنما كان من أجل أنه كان
لا يضعف عن القيام بالأعمال التى هى الأفضل من الصوم، وذلك
ثبوته لحرب أعداء الله عند التقاء الزحوف، وتركه الفرار
منهم، فكان عليه السلاك إذ قضى بصوم داود بالفضل على غيره
من معانى الصيام قد بين أن كل من كان صومه لا يورثه ضعفًا
عن أداء فرائض الله، وعن ما هو أفضل من صومه، وذلك من نفل
الأعمال، وهو صحيح الجسم، فغير مكروه له صومه ذلك. وكل من
أضعفه صومه النفل عن أداء شىء من فرائض الله فغير جائز له
صومه، بل هو محظور عليه، فإن لم يضعفه عن الفرائض، وأضعفه
عما هو أفضل منه من النوافل فإن صومه مكروه، وإن كان غير
آثم، وكان ابن مسعود يقل الصوم فقيل له فى ذلك، فقال: إنى
إذا صمت ضعفت عن الصلاة، والصلاة أحب إلى من الصوم، وكان
أبو طلحة لا يكاد يصوم على عهد النبى من أجل الغزو، فلما
توفى النبى، عليه السلام، ما رأيته يفطر إلا يوم فطر أو
أضحى، وقد سرد ابن عمر الصيام قبل موته بسنتين، وسرد
الصيام أيضًا أبو الدرداء، وأبو أمامة الباهلى، وعبد الله
بن عمرو، وحمزة بن عمرو، وعائشة، وأم سلمة زوجا النبى،
وأسماء بنت أبى بكر، وعبد الله وعروة ابنا الزبير، وأبو
بكر بن عبد الرحمن، وابن سيرين،
(4/122)
وقالوا: من أفطر الأيام التبى نهى رسول
الله عن صيامها، فليس بداخل فى ما نهى عنه من صوم الدهر،
وقال مالك فى (المجموعة) : لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر
يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام منى، وقد قيل: إن رسول الله
إنما قال إذ سئل عن صوم الدهر: (لا صام ولا أفطر) ، لمن
صام حتى هلك من صومه، حدثنى بذلك يعقوب بن إبراهيم، حدثنا
ابن علية، عن خالد الحذاء، عن أبى قلابة: أن امرأة صامت
حتى ماتت فقال النبى، عليه السلام: (لا صامت ولا أفطرت) ،
ومن صام حتى بلغ به الصوم هذا الحد فلا شك أنه بصومه ذلك
آثم، قاله الطبرى.
53 - باب حَقِّ الأهْلِ فِى الصَّوْمِ
/ 66 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: بَلَغَ
النَّبِىَّ أَنِّى أَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَأُصَلِّى
اللَّيْلَ، فَقَالَ: (صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ،
فَإِنَّ لِعَيْنِيْكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكَ
وَأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَظًّا) ، قُلْت: إِنِّى لأقْوَى
لِذَلِكَ، يَا رَسُولُ الله، قَالَ: (فَصُمْ صِيَامَ
دَاوُدَ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا،
وَلا يَفِرُّ إِذَا لاقَى) ، قَالَ: مَنْ لِى بِهَذِهِ يَا
رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ: (لا صَامَ مَنْ صَامَ الأبَدَ
مَرَّتَيْنِ) . وترجم له باب: (صوم يوم وإفطار يوم) ،
وباب: (صوم نبى الله داود) . حق الأهل أن يبقى فى نفسه قوة
يمكنه معها جماعها، فإنه حق يجب للمرأة المطالبة به لزوجها
عند بعض أهل العلم، كما لها المطالبة بالنفقة عليها، فإن
عجز عن واحدة منهما طلقت عليه بعد
(4/123)
الأجل فى ذلك، هذا قول أبى ثور، وحكاه عن
أهل الأثر، ذكره ابن المنذر وجماعة الفقهاء على خلافه فى
الطلاق إذا عجز عن الوطء، وسيأتى الكلام فى أحكام ذلك فى
موضعه من كتاب النكاح، إن شاء الله.
54 - باب صِيَامِ الأَيَّامِ الْبِيضِ ثَلاثَ عَشْرَةَ،
وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ
/ 67 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِى النبى، عليه
السلام، بِثَلاثٍ: (صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ
شَهْرٍ، وَرَكْعَتَىِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ
أَنْ أَنَامَ) . قال المؤلف: ليس فى حديث أبى هريرة أن
الثلاثة الأيام التى أوصاه بها من كل شهر هى الأيام البيض
كما ترجم به البخارى، وهى موجودة فى حديث آخر، روى الطبرى،
قال: حدثنا مخلد بن الحسن، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقى،
عن زيد بن أبى أنيسة، عن أبى إسحاق السبيعى، عن جرير بن
عبد الله البجلى، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (صيام
ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام البيض: صبيحة ثلاث
عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) ، وروى شعبة، عن أنس بن سيرين،
عن عبد الملك بن المنهال، عن أبيه، قال: (أمرنى النبى،
عليه السلام، بالأيام البيض، وقال: هو صوم الشهر) . وروى
من حديث عمر، وأبى ذر عن النبى، عليه السلام: أنه قال
لأعرابى ذكر له أنه صائم قال: (أين أنت عن العزِّ البيض:
ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) .
(4/124)
رواه ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى
آل طلحة، عن موسى بن طلحة، عن رجل من بنى تميم يقال له:
ابن الحَوْتكيّة عن عمرو، وأبى ذر. وممن كان يصوم الأيام
البيض من السلف: عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأ [وذر، ومن
التابعين الحسن البصرى، والنخعى، وسئل الحسن البصرى لم صام
الناس الأيام البيض وأعرابى يسمع، فقال الأعرابى: لأنه لا
يكون الكسوف إلآ فيها، ويحب الله ألا تكون فى السماء آية
إلا كانت فى الأرض عبادة. قال الطبرى: فاختار هؤلاء صيام
هذه الأيام البيض لهذه الآثار، واختار قوم من السلف صيام
ثلاثة أيام من كل شهر غير معيَّنة على ظاهر حديث أ [ى
هريرة المذكور فى هذا الباب، وروى معمر عن الجريرى، عن أبى
العلاء بن الشخير أن أعرابيا سمع النبى، عليه السلام، قال:
(صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن كثيرًا من وغر
الصدر) . قال مجاهد: وغر الصدر: هو غشه. وممن كان يصوم
ثلاثة أيام من كل شهر ويأمر بهن: على بن أبى طالب، ومعاذ
بن جبل، وأبو ذر، وأبو هريرة، وكان بعض السلف يختار
الثلاثة من أول الشهر، وهو الحسن البصرى، وكان بعضهم يختار
الاثنين والخميس، وهى أم سلمة زوج النبى، عليه السلام،
وقالت إنه أمرها بذلك، وكان بعضهم يختار السبت والأحد
والاثنين، ومن الشهر الذى يليه الثلاثاء والأربعاء
والخميس، ومن الشهر الذى
(4/125)
يليه كذلك، وهى عائشة أم المؤمنين، ومنهم
من كان يصوم آخر الشهر، وهو النخعى ويقول: هو كفارة لما
مضى، فأما الذين اختاروا صوم الاثنين والخميس فلحديث أم
سلمة وأخبار أخر رويت عن النبى، عليه السلام، أن الأعمال
تعرض على الله فى الاثنين والخميس، فأحبوا أن تعرض أعمالهم
على الله وهم صيام، وأما الذين اختاروا ما اختارت عائشة
فلئلا يكون يوم من أيام السنة إلا قد صامه، وأما الذين
اختاروا ذلك من أول الشهر فلما رواه شيبان عن عاصم بن
بهدلة، عن زر عن عبد الله بن مسعود، قال: (كان النبى، عليه
السلام، يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام) . قال الطبرى:
والصواب عندى فى ذلك أن جميع الأخبار عن النبى، عليه
السلام، صحاح، ولكن لما صح عنه أنه اختار لمن أراد صوم
الثلاثة الأيام من كل شهر الأيام البيض، فالصواب اختيار ما
اختار عليه السلام، وإن كان غير محظور عليه أن يجعل صوم
ذلك ما شاء من أيام الشهر، إذ كان ذلك نفلا لا فرضًا. فإن
قيل: أو ليس قد قلت أن النبى، عليه السلام، كان يصوم
الاثنين والخميس، ويصوم الثلاثة من غرة الشهر؟ . قيل: نعم،
ولا يدل على أن الذى اختار للأعرابى من أيام البيض ليس كما
اختار وأن ذلك من فعله دليل على أن أمره للأعرابى ليس
بالواجب، وإنما هو أمر ندب وإرشاد، وأن لمن أراد من أمته
صوم ثلاثة أيام من كل شهر تخير ما أحب من أيام الشهر،
فيجعل صومه فيما اختار من
(4/126)
ذلك كما كان الرسول يفعله، فيصوم مرة
الأيام البيض، ومرة غرة الهلال، ومرة الاثنين والخميس، إذ
كان لأمته الاستنان به فيما لم يعلمهم أنه له خاص دونهم،
روى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أنه كره تعمد صوم
الأيام البيض، وقال: ما هذا ببلدنا، وقال: الأيام كلها
لله، وكره أن يجعل على نفسه صوم يوم يؤقته أو شهر، قال عنه
ابن وهب: فإنه لعظيم أن يجعل على نفسه صوم يوم يؤقته أو
شهر كالفرض، ولكن يصوم إذا شاء، ويفطر إذا شاء. قال ابن
حبيب: وبلغنى أن صوم مالك بن أنس أول يوم من الشهر واليوم
العاشر واليوم العشرون.
55 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ
/ 68 - فيه: أَنَسٍ: دَخَلَ النَّبِىُّ، عليه السلام،
عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ،
فَقَالَ: (أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِى سِقَائِهِ،
وَتَمْرَكُمْ فِى وِعَائِهِ، فَإِنِّى صَائِمٌ) ، ثُمَّ
قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى غَيْرَ
الْمَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لأمِّ سُلَيْمٍ، وَأَهْلِ
بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّ لِى خُوَيْصَّةً، قَالَ: (مَا هِيَ) ؟
قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ
وَلا دُنْيَا إِلا دَعَا لِى بِهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ
ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ) ،
فَإِنِّى لَمِنْ أَكْثَرِ الأنْصَارِ مَالا،
وَحَدَّثَتْنِى ابْنَتِى أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ
لِصُلْبِى مَقْدَمَ الحَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ
وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ. فى هذا الحديث حجة لمالك والكوفيين
أن الصائم المتطوع لا ينبغى له أن يفطر بغير عذر ولا سبب
موجب للإفطار، وليس هذا الحديث بمعارض لإفطار أبى الدرداء
حين زاره سلمان وامتنع من الأكل إن لم
(4/127)
يأكل معه، وهذه توجب الإفطار، لأن للضيف
حقا كما قال عليه السلام. قال المهلب: وفيه أن الصائم إذا
دعى إلى طعام فليدع لأهله بالبركة يؤنسهم بذلك ويسرهم،
وفيه وجوب الإخبار عن نعم الله عند الإنسان والإعلان
بمواهبه، وأن لا يجحد نعمه، وبذلك أمر الله، تعالى، فى
كتابه فقال: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
[الضحى: 11] ، وفيه أن تصغير اسم الرجل على معنى التعطف
له، والترحم عليه، والمودة له، لا ينقصه ولا يحطه، وفيه
دليل على جواز رد الهدية والطعام المبذول إذا لم يكن فى
ذلك سوء أدب على باذله ومُهْديه، ولا نقيصة عليه، ويخص
الطعام من ذلاك أنه إذا لم يعلم من الناس حاجة فحينئذ يجمل
رده، وإذا علم منهم حاجة فلا يرده ويبذله لأهله، كما فعل
عليه السلام بأم سليم فى غير هذا الحديث حين بعث هو وأبو
طلحة أنسًا إلأيها لتعد الطعام لرسول الله وأصحابه.
56 - باب الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ
/ 69 - فيه: عِمْرَانَ قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام:
(يَا فُلانٍ، أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ) ؟
قَالَ: أَظُنُّهُ، قَالَ: يَعْنِى رَمَضَانَ، قَالَ
الرَّجُلُ: لا،
(4/128)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِذَا
أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ) ، لَمْ يَقُلِ الصَّلْتُ:
أَظُنُّهُ يَعْنِى رَمَضَانَ. وَقَالَ ثَابِتٌ: عَنْ
مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام:
(مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ) . قال أبو عبيد: السرار آخر الشهر
إذا استسر الهلال، قال ابن قتيبة: ربما استسر القمر ليلة
أو ليلتين، قال: ويقال: سرر الشهر وسراره وسره، وسرار
أجود، قال الخطابى: وفيه لغات يقال: سَرَرُ الشهر
وسَرَارُهُ وسِرُّهُ. قال الطبرى: فالذين اختاروا صيام
الثلاثة الأيام من آخر الشهر فإنهم تأولوا أن يكون ذلك
كفارة لما مضى من ذنوبهم، ويجوز أن يكون معنى قوله: (سرر
هذا الشهر) أى من وسطه، لأنها الأيام الغر التى كان رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) يأمر بصيامها، وسرارة كل شىء
وسطه وأفضله. قال ذو الرمة يصف حمارًا: كأنه عن سرار الأرض
محجوم يريد عن وسطها، وهو موضع الكلأ منها، وقال ابن
السكيت: سرار الأرض أكرمه وأفضله، وقال الخطابى: قد كان
بعض أهل العلم يقول إن سؤاله عليه السلام فى هذا الحديث
سؤال زجر وإنكار، لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو
يومين، ويشبه أن يكون هذا
(4/129)
الرجل قد كان أوجبهما على نفسه فاستحب له
الوفاء بهما، وأن يجعل قضاؤهما فى شوال.
57 - بَاب صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
وَإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ
أَنْ يُفْطِرَ، يَعْنِى إِذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ، وَلا
يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ بَعْدَهُ. / 70 - فيه: جَابِر، نَهَى
النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. / 71 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام،
يَقُولُ: (لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
إِلا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ) . / 72 - وفيه:
أَبُو أَيُّوبَ دَخَلَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَلَى
جُوَيْرِيَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِىَ صَائِمَةٌ،
فَقَالَ: (أَصُمْتِ أَمْسِ) ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ:
(تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِى غَدًا) ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ:
(فَأَفْطِرِى) ، فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ. اختلف العلماء
فى صيام يوم الجمعة، فنهت طائفة عن صومه إلا أن يصام قبله
أو بعده على ما جاء فى هذه الآثار، روى هذا القول عن أبى
هريرة وسلمان، وروى عن أبى ذر، وعلى بن أبى طالب أنهما
قالا: إنه يوم عيد وطعام وشراب، فلا ينبغى صيامه، وهذا
(4/130)
قول ابن سيرين والزهرى، وبه قال أحمد
وإسحاق، ومنهم من قال: يفطر ليقوى على الصلاة فى ذلك
اليوم، وروى ذلك عن النخعى، كما قال ابن عمر: لا صيام يوم
عرفة بعرفة من أجل الدعاء، وأجازت طائفة صيامه، روى عن ابن
عباس أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه، وقال مالك: لم
أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ممن يقتدى به ينهى عن صيام
يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه،
وأراه كان يتحراه، وقيل: إنه ابن المنكدر. وقال الشافعى:
لا يبين لى أنه نهى عن صيام يوم الجمعة إلا على الاختيار،
وقد روى عن ابن مسعود أنه قال: (ما رأيت النبى عليه السلام
يفطر يوم الجمعة) رواه شيبان عن عاصم، عن زر، عن عبد الله.
ورواه شعبة عن عاصم فلم يرفعه، فهى علة فيه. وروى ليث ابن
أبى سليم، عن عمير بن أبى عمير، عن ابن عمر أنه قال: (ما
رأيت رسول الله مفطرًا يوم الجمعة قط) وليث ضعيف، وأحاديث
النهى أصح. وأكثر الفقهاء على الأخذ بأحاديث الإباحة؛ لأن
الصوم عمل بر، فوجب ألا يمنع عنه بدليل لا معارض له. قال
المهلب: ويحتمل أن يكون نهيه عن صيام يوم الجمعة والله
أعلم خشية أن يستمر الناس الناس على صومه فيفرض عليهم، كما
خشى من صلاة الليل، فقطعه لذلك، وخشى أن يلتزم الناس من
تعظيم يوم الجمعة ما التزمه اليهود والنصارى فى يوم السبت
والأحد من ترك العمل والتعظيم، فأمر بإفطاره، ورأى أن قطع
الذرائع أعظم أجرًا من إتمام ما نوى صومه لله. وذكر
الطحاوى قال: روى ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن أبى بشر،
عن عامر ابن لدين الأشعرى أنه سأل أبا هريرة عن صيام
(4/131)
يوم الجمعة فقال: على الخبير وقعت، سمعت
رسول الله يقول: إن يوم الجمعة عيدكم، فلا تجعلوا يوم
عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده) . فكره رسول
الله أن يقصد إليه بعينه بصوم للتفرقة بينه وبين شهر رمضان
وسائر الأيام؛ لأن فريضة الله فى رمضان بعينه وليس كذلك
سائر الأيام والله أعلم.
58 - باب هَلْ يَخُصُّ مِنَ الأيَّامِ شَيْئًا
/ 73 - وفيه: عَلْقَمَةَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: هَلْ كَانَ
النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَخْصُّ مِنَ الأيَّامِ
شَيْئًا؟ قَالَتْ: لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً،
وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) يُطِيقُ. معناه: أنه كان لا يخص شيئًا من
الأيام دائمًا ولا راتبًا، إلا إنه قد عنه عليه السلام أنه
كان أكثر صيامه فى شعبان، وقد حض عليه السلام على صيام
الاثنين والخميس، ذكره عبد الرزاق وغيره، لكن كان صيامه
عليه السلام على حسب نشاطه، فربما وافق الأيام التى رغب
فيها، وربما لم يوافقها، وقد روى الطحاوى عن على بن شيبة،
حدثنا روح، حدثنا شعبة قال: حدثنا يزيد الرشك، عن معاذة،
عن عائشة (أنها سئلت أكان رسول الله يصوم ثلاثة أيام من كل
شهر؟ قالت: نعم، فقيل لها من أيِّه؟ قالت: ما كان يبالى من
أى الشهر صامها) .
(4/132)
59 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
/ 74 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّ النَّاسَ تَمَارَوْا
عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ النَّبِىِّ، عليه
السَّلام، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ
وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ، فَشَرِبَهُ. / 75 - وفيه:
مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِى صِيَامِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عَرَفَةَ،
فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلابٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ فِى
الْمَوْقِفِ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ.
قال ابن المنذر: ثبت أن النبى عليه السلام أفطر يوم عرفة،
وروى عنه أن صوم عرفة يكفر سنتين، رواه الثورى عن منصور،
عن مجاهد، عن حرملة بن إياس الشيبانى، عن أبى قتادة: (أن
رسول الله سئل عن صيام يوم عرفة فقال: (يكفر سنتين: سنة
ماضية، وسنة مستأخرة) ، ورواه شعبة عن غيلان بن جرير، عن
عبد الله بن معبد الزِّمَّانى، عن أبى قتادة. واختلفوا فى
صوم يوم عرفة بعرفة فقال ابن عمر: لم يصمه النبى عليه
السلام ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وأنا لا أصومه.
وقال ابن عباس يوم عرفة: لا يصحبنا أحد يريد الصيام، فإنه
يوم تكبير وأكل وشرب، واختار مالك، وأبو حنيفة، والثورى
الفطر، وقال عطاء: من أفطر يوم عرفة ليتقوى به على الذكر
كان له مثل أجر الصائم، وكان ابن الزبير وعائشة يصومان يوم
عرفة، وكان الحسن يعجبه صوم يوم عرفة، ويأمر به الحاج،
وقال: رأيت عثمان بعرفة فى يوم شديد الحر وهو صائم وهم
يروحون عنه، وكان
(4/133)
أسامة بن زيد، وعورة بن الزبير، والقاسم بن
محمد، وسعيد بن جبير يصومون بعرفة، وقال قتادة: لا بأس
بذلك إذا لم يضعف عن الدعاء، وقال الشافعى: أحب صيام يوم
عرفة لغير الحاج، فأما من حج فأحب أن يفطر ليقوى به على
الدعاء، وقال عطاء: أصومه فى الشتاء، ولا أصومه فى الصيف.
قال الطبرى: وإنما أفطر عليه السلام بعرفة ليدل على أن
الاختيار فى ذلك الموضع للحاج الإفطار دون الصوم؛ كيلا
يضعف عن الدعاء، وقضاء ما لزمه من مناسك الحج، وكذلك من
كره صومه من السلف فإنما كان لما بيناه من إيثرهم الأفضل
من نفل الأعمال على ما دونه، وإبقاء على نفسه ليتقوى
بالإفطار على الاجتهاد فى العبادة، ومن آثر صومه أراد أن
يفوز بثواب صومه لقوله عليه السلام: (للجنة باب يدعى
الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون) . وقال المهلب: فى شربه
عليه السلام اللبن يوم عرفة أن العيان أقطع الحجج وأنه فوق
الخبر، وقد قال عليه السلام: (ليس الخبر كالمعاينة) . وفيه
أن الأكل والشرب فى المحافل مباح إذا كان لتبيين معنَّى،
أَوْ دَعَت إليه ضرورة، كما فعل يوم الكديد إذا علم بما
يريد بيانه من سنته عليه السلام، وفيه جواز قبول الهدية من
النساء، ولم يسألها إن كان من مالها أو من مال زوجها، إذا
كان هذا المقدار لا يتشاح الناس فيه.
(4/134)
60 - باب صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ
/ 76 - فيه: عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: هَذَانِ
يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
عَنْ صِيَامِهِمَا، يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ،
وَالْيَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ. /
77 - وفيه: أَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ. قال
الطبرى: إن قال قائل: إنك تكره صوم اليوم الذى يشك فيه أنه
من رمضان، وصوم أيام التشريق نحو الذى تكره من صوم هذين
اليومين، ويروى عن النبى عليه السلام من النهى عن صيامها
نظير روايتك عنه النهى عن صومهما، ثم تجيز صوم أيام
التشريق قضاءً من واجب، وتبيح صوم الشك تطوعًا، فما بال
يوم الفطر والأضحى خالفا حكم ذلك، وهل اتفق حكم جميع ذلك
كما اتفق النهى عن صوم جميعها. قيل: لم نخالف بين حكم شىء
من ذلك إلا لمخالفة الله تعالى بين ذلك، وذلك أن الأمة
مجمعة وارثة عن نبيها أن صوم اليومين غير جائز تطوعًا ولا
فريضة، وهما يوما عيد، وصحت الأخبار عن النبى عليه السلام
أنه كان يصوم شعبان فوصله برمضان، وقيام الحجة بأن لم يجد
من المتمتعين هديًا صوم أيام منى، فذلك الدليل الثابت على
افتراق أحكام ذلك.
(4/135)
61 - باب الصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ
/ 78 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيد، نَهَى
النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنْ صِيَامَيْنِ الْفِطْرِ
وَالنَّحْرِ. وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ:
رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا، قَالَ: أَظُنُّهُ:
قَالَ: الاثْنَيْنِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ عِيدٍ،
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ
النَّذْرِ، وَنَهَى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عَنْ
صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ. قد تقدم أن الأمة مجمعة على أنه
لا يجوز صيام يوم الفطر والنحر، ولو نذر ناذر صيام يوم
بعينه فوافق ذلك يوم فطر أو أضحى، فأجمعوا أنه لا يصومها.
واختلفوا فى قضائهما، فروى عن مالك فى ذلك ثلاثة أقوال،
روى ابن وهب عنه أنه لا يقضيهما، وروى ابن القاسم، وابن
وهب عنه أنه يقضيهما إلا أن يكون نوى ألا يقضيهما، وبه قال
الأوزاعى، وروينا عنه أنه لا يقضيهما إلا أن يكون نوى أن
يصومهما، قال ابن القاسم: وقوله: لا قضاء عليه إلا أن ينوى
أن يقضيه، أحب إلى، وقال أبو حنيفة وصاحباه: يقضيهما،
واختلف قول الشافعى، فمرة قال: يقضيهما، ومرة قال: لا
يقضيهما، قال غيره: والقياس ألا قضاء فى ذلك؛ لأنه من نذر
صوم يوم بعينه أنه لا يخلو أن يدخل فيه صوم يوم الفطر
والأضحى أو لا يدخل، فإن دخل فى نذره فلا يلزمه؛ لأن من
قصد إلى نذر صومه لم يلزمه، ونذره باطل، وإن لم يدخل فى
نذره فهو أبعد من أن يجب عليه قضاؤه.
(4/136)
62 - باب صوم أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
/ 79 - فيه: عَائِشَةُ، أنها كانت تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى،
وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا. / 80 - وفيه: عَائِشَةَ،
وابْن عُمَرَ: الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ، صَامَ أَيَّامَ مِنًى. قال المؤلف:
أيام التشريق هى أيام منى، وهى الأيام المعدودات، وهى
الحادى عشر والثانى عشر والثالث عشر من ذى الحجة. قال ابن
المنذر: واختلف العلماء فى صيامها، فروى عن ابن الزبير أنه
كان يصومها، وعن الأسود بن يزيد مثله، وقال أنس: كان أبو
طلحة قل ما رأيته يفطر إلا يوم فطر أو أضحى، وكذلك كان ابن
سيرين يصوم الدهر غير هذين اليومين، وكان مالك والشافعى
يكرهان صوم أيام التشريق إلا للمتمتع الذى لا يجد الهدى،
فيصوم هذه الثلاثة الأيام؛ لأنها فى الحج إذا لم يصمها فى
العشر على ما جاء عن عائشة وابن عمر، وروى ذلك عن عبيد ابن
عمير وعروة، وهو قول الأوزاعى وإسحاق، ذكره ابن المنذر.
وذكر الطحاوى أن هؤلاء أباحوا صيام أيام التشريق للمتمتع
والقارن والمحصر إذا لم يجد هديًا ولم يكونوا صاموا قبل
ذلك، ومنعوا منها من سواهم، وخالفهم آخرون فقالوا: ليس
هؤلاء ولا لغيرهم من الناس أن صوموا هذه الأيام عن شىء من
ذلك، ولا عن كفارة، ولا فى تطوع؛ لنهى النبى عليه السلام
عن ذلك، ولكن على المتمتع والقارن الهدى لتمتعهما
وقرانهما، وهدى آخر؛ لأنهما حلا بغير صوم، هذا قول
الكوفيين، وهو أحد قولى الشافعى، وذكر ابن المنذر عن على
بن أبى طالب أن المتمتع إذا لم يجد الهدى، ولم
(4/137)
يصم الثلاثة الأيام فى العشر، يصومها بعد
أيام التشريق، وهو قول الحسن وعطاء، واحتج الكوفيون بما
روى إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبى وقاص، عن أبيه، عن جده
قال: (أمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أنادى أيام
منى أنها أيام أكل وشرب، ولا صوم فيها) يعنى أيام التشريق،
وروته عائشة، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن حذافة، وأبو
هريرة كلهم عن النبى عليه السلام فلما تواترت هذه الآثار
بالنهى عن صيام أيام التشريق، وكان نهيه عن ذلك بمنى
والحاج مقيمون بها، وفيهم المتمتعون والقارنون ولم يستثن
منهم أحدًا، دخل فى ذلك المتمتعون والقارنون وغيرهم، قال
ابن القصار: ومن حجة مالك قوله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
فِى الْحَجِّ) [البقرة: 196] ، ولا خلاف بين العلماء أن
هذه الآية نزلت يوم التروية، وهو الثامن من ذى الحجة، فعلم
أنه أباح لهم صومها، وأنهم صاموا فيها؛ لأن الذى بقى من
العشر الثامن والتاسع، والثامن الذى نزلت فيه الآية لا يصح
صومه؛ لأنه يحتاج إلى تبييت من الليل، والعاشر يوم النحر،
والإجماع أنه لا يصام، فعلم أنهم صاموا بعد ذلك. وقول ابن
عمر وعائشة: (لم يرخص فى أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم
يجد الهدى) يرفع الإشكال فى ذلك، قال المهلب: ومن حجة مالك
أيضًا قول عمر بن الخطاب فى يوم الفطر والنحر: (هذان يومان
نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن صيامهما: يوم فطركم
من صيامكم،
(4/138)
والآخر يوم تاكلون فيه من نسككم) ، فخص
اليومين بالنهى، وبقيت أيام التشريق مباحة، فأما قوله عليه
السلام: (فإنها أيام أكل وشرب) فإنما يختص بذلك من لم يكن
عليه صوم واجب، فعلى هذا تتفق الأحاديث، وفى إباحة صيامها
للمتمتع حجة لمالك فيما ترجح قوله فيه فيمن يبتدئ صوم
الظهار فى ذى القعدة، وقال: عسى أن يجزئه إن نسى أو غفل
إذا أفطر يوم النحر وصام أيام التشريق، ثم وصل اليوم الذى
أفطره، رجوت أن يجزئه، ويبتدئه أحب إلى، وإنما قال ذلك؛
لأن صوم المتمع صوم واجب، وإنما ينهى عن صيامها من ليس
عليه صوم واجب، وقال غير واحد عن مالك: إن اليوم الرابع لم
يختلف قوله فيه، ولا يصام تطوعًا، وقال ابن المنذر: مذهب
ابن عمر فى صيام هذه الثلاثة الأيام من حين يحرم بالحج
وآخرها يوم عرفة، وهذا معنى قول البخارى عن ابن عمر:
(الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة) . قال
ابن المنذر: وجماعة الفقهاء لا يختلفون فى جواز صيامها بعد
الإجرام بالحج، إلا عطاء فإنه قال: إن صامهن حلالاً أجزأه،
وهو قول أحمد بن حنبل، قال أبو بكر: لا يجب الصوم على
المتمتع إلا بعد الإحرام، فمن صام قبل ذلك كان تطوعًا، ولا
يجزئه عن فرضه، وفى قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ) [البقرة: 296] أبين البيان أنه لا
يجزئه صيامها فى غير الحج، وهذا يرد أيضًا ما روى عن على
والحسن وعطاء.
(4/139)
63 - باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
وَإِذَا أصبح وَلم ينو الصيام ثُمَّ صام
/ 81 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، يَوْمَ عَاشُورَاءَ: (إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ
شَاءَ فطر) . / 82 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ،
عليه السَّلام، أَمَرَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ،
فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ
شَاءَ أَفْطَرَ. وَقَالَ مُعَاوِيَةَ: يَا أَهْلَ
الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ النَّبِىّ،
عليه السَّلام، يَقُولُ: (هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ،
وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا
صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ
فَلْيُفْطِرْ) . / 83 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ
النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، فَرَأَى
الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (مَا
هَذَا) ؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ
نَجَّى اللَّهُ بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ،
فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى
مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) . وَقَالَ
ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام،
يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا
هَذَا الْيَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ،
يَعْنِى شَهْرَ رَمَضَانَ. / 84 - وفيه: سَلَمَةَ، قَالَ:
أَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ
أَنْ أَذِّنْ فِى النَّاسِ: (أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ
فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ
فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ) .
(4/140)
اختلفت الآثار فى صوم يوم عاشوراء، فدل
حديث عائشة على أن صومه كان واجبًا قبل أن يفرض رمضان، ودل
أيضًا أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضًا، ودل
حديث سلمة أيضًا على وجوبه. قال الطحاوى: وفى أمر النبى
عليه السلام إياهم بصومه بعد أن أصبحوا دليل على أن من كان
فى يوم عليه صومه بعينه، ولم يكن نوى صومه من الليل أنه
يجوز أن ينوى صومه بعد ما أصبح إذا كان ذلك قبل الزوال.
قال المؤلف: قد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها فى باب
(إذا نوى بالنهار صومًا) . قال الطحاوى: ورويت عن الرسول
آثار أخر دليل على أن صومه اختيار لا فرض، منها: حديث ابن
عباس وذلك أنه أخبر بالعلة التى من أجلها صامه النبى عليه
السلام وأنه إنما صامه شكرًا لله فى إظهاره موسى على
فرعون، فدل ذلك على الاختيار لا على الفرض، وعلى مثل ذلك
دل حديث ابن عمر ومعاوية. واختلفت الآثار أى يوم هو يوم
عاشوراء، فروى فى حديث الحكم بن الأعرج أنه سأل ابن عباس
عنه فقال: (إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائمًا، قلت: كذلك
كان يصوم النبى عليه السلام؟ قال: نعم) . قال المؤلف: وهذا
يدل أنه عنده اليوم التاسع، وقد بين ذلك حماد ابن سلمة، عن
على بن زيد، عن عمار ابن أبى عمار، عن ابن عباس قال: هو
اليوم التاسع. قال الطحاوى: وقد جاء فى حديث الحكم بن
الأعرج أنه اليوم العاشر، ذكر عبد الرزاق، عن إسماعيل بن
عبد الله، أخبرنى يونس بن عبيد،
(4/141)
عن الحكم بن الأعرج، عن ابن عباس قال: (إذا
أصبحت فعد تسعًا وعشرين يومًا، ثم أصبح صائمًا فهو يوم
عاشوراء، يعنى عد من بعد يوم النحر) وكذلك قال الحسن
البصرى، وسعيد ابن المسيب: هو اليوم العاشر. وقالت طائفة:
يصوم التاسع والعاشر، روى ذلك عن ابن عباس وأبى رافع أصحاب
أبى هريرة، وابن سيرين، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، هذا
قول ابن المنذر، وقال صاحب العين: عاشوراء اليوم العاشر من
المحرم، وقيل هو التاسع، قال الطحاوى: وقد روى ابن أبى ذئب
عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عباس، عن
النبى عليه السلام أنه قال: (لئن عشت للعام القابل لأصومن
يوم التاسع، عاشوراء) . وقال ابن أبى ذئب مرة فى حديثه
(لأصومن عاشوراء، يوم التاسع) خلاف قوله: (لأصومن يوم
التاسع) ؛ لأن قوله: (لأصومن عاشوراء، يوم التاسع) إخبار
منه أنه يكون ذلك اليوم يوم عاشوراء، وقوله: (لأصومن
التاسع) يحتمل لأصومنه مع العاشر لئلا أقصد بصومى إلى يوم
عاشوراء بعينه كما تفعل اليهود، ولكنى أخلطه بغيره فأكون
قد صمته بخلاف ما تصومه اليهود، وقد روى عن ابن عباس ما دل
على هذا المعنى، روى ابن جريح عن عطاء، عن ابن عباس قال:
(خالفوا اليهود، صوموا يوم التاسع والعاشر) فدل ذلك على أن
ابن عباس صرف تأويل قوله: (لأصومن يوم التاسع) إلى ما
صرفناه إليه، وقد جاء ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) ، روى ابن أبى ليلى عن داود بن على، عن أبيه، عن جده
ابن عباس، عن النبى
(4/142)
عليه السلام فى صوم يوم عاشوراء: (صوموه
وصوموا قبله يومًا أو بعده، ولا تشبهوا باليهود) فثبت بهذا
الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد بصوم يوم
التاسع أن يدخل صوم يوم عاشوراء فى غيره من الصيام حتى لا
يكون مقصودًا بعينه كما جاء عنه فى صيام يوم الجمعة، روى
سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد
الله ابن عمرو قال: (دخل النبى عليه السلام على جويرية يوم
جمعة وهى صائمة، فقال لها: (أصمت أمس؟) قالت: لا، قال:
(وتصومين غدًا؟) قالت: لا، قال: (فأفطرى إذًا) قال
الطحاوى: ووجه كراهيته إفراد هذه الأيام بالصيام التفرقة
بين شهر رمضان وبين سائر ما يصوم الناس غيره؛ لأن شهر
رمضان مقصود إليه بعينه لفرضه بعينه، وغيره من الشهور ليس
كذلك، وبهذا كان يأخذ ابن عمر فكان لا يصوم عاشوراء إلا أن
يوافق صومه. وقال الطبرى: كراهية ابن عمر لصيامه نظير
كراهية من كره صوم رجب إذ كان شهر تعظمه الجاهلية، فكره أن
يعظم فى الإسلام ما كان يعظمه أهل الجاهلية من غير تحريم
صومه إذا ابتغى بصومه ثواب الله عز وجل لا مريدًا به إحياء
سنة أهل الشرك. وقد جاء فى فضل يوم عاشوراء ما روى شعبة عن
غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد، عن أبى قتادة، عن
النبى عليه السلام قال فى صوم يوم عاشوراء: (إنى أحتسب على
الله أن يكفر السنة التى قبله) ، وكان يصومه من السلف: على
بن أبى طالب، وأبو موسى، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود،
وابن عباس، وأمر بصومه أبو بكر وعمر. فإن قيل: فقد رخص فى
صيام أيام بعينها مقصودة بالصوم، وهى
(4/143)
الأيام البيض، فهذا دليل أنه لا بأس بالقصد
بالصوم إلى يوم بعينه. قال الطحاوى: قيل له: إنه قد قيل إن
الأيام البيض إنما أمر بصومها؛ لأن الكسوف يكون فيها، ولا
يكون فى غيرها، وقد أمر بالتقرب إلى الله بالصلاة والعتاق
وغير ذلك من أعمال البر عند الكسوف، فأمر بصيام هذه
الأيام، ليكون ذلك برًا مفعولاً بعقب الكسوف، فذلك صيام
غير مقصود به إلى يوم لعلته فى نفسه، ولكنه مقصود به فى
وقت شكره لله لعرض كان فيه، فلا بأس بذلك، فكذلك صيام يوم
الجمعة إذا صامه رجل لعارض من كسوف شمس أو قمر أو شكر الله
لمعنى فلا بأس بذلك وإن لم يصم قبله يومًا ولا بعده يومًا.
وعاشوراء وزنه: فاعولا، وهو من أبنية المؤنث، وهو صفة
لليلة، واليوم مضاف إليها، وعلى ما حكاه الخليل أنه اليوم
التاسع يكون عاشوراء صفة لليوم، فيقال: سوم عاشوراء،
وينبغى ألا يضاف إلى اليوم؛ لأن فيه إضافة الشىء إلى نفسه،
ومن جعل عاشوراء صفة لليلة فهو أصح فى اللغة، وهو قول من
يرى أنه اليوم العاشر، وقال الداودى: قول معاوية: (أين
علماؤكم؟) . يدل أنه سمع شيئًا أنكره، إما أن سمع قول من
لا يرى بصومه فضلاً، أو سمع قول من يقول إنه فرض، فذكر ما
روى فيه. وليوم عاشوراء فضائل منها: ما ذكر فى الحديث أن
الله فرق فيه البحر لموسى بن عمران، وغرق فرعون وجنوده،
ومنها ما روى معمر عن قتادة قال: ركب نوح فى السفينة فى
رجب فى عشر بقين منه، ونزل من السفينة يوم عاشوراء. وقال
عكرمة: هو يوم تاب الله
(4/144)
فيه على آدم. وقال ابن حبيب: وفيه أخرج
يوسف من الجب، وفيه نَجَّى الله يونس من بطن الحوت، وفيه
تاب الله على قوم يونس، وفيه ولد عيسى بن مريم، وفيه تكسى
الكعبة البيت الحرام فى كل عام. وروى شعبة، عن أبى الزبير،
عن جابر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من وسع على
نفسه وأهله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر السنة) قال
جابر وأبو الزبير وشعبة: جربناه فوجدناه كذلك، وقاله يحيى
بن سعيد وابن عيينة أيضًا.
64 - باب فَضْلِ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ
/ 85 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ لِرَمَضَانَ: (مَنْ
قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:
فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
وَالأمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأمْرُ عَلَى ذَلِكَ
فِى خِلافَةِ أَبِى بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ
عُمَرَ. / 86 - وفيه: ابْن عَبْدٍالْقَارِىِّ، خَرَجْتُ
مَعَ عُمَرَ لَيْلَةً فِى رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ،
فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّى
الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى
بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّى أَرَى لَوْ
جَمَعْتُ هَؤُلاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ
أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ
كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى،
وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ
عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِى يَنَامُونَ
عَنْهَا أَفْضَلُ مِنِ الَّتِى يَقُومُونَ، يُرِيدُ آخِرَ
اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
(4/145)
/ 87 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ،
عليه السَّلام، خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ،
فَصَلَّى فِى الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاتِهِ،
فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ
مِنْهُمْ، فَصَلَّى فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ
النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ
اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلاتِهِ، فَلَمَّا
كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ
أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا
قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَتَشَهَّدَ
ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ
عَلَىَّ مَكَانُكُمْ، وَلَكِنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ
عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا) ، فَتُوُفِّىَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالأمْرُ عَلَى ذَلِكَ. /
88 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لم يكن رسُولُ اللَّهِ
يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلا فِى غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى
عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ
حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا، ثُمَّ
ثَلاثًا. . . الحديث. قوله: (من قام رمضان إيمانًا) يعنى
مصدقًا بما وعد الله من الثواب عليه، وقوله: (احتسابًا)
يعنى يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. وفى جمع عمر الناس
على قارئ واحد دليل على نظر الإمام لرعيته فى جمع كلمتهم
وصلاح دينهم، قال المهلب: وفيه أن اجتهاد الإمام ورأيه فى
السنن مسموع منه مؤتمر له فيه، كما ائتمر الصحابة لعمر فى
جمعهم على قارئ واحد؛ لأن طاعتهم لاجتهاده واستنباطه طاعة
لله تعالى لقوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ،
(4/146)
وفيه جواز الاجتماع لصلاة النوافل، وفيه أن
الجماعة المتفقة فى عمل الطاعة مرجو بركتها، إذ دعاء كل
واحد منهم يشمل جماعتهم، فلذلك صارت صلاة الجماعة تفضل
صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فيجب أن تكون النافلة كذلك،
وفيه أن قيام رمضان سنة لأن عمر لم يسن منه إلا ما كان
رسول الله يحبه، وقد أخبر عليه السلام بالعلة التى منعته
من الخروج إليهم، وهى خشية أن يفترض عليهم، وكان بالمؤمنين
رحيمًا، فلما أمن عمر أن تفترض عليهم فى زمانه لانقطاع
الوحى؛ أقام هذه السنة وأحياها، وذلك سنَةَ أربع عشرة من
الهجرة فى صدر خلافته. قال المهلب: وفيه أن الأعمال إذا
تركت لعلة، وزالت العلة أنه لا بأس بأعادة العمل، كما أمر
عمر صلاة الليل فى رمضان بالجماعة، وفيه أنه يجب أن يؤم
القوم أقرؤهم، فلذلك قال عمر: أُبَى أقرؤنا، فلذلك قدمه
عمر، وهذا على الاختيار إذا أمكن؛ لأن عمر قدم أيضًا
تميمًا الدارى، ومعلوم أن كثيرًا من الصحابة أقرأ منه، فدل
هذا أن قوله عليه السلام: (يؤم القوم أقرؤهم) إنما هو على
الاختيار، قول عمر: (نعم البدعة) فالبدعة اختراع ما لم يكن
قبل، فما خالف السنة فهو بدعة ضلالة، وما وافقها فهو بدعة
هُدى، وقد سئل ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة، ونعم
البدعة. وقوله: (والتى ينامون عنها أفضل) يعنى القيام آخر
الليل لحديث التنزل واستجابة الرب تعالى فى ذلك الوقت لمن
دعاه،
(4/147)
وقد تقدم معنى قوله عليه السلام: (خشيت أن
يفترض عليكم) فى باب (تحريض الرسول على صلاة الليل
والنوافل من غير إيجاب) فى آخر كتاب الصلاة، فأغنى عن
إعادته، وكذلك تقدم فى باب (قيام النبى بالليل فى رمضان
وغيره) واختلافهم فى عدد القيام فى رمضان، ونذكر منه هنا
طرفًا لم يمض هناك، وهو أن قول عائشة: (لم يكن رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) يزيد فى رمضان ولا غيره على إحدى
عشرة ركعة) . فهذه الرواية مطابقة لما روى مالك عن محمد
ابن يوسف، عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر، رضى الله عنه،
أبىَّ بن كعب وتميمًا الدارى أن يقوما للناس بإحدى عشرة
ركعة. وقال الداودى وغيره: وليست رواية مالك عن السائب
بمعارضة برواية من روى عن السائب ثلاثًا وعشرين ركعة، ولا
ما روى مالك عن يزيد ابن رومان قال: (كان الناس يقومون فى
رمضان بثلاث وعشرين ركعة) معارضة لروايته عن السائب؛ لأن
عمر جعل الناس يقومون فى أول أمره بإحدى عشرة ركعة كما فعل
النبى عليه السلام وكانوا يقرؤن بالمئين ويطولون القراءة،
ثم زاد عمر بعد ذلك فجعلها ثلاثًا وعشرين ركعة على ما رواه
يزيد بن رومان، وبهذا قال الثورى، والكوفيون، والشافعى،
وأحمد، فكان الأمر على ذلك إلى زمن معاوية، فشق على الناس
طول القيام لطول القراءة، فخففوا القراءة وكثروا من
الركوع، وكانوا يصلون تسعًا وثلاثين ركعة، فالوتر منها
ثلاث ركعات، فاستقر الأمر على ذلك وتواطأ عليه الناس،
وبهذا قال مالك، فليس ما جاء من اختلاف أحاديث قيام
(4/148)
رمضان يتناقض، وإنما ذلك فى زمان بعد زمان،
والله الموفق، وقد تقدم اختلافهم فى تأويل قولها: (يصلى
أربعًا ثم أربعًا) فى أبواب صلاة الليل فى كتاب الصلاة،
وأن ذلك مرتب على قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وأنه سلم
من الأربع، والرد على من أنكر ذلك، وكذلك تقدم فى باب
(تحريض النبى على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب)
اختلافهم فى صلاة رمضان، هل هى أفضل فى البيت أو مع
الإمام؟ وقوله: (فإذا الناس أوزاع) قال صاحب (العين) :
أوزاع الناس: ضروبهم منهم، والتوزيع: القسمة.
65 - باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ
الْقَدْرِ) [القدر: 1] إلى آخر السورة. وَقَالَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ فِى الْقُرْآنِ: (وَمَا أَدْرَاكَ
(فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ: (وَمَا يُدْرِيكَ
(فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ. / 89 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ
صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. . .) الحديث. قال ابن المنذر:
معنى قوله: (إيمانًا) يعنى: تصديقًا أن الله فرض عليه
الصوم، واحتسابًا لثواب الله عليه، وقد تقدم هذا المعنى.
وقوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه) قول عام يُرجى لمن
(4/149)
فعل ما ذكره فى الحديث أن يغفر له جميع
الذنوب: صغيرها وكبيرها؛ لأنه لم يستثن ذنبًا دون ذنب، وفى
الخبر أن القيام فى ليلة القدر أرجى منه فى غيرها من
الليالى. وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ
الْقَدْرِ (روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزل القرآن
جملة واحدة فى ليلة القدر فى شهر رمضان إلى السماء الدنيا،
فجعل فى بيت العزة، ثم نزل على النبى (صلى الله عليه وسلم)
فى عشرين سنة. وقال ابن عباس أيضًا: أنزل الله القرآن جملة
واحدة فى ليلة القدر إلى السماء الدنيا، فكان يمواقع
النجوم، فكان الله ينزله على رسوله بعضه فى إثر بعض،
فقالوا: (لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان: 32] . وذكر ابن وهب،
عن مسلمة بن على، عن عروة قال: (ذكر رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) أربعة من بنى إسرائيل فقال: اعبدوا الله ولم
يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب، وزكريا، وحزقيل، ويوشع بن نون،
فعجب أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، فأتاه
جبريل فقال: يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر
ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين، فقد أنزل الله عليك
خيرًا من ذلك، ثم قال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ
الْقَدْرِ (هذا أفضل مما عجبت منه أنت وأمتك، فَسُرَّ بذلك
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والناس معه) . قال مالك:
وبلغنى عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: من شهد العشاء
ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. وقال ابن عباس: (فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 4] قال: يكتب فى
أم الكتاب فى ليلة القدر ما يكون من السنة إلى السنة. وقال
مجاهد: ليلة القدر
(4/150)
ليلة الحكم. وقال غيره: كأنه تقدر فيها
الأشياء. وقال قتادة: (سَلاَمٌ هِىَ (قال: خير هى) حَتَّى
مَطْلَعِ الْفَجْرِ (.
66 - باب الْتِمَسوا لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِى السَّبْعِ
الأوَاخِرِ
/ 90 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رِجَالا مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِىِّ، عليه السَّلام، أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى
الْمَنَامِ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ
تَوَاطَأَتْ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ
مُتَحَرِّيهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِى السَّبْعِ
الأوَاخِرِ) . / 91 - وفيه: أَبُو سَعِيد، اعْتَكَفْنَا
مَعَ رسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الْعَشْرَ
الأوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ
فَخَطَبَنَا، وَقَالَ: (إِنِّى أُرِيتُ لَيْلَةَ
الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، أَوْ نُسِّيتُهَا،
فَالْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ فِى الْوَتْرِ،
وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنِّى أَسْجُدُ فِى مَاءٍ وَطِينٍ،
فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) فَلْيَرْجِعْ) ، فَرَجَعْنَا، وَمَا نَرَى فِى
السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ، فَمَطَرَتْ
حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ
النَّخْلِ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسْجُدُ فِى الْمَاءِ
وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِى
جَبْهَتِهِ. قوله فى حديث ابن عمر: (فمن كان متحريها
فليتحراها فى السبع الأواخر) يريد فى ذلك العام الذى
تواطأت فيه الرؤيا على ذلك، وهى ليلة ثلاث وعشرين؛ لأنه
قال فى حديث أبى سعيد:
(4/151)
(فالتمسوها فى العشر الأواخر فى الوتر،
وإنى رأيت أنى أسجد فى ماء وطين فمطرنا فى ليلة إحدى
وعشرين) ، وكانت ليلة القدر فى حديث أبى سعيد فى ذلك العام
فى غير السبع الأواخر. قال الطحاوى: وعلى هذا التأويل لا
تتضاد الأخبار، وفى حديث أبى سعيد زيادة معنى أنها تكون فى
الوتر، وقد جاء فى حديث عبد الله بن أنيس أنه عليه السلام
قال: (التمسوها الليلة) ، وكانت ليلة ثلاث وعشرين، فقال
رجل: هذا أول ثمان، فقال: بل أول سبع؛ لأن الشهر لا يتم)
فثبت بهذا أنها فى السبع الأواخر، وأنه قصد ليلة ثلاث
وعشرين؛ لأن ذلك الشهر كان ناقصًا، فدل هذا أنها قد تكون
فى غيرها من السنين بخلاف ذلك. قال المؤلف: وقد روى الثورى
عن عاصم بن أبى النجود، عن زر بن حبيش قال: (قلت لأبى بن
كعب: أخبرنى عن ليلة القدر؛ فإن ابن مسعود قال: من يقم
الحول يصبها. فقال: يرحمه الله، لقد علم أنها فى رمضان،
ولكن عمى على الناس لئلا يتكلوا، والذى أنزل الكتاب على
محمد، إنها فى رمضان، وإنها ليلة سبع وعشرين) . قال
المهلب: ومن ذهب إلى قول ابن مسعود وتأول منه أنها فى سائر
السنة فلا دليل له إلا الظن من دوران الزمان بالزيادة
والنقصان فى الأهلة، وذلك ظن فاسد؛ لأنه محال أن يكون
تعليقها بليلة فى غير شهر رمضان كما لم يعلق
(4/152)
صيامها بأيام معلومة تدور فى العام كله
بالزيادة والنقصان فى الأهلة فيكون صوم رمضان فى غير
رمضان، فكذلك لا يجب أن تكون ليلة القدر فى غير رمضان. قال
الطحاوى: وفى كتاب الله ما يدل أنها فى شهر رمضان خاصة،
وهو قول: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ
إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ) [الدخان: 3، 4] ، فأخبر تعالى أن الليلة التى
يفرق فيها كل أمر حكيم هى ليلة القدر، وهى الليلة التى
أنزل الله فيها القرآن فقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِىَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] فثبت
بذلك أن تلك الليلة فى شهر رمضان. والقزع: قطع من سحاب
دقاق، عن صاحب العين، وقوله: (من كان متحريها) يعنى: من
كان قاصدًا لها، يقال: تحريت الشئ، إذا قصدته وتعمدته،
وقوله: (إنى أرى رؤياكم قد تواطت) فإن المحدثين يرونه
كذلك، وإنما هو تواطأت بالهمز من قوله تعالى:
(لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ) [التوبة: 37]
، ومن قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ
وَطْءًا) [المزمل: 6] ، ولكنه يجوز فى كلام كثير من العرب
حذف الهمز، ومعنى (تواطت) : اتفقت واجتمعت على شىء واحد،
والتوطئة: التلبين يقال: وطأت لفلان هذا الأمر، إذا سهلته
ولينته.
67 - باب تَحَرِّى لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِى الْوِتْرِ مِنَ
الْعَشْرِ الأوَاخِرِ فِى رَمَضَانَ
/ 92 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ، عليه السَّلام: (تَحَرَّوْا
لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ
الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) .
(4/153)
/ 93 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ،
وَقَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ
اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، فَابْتَغُوهَا فِى
الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا فِى كُلِّ وِتْرٍ،
وَقَدْ رَأَيْتُنِى أَسْجُدُ فِى مَاءٍ وَطِينٍ) ،
فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ فِى تِلْكَ اللَّيْلَةِ،
فَأَمْطَرَتْ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِى مُصَلَّى
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةَ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ، فَبَصُرَتْ عَيْنِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ
الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً. / 94 -
وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام:
(الْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ،
لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِى سَابِعَةٍ
تَبْقَى، فِى خَامِسَةٍ تَبْقَى) . وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أيضًا: (هِىَ فِى
الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، فِى تِسْعٍ يَمْضِينَ، أَوْ فِى
سَبْعٍ يَبْقَيْنَ) . وَقَالَ: ابْنِ عَبَّاس: الْتَمِسُوا
فِى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. قال الطبرى: اختلف الصحابة
والتابعون لهم بإحسان فى تحديد ليلة القدر بعينها، مع
اختلافهم عن النبى عليه السلام حدها، قال ابن مسعود: هى
ليلة عشرة من رمضان. وقال على وابن مسعود وزيد بن ثابت: هى
ليلة تسع عشرة. وقال بعضهم: ليلة إحدى وعشرين على حديث أبى
سعيد، روى ذلك أيضًا عن على وابن مسعود، وقال آخرون: ليلة
ثلاث وعشرين على حديث ابن عمر، وابن عباس. وروى ذلك عن ابن
عباس وعائشة وبلال، وقاله مكحول، وقال ابن عباس وبلال: هى
ليلة أربع وعشرين، وهو قول الحسن وقتادة، وأحسب الذين
قالوا هذه
(4/154)
المقالة ذهبوا إلى قوله عليه السلام:
(التمسوها لسبع بقين) أن السابعة هى أول الليالى السبع
البواقى، وهى ليلة أربع وعشرين إذا كان الشهر كاملاً، وقال
على، وابن عباس، وأبى بن الكعب، ومعاوية: هى ليلة سبع
وعشرين. وروى عن بن عمر أنه قال: هى فى رمضان كله، وروى
عبد الله بن بريدة عن معاوية، عن النبى عليه السلام (أنها
آخر ليلة) . وقال أيوب عن أبى قلابة: إنها تجول فى ليالى
العشر كلها. قال الطبرى: والآثار المروية فى ذلك عن النبى
عليه السلام صحاح، وهى متفقة غير مختلفة، وذلك أن جميعها
ينبئ عنه عليه السلام أنها فى العشر الأواخر، وغير منكر أن
تتجول فى كل سنة فى ليلة من ليالى العشر كما قال أبو
قلابة، وكان معلومًا أنه عليه السلام إنما قال فى كل ليلة
من الليالى التى أمر أصحابه بطلبتها فيها أنها كانت عنده
فى ذلك العام فى تلك اليلة، فالصواب أنها فى شهر رمضان دون
شهور السنة؛ لإجماع الجميع وراثة عن النبى عليه السلام أنه
قال: (هى فى العشر الأواخر فى وتر منها) ثم لا حد فى ذلك
خاص لليلة بعينها لا يعدوها إلى غيرها؛ لأن ذلك لو كان
محصورًا على ليلة بعينها لكان أولى الناس بمعرفتها النبى
عليه السلام مع جده فى أمرها ليعرفها أمته، فلم يعرفهم
منها إلا الدلالة عليها أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا
باردة، وأن الشمس تطلع فى صبيحتها بيضاء لا شعاع لها، ولأن
فى دلالته أمته عليها بالآيات دون توقيفه على ليلة بعينها
دليل واضح على كذب من زعم أنها تظهر فى
(4/155)
تلك اليلة للعيون ما لا يظهر فى سائر السنة
من سقوط الأشجار إلى الأرض، ثم رجوعها قائمة إلى أماكنها؛
إذ لو كان ذلك حقا، لم يخفف عن بصر من يقوم ليال السنة
كلها، فكيف ليالى شهر رمضان، وأما الذى خصت به هذه الليلة
من دون سائر الليالى فإنها خير من ألف شهر، يعنى بذلك أن
عملاً فيها بما يرضى الله ويحبه من صلاة ودعاء وشبهه خير
من عمل فى ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وأنه يستجاب فيها
الدعاء ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وقال مالك فى قوله
عليه السلام: (التمسوها فى تاسعة تبقى) هى ليلة إحدى
وعشرين و (سابعة تبقى) ليلة ثلاث وعشرين، و (خامسة تبقى)
ليلة خمس وعشرين. قال المؤلف: وإنما يصح معناه وتوافق ليلة
القدر وترًا من الليالى على ما ذكر فى الحديث إذا كان
الشهر ناقصًا، فأما إن كان كاملاً فإنها لا تكون إلا فى
شفع فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والخامسة
الباقية ليلة ست وعشرين، والسابعة الباقية ليلة أربع
وعشرين على ما ذكره البخارى عن ابن عباس، فلا تصادف واحدة
منهن وترا، وهذا يدل على انتقال ليلة القدر كل سنة فى
العشر الأواخر من وتر إلى شفع، ومن شفع إلى وتر؛ لأن النبى
عليه السلام لم يأمر أمته بالتماسها فى شهر كامل دون ناقص،
بل أطلق على طلبها فى جميع شهور رمضان التى قد رتبها الله
مرة على التمام، ومرة على النقصان، فثبت انتقالها فى العشر
الأواخر كلها ما قاله أبو قلابة. وقول ابن عباس فى حديثه:
(هى فى تسع يمضين أو فى سبع يبقين) هو شك منه أو من غيره
فى أى اللفظين قال عليه السلام،
(4/156)
ودل قوله فى الحديث الآخر: (فى سابعة تبقى)
أن الصحيح من لفظ الشك قوله: (فى سبع يبقين) على طريقة
العرب فى التأريخ إذا جازوا نصف الشهر فإنما يؤرخوا
بالباقى منه لا بالماضى، ولهذا المنى عدوا تاسعة تبقى ليلة
إحدى وعشرين، ولم يعدوها ليلة تسع وعشرين، وعدوا سابعة
تبقى ليلة أربع وعشرين، ولم يعدوها ليلة سبع وعشرين لما لم
يأخذوا العدد من أول العشر، وإنما كان يكون ذلك لو قال
عليه السلام: (فى تاسعة تمضى) ولما قال عليه السلام:
(التمسوها فى التاسعة والخامسة) وكان كلامًا مجملاً يحتمل
معانى، وخشى عليه السلام التباس معناه على أمته، بَيَّن
الوجه المراد منه فقال: (فى تاسعة تبقى، وفى سابعة تبقى،
وفى خامسة تبقى) ليزول الإشكال فى ذلك والله أعلم. وقوله:
(فوكف المسجد) قال صاحب الأفعال: يقال: وكف المطر والدمع
والبيت وكوفًا ووكيفا ووكفانًا: سال.
68 - باب رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِتَلاحِى
النَّاسِ
/ 98 - وفيه: عُبَادَةَ، خَرَجَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى
رَجُلانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: (خَرَجْتُ
لأخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى فُلانٌ
وَفُلانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا
لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِى التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ
وَالْخَامِسَةِ) . وقوله: (فرفعت) يعنى رفع علمها عنه بسبب
تلاحى الرجلين،
(4/157)
فحرموا به بركة ليلة القدر، والتلاحى:
التجادل والتخاصم، يقال: تلاحى فلان وفلان تلاحيًا، ولاحى
فلان فلانًا ملاحاة ولحاءً بالمد، وهذا يدل أن الملاحاة
والخلاف يصرف فضائل كثير من الدين، ويحرم أجرًا عظيمًا؛
لأن الله تعالى لم يرد التفرق من عباده، وإنما أراد
الاعتصام بحبله، وجعل الرحمة مقرونة بالاعتصام بالجماعة
لقوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن
رَّحِمَ رَبُّكَ) [هود: 118، 119] ، وروى عن الرسول وجه
آخر فى رفع معرفتها، روى ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، عن
أبى سلمة، عن أبى هريرة، أن رسول الله قال: (أريت ليلة
القدر، ثم أيقظنى بعض أهلى فنسيتها، فالتمسوها فى العشر
الغوابر) . قال الطحاوى: وهذا خلاف حديث عبادة، إلا أنه قد
يجوز أن يكون ذلك كان فى عامين، فرأى رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) فى أحدهما ما ذكره عنه أبو هريرة قبل كون
الليلة التى هى ليلة القدر، وذلك لا ينفى أن يكون فيما بعد
ذلك العام فيما قبل ذلك من الشهر، ويكون ما ذكره عبادة على
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقف على ليلة القدر
بعينها، ثم خرج ليخبرهم بها فرفعت، ثم أمر بالتماسها فيما
بعد ذلك العام فى التاسعة والسابعة والخامسة، وذلك كله على
التحرى لا على اليقين، فدل ذلك على انتقالها. وقوله: (عسى
أن يكون خيرًا لكم) يريد أن البحث عنها والطلب لها بكثير
من العمل، هو خير من هذه الجهة، والغوابر: البواقى فى آخر
الشهر، ومنه قوله تعالى: (إِلاَّ عَجُوزًا فِى
الْغَابِرِينَ) [الشعراء: 171] يعنى الباقين الذين أتت
عليهم الأزمنة، وقد تجعله العرب بمعنى الماضى أحيانًا، وهو
من الأضداد، عن الطبرى.
(4/158)
69 - باب الْعَمَلِ فِى الْعَشْرِ
الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
/ 96 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الأواخر شَدَّ
مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) .
إنما فعل ذلك عليه السلام؛ لأنه أخبر أن ليلة القدر فى
العشر الأواخر، فَسَنَّ لأمته الأخذ بالأحوط فى طلبها فى
العشر كله لئلا تفوت، إذ يمكن أن يكون الشهر ناقصًا وأن
يكون كاملا، فمن أحيا ليال العشر كلها لم يفته منها شفع
ولا وتر، ولو أعلم الله عباده أن فى ليالى السنة كلها مثل
هذه الليلة لوجب عليهم أن يحيوا الليالى كلها فى طلبها،
فذلك يسير فى جنب طلب غفرانه، والنجاة من عذابه، فرفق
تعالى بعباده وجعل هذه الليلة الشريفة موجودة فى عشر ليال؛
ليدركها أهل الضعف وأهل الفتور فى العمل مَنا من الله
ورحمة. وقال سفيان الثورى: قوله: (شد مئزره) فى هذا الحديث
يعنى: لم يقرب النساء، وفى قوله: (أيقظ أهله) من الفقه أن
للرجل أن يحض أهله على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض
من أعمال البر، ويحملهم عليها. كمل (كتاب الصيام) بحمد
الله وحسن عونه وتأييده، وصلى الله على محمد رسوله، خير
خلقه، وصفوة عبيده
(4/159)
|