شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الْحَجِّ
وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97] .
/ 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْن عباس رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِى الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، وَذَلِكَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. أجمع العلماء على أن على المرء فى عمره حجة واحدة، حجة الإسلام إذا كان مستطيعًا. واختلفوا فى الاستطاعة، فذهبت طائفة إلى أن من قدر على الوصول إلى البيت ببدنه فقد لزمه فرض الحج وإن لم يجد راحلة، وهو بمنزلة من يجد الراحلة ولا يقدر على المشى، وهو قول ابن الزبير وعكرمة والضحاك، وبه قال مالك، وذهب الحسن البصرى ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الاستطاعة: الزاد والراحلة، وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق.

(4/185)


قال المهلب: فى هذا الحديث أن الاستطاعة لا تكون الزاد والراحلة؛ ألا ترى أن ما اعتذرت به هذه المرأة عن أبيها ليس بزاد ولا راحلة، وإنما كان ضعف جسمه، فثبت أن الاستطاعة شائعة كيفما وقعت وتمكنت. قال ابن القصار: والاستطاعة فى لسان العرب القدرة، فإن جعلناها فى كل قادر جاز، سواء قدر ببدنه، أو ببدنه وماله، أو بماله، إلا أن تقوم دلالة. وإن قلنا: إن حقيقة الاستطاعة أن تكون صفة قائمة فى المستطيع كالقدرة والكلام والقيام والقعود، فينبغى أن تكون الاستطاعة صفة فيه تختصه وهذا لا يكون إلا لمن هو مستطيع ببدنه دون ماله. فإن احتجوا بما روى عن الرسول أنه قال: (السبيل: الزاد والراحلة) فإن ابن معين وغيره قالوا: روايه إبراهيم الخوزى، وهو ضعيف. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذى فيه ذكر الزاد والراحلة، وليس بمتصل، والآية عامة ليست مجملة ولا تفتقر إلى بيان، فكأنه تعالى كلف كل مستطيع على أى وجه قدر بمال أو ببدن، والدليل على ذلك قوله عليه السلام: (لا تحل الصدقة لغنى، ولا لذى مرة سوى) فجعل صحة الجسم مساوية للغنى، فسقط قول من اعتبر الراحلة. وقال إسماعيل بن إسحاق: لو أن رجلا كان فى موضع يمكنه المشى إلى الحج، وهو لا يملك راحلة لوجب عليه الحج؛ لأنه مستطيع إليه سبيلا. وما روى عن السلف فى ذلك أن السبيل: الزاد والراحلة: فإنما أرادوا التغليظ على من ملك هذا المقدار ولم يحج؛ لأنهم ذكروا أقل الأملاك التى يبلغ بها الإنسان إلى الحج، فإن قيل: فإنها عبادة تتعلق

(4/186)


بقطع مسافة بعيدة فوجبت فيها الراحلة، أصله الجهاد، قيل: لا فرق بينهما، وعندنا أن من تعين عليه فرض الجهاد وهو قادر ببدنه على المشى، فليست الراحلة شرطًا فى وجوبه عليه؛ لأنه منكسر بالهجرة، وسيأتى بعض معانى هذا الحديث فى باب: الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة من هذا الكتاب إن شاء الله. قال المهلب: وفيه من الفقه جواز الارتداف لسادة الناس ورؤسائهم، ولا سيما فى الحج لتزاحم الناس، ومشقة الرجالة، ولأن الراكب فيه أفضل، ولا خلاف بين العلماء فى جواز ركوب نفسين على دابة إذا أطاقت الدابة ذلك، وفى نظر الفضل إلى المرأة مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من شهوات النساء، وفيه أن على العالم أن يغير من المنكر ما يمكنه إذا رآه، وسيأتى بقية القول فى قصة الفضل بن عباس فى كتاب الاستئذان فى باب قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) [النور: 27] . وذكر ابن المنذر قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ، حدثنا عفان، حدثنا سكين بن عبد العزيز قال: حدثنى أبى قال: سمعت ابن عباس يقول: (كان الفضل رديف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فقال: يا ابن أخى هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له) . وقال عكرمة والضحاك ومجاهد فى قوله تعالى: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97] قالوا: من كفر بالله واليوم الآخر. وقال الحسن: من كفر بالحج فلم يره واجبًا، وقال سعيد بن جبير: قال عمر بن

(4/187)


الخطاب: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27] ) فِجَاجًا (: الطُّرُقُ الْوَاسِعَة
. / 2 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِىَ بِهِ قَائِمَةً. / 3 - وفيه: جَابِر، أَنَّ إِهْلالَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. ورَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ. ذكر ابن المنذر عن ابن عباس فى هذه الآية: هم المشاة والركبان على كل ضامر من الإبل، وروى محمد بن كعب عن ابن عباس قال: ما فاتنى شىء أشد علىَّ إلا أن أكون حججت ماشيًا؛ لأن الله تعالى يقول: (يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) [الحج: 27] فبدأ بالرجال قبل الركبان، وذكر إسماعيل بن إسحاق عن مجاهد قال: أهبط آدم بالهند، فحج على قدميه البيت أربعين حجة، وعن ابن أبى نجيح، عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، حجا ماشيين، وحج النبى عليه السلام راكبًا، ولذلك ذكر حديث ابن عمر وجابر فى هذا الباب، وذلك كله مباح، وقد قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) [الحج: 30] . قال ابن القصار: فى قوله: (يَأْتُوكَ رِجَالاً (دليل قاطع لمالك أن الراحلة ليست من شرط السبيل، والمخالفون يزعمون أن الحج لا يجب على الرجالة، وهذا خلاف الآية.

(4/188)


واختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 28] فروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد أنها التجارة، وزاد مجاهد: وما يرضاه الله من أمر الدنيا والآخرة، وقال أبو جعفر: هى المغفرة، واختاره إسماعيل بن إسحاق، وسيأتى الاختلاف فى بدء إهلال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد هذا فى موضعه إن شاء الله.
3 - باب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ
وقالت عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ. / 4 - وَقَالَ عُمَرُ: شُدُّوا الرِّحَالَ فِى الْحَجِّ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ. وَحَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ. / 5 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ، فَقَالَ: (يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ، فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ) ، فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ، فَاعْتَمَرَتْ. فى هذا الباب: فضل الحج على الرواحل، قال ابن المنذر: اختلف العلماء هل المشى فى الحج أفضل أو الركوب، فقال مالك: الركوب أحب إلىَّ من المشى، وبه قال الشافعى؛ لأن النبى عليه السلام حج راكبًا، ولفضل النفقة فى الحج، ولأنه إذا كان مستريحًا كان أقوى له على الدعاء والابتهال والتضرع، وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه، أن النبى عليه السلام قال: (النفقة فى الحج كالنفقة فى

(4/189)


سبيل الله سبعمائة ضعف) . وكان حسين بن على يمشى فى الحج، وفعل ذلك ابن جريج والثورى، وقال إسحاق: المشى أفضل، وهو محجوج بفعل النبى عليه السلام.
4 - باب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، سُئِلَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَىُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (جِهَادٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ) . / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) . قال المؤلف: إنما جعل الجهاد فى هذا الحديث أفضل من الحج؛ لأن ذلك كان فى أول الإسلام وقلَّته، وكان الجهاد فرضًا متعينًا على كل أحد، فأما إذ ظهر الإسلام وفشا، وصار الجهاد من فروض الكفاية على من قام به، فالحج حينئذ أفضل؛ ألا ترى قوله لعائشة: (إن أفضل جهادكن الحج) لما لم يكنّ من أهل القتال والجهاد للمشركين، فإن حّلَّ العدو ببلدة واحتيج إلى دفعه، وكان له ظهور وقوة وخيف منه؛ توجه فرض الجهاد على العيان، وكان أفضل من الحج والله أعلم.

(4/190)


وقال المهلب: وقوله: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور) . يفسر قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب: 33] أنه ليس على الفرض لملازمة البيوت، كما زعم من أراد تنقص عائشة فى خروجها إلى العراق للإصلاح بين المسلمين، وهذا الحديث يخرج الآية عما تأولوها؛ لأنه قال: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور) فدل هذا أن لهن جهادًا غير جهاد الحج، والحج أفضل منه. فإن قيل: إن النساء لا يحل لهن الجهاد، قيل: قد قالت حفصة: (قدمت علينا امرأة غزت مع النبى عليه السلام ست غزوات، وقالت: كنا نداوى الكلمى، ونقوم على المرضى، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أراد الغزو أسهم بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها غزا بها) .
5 - بَاب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
/ 9 - فيه: زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ أَتَى عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِى مَنْزِلِهِ، وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ، فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ. أجمع أئمة الفتوى أن المواقيت فى الحج والعمرة سنة واجبة،

(4/191)


وقالوا: هى توسعة ورخصة يتمتع المرء يحلها حتى يبلغها، ولا أعلم أحدًا قال: إن المواقيت من فروض الحج. وقول ابن عمر: (فرضها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يريد وَقَّتَها وَبَّيَنها، وهذا الباب رد على عطاء والنخعى والحسن، فإنهم زعموا أنه لا شىء على من ترك الميقات ولم يُحْرم وهو يريد الحج والعمرة، وهذا شذوذ من القول، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعى: إنه يرجع من مكة إلى الميقات، واختلفوا إذا رجع هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك، ورواية عن الثورى: لا يسقط عنه الدم برجوعه إليه محرمًا، وهو قول ابن المبارك. وقال أبو حنيفة: إن رجع إليه فلبى فلا دم عليه، وإن لم يلب فعليه الدم، وقال الثورى وأبو يوسف ومحمد والشافعى: لا دم عليه إذا رجع إل الميقات بعد إحرامه على كل وجه.
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]
/ 10 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (. قال المهلب: فيه من الفقه أن ترك سؤال الناس من التقوى؛ ألا ترى أن الله مدح قومًا فقال: (لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273] ، وكذلك معنى قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197] أى تزودوا فلا تؤذوا الناس بسؤالكم إياهم، واتقوا الإثم فى أذاهم بذلك. وفيه: أن التوكل لا يكون مع السؤال، وإنما التوكل على الله

(4/192)


دون استعانة بأحد فى شئ، ويبين ذلك قوله عليه السلام: (يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) . فهذه أسباب التوكل وصفاته. وقال الطحاوى: لما كان التزود فيه ترك المسألة النهى عنها فى غير الحج، وكانت حرامًا على الأغنياء قبل الحج؛ كانت فى الحج أوكد حرمة، وقال سعيد بن جبير فى قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا (قال: الكعك والسويق، وليس هذا من سعيد على أن هذه الأصناف من الأزواد هى التى أبيحت فى الحج دون ما سواها، ولكنه على إفهام السائل أن المراد هو الزاد الذى هو قوام الأبدان، لا على التزود من الأعمال، ثم أتبع ذلك بقوله: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (فكان هذا والله أعلم أن من التقوى ترك التعرض لحال من الأحوال التى يخرج أهلها إلى المسألة المحرمة عليهم.
7 - باب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
/ 11 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. وترجم له باب: (مهل أهل الشام) ، وباب: (مهل من كان دون المواقيت) ، وباب: (مهل أهل اليمن) . قال ابن المنذر: والعلماء متفقون على أن مهل مكة للحج من

(4/193)


مكة، كما وقت لهم النبى عليه السلام فاللازم على ظاهر هذا الخبر أن لا يخرج أهل مكة عن بيوت مكة إلا محرمين، وسنتهم ألا طواف ولا سعى عليهم، وإنما ذلك على من يقدم مكة من غير أهلها. قال ابن المنذر: يجمع هذا الحديث أبوابًا من السنن، منها: أن هذه المواقيت لكل من أتى عليها من غير اهلها، فإذا جاء المدنى من الشام على طريق الساحل أحرم من الجحفة، وإذا أتى اليمانى على ذى الحليفة احرم منها، وإذا أتى النجدى من تهامة أحرم من يلملم، وكل من مر بميقات بلدة احرم منه، ومنها: أن ميقات كل مَنْ منزله دون الميقات مما يلى مكة مِنْ منزله ذلك. ومنها: أن أهل مكة ميقاتهم مكة، ومنها: أن هذه المواقيت إنما يلزم منها ومن يريد حجا أو عمرة، ولا يلزم الإحرام منها من لا يريد الحج والعمرة، ولو مر مدنى بذى الحليفة ولا يريد حجا ولا عمرة فسار حتى قرب من الحرم أراد الحج والعمرة فإنه يحرم من حيث حضرته نية الحج أو العمرة، ولا يجب عليه ما وجب على من مر بميقاته وهو يريد الحج والعمرة ولم يحرم منه، واحرم من وراء ذلك مما يلى مكة. وعلى هذا عامة العلماء إلا أحمد وإسحاق فإنهما قالا: يرجع إلى ذى الحليفة ويحرم، والقول الأول أبين؛ لدلالة حديث ابن عباس على ذلك؛ ولأن ابن عمر أحرم من الفرع، وهو بعد الميقات، وهو راوى حديث المواقيت، ومحال أن يتعدى ذلك مع علمه به ويوجب على نفسه دمًا، هذا ما لا يظنه عالم.

(4/194)


وقال الشافعى: يحمل فعل ابن عمر أنه مر بميقاته لا يريد إحرامًا، ثم بدا له أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها، ثم بدا له فى الإحرام. واختلفوا إذا مر بذى الحليفة وهو يريد الحج والعمرة ولم يحرم منها، وأحرم من الجحفة، فقال مالك: عليه دم، وهو قول الليث والثورى والشافعى، واختلف فى ذلك أصحاب مالك، فمنهم من أوجب الدم، ومنهم من لم يوجبه، ورخص فى ذلك الكوفيون والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقالوا: لا شىء عليه. وروى عن عائشة انها كانت إذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة، وإن أرادت الحج أحرمت من ذى الحليفة. قال ابن المواز: ويدل امر النبى عليه السلام عائشة أن تخرج من الحرم وتحرم بعمرة، على أن مكة ليست بميقات يحرم منها للعمرة، فبان بهذا أن معنى قوله عليه السلام فى حديث ابن عباس: (حتى أهل مكة يهلون من مكة) أنه أراد الإحرام بالحج فقط، دون الإحرام بالعمرة؛ إذ لو كان على ظاهر الحديث لكان ميقات أهل مكة للحج والعمرة مكة، كما كان لأهل المواقيت ولمن دونها مما يلى الحرم الإحرام من مواقيتهم، فلما امر عائشة أن تحرم من التنعيم دل أن إهلال أهل مكة من مكة إنما هو بالحج دون العمرة. قال غيره: وأئمة الفتيا متفقون على أن المكى إذا أراد العمرة أنه لابد له من الخروج إلى الحِلِّ يهل منه؛ لأنه لابد له فى عمرته من

(4/195)


الجمع بين الحل والحرم، وليس ذلك على الحاج المكى؛ لأنه خارج فى حجه إلى عرفات، وهى الحل، وشذ ابن الماجشون فى مسألة من هذا الباب فقال: لا يقرن المكى من مكة قياسًا على المعتمر، وخالفه مالك وجميع أصحابه فقالوا: إنه يقرن من مكة؛ لأنه خارج فى حجه إلى الحل عرفات، وقد ذكر ابن المواز عن مالك أنه لا يقرن المكى إلا بمكة؛ لأنه خارج فى حجه من الحل، كقول ابن الماجشون. فإن اعتمر من مكة ولم يخرج إلى الحل للإحرام حتى طاف وسعى، ففيها قولان: أحدهما: أن عليه دمًا لترك الميقات، وعمرته تامة، وهذا قول الكوفيين وأبى ثور، وأحد قول الشافعى، والقول الثانى: أن ذلك لا يجزئه حتى يخرج من الحرم ثم يطوف ويسعى، ويقصر أو يحلق، ولا شىء عليه، ولو كان حلق أهراق دمًا، هذا قول الشافعى الآخر، وهو قول مالك وأصحابه. قال مالك: وما رأيت أحدًا أحرم بعمرة من الحرم، ولا يحرم أحد بعمرة من مكة، ولا تصح العمرة عند جميع العلماء إلا فى الحل المكى أو غيره. قال ابن المنذر: وهذا أشبه. وحكى الثورى عن عطاء أنه من أهل بعمرة أنه لا شىء عليه، قال سفيان: ونحن نقول: إذا أهل بها لزمته ويخرج إلى الميقات، وقال ابن المنذر: المحرم بعمرة من مكة تارك لميقاته، فعليه أن يخرج من الحرم ليكون قد رجع إلى ميقاته، كما نأمر من جاز ميقاته أن يرجع ما لم يطف بالبيت، فإن لم يخرج إلى الحل حتى يفرغ من نسكه فعليه دم، كما يكون ذلك على من ترك ميقاته حتى فرغ من نسكه، وأما إذا كان منزل الرجل

(4/196)


بين مكة والمواقيت، فجمهور الفقهاء قائلون بحديث ابن عباس أنه يحجرم من موضعه بالحج، وهو ميقاته، وإن لم يحرم منه فهو كمن ترك ميقاته، فعليه أن يرجع، فإن لم يفعل فعليه دم، قال مجاهد: ميقاته من مكة. وهذا خلاف قوله عليه السلام: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) قال ابن المنذر: وفى حديث ابن عباس إثباته عليه السلام يلملم ميقاتًا لأهل اليمن؛ لأن ابن عمر قال: (ويزعمون أن النبى عليه السلام قال: وهل أعل اليمن من يلملم) فأسنده ابن عباس.
8 - باب مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلا يُهِلُّوا قَبْلَ ذِى الْحُلَيْفَةِ
/ 12 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ) . قَالَ عَبْدُاللَّهِ: وَبَلَغَنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ) . وترجم له باب: (مهل أهل نجد) . قال ابن المنذر: أمر النبى عليه السلام أهل المدينة وأهل الشام وأهل نجد واليمن أن يهلوا من المواضع التى حَدَّها، وأحرم عليه السلام من الميقات الذى بينه لأهل المدينة، وترك أن يحرم من منزله، وعمل بذلك أصحابه وعوام أهل العلم، وغير جائز أن يكون فعل أعلى من فعله، أو عمل أفضل من عمله، ولقد سئل مالك عن هذه المسألة فتلا قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور: 63] الآية. وقد أجمع أهل العلم على أنه من أحرم قبل أن يأتى الميقات

(4/197)


أنه محرم، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، واستحبه آخرون، فممن رأى ذلك ابن عمر أحرم من إيلياء، وسئل على وابن مسعود عن قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] فقالا: أن تحرم من دوبرة أهلك. وأجاز ذلك علقمة والأسود، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى. وكره الإحرام قبل المواقيت عمر بن الخطاب، وأنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان بن عفان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات، وهو قول عطاء، والحسن، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وقال أحمد: المواقيت أفضل؛ لأنها سنة النبى عليه السلام قال إسماعيل القاضى: وإنما كرهوا ذلك والله أعلم لئلا يضيق المرء على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث فى إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام فإنه زاد ولم ينقص. قال الطحاوى: وأخذ قوم بحديث ابن عمر وابن عباس، وذهبوا إلى أن أهل البعراق لا ميقات لهم فى الإحرام كميقات سائر أهل البلدان؛ وإنما يلهون من حيث مروا عليه من هذه المواقيت المؤقتة فى حديث ابن عباس وابن عمر. قال المؤلف: وسأذكر فى الباب بعد هذا اختلاف الناس فى ميقات أهل العراق إن شاء الله.
9 - باب ذَاتُ عِرْقٍ لأهْلِ الْعِرَاقِ
/ 13 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدَّ لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ

(4/198)


طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ ذلك عَلَيْنَا، قَالَ: (فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ) . اختلف العلماء فى ميقات أهل العراق، فقال مالك والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: ميقاتهم ذات عرق، وقالت طائفة: ميقاتهم العقيق، روى ذلك عن أنس بن مالك، واستحبه الشافعى. قال ابن المنذر: والإحرام من العقيق أفضل، ومن ذات عرق يجزئ، وكان القاسم بن عبد الرحمن، وخصيف يحرمان من الربذة، وهو قول الحسن بن صالح، ولولا سنة عمر لكان هذا أشبه بالنظر؛ لأن المعنى عندهم فى ذات عرق أنه بإزاء قرن، والربذة بإزاء ذى الحليفة، غير أن عمر لما سن ذات عرق وتبعه عليه من حج من أهل العراق، فمر بذلك العمل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتابعين وعوام أهل العلم إلى اليوم كان أولى بالاتباع. واختلفوا فيمن وَقَّتَ لهم ذات عرق، فقالت طائفة: وقته عمر بن الخطاب، واحتجوا بهذا الحديث، وهو قول ابن عباس وابن عمر وعطاء، وقال آخرون: بل وقت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم العقيق وذات عرق، كما وقت لأهل الشام بالجحفة، والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق، فوقت المواقيت لأهل النواحى؛ لأنه علم أنه سيفتح الله على أمته الشام والعراق وغيرها من البلاد لقوله عليه السلام: (وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها) . واحتجوا بما رواه أبو داود قال: حدثنا هشام بن بهرام، حدثنا المعافى، حدثنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت: (وَقَّت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل العراق ذات

(4/199)


عرق) . وهو قول جابر بن عبد الله، وروى الثورى عن يزيد بن أبى زياد، عن محمد بن على، عن ابن عباس قال: (وقت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل المشرق العقيق) . وهذا اختلاف، قال ابن المنذر: ولا يثبت فى ذلك عن الرسول سنة. قال المهلب: وفى قول عمر: (فانظروا حذوها من طريقكم) إباحة القياس على السنن المعروفة الحكم بالتشبيه والتمثيل، يدل على ذلك ما رواه عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لما وقت قرن لأهل نجد، قال عمر: قيسوا من نحو العراق كنحو قرن. فاختلفوا فى القياس، فقال بعضهم: ذات عرق، وقال بعضهم: بطن العقيق، قال ابن عمر: فقاس الناس ذلك. والناس حينئذ هم علماء الصحابة الذين هم حجة على من خالفهم. وقولهم لعمر: (وهو جَوْر عن طريقنا) يعنون هو منحرف ومنعدل عنه، ومنه قوله تعالى: (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ) [النحل: 9] يعنى غير قاصد. قال الراجز: فجار عن نهج الطريق القاصد ومنه جار السلطان إذا عدل فى حكمه عن الحق إلى الباطل.

(4/200)


- بَاب الصلاة بذِى الْحُلَيْفَةِ
/ 14 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا. وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. الصلاة بذى الحليفة ليست من سنن الحج، وإنما هو موضع الإهلال لأهل المدينة، وقد أرى النبى عليه السلام فى النوم وهو يعرس فيها قيل له: إنك ببطحاء مباركة، فلذلك كان عليه السلام يصلى فيها تبركًا بها، ويجعلها عند رجوعه من مكة موضع مبيته ليبكر منها إلى المدينة، ويدخلها فى صدر النهار والله أعلم.
- باب خُرُوجِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ
/ 15 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّى فِى مسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. وقال المؤلف: ليس خروجه على طريق الشجرة ورجوعه من طريق المعرس من سنن الحج. قال المهلب: وإنما فعل ذلك والله أعلم ليكثر عدد المسلمين فى أعين المنافقين وأهل الشرك كما فعل فى العيدين، ومبيته عليه السلام بذى الحليفة عند رجوعه من الحج على قرب من الوطن لتتقدم أخبار القادمين على أهليهم، فتأخذ المرأة على نفسها، وهو فى معنى كراهيته عليه السلام للرجل أن يطرق أهله ليلا من سفره والله أعلم.

(4/201)


- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ
/ 16 - فيه: عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بِوَادِى الْعَقِيقِ يَقُولُ: (أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى، فَقَالَ: صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِى حَجَّةٍ) . / 17 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، رُئِىَ وَهُوَ فِى مُعَرَّسٍ بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ، يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِى كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُنِيخُ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِى بِبَطْنِ الْوَادِى، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ. قال المهلب: بهذه الرؤيا حكم النبى عليه السلام بنسخ ما كان فى الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج؛ لأن رؤيا الأنبياء وحى، فأمر أصحابه الذين أهلوا بالحج من ذى الحليفة ممن لم يكن معه هدى أن يفسخوه فى عمرة، فعظم ذلك عليهم لبقائه هو على حجه من أجل ما كان ساق من الهدى، وما كان استشعره من التلبيد لرأسه، وفيه أن السنن والفرائض قد يخبر عنها بخبر واحد فيما اتفقا فيه، وإن كان حكمها يختلف فى غيره، فلما كان الإحرام بالحج والعمرة واحدًا أخبر الله عنها فى هذه الرؤيا بذلك فقال: (عمرة فى حجة) أى إحرامكم تدخل فيه العمرة والحجة متتاليًا ومفترقًا.

(4/202)


قال ابن القصار: وقد احتج الكوفيون للقِران أنه أفضل من الإفراد، وأنه الذى أمر به النبى عليه السلام أن نفعله بقوله عليه السلام: (وقل عمرة فى حجة) . فالجواب أنه يحتمل أن يريد أحد أمرين: إما أن يحرم بالعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله، فكأنه قال: إذا خرجت وحججت فقل: لبيك بعمرة، وتكون فى حجتك التى تحج فيها. قال المؤلف: ويؤيد هذا التأويل ما رواه البخارى فى هذا الحديث فى كتاب الاعتصام (وقل: عمرة وحجة) ففصل بينهما بالواو. قال ابن القصار: ويحتمل أن يريد أن أفعال العمرة هى بعض أفعال الحج، فكأنه أوقع أفعال العمرة فى فعل هو بعض أفعال الحج، وقال غيره: معناه: (قل: عمرة فى حجة) أى قل ذلك لأصحابك، أى أعلمهم أن القِران جائز، وأنه من سنن الحج. قال الطبرى: وهذا نظير قوله عليه السلام: (دخلت العمرة فى الحج إلى يوم القيامة) . قال: ومعنى قوله عليه السلام: (أتانى آت من ربى فقال: صل فى هذا الوادى المبارك) . فهو إعلام منه عليه السلام بفضل المكان لا إيجاب الصلاة فيه؛ لأن الأمة مجمعة أن الصلاة بوادى العقيق غير فرض، فبان بهذا أن أمره عليه السلام بالصلاة فيه نظير حثه لأمته على الصلاة فى مسجده ومسجد قباء والله الموفق.

(4/203)


- باب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ
/ 18 - فيه: يَعْلَى أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: أَرِنِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِى رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَسَكَتَ، عليه السَّلام، سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْىُ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَقَالَ: (أَيْنَ الَّذِى سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ) ؟ فَأُتِىَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ: (اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِى بِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجَّتِكَ) ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الإنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. كان هذا الحديث بالجعرانة فى منصراف النبى عليه السلام من غزوة حنين، وفى ذلك الموضع قسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غنائم حنين، وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا التطيب عند الإحرام، وهو قول عمر، وعثمان، وابن عمر، وعثمان بن أبى العاص، وعطاء، والزهرى، ومالك، ومحمد بن الحسن، وخالفهم فى ذلك آخرون، فأجازوا الطيب عند الإحرام. قال المؤلف: وسأذكرهم فى الباب بعد هذا إن شاء الله، وقالوا: لا حجة فى حديث يعلى لمن خالفنا؛ لأن ذلك الطيب الذى كان على الرجل إنما كان صفرة خلوق، وذلك مكروه للرجال فى حال الإحلال والإحرام، وإنما نبيح من الطيب عند الإحرام ما هو حلال فى حال الإحلال، وقد بيَّن ذلك ما رواه همام عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، عن النبى عليه السلام

(4/204)


أنه قال له: (اغسل عنك أثر الخلوق أو الصفرة) فأمره بغسله لما ثبت من نهيه عليه السلام أن يتزعفر الرجل فى حال الإحلال والإحرام؛ لأنه من طيب النساء، لا لأنه طيب تطيب به بعد الإحرام، وليس فى ذلك دليل على حكم من أراد الإحرام: هل له أن يتطيب بطيب يبقى عليه بعد الإحرام أم لا؟ قالوا: وقد ثبت عن عائشة أنها كانت تطيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند إحرامه بأطيب ما تجد. قال المؤلف: وسيأتى الجواب عن حديث عائشة لمن لم يجز الطيب عند الإحرام فى الباب بعد هذا إن شاء الله. واحتج الطحاوى لمحمد بن الحسن فى رد هذا التأويل المتقدم. فقال: الحجة لمنع الطيب عند الإحرام من طريق النظر أن الإحرام يمنع من لبس الثياب كلها، ويمنع من الطيب، ومن قتل الصيد وإمساكه، فلما أجمعوا أن الرجل إذا لبس قميصًا قبل أن يحرم ثم أحرم وهو عليه؛ أنه يؤمر بنزعه، وإن لم ينزعه وتركه بعد إحرامه كان كمن لبسه بعد إحرامه لبسًا مستقبلا، وتجب عليه الفدية، وكذلك لو اصطاد وهو حلال فأمسكه بيده ثم أحرم أمر بتخليته، وإلا كان كابتداء الصيد فى إحرامه، فلما صح ما ذكرناه وكان التطيب محرمًا على المحرم بعد إحرامه كحرمة هذه الأشياء، كان ثبوت الطيب عليه بعد إحرامه، وإن كان قد تطيب به قبل إحرامه كتطيبه به بعد إحرامه قياسًا ونظرًا، وبه يأخذ الطحاوى.

(4/205)


قال المؤلف: وأما قول من أباح الطيب قبل الإحرام أن الخلوق والصفوة نهى عن الرجال فى حال الإحلال والإحرام، فليس كذلك عند من منع الطيب للإحرام، وإن نهى النبى عليه السلام أن يتزعفر الرجل إنما هو محمول عند أهل المدينة على أن المراد به حال الإحرام فقط، وأنه مباح فى الإحلال، ولهم فى ذلك حجج سأذكرها فى كتاب اللباس والزينة عند نهيه عليه السلام أن يتزعفر الرجل إن شاء الله. قال المهلب: وفيه من الفقه أن السنن قد تكون بوحى من الله كما كان غسل الطيب فى هذا الحديث بالوحى، ولم يقل أحد أنه فرض، وفيه وجوب التثبت للعالم فيما يسئل عنه، وإن لم يعرفه سأل من فوقه كما فعل النبى عليه السلام، وفيه أن غسل الطيب عند الإحرام ينبغى أن يبالغ فى إزالته؛ ألا ترى أنه أمره بغسله ثلاث مرات. وقوله: (اصنع فى عمرتك ما تصنع فى حجتك) : يعنى اجتنب فى عمرتك كل ما تجتنب فى حجتك؛ ألا ترى قول ابن عمر: ما أمرُهما إلا واحد. يعنى فى الإحرام والحرمة، وكذلك كل ما يستحسن من الدعاء والتلبية فى الحج فهو مستحسن فى العمرة. قال ابن المنذر: وقد احتج بعض من أسقط الفدية عمن جهل، فلبس فى إحرامه ما ليس له لبسه، وجعل الناسى فى معناه، بحديث الجبة؛ لأن النبى عليه السلام أمره بنزعها ولم يأمره بالفدية، وهو قول عطاء، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: من ابتاع خفين فجربهما فى رجليه، فإن كان شيئًا

(4/206)


خفيفًا فلا شىء عليه، وإن تركهما حتى منعه ذلك من حر أو برد أو مطر افتدى، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن غطى المحرم وجهه ورأسه متعمدًا أو ناسيًا يومًا إلى الليل فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها.
- باب الطِّيبِ عِنْدَ الإحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ، وَيَنْظُرُ فِى الْمِرْآةِ، وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ. وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا. / 19 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ، قَالَ سعيد بن جبير: فَذَكَرْتُهُ لإبْرَاهِيمَ، فقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنِى الأسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُحْرِمٌ. / 20 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لإحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. أجاز الطيب قبل الإحرام من الصحابة: سعد بن أبى وقاص، وابن عباس، وأبو سعيد الخدرى، وابن الزبير، وعائشة، وأم حبيبة، ومن التابعين: عروة، والقاسم بن محمد، والشعبى، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث عائشة أنها كانت تطيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لإحرامه قبل أن يحرم.

(4/207)


واعتل الذين لم يجيزوا الطيب للإحرام، الذين ذكرتهم فى الباب قبل هذا، بأن قالوا: يحتمل أن يكون عليه السلام مخصوصًا بالطيب؛ لأنه أملك لإربه من سائر أمته، وأن الطيب إنما مُنِعَ فى الإحرام؛ لأنه داعية إلى الجماع ويذكر النساء، فكان أملك لإربه، فلذلك تطيب، قاله ابن القصار والمهلب، وزاد المهلب معنى آخر أنه خص عليه السلام بالطيب عند الإحرام لمباشرته الملائكة بالوحى وغيره. واعتل الطحاوى فى دفع حديث عائشة بما رواه شعبة وسفيان ومسعر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: (سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال: لأن أطلى بقطران أحب إلى من أن أصبح محرمًا ينضح منى ريح الطيب، قال: فدخلت على عائشة فأخبرتها بقول ابن عمر فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، طيبت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فطاف على نسائه ثم أصبح محرمًا) . قال: فقد بان بهذا الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طاف على نسائه بعد التطيب، وإذا طاف على نسائه اغتسل لا محالة، فكان بين إحرامه وتطييبه غسل، قال: فكأن عائشة إنما أرادت بهذا الحديث الاحتجاج على من كره أن يوجد من المحرم بعد إحرامه ريح الطيب كما كره ذلك ابن عمر، وأما بقاء نفس الطيب على بدن المحرم بعدما أحرم فإن كان إنما تطيب به قبل الإحرام فلا، فَتَفَهَّمْ هذا الحديث فإن

(4/208)


معناه معنى لطيف. فإن قيل: قد قالت عائشة: (كنت أرى وبيص الطيب فى مفارق رسول الله بعدما أحرم) ، والوبيص عند العرب: البريق، قيل: يجوز أن يكون ذلك وقد غسله، وهكذا الطيب ربما غسله الرجل عن وجهه فيذهب ويبقى وبيصه. وأما الطيب للحل بعد رمى جمرة العقبة، فرخص فيه ابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والنخعى، وخارجة ابن زيد، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور على ظاهر حديث عائشة، وكرهه سالم، وهو قول مالك. قيل لابن القاسم: فإن فعل أَفَتَرَى عليه الفدية؟ قال: لا أرى عليه شيئًا لما جاء فى ذلك، رواها أبو ثابت عنه. وقال ابن المنذر: أجمع عوام العلماء أن للمحرم أن يأكل الزيت والسمن والشيرج، وأن له أن يستعمل ذلك فى جميع بدنه سوى رأسه ولحيته، فإن استعمله فى رأسه ولحيته افتدى. وأجمعوا أن الطيب لا يجوز له استعماله فى بدنه، ففرقوا بين الطيب والزيت فى هذا الوجه، فقياس هذا أن يكون المحرم ممنوعًا من استعمال الطيب فى رأسه كما منع فى بدنه، وأن يجب له استعمال السمن والزيت فى رأسه كما أبيح له فى بدنه، وكلهم أوجب فى دهن البنفسج الفدية إلا الشافعى فإنه قال: ليس بطيب، وإنما يستعمل للمنفعة. وأجمع عوام العلماء على أن للمحرم أن يعقد الهيمان على وسطه، روى ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وعطاء،

(4/209)


وطاوس، والنخعى، وهو قول مالك والكووفيين والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، غير إسحاق فقال: لا يعقده، ولكن يدخل السيور بعضها فى بعض، وسئلت عائشة عن المنطقة، فقالت: أوثق عليك نفقتك، وقال ابن علية: قد أجمعوا أن للمحرم أن يعقد الهيمان والإزار على وسطه، والمنطقة كذلك. وقول إسحاق لا يعد خلافًا ولا حَظَّ له فى النظر؛ لأن الأصل النهى عن لباس المخيط، وليس هذا مثله، فارتفع أن يكون له حكمه. واختلفوا فى الرداء الذى يلتحف به على مئزره، فكان مالك لا يرى عقده، وتلزمه الفدية إن انتفع به، ونهى عنه ابن عمر، وعطاء، وعروة، ورخص فيه سعيد بن المسيب، وكرهه الكوفيون وأبو ثور وقالوا: لا شىء عليه إن فعل، وحكى عن مالك أنه رخص للعامل أن يحزم الثوب على بطنه، وكرهه لغيره. وأجاز شم الريحان للمحرم سوى ابن عباس: الحسن، ومجاهد، وهو قول إسحاق، وكرهه مالك والكوفيون قالوا: لا شىء عليه إن شمه، وكرهه الشافعى وأبو ثور، وأوجبوا عليه الفدية. وأجاز جمهور العلماء النظر فى المرآة، وكان أبو هريرة يفعله، وقال مالك: لا يفعل ذلك إلا من ضرورة. قال المؤلف: وقول النخعى لسعيد بن جبير: (ما تصنع بقوله) فيه حجة أن المَفْزَعَ فى النوازل إلى السنن، وإنها مستغنية عن آراء

(4/210)


الرجال، وفيها المقنع والحجة البالغة، وأن ممن نزع بها عند الإختلاف فقد أفلح وغلب خصمه.
- باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا
/ 21 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُهِلُّ مُلَبِّدًا. التلبيد عند الإحرام مستحب، فمن شاء فعله، ومن شاء تركه، ون لبد فعليه الحلاق؛ لأن النبى عليه السلام حلق، وستأتى أقوال العلماء فى هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله. وقال ابن قتيبة: الملبد الذى لبد رأسه بلزوق يجعله فيه.
- باب الإهْلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِى الْحُلَيْفَةِ
/ 22 - فيه: ابْن عُمَرَ، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، يَعْنِى مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ. اختلف العلماء فى المواضع الذى أحرم منه رسول الله، فقال قوم: إنه أهل من مسجد ذى الحليفة، وقال آخرون: لم يهل إلا من بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد، روى ذلك عن ابن عمر أيضًا، وعن أنس، وابن عباس، وجابر، وقال آخرون: بل أحرم حين أطل على البيداء. قال الطحاوى: وقد قال من خالفهم: قد يجوز أن يكون عليه السلام أحرم منها، لا لأنه قصد أن يكون إحرامه منها أفضل فى

(4/211)


الإحرام منها على الإحرام مما سواها، وقد رأيناه فعل فى حجته أشياء فى مواضع لا لفضلها، كنزوله عليه السلام بالمحصب من منى، لم يكن ذلك لأنه سنة، ولكن لمعنى آخر، فلما حصب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يكن ذلك لأنه سنة، فكذلك أحرم حين صار على البيداء، لا لأن ذلك سنة، وقد أنكر قوم أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحرم من البيداء، روى مالك عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه أنه قال: (بيداؤكم هذه التى تكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها، ما أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا من مسجد ذى الحليفة، قالوا: وإنما كان ذلك بعدما ركب راحلته) . واحتجوا بما رواه أبى ذئب عن الزهرى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام: (أنه كان يهل إذا استوت به راحلته قائمة) . وكان ابن عمر يفعله، قالوا: وينبغى أن يكون ذلك بعدما تنبعث به راحلته، واحتجوا بما رواه مالك عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر قال: (لم أر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يهل حتى تنبعث به راحلته) . فلما اختلفوا فى ذلك أردنا أن ننظر من أين جاء اختلافهم، فذكر ابن إسحاق قال: حدثنى خصيف، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى إهلاله فى حجته، فقال: إنى لأعلم الناس بذلك، خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حاجا، فلما صلى فى مسجد ذى الحليفة أهل بالحج، فسمع ذلك قوم فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه فى المرة الأولى؛ لأن الناس قد كانوا

(4/212)


يأتون أرسالاً، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، ثم مضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلما وقف على شرف البيداء أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه فى المرتين فنقل كل واحد منهم ما سمع، فإنما كان إهلال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مصلاه حين فرغ من صلاته) . فبين ابن عباس الوجه الذى منه جاء اختلافهم وأن إهلال النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى ابتدأ الحج به كان فى مصلاه، فينبغى لمن أراد الإحرام أن يصلى ركعتين ثم يحرم فى دبرهما كما فعل النبى عليه السلام، وهو قول جمهور العلماء. قال ابن المنذر: وإن أحرم من غير صلاة تتقدم إحرامه أجزأه لأمر النبى عليه السلام أسماء بنت عميس وهى نفساء بالاغتسال والإحرام، والنفساء غير طاهر، ومحال أن تصلى فى تلك الحال، وقد أخبر عليه السلام أنه لا تقبل صلاة بغير طهور، وسأذكر فى باب: (من أهل حين استوت به راحلته) وجهًا آخر غير ما قاله ابن عباس فى معنى اختلاف الروايات فى ابتداء إهلال النبى عليه السلام عن سعد بن أبى وقاص إن شاء الله.
- باب مَا لا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ
/ 23 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَلْبَسُ الْقُمُصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إِلا أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ،

(4/213)


فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ) . كل ما ذكر فى هذا الحديث فمجمع عليه أنه لا يلبسه المحرم، ويدخل فى عنى ما ذكر من القمص والسراويلات المخيط كله، فلا يجوز لباس شىء منه عند جميع الأمة. وأجمعوا أن المراد بالخطاب المذكور فى اللباس فى هذا الحديث الرجال دون النساء، أنه لا بأس بلباس المخيط والخفاف للنساء، وأجمعوا أن إحرام الرجل فى رأسه، وأنه ليس له أن يغطيه لنهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن لبس البرانس والعمائم، وعند مالك إحرام الرجل فى رأسه ووجهه، واختلفوا فى تخمير وجهه، وسنذكره بعد هذا إن شاء الله، ونذكر اختلافهم فى من لبس خفين غير مقطوعين وهو غير واجد للنعلين، أو من لبسهما مقطوعين وهو واجد للنعلين فى آخر كتاب الحج إن شاء الله. وأجمعت الأمة على أن المحرم لا يلبس ثوبًا مسه ورس أو زعفران، والورس: نبات باليمن صبغه بين الحمرة والصفرة ورائحته طيبة، فإن غسل ذلك الثوب حتى يذهب منه ريح الروس أو الزعفران فلا بأس به عند جميعهم، وكرهه مالك للمحرم إلا أن لا يجد غيره. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (ولا تلبسوا شيئًا مسه زعفران أو روس) دليل أن قول عائشة: (طيبت رسول الله لإحرامه) خصوص له؛ لأنه تطيب ونهى عن الطيب فى هذا الحديث، وإنما اختص بذلك؛ لأن الطيب من دواعى الجماع، وهو أملك

(4/214)


لإربه، كما نهى المحرم عن النكاح، وعقد هو نكاح ميمونة وهو محرم؛ لأنه أملك لإربه.
- باب الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ فِى الْحَجِّ
/ 24 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ رِدْفَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلاهُمَا، قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. قال المهلب: فيه أن الحج راكبًا أفضل منه على الرجلة، وقد تقدم هذا القول، ومن خالفه فى باب الحج على الرَّحْل، وفيه ارتداف العالم من يخدمه، وفيه التواضع بالإرداف للرجل الكبير والسلطان الجليل، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الحج، وسيأتى ذكر قطع التلبية فى موضعه إن شاء الله.
- باب مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأرْدِيَةِ وَالأزُرِ
وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ، وَقَالَتْ: لا تَلَثَّمْ، وَلا تَتَنقب، وَلا تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ، أوْ زَعْفَرَانٍ. وَقَالَ جَابِرٌ: لا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِىِّ، وَالثَّوْبِ الأسْوَدِ، وَالْمُوَرَّدِ، وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ. / 25 - فيه: ابْن عَبَّاس، انْطَلَقَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ،

(4/215)


وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأرْدِيَةِ وَالأزُرِ تُلْبَسُ إِلا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِى تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ؛ لأنَّهُ قَلَّدَهَا، ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ، وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ يَحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِىَ لَهُ حَلالٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ. قال المهلب: أجمع المسلمون أن المحرم لا يلبس إلا الأرز والأردية وما ليس بمخيط، لأن لبس المخيط من الترفه، فأراد الله عز وجل أن يأتوه شعثًا غبرًا آثار الذلة والخشوع، فلذلك نهى عليه السلام المحرم أن يلبس ثوبًا مصبوغًا بورس أو زعفران؛ لأن ذلك طيب، ولا خلاف بين العلماء أن لبس المحرم ذلك لا يجوز. واختلفوا فى الثوب المعصفر للمحرم، فأجازه جابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء بنت أبى بكر، وهو قول القاسم وعطاء وربيعة. وقال مالك: العصفر ليس بطيب، وكرهه للمحرم؛ لأنه ينتفض على جلده، فإن فعل فقد أساء ولا فدية عليه، وهو قول الشافعى، وقال أبو ثور: إنما كرهنا المعصفر؛ لأن النبى عليه السلام نهى عنه، لا أنه طيب، وكره عمر بن الخطاب لباس الثياب المصبغة. وقال أبو حنيفة والثورى: العصفر طيب وفيه الفدية،

(4/216)


وقال ابن المنذر: إنما نهى عن المصبغة فى الإحرام تأديبًا، ولئلا يلبسه من يقتدى به، فيغتر به الجاهل ولا يميز بينه وبين الثوب المزعفر، فيكون ذريعة للجهال إلى لبس ما نهى عنه المحرم من الورس والزعفران. والدليل على ذلك: أن عمر رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبًا مصبوغًا فقال له: ما هذا يا طلحة؟ قال: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر، فقال عمر: (إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم، لو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب قال: رأيت طلحة يلبس المصبغة فى الإحرام) . وإن كان أراد به التحريم فقد خالفه غيره من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والصواب عند اختلافهم أن ينظر إلى أَوْلاهم قولا فيقال به، وإطلاق ذلك أولى من تحريمه؛ لأن الأشياء كانت على الإباحة قبل الإحرام، فلا يجب التحريم إلا بيقين، وقد روينا أن عمر لما أنكر على عقيل لبسه الموردتين، وأنكر على عبد الله بن جعفر ثوبين مضرجين قال على لعمر: دعنا منك، فإنه ليس أحد يعلمنا السنة، قال عمر: صدقت. قال ابن المنذر: ورخصت عائشة فى الحلى للمحرمة، وهو قول أبى حنيفة وأحمد، وكره ذلك عطاء، والثورى، وأبو ثور، وأجمع العلماء أن المرأة تلبس المخيط كله والخُمُر والخفاف، وأن إحرامها فى وجهها، وأن لها أن تغطى رأسها وتستر شعرها، وتسدل الثوب على وجهها سدلا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها إلا ما روى عن فاطمة بنت المنذر. قالت:

(4/217)


كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبى بكر. قال ابن المنذر: على أن يكون كنحو ما روى عن عائشة قالت: (كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونحن محرمات، فإذا مر بنا ركب سدلنا الثوب من قبل رءوسنا، فإذا جاوزنا رفعناه) . ولا يكون ذلك خلافًا، وثبت كراهية النقاب عن سعد، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبى عليه السلام رخص فيه، وكان ابن عمر ينهى عن القفازين، وهو قول النخعى. وقال مالك: إن لبست البرقع والقفازين افتدت كفدية الرجل؛ لأن إحرام المرأة عنده فى وجهها ويديها، وكرهت عائشة اللثام والنقاب للمرأة، وأباحت لها القفازين، وهو قول عطاء. واختلفوا فى تخمير وجه المحرم، فقال ابن عمر: لا يخمر وجهه. وكرهه مالك ومحمد ابن الحسن، قيل لابن القاسم: أترى عليه الفدية؟ قال: لا أرى عليه فدية لما جاء عن عثمان. وقال فى المدونة فى موضع آخر: إن غطى وجهه ونزعه مكانه فلا شىء عليه، وإن لم ينزعه حتى انتفع افتدى وكذلك المرأة إلا إذا أرادت سترًا. وروى عن ابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وجابر أنهم أجازوا للمحرم تغطية وجهه خلاف ابن عمر، وبه قال الثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهذا يخرج على أن يكون إحرام الرجل عندهم فى رأسه خاصة لا فى وجهه. قال المهلب: فى حديث ابن عباس إفراد النبى عليه السلام للحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى، والبقاء على الإحرام

(4/218)


الأول لمن كان معه هدى؛ لأن من قلد هديه فلابد من أن يوقعه موقعه بعرفة لقوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] ، وسيأتى معنى ذلك فى بابه إن شاء الله. قال المؤلف: من روى فى هذا الحديث (التى تردع على الجلد) بالعين فهو معنى معروف. تقول العرب: ارتدع وتردع: التطخ بالطيب، والردع أثر الطيب، وردع به الطيب: إذا التزق بجلده ويده منه (ردعة) ، ومن رواه (تردغ) بالغين المنقوطة فهو من قولهم: أردغت الأرض: كثرت رداغها، وهى مناقع المياه، ومثله أرزغت الأرض بالزاى: كثرت رزاغها، جمع رزغة كالردغة، ذكره صاحب كتاب الأفعال وذكر أردغ وأرزغ فى باب أفعل خاصة.
- باب مَنْ بَاتَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام
. / 26 - فيه: أَنَس، صَلَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِالْمَدِينَةِ الظَّهْرَ أَرْبَعًا، وَبِذِى الْحُلَيْفَةِ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ. قال المؤلف: ليسس مبيته عليه السلام بذى الحليفة عند خروجه من المدينة من سنن الحج، وإنما هو من جهة الرفق بأمته ليلحق به من تأخر عنه فى السير، ويدركه من لم يمكنه الخروج معه. قال المهلب: وفيه تقصير الصلاة بنية السفر، وإن لم يبلغ إلى موضع المشقة منه؛ لأنه قصر بذى الحليفة، وهو حجة لمالك ومن

(4/219)


وافقه أن المسافر إذا خرج عن بيوت المصر لزمه تقصير الصلاة، وفيه أن سنة افهلال أن يكون بعد صلاة، وكان ابن عمر يحرم فى دبر صلاة مكتوبة، وهو قول ابن عباس، واستحب ذلك عطاء، والثورى، وطاوس، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واستحب مالك أن يكون بإثر صلاة نافلة، فإن كان فى وقت لا يتنفل فيه كوقت الصبح أو العصر أجزأه أن يكون بإثر الفريضة، قال ابن المنذر: وإن أحرم ولم يكن صلى أجزأه، وقد تقدمت حجة هذه المقالة فى باب الإهلال عند مسجد ذى الحليفة.
- باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإهْلالِ
/ 27 - فيه: أَنَس، صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا. قال الطبرى: الإهلال رفع الصوت بالتلبية، ومنه استهلال المولود، وهو صياحه إذا سقط من بطن أمه، ومنه قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة: 173] يعنى ما رفع به الصوت عند ذبحه للآلهة، وكل رافع صوته بشىء فهو يهل به، ومنه استهلال المطر والدمع، وهو صوت وقعه بالأرض، ويقال: أهل القوم الهلال، إذا رأوه. وأرى أن ذلك إنما هو من الإهلال الذى هو الصوت؛ لأنه كان يرفع عند رؤيته الأصوات إما بدعاء أو غيره، وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالإهلال، وخالفهم فى ذلك، وهو عندهم مستحب. فروى عن ابن عباس أنه كان يرفع صوته بالتلبية ويقول: هى زينة

(4/220)


الحج، وكان ابن عمر يرفع بها صوته، وقال أبو حازم: كان أصحاب النبى عليه السلام لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية. وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى. واختلف الرواية عن مالك فروى ابن القاسم عنه أنه لا ترفع الأصوات بالتلبية إلا فى المسجد الحرام ومسجد منى، وزاد فى الموطأ: ولا يرفع صوته فى مساجد الجماعات، وروى ابن نافع عنه أنه يرفع صوته فى المساجد التى بين مكة والمدينة. واحتج إسماعيل للقولين فقال: وجه القول الأول أن مساجد الجماعات إنما بنيت للصلاة خاصة، فكره رفع الصوت فيها، وليس كذلك المسجد الحرام ومسجد منى؛ لأن المسجد الحرام جعل للحاج وغيره، وكان المبلى إنما يقصد إليه فكان له فيه من الخصوص ما ليس فى غيره، ومسجد منى فهو للحاج خاصة، ووجه رواية ابن نافع أن المساجد التى بين مكة والمدينة إنما جعلت للمجتازين، وأكثرهم المحرمون فهم من النحو الذى وصفنا. وأجمعوا أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، وإنما عليها أن تُسمع نفسها. قال المهلب: وقول أنس: (وسمعتهم يصرخون بهما) إنما سمع الذين قرنوا خاصة لثبوت الإفراد، وليس فى حديث أنس أنه سمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصرخ بالحج والعمرة، وإنما أخبر ذلك عن قوم فعلوه، وقد يمكن أن يسمع قومًا يصرخون بحج وقومًا يصرخون بعمرة، وقد روى أنس عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما يرد روايته هذه، وهو قوله عليه السلام:

(4/221)


(لولا أن معى الهدى لأحللت) . وسيأتى بيان ذلك فى باب التمتع والقران والإفراد بالحج بعد هذا إن شاء الله. وفيه: رد قول أهل الظاهر فى إجازتهم تقصير الصلاة فى مقدار ما بين المدينة وذى الحليفة وفى أقل من ذلك؛ لأنه إنما قصر الصلاة بذى الحليفة؛ لأنه كان خارجًا إلى مكة فلذلك قصر العصر بذى الحليفة، بدليل قوله: (وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا) يعنى بالحج والعمرة، وبين المدينة وذى الحليفة ستة أميال.
- باب التَّلْبِيَةِ
/ 28 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ) . وعن عائشة مثله. قال المهلب: معنى التلبية، إجابة دعوة إبراهيم بالحج إذ أمره الله بالأذان به، وهو من المواعيد المنتجزة؛ لأن تعالى وعده أن يأتوه رجالا وعلى كل ضامر، وروى عن ابن عباس أنه قال: (لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن فى الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغ صوتى؟ قال: أذن وعلىَّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، ألا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون) . وقال أهل اللغة: معنى لبيك لبيك: إجابة بعد إجابة، من قولهم: ألب بالمكان، إذا أقام به، فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك

(4/222)


وإرادتك، وكذلك قولهم: سعديك، أى إسعادًا لك بعد إسعاد، أى أنا مساعد لك ومتابع لإرادتك. واختلف العلماء بتأويل القرآن فى قوله تعالى: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) [البقرة: 197] فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء وطاوس: الفرض الإهلال، وهو التلبية. قال ابن مسعود وابن الزبير: الفرض: الإحرام. وعند الثورى وأبى حنيفة أن التلبية ركن من أركان الحج، ولا تنوب النية عنها، كالدخول فى الصلاة لا يصح إلا بالنية والتكبير جميعًا، إلا أن أبا حنيفة ينوب عنده سائر الذكر عن التلبية كالتكبير والتسبيح والتهليل، كما يقول فى الإحرام بالصلاة. وعند مالك والشافعى النية فى الإحرام تجزئه عن الكلام، وكان مالك يرى على من ترك التلبية الدم، ولا يراه الشافعى، والحجة لمالك أن التلبية نسك، ومن ترك من نسكه شيئًا أهراق دمًا، وقال إسماعيل بن إسحاق: ليس الإهلال للإحرام بمنزلة التكبير للصلاة؛ لأن الرجل لا يكون داخلا فى الصلاة إلا بالتكبير، ويكون داخلا فى الإحرام بالتلبية وغيرها من الأعمال التى يوجب بها الإحرام على نفسه، مثل أن يقول: قد أحرمت بالعمرة أو الحج أو يشعر البدن، وهو يريد بذلك الإحرام، أو يتوجه نحو البيت وهو يريد بذلك الإحرام، فيكون بذلك كله محرمًا. وأجمع العلماء على القول بهذه التلبية، واختلفوا فى الزيادة عليها، فذكر ابن القصار عن الشافعى قال: الأفضل الاقتصار على تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا أن يزيد عليها شيئين: (لبيك إله الحق) لأن

(4/223)


أبا هريرة رواه عن النبى عليه السلام. والثانى: أن يقول إذا رأى شيئًا فأعجبه: (لبيك إن العيش عيش الآخرة) . كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين رأى الناس يزدحمون فى الطواف، وإذا زاد هذين كان كمن اقتصر على تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، واحتج بأن سعد بن أبى وقاص سمع رجلا يقول: (لبيك ذا المعارج) ، فقال: ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال مالك: إن اقتصر على تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحسن، وإن زاد عليها فحسن، وهو قول أبى حنيفة والثورى وأحمد وأبى ثور، وقالوا: يزيد عليها ما شاء، واحتجوا بما رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) . وروى القطان عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: (أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . .) . فذكر مثل الحديث ابن عمر فى التلبية قال: (والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبى عليه السلام يسمع فلا يقول لهم شيئًا) ، وأن عمر كان يقول بعد التلبية: لبيك ذا النعماء والفضل والثناء الحسن، لبيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك. وكان أنس يقول فى تلبيته: لبيك حقا حقًا ورقا.

(4/224)


- باب التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الإهْلالِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ
/ 29 - فيه: أَنَس، قَالَ: صَلَّى النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ، قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. قال المؤلف: غرض البخارى بهذه الترجمة والله أعلم الرد على أبى حنيفة فى قوله: إن من سبح أو كبر أو هلل أجزأه من إهلاله، فأثبت البخارى أن التسبيح والتحميد من النبى عليه السلام إنما كان قبل الإهلال؛ لقوله فى الحديث بعد أن سبح وكبر: (ثم أهل بالحج) . ويمكن أن يكون فعل تكبيره وتحميده عليه السلام عند ركوبه أخذًا بقول الله تعالى: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف: 13] ويمكن أن يكون يعلمنا عليه السلام جواز الذكر والدعاء مع الإهلال، وأن الزيادة عليه مستحبة بخلاف قول الشافعى. قال المهلب: وقوله: (ثم أهل بحج وعمرة) فقد رد عليه ابن عمر هذا القول وقال: كان أنس حينئذ يدخل على النساء وهن متكشفات، ينسب إليه الصغر وقلة الضبط حين نسب إلى النبى عليه السلام الإهلال بالقِران.

(4/225)


قال المؤلف: ومما يدل على قلة ضبط أنس للقصة قوله فى الحديث: (فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج) . وهذا لا معنى له، ولا يفهم إن كان النبى عليه السلام وأصحابه قارنين كما زعم أنس؛ لأن الأمة متفقة على أن القارن لا يجوز له الإحلال حتى يفرغ من عمل الحج كله كان معه هدى أو لم يكن، فلذلك أنكر عليه ابن عمر، وإنما حل من كان أفرد الحج وفسخه فى عمرة ثم تمتع. والأملح: الأبيض الذى يشوبه شىء من سواد، من كتاب العين.
- باب مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ
/ 30 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَهَلَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً. قال الطبرى: روى ابن إسحاق عن أبى الزناد، عن عائشة ابنة سعد بن أبى وقاص قالت: قال سعد: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أخذ طريق الفرع أهل حين استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا علا على شرف البيداء) . قال الطبرى: جعل الله ذا الحليفة ميقاتًا لهل المدينة، ومن مر بها من سائر الناس، فسوى فى جواز الإحرام من أى مكان أحرم منها: من المسجد، أو من فنائه بعدما استقلت به راحلته، أو قبل أن تنهض به قائمة بعدما علا على شرف البيداء، أو قبل، ما لم يجاوز ذا

(4/226)


الحليفة، إذ كل ذلك قد روى عن النبى أنه فعله، وليس شىء من ذلك بخلاف لغيره، وقد يمكن أن يكون فعل ذلك عليه السلام فى عمرته التى اعتمر، إذ ذلك كله ميقات، وممكن أن يكون ذلك على ما قاله ابن عباس، وقد ذكرناه فى باب الإهلال من عند مسجد ذى الحليفة.
- باب الإهْلالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ الْغَدَاةِ بذِى الْحُلَيْفَةِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّى حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَ ذَلِكَ. / 31 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ، لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِى مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ، فَيُصَلِّى، ثُمَّ يَرْكَبُ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ. قال المهلب: أما تلبية ابن عمر إذا ركب راحلته فأراد به غجابة لقوله تعالى: (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) [الحج: 27] . وأما استقباله القبلة لتلبيته فلاستقبال دعوة إبراهيم لمكة، فلذلك يلبى الداعى أبدًا بعد أن يستقبل بالوجه؛ لأنه لا يصلح أن يولى المجيب ظهره من يدعوه ثم يلبيه؛ بل يستقبله بالتلبية فى موضعه الذى دعا منه. وقوله: (ثم يلبى حتى يبلغ الحرم) فمعلوم من مذهبه أنه كان

(4/227)


لا يلبى فى طوافه، وكره مالك التلبية فى الطواف، وقال ابن عيينة: ما رأيت أحدًا يُقتدى به يلبى حول البيت إلا عطاء بن السائب، وسيأتى من أجاز ذلك ومن كرهه فى باب الاغتسال عند دخول مكة إن شاء الله، وإنما كان يدهن بغير طيب ليمنع بذلك الدواب والقمل.
- باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِى الْوَادِى
/ 32 - فيه: ابْن عَبَّاس، ذَكَرُوا الدَّجَّالَ، أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (أَمَّا مُوسَى كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِى الْوَادِى يُلَبِّى) . قال المهلب: أما قوله فى هذا الحديث: (أما موسى) فهو وهم من الرواة والله أعلم لأنه لم يأت خبر ولا أثر عن موسى أنه حى، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى، عليهما السلام، فاختلط على الراوى فجعل فعل عيسى لموسى، وذلك على رواية من روى (إذا انحدر) لأنه إخبار عما يكون، وأما من روى إذا انحدر يحكى عما مضى، فيصح عن موسى أن يراه النبى عليه السلام فى منام، أو يوحى إليه بذلك والله أعلم وفيه من الفقه أن التلبية فى بطن المسيل من سنن المرسلين.

(4/228)


- باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ؟
أَهَلَّ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الْهِلالَ: كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ، وَاسْتَهَلَّ الْمَطَرُ: خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ،) وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [المائدة: 3] وَهُوَ مِنِ اسْتِهْلالِ الصَّبِىِّ. / 33 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ، وَدَعِى الْعُمْرَة) ، فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ، أَرْسَلَنِى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ: (هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ. . .) ، الحديث. قال المهلب: قولها: (فأهللنا بعمرة) يعارضه رواية عمرة عن عائشة أنها قالت: (خرجنا لخمس بقين من ذى القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج) . وقال أبو نعيم فى حديث (مهلين بالحج، قالت عَمرة: فلما دنونا من مكة قال النبى عليه السلام لأصحابه: (من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدى فلا) والتوفيق بين الحديثين أن يكون معنى قولها: (فاهللنا بعمرة) تريد حين دنونا من مكة حين أمر النبى عليه السلام من لم يسق الهدى بفسخ الحج فى العمرة، فأهلوا بها، وبينت عمرة عن عائشة ابتداء القصة من اولها، وعروة إنما ذكر ما آل إليه أمرهم حين دنوا من مكة وفسخوا الحج فى العمرة، إلا من كان ساق الهدى من المفردين

(4/229)


فإنه مضى على إحرامه من أجل هديه، ولم يفسخه فى عمرة لقول الله: (لاَ تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ) [المائدة: 2] . وقولها: (فقدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة) . فلا خلاف بين العلماء أن الحائض لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة؛ لأن السعى بينهما موصول بالطواف، والطواف موصول بالصلاة، ولا تجوز صلاة بغير طهارة. وقوله عليه السلام: (انقضى رأسك وامتشطى، وأَهلِّى بالحج ودعى العمرة) احتج به الكوفيون فقالوا: إن المعتمرة إذا حاضت قبل الطواف، وضاق عليها وقت الحج رفضت عمرتها وألقتها واستهلت بالحج، وعليها لرفض عمرتها دم، ثم تقضى عمرة بعد، قالوا: وقوله: (انقضى رأسك وامتشطى) دليل على رفض العمرة؛ لأن القارنة لا تمتشط ولا تنفض رأسها، فجاوبهم مخالفوهم بأن ابن وهب روى عن مالك أنه قال: حديث عروة عن عائشة ليس عليه العمل عندنا قديمًا ولا حديثًا وأظنه وهمًا. يعنى ليس عليه العمل فى رفض الدعوة؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة لمن دخل فيهما، وقال: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] ورفضها قبل إتمامها هو إبطالها. قال ابن القصار: وكذلك لو احرمت بالحج ثم حاضت قبل الطواف لم ترفضه، فكذلك العمرة، بعلة أنه نسك يجب المضى فى فاسده فلا يجوز تركِه قبل إتمامه مع القدرة عليه. والذى عليه العمل عند مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأبى

(4/230)


ثور فى المعتمرة تحيض قبل أن تطوف بالبيت وتخشى فوات عرفة وهى حائض، أنها تهل بالحج وتكون كمن قرن بين الحج والعمرة ابتداءَ، وعليها دم القران، ولا يعرفون رفض العمرة ولا رفض الحج لأحد دخل فيهما أو فى أحدهما، قالوا: وكذلك المعتمر يخاف فوات عرفة قبل أن يطوف، لا يكون إهلاله رفضًا للعمرة؛ بل يكون قارنًا لإدخاله الحج على العمرة. ودفعوا حديث عروة عن عائشة بضروب من الاعتلال منها: أن القاسم والأسود وعمرة رووا عن عائشة ما دل أنها كانت محرمة بحج، فكيف يجوز أن يقال لها: دعى العمرة، وقال إسماعيل بن إسحاق: رواية عروة غلط؛ لأن الثلاثة خالفوه، وقال غيره: أقل الأحوال فى ذلك سقوط الاحتجاج بما صح فيه التعارض والرجوع إلى قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] . وأجمعوا فى غير الخائف لفوت عرفة أنه لا يحل له رفض العمرة، فكذلك من خاف فوات عرفة؛ لأنه يمكنه إدخال الحج على العمرة ويكون قارنًا، فلا وجه لرفض العمرة فى شىء من النظر. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: ولو ثبت قوله عليه السلام: (دعى العمرة) لكان له تأويل سائغ، فيكون معنى قوله: (أهلى بالحج) أنه الذى أنت فيه، أى استديمى ما أنت عليه ودعى العمرة التى أردت أن يفسخ حجك فيها؛ لأنها إنما طهرت بمنى، وقد رهقها الوقوف بعرفة، وهذا أصل فى المراهق أن له تأخير طواف الورود، ومما يوهن رواية عروة ما رواه حماد بن زيد عن هشام بن عروة، عن أبيه

(4/231)


قال: حدثنى غير واحد أن النبى عليه السلام قال لها: (دعى عمرتك) فدل أن عروة لم يسمعه من عائشة، ولو ثبت قوله: (انقضى رأسك وامتشطى) لما نافى ذلك إحرامها ولجبرته بالفدية كما أمر عليه السلام كعب بن عجرة بالحلق والفدية لما بلغ به أذى القمل، فيكون أمره لها بنقضها رأسها وامتشاطها لضرورة كانت بها مع الفدية، هذا سائغ ومحتمل فلا تعارض به الأصول، وقد يمكن أن يكون أمرها بغسل رأسها وإن كانت حائضًا لا يجب عليها غسله ولا نقضه لغسل الإهلال بالحج؛ لأن من سنة الحائض والنفساء أن يغتسلا عند الميقات والإهلال بالحج، كما امر عليه السلام أسماء بنت عميس حين ولدت محمد بن أبى بكر بالبيداء بالاغتسال والإهلال، ولو أمر عليه السلام عائشة بنقض رأسها والاغتسال لوجوب الغسل عليها، لكانت قد طهرت فتطوف للعمرة التى قد تركت. وقوله عليه السلام لها: (غير ألا تطوفى بالبيت) يدل أنها لم تنقض رأسها إلا لمرض كان بها أو لإهلال كما ذكرنا.
- باب مَنْ أَهَلَّ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام كَإِهْلالِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام
. / 34 - فيه: جَابِر، أَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَلِيًّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ. وَقَالَ، عليه السَّلام: (بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِىُّ؟) قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ نبِى اللَّه، قَالَ: (فَأَهْدِ، وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ) . / 35 - وفيه: مَرْوَانَ الأصْفَرَ، عَنْ أَنَس، قَدِمَ عَلِىٌّ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام،

(4/232)


مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ) ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَوْلا أَنَّ مَعِى الْهَدْىَ لأحْلَلْتُ) . / 36 - وفيه: أَبُو مُوسَى، بَعَثَنِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ) ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلالِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْىٍ) ؟ قُلْتُ: لا، فَأَمَرَنِى فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِى فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِى فَمَشَطَتْنِى، أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِى، فَقَدِمَ عُمَرُ، فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196] وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْىَ. قصة علىّ وحديث أبى موسى لم يقل بهما مالك ولا الكوفيون، وقال بهما الشافعى، فذهب إلى أن الحج ينعقد بإحرام من غير تعيين إفراد أو قران أو تمتع، وله عنده أن يمضى فى ذلك الإحرام ثم يجعله أى وجه شاء من الأوجه الثلاثة، وله عنده أيضًا أن ينقله من وجه إلى وجه، إلا أن يكون قارنًا فليس له أن ينقض إحرامه؛ لأنه يخرج مما أوجب على نفسه من الحج والعمرة، واحتج فى ذلك بقوله عليه السلام لعلى: (بم أهللت؟ قال: بإهلال كإهلال النبى (صلى الله عليه وسلم)) فأخبره عليه السلام بما أهلَّ به، وهو قوله: (إنى سقت الهدى) . واحتج الطبرى فقال: والدليل على صحة هذا أن أبا موسى لما أهل لم يعلم بما أهل به النبى عليه السلام فى وقت ابتدائه الإهلال؛ لأنه كان باليمن عام حج النبى عليه السلام بالناس، فلما بلغه خروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالناس للحج خرج من اليمن حتى قدم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلبى من ميقات أهل اليمن وقال: لبيك بإهلال كإهلال النبى

(4/233)


عليه السلام ولَّبى بمثل تلبيته على بن أبى طالب، وكان أقبل معه من اليمن، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبا موسى أن يجعل إحرامه عمرة إذ لم يكن ساق معه هديًا، وأخذ مالك وأبو حنيفة بظاهر قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) . وقالوا: لابد أن ينوى المحرم حجا أو عمرة عند دخوله فيه، وقالوا: إذا نوى بحجته التطوع وعليه حجة الإسلام أنه لا يجزئه عنها، وبه قال الثورى، وإسحاق، وقال الشافعى: بجزئه من حجة الإسلام وتعود النافلة فرضًا لمن لم يؤد فرضه فى الحج خاصة، كما يعود الإحرام بالحج قبل وقته، وإن نوى به الفريضة تطوعًا. فيقال: له: قد أجمعوا أن من صلى قبل الزوال أربعًا إن نوى بها الظهر أنه لا يجزئه، وهى تطوع، فكذلك الحج. قال المهلب: وحديث مروان الأصفر عن أنس موافق لرأى الجماعة فى إفراد النبى عليه السلام ويرد وهم أنس أن النبى عليه السلام قرن، واتفاقه مع الجماعة أولى بالاتباع مما انفرد به وخالفهم فيه، وقال أبو عبد الله أخوه: فتسويغ النبى عليه السلام الإحلال لنفسه لولا الهدى يدل أنه كان منفردًا الحج غير قارن؛ لأنه لا يجوز للقارن الإحلال كان معه هدى أو لم يكن حتى يفرغ من عمل الحج. فإن قيل: كيف قال عليه السلام: (لولا أنى سقت الهدى لأحللت) وهو مفرد، والمفرد لا يجوز له اليوم الإحلال كان معه هدى أو لمن يكن؟ فالجواب: أن قوله: (لأحللت) : أى لفسخت الحج فى العمرة؛ لأن الفسخ كان مباحًا حينئذ لمن لا هدى له، فجاز لهم

(4/234)


الإحلال ووطء النساء قبل الشروع فى عمل العمرة فى وقت فسخهم الحج، فأما من كان معه هدى فلم يكن يفسخ لقوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] . قال المهلب: وقول أبى موسى: (فقدم عمر) يعنى إذ حج بالناس فى خلافته فقال: (إن نأخذ بكتاب الله فإنه أمر بالتمام) يعنى أن من أهل بشىء فليتم ما بدأ فيه ولا يفسخه، وإن نأخذ بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنه لم يفسخ ما كان أَهَلَّ به أولا من الحج من أجل الهدى تعظيمًا لحرمات الله، وإنما أباح عليه السلام الفسخ ردا لقول الجاهلية: إن العمرة فى الحج من أفجر الفجور.
- باب قوله تَعَالَى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِى الْحَجِّ) [البقرة: 197] ، وَقَوْلِهِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلا فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ. / 37 - فيه: الْقَاسِمَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِىَ الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْىٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْىُ فَلا) ، قَالَتْ: فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ، وَكَانَ

(4/235)


مَعَهُمُ الْهَدْىُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَنَا أَبْكِى، فَقَالَ: (مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ) ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ، قَالَ: (وَمَا شَأْنُكِ) ؟ قُلْتُ: لا أُصَلِّى، قَالَ: (فَلا يَضِيرُكِ إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِى فِى حَجَّتِكِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا) ، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فِى حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى، فَطَهَرْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى، فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ، قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِى النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ، وَنَزَلْنَا مَعَهُ، فَدَعَا عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا، ثُمَّ ائْتِيَا هَاهُنَا، فَإِنِّى أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِى) ، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ، وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ، فَقَالَ: (هَلْ فَرَغْتُمْ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِى أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى معنى قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197] فقالت طائفة: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذى الحجة، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وروى عن الشعبى، والنخعى، وعطاء، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، الشافعى، وأبى ثور. قال ابن القصار: وقد روى مثله عن مالك، والمشهور عن مالك أنها ثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة كله. قال ابن المنذر: واختلف عن ابن عباس وابن عمر فى ذلك، فروى

(4/236)


عنهما كما قال ابن مسعود، وروى عنهما كقول مالك، وكان الفَرَّاء يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197] قال: الأشهر رفع ومعناه: وقت الحج أشهر معلومات، وقال غيره: تاويله أن الحج فى أشهر معلومات. واختلف العلماء فى من أحرم بالحج فى غير أشهر الحج. فقال ابن عباس: لا ينبغى لأحد أن يهل بالحج فى غير أشهر الحج لقول الله تعالى: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) [محمد: 33] وهو قول جابر بن عبد الله، وقال الشافعى وأبو ثور: لا ينعقد إحرامه بالحج؛ لكنه ينعقد بعمرة، وهو مذهب عطاء وطاوس، وبه قال الأوزاعى وأحمد وإسحاق، واحتجوا بقوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197] وقالوا: لو انعقد الإحرام فى غيرها لم يكن لتخصيصها فائدة، واحتجوا أيضًا بقول عائشة: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أشهر الحج وليالى الحج وحرم الحج) . وقال آخرون: من أحرم فى غير أشهر الحج لزمه، روى هذا عن النخعى، وهو قول أهل المدينة والثورى والكوفيين، إلا أن المستحب عند مالك ألا يحرم فى غير أشهر الحج، فإن فعل لزمه، وهو حرام حتى يحج. وقالوا: إِنَّ ذِكْرَ اللهِ فى الحج: الأشهر المعلومات، إنما معناه عندهم عل التوسعة والرفق بالناس، وافعلام بالوقت الذى فيه يتأدى الحج، فأخبرهم تعالى بما يقرب من ذلك الوقت، وبيَّن ذلك بقوله عليه السلام: (الحج عرفات) وبنحره يوم النحر، ورميه الجمار فى ذلك اليوم وما بعده، فمن ضيق على نفسه وأحرم بالحج قبل أشهر الحج فهو فى معنى من أحرم بالحج من بلده قبل الميقات، ويعضد هذا قوله تعالى: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] وقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) [البقرة: 196] ولم يخص محرمًا من محرم.

(4/237)


قال ابن القصار: ولا يمتنع أن يجعل الله الأشهر كلها وقتًا لجواز الإحرام فيها، ويجعل شهور الحج وقت الاختيار، وهذا سائغ فى الشريعة. قال المهلب: وقول عائشة: (نزلنا بسرف) فإنما ذكرت المآل؛ لأن سرف هو أول حدود مكة، ولم تذكر ما كانوا أحرموا به ميقات ذى الحليفة؛ ولأن فى الحديث دليل على ما كانوا أحرموا به أولا؛ لأنه قال: (من لم يكن معه هدى فليجعلها عمرة) . وهذا يدل أنها كانت حجة مفردة، ولو كانت قرنًا لقال: فليجعلهما عمرة، وإنما أمر بالفسخ من أفرد، لا من قرن ولا من أهل بعمرة، لأنهم أمرهم كلهم أن يجعلوها عمرة ليتمتعوا بالعمرة إلى الحج. وقولها: (حتى قدمنا مِنىً فطهرت) تريد ثانى يوم النحر؛ لأن أيام منى ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وسيأتى اختلاف الناس فى الرفث والفسوق فى الجزء الثانى من الحج إن شاء الله. وقوله: (يا هنتاه) هى كلمة يكنى بها عن اسم الإنسان يقال للمرأة: يا هنتاه، أى يا مرأة، وللرجل يا هناه، أى يا رجل، ولا يستعمل فى غير النداء، ذكره سيبويه وقال: هو مثل قولهم: يا غدار ويا لكاع ويا فساق، ولا يستعمل ذلك إلا فى النداء خاصة.

(4/238)


30 - باب التَّمَتُّعِ وَالإقْرَانِ وَالإفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ
/ 38 - فيه: الأسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَلا نُرَى إِلا أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْىَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحِضْتُ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ، قَالَ: (وَمَا طُفْتِ لَيَالِىَ قَدِمْنَا مَكَّةَ) ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: (فَاذْهَبِى مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا) ، قَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا أُرَانِى إِلا حَابِسَتَهُمْ، قَالَ: (عَقْرَى حَلْقَى أَوَ مَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ) ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: (لا بَأْسَ، انْفِرِى) . / 39 - وفيه: عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، [وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ] ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ. / 40 - وفيه: مَرْوَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِىٌّ أَهَلَّ بِهِمَا، لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأدَعَ سُنَّةَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، لِقَوْلِ أَحَدٍ. / 41 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْجَرِ

(4/239)


الْفُجُورِ فِى الأرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَا الدَّبَرْ، وَعَفَا الأثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: (حِلٌّ كُلُّهُ) . / 42 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ. / 43 - وفيه: حَفْصَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: (إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ) . / 44 - وفيه: أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِىُّ، قَالَ: تَمَتَّعْتُ، فَنَهَانِى نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَمَرَنِى، فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ، كَأَنَّ رَجُلا يَقُولُ لِى: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: سُنَّةَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: لِى أَقِمْ عِنْدِى، فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِى، قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: لِمَ؟ فَقَالَ: لِلرُّؤْيَا الَّتِى رَأَيْتُ. / 45 - وفيه: أَبُو شِهَابٍ عبد ربه بْن نافع، قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لِى أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ حَجَّتُكَ الآنَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، أَنَّهُ حَجَّ مَعَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: (أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا

(4/240)


وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلالا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِى قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً) ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ فَقَالَ: (افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلا أَنِّى سُقْتُ الْهَدْىَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِى أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لا يَحِلُّ مِنِّى حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) ، فَفَعَلُوا. قال المهلب: أشكلت أحاديث الحج على الأئمة صعب تخليصها ونفى التعارض عنها، وكل ركب فى توجيهها غير مذهب صاحبه، واختلفوا فى الإفراد والتمتع والقران أيها أفضل، وفى الذى كان به النبى عليه السلام محرمًا من ذلك. فذهبت طائفة إلى أن إفراد الحج أفضل، هذا قول مالك وعبد العزيز ابن أبى سلمة والأوزاعى وعبيد الله بن الحسن، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أبو ثور، وممن روى أن النبى عليه السلام أفرد الحج جابر وابن عباس وعائشة، وبهذا عمل أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعائشة، وابن مسعود بعد النبى عليه السلام. وقال أبو حنيفة والثورى: القران أفضل، وبه عمل النبى عليه السلام واحتجوا بحديث أنس أن النبى عليه السلام لما استوت به راحلته على البيداء أهل بحج وعمرة، وهو مذهب على بن أبى طالب، وطائفة من أهل الحديث، واختاره الطبى، وقال أحمد ابن حنبل: لا شك أن الرسول كان قارنًا، قال: والتمتع أحب إلى، لقول النبى عليه السلام: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما

(4/241)


سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) . وقال آخرون: التمتع أفضل، وهو قول ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وبه قال عطاء، وهو أحد قولى الشافعى، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى عليه السلام تمتع فى حجة الوداع، وبقول حفصة: ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك. قال المؤلف: وأما ما جاء من اختلاف ألفاظ حديث عائشة مما يوهم القران والتمتع فليس ذلك بموهن الإفراد؛ لأن رواة حديث الحج عنها: الأسود، وعَمرة، والقاسم، وعروة، فأما الأسود وعَمرة فقالا عنها: (خرجنا لا نرى إلا الحج) ، وقال أبو نعيم فى حديثه: (مهلين بالحج) . وقال القاسم عنها: (خرجنا فى أشهر الحج وليالى الحج وحرم الحج) . وفى رواية مالك فى الموطأ عن القاسم، عن عروة، عن عائشة: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفرد الحج) ، وكذلك صرح عروة عنها أنه عليه السلام أفرد الحج، ويشهد لصحة روايتها بالإفراد أن جابرًا وابن عباس رويا الإفراد عن النبى عليه السلام، فوجب رد ما خالف الإفراد من حديث عائشة إلى معنى الإفراد لتواتر الرواية به عن النبى عليه السلام. قال الطحاوى: وقد روى عبد العزيز بن عبد الله، وحماد بن سلمة، ومالك بن أنس، وعمرو بن الحارث، ومحمد بن مسلم الطائفى عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة فى إحرامها الذى كانت مع النبى عليه السلام فيه أنه كان حجة، وأنها قدمت مكة على النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، وزاد عمرو وابن أبى

(4/242)


سلمة، وحماد بن سلمة، ومحمد بن مسلم على مالك (أن النبى عليه السلام وأصحابه كانوا أيضًا فى حجة حتى قدموا مكة فأمرهم أن يجعلوها عمرة) . وكذلك فى رواية عمرة والأسود موافقة القاسم عن عائشة بالإفراد. وقولها: (لا نرى إلا الحج) إنما هو على معنى لا نعرف إلا الحج؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فى أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذى لا يعرفون غيره، قال: والأشبه عندى أن يكون إحرام النبى عليه السلام كان بالحج خاصة لا بالحج والعمرة؛ لأنه قد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، ولا يجوز أن يكون أمرهم بذلك وهم فى حرمة عمرة أخرى؛ لأنهم يرجعون بذلك إلى أن يصيروا فى حرمة عمرتين، وقد أجمع المسلمون على المنع من ذلك، ومحال عندنا أن يجمعوا على خلاف ما كان من أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ما لم يكن مخصوصًا به، وما لم ينسخ بعد فعله إياه. قال المهلب: وقد أشكل حديث عائشة على أئمة الفتوى، فمنهم من أوقف الاضطراب فيه عليها، ومنهم من جعل ذلك من قبيل ضبط الرواة عنها، ومعناه يصح إن شاء الله بترتيبه على موطنه ووقت إخبارها عنه فى المواقيت التى ابتدأ الإحرام منها، ثم أعقب حين دنا من مكة بما أمر من لم يسق الهدى بالفسخ. فأما حديث الأسود عن عائشة فإنها ذكرت فيه البداءة وأنها أهلت بحجة مفردة بذى الحليفة، وأهل الناس كذلك، ثم لما دنوا من مكة أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) من لم يكن ساق الهدى أن يجعلها عمرة، إذ

(4/243)


أوحى الله إليه بتجويز الاعتمار فى أشهر الحج فسخة منه تعالى لهذه الأمة ورحمة لهم بإسقاط أحد السفرين عنهم، وأمر من لم يكن معه هدى بالإحلال بعمرة؛ ليرى أمته جوازها، ويعرفهم بنعمة الله عليهم عيانًا وعملا بحضرة النبى عليه السلام. وفى حديث عروة عن عائشة ذكرت أنهم كانوا فى إهلالهم على ضروبٍ: مِنْ مُهلٍّ بحج، ومن مُهلٍّ بعمرة، وجامع بينهما، فأخبرت عمال آل أمر المحرمين، واختصرت ما أهلوا به فى ابتداء إحرامهم، ولم تأت بالحديث على تمامه كما جاء فى حديث عمرة عنها، فإنها ذكرت إحرامهم فى الموطنين، ولذلك قال القاسم: أتتك بالحديث على وجهه. يريد أنها ذكرت الابتداء بالإحرام والانتهاء إلى مكة، وأول حدودها (سرف) ، وما أمر به من الفسخ بعمرة. قال الطحاوى: ودل حديث عروة أنهم عرفوا العمرة فى أشهر الحج بما عرفهم به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأمرهم به بعد قدومه مكة. قال المؤلف: واحتج من قال بالإفراد بقول مالك: إذا جاء عن النبى عليه السلام حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، فإن فى ذلك دلالة على أن الحق فى ما عملا به. وقال الزهرى: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال فى قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ، قال: من تمامها أن تفرد كل واحدة من الأخرى. وقال ابن حبيب: أخبرنى ابن الماجشون قال: حدثنى الثقات من علماء المدينة وغيرهم أن أول ما أقيم للناس الحج سنة ثمان مرجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حنين، فاستخلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على مكة عتاب بن أسيد فأفرد الحج، ثم حج أبو بكر بالناس سنة تسع فأفرد الحج،

(4/244)


ثم قبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاستخلف أبو بكر فأفرد الحج خلافته سنتين، ثم ولى عمر بن الخطاب فلم يشك أحد أن عمر أفرد الحج عشر سنين، وولى عثمان فأفرد الحج اثنتى عشرة سنة. قال ابن الماجشون: وحدثنى ابن أبى حازم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن عليا أفرد الحج، وأفرد ابن عمر ثلاثين سنة متوالية، ما تمتع ولا قرن إلا عامًا واحدًا، وأفردت عائشة كل عام حتى توفيت، قال ابن الماجشون: فعلمنا أن الإفراد هو الذى فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كاليقين؛ لأنا نعلم بفعل أصحابه بعده، وهم بطانته، أنهم لا يتركون ما فعل، وهكذا قال لى المدنيون والمصريون من أصحاب مالك. وأما نهى عثمان عن المتعة والقران وإهلال على بهما، فإن عثمان اختار ما أخذ به النبى عليه السلام فى خاصة نفسه وما أخذ به أبو بكر وعمر، ورأى أن الإفراد أفضل عنده من القران والتمتع. والقران عند جماعة من العلماء من معنى التمتع لاتفاقهما فى المعنى، وذلك أن القارن يتمتع بسقوط سفره الثانى من بلده كما يصنع المتمتع الذى يحل من عمرته، وكذلك يتفقان فى الهدى والصوم لمن لم يجد هديًا عند أكثر العلماء. قال المهلب: وأما قول من اختار القران؛ لأنه الذى فعل النبى عليه السلام فإنه يفسد من وجهين: أحدهما: توهين قول أنس بما رواه مروان الأصفر عن أنس نفسه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لِعَلىٍّ: (لولا أن معى الهدى لأحللت) فبان بهذا أن النبى عليه السلام لم يكن قارنًا؛

(4/245)


لأن القارن لا يجوز له الإحلال، كان معه هدى أو لم يكن، وهذا إجماع. والوجه الآخر: أن التمتع والقران رخصتان، والإفراد أصل، ومحال أن تكون الرخصة أفضل من الأصل؛ لأن الدم الذى يدخل فى التمتع والقران جبران، وهو يجب لإسقاط أحد السفرين أو لترك شىء من الميقات؛ لأنه لو لم يقرن وأتى بكل واحدة منهما مفردة بعد ألا تكون العمرة فعلت فى شهور الحج، وأتى بكل واحدة من ميقاتها، لما وجب عليه دم. وقد أَنْكَر القرانَ على أنسٍ: عائشةُ وابنُ عمر وجعلاه من وهمه، وقالا: كان أنس يدخل على النساء وهن منكشفات يصفانه بصغر السن وقلة الضبط لما خالف فيه الجماعة، هذا قول المهلب، قال: وأما حجة من قال بالتمتع وأن النبى عليه السلام كان متمتعًا بحديث ابن عمر، فهى مردودة بما رواه البخارى فى حديث ابن عمر مما يرد به على نفسه، وهو حديث مسدد، قال: حدثنا بشر ابن المفضل، حدثنا حميد الطويل، حدثنا بكر أنه ذكر لابن عمر أن أنسًا حدثهم (أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحجة، فقال ابن عمر: أهل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالحج وأهللنا به، فلما قدمنا مكة قال النبى عليه السلام: من لم يكن معه الهدى فليجعلها عمرة، وكان معه النبى عليه السلام هدى. . .) . وذكر الحديث. ذكره البخارى فى المغازى فى باب: (بعثه عليا وخالد بن الوليد

(4/246)


إلى اليمن قبل حجة الوداع) ، وأيضًا قوله فى حديث عائشة: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) وهذا نص قاطع أنه عليه السلام لم يهل بعمرة، وليس فى قوله: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) دليل أن التمتع أفض من القران كما زعم أحمد بن حنبل، وإنما قال ذلك من أجل ما كَبُرَ عليهم مخالفة فعله لفعلهم حين بقى على إحرامه ولم يحل معهم حين أمرهم بفسخ الحج والإحلال وإصابة النساء، فشق ذلك عليهم وقالوا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس، أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتى عرفة تقطر مذاكرنا المنى، فآنستهم النبى عليه السلام وقال لهم: (قد علمتم أنى أصدقكم لله وأبركم، ولولا هدبى لتحللت كما تحلون) فسكنوا إلى قوله وطابت نفوسهم، وسأذكر ما روى عن عروة، عن عائشة مما يوهم أن النبى عليه السلام تمتع، فى باب: من ساق الهدى معه إن شاء الله وأبين الشبهة فيه. وأما قول أهل مكة لأبى شهاب حين قدم مكة متمتعًا: تصير حجتك الآن مكية، فمعنى ذلك أنه ينشئ حجة من مكة إذا فرغ من تمتعه كما ينشئ أهل مكة الحج من مكة؛ لأنها ميقاتهم للحج؛ لأن غير أهل مكة إن أحلوا من العمرة فى أشهر الحج، وأنشئوا الحج من عامهم دون أن يرجعوا إلى أُفُقِهم أو أُفُقٍ مثل أُفُقهِم فى البعد، فعليهم فى ترك ذلك الدم. ولو خرج إلى الميقات بعد تمام العمرة ليهل بالحج منه لم يسقط ذلك عنه الدم عند مالك وأصحابه إلا أن يكون الميقات أُفُقه أو مثل

(4/247)


أُفقه، وأما حديث حفصة وقولها: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك) فإنه يوهم أنه عليه السلام أهل بعمرة وأنه تمتع؛ لأن الإحلال كان لمن تمتع، فهو توهم فاسد، وذكر (عمرتك) فى هذا الحديث وتركها سواء؛ لأن المأمورين بالحل هم المحرمون بالحج ليفسخوه فى عمرة، ويستحيل أن يأمر بذلك المحرمين بعمرة؛ لأن المعتمر يحل بالطواف والسعى والحلاق، لا شك فى ذلك عندهم، وقد اعتمروا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عُمَرًا، وعرفوا حكم العمرة فى الشريعة، فلم يكن يعرفهم بشىء فى علمهم، بل عرفهم بما أحل الله لهم فى عامهم ذلك من فسخ الحج فى عمرة لما أنكروه من جواز العمرة فى زمن الحج. وللعلماء فى قول حفصة: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟) ضروب من التاويل، فقال بعضهم: إنما قالت له ذلك لأنها ظنت أنه عليه السلام كان فسخ حجه فى عمرة كما أمر بذلك من لا هدى معه من أصحابه وهم الأكثر، فذكر لها عليه السلام العلة المانعة من الفسخ، وهى سوقه للهدى، فبان أن الأمر ليس كما ظننته. وقيل: معناه ما شأن الناس حلوا من إحرامهم، ولم تحل أنت من إحرامك الذى ابتدأته معهم بنية واحدة، بدليل قوله: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) . فعلم بهذا أنه لم يحرم بعمرة، هذا قول ابن القصار. وقيل: معناه: لِمَ لَمْ تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك؟ وقالوا: قد تأتى (من) بمعنى (الباء) ، كما قال تعالى:

(4/248)


) يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد: 11] أى بأمر الله، تريد لم تحل أنت بعمرة من إحرامك الذى جئت به مفردًا فى حجتك. وأما قول ابن عباس لأبى جمرة فى المتعة: هى السنة، فمعنى ذلك أن كل ما فى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بفعله فهو سنة، وكذلك معنى قول على لعثمان فى القران: ما كنت لأدع سنة النبى عليه السلام لقول أحد، يعنى: سنته التى أمر بها؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) فعل فى خاصته غيرها وهو الإفراد. وأما فسخ الحج فى عمرة فهو فى حديث عائشة وابن عباس وجابر وغيرهم، فالجمهور على تركه، وأنه لا يجوز فعله بعد النبى عليه السلام وليس لأحد دخل فى حجة أن يخرج منها إلا بتمامها، ولا يحله منها شىء قبل يوم النحر من طواف ولا غيره، وإنما أمر به أصحابه ليفسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج؛ لأنه خشى عليه السلام حلول أجله قبل حجة أخرى فيجعلها عمرة فى أشهر الحج. فلما لم يتسع له العمر بما استدل عليه من كتاب الله ومن قرب أجله، أمرهم بالفسخ وأحل لهم ما كانت الجاهلية تحرمه من ذلك، وقد قال أبو ذر: ما كان لأحد بعده أن يحرم بالحج ثم يفسخه فى عمرة. رواه الأعمش عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، عن أبى ذر، ورواه الليث عن المرقع بن صيفى الأسدى، عن أبى ذر، وروى ذلك عن عثمان بن عفان، رواه أبو عوانة عن معاوية بن إسحاق، عن إبراهيم

(4/249)


التيمى، عن أبيه، عن عثمان، عن عمر بن الخطاب أنه قال: (إن الله تعالى كان يخص نبيه بما شاء، وإنه قد مات فأتموا الحج والعمرة لله تعالى) . وقال جابر: (المتعتان فعلناهما على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، نهى عمر عنهما فلن نعود إليهما) يعنى: فسخ الحج ومتعة النساء. وروى ربيعة بن عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المزنى، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أفسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال (صلى الله عليه وسلم) : (بل لنا خاصة) . قال الطحاوى: ولا يجوز للصحابة أن يقولوا هذا بآرائهم، وإنما قالوه من جهة ما وقفوا عليه؛ لأنهم لا يجوز لهم ترك ما فعلوه مع النبى عليه السلام من الفسخ إلا بتوقيف منه إياهم على الخصوصية بذلك، ومنع من سواهم منه، فثبت أن الناس جميعًا بعدهم ممنوعون من الخروج من الحج إلا بتمامه إلا أن يُصَدُّوا. ووجه ذلك من طريق النظر أنه من أحرم بعمرة فطاف لها وسهى أنه قد فرغ منها، وله أن يحلق ويحل، هذا إذا لم يكن ساق هديًا، ورأيناه إذا ساق الهدى لمتعته، فطاف لعمرته وسعى لم يحل حتى جاء يوم النحر فيحل منها ومن حجته إحلالاً واحدًا، فكان الهدى الذى ساقه لمتعته التى لا يكون عليه فيها هدى إلا بأن يحج؛ يمنعه من أن يحل بالطواف إلا يوم النحر؛ لأن عقد إحرامه هكذا؛ كان أن يدخل فى عمرة فيتمها، فلا يحل منها حتى يحرم بحجة ثم يحل منها ومن العمرة التى قدمها قبلهما معًا. وكانت العمرة لو أحرم بها منفردة حل منها بعد فراغه منها إذا حلق

(4/250)


ولم ينتظر يوم النحر، وكان إذا ساق الهدى لحجه يحرم بها بعد فراغه من تلك العمرة بقى على إحرامه إلى يوم النحر، فلما كان الهدى الذى هو من سبب الحج يمنعه الإحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله فى الحج أحرى أن يمنعه من ذلك إلى يوم النحر. قال المؤلف: ولم يُجِزْ فسخ الحج أحد من الصحابة إلا ابن عباس، وتابعه أحمد بن حنبل وأهل الظاهر، وهو شذوذ من القول، والجمهور الذين لا يجوز عليهم تحريف التاويل هم الحجة التى يلزم اتباعها. قال المهلب: فى حديث عائشة الأول فى قولها: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت) تفسير لقول من قال فى العمرة: (صنعناها مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: أنه عليه السلام صنعها أمرًا لا فعلاً؛ لأنه معلوم أن عائشة لم تطف لأنها كانت حائضًا، وإنما حكت عمن طاف. وقوله: (ما طفتِ ليالى قدمنا مكة) يعنى لم تُحِلِّى من حجتك بعمرة كما حل الناس بالطواف بالبيت والسعى، قالت: (لا، فأمر أخاها فأعمرها إذ لم تعتمر قبل) . وقول صفية: (ما أرانى إلا حابستهم) أى حتى أطهر من حيضتى وأطوف طواف الوداع؛ لأنها قد كانت طافت طواف الإفاضة المفترض وهى طاهر، قال مالك: والمرأة إذا حاضت بعد الإفاضة فلتنصرف إلى بلدها، فإنه قد بلغنا فى ذلك رخصة من النبى (صلى الله عليه وسلم) للحائض، يعنى حديث صفية، وستأتى مذاهب العلماء فى من ترك طواف الوداع فى باب: إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت إن شاء الله. قال المهلب: وأما قوله فى حديث ابن عباس: (كانوا يجعلون المحرم صفر) فهو النسئ الذى قال الله تعالى يحلون الشهر

(4/251)


الحرام أعنى المحرم، ويحرمون الحلال: صفر، أى يؤخرون حرمة الحرام إلى الحلال صفر. قوله: (فتعاظم ذلك) أى تعاظم مخالفة العادة التى كانوا عليها من تأخيرالعمرة عن أشهر الحج، فسألوه عن الإحلال فقالوا: (أى الحل؟) إحلال الطيب والمخيط كما يحل مَنْ رمى جمرة العقبة وطاف للإفاضة أم غيره، فأخبرهم أنه الحل كله بإصابة النساء. وقول أبى موسى: (قدمت على النبى عليه السلام فأمره بالحل) يريد أنه أمره بالفسخ لما لم يكن معه هدى، كما أمر أصحابه الذين لا هدى لهم، وأما أبو جمرة فإنه خشى من التمتع حبوط الأجر ونقصان الثواب للجمع بينهما فى سفر واحد وإحرام واحد، وكان الذين أمروه بالإفراد إنما أمروه بفعل النبى عليه السلام فى خاصة نفسه لينفرد الحج وحده، ويخلص عمله من الاشتراك فيه، فأراه الله الرؤيا ليعرفه أن حجه مبرور وعمرته متقلبة فى حال الاشتراك، ولذلك قال له ابن عباس: (أقم عندى) ليقص على الناس هذه الرؤيا المثبتة لحل التمتع، وفى هذا دليل أن الرؤيا الصادقة شاهد على أمور اليقظة. وفى قوله: (أجعل لك سهمًا من مالى) أن العالم يجوز له أخذ الأجرة على العلم والله أعلم. وقوله: (عَقْرى حَلْقى) دعاء عليها، وقد اختلف فى معناه، فقيل: معناه: عقرها الله وأصابها بوجع فى حلقها، وقيل: هو من

(4/252)


حلق الرأس، وسأذكر أقوال أهل اللغة فى هذه الكلمة وأتقصاه فى كتاب الدب فإنه بوب لها بابًا إن شاء الله.
31 - باب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ
/ 46 - فيه: جَابِر، قَدِمْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ، لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً. / 47 - وفيه: عِمْرَان، تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. قال المؤلف: السنة لمن أراد الحج أن ينويه ويسميه عند التلبية به، وكذلك فى التمتع والقران، وعلى هذا جمهور الفقهاء؛ لقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) وهذا الباب خلاف على الشافعى، فإنه يجيز أن ينعقد الحج بإحرام من غير تعيين إفراد أو قران أو تمتع، وقد تقدم هذا مستقصى فى باب: من أهل فى زمن النبى عليه السلام كإهلال النبى. ومعنى حديث عمران فى هذا الباب كمعنى حديث جابر فى التلبية بالحج والتسمية له، ووجه ذلك أن عمران لم يكن ليقدم على القول عن نفسه وعن أصحابه أنهم تمتعوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا وأنهم قد أسمع بعضهم بعضًا تلبيتهم للحج وتسميتهم له، ولولا ما تقدم لهم قبل تمتعهم من تسمية الحج والإهلال به لم يعلم عمران إن كانوا قصدوا مكة بحج أو عمرة، إذ عملهما واحد إلى موضع الفسخ، والفسخ لم يكن حينئذ إلا للمفردين بالحج، وهو الذين تمتعوا بالعمرة ثم حلوا ثم أحرموا بالحج، فدل هذا كله على أنه لابد

(4/253)


من تعيين الحج أو العمرة عند الإهلال، وإن كان ذلك مفتقرًا إلى النية عند الدخول فيه. قال المهلب: وقول عمران: (تمتعنا على عهد النبى عليه السلام ونزل القرآن) فإنه يريد أن التمتع والقران معمول به على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم ينسخه شئ، ونزل القرآن بإباحة العمرة فى أشهر الحج فى قوله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] وقوله: (قال رجل برأيه ما شاء) يعنى: من تركه والأخذ به، وأن الرأى بعد النبى عليه السلام باختيار الإفراد لا ينسخ ما سَنَّهُ من التمتع والقرانِ.
32 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 196]
/ 48 - فيه: ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْعَلُوا إِهْلالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ) ، فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: (مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ () ، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْىُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ (إِلَى أَمْصَارِكُمُ، الشَّاةُ تَجْزِى، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِى عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِى كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ، وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ:

(4/254)


) ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِى ذَكَرَ اللَّهُ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ، فَمَنْ تَمَتَّعَ فِى هَذِهِ الأشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ، وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقُ: الْمَعَاصِى، وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ. اختلف العلماء: فى حاضرى المسجد الحرام مَنْ هُمْ؟ فذهب طاوس ومجاهد إلى أنهم أهل الحرم، وقالت طائفة: هم أهل مكة بعينها، روى هذا عن نافع مولى ابن عمر، وعن عبد الرحمن الأعرج، وهو قول مالك، قال: هم أهل مكة، ذى طوى وشبهها، وأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل قديد وعسفان ومَرُّ الظهران فعليهم الدم. وذهب أبو حنيفة إلى أنهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة، وقال مكحول: من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فهو من حاضرى المسجد الحرام، وأما أهل المواقيت فهم كسائر أهل الآفاق، روى هذا عن عطاء، وبه قال الشافعى بالعراق، وقال الشافعى: من كان من الحرم على مسافة لا يقصر فى مثلها الصلاة، فهو من حاضرى المسجد الحرام. قال الطحاوى: ولما اختلفوا فى ذلك نظرنا فوجدنا أصحابنا الكوفيين يقولون: لكل من كان من حاضرى المسجد الحرام دخول مكة بغير إحرام، إذ كانوا قد جعلوا المكان الذى هم من أهله كمكة، واحتجوا فيه بما روى مالك عن نافع، عن ابن عمر: (أنه أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد بلغه خبر من المدينة، فرجع فدخل

(4/255)


مكة حلالا) ؛ فدل هذا على أن أهل قديد كأهل مكة، وقد روى عن ابن عباس خلاف هذا، وروى عنه عطاء أنه كان يقول: لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا، وقال ابن عباس: (لا عمرة على المكى إلا أن يخرج من الحرم فلا يدخله إلا حرامًا وإن خرج قريبًا من مكة) ، فهذا ابن عباس قد منع الناس جميعًا من دخول مكة بغير إحرام، فدل هذا أن من كان غير أهل مكة فهو عنده مخالف لحكم أهل مكة، ويدل على صحة هذا المعنى قوله عليه السلام: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلى، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار) . أو لا ترى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قصد بالحرمة إلى مكة دون ما سواها، فدل ذلك أن سائر الناس سوى أهلها فى حرمة دخولهم إياها سواء، فثبت بذلك قول ابن عباس، وفى ثبوت ذلك ما يجب به أن حاضرى المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة، كما قال نافع والأعرج، لا كما قال أبو حنيفة وأصحابه. قال إسماعيل بن إسحاق: ومن الحجة لمالك أن حاضرى المسجد الحرام أهل القرية التى فيها المسجد الحرام خاصة، وليس أهل الحرم كذلك؛ لأنه لو كان كذلك لما جاز لأهل مكة إذا أرادوا سفرًا أن يقصروا الصلاة حتى يخرجوا عن الحرم كله، فلما جاز لهم قصر الصلاة إذا خرجوا عن بيوت مكة، دل ذلك على أن حاضرى المسجد الحرام هم اهل مكة دون الحرم، قاله الأبهرى. قال إسماعيل: وأما قول من قال: من كان أهله دون المواقيت، فإن المواقيت ليس من هذا الباب فى شئ؛ لأنها لم تجعل للناس؛ لأنها حاضرة المسجد؛ ألا ترى أن بعض المواقيت بينها وبين مكة مسيرة

(4/256)


ثمان ليال، وبين بعضها وبين مكة مسيرة ليلتين، فيكون من كان دون ذى الحليفة إلى مكة من حاضرى المسجد الحرام وبينه وبين مكة ثمان ليال، ومن كان منزله من وراء قرن مما يلى نجد ألا يكون من حاضرى المسجد الحرام، وإنما بينه وبين مكة مسيرة ليلتين وبعض أخرى، وإنما الحاضر للشىء من كان معه، فكيف يجعل من هو أبعد حاضرًا ومن هو أقرب ليس بحاضرٍ؟ ودليل آخر: وهو قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] فهذا يدل أنه المسجد الحرام نفسه، وإنما صد المشركون النبى (صلى الله عليه وسلم) عن المسجد وعن البيت، فأما الحرم فقد كان غير ممنوع منه؛ لأن الحديبية تلى الحرم، وهذا قاطع لطاوس ومجاهد. قال المؤلف: وأما قول ابن عباس فى التمتع: (فإن الله أنزله فى كتابه وسنة نبيه، وأباحه للناس غير أهل مكة) فإن مذهبه أن أهل مكة لا متعة لهم، وذلك والله أعلم لأن العمرة لابد فى الإحرام بها من الخروج إلى الحل، ومن كان من أهل مكة فهى داره لا يمكنه الخروج منها، وهى ميقاته فى الإحرام بالحج، وقد صرح بذلك ابن عباس فقال: (يا أهل مكة، لا متعة لكم، إنما يجعل أحدكم بينه وبين مكة بطن واد، ويُهِلُّ) . وهذا مذهب أبى حنيفة وأصحابه، قالوا: ليس لأهل مكة تمتع ولا قران، فإن فعلوا فعليهم الدم، وأوجب ابن الماجشون الدم للقران ولم يوجبه للتمتع، واعتل ابن الماجشون بأن القارن قارن من حيثما حج، والمتمتع إنما هو المعتمر من بلده فى أشهر الحج المقيم

(4/257)


بمكة حتى يحج، ومن كان أهلها فهى داره لا يمكنه الخروج منها إلى غير داره، وقد وضع الله ذلك عنه، ولم يذكر القارن. قال ابن القصار: وهذا خطأ؛ لأنه إذا جاز التمتع لأهل مكة فقد جاز لهم القران؛ لأنه لا فرق بينهما، واحتج أبو حنيفة بأن الاستثناء عنده فى الآية راجع إلى الجملة لا إلى الدم، قال: ولو رجع إلى الدم لقال: (ذلك على من لم يكن أهله) ، وقول القائل: إن لفلان كذا يفيد نفى الإيجاب عليه، ولهذا لا يقال: له الصلاة والصوم، وإنما يقال: عليه الصلاة والصوم. قال ابن القصار محتجا لمالك: قوله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ (لفظ يقتضى إباحة التمتع، ثم علق عليه حكمًا وهو الهدى، ثم استثنى فى آخرها أهل مكة، والاستثناء إذا وقع بعد فعل قد علق عليه حكم انصَرف إلى الحكم المعلق على الفعل لا إلى الفعل نفسه، فأهل مكة وغيرهم فى إباحة التمتع الذى هو الفعل سواء، والفرق بينهم فى الاستثناء يعود إلى الدم؛ لأنه الحكم المعلق على التمتع، وهذا بمنزلة قوله عليه السلام: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل منزله فهو آمن) فلو وصله بقوله: ذلك لمن لم يكن من أهل القينتين أو لغير ابن خطل لم يكن ذلك الاستثناء عائدًا إلا إلى الأمر، لا إلى الدخول، ولا يكون سائر الناس ممنوعين من دخول منازلهم ومنزل أبى سفيان، بل إن دخلوا فلهم الأمان كلهم إلا ابن خطل والقينتين ومن استثنى معهم.

(4/258)


وقوله: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (لو تجرد من تمامه لم يعد كقوله: زيد لا يفيد بانفراده حتى يخبر عنه بقائم أو قاعد أو غيره، فكذلك قوله: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (لا يفيد شيئًا حتى يخبر عن حكمه، قوله: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ (هو الحكم الذى به تتم الفائدة. والفوائد إنما هى فى الأحكام المعلقة على أفعال العباد لا على أسمائهم، ومثله: (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ) [الحجر: 30، 31] معناه: فإنه لم يسجد فلم تكن الفائدة فى الاستثناء راجعة إلا إلى نفى السجود الذى به يتم الكلام. قال غيره: فإنما أوجب الله الدم على المتمتع غير المكى؛ لأنه كان عليه أن يأتى مُحْرمًا بالحج من داره فى سفر، وبالعمرة فى سفر ثان، فلما تمتع بإسقاط أحد السفرين أوجب الله عليه الهدى، فكذلك القارن هو فى معنى المتمتع لإسقاط أحد السفرين، ودلت الآية على أن أهل مكة بخلاف هذا المعنى؛ لأن إهلالهم بالحج خاصة من مكة، ولا خروج لهم إلى الحل للإهلال إلا بالعمرة خاصة، فإذا فعلوا ذلك لم يُسْقِطُوا سفرًا لزمهم فلا دم عليهم، ففارقوا سائر أهل الآفاق فى هذا، وقد تقدم اختلافهم فيمن أحرم من مكة بالعمرة ولم يخرج إلى الحل للإحرام فى باب: مهل أهل مكة للحج والعمرة.

(4/259)


33 - باب الاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ
/ 49 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ [أَدْنَى] الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِى طِوًى، ثُمَّ يُصَلِّى بِهِ الصُّبْحَ، وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. قال ابن المنذر: الاغتسال لدخول مكة مستحب عند جميع العلماء، إلا أنه ليس فى تركه عامدًا عندهم فدية، وقال أكثرهم: الوضوء يجزئ منه، وكان ابن عمر يتوضأ أحيانًا ويغتسل أحيانًا، وروى ابن نافع عن مالك أنه استحب الأخذ بقول ابن عمر فى الغسل للإهلال بذى الحليفة، وبذى طوى لدخول مكة، وعند الرواح إلى عرفة. قال: ولو تركه تارك من عذر لم أر عليه شيئًا، وقال ابن القاسم عن مالك: إن اغتسل بالمدينة وهو يريد الإحرام ثم مضى من فوره إلى ذى الحليفة فأحرم، فإِنَّ غسله يجزئ عنه، قال: وإن اغتسل بالمدينة غدوة وأقام إلى العشى ثم راح إلى ذى الحليفة فلا يجزئه، وأوجبه أهل الظاهر فرضًا على من أراد أن يحرم وإن كان طاهرًا، والأمة على خلافهم، وروى عن الحسن: إذا نسى الغسل للإحرام يغتسل إذا ذكر، واختلف فيه عن عطاء، فقال مرة: يكفى منه الوضوء، وقال مرة غير ذلك. قال المهلب: وإنما أمسك ابن عمر عن التلبية فى أول الحرم؛ لأنه تأول أنه قد بلغ إلى الموضع الذى دعى إليه، ورأى أن يكبر الله ويعظمه ويسبحه؛ إذ قد سقط عنه معنى التلبية بالبلوغ، وكره مالك التلبية حول البيت، وقال ابن عيينة: ما رأيت أحدًا يُقْتَدى به

(4/260)


يلبى حول البيت إلا عطاء بن السائب. وروى عن سالم أنه كان يلبى فى طوافه، وبه قال ربيعة والشافعى وأحمد وإسحاق، فَكُل وَاسِعٌ.
34 - باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا ولَيْلا
/ 50 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: بَاتَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِذِى طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. ذو طوى بضم الطاء: موضع بمكة، مقصور، وذو طوى بفتح الطاء: موضع باليمن، ممدود، قاله بعض أهل اللغة، وليس دخوله عليه السلام مكة إذا أصبح بأمر لازم لا يجوز تركه، ودخولها فى كل وقت واسع.
35 - باب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ
/ 51 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى.
36 - باب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ؟
/ 52 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِى بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ كَدَاءِ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. / 53 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لَمَّا جَاءَ إِلَى دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَعْلاهَا،

(4/261)


وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. وقالت مرة: دَخَلَ، عليه السَّلام، مِنْ كَدَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ. وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ. قال المهلب: أما دخوله عليه السلام مرة من أعلى مكة ومرة من أسفلها، فإنما فعله ليعلم الناس السعة فى ذلك، وأن ما يمكن لهم منه فمجزئ عنهم والله أعلم ألا ترى أن عروة كان يفعل ذلك، وإذا فتحت الكاف من كَدَاء مددت، وإذا ضممتها قصرت، وقد قيل: كدى بالضم هو أعلى مكة، وقيل: بل كداء بفتح الكاف أعلى مكة، وهو أصح.
37 - باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (إلى قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 125 - 128] . / 54 - فيه: جَابِر، لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَعَبَّاسٌ يَنْقُلانِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الأرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: (أَرِنِى إِزَارِى، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ) . / 55 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ لَهَا: (أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَلى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ) ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: (لَوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ) ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا أُرَى

(4/262)


رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. / 56 - وفيه: عَائِشَةَ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِى الْبَيْتِ؟ قَالَ: (إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ) ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: (فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأرْضِ) . / 57 - وقالت: قال عليه السَّلام: (لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ) . فَذَلِكَ الَّذِى حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى هَدْمِهِ. قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإبِلِ. قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ، فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ: هَاهُنَا، قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا. قال المؤلف: قد ذكر الله فضل مكة فى غير موضع من كتابه، ومن أعظم فضلها أنه تعالى فرض على عباده حجها، وألزمهم قصدها، ولم يقبل من أحد إلا باستقبالها، وهى قبلة أهل دينه أحياءً وأمواتًا.

(4/263)


وفى حديث عائشة معرفة بنيان قريش الكعبة، وقد بناها إبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وقيل: إن آدم خط البيت قبل إبراهيم، وقد نقل فيه النبى عليه السلام الحجارة مع عمه العباس وقريش فى الجاهلية. وذكر أهل السير أن قريشًا لما بنت الكعبة وبلغت موضع الركن اختصمت فى الركن، أى القبائل يلى رفعه، فقالوا: تعالوا نحكم أول رجل يطلع علينا، فطلع النبى عليه السلام فحكموه وسموه الأمين، وكان ذلك الوقت ابن خمس وثلاثين سنة فيما ذكر ابن إسحاق، فأمر بالركن فوضع فى ثوب، ثم أَمَر سَيِّدَ كُلِّ قبيلةٍ فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فوضعه عليه السلام بيده، فعجبت قريش من سداد رأيه. وكان الذى أشار بتحكيم أول رجل يطلع عليهم أبو أمية ابن المغيرة، والد أم سلمة زوج النبى عليه السلام، وكان عامئذٍ أسَنَّ قريش كلها، وقد ذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه إنما امتنع من رده على قواعد إبراهيم خشية إنكار قريش لذلك. وفى هذا من الفقه أنه يجب اجتناب ما يُسْرِعُ الناس إلى إنكاره وإن كان صوابًا، وقد روى أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يرده إلى بنيان ابن الزبير، فقال له: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وفى الحديث دليل أن الحجر من البيت، وإذا كان ذلك فإدخاله واجب فى الطواف.

(4/264)


واختلف العلماء فيمن سلك الحجر فى طوافه، فكان عطاء، ومالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور يقولون: يقضى ما طاف قبل أن يسلك فيه، ولا يعتد بما طاف فى الحجر، وقال أبو حنيفة: إن كان بمكة قضى ما بقى عليه، وإن رجع إلى بلده فعليه دم، واحتج المهلب وأخوه لهذا القول فقالا: إنما عليه أن يطوف بما بنى من البيت؛ لأن الحكم للبنيان لا للبقعة، لقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] أشار إلى البناء، والبقعة دون البناء لا تسمى بيتًا، والنبى عليه السلام إنما طاف بالبيت ولم يكن على الحجر علامة، وإنما علمها عمر إرادة استكمال البيت. ذكر ذلك عبيد الله بن أبى يزيد وعمرو بن دينار فى باب بنيان الكعبة فى آخر مناقب الصحابة فى هذا الديوان، قالا: (لم يكن حول البيت حائط، إنما كانوا يصلون حول البيت، حتى كان عمر فبنى حوله حائطًا جَدْرُهُ قصير، فبناه ابن الزبير) وكذلك كان الطواف قبل تحجير عمر حول البيت الذى قصرته قريش عن القواعد كما قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ) [الحج: 26] ، والطواف فرضه البيت المبنى ولو كان ذراعًا منه، وقد حج الناس من زمن النبى عليه السلام إلى زمن عمر فلم يؤمر أحد بالرجوع من بلده إلى استكمال. وقد قال مالك: من حلف لا يدخل دار فلان، فهدمت فدخلها أنه لا يحنث، فهذا يدل أن الدار والبيت إنما يخص بالبنيان لا بالبقعة. قال المهلب: ومعنى قول عبيد الله بن أبى يزيد وعمرو:

(4/265)


(ولم يكن حول البيت حائط) أى حائط يحجر الحجر من سائر المسجد حتى حجره عمر بالبنيان، ولم يبنه على الجَدْر الذى كان علامة أساس إبراهيم عليه السلام بل زاد ووسع قطعًا للشك أن الجَدْر هو آخر قواعد إبراهيم، فلما لم يكن عند عمر أن ذلك الجدر هو آخر قواعد البيت التى رفعها إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، على يقين، ونقلِ كافة، مع معرفته أن قريشًا كانت قد هدمت البيت وبنته على غير القواعد، خشى أن يكون الجدر من بنيان قريش القديم، فزاد فى الفسحة استبراء للشك، ووسع الحجر حتى صار الجدر فى داخل التحجير، وقد بان هذا فى حديث جرير وهو قوله: (فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها) . والحائط الذى بناه عمر حول الحجر ليس بحائط مرتفع، وهو من ناحية الحجر نحو ذراعين، ومن الجرف خارجه نحو أربعة أذرع إلى صدر الواقف من خارجه، ولم يكن الجدر الذى ظهر من أساس إبراهيم مرتفعًا، إنما كان علامة كالنجم والهدف لا بنيانًا. قال ابن القصار: والحجة لقول مالك إخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن البيت قصر به عن قواعد إبراهيم ولم يتم عليها، فمن طاف فى الحجر حصل طائفًا ببعضه؛ لأن البيت ما خطه آدم وبناه إبراهيم، وقد قال عمر وابنه عبد الله: لولا أن الحجر من البيت ما طيف به. قال ابن عباس: الحجر من البيت، قال تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (، ورأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طاف من وراء الحجر، فدل أنه إجماع، ومن لم يستوف الطواف بالبيت وجب ألا يجزئه، كما لو فتح

(4/266)


بابا فى البيت فطاف وخرج منه، والباء عند سيبويه فى قوله تعالى: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (للامتزاج والاختلاط لا للتبعيض، وسيأتى ذكر استلام الأركان فى موضعه إن شاء الله. والجَدْر: واحد الجدور، وهى الحواجز التى بين السواقى التى تمسك الماء، وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت الوليد بن عطاء يحدث عن الحارث ابن عبد الله بن أبى ربيعة، عن عائشة، أن النبى عليه السلام قال لها: (وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: لا، قال: تعززًا لئلا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعوه يرتقى حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط) .
38 - باب فَضْلِ الْحَرَمِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ (الآية [النمل: 91] ، وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا (الآية [القصص: 57] . / 58 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا) . فيه: التصريح بتحريم الله تعالى مكة والحرم وتخصيصها بذلك من بين البلاد، قال القاضى أبو بكر بن الطيب: وقد اعترض تحريمَ الله لمكة وأنه جعلها حرمًا آمنًا قوم من أهل البدع وقالوا: قد قُتل خلق بالحرم والبيت من الأفاضل كعبد الله بن الزبير ومن جرى مجراه، وهو تكذيب للخبر، زعموا.

(4/267)


قال القاضى: ولا تعلق لهم بذلك؛ لأن هذا القول خرج مخرج الخبر، والمراد به الأمر بأمان من دخل البيت وألا يقتل، ولم يرد الإخبار عن أن كل داخل إليه آمن، فعلى مثل هذا خرج قول الرسول عليه السلام: (من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل الكعبة ودخل دار أبى سفيان فهو آمن) . إنما قصد الأمر بأمان من ألقى سلاحه ودخل فى هذه المواضع، ولم يرد بذلك الخبر، ومثل هذا قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [البقرة: 228] يعنى بذلك الأمر لهن بالتربص دون الخبر عن تربص كل مطلقة؛ لأنها قد تعصى الله ولا تتربص، فكذلك قال: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] ، أى أَمِّنُوا من دخله. وهو على صفة من يجب أن يُؤَمَّنَ، فمن لم يفعل ذلك عصى الله تعالى وخالف، ومتى جعل هذا القول أمرًا بطل تمويههم، وقد يجوز أن يكون أراد تعالى: ومن دخله كان آمنًا يوم الفتح وقت قوله عليه السلام: (من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان كان آمنًا، ومن اعتصم بالكعبة كان آمنًا) فلا يناقض عدم الأمن فى غير ذلك الوقت وجوده فيه، فيكون قوله أن من دخل البلد الحرام كان آمنًا فى بعض الأوقات دون بعضها، وسيأتى فى باب: (لا يحل القتال بمكة) من كتاب الحج زيادة فى بيان هذا المعنى والله الموفق.

(4/268)


39 - بَاب تَوريثِ دُورِ مكةَ وبَيِعها وشِرائها وأنَّ الناسَ فِى المسجدِ الحَرامِ سواء خاصَّة، لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [الحج: 25] .
/ 59 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ فِى دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: (وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ) ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ، هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلا عَلِىٌّ شَيْئًا لأنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (الآيَةَ [الأنفال: 72] . اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [الحج: 25] فروى عن عطاء أنه قال: الناس فى البيت سواء ليس أحد أحق به من أحد، وروى نحوه عن ابن عباس، وقال مجاهد: أهل مكة وغيرهم فى المنازل سواء. قال الطحاوى: وقد اختلف العلماء فى بيعها وكرائها، فذكر عن عطاء ومجاهد أنه لا يحل بيع أرض مكة ولا كرائها، وهو قول أبى حنيفة والثورى ومحمد، وكره مالك بيعها وكراءها. وخالفهم آخرون فقالوا: لا بأس ببيع أرضها وإجازتها، وجعلوها كسائر البلدان، هذا قول أبى يوسف، وذكر ابن المنذر عن الشافعى وطاوس إباحة الكرى، وكان أحمد بن حنبل يتوقى الكراء فى الموسم، ولا يرى بأسًا بالشراء، واحتج بأن عمر اشترى دار السجن بأربعة آلاف.

(4/269)


قال الطحاوى: واحتج من أجاز بيعها وكراءها بحديث أسامة؛ لأنه ذكر فيه ميراث عقيل وطالب لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور، قال الشافعى: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه. قال الطحاوى: واعتبرنا ذلك فرأينا المسجد الحرام الذى كل الناس فيه سواء لا يجوز لأحد أن يبتنى فيه بناء، ولا يحتجز منه موضعًا، وكذلك حكم جميع المواضع التى لا يقع لأحد فيها ملك وجميع الناس فيها سواء؛ ألا ترى أن عرفة لو أراد رجل أن يبتنى فى المكان الذى يقف الناس فيه منها بناء لم يكن له ذلك، وكذلك نى لو أراد أن يبتنى فيها دارًا كان من ذلك ممنوعًا. وكذلك جاء الأثر عن النبى عليه السلام روى إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله، ألا تتخذ لك بمنى شيئًا تستظل فيه؟ قال: (يا عائشة، إنها مُناخ لمن سبق) وكانت أم يوسف بن ماهك تخدم عائشة فسألت مكان عائشة بعدما توفى النبى عليه السلام أن تعطيها إياه فقالت لها عائشة: لا أحل لك ولا لأحد من أهل بيتى أن يستحل هذا المكان) ، تعنى مِنىً، فهذا حكم المواضع التى الناس فيها سواء ولا ملك لأحد عليها. ورأينا مكة على غير ذلك، قد أجيز البناء فيها، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم دخلها: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن) . فأثبت لهم أملاكهم، فلما كانت مما يغلق عليه الأبواب ومما يبنى فيها المنازل كانت صفتها صفة المواضع التى تجرى عليها الأملاك وتقع فيها المواريث.

(4/270)


وقال غيره: ألا ترى أن عمر اشترى دار السجن من صفوان، ومحال أن يشترى منه ما لا يجوز له ملكه، وقد ثبت عن الصحابة أنهم كانت لهم الدور بمكة، منهم أبو بكر الصديق، والزبير بن العوام، وحكيم بن حزام، وعمرو بن العاص، وصفوان بن أمية وغيرهم، وتبايع أهل مكة لدورهم قديمًا أشهر من أن يخفى. واحتج الذين كرهوا بيع دور مكة وكراءها بحديث علقمة بن نضلة قال: (توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمر وما ترعى رباع مكة إلا السوائب) . وبما رواه نافع، عن ابن عمر أن عمر كان ينهى أن تغلق دور مكة فى زمن الحاج. وقال إسماعيل بن إسحاق: وما تأول مجاهد فى الآية فظاهر القرآن يدل على أنه المسجد الذى يكون فيه النسك والصلاة، لا سائر دور مكة، قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الحج: 25] أى: ويصدون عن المسجد الحرام، فدل ذلك كله على أن الذى كان المشركون يفعلونه هو التملك على المسجد الحرام وادعاؤهم أنهم أربابه وولائه، وأنهم منعوا منه ومن أرادوا ظلمًا، وأن الناس كلهم فيه سواء، فأما المنازل والدور فلم تزل لأهل مكة غير أن المواساة تجب إذ كانت الضرورة، ولعل عمر فعل ذلك على طريق المواساة عند الحاجة والله أعلم. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وحديث أسامة حجة فى أن من

(4/271)


خرج من بلده مسلمًا وبقى أهله وولده فى دار الكفر ثم غزا مع المسلمين بلده؛ أن أهله وماله وولده على حكم البلد كما كانت دار النبى عليه السلام على حكم البلد وملكه، ولم ير نفسه أحق بها، وهذا قول مالك فى (المدونة) ، وبه قال الليث، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الجهاد فى باب: (إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم) إن شاء الله، وبيان مذاهبهم فيها، وفى حديث أسامة أن المسلم لا يرث الكافر، وسيأتى بيان ذلك أيضًا فى كتاب الفرائض إن شاء الله.
40 - بَاب نُزُولِ النَّبِىِّ عليه السَّلام مَكَّةَ
/ 60 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ وَهُوَ بِمِنًى الغَدِ مِن يَوْمَ النَّحْرِ: (مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ) . يَعْنِى ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِى هَاشِمٍ، وَبَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، أَوْ بَنِى الْمُطَّلِبِ، أَنْ لا يُنَاكِحُوهُمْ وَلا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: بَنِى الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ. قال المؤلف: قد فسر ابن عباس أن نزول النبى عليه السلام بالمحصب لم يكن سنة، وقال: المحصب ليس بشئ، فإنما هو منزل نزله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليكون أسمح لخروجه، يعنى: إلى المدينة. وذكر أهل السير أنهم بقوا ثلاث سنين فى الشِّعب وكان المشركون كتبوا صحيفة لبنى هاشم وبنى المطلب بالتبرؤ منهم، وألا يقبلوا منهم صلحاَ

(4/272)


أبدًا، ولا يدخلوا إليهم طعامًا، وعلقوا الصحيفة فى الكعبة، فاشتد عليهم البلاء فى الشِّعب. وكان قوم من قصى ممن ولدتهم بنو هاشم قد أجمعوا على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة، فبعث الله عند ذلك الأرضة على الصحيفة، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق لهم، ولم تترك فيها اسمًا من أسماء الله عز وجل إلا لحسته وبقى ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، فأطلع الله رسوله على ذلك، فذكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأبى طالب فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبتنى، فانطلق فى عصابة من بنى عبد المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون لقريش، فلما رأتهم قريش أنكروهم، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) برمته إليهم. فقال أبو طالب: جرت بيننا وبينكم أمور لم نذكرها لكم، فائتوا بصحيفتكم التى فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا صلح، وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا فى الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بها معجبين لا يشكون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدفع إليهم. فلما وضعوها قال أبو طالب: إنما أتيناكم فى أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخى لم يكذبنى، إن هذه الصحيفة قد بعث الله عليها دابة لم تترك فيها اسمًا لله إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وظلمكم لنا، فإن كان الحديث كما يقول فلا والله لا نسلمه حتى نموت، وإن كان باطلا دفعنا إليكم صاحبكم فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: رضينا، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق عليه السلام قد أخبر بالحق، قالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيًا وعدوانًا.

(4/273)


قال ابن شهاب: فلما أفسد الله صحيفة مكرهم خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورهطه، فعاشوا وخالطوا الناس، ثم أذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالهجرة إلى المدينة، وكان الذى كتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد العزى، وذكر أنه شلت يده بعد ذلك، عن ابن إسحاق. قال الخطابى: الخيف: ما انحدر عن الجبل، وارتفع عن المسيل، وبه سمى مسجد الخيف.
41 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ (الآيات [إبراهيم: 35 - 37]
وقوله: (جَعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحَرامَ قِيامًا للناسِ (الآية [المائدة: 97] . / 61 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ) . / 62 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتْرُكْهُ) . / 63 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) . وروى شُعْبَةَ، عن قَتَادَة: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُحَجَّ الْبَيْتُ) ، وَالأوَّلُ أَكْثَرُ. اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (قِيامًا للناسِ (

(4/274)


فقال سعيد بن جبير: قوامًا لدينهم وعصمة لهم، وقال عطاء: (قِيامًا للناسِ (: لو تركوه عامًا لم يُنظروا أن يهلكوا. وأما حديث عائشة فهو مصدق للآية، ومعناه: أن المشركين كانوا يعظمون الكعبة قديمًا بالستور والكسوة ويقومون إليها كما يفعل المسلمون، وأما حديث أبى هريرة أن ذا السويقتين يخرب الكعبة، فهو مبين لقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) [إبراهيم: 53] أن معناه الخصوص، وأن الله تعالى جعلها حرمًا آمنًا غير وقت تخريب ذى السويقتين لها؛ لأن ذلك لا يكون إلا باستباحته حرمتها وتغلبه عليها، ثم تعود حرمتها ويعود الحج إليها كما أخبر الله نبيه وخليله إبراهيم فقال له: (وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27] فهذا شرط الله لا ينخرم ولا يحول، وإن كان فى خلاله وقت يكون فيه خوف فلا يدوم ولابد من ارتفاعه ورجوع حرمتها وأمنها وحج العباد إليها، كما كان قبل إجابته لدعوة إبراهيم خليله، يدل على ذلك حديث أبى سعيد الخدرى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليحججن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج) . وعلى هذا التأويل لا تتضاد الآثار ولا معنى الآية، ولو صح ما ذكره قتادة لكان ذلك وقتًا من الدهر، ويحتمل أن يكون ذلك وقت تخريب ذى السويقين لها بدليل حديث أبى سعيد.

(4/275)


42 - باب كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ
/ 64 - فيه: عُمَرَ، أنَّهُ جَلَس عَلَى الْكُرْسِىِّ فِى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهُ، قُلْتُ: إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلا، قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِى بِهِمَا. قال ابن جريج: زعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل، عليه السلام. قال ابن جريج: وبلغنى أن تُبَّعًا أول من كساها، ولم تزل الملوك فى كل زمان يكسونها بالثياب الرفيعة، ويقومون بما تحتاج إليه من المؤنة تبركًا بذلك، فرأى عمر أن ما فيها من الذهب والفضة لا تحتاج إليه الكعبة لكثرته، فأراد أن يصرفه فى منافع المسلمين نظرًا لهم وحيطة عليهم، فلما أخبره شيبة بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر لم يتعرضا لذلك وتركاه أمسك وصوب فعلهما، وإنما ترك ذلك والله أعلم لأن ما جعل فى الكعبة وسبل لها يجرى مجرى الأوقاف، ولا يجوز تغيير الأوقاف عن وجوهها ولا صرفها عن طرقها، وفى ذلك أيضًا تعظيم للإسلام وحرمانه، وترهيب على العدو، وقد روى ابن عيينة عن عمرو، وعن الحسن قال: قال عمر ابن الخطاب: (لو أخذنا ما فى هذا البيت، يعنى الكعبة، فقسماه، فقال له أبىّ بن كعب: والله ما ذلك لك، قال: ولم؟ قال: لأن الله بين موضع كل مال، وأقره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال: صدقت) . فإن قال قائل: ما وجه ترجمة هذا الباب بباب كسوة الكعبة ولا ذكر فيه لكسوة؟ قيل له: معنى الترجمة صحيح، ووجهها أنه معلوم أن الملوك فى كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال

(4/276)


إليها، فأراك البخارى أن عمر لما رأى قسمة الذهب والفضة الموقفين بهما على أهل الحاجة صوابًا، كان حكم الكسوة حكم المال، تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة على أهل الحاجة من قسمة المال، إذ قد يكون نفقة المال فيما تحتاج إليه الكعبة فى إصلاح ما يهى منها، وفى [. . . . . .] وأجرة قيم، والكسوة لا تدعو إليها ضرورة وبكفى منها بعضها. وفى هذا حجة لمن قال: إنه يجوز صرف ما فضل فى سبيل من سبل الله فى سبيل آخر من سبل الله إذا كان ذلك صوابًا، وفى فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) وفعل أبى بكر حجة لمن رأى إبقاء الأموال على ما سبلت عليه، وترك تغييرها عما جعلت له، وفى قوله: (هما المرآن أقتدى بهما) من الفقه ترك خلاف كبار الأئمة وفضل الاقتداء بهما، وأن ذلك فعل السلف.
43 - باب هَدْمِ الْكَعْبَةِ
/ 65 - فيه: عَائِشَةُ: قَالَ عليه السَّلام: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ) . / 66 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (كَأَنِّى بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ، يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا) .

(4/277)


/ 67 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ، عليه السَّلام: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ) . فى هذه الآثار إخبار عما يكون من الحدثان والأشراط، وذلك يكون فى أوقات مختلفة، فحديث عائشة أن الجيش الذى يغزو الكعبة يخسف بهم هو فى وقت غير وقت هدم ذى السويقتين لها، ويمكن أن يكون هدمه لها عند اقتراب الساعة والله أعلم، ولا يدل ذلك أن الحج ينقطع؛ فقد أخبر عليه السلام أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج، وأن عيسى ابن مريم يحج ويعتمر بعد ذلك، وقال صاحب العين: الفحج: تباعد ما بين أوساط الساقين، والنعت: أفحج.
44 - باب مَا ذُكِرَ فِى الْحَجَرِ الأسْوَدِ
/ 68 - فيه: عُمَرَ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: إِنِّى أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. قال الطبرى: إنما قال ذلك عمر والله أعلم؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بعبادة الأصنام، فخشى عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله فى الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله تعالى والوقوف عند أمر نبيه عليه السلام إذ ذلك من شعائر الحج التى أمر الله بتعظيمها، وأن استلامه مخالف لفعل أهل الجاهلية فى عبادتهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فنبه عمر على مجانبة هذا الإعتقاد، وأنه لا ينبغى أن يعبد إلا من يملك الضر والنفع، وهو الله تعالى. وقال المهلب: حديث عمر هذا يرد قول من قال: إن الحجر

(4/278)


يمين الله فى الأرض، يصافح بها عباده، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة مجسمة بائنة عن ذاته، وإنما شرع النبى عليه السلام تقبيله على ما كانت شريعة إبراهيم عليه مع أن معناه التذلل لله والخضوع، والائتمار لما امر به على لسان نبى من أنبيائه، وليعلم عيانًا ومشاهدة طاعة من أطاع أمره، وعصيان من أبى من امتثاله، وهى شبيهة بقصة إبليس فيما أمر به من السجود لآدم اختبارًا له. وروى عن ابن عباس أن استلام الحجر مبايعة الله عز وجل. وقال مالك فى المجموعة: إذا استقبل الركن حمد الله وكبر. وقيل: أيرفع يديه عنده؟ قال: ما سمعت، ولا عند رؤية البيت. وقال مكحول: كان عليه السلام إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا ومهابة، وزد من شَرَفِهِ وكَرَمِهِ مَنْ حج إليه واعتمر تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا، ويقال عند استلام الركن: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بما جاء به محمد نبيك.
45 - باب إِغْلاقِ الْبَيْتِ وَيُصَلِّى فِى أَىِّ نَوَاحِى الْبَيْتِ شَاءَ
/ 69 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْبَيْتَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلالا فَسَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. قال المؤلف: قال الشافعى: من صلى فى جوف الكعبة مستقبلا

(4/279)


حائطًا من حيطانها فصلاته جائزة، فإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطل؛ لأنه لم يستقبل شيئًا منها، فكأنه استدل على ذلك بغلق النبى عليه السلام الباب عل نفسه حين صلى، فيقال له: لم يغلق النبى (صلى الله عليه وسلم) على نفسه الباب حين صلى فى الكعبة إلا لئلا يكثر الناس عليه فيه فيصلوا بصلاته، ويكون ذلك عندهم من مناسك الحج، كما فعل النبى عليه السلام فى صلاة الليل حين لم يخرج إليهم خشية أن يكتب عليهم، ولو كان غلق الباب من أجل أنه لا تجوز الصلاة فى البيت نحو الباب وهو مفتوح لبيَّنه عليه السلام لأمته؛ لأنه قد علم أنهم لابد لهم من دخول البيت والصلاة فيه، فلا معنى لقول الشافعى. قال ابن القصار: ويقال: إنه من صلى فى جوفها نحو الباب وهو مفتوح فقد استقبل بعض أرض الكعبة واستدبر الباقى منها، فكان يجب أن تجزئه عنده؛ لأنه لو انهدمت حيطان الكعبة صلى فى أرضها وأجزأه ذلك عنده.
46 - باب الصَّلاةِ فِى الْكَعْبَةِ
/ 70 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلها، وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ، يَمْشِى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِى قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاثِ أَذْرُعٍ، فَيُصَلِّى يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِى أَخْبَرَهُ بِلالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَلِّىَ فِى أَىِّ نَوَاحِى الْبَيْتِ شَاءَ.

(4/280)


وقد تقدمت مذاهب العلماء فى الصلاة فى الكعبة فى أبواب القبلة فى كتاب الصلاة فى باب قوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125] فأغنى عن إعادته. وقال ابن المنذر: اختلف بلال وأسامة فى صلاة النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الكعبة، فحكم أهل العلم لبلال على أسامة؛ لأنه شاهد، وأسامة نافٍ غيرُ شاهد، وكذلك الفضل أيضًا نافٍ، والشاهد أولى من النافى؛ لأن الشاهد يحكى فعلا حفظه، والنافى غير حافظ لشىء يؤديه، وقد روينا حديثًا هو كالدليل فى هذا الباب على أن أسامة كان يغيب عن النبى عليه السلام فيحتمل أن يكون صلى فى غيبته. حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا عاصم بن على قال: حدثنى ابن أبى ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد قال: (رأى النبى عليه السلام صورًا فى الكعبة، قال: فكنت آتية بماء فى الدلو ويضرب به الصور، وقال: قاتل الله قومًا يصورون ما لا يخلقون) . وروى موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أن عائشة كانت تقول: (عجبًا لمن يدخل فى الكعبة كيف يرفع رأسه إعظامًا لله وإجلالاً، دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الكعبة فما خلف بصره موضع سجوده) .

(4/281)


47 - باب مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحُجُّ كَثِيرًا وَلا يَدْخُلُ. / 71 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لا. ليس دخول الكعبة من مناسك الحج؛ ألا ترى أن النبى عليه السلام لم يدخلها حين اعتمر، فمن دخلها فهو حسن، ومن لم يدخلها فلا شىء عليه، وروى عن ابن عباس أنه قال: دخول الكعبة ليس من نسككم.
48 - باب مَنْ كَبَّرَ فِى نَوَاحِى الْكَعْبَةِ
/ 72 - فيه: ابْن عَبَّاس، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِى أَيْدِيهِمَا الأزْلامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِى نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ) . قد تقدم فى باب الصلاة فى الكعبة، وفى كتاب الصلاة أن الناس تركوا رواية ابن عباس وأسامة، وأخذوا بقول بلال: (أنه عليه السلام صلى فى الكعبة) وقد روى عن ابن عباس فى هذه المسألة أنه قال: فترك الناس قولى، وأخذوا بقول بلال. فهذا يدل على أن العمل على الحكم للمثبت وترك النافى، وعليه جمهور الفقهاء.

(4/282)


وفى هذا الحديث من الفقه: أنه يجب على العالم والرجل الفاضل اجتناب مواضع الباطل، وأن لا يشهد مجالس الزور، وينزه نفسه عن ذلك. قال الطبرى: وفيه من الفقه الإبانة عن كراهة دخول النبى (صلى الله عليه وسلم) بيتًا فيه صورة، وذلك لأن الآلهة التى كانت فى البيت يومئذ إنما كانت تماثيل وصورًا، وقد تظاهرت الأخبار عنه عليه السلام أنه كان يكره دخول بيت فيه صورة، فإن قال قائل: الإحرام دخول البيت الذى فيه التماثيل والصور؟ قيل: لا، ولكنه مكروه، وسأتقصى الكلام فى ذلك فى كتاب اللباس والزينة فى باب: من كره القعود على الصور، وفى باب: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة إن شاء الله. قال الطبرى: والأزلام جمع زلم، ويقال: زلم، وهى قداح كانت الجاهلية يتخذونها يكتبون على بعضها: نهانى ربى، وعلى بعضها: أمرنى ربى، وعلى بعضها: نعم، وعلى بعضها: لا، فإذا أراد أحدهم سفرًا أو غير ذلك، دفعوها إلى بعضهم حتى يقبضها، فإن خرج القدح الذى عليه أمرنى ربى مضى، وإن خرج الذى مكتوب نهانى ربى كَفَّ عن الذى أراد من العمل. والاستقسام: الاستفعال من قسم الرزق والحاجات، وذلك طلب أحَدِهم بالأزلام على ما قسم له فى حاجته التى يلتمسها من نجاح أو حرمان، فأبطل الله ذلك من فعلهم وأخبر أنه فسق، وإنما جعله فسقًا؛ لأنهم كانوا يستقسمون عند آلهتهم التى يعبدونها

(4/283)


ويقولون: يا إلهنا، أخرج الحق فى ذلك، ثم يعلمون بما خرج فيه، فكان ذلك كفرًا بالله، لإضافتهم ما يكون من ذلك من صواب أو خطأ إلى أنه من قسم آلهتهم، فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن إبراهيم وإسماعيل أنهما لم يكونا يستقسمان بالأزلام، وإنما كانا يفوضان أمرهما إلى الله الذى لا يخفى عليه علم ما كان وما هو كائن؛ لأن الآلهة لا تضر ولا تنفع.
49 - باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ؟
/ 73 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ كُلَّهَا إِلا الإبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. ذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا عبد الأعلى، عن الجريرى، عن أبى الطفيل قال: قلت لابن عباس: (ألا تحدثنى عن الرمل، فإن قومك زعموا أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وكذبوا؟ قال: قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكة فقال أهل مكة: إن محمدًا وأصحابه لا يستطعون أن يطوفوا من الهزل، وأهل مكة ناس حُسَّد، فبلغ ذلك النبى عليه السلام فاشتد عليه فقال: أَرُوهُمُ اليومَ منكم ما يكرهون، قال: فرمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الثلاثة الأشواط، ومشوا الأربعة) . وروى فطر عن أبى الطفيل، عن ابن عباس (فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليمانى، فإذا توارى عنهم مشى) . ففى هذا الحديث أن الرمل كان من أَجْلِهم، لا لأنه سنة.

(4/284)


قال المهلب: وفيه من الفقه أن إظهار القوة للعدو فى الجسام والعدة والسلاح، ومفارقة الهدوء والوقار فى ذلك من السنة، كما أمر النبى عليه السلام بالخب فى الثلاثة الأشواط، ومثله إباحته عليه السلام للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب لهذا المعنى، والمسجد ليس بموضع لعب، بل هو موضع وقار وخشوع لله تعالى، لكن لما كان من باب القوة والعدة والرهبة على المنافقين وأهل الكتاب المجاورين لهم أباحه فى المسجد؛ لأنه أمر من امر جماعة المسلمين، والمسجد الجماعة المسلمين، وقال صاحب الأفعال: رمل رملا: أسرع فى المشى، وقال صاحب العين: الرمل: ضرب من المشى، والشوط: جرى مرة إلى الغاية، والجمع أشواط، وقال الطبرى: يقال: شاط يشوط شوطًا، إذا عدا غَلْوَةً بعيدة.
50 - باب اسْتِلامِ الْحَجَرِ الأسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلاثًا
/ 74 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاثَةَ أشواط مِنَ السَّبْعِ. سنة الطواف أن يبدأ الداخل مكة بالحجر الأسود فيقبله إن استطاع،

(4/285)


أو يمسحه بيمينه ويقبلها بعد أن يضعها عليه، فإن لم يقدر قام بحذائه فكبر ثم أخذ فى طوافه، ثم مضى على يمينه على باب الكعبة إلى الركن الذى لا يستلم، ثم إلى الذى يليه مثله، ثم إلى الركن الثالث، وهو اليمانى الذى يستلم، ثم إلى الركن الأسود، وهذه طوفة واحدة، يفعل ذلك ثلاثة أطواف يرمل فيها، ثم أربعة لا يرمل فيها، وهذا إجماع من العلماء أنه من فعل هذا فقد فعل ما ينبغى، فإن لم يطف كما وصفنا، وجعل البيت عن يمينه ومضى من الركن الأسود على يساره فقد نكس طوافه، ولم يجزئه عند مالك والشافعى وأبى ثور، وعليه أن يرجع من بلاده ويطوف؛ لأنه كمن لم يطف، لخلافه سنة النبى عليه السلام فى طوافه، ومن خالفه فَفِعْلُه رد، والمردود غير مقبول. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يعيد الطواف ما كان بمكة، فإذا بلغ الكوفة أو أبعد كان عليه دم ويجزئه، واحتجوا بقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] . قالوا: ولم يفرق بين طواف منكوس أو غيره، فوجب أن يجزئه، والخب: ضرب من العَدْو، يقال: خبت الدابة تخب خبا، إذا أسرعت المشى وراوحت بين قدميها، وكذلك تقول العرب للخيل إذا وصفتها بسرعة السير: مراوحة بين أيديها، فأما إذا رفعت أيديها معًا ووضعتها كذلك فذلك التقرين لا الخَبَب.

(4/286)


51 - باب الرَّمَلِ فِى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
/ 75 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، سَعَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً فِى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. / 76 - وفيه: عُمَرَ، أنه قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: شَىْءٌ صَنَعَهُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ. / 77 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِى شِدَّةٍ وَلا رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَلِمُهُمَا، قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِى بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَمْشِى، لِيَكُونَ أَيْسَرَ لاسْتِلامِهِ. واختلف أهل العلم فى الرمل هل هو سنة لا يجب تركها فى الحج والعمرة أو لا؟ فروى عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عمر أن الرمل سنة لكل قادم مكة فى الثلاثة الأطواف الول، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقال آخرون: ليس الرمل سنة، ومن شاء فعله، ومن شاء تركه، روى ذلك عن ابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، والقاسم، وسالم. واختلفوا فيما يجب على من تركه، فروى عن ابن عباس وهو المشهور عنه أنه لا شىء عليه، وبه قال عطاء، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور.

(4/287)


وقال الحسن البصرى: عليه دم، وهو قول الثورى، ورواه معن عن مالك، وقال ابن القاسم: رجع عن ذلك مالك، وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم أن عليه الدم فى قليل ذلك وكثيره، واحتج بقول ابن عباس: من ترك من نسكه شيئًا فعليه دم. وهذا الاستدلال خطأ؛ لأن الأَشْهَر عن ابن عباس أن من شاء رمل، ومن شاء لم يرمل، ومذهبه أن من ترك الرمل فلا شىء عليه. وقال الطبرى: قد ثبت أن النبى عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة يرائى بالرمل، فكان معلومًا أنه من مناسك الحج، غير أنا لا نرى على من تركه عامدًا ولا ساهيًا قضاء ولا فدية؛ لأن من تركه فليس بتارك لعمل، وإنما هو تارك منه لهيئة وصفة، كالتلبية التى من سنة النبى عليه السلام فيها العج ورفع الصوت، فإن خفض الصوت بها كان غير مضيع للتلبية ولا تاركها، وإنما ضيع صفة من صفاتها، ولا يلزمه بترك العج ورفع الصوت قضاء ولا فدية. وأجمعوا أنه لا رَمَل على النساء فى طوافهن بالبيت ولا هرولة فى سعيهن بين الصفا والمروة، وكذلك أجمعوا أنه لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها؛ لأنهم رملوا فى حين دخولهم مكة حين طافوا للقدوم. واختلفوا فى اهل مكة هل عليهم رمل؟ فكان ابن عمر لا يراه عليهم، واستحبه مالك والشافعى للمكى. وعلة من لم ير الرمل للمكى أنه من سنة القادم، وليس المكى

(4/288)


بقادم، وعلة من استحبه للمكى فى طواف الإفاضة؛ لأنه طواف ينوب عن طواف القدوم وطواف الإفاضة، فاستحب له الرمل ليأتى بِسُنَّة هى فى أحد الطوافين، فتتم له السُّنَّةُ فى ذلك، كما أنه يسعى بين الصفا والمروة فى طواف الإفاضة، وغير المكى لا يسعى بين الصفا والمروة إلا مع طواف الدخول.
52 - باب اسْتِلامِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ
/ 78 - فيه: ابْن عَبَّاس، طَافَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. يحتمل أن يكون استلامه الركن بمحجنه لشكوى كان به، وقد روى ذلك أبو داود فى مصنفه، وروى فى ذلك وجه آخر، وروى الطبرى من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: (طاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حول البيت على بعير يستلم الركن بمحجنه، كراهية أن يصرف الناس عنه) . فترك الرسول (صلى الله عليه وسلم) استلامه بيده إما لشكواه، وإما كراهة أن يُضَيِّق على الطائفين ويزاحمهم ببعيره، فيؤذيهم بذلك، أو لهما جميعًا، فركب راحلته وأشار بالمحجن، وقد روى فى ذلك وجه ثالث سأذكره فى باب: التكبير عند الركن إن شاء الله. قال المهلب: واستلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) الركن بمحجنه يدل على أن استلام الركن ليس بفرض، وإنما هو سنة من النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ ألا ترى قول

(4/289)


عمر: (لولا أنى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبلك ما قبلتك) ، وسيأتى الطواف على الدابة بعد هذا فى موضعه إن شاء الله. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: المحجن: العصا المعوجة الرأس. وقال صاحب العين: هى عصا يجتذب بها العامل ما نأى عنه من [. . . . . .] معوجة الرأس. قال الطبرى: ومنه قولهم: احتجن فلان كذا، إذا أخذه، وأصله إمالته إلى نفسه، كالمحجن الذى أُميل طرفه إلى معظَمِهِ وعُطِفَ عَلَيْهِ. قال الطبرى: وقوله: (يستلم) يعنى: يصيب السَّلام، والسلام هو الحجر، وإنما يستلم يستفعل منه، فمعنى الكلام: طاف النبى (صلى الله عليه وسلم) على راحلته يومئ بالمحجن الذى معه إلى الحجر الأسود حتى يصيبه ويكبر، ثم يقبل من محجنه الموضع الذى أصاب الحجر منه.
53 - باب مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ
/ 79 - فيه: جَابر بْن زيد، قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِى شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ؟ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ، فَقَالَ: لَيْسَ شَىْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ.

(4/290)


/ 80 - وفيه: ابْن عُمَرَ، لَمْ أَرَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. قال الطحاوى: إنما لم يستلم النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا الركنين اليمانيين، لأنهما مبنيان على منتهى البيت مما يليهما، والآخران ليسا كذلك؛ لأن الحجر وراءهما وهو من البيت، وذلك أن قريشًا قصرت بهم النفقة عن قواعد إبراهيم فتركت منه فى الحجر ستة أذرع، وقد أجمعوا أن ما بين الركنين اليمانيين لا يستلم؛ لأنه ليس من قواعد إبراهيم، فكان يجئ فى النظر أن يكون كذلك الركنان الآخران لا يستلمان؛ لأنهما ليسا من قواعد إبراهيم، فليسا بركنين لبيت. قال الطحاوى: وقد نزع ابن عمر بمثل ما نزعنا به فى ذلك، وذلك لأنه لما أخبرت عائشة بقول النبى (صلى الله عليه وسلم) لها: (ألم ترى أن قومك حين بَنَوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم قالت: قلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم. .) وذكر الحديث، قال ابن عمر: لو كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ما أرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم. وجمهور العلماء على استلام الركنين اليمانين، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقد روى عن أنس وجابر ومعاوية وابن الزبير وعروة أنهم كانوا يستلمون الأركان

(4/291)


كلها، والحجة عند الاختلاف فى السنة، وكذلك قال ابن عباس لمعاوية حين قال له معاوية: ليس شىء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] .
54 - باب تَقْبِيلِ الْحَجَرِ
/ 81 - فيه: عُمَرَ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَقَالَ: لَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ. / 82 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ سَأل رجل عَنِ اسْتِلامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ؟ قَالَ: اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ. لا يختلف العلماء أن تقبيل الحجر الأسود فى الطواف من سنن الحج لمن قدر عليه، فإن لم يقدر عليه وضع يده عليه مستلمًا ثم رفعها إلى فيه، فإن لم يقدر قام بحذائه وكبر، فإن لم يفعل فلا أعلم أحدا أوجب عليه فدية ولا دَمَا. قال المهلب: وقول عمر: (لولا أنى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبلك ما قبلتك) . إنما قاله دفعًا لأمر الجاهلية وما كانوا يعبدونه من الأحجار، فأعلم الناس أن تقبيله للحجر ليست عبادة له، إنما هى عبادة لله باتباع سنة رسوله، والحجر لا يضر ولا ينفع، إنما ينفع الاستتان برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى تقبيله، وقد تقدم هذا المعنى للطبرى،

(4/292)


وروى ابن المنذر عن إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليبعثن اللهُ الحجَر يوم القيامة له عينان ولسان، يشهد لمن استلمه بحق) .
55 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ
/ 83 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: طَافَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ. قد تقدم أن التكبير عند الركن دون استلام لا يفعل اختيارًا، وإنما يُفعل لعذر مرض أو زحام الناس عند الحجر. واختلفوا فى الطواف راكبًا أو محمولاً، فقال الشافعى: لا أحب لمن أطاق الطواف ماشيًا أن يركب، فإن طاف راكبًا أو محمولا من عذر أو غيره فلا دم عليه، واحتج بحديث ابن عباس هذا أن النبى عليه السلام طاف على راحلته، وبما رواه ابن جريج عن أبى الزبير، عن جابر (أن النبى عليه السلام طاف فى حجة الوداع بالبيت وبين الصفا والمروة على راحلته ليراه الناس، وليشرف لهم وليسألوه؛ لأن الناس غَشَوْهُ) . وذهب مالك والليث وأبو حنيفة إلى أن من طاف بالبيت راكبًا أو محمولا فإن كان من عذر أجزأه، وإن كان من غير عذر فعليه أن يعيد

(4/293)


إن كان بمكة، وإن رجع إلى بلاده فعليه دم، وحجتهم ما رواه أبو داود قال: حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى) . قالوا: فدل أن طوافه راكبًا كان لشكوى كانت به.
56 - باب مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا
/ 84 - فيه: عَائِشَة، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِى الزُّبَيْرِ ابْن العوام، فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِى أُمِّى أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِىَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. / 85 - وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ، عليه السَّلام، إِذَا طَافَ فِى الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ يسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَكَانَ يَسْعَى فِى بَطْنَ الْمَسِيلِ. غرضه فى هذا الباب أن يبين سنة من قدم مكة حاجا أو معتمرًا أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن كان معتمرًا حلق

(4/294)


وحل، وإن كان حاجا ثبت على إحرامه حتى يخرج إلى منى يوم التروية لعمل حجه، ولذلك قال مالك: إذا دخلت المسجد فلا تبدأ بالركوع، ولكن تستلم الركن وتطوف، وكذلك فعل النبى عليه السلام. وقوله: (ثم لم تكن عمرة) يعنى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) طاف بالبيت ثم لم يحل من حجه بعمرة من أجل الهدى، وكذلك فعل أبو بكر وعمر أفردا الحج. وقال ابن المنذر: سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للقادمين المحرمين بالحج تعجيل الطواف والسعى بين الصفا والمروة عند دخولهم، وفعل هو ذلك على ما روته عائشة عنه، وأمر من حَلَّ من أصحابه أن يحرموا إذا انطلقوا إلى منى، فإذا أحرم من هو منطلق إلى منى فغير جائز أن يكون طائفًا وهو منطلق إلى منى. فدل هذا الحديث على أن من أحرم من مكة من أهلها أو غيرهم أن السنة أن يؤخروا طوافهم وسعيهم إلى يوم النحر، خلاف فعل القادمين؛ لتفريق السنة بين الفريقين، وأيضًا فإن أهل العلم سموا هذا الطواف: طواف الورود، وليس من أنشأ الحج من مكة واردًا بحجه عليها، فسقط بذلك عنهم تعجيله. وكان ابن عباس يقول: يا أهل مكة، إنما طوافكم بالبيت وبين الصفا والمروة يوم النحر، وأما أهل الأمصار فإذا قدموا، وكان يقول: لا أرى لأهل مكة أن يحرموا بالحج حتى يخرجوا، ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا، هذا قول ابن عمر وجابر، وقالوا: من أنشأ الحج من مكة فحكمه حكم أهل مكة. قال ابن المنذر: وهذا قول مالك وأهل المدينة وطاوس، وبه قال

(4/295)


أحمد وإسحاق، واختلف قول مالك فيمن طاف وسعى قبل خروجه فكان يقول: يعيد إذا رجع ولا يجزئه طوافه الأول ولا سعيه، وقال أيضًا: إن رجع إلى بلاده قبل أن يعيد فعليه دم. ورخصت طائفة فى ذلك، ورأت المكى ومن دخل مكة إن طفا وسعيا قبل خروجهما أن ذلك جائز، هذا قول عطاء والشافعى، غير أن عطاء كان يرى تأخيره أفضل، وقد فعل ذلك ابنُ الزبير، أَهَلَّ لما أَهَلَّ هلالُ ذى الحجة، ثم طاف وسعى وخرج، وأجازه القاسم بن محمد، وقال عطاء: منزلة من جاور بمنزلة أهل مكة، إِنْ أَحْرَمَ أَوَّلَ العشر طاف حين يُحرم، وإن أحرم يوم التروية أخر الطواف إلى يوم النحر. واختلفوا فيمن قدم مكة فلم يطف حتى أتى منى، فقالت طائفة: عليه دم، هذا قول أبى ثور، واحتج بقول ابن عباس: (من ترك من نسكه شيئًا فليهرق لذلك دمًا) . وحكى أبو ثور عن مالك: يجزئه طواف الزيارة لطواف الدخول والزيارة والصدر، وحكى غيره عن مالك أنه إن كان مراهقًا فلا شىء عليه، فإن دخل غير مراهق فلم يطف حتى مضى إلى عرفات فإنه يهريق دما؛ لأنه فرط فى الطواف حين قدم حتى أتى إلى عرفات، وقال أبو حنيفة، والشافعى، وأشهب: لا شىء عليه إن ترك طواف القدوم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من ترك طواف القدوم وطاف للزيارة ثم رجع إلى بلده أن حجه تام، ولم يوجبوا عليه الرجوع كما أوجبوه عليه فى طواف الإفاضة، فدل إجماعهم

(4/296)


على ذلك أن طواف القدوم ليس بفرض، وكان ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد والقاسم بن محمد لا يرون بأسًا إذا طاف الرجل أول النهار أنه يؤخر السعى حتى يبرد، وكذلك قال أحمد وإسحاق إذا كانت به علة، وقال الثورى: لا بأس إذا طاف أن يدخل الكعبة، فإذا خرج سعى. وقوله: (فلما مسحوا الركن حَلُّوا) . يريد بعد أن سعوا بين الصفا والمروة؛ لأن العمرة إنما هى الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، ولا يحل من قدم مكة بأقل من هذا، فخشى البخارى أن يتوهم متوهم أن قوله: (فلما مسحوا الركن حلوا) أن العمرة إنما هى الطواف بالبيت فقط، وأن المعتمر يحل من عمرته بالطواف بالبيت، ولا يحتاج إلى سعى بين الصفا والمروة، وهو مذهب ابن عباس، وروى عنه أنه قال: إن العمرة الطواف. وقال به إسحاق ابن راهويه، ويمكن أن يحتج من قال بهذا بقراءة ابن مسعود: (وأتموا الحج والعمرة إلى البيت) . أى أن العمرة لا يجاوز بها البيت. فأراد البخارى بيان فساد هذا التأويل بما أردف فى آخر الباب من حديث ابن عمر: (أن النبى عليه السلام كان إذا قدم مكة للحج أو العمرة طاف بالبيت، ثم سعى بين الصفا والمروة) . وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار.

(4/297)


57 - باب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ
/ 86 - فيه: عَطَاء أنَّهُ قَالَ لابن هِشَام إِذْ مَنَعَ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ: قَالَ: كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، مَعَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَم قَبْلُ؟ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ، قُلْتُ: كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: انْطَلِقِى نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتِ: انْطَلِقِى عَنْكِ وَأَبَتْ، يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ، وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ وَكُنْتُ آتِى عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهِىَ مُجَاوِرَةٌ فِى جَوْفِ ثَبِيرٍ، قُلْتُ: وَمَا حِجَابُهَا؟ قَالَ: هِىَ فِى قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا. / 87 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّى أَشْتَكِى، فَقَالَ: (طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَئِذٍ يُصَلِّى إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ: (وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (. قال المهلب: قول عطاء: قد طاف الرجال مع النساء، يريد أنهم

(4/298)


طافوا فى وقت واحد غير مختلطات بالرجال؛ لأن سنتهن أن يطفن ويصلين وراء الرجال ويستترن عنهم؛ لقوله عليه السلام: (طوفى من وراء الناس وأنت راكبة) . وفيه: أن السنة إذا أراد النساء دخول البيت أن يخرج الرجال عنه، بخلاف الطواف حول البيت، وفيه المجاورة بمكة وهو نوع من الاعتكاف، وهو على ضربين: مجاورة بالليل والنهار، فهو الاعتكاف، ومجاورة بالنهار وانصراف بالليل على حسب نيته وشرطه فيها. وفيه: جواز المجاورة فى الحرم كله، وإن لم يكن فى المسجد الحرام؛ لأن ثبيرًا خارج عن مكة، وهو فى طريق منى، وقراءة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالطور كانت فى صلاة الفجر، كذلك بوب له البخارى فى كتاب الصلاة، وذكره بعد هذا فى باب: من صلى ركعتى الطواف خارجًا من المسجد: أن النبى عليه السلام قال لأم سلمة: (إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفى على بعيرك والناس يصلون) . وابن جرير هو راوى الحديث عن عطاء، وهو السائل له عن هذه القصة، وبينهما جرى الخطاب، وعطاء هو القائل: وكنت آتى عائشة أنا وعبيد بن عمير وهى مجاورة فى جوف ثبير، قال: ورأيت عليها درعًا موردًا وأنا صبى، وروى عبد الرزاق هذا الحديث عن ابن جريج أتم من رواية البخارى، وقال فيه: فأبت أن تستلم، قال:

(4/299)


وكن يخرجن متنكرات بالليل، وقال فيه أيضًا: (كن إذا دخلن البيت سترن حين يدخلن) ، مكان: (قمن حتى يدخلن) . وقوله: حجرة، يعنى ناحية من الناس معتزلة، وقال عبد الرزاق: يعنى محجوزًا بينها وبين الرجال بثوب، والتركية: قبة صغيرة من لبود.
58 - باب الْكَلامِ فِى الطَّوَافِ
/ 88 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، مَرَّ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَىْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: (قُدْهُ بِيَدِهِ) . وترجم له باب إذا رأى سيرًا أو شيئًا يكره فى الطواف قطعه. قال ابن المنذر: أَوْلى ما شَغَلَ المرءُ به نفسَهُ فى الطواف ذكرُ الله وقراءة القرآن، ولا يشتغل فيه بما لا يجدى عليه منفعة فى الآخرة، مع أنا لا نحرم الكلام المباح فيه، غير أن الذكر فيه أسلم؛ لأن من تخطى الذكر إلى غيره لم يأمن أن يخرجه ذلك إلى ما لا تحمد عاقبته، وقد قال ابن عباس: (الطواف صلاة، ولكن قد أذن الله لكم فيه

(4/300)


بالكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير) . وقال عطاء: كانوا يطوفون ويتحدثون. وقال مالك: لا بأس بالكلام فيه، فأما الحديث فأكرهه. واختلفوا فى قراءة القرآن، فكان ابن المبارك يقول: ليس شىء أفضل من قراءة القرآن. وكان مجاهد يقرأ عليه القرآن فى الطواف، واستحبه الشافعى وأبو ثور، وقال الكوفيون: إذا قرأ فى نفسه. وكرهت طائفة قراءة القرآن، وروى ذلك عن عروة والحسن البصرى ومالك ابن أنس، وقال مالك: وما القراءة فيه من عمل الناس القديم، ولا بأس به إذا أخفاه، ولا يكثر منه. قال عطاء: قراءة القرآن فى الطواف محدث. وقال ابن المنذر: والقراءة أحب إلى من التسبيح، وكُل حَسَن، ومن أباح قراءة القرآن فى الطرق والبوادى ومنعه الطائف متحكم مدع لا حجة له. وينبغى أن يفتتح الطواف بتوحيد الله كما يفتتح الصلاة بالتكبير، ويخشع لربه، ويعقل بِبَيْتِ مَنْ يطوف، ولمعروف من يتعرض، وليسأل غفران ذنوبه والتجاوز عن سيئاته، ويشغل نفسه بذلك وخواطره، ويترك أمور الدنيا، كما فعل ابن عمر حين خطب إليه عروة بن الزبير ابنته فى الطواف، فلم يرد عليه كلامًا، فلما جاء إلى المدينة لقيه عروة فقال له ابن عمر: (أدركتنى فى الطواف ونحن نتراءى الله بين أعيننا، فذاك الذى منعنى أن أرد عليك، ثم زوجه) ، والذى سأل عروةُ باب من أبواب المباح، فأبى ابن عمر أن يجيبه تعظيمًا لله تعالى إذ هو طائف ببيته الحرام. وفى قطعه عليه السلام السير من يد الطائف من الفقه أنه يجوز

(4/301)


للطائف فعل ما خف من الأفعال، وأنه إذا رأى منكرًا فله أن يغيره بيده، وإنما قطعه والله أعلم لأن القود بالأزمَّة إنما يُفعل بالبهائم، وهو مُثْلَة، وقد روى ابن جريج عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس (أن الرسول مَرَّ وهو يطوف بالبيت بإنسان يقوده إنسان بخزامة فى أنفه، فقطعه عليه السلام وأمره أن يقوده بيده) .
59 - باب لا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلا يَحُجُّ مُشْرِكٌ
/ 89 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِى الْحَجَّةِ الَّتِى أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِى رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِى النَّاسِ: (أَلا لا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) . قال المهلب: أراد عليه السلام أن ينظف له البيت من المشركين والعراة، ويكون حجه بهم عليه السلام على نظافة البيت من هاتين الطائفتين، وقد اختلف الناس فى حجة أبى بكر هذه إن كانت حجة الإسلام بعد نزول فرضه لقوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97] أو إن كانت على حج الجاهلية ومواسمها، والذى يعطى النظر أن حجة أبى بكر بالناس كانت حجة الإسلام وبعد نزول فرضه؛ لأن وقوفه كان بعرفة مع الناس كافة، وإنما كان الحمس وهم قريش يقفون بالمشعر الحرام، فلما خالف أبو بكر العادة بقريش، وأخرجهم من الحرم إلى عرفات، دل أنه إنما وقف بأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما امتثل قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: 199] يعنى العرب كافة، وقوله تعالى هذا هو متقدم بفرض الحج ووصف شرايعه كلها.

(4/302)


فثبت بهذا أن حجة أبى بكر على حج الإسلام، مع أنه أيضًا حج فى ذى الحجة، وكانت العرب لا تتوخى بحجها إلا ما كانت عليه من النسئ، يحلونه عامًا ثم يحرمونه عامًا آخر، ودليل آخر أنه حج حجة الإسلام بعد نزول فرضه؛ بعثته عليه السلام لعلى فى أثره لينادى المشركين ببراءة، ولينبذ إليهم عهدهم بكتاب الله، وكذلك أمره ألا يطوف عريان ولا يحج مشرك؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة: 28] وفى هذه السورة ذكر النسئ وذكر شرائع الحج، وهذا يدل أن الحج لازم للمسلمين، ليس على الفور ولا على وقت معين كالصلاة والزكاة والصيام، بل فى العمر كله مرة متى وجد إليه سبيلا، لا يتعلق بوقت دون وقت؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يحج بعد فور نزول فرض الحج عليه، بل أخر ذلك إلى عام آخر. قال ابن خواز بنداد: وقد اختلف فى هذه المسألة أصحاب مالك: وأصحاب أبى حنيفة، وأصحاب الشافعى على قولين، فقال مالك: إذا كانت المرأة صرورة أجبر الزوج على الإذن لها فى الحج ولا تعجل عليه وتؤخر عامًا بعد عام. قال: وسئل سحنون عن الرجل يجد ما يحج به فيؤخر ذلك سنين كثيرة مع قدرته على الحج، هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته؟ قال: لا يفسق وإن مضى من عمره ستون سنة يؤخر فيها الحج وهو قادر على فعله، فإذا جاوز الستين سنة فسق وردت شهادته، قال: وتحصيل مذهبنا أن الحج تأخيره مع القدرة عليه، ورأينا أصحابنا العراقيين من المالكيين يقولون: هو على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة، وهو قول أبى يوسف والمزنى، وروى عن محمد بن الحسن أنه على التراخى، وكذلك روى عن أصحاب الشافعى القولان جميعًا.

(4/303)


60 - باب إِذَا وَقَفَ فِى الطَّوَافِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلاةُ أَوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ: إِذَا سَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ فَيَبْنِى، وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ. 61 - باب صَلَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّى لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِىِّ: إِنَّ عَطَاءً يَقُولُ: تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ، فَقَالَ: السُّنَّةُ أَفْضَلُ، لَمْ يَطُفِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سُبُوعًا قَطُّ إِلا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. / 90 - فيه: عَمْرٍو، سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ (، وَسَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، فَقَالَ: لا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وترجم له: (باب من صلى ركعتى الطواف خلف المقام) .

(4/304)


قال المؤلف: قال مالك: لا ينبغى الوقوف ولا الجلوس فى الطواف، فإن فعل منه شيئًا بنى فيما خف ولم يتطاول وأجزأه. وقال نافع: ما رأيت ابن عمر قائمًا قط إلا عند استلام الركن، وقال عمرو بن دينار: رأيت ابن الزبير يطوف فيسرع، قال نافع: ويقال: القيام فى الطواف بدعة، وطاف ابن عمر فى يوم حار ثم قعد فى الحجر، ثم استراح، ثم أتى ما بقى، وأجاز عطاء أن يجلس ويستريح فى الطواف، فإن قيل: فما معنى ذكره أن النبى عليه السلام طاف لسبوعه وصلى ركعتين فى باب إذا وقف فى الطواف؟ قيل: معناه والله أعلم أنه (صلى الله عليه وسلم) حين طاف وركع بأثره ركعتين لم يحفظ عنه أنه وقف ولا جلس فى طوافه. ولذلك قال نافع: إن القيام فيه بدعة إلا أن يضعف فلا بأس بالوقوف والقعود اليسير فيه للراحة، ويبنى عليه، وإنما كره العلماء القعود فيه والوقوف لغير عذر والله أعلم لأن من أجاب دعوة أبيه إبراهيم على بُعْدِ الشقة وشدة المشقة لا يصلح إذا بلغ إلى العمل أن يتوانى فيه بوقوف أو قعود لغير عذر، ولهذا المعنى والله أعلم كان ابن الزبير يسرع فى طوافه. وجمهور العلماء يرون لمن أقيمت عليه الصلاة البناء على طوافه إذا فرغ من صلاته، روى ذلك عن ابن عمر، وعطاء، والنخعى، وابن المسيب، وطاوس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلا الحسن البصرى فإنه قال: يبتدئ الطواف. قال ابن المنذر: وحجة الجماعة أن الخارج إلى الصلاة المكتوبة

(4/305)


معذور قد حيل بينه وبين أن يتم طوافه، فإذا فرغ ووجد السبيل إلى إكماله أكمله، وغير جائز أن يبطل عمل الطائف بغير حجة. وفى المسألة خلاف آخر ذكره عبد الرزاق عن أبى الشعثاء، أنه أقيمت عليه الصلاة وطاف خمسة أطواف فلم يتم ما بقى، وعن سعيد بن جبير مثله، وعن عطاء: إن كان الطواف تطوعًا وخرج فى وتر فإنه يجزئ عنه، وكذلك إن عرضت له حاجة فخرج فيها. وعن ابن عباس: من بدت له حاجة فخرج لها فليخرج على وتر من طوافه، ويركع ركعتين ولا يَعُدْ لبقيته. وقال مالك: من طاف بعض طوافه ثم خرج لصلاة على جنازة، أو خرج لنفقة نسيها، فليستأنف الطواف ولا يبنى، ولا يخرج من طوافه لشىء إلا الصلاة الفريضة، وهو قول الشافعى وأبى ثور، وقال أشهب: يبنى إذا صلى على جنازة، وهو قول أبى حنيفة، وقال ابن المنذر: لا يخرج من بِرٍّ هو فيه إلى بِرٍّ، وليتم طوافه. واختلف العلماء فيمن طاف سبوعًا ثم وافق صلاة مكتوبة هل تجزئه من ركعتى الطواف؟ فروى عن ابن عمر أنه أجاز ذلك خلاف ما ذكره البخارى عنه أنه كان يفعله، وروى مثله عن سالم وعطاء وأبى الشعثاء، قال أبو الشعثاء: ولو طاف خمسة. وقال الزهرى ومالك وأبو حنيفة: لا يجزئه. قال ابن المنذر: ويشبه مذهب الشافعى، وهو قول أبى ثور، واحتجاج ابن شهاب على عطاء فى هذا الباب بأن النبى عليه السلام لم يطف سبعًا قط إلا صلى ركعتين فى أنه لا تجزئه المكتوبة من ركعتى الطواف؛ مغن عن غيره، وكان طاوس يصلى لكل سبوع أربع ركعات، فذكر ذلك لابن جريج فقال: حدثنا عطاء أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

(4/306)


كان يصلى على كل سبوع ركعتين. وعلى هذا مذهب الفقهاء. قال ابن المنذر: ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) طاف بالبيت سبعًا وصلى ركعتين. وأجمعوا أن من فعل فعله عليه السلام فهو متبع للسنة، ورخصت طائفة أن يجمع أسابيع ثم يركع لها كلها، روى ذلك عن عائشة وعطاء وطاوس، وبه قال أبو يوسف وأحمد وإسحاق، وكره ذلك ابن عمر والحسن البصرى وعروة والزهرى، وهو قول مالك والكوفيين وأبى ثور، وهذا القول أولى؛ لأن فاعله متبع للسنة. قال ابن المنذر: وأرجو أن يجزئ القول الأول، وهو كمن صلى وعليه صلاة قبلها، أو طاف وعليه صلاة ثم صلاها بعد طوافه، قال: وثبت أن النبى عليه السلام صلى ركعتى الطواف عند المقام. وأجمع العلماء أن الطائف يجوز أن يركعهما حيث شاء إلا مالكًا فإنه كره أن يركعهما فى الحجر، وقد صلى ابن عمر ركعتى الطواف فى البيت، وصلاهما ابن الزبير فى الحجر، قال مالك: ومن صلى ركعتى الطواف والمروة، وإن لم يركعهما حتى يبلغ بلده أهراق دمًا ولا إعادة عليه. قال ابن المنذر: ولا يخلو من صلى فى الحجر ركوع الطواف أن يكون قد صلاهما، فلا إعادة عليه، أو يكون فى معنى من لم يصلهما فعليه أن يعيد أبدًا، فأما أن يكون بمكة فى معنى من لم يصلهما وإن رجع إلى بلاده فى معنى من قد صلاهما، فلا أعلم لقائله حجة فى التفريق بين ذلك، ولا أعلم الدم يجب فى شىء من أبواب الطواف.

(4/307)


62 - باب مَنْ لَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفات وَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الأوَّلِ
/ 91 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا، حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ. قال المهلب: معنى قوله: من لم يقرب الكعبة، يريد من لم يطف طوافًا آخر تطوعًا غير طواف الورود؛ لأن الحاج لا طواف عليه غير طواف الورود حتى يخرج إلى عرفات وينصرف ويرمى جمرة العقبة، وكذلك يطوف طواف الإفاضة الذى هو الفرض، وهذا معنى حديث ابن عباس، وهو اختيار مالك لا ينتقل بطواف بعد طواف الورود حتى يتم حجه، وقد جعل الله فى ذلك توسعة، فمن أراد أن يطوف بعد طواف الورود فله ما شاء من ذلك ليلاً ونهارًا، ولا سيما إن كان من أقاصى البلدان، ومن لا عهد به بالطواف بالبيت فقد قال مالك: إن الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن كان من أهل البلاد البعيدة؛ لقلة وجود السبيل إلى البيت. وروى عن عطاء والحسن قالا: إذا أقام الغريب بمكة أربعين يومًا كانت الصلاة أفضل له من الطواف، وقال أنس: الصلاة للغرباء أفضل.
63 - باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَصَلَّى عُمَرُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ.
/ 92 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ نَبِى اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ: (إِذَا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِى

(4/308)


عَلَى بَعِيرِكِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّون) ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ. قال ابن المنذر: واختلفوا فى من نسى ركعتى الطواف حتى خرج من الحرم أو رجع إلى بلاده، فقال عطاء والحسن البصرى: يركعهما حيثما ذكر من حِلٍّ أو حَرَم، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعى، وهو موافق لحديث أم سلمة؛ لأنه ليس فى الحديث أنها صلتها فى الحرم أو فى الحل، وقال الثورى: يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم. قال مالك: إن لم يركعهما حتى تباعد أو رجع إلى بلاده عليه دم. وقال فى المدونة: من طاف فى غير إبّان صلاة أَخَّرَ الركعتين، وإن خرج إلى الحل ركعهما فيه ويجزئانه ما لم ينتقض وضوءه، فإن انتقض قبل أن يركعهما وكان طوافه ذلك واجبًا رجع فابتدأ بالطواف بالبيت وركع؛ لأن الركعتين من الطواف تُوصَلا به إلا أن يتباعد، فليركعهما ويهدى ولا يرجع. قال ابن المنذر: ليس ذلك أكثر من صلاة المكتوبة، وليس على من تركها إلا قضاؤها حيث ذكرها.

(4/309)


64 - باب الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِى طُوًى، يعنِى بعد طلوع الشَّمس. / 93 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ. / 94 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَنْهَى عِنِ الصَّلاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا. / 95 - قَالَ عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ: رَأَيْتُ ابْن الزُّبَيْرِ، يَطُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، وَيُخْبِرُ عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا قط إِلا صَلاهُمَا. قال المؤلف: قد ذكر البخارى الخلاف فى هذه المسألة عن الصحابة، وكان ابن عمر يصلى بعد الصبح والعصر ركعتى الطواف، وهو قول عطاء، وطاوس، والقاسم، وعروة، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجتهم حديث ابن عيينة عن أبى الزبير، عن عبد الله بن بابيه، عن جبير بن مطعم: أن النبى عليه السلام قال: (يا بنى عبد مناف، لا تمنعن أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أى ساعة شاء من ليل أو نهار) . فَعَمَّ الأوقات كلها. وروى عن أبى سعيد الخدرى مثل قول عمر بن الخطاب: لا بأس بالطواف بعد الصبح والعصر، ويؤخر الركعتين إلى بعد طلوع الشمس وبعد غروبها رواه سفيان عن الزهرى، عن عروة،

(4/310)


عن عبد الرحمن بن عبد القارى قال: طاف عمر بالبيت بعد الصبح فلم يركع، فلما صار بذى طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين، وهو قول مالك وأبى حنيفة والثورى. قال الطحاوى: فهذا عمر، رضى الله عنه، لم يركع حين طاف؛ لأنه لم يكن عنده وقت صلاة، وأخر ذلك إلى أن دخل عليه وقت الصلاة، وهذا بحضرة جماعة من أصحاب النبى عليه السلام فلم ينكره عليه منهم أحد، ولو كان ذلك الوقت عنده وقت صلاة الطواف لصلى، ولما أخر ذلك؛ لأنه لا ينبغى لأحد طاف بالبيت إلا أن يصلى حينئذ إلا من عذر. وقد روى ذلك عن معاذ بن عفراء، وعن ابن عمر، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا همام، حدثنا نافع: أن ابن عمر قدم عند صلاة الصبح فطاف ولم يصل إلا بعد ما طلعت الشمس، فهذا قول آخر عن ابن عمر فى المسألة غير ما ذكره عنه البخارى. قال المهلب: وما ذكره البخارى عن ابن عمر أنه كان يركع ركعتى الطواف ما لم تطلع الشمس، وهو يروى نهى النبى عليه السلام عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فيدل والله أعلم أن النهى عنده عن ذلك إنما هو عند موافقة الطلوع والغروب، فأما إذا أمن أن يوافق ذلك فله أن يصلى ركعتى الطواف؛ لأن الوقت لهما واسع، ومن سنتهما الاتصال بالطواف. وقد بين ذلك ما رواه الطحاوى قال: حدثنا أحمد بن داود قال: نا يعقوب بن حميد، حدثنا ابن أبى غنية، عن عمر بن

(4/311)


ذر، عن مجاهد قال: كان ابن عمر يطوف بعد العصر ويصلى ما كانت الشمس بيضاء حية، فإذا اصفرت وتغيرت طاف طوافًا واحدًا حتى يصلى المغرب، ثم يصلى ويطوف بعد الصبح ما كان فى غلس، فإذا أسفر طاف طوافًا واحدًا ثم يجلس حتى ترتفع الشمس ويمكن الركوع، وهذا قول مجاهد والنخعى وعطاء، وهو قول ثالث فى المسألة ذكره الطحاوى.
65 - باب الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا
/ 96 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ فِى يَدِهِ وَكَبَّرَ. / 97 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّى أَشْتَكِى، فَقَالَ: (طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ بِ: (الطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (. قد تقدم فى (باب: التكبير عند الركن) حديث مسدد عن ابن عباس من رواية أبى داود: (أن نبى الله كان مريضًا) ولذلك طاف راكبًا، وعلى هذا تأوله البخارى، ولذلك ترجم لحديث ابن عباس باب: المريض يطوف راكبًا، وذكر معه حديث أم سلمة، وأنه عليه السلام إنما أباح لها الطواف راكبة لشكواها. قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على جواز طواف المريض على الدابة ومحمولا، إلا عطاء روى عنه فيها قولان: أحدهما: أن يطاف به، والآخر: أن يستأجر من يطوف عنه، وقد تقدم قول

(4/312)


من أجاز طواف الصحيح راكبًا لغير عذر فى باب التكبير عند الركن، واختلافهم فى الطواف راكبًا لغير عذر. قال المهلب: وفيه أنه لا يجب أن يطوف أحد بالبيت فى وقت صلاة الجماعة إلا من وراء الناس، ولا يطوف بين المصلين وبين البيت فيشغل الإمام والناس ويؤذيهم، وفيه: أن ترك أذى المسلم أفضل من صلاة الجماعة، ومثله قوله عليه السلام: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا) .
66 - باب سِقَايَةِ الْحَاجِّ
/ 98 - فيه: ابْن عُمَرَ، اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ. / 99 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ: (اسْقِنِى) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ، قَالَ: (اسْقِنِى) ، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ: (اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ) ، ثُمَّ قَالَ: (لَوْلا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ، يَعْنِى عَاتِقَهُ) . قال جماعة من أهل السير: كانت السقاية للعباس مكرمة، يسقى الناس نبيذ التمر، فأقرها النبى عليه السلام فى الإسلام، وروى عن طاوس قال: شُرْبُ نبيذ السقاية من تمام الحج، وقال عطاء: لقد أدركت هذا الشراب، وإن الرجل ليشربه فتلتزق شفتاه من حلاوته، فلما ذهب الخزنة وَوَلِيَهُ العبيد تهاونوا بالشراب

(4/313)


واستخفوا به، وروى ابن جريج عن نافع، أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ فى الحج. وروى الطبرى حديث ابن عباس فى قصة السقاية أتم مما ذكرها البخارى فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (لما طاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتى العباس وهو فى السقاية فقال: (اسقونى) ، قال العباس: إن هذا قد مرث، أفلا نسقيك مما فى بيوتنا؟ قال: (لا، ولكن اسقونى مما شرب الناس) ، فأتى به فذاقه فقطب، ثم دعا بماء فكسره، ثم قال: (إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء) . فاستدل أهل الكوفة بهذا الخبر على جواز شرب المسكر، قالوا: وقد روى عن عمر وعلى مثل ذلك. قال الطبرى: فيقال لهم: إن تقطيبه منه لم يكن لأجل أنه كان مسكرًا، ولا أن قوله: (إذا اشتد نبيذكم فاكسروا بالماء) أن معناه: إذا اشتد فصار يسكر شرب كثيره؛ لأن ذلك لو كان معناه لكان ذلك إباحة منه عليه السلام شرب الخمر إذا صب عليه الماء؛ لأن الخمر لا تصير حلالا بصب الماء عليها، بل تفسد الماء الذى يخالطها ويزول عن حد الطهارة. فدل أن تقطيبه منه عليه السلام إنما كان من حموضته لا من إسكاره، وأن قوله: (إذا رابكم منه شىء) . يعنى إذا خفتم تغييره إما إلى حموضة، وإما إلى إسكار، فاكسروه قبل تغييره إلى ذلك؛ كى لا يفسد عليكم، وهذا من أدل الدليل على تحريم شرب ما

(4/314)


أسكر كثيره؛ لأنه أمر بكسره بالماء إذا صار إلى حد يريب شاربه، فلو حل شربه بعدما يصير مسكرًا لم يأمر بعلاجه بالماء قبل مصيره مسكرًا، بل كان يقول عليه السلام: إذا رابكم منه شىء فانتفعوا به واشربوه، ولا تكسروه. وإنما أمر بكسره؛ لأنه كان قد بدت فيه الاستحالة إلى الخَلِّية بما حدث فيه من الفساد والحموضة، وذلك موجود فى الأشربة التى تنتقل إلى الحموضة قبل دخول الحال التى تصير بها خمرًا، فكسره بالماء ليهون عليه شربه، ومثل هذا المعنى ما روى عن عمر وعلى فى ذلك، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد، أنه سمع نافعًا يقول: إن عمر قال ليرفأ: اذهب إلى إخواننا الثقفيين فالتمس لنا عندهم شرابًا، فأتاهم فقالوا: ما عندنا إلا هذه الإداوة وقد تغيرت، فدعا بها عمر فذاقها، فقبض وجهه، ثم دعا بالماء فصب عليه فشرب. قال نافع: والله ما قبض وجهه إلا أنها تخللت. قال ابن وهب: وحدثنا عمرو بن الحارث، أن سلام بن حفص أخبره، أن زيد بن أسلم، أخبره أن أصحاب النبى عليه السلام كانوا إذا حمض عليهم النبيذ كسروه بالماء. وروى إسماعيل بن أبى خالد عن قيس قال: حدثنا عتبة بن فرقد قال: دعا عمر بعس من نبيذ قد كاد يكون خلا، فقال لى: اشرب، فأخذته فجعلت لا أستطيع شربه، فأخذه من يدى فشرب حتى قضى حاجته. قال المهلب: وإنما أذن النبى (صلى الله عليه وسلم) للعباس فى المبيت عن منى، ولم يوجب عليه الهدى من أجل السقاية؛ لأنها عمل من أعمال الحج،

(4/315)


ألا ترى قوله عليه السلام إذ ورد زمزم وهم يسقون: (اعملوا فإنكم على عمل صالح) وقوله عليه السلام: (لولا أن تغلبوا لنزلت) يعنى: لنزلت لاستقاء الماء، فهذه ولاية من النبى عليه السلام للعباس وآله السقاية، وإنما خشى أن تتخذها الملوك سنة يغلبون عليها من وليها من ذرية العباس.
67 - باب مَا جَاءَ فِى زَمْزَمَ
/ 100 - فيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ، عليه السَّلام: (فُرِجَ سَقْفِى، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِى، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِى صَدْرِى، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. . .) الحديث. / 101 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ. فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلا عَلَى بَعِيرٍ. قال المهلب: فيه أن شرب ماء زمزم من سنن الحج لفضله وبركته، وقد قال ابن عباس: إن ماء زمزم لما شرب له، وقال مجاهد: إن شربته تريد الشفاء شفاك الله، وإن شربته تريد أن تقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته تريد أن يشبعك أشبعك الله، وهى هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل. وقال وهب بن منبه: تجدها فى كتاب الله. يعنى: زمزم شراب الأبرار، وطعام طعم، وشفاء من سقم، ولا تُنْزَحُ ولا تُذَمُّ، من شرب منها حتى يتضلع أحدثت له شفاء، وأخرجت منه داء.

(4/316)


وروى ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يشرب منها فى الحج، ومعنى ذلك أنه كان قد شرب منه ولم يواظب على شربه؛ لئلا يظن به أنه كان يرى شربه من الفرض اللازم، ولا يجوز أن يتأول عليه ترك شيئًا فعله النبى عليه السلام لأنه لم يكن أحد أتبع منه لآثار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن عباس: ينبغى أن يأخذ الدلو، ويستقبل القبلة، ويدعو الله، ثم يشرب ويتنفس ثلاث مرات، ويتضلع منها، فإنى سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم) . قال معمر عن الزهرى: إن عبد المطلب لما انبط ماء زمزم بنى عليها حوضًا، فطفق هو وابنه الحارث ينزعان، فيملآن ذلك الحوض فيشرب فيه الحاج، فيكسره أناس من حسدة قريش بالليل، ويصلحه عبد المطلب حين يصبح، فلما أكثروا إفساده دعا عبد المطلب ربه، فأرى فى المنام فقيل له: قل: اللهم إنى لا أحلها لمغتسل، ولكن هى لشارب حِل وبِل، ثم كفيتهم. فقام فنادى بالذى أرى فلم يكن أحد يفسد عليه حوضه بالليل إلا رمى بداء فى جسده، ثم تركوا له حوضه وسقايته، قال سفيان: حِل بِل محل.
68 - باب طَوَافِ الْقَارِنِ
/ 102 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلُّ حَتَّى

(4/317)


يَحِلَّ مِنْهُمَا) ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا، أَرْسَلَنِى مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ) ، فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. / 103 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، إِنْ حِيلَ بَيْنِى وَبَين الْبَيْتَ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِى حَجًّا) ، ثُمَّ قَدِمَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. / 104 - وفيه: خبر آخر عن ابْن عُمَرَ، وَأَهْدَى هَدْيًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَلَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصِّرْ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ، وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأوَّلِ، ثُمَّ قام لهما طوافًا واحدًا. اختلف العلماء فى طواف القارن، فروى عن ابن عمر وجابر بن عبد الله أنه يجزئه طواف واحد وسعى واحد، وروى ذلك عن عطاء وطاوس والحسن، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وحجتهم أحاديث هذا الباب. وقالت طائفة: على القارن طوافان وسعيان. روى ذلك عن على وابن مسعود، وعن الشعبى وابن أبى ليلى، وإليه ذهب الثورى وأبو حنيفة والأوزاعى، واحتجوا بأن العمرة إذا أفردها لزمته أفعالها، فلم يكن ضمها إلى الحج بموجب لسقوط جميع أفعالها، دليله التمتع.

(4/318)


قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا ينتقض بالحلق؛ لأن المتمتع لما كان عليه حِلاقان، كان عليه طوافان، ولما كان القارن يكفيه حلق واحد كفاه طواف واحد، فإن قالوا: قياسكم الطواف على الحلق لا يسلم؛ لأن المستحق فى الحلق عن كل إحرام مقدار الربع فمتى حلق جميع رأسه بعد الحلق، فيقوم مقام الحلق الآخر عند العجز، فيقال لهم: ما تقولون إن اقتصر القارن على حلق ربع رأسه ولم يتجاوزه، ولم يجر الموسى على رأسه، هل يجزئه أو يحتاج إلى زيادة ربع آخر، فإن قلتم هذا، فليس هو مذهبكم، وإن كفاه واحد، فقد ثبت ما قلناه، وأيضًا فإن القارن إن قتل صيدًا واحدًا فعليه جزاء واحد. قال غيره: والحجة للكوفيين لازمة بحديث عائشة وابن عمر؛ لأنهم يأخذون بحديث عائشة فى رفض العمرة مع احتماله فى ذلك للتأويل، ويتركونه فى طواف القارن، وهو لا يحتمل التأويل، قال ابن المنذر: والرواية عن على لا تثبت؛ لأن راويها أبو نصر عن على، وأبو نصر مجهول، ولو كان ثابتًا لكانت سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى. وذكر عبد الرازق عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن على قال: (القارن يجزئه طواف واحد وسعى واحد) بخلاف رواية أهل العراق عنه، وقول ابن عمر: (إذًا أصنع كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: حين صُدَّ عليه السلام عام الحديبية، فَحَلَق ونَحَر وحَلَّ، فلم يصد ابن عمر فقران الحج إلى العمرة، وكان عمله لهما واحدًا

(4/319)


وطوافًا واحدًا، وقد احتج أبو ثور لذلك فقال: لما لم يجز أن يجمع بين عملين إلا الحج والعمرة فأجزنا ومن خالفنا لهما سفرًا واحدًا، وإحرامًا واحدًا، وكذلك التلبية؛ كان كذلك يجزئ عنهما طواف واحد وسعى واحد.
69 - باب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ
/ 105 - فيه: عُرْوَة، عن عَائِشَةَ، حَجَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ كذَلِكَ. . . وذكر الحديث. هذا الحديث حجة لمن اختار الإفراد بالحج وأن ذلك كان عمل النبى عليه السلام وأصحابه بعده، لم يعدل أحد منهم إلى تمتع ولا قران؛ لقولها: (ثم لم تكن عمرة) . وفيه ما ترجم به أن سنة الطواف أن يكون على طهارة، واتفق جمهور العلماء على أنه لا يجزئ بغير طهارة كالصلاة، وخالف ذلك أبو حنيفة فقال: إن طاف بغير طهارة، فإن أمكنه إعادة الطواف أعاده، وإن رجع إلى بلاده جبره بالدم. قال ابن القصار: والحجة للجماعة قول عائشة: (أول شىء بدأ به النبى عليه السلام أنه توضأ ثم طاف بالبيت) وفعله على الوجوب إلا أن تقوم دلالة، وأيضًا فإن فعله خرج مخرج البيان لقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] ؛ لأن الطواف مجمل يحتاج إلى بيان صفته؛ لأنه يقتضى طوفة واحدة.

(4/320)


وقد قال ابن عباس: (إن الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق) وقد يكون فى الشرع صلاة لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الجنازة، فإن قيل: فينبغى أن يكون لها تحريم وتسليم، قيل: ليس كل ما كان صلاة يحتاج إلى ذلك؛ لأن كثيرًا من الناس من يقول فى سجود السهو أنه صلاة ولا يحتاج إلى ذلك، وكذلك سجود التلاوة، ولنا أن نستدل بحديث صفية لما حاضت فقال: (أحابستنا هى؟ فلما قيل: إنها قد أفاضت، قال: فلا إذاَ) . فلو كان الدم ينوب مناب طوافها بغير طهارة لكان عليه السلام لا يحتاج أن يقيم هو وأصحابه إلى أن تطهر ثم تطوفه، فإن قيل: إن الطواف ركن لا يصح الحج إلا به فلا يحتاج إلى طهارة كالوقوف بعرفة، قيل: لما كان يعقب كل أُسْبُوع من الطواف ركعتان، لا فصل بينه وبينهما، وجب أن يكون الطائف متوضئًا لتتصل صلاته بطوافه، والوقوف بعرفة لا صلاة بأثره، فافترقا. واختلفوا فيمن انتقض وضوءه وهو فى الطواف، فقال عطاء ومالك: يتوضأ ويستأنف الطواف، قال مالك: وهو بخلاف السعى بين الصفا والمروة لا يقطع عليه ذلك ما أصابه من انتقاض وضوئه، وقال النخعى: يبنى. وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، إلا أن الشافعى قال: إن تطاول استأنف. وقال مالك: إن كان تطوعًا فأراد إتمامه توضأ واستأنف، وإن لم يرد إتمامه تركه. وقد تقدم بعض ما فى هذا الحديث فى باب: من طاف بالبيت إذا قدم مكة، وسيأتى شىء منه فى باب: متى يحل المعتمر بعد هذا إن شاء الله.

(4/321)


70 - باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
/ 106 - فيه: عُرْوَة: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] ، فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِى، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِى الأنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (الآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لأحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِى الْقُرْآنِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (الآيَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ

(4/322)


نَزَلَتْ فِى الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فِى الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ، ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِى الإسْلامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ. قال المؤلف: ذكر إسماعيل بن إسحاق عن الشعبى قال: كان على الصفا وثن يقال له: (يساف) ، وعلى المروة وثن يقال له: (نائلة) ، فكان المشركون يطوفون بينهما، فلما كان الإسلام قال ناس: (يا رسول الله، إن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بين الصفا والمروة للوثنين الذين كان عليهما، وليسا من شعائر الله. فنزلت هذه الآية) . واختلف العلماء فى وجوب السعى بين الصفا والمروة، فروى عن ابن مسعود، وأُبى بن كعب، وابن عباس أنه غير واجب، وقال أنس ابن مالك وابن الزبير: هو تطوع. وروى مثله عن ابن سيرين، وقال الثورى والكوفيون: هو واجب إلا أنه ينوب عند الدم. وروى مثله عن عطاء والحسن وقتادة، وقالت عائشة: هو فرض. وبه قال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، ويأمرون من بقى عليه منه شىء بالرجوع إليه من بلده، فإن كان وطأ النساء قبل أن يرجع كان عليه إتمام حجه أو عمرته، وحج قابل والهدى. واحتج من لم يره واجبًا بقراءة من قرأ: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) قالوا: فعلى هذه القراءة لا جناح عليه فى ترك السعى كما قالت عائشة: واحتج بعض أهل هذه المقالة أيضًا بقراءة الجماعة

(4/323)


وقالوا: قوله تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] يقتضى أن يكون السعى مباحًا لا واجبًا، كقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ) [النساء: 101] ، والقصر مباح لا واجب، واحتجوا بقول عائشة فى هذا الحديث: (وقد سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطواف بينهما) فمن قال: إن السعى فرض، فقد خالف ما تقتضيه الآية، وخالف لفظ الحديث: وما سُمى سُنَّة فليس بفريضة، فهى سنة مؤكدة لا ينبغى تركها. قال ابن القصار: فيقال لهم: إن عائشة قد ردت على عروة تاويل المخالف فى الآية وقالت: بئس ما قلت يا ابن أختى، إن هذه لو كانت كما تأولتها، لكانت: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) . وإنما نزلت فى الأنصار الذين كانوا يتحرجون فى الجاهلية أن يطوفوا بينهما، وفى الذين كانوا يطوفون فى الجاهلية ثم تحرجوا أن يطوفوا فى الإسلام، وهذا يبطل تأويلهم؛ لأن عائشة علمت سبب الآية وضبطت هذا المعنى الجليل، والصاحب إذا روى القصة مُفَسَّرة فلا تفسير لأحد معه. وقال غيره: لا حجة لمن تعلق بقول عائشة (وقد سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطواف بينهما) ؛ لأنه قد صح من مذهبها أن ذلك فريضة، والفرائض تثبت بالسنة كما تثبت بالقرآن؛ لأن الله قد فرض طاعة رسوله، فكل ما جاء عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من فرض أو سنة فسائغ أن يقال فيه: سَنَّةُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه فرض عُلم من طريق السنة، وأما قراءة من قرأ: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) فلا حجة فيها لشذوذها، وأنه لم يقرأ بها أحد من أئمة القراء.

(4/324)


قال الطحاوى: وقد يجوز أن يرجع معنى القراءتين جميعًا إلى معنى واحد؛ لأن العرب قد تصل ب (لا) وتزيدها كقوله تعالى: (لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 1، 2] ، وكقوله: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة: 75] ، و) فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) [المعارج: 40] فى معنى أقسم بيوم القيامة، وأقسم بكل ما ذكر، و) مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ) [الأعراف: 12] أى: ما منعك أن تسجد، فيحتمل قول عائشة لعروة: كلا لو كانت كما تقول لكانت: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) على معنى الصلة التى يرجع بها إلى معنى قوله: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] وفى حديث عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سَنَّ الطواف بينهما، وأن قوله: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا (إنما هو على إباحة الطواف بينهما الذى كانوا يتحرجونه، ثم سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطواف بينهما، فصار من سنته التى ليس لأحد التخلف عنها مع ما تقدم من قوله تعالى فيهما أن جعلهما من شعائره، والشعائر: العلامات، وقد قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32] . وقال عليه السلام حين طاف بهما: (نبدأ بما بدأ الله به) . وقال: (خذوا عنى مناسككم، لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا) . وطاف بينهما، ودل حديث حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: (ما تمت حجة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة) أن ذلك مما لا يكون مأخوذًا من جهة الرأى، وإنما

(4/325)


يؤخذ من جهة التوقيف، وقولها ذلك يدل على وجوب الصفا والمروة فى الحج والعمرة جميعًا.
71 - باب مَا جَاءَ فِى السَّعْىِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: السَّعْىُ مِنْ دَارِ بَنِى عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِى أَبِى حُسَيْنٍ. / 107 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ، عليه السَّلام، إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأوَّلَ، خَبَّ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَمْشِى إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِىَ؟ قَالَ: لا، إِلا أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ لا يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ. / 108 - وسَئل ابْنَ عُمَرَ، عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِى عُمْرته، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِى امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (وَقَالَ جَابِرَ كذلك، فَقَالَ: لا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَقَالَ أيضًا ابْن عُمَر: إن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سعى بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. / 109 - وفيه: عَاصِم، قَالَ: قُلْتُ لأنَسِ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْىَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لأنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (الآية. / 110 - وفيه: ابْن عَبَّاس، إِنَّمَا سَعَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِيُرِىَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ.

(4/326)


قال المؤلف: معنى هذا الباب كالذى قبله، وفيه بيان صفة السعى وأنه شىء معمول به غير مرخَّص فيه؛ ألا ترى أن ابن عمر حين ذكره قال: (وقد كان لكم فى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة) وذكر ابن عباس فى حديث هذا الباب علة السعى فى الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وأن النبى عليه السلام فعله لُيِرىَ المشركين قوته؛ لأنهم قالوا: إن حُمَّى يثرب أنهكتهم، فكان عليه السلام يرمل فى طوافه بالبيت مقابل المسجد ومقابل السوق موضع جلوسهم وأنديتهم، فإذا توارى عنهم مشى، ذكره أهل السير، وقد ذكرته فى باب: كيف كان بدء الرَّمَل، فالسنة التزام الخبّ فى الثلاثة أشواط فى الطواف بالبيت، تبركًا بفعله عليه السلام وسنته، وإن كانت العلة قد ارتفعت فذلك من تعظيم شعائر الله. وقد ذكر البخارى فى (كتاب الأنبياء) عن ابن عباس علّة أخرى للسعى والهرولة بين الصفا والمروة؛ فقال ابن عباس: (انطلقت أم إسماعيل إلى الصفا فوجدته أقرب جبل فى الأرض إليها، فقامت عليه تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادى رفعت طرف درعها، فسعت سعى المجهود حتى جاوزت الوادى، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تره، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبى عليه السلام: (فلذلك سعى الناس بينهما) . فبيّن فى هذا الحديث أن سبب كونها سبعة أطواف، وسبب السعى فيها فعل أم إسماعيل عليهم السلام ذلك. وذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا عبد العلى، عن الجريرى، عن أبى الطفيل قال: قلت لابن عباس: (ألا تحدثنى عن الطواف راكبًا

(4/327)


بين الصفا والمروة، فإنهم يزعمون أنه سنة. فقال: صدقوا وكذبوا، فقلت: وما صدقوا وكذبوا؟ قال: صدقوا، إن الطواف بين الصفا والمروة سنة، وكذبوا فى أن الركوب فيه سنة، أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصفا والمروة فلما سمع به أهل مكة خرجوا ينظرون إليه، حتى خرجت العواتق، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يدفع أحَدًا عنه، فأكبُّوا عليه، فلما رأى ذلك دعا براحلته فركب ثم طاف على بعيره ليسمعوا كلامه، ولا تناله أيديهم، ويروا مكانه) . واختلفوا فى ذلك، فكانت عائشة تكره السعى بينهما راكبًا، وكرهه عروة بين الزبير، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال أبو ثور: لا يجزئه وعليه أن يعيد. وقال الكوفيون: إن كان بمكة أعاد ولا دَمَ عليه، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم. ورخصت فيه طائفة، روى عن أنس بن مالك أنه طاف على حمار، وعن عطاء ومجاهد مثله. وقال الشافعى: يجزئه ولا إعادة عليه إن فعل، وحجة من أجاز ذلك فعل النبى عليه السلام وحجة من كرهه أنه ينبغى امتثال فعل أم إسماعيل فى ذلك، وأن ركوب النبى عليه السلام راحلته فيه كان للعلة التى ذكرها ابن عباس فى الحديث. قال الطحاوى: وأما قول أنس: إنهم كانوا يكرهون الطواف بهما لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت الآية، فقد كان ما سواهما من الوقوف بعرفة والمزدلفة والطواف بالبيت من شعائر الحج فى الجاهلية أيضًا، فلما جاء الإسلام ذكر الله ذلك فى كتابه، فصار من شعائر الحج فى الإسلام.

(4/328)


فإن قال قائل: فإن الله قال بعقب قوله: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] ) وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (. فدل أن الطواف بهما فى الحج والعمرة تطوع، قيل له: لو كان كما وصفت لكان الطواف بينهما قربة، وكان للناس أن يتطوعوا بالطواف بينهما، وإن لم يكونوا حاجين ولا معتمرين، وقد أجمع المسلمون على أن الطواف بينهما فى غير الحج والعمرة ليس مما يتقرب به العباد إلى الله ولا يتطوعون به، وأن الطواف بينهما لا قربة فيه إلا فى حج أو عمرة، فَدَلَّ ذلك على أن قوله: (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا (لا يرجع إلى الطواف بين الصفا والمروة، وإنما يرجع إلى قوله تعالى: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) [البقرة: 158] ، أى من تطوع بحج أو عمرة فإن الله شاكر عليم.
72 - باب تَقْضِى الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
/ 111 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (افْعَلِى كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِ) . / 112 - وفيه: جَابِر، أَهَلَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْىٌ غَيْرَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَمَعَهُ هَدْىٌ. . . الحديث، وَحَاضَتْ عَائِشَةُ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ. / 113 - وفيه: حَفْصَةَ، كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِى خَلَفٍ. . . الحديث، وَقَالَت: سَمعت النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لِتَخْرُجِ

(4/329)


الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤمنين، وَتَعْتَزِلُ الْحائض الْمُصَلَّى) ، فَقُلْتُ: أَالْحَائِضُ؟ فَقَالَتْ: أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَكَذَا. العلماء مجمعون على أن الحائض تشهد المناسك كلها غير الطواف بالبيت لقوله عليه السلام لعائشة: (افعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت حتى تطهرى) . فكان فى حكم الحائض كل من ليس على طهارة من جنب وغير متوضئ؛ لأن ركوع الطواف متصل به لا فصل بينه وبينه، هذه سنته. قال المهلب: وإنما منعت الحائض الطواف على غير طهارة؛ تنزيهًا للمسجد من النجاسات لقوله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) [التوبة: 28] ولأمره عليه السلام الحيض فى العيدين بالاعتزال للمصلى، فوجب تنزيهه عن الحائض والجنب، ومن عليه نجاسة، وأما السعى بين الصفا والمروة فلا أعلم أحدًا شرط فيه الطهارة إلا الحسن البصرة فقال: إن ذكر أنه سعى على غير طهارة قبل أن يحل فليعد، وإن ذكر ذلك بعدما حل فلا شىء عليه. وذكر ابن وهب عن ابن عمر أنه كان يكره السعى بينهما على غير طهارة. قال ابن المنذر: قوله عليه السلام لعائشة: (لفعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت) يبين أن ذلك جائز؛ لأنه أباح لها السعى بين الصفا والمروة بعرفة وجميع المناسك على غير طهارة، غير الطواف بالبيت خاصة.

(4/330)


73 - باب الإهْلالِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّىِّ وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى
وَسُئِلَ عَطَاءٌ، عَنِ الْمُجَاوِرِ يُلَبِّى بِالْحَجِّ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُلَبِّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَالَ جَابِرٍ: قَدِمْنَا مَعَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَهْلَلْنَا مِنَ الْبَطْحَاءِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لابْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلالَ، وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. قال المهلب: من أنشأ الحج من مكة فله أن يهل من بيته أو من المسجد الحرام أو من البطحاء، وهى طرف مكة، أو من حيث أحب مما دون عرفة، ذلك كله واسع؛ لأن ميقات أهل مكة منها، وليس عليه أن يخرج إلى الحِلِّ؛ لأنه خارج فى حجته إلى عرفة، فيحصل له بذلك الجمع بين الحل والحرم، وهو بخلاف منشئ العمرة من مكة، وقد ذكرنا حكمه فى باب قبل هذا. ويستحب للمكى وللمتمتع إذا أنشأ الحج من مكة أن يُهِلا من حيث أهل ابن عمر ويوم التروية من البطحاء، وكذلك قال جابر. قال غيره: وأما وجه احتجاج ابن عمر بإهلال النبى عليه السلام بذى الحليفة، وهو غير مكى على من أنشأ الحج من مكة أنه يجب أن يهل يوم التروية، وهى قصة أخرى، فوجه ذلك أن النبى

(4/331)


عليه السلام أهل من ميقاته فى حين ابتدائه فى عمل حجته، واتصل به عمله، ولم يكن بينهما مكث ينقطع به العمل، فكذلك المكى لا يهل إلا يوم التروية الذى هو أول عمله للحج، ليتصل له عمله تأسيًا برسول الله فى ذلك (صلى الله عليه وسلم) . وقد تابع ابن عمر على ذلك ابن عباس قال: لا يهل أحد من أهل مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى. وبه قال عطاء، واحتج بأن أصحاب النبى عليه السلام إذ دخلوا فى حجتهم مع النبى أهلُّوا عشية التروية، حين توجهوا إلى منى، قال: وأخبرنى أبو الزبير عن جابر أن النبى عليه السلام قال لهم فى حجته: (إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا، قال: فأهللنا من البطحاء) . وأما قول عبيد بن جريح لابن عمر: إن أهل مكة يهلون إذا رأوا الهلال، فهو مذهب عمر بن الخطاب وابن الزبير، روى مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: (يا أهل مكة، ما بال الناس يأتون شعثًا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال) فهو على وجه الاستحباب، لأن الإهلال إنما يجب على من يتصل عمله، وليس من السنة أن يقيم المحرم فى أهله، وقد روى عن ابن عمر ما يوافق مذهب عمر. ذكر مالك فى (الموطا) : أن ابن عمر كان يهل لهلال ذى الحجة، ويؤخر الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، قال نافع: أَهَلَّ ابن عمر مرة بالحج حين رأى الهلال، ومرة أخرى بعد الهلال من جوف الكعبة، ومرة أخرى حين راح إلى منى. قال

(4/332)


مجاهد: فقلت لابن عمر: أهللت فينا إهلالا مختلفًا قال: أما أول عام فأخذت بأخذ أهل بلدى، يعنى: المدينة، ثم نظرت فإذا أنا أدخل على أهلى حرامًا، وأخرج حرامًا، وليس كذلك نصنع، إنما كنا نهل ثم نقبل على شأننا، قلت: فبأى شىء نأخذ؟ قال: تحرم يوم التروية.
74 - باب أَيْنَ يُصَلِّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟
/ 114 - فيه: عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ، أَخْبِرْنِى بِشَىْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى، قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. وَقَالَ مرة: خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَقِيتُ أَنَسًا ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْيَوْمَ الظُّهْرَ؟ فَقَالَ: انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّى أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ. قال المهلب: الناس فى سعة من هذا، يخرجون متى أحبوا ويصلون حيث أمكنهم، ولذلك قال أنس: صل حيث تصل أمراؤك. والمستحب من ذلك ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الظهر والعصر بمنى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعادة أهل مكة أن يخرجوا إلى مِنى بعد صلاة العشاء، وكانت عائشة تخرج ثلث الليل. وهذا يدل على التوسعة، وكذلك المبيت عن منى ليلة عرفة ليس فيه حرج إذا وافى عرفة الوقت الذى يَجِبُ، ولا فيه جبر، كما يجبر ترك المبيت بها بعد الوقوف أيام رمى الجمار، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعى وأبو ثور.

(4/333)


والمستحب فى ذلك أن يصلى الظهر والعصر بمنى، ثم يصلى المغرب والعشاء والصبح بها، ثم يدفع بعد طلوع الشمس إلى عرفة فيصلى فيها الظهر والعصر، ثم يطلع إلى جبال الرحمة يدعو إلى أن تغرب الشمس، فإذا غربت دفع مع الإمام فيصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة يجمع بينهما، ثم يبيت بالمزدلفة، فإن أخذ مننها حصى الجمار فَحَسَن، ثم يصلى الصبح بها، ثم يدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى لرمى جمرة العقبة يرميها يوم النحر إلى وقت الزوال، ثم يحل له وكل شىء إلا النساء والطيب، والصيد عند مالك، وعند غيره إلا النساء، فإن أراد استعجال تمام الحل كله نهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، وحل حلا كاملا، ثم يرجع يوم النحر إلى منى فيبيت بها ويرمى الجمار فى الثلاثة الأيام من منى بعد الزوال، إلا أن يتعجل فى يومين وقد تم حجه. وحَدُّ منى من محسر إلى العقبة، وكان منزل الرسول عليه السلام من منى بالخيف.
75 - باب الصَّلاةِ بِمِنًى
/ 115 - فيه: ابْن عُمَرَ، صَلَّى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلافَتِهِ. / 116 - وَقَالَ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ: صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. / 117 - وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ: صَلَّيْتُ مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) رَكْعَتَيْنِ، وأَبِى بَكْرٍ مثله ِ،

(4/334)


وعُمَرَ مثله، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، فَيَا لَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. قد تقدم هذا الباب فى كتاب الصلاة فى أبواب قصر المسافر الصلاة وقد تقدم فيه اختلاف العلماء فيمن يلزمه قصر الصلاة بمنى، وما نزع فيه كل فريق منهم، ونذكر منه هنا طرفًا. ذهب مالك والأوزاعى وإسحاق إلى أن أهل مكة ومن أقام بها من غيرها يقصرون الصلاة بمنى وعرفة، وأن القصر سنة الموضع، وإنما يُتِمُّ بمنى وعرفة من كان مقيمًا فيها، وذهب الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، إلى أنهم يُتمون الصلاة بها وقالوا: إن من لم يكن سفره سفرًا تقصر فيه الصلاة فحكمه حكم المقيم، وكذلك قد تقدم هناك معنى إتمام عثمان وعائشة الصلاة فى السفر وما للعلماء فى ذلك من الوجوه.
76 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
/ 118 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ، شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ. قد تقدم هذا الباب فى (كتاب الصيام) ، وذكرت فيه قول استحب صوم يوم عرفة بعرفة وغيرها، ومن كرهه، وذكرت الأثر الوارد عن النبى عليه السلام فى فضل صيامه، وأن ذلك كفارة سنتين، وما للعلماء فى صومه من المذاهب، فأغنى عن إعادته فتأمله هناك.

(4/335)


قال المهلب: وفيه قبول الهدية من المطعم والمشرب، وفيه الشرب فى المحافل للعالم والسلطان.
77 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَات
/ 119 - فيه: مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ الثَّقَفِىِّ، أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ، كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِى هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ، فَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ، فَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِ. قال أبو عبد الله بن صفرة: فى هذا الحديث ابتداء قطع التلبية من الغُدُوِّ من منى، وآخرها رمى جمرة العقبة فى حديث الفضل وأسامة وابن مسعود عن النبى عليه السلام والذى مضى عليه جمهور العلماء من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وأهل المدينة اختيار قطعها عند الرواح إلى عرفة؛ لأنهم فهموا أن تعجيل قطعها وتأخيره على الإباحة، يدل على ذلك ترك إنكار بعضهم على بعض، وهم فهموا السنن وتلقوها، فوجب الاقتداء بهم فى اختيارهم؛ لأنا أمرنا باتباعهم. قال الطحاوى: لا حجة لكم فى هذا الحديث؛ لأن فيه أن بعضهم كان يهل، وبعضهم كان يكبر، ولا يمنع أن يكونوا فعلوا ذلك ولهم أن يلبوا لأن للحاج فيما قبل يوم عرفة أن يكبر، وله أن يهل، وله أن يلبى، فلم يكن تكبيره وإهلاله يمنعانه من التلبية. وقال المهلب: وجه قطع التلبية عند الرواح إلى الموقف من عرفة؛

(4/336)


لأنه آخر السفر، وإليه منتهى الحاج، وما بعد ذلك فهو رجوع فالتكبير فيه أولى لقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] ، وقال: (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [البقرة: 185] فدل هذا على أن التكبير والدعاء لله عند المشعر الحرام وأيام منى أولى من التلبية؛ لأن معنى التلبية الإجابة، وإذا بلغ موضع النداء قطع التلبية، وأخذ فى الدعاء، وسأل الله حاجاته، وسأذكر اختلافهم فى قطع التلبية فى حديث الفضل وأسامة بعد هذا إن شاء الله.
78 - باب التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ
/ 120 - فيه: سَالِم، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُالْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِى الْحَجِّ، فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاج، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْظِرْنِى حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِى، ثُمَّ أَخْرُجُ، فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِى وَبَيْنَ أَبِى، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: صَدَقَ. هذا الحديث يخرج فى المسندات لقول عبد الله للحجَّاج: إن كنت تريد السنة؛ لأن السنة سنة رسول الله. وقال معمر: إن الزهرى سمع هذا الحديث من ابن عمر؛ لأنه شهد تلك الحجة وحضر القصة، وسمع منه حديثًا آخر، وفيه أن تعجيل الرواح للإمام للجمع بين الظهر والعصر فى مسجد عرفة فى أول وقت الظهر سنة، وقد

(4/337)


رَوى عن مالك فى هذا الحديث: (وعجل الصلاة) مكان: (وعجل الوقوف) ابنُ القاسم، وابنُ وهب، ومطرف، ويحيى بن يحيى، وهو صحيح المعنى؛ لأن تعجيل الرواح إنما يراد لتعجيل الصلاتين والجمع بينهما، فدل أن تعجيل الصلاة بعرفة سنة. وروى القعنبى وأشهب عن مالك: (وعجل الوقوف) ، كما رواه البخارى وهو صحيح المعنى أيضًا؛ لأن تعجيل الوقوف بعرفة بعد الصلاة سنة أيضًا، وفيه: الغسل للوقوف بعرفة، لقول الحجاج لعبد الله: أنظرنى حتى أفيض على ماء. وأهل العلم يستحبونه. قال الطحاوى: وفيه خروج الحجّاج وهو محرم وعليه ملحفة معصفرة، ولم ينكر ذلك عليه ابن عمر، ففيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم، وقد تقدم ذكر ذلك فى بابه. وقال المهلب: فى حديث ابن عمر من الفقه جواز تأمير الأّدْوَن على الأفضل والأعلم، وفيه أن إقامة الحج إلى الحلفاء ومن جَعلوا ذلك إليه، وفيه أن الأمير يجب أن يعمل فى الدين بقول أهل العلم ويصير إلى رأيهم، وفيه مداخلة العلماء السلاطين وأنه لا نقيصة على العلماء فى ذلك، وفيه: فتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره، وفيه ابتداء العالم بالفتيا قبل أن يُسأل عنها، وفيه الفهم بالإشارة والنظر، وفيه أن اتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم) هى السنة وإن كان فى المسألة أوجه جائزة غيرها.

(4/338)


79 - باب الْوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ
/ 121 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ، أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ، فَشَرِبَهُ. الوقوف على الدابة بعرفة أفضل من الوقوف راجلا؛ لأن النبى عليه السلام لا يفعل إلا الأفضل، مع أن فى ذلك قوة على الدعاء والتضرع وتعظيمًا لشعائر الله، وهو الذى اختار مالك والشافعى وجماعة، وقد تقدم، وفيه أن الوقوف على ظهر الدواب مباح إذا كان بالمعروف ولم يجحف بالدابة، وأن النهى الذى ورد ألا تتخذ ظهورها مجالس، فإن معناه فى الأغلب والأكثر بدليل هذا الحديث.
80 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِعَرَفَةَ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاةُ مَعَ الإمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. / 122 - فيه: سَالِمٌ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ حين نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، سَأَلَ عَبْدَاللَّهِ كَيْفَ تَصْنَعُ فِى الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، فَهَجِّرْ بِالصَّلاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِى السُّنَّةِ. قال المهلب: إنما كان جمع الصلاتين فى أول الوقت لاشتراك الوقتين من أول الزوال إلى غروب الشمس فى أصل السنّة، وبمفهوم كتاب الله ليجعلوا الوقوف وينفردوا فيه الدعاء؛ لأنه موقف يقصد إليه من أطراف الأرض، فكأنهم أرادوا الاستكثار من الدعاء فى بقية النهار؛ لأنهم يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشمس.

(4/339)


واختلفوا فى الوقت الذى يُؤَذَِن فيه المؤذن بعرفة للظهر والعصر، واختلف قول مالك فى ذلك، فحكى ابن نافع عنه أنه قال: الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة، وحكى آخر عنه أنه يؤذن بعدما يخطب الإمام صدرًا من خطبته، حتى يفرغ من خطبته مع فراغ المؤذن ويقيم، ونحوه قال الشافعى، قال: يأتى الإمام المسجد إذا زالت الشمس فيجلس على المنبر فيخطب الخطبة الأولى، فإذا خطب أخذ المؤذون فى الأذان، وأخذ هو فى الكلام وخفف الكلام الآخر حتى ينزل بقدر فراغ المؤذن من الأذان ويقيم. واختلفوا فى الأذان والإقامة لهما، فقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين. وقال أبو حنيفة والشافعى: يصليهما بأذان واحد وإقامتين، وهو قول أبى ثور، وقال أحمد وإسحاق: يجمع بينهما بإقامة إقامة أو بأذان وإقامتين إن شاء. قال الطبرى: وجائز العمل فى ذلك بكل ما جاءت به الآثار. واختلفوا فيمن فاتته الصلاة بعرفة مع الإمام، فكان ابن عمر يجمع بينهما، وهو قول عطاء ومالك وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وحكاه أبو ثور عن يعقوب ومحمد والشافعى، وقال النخعى وأبو حنيفة والثورى: إذا فاتته مع الإمام صلى كل صلاة لوقتها، ولا يجوز له الجمع إلا مع الإمام؛ لأن النبى عليه السلام بَيَّنَ أوقات الصلوات، فلا يجوز الخروج عن وقتها إلا بدلالة، وقد قامت الدلالة على أنه جمع بين الظهر والعصر بعرفة، فلا يجوز الجمع إلا بإمام كما فعل النبى عليه السلام.

(4/340)


قال المؤلف: ووجه الدلالة على الكوفيين من حديث ابن عمكر قول سالم للحجاج: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة. وهذا خطاب يتوجه إلى كل أحد مأمومًا كان أو منفردًا أن سنة الصلاة ذلك الوقت، وكذلك قول ابن عمر: (كانوا يجمعون بينهما فى السنة) لفظ عام يدخل فيه كل مصل، فمن زعم أنه لبعض المصلين فعليه الدليل. وقال الطحاوى: قد روى عن ابن عمر وعائشة مثل قول أبى يوسف ومحمد من غير خلاف من الصحابة. وقال ابن القصار: وقول الكوفيين ليس بشىء لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (صلوا كما رأيتمونى أصلى) . وهذا خطاب لكل أحد فى نفسه أن يصلى الصلاتين فى وقت أحدهما بعرفة كما فعل النبى عليه السلام لأن الخطاب إنما يتوجه إلى هيئة الصلاة ووقتها لا إلى الإمامة. واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى على أنه إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة لم يصل بهم الإمام الجمعة، وكذلك قال الطحاوى، قال أبو حنيفة والشافعى: لا يُجَمِّعُ، وإنما يصلى بعرفة الظهر ركعتين لا يجهر فيهما بالقراءة، هذا إذا كان الإمام من غير أهل عرفة. وقال أبو يوسف: يصلى الجمعة بعرفة. وسأل أبو يوسف مالكًا عن هذه المسألة بحضرة الرشيد فقال مالك: سقاياتنا بالمدينة يعلمون ألا جمعة بعرفة، وعلى هذا أهل الحرمين: مكة والمدينة، وهم أعلم بذلك من غيرهم. وقد جمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين الصلاتين بعرفة وصادف ذلك يوم جمعة، ولم ينقل أنه جهر بالقراءة، فدل أنه صلى الظهر بغير جهر، ولو جهر لنقل، وأيضًا فإن من شرط الجمعة الاستيطان، وليست عرفة بموطن

(4/341)


لأهل مكة، فلم يجز لهم أن يصلوا الجمعة، وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا وافق يوم جمعة يوم التروية، أو يوم عرفة، أو يوم النحر، أو أيام التشريق قال: لا جمعة عليهم، من كان من أهل مكة أو من أهل الآفاق، قال: ولا صلاة عيد يوم النحر بمنى.
81 - باب قَصْرِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ
ذكر فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم فى باب التهجير بالرواح يوم عرفة قصر الخطبة بعرفة أو بغيرها سنة، وقد أخرج مسلم فى كتابه عن أبى وائل، عن عمار، أن النبى عليه السلام قال: (طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) . وقد أجمعوا أن الإمام لو صلى بغير خطبة بعرفة أن صلاته جائزة، وقال أبو زيد: مئنة، كقولك: مخلقة ومجدرة ومحراة ولذلك قال أبو عبيد: يعنى أن هذا مما يعرف به فقه الرجل، ويستدل به عليه، وكذلك كل شىء دلك على شىء فهو مئنة.
82 - باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
/ 123 - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، كنت أطلب بَعِيرًا لِى، يَوْمَ عَرَفَةَ كنت أضللته، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا.

(4/342)


/ 124 - وقَالَ عُرْوَةُ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلا الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ، يُعْطِى الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وَتُعْطِى الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ، طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى الْحُمْسِ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: 199] ، قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ. قال المهلب: إنما كان وقوف قريش وهم الحُمس عند المشعر الحرام من أجل أنها كانت عزتهافى الجاهلية بالحرم، وسكناها فيه، وتقول: نحن جيران الله، فكانوا لا يرون الخروج عنه إلى الحل عند وقوفهم فى الحج، ويقولون: لا نفارق عزنا، وما حرم الله به أموالنا ودماءنا، وكانت طوائف العرب تقف فى موقف إبراهيم عليه السلام من عرفة، وكان وقوف النبى عليه السلام مع طوائف العرب بعرفة ليدعوهم إلى الإسلام، وما افترض الله عليه من تبليغ الدعوة، وإفشاء الرسالة، وأمر الناس كلهم بالإفاضة من حيث أفاض الناس من عرفة. وقال إسماعيل بن إسحاق: قال الضحاك: الناس فى هذه الآية هو إبراهيم عليه السلام. وقال الطحاوى: قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] الآية. فكان ظاهر الآية على أن الإفاضة الأولى من عرفة، وعلى أن الإفاضة الثانية

(4/343)


من المشعر الحرام؛ لأنه قال تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (إلى) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (غير أنا وجدنا أهل العلم تأولوا ذلك على إفاضة واحدة، وكانت هذه الآية عندهم من المحكم المتفق على المراد به، وجعلوا قوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (فى معنى وأفيضوا، وقالوا: قد تجعل ثم فى موضع الواو، كما قال الله تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) [يونس: 46] فكان قوله: (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (فى معنى: والله شهيد، وفى قوله: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (الآية، دليل على أنه قد أمرهم بوقوف عرفة قبل إفاضتهم منها. غير أنا لم نجده تعالى ذكر لنا ابتداء ذلك الوقوف أى وقت هو فى كتابه، وبينه لنا فعل رسوله فى حديث جابر وحديث ابن عمر، حين قال للحجاج يوم عرفة حين زالت الشمس: (الرواح إن كنت تريد السنة) . فدل أن دفع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى عرفة كان بعد زوال الشمس يوم عرفة. قال المؤلف: ولم يختلفوا أن النبى عليه السلام صلى الظهر والعصر جميعًا بعرفة، ثم ارتفع فوقف بجبالها داعيًا الله إلى غروب الشمس، فما غربت دفع منها إلى المزدلفة. واختلفوا إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس ولم يقف فيها ليلا، فذهب مالك إلى أن الاعتماد فى الوقوف بعرفة على الليل من ليلة النحر، والنهار من يوم عرفة تَبَع، فإن وقف جزءًا من النهار

(4/344)


وحده ودفع قبل غروب الشمس لم تجزئه، وإن وقف جزءًا من الليل، أى جزء كان، قبل طلوع الفجر من يوم النحر أجزأه، وأخذ فى ذلك بما رواه عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، وعن عروة بن الزبير مثله. وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: الاعتماد على النهار من يوم عرفة من وقت الزوال، والليل كله تبع، فإن وقف جزءًا من النهار أجزأه، وإن وقف جزءًا من الليل أجزأه إلا أنهم يقولون: إن وقف جزءًا من النهار بعد الزوال دون الليل كان عليه دم، وإن وقف جزءًا من الليل دون النهار لم يجب عليه دم، وأخذوا بحديث عروة ابن مضرس، إلا فى إيجاب الدم لمن وقف نهارًا دون الليل، وتفريقهم فى وقوف النهار بين بعد الزوال وقبله، فإنه ليس فى حديث عروة بن مضرس، وذهب أحمد بن حنبل إلى أن وقت الوقوف من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، فسوى بين أجزاء النهار وأجزاء الليل، فأخذ فى ذلك بنص حديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبى عليه السلام وهو بمزدلفة فقلت: يا رسول الله، إنى أكللت ناقتى وأتعبت نفسى، وما من جبل إلا وقفت عليه، فهل لى من حج؟ فقال عليه السلام: (من صلى معنا هذه الصلاة، يعنى: بجمع، وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارًا فقد تم حجه) . فلم يفرق بين النهار والنهار، رواه شعبة عن عبد الله بن أبى السفر، عن الشعبى سمعته يقول: حدثنى عروة بن مضرس، عن النبى عليه السلام.

(4/345)


وقال ابن القصار: أما قوله فى حديث عروة: (وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارًا) فنحن نعلم أنه عليه السلام وقف وقفة واحدة بعرفة جمع فيها بين الليل والنهار، فصار معناه: من ليل ونهار، واستفدنا من فعله عليه السلام أن المقصود آخر النهار، وهو الوقت الذى وقفه، وعقلنا بذلك أن المراد جزء من النهار مع جزء من الليل؛ لأنه لم يقتصر عليه السلام على جزء من النهار دون الليل، ولو تحرر هذا من فعله عليه السلام لجاز أن تكون (أو) بمعنى: (الواو) ، كقوله تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 24] معناه: وكفورًا، فإن قيل: وأنتم لا توجبون الجمع بين النهار والليل فى الوقوف، قيل: لما قال: (فقد تم حجه) علمنا أن التمام يقتضى الكمال والفضل، فيجمع فيه بين السنة والفرض، والسنة الوقوف بالنهار، والفرض هو الليل؛ لأنه هو انتهاء الوقوف، فهو الوقت المقصود، وهو أخص به من النهار؛ لأنه لو انفرد وقوفه فى هذا الجزء لأجزأه بإجماع، ولووقف هذا القدر من النهار لكان فيه خلاف ووجب عليه الدم، فكيف يكون النهار أخص به من الليل. والحُمْسُ: قريش وما ولدت من العرب، والتحمس: التشدد، وذلك أن قريشًا أحدثت هذا الدين فقالت: لا نطوف بالبيت عراة، ولا تسلى نساؤنا سمنًا، ولا تغزل وبرًا، ولا تخرج إلى عرفات، ولا نزايل حرمنا، ولا نعظم غيره، ولا نطوف بين الصفا والمروة، وكانوا يقفون بالمزدلفة، ومن سواهم من العرب يقال لهم:

(4/346)


الحلّة، كانوا إذا حجوا طافوا بالبيت عراة، ورموا ثيابهم التى قدموا فيها وقالوا: نكرم البيت أن نطوف به فى ثيابنا التى جرحنا فيها الآثام، فما طرحوا من ثوب لم يمسه أحد، وسمى: النسئ واللقى والحريم، ذكره ابن الكلبى.
83 - باب السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ
/ 125 - فيه: [عروة] أنه سُئِلَ [أسامة بن زيد] كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسِيرُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ، قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ. قال المؤلف: تعجيل الدفع من عرفة والله أعلم إنما هو لضيق الوقت؛ لأنهم إنما يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشمس، وبين عرفة والمزدلفة نحو ثلاثة أميال، وعليهم أن يجمعوا المغرب والعشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها، فتعجلوا فى السير لاستعجال الصلاة. قال الطبرى: وبهذا قال العلماء فى صفة سيره عليه السلام من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى أنه كان يسير العَنَق، وبذلك عمل السلف، قال الأسود: شهدت مع عمر الإفاضتين

(4/347)


جميعًا لا يزيد على العَنَق، لم يُوضِعْ فى واحدة منهما، وكان ابن عمر سيره: العَنَق، وعن ابن عباس مثله. وقال آخرون: الإفاضة من عرفات وجمع الإِيضَاع دون العَنَق، وروى شعبة عن إسماعيل بن رجاء قال: سمعت معرورًا قال: رأيت عمر بن الخطاب رجلا أصلع على بعير يقول: أيها الناس، أَوْضِعُوا فإنا وجدنا الإفاضة الإيضاع، وروى ابن عيينة عن ابن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع، عن جبير بن الحويرث، أن أبا بكر الصديق وقف على قزح وقال: أيها الناس، أصبحوا أصبحوا، ثم دفع فكأنى أنظر إلى فخذه قد انكشف مما يخرش بعيره بمحجنه. قال الطبرى: والصواب فى صفة السير فى الإفاضتين جميعا ما صحت به الآثار أنه عليه السلام كان يسير العنق إلا فى وادى محسر، فإنه يوضع فيه لصحة الخبر عن النبى عليه السلام بذلك، ولو أَوْضع أحد فى الموضع الذى ينبغى أن يعنق فيه، أو أعنق فى الموضع الذى ينبغى أن يوضع فيه لم يلزمه شئ؛ لإجماع الجميع على ذلك، غير أنه يكون مخطئًا سبيل الصواب وأدب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . والعَنَق: سير فوق المشى، والنَّصُّ: أرفع السير، ومن ذلك قيل لمنصة العروس: منصة؛ لارتفاعها، فإذا ارتفع عن ذلك فصار إلى العَدْوِ فهو الخَبَب، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الوَضْع والإِيضَاع، والفَجْوَةُ: الفُرْجَةُ والسعة، ومنه قوله: (وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ) [الكهف: 17] ويخرش بعيره يعنى: يخرشه بالمحجن، ومنه تخارش السنانير والكلاب.

(4/348)


84 - باب النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ
/ 126 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، مَالَ إِلَى الشِّعْبِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّى؟ فَقَالَ: (الصَّلاةُ أَمَامَكَ؟) . / 127 - وفيه: نَافِعٍ، وَكَانَ ابْن عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الَّذِى أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَدْخُلُ، فَيَنْتَفِضُ وَيَتَوَضَّأُ، وَلا يُصَلِّى حَتَّى يُصَلِّىَ بِجَمْعٍ. نزوله (صلى الله عليه وسلم) بالشعب إنما كان نزول حاجة للبول، وليس ذلك من سنن الحج، وهو مباح لمن أراد امتثال أفعاله عليه السلام مثل ابن عمر، فإنه كان يقف فى المواضع التى وقف فيها النبى عليه السلام ويدير ناقته حيث أدار فيها ناقته، ويقتفى آثاره وحركاته، وليس ذلك بلازم إلا فيما تعلق منها بالشريعة.
85 - باب أَمْرِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإفَاضَةِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ
/ 128 - فيه: ابْن عَبَّاس، دَفَعَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا لِلإبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ، عليه السَّلام: (أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإيضَاعِ) . قال المهلب: إنما نهاهم عن الإيضاع والجرى إبقاء عليهم، ولئلا يجحفوا بأنفسهم بالتسابق من أجل بُعْدِ المسافة، لأنها كانت

(4/349)


تبهرهم فيفشلوا وتذهب ريحهم، فقد نهى عن البلوغ إلى مثل هذه الحال. قال ابن المنذر: فكان فى معنى قوله: (عليكم بالسكينة) إلا فى بطن وادى محسر، فقد كان ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير يوضعون فى وادى محسر، وتبعهم على ذلك كثير من العلماء، وقال النخعى: لما رأى عمر سرعة الناس فى الإفاضة من عرفة وجمع قال: (واللله إنى لأعلم أن البر ليس برفعها أذرعها، ولكن البر شىء تصبر عليه القلوب) . وقال عكرمة: سأل رجل ابن عباس عن الإيجاف، فقال: إنَّ حَلْ حَلْ يشعل عن ذكر الله، ويوطئ ويؤذى. قال ابن المنذر: وحديث أسامة يدل أن أمره بالسكينة إنما كان فى الوقت الذى لم يجد فجوة، وأنه حين وجد فجوة سار يسيرًا فوق ذلك، وإنما أراد بالسكينة فى وقت الزحام. وقالعمر بن عبد العزيز فى خطبته يوم عرفة: إنكم شخصتم من القريب والبعيد، وتكلفتم من المؤنة ما شاء الله، وليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له.
86 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ
/ 129 - فيه: أُسَامَةَ، قَالَ: دَفَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاةُ، قَالَ: (الصَّلاةُ

(4/350)


أَمَامَكَ) ؟ فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. قال الطحاوى: معنى قوله: (الصلاة أمامك) أى: المصلى الذى تصلى فيه المغرب والعشاء أمامك. وقال الطبرى: فيه البيان أن السنة فى إمام الحاج ألا يصلى ليلة يوم النحر المغرب والعشاء إلا بالمزدلفة. قال ابن المنذر: وأجمع العلماء على ذلك، ثم اختلفوا فيمن صلاهما قبل أن يأتى المزدلفة، فروى عن جابر بن عبد الله أنه قال: لا صلاة إلا بِجَمْع، وإليه ذهب أبو حنيفة ومحمد والثورى وقالوا: إن صلاهما قبل المزدلفة فعليه عليه السلام: (الصلاة أمامك) فمن صلاهما دون المزدلفة فقد صلاهما فى غير وقتهما، ومن صلى صلاة فى غير وقتها فعليه إعادتها بعد دخول وقتها. وقال مالك: لا يصليهما أحد قبل جَمْعٍ إلا من عُذْرٍ به أو بدابته، فإن صلاهما بعذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق. وفيها قول ثالث: إن صلاهما قبل جَمْعٍ أجزأه، إمام الحاج كان أو غيره، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن الزبير، وعن عطاء، وعروة، والقاسم، وبه قال الأوزاعى، وأبو يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجة من أجاز الصلاة أن النبى عليه السلام جعل وقت هاتين الصلاتين من حين تغيب

(4/351)


الشمس إلى آخر وقت العشاء الآخرة، وجعل له إن شاء أن يصليهما فى أول وقتهما، وإن شاء فى آخره، فأوقات الصلوات إنما هى محدودة بالساعات والزمان، فمن صلاهما بعد غروب الشمس بعرفة أو دون المزدلفة فقد أصاب الوقت وإن ترك الاختيار لنفسه فى الموضع، والصلاة لا تبطل بالخطأ فى الموضع إذا لم يكن نجسًا؛ ألا ترى أن من صلاهما بعد خروج وقتهما بالمزدلفة ممن لم يَصِلْ إلى المزدلفة إلا بعد طلوع الفجر أنه قد فاته وقتهما، فلا اعتبار بالمكان، ويشبه هذا المعنى قوله عليه السلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة) . وأدرك وقت العصر القوم فى بعض الطريق، فمنهم من صلى، ومنهم من أَخَّر إلى بنى قريظة، فلم يعنف النبى (صلى الله عليه وسلم) أحدًا منهم. واحتج الطحاوى لابن يوسف فقال: لا يختلفون فى الصلاتين اللتين تصليان بعرفة أنهما لو صليتا دونها كل واحدة منهما فى وقتها فى سائر الأيام كانتا مجزئتين، فالصلاتان بمزدلفة أحرى أن تكونا كذلك؛ لأن أمر عرفة لما كان أوكد من أمر مزدلفة، كان ما يفعل فى عرفة أوكد مما يفعل فى مزدلفة، فثبت ما قال أبو يوسف، وانتفى ما قاله الآخرون. قال المهلب: وقوله: (وتوضأ ولم يسبغ الوضوء) يريد أنه خفف الوضوء، وهو أدنى ما تجزئ الصلاة به دون تكرار إمداد إمرار اليد عليه ليخص كل صلاة بوضوء على حسب عادته، وقد جاء ذلك

(4/352)


مبينًا فى الحديث، وقد تقدم بيان ذلك فى كتاب الوضوء، والحمد لله. قال الخطابى: وسميت المزدلفة لاقترابهم إلى منى بعد الإفاضة من عرفات، يقال: ازدلف القوم، إذا اقتربوا، ويقال: بل سميت مزدلفة؛ لأنها منزلة وقربة من الله، وهو قول ثعلب، قال: ومنه قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) [الملك: 27] ، أى رأوا العذاب قرب، ومنه قوله تعالى: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) [الشعراء: 64] أى: قربناهم من الهلاك، وقال الطبرى: إنما سميت مزدلفة لازدلاف آدم إلى حواء بها، وكان كل واحد منهما حين أهبط إلى الأرض أهبط إلى مكان غير مكان صاحبه، فازدلف كل واحد منهما إلى صاحبه، فتلاقيا بالمزدلفة، فسميت البقعة بذلك. والشّعب: الطريق فى الجبل بكسر الشين، والشعب بفتح الشين: الجمع بين الشيئين، يقال: شعب فلان الشئ، إذا جمعه ولامه، ومنه قول الطرماح. شتّ شَعْبُ القوم بَعْدَ التئام وقال الطبرى: واختلفوا فى السبب الذى من أجله سميت عرفة. فقال على بن أبى طالب وغيره: إنما قيل لها ذلك؛ لأن الله بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك. وقال جماعة أخرى: إنما قيل لها: عرفات؛ لأن جبريل كان يقول

(4/353)


لإبراهيم: هذا موضع كذا، وهذا موضع كذا، فيقول: قد عرفت قد عرفت.
87 - باب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ
/ 130 - فيه: ابْن عُمَرَ، جَمَعَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. / 131 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، جَمَعَ بين الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. قال المؤلف: وروى مالك عن ابن شهاب حديث ابن عمر هذا ولم يذكر فيه أنه أقام لكل صلاة، وزاد الإقامة فى هذا الحديث عن ابن شهاب: ابنُ أبى ذئب والليثُ، وهما ثقتان حافظان، وزيادة الحافظ مقبولة، وإنما لم يتطوع بينهما والله أعلم لأنه لم يكن بينهما أذان، ففرغ من صلاة المغرب ثم قام إلى العشاء، ولم يكن بينهما مهملة فى الوقت يمكن فيها التنفل، وأما من رأى أن يؤذن لكل صلاة، فإنه لا يمنع التنفل لمن أراد، وقد فعل ذلك ابن مسعود، وإن كان قد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يتنفل بين الصلاتين عند جمعهما. وكل ذلك واسع لا حرج فيه، قال الطبرى: لأنهما صلاتان تصليان لأوقاتهما، ولن يفوت وقتهما للحاج حتى يطلع الفجر، وفى هذا الحديث حجة للشافعى أن صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة إقامة، وكذلك فى حديث أسامة حين نزل صلى بالشعب إقامة إقامة.

(4/354)


88 - باب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
/ 132 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْن مسعود، أنه حج فَأَتى الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأذَانِ بِالْعَتَمَةِ، أَوْ قَرِيبًا منه، فَأَمَرَ رَجُلا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ، أُرَى، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، قَالَ عَمْرٌو: لا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلا مِنْ زُهَيْرٍ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ، قَالَ: إِنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ لا يُصَلِّى هَذِهِ السَّاعَةَ إِلا هَذِهِ الصَّلاةَ فِى هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: هُمَا صَلاتَانِ تُحَوَّلانِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِى النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ، وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَفْعَلُهُ. اختلف العلماء فى الأذان والإقامة لهاتين الصلاتين، فروى ابن القاسم عن مالك أنه يؤذن ويقيم لكل صلاة على ظاهر حديث ابن مسعود، وقد روى مثله عن عمر بن الخطاب وابن مسعود. وذهب ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وأبو ثور إلى أنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، واختاره الطحاوى، وذكر عن أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد بأَذَانٍ واحد وإقامة واحدة، خلاف قولهم فى الجمع بين الظهر والعصر بعرفة.

(4/355)


وذهبت طائفة إلى أنه يصليهما بإقامة إقامة، روى ذلك عن ابن عمر وعن القاسم وسالم، وإليه ذهب الشافعى وإسحاق وأحمد فى أحد قوليه، وذهب الثورى إلى أنه يصليهما بإقامة واحدة لا أذان معها، واحتج الطحاوى بحديث حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين) . قال الطحاوى: وأجمعوا أن الأُولَى من الصلاتين اللتين يجمعان بعرفة يؤذن لها ويقام، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك حكم الأُولى من الصلاتين بجمع. وأخذ الطحاوى بحديث أهل المدينة. والحجة لأبى حنيفة ما رواه شعبة عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن للمغرب بجمع فأقام، ثم صلى العشاء بالإقامة الأولى) . وحجة الشافعى حديث ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: (أن النبى عليه السلام جمع بينهما بإقامة إقامة) رواه الليث وابن أبى ذئب عن الزهرى، ولم يذكره مالك فى حديثه، وذكره البخارى فى الباب قبل هذا، وهذه الرواية أصح عن ابن عمر مما خالفها، واحتج أيضًا بحديث ابن عباس عن أسامة بن زيد: (أن النبى عليه السلام عدل إلى الشعب فتوضأ. . .) وذكر الحديث، وفيه أنه أقام لكل واحدة منهما، واحتج الثورى بما رواه عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: (جمع النبى عليه السلام بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة) وكان أحمد ابن حنبل يعجب من مالك إذا أخذ بحديث ابن مسعود

(4/356)


ولم يروه، وهو من رواية أهل الكوفة، وترك ما روى أهل المدينة فى ذلك من غير ما طريق، وكذلك أخذ أهل الكوفة بما رواه أهل المدينة فى ذلك وتركوا روايتهم عن ابن مسعود. وفى فعل ابن مسعود من الفقه جواز التنفل بين الصلاتين إذا جمعتا، وإنما تَعَشَّى بين الصلاتين على سبيل السعة فى ذلك، لا على أن يدخل بين المغرب والعشاء عملا أو شغلا. وقد قال أصبغ: إذا صلى أهل المسجد المغرب، فوقع مطر شديد وهم يتنفلون، فأرادوا أن يعجلوا العشاء قبل وقتها، فلا بأس بذلك. قال المهلب: وقوله: (وهما صلاتان تحولان عن وقتهما) إنما هو تحويل عن الوقت المستحب المعتاد إلى ما قبله من الوقت، لا أن تحويلهما قبل دخول أوقاتهما المحدودة فى كتاب الله عز وجل.
89 - باب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ
/ 133 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: (أَرْخَصَ فِى أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ) . / 134 - وفيه: ابْن عَبَّاس، بَعَثَنِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ فِى ضَعَفَةِ أَهْلِهِ.

(4/357)


/ 135 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّى، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَىَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَىَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا، حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِى مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهُ، مَا أُرَانَا إِلا قَدْ غَلَّسْنَا، قَالَتْ: يَا بُنَىَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَذِنَ لِلظُّعُنِ. / 136 - وفيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً، فَأَذِنَ لَهَا. / 137 - وفيه: عنها نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً، فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلأنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ. قال المهلب: إنما قدم النبى عليه السلام ضعفة أهله خشية تزاحم الناس عليهم عند الدفع من المزدلفة إلى منى، فَأرْخَصَ لهم أن يدفعوا قبل الفجر، وأن يرموا الجمرة قبل طلوع الشمس لخوف الازدحام عليهم، والوقت المستحب لرمى جمرة العقبة يوم النحر طلوع الشمس؛ لرميه عليه السلام ذلك الوقت. واختلفوا هل يجوز رميها قبل ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق: يجوز رميها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، وإن رماها قبل الفجر أعاد. ورخصت طائفة فى الرمى قبل طلوع الفجر،

(4/358)


روى ذلك عن عطاء وطاوس والشعبى، وبه قال الشافعى وشرط إذا كان الرمى بعد نصف الليل. وقال النخعى ومجاهد: لا يرميها حتى تطلع الشمس. وبه قال الثورى وأبو ثور وإسحاق، والحجة لمالك والكوفيين حديث ابن عمر؛ لأنه قال فيه: (فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة) ، واحتج الشافعى بحديث عبد الله مولى أسماء أنه قال: (رحلنا مع أسماء من جمع لما غاب القمر، وأتينا منى ورمينا، ورجعت فصلت الصبح فى دارها، فقلت لها: رمينا قبل الفجرفقالت: هكذا كنا نفعل مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) . ولم يرو البخارى حديث أسماء على هذا النسق، ولا ذكر فيه: (رمينا قبل الفجر) وإنما ذكر فيه أن مولاها قال لها: (يا هنتاه غلسنا) وغلسنا لفظة محتملة للتأويل لا يقطع بها؛ لأنه يجوز أن يسمى ما بعد الفجر غلسًا. قال ابن القصار: ولو صح قوله: (رمينا قبل الفجر) لكان ظنا منه؛ لأنه لما رآها صلت الصبح فى دارها ظن أن الرمى كان قبل الفجر، والرمى كان بعد الفجر، فأخرت صلاة الصبح إلى دارها. وقولها: (هكذا كنا نفعل) إشارة إلى فعلها، وفعلها يجوز أن يكون بعد الفجر؛ لأنها لم تقل هى: رمينا قبل الفجر ولا قالت: كنا نرمى معه قبل الفجر؛ لأنه لم ينقل أحد عن النبى عليه السلام أنه رمى قبل الفجر، واحتج الشافعى أيضا

(4/359)


بحديث أم سلمة أن النبى عليه السلام أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر، وهذا لا يكون إلا وقد رميت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر، قال: لأنه غير جائز أن يوافى أحد صلاة الصبح بمكة وقد رمى جمرة العقبة إلا وقد رماها ليلا؛ لأن من أصبح بمنى فكان بها بعد طلوع الفجر، فإنه لا يمكنه إدراك صلاة الصبح بمكة. وقد ضَعَّفَ أحمد بن حنبل حديث أم سلمة ودفعه وقال: لا يصح، رواه أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبى سلمة، عن أم سلمة (أن النبى عليه السلام أمرها أن توافى معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة) . قال: ولم يسنده غيره، وهو خطأ، وقال وكيع عن هشام، عن أبيه مرسل: (أن النبى عليه السلام أمرها أن توافى صلاة الصبح يوم النحر بمكة) . قال أحمد: وهذا أيضًا عجب، وما يصنع يوم النحر بمكة، ينكر ذلك، فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته فقال: عن هشام، عن أبيه (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمرها أن توافى) وليس أن توافيه، قال: وبين هذين فرق، يوم النحر صلاة الصبح بالأبطح، وقال لى يحيى بن سعيد: سل عبد الرحمن بن مهدى، فسألته فقال: هكذا قال سفيان: عن هشام، عن أبيه (توافى) وقال أحمد: رحم الله يحيى ما كان أضبطه وأشد تفقده. واحتج الثورى بحديث ابن عباس (أن النبى عليه السلام قدم أغيلمة بنى عبد المطلب وضعفتهم وقال لهم: يا بنى، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) .

(4/360)


رواه شعبة والأعمش عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، ورواه سفيان ومسعر عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرنى، عن ابن عباس: قدمنا من المزدلفة بليل فقال عليه السلام: (أى بنية عبد المطلب، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس) . وهذا إسناد وإن كان ظاهره حسنًا، فإن حديث ابن عمر وأسماء يعارضانه، فلذلك لم يخرجه البخارى والله أعلم، مع أنه قد روى مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: (بعثنى النبى عليه السلام مع أهله وأمرنى أن أرمى مع الفجر) . فخالف حديث مقسم عن ابن عباس. قال الطبرى: والصواب عندنا قول من قال: إن وقت رمى جمرة العقبة طلوع الفجر من يوم النحر؛ لأن حينئذ يحل الحاج، وذلك أنَّ بطلوع الفجر من تلك الليلة انقضى وقت الحج، وفى انقضائه انقضاء وقت التلبية ودخول وقت رمى جمرة العقبة، غير أنه لا ينبغى لمن كان محرمًا أن يلبس أو يتطيب أو يعمل شيئًا مما كان حرامًا عليه قبل طلوع الفجر من يوم النحر حتى يرمى جمرة العقبة استحبابًا واتباعًا فى ذلك سنة النبى عليه السلام فإذا رمى الجمرة فقد حَلَّ من كل شىء حرم عليه إلا جماع النساء حتى يطوف طواف الإفاضة. قال ابن المنذر: السنة أن لا يرمى إلا بعد طلوع الشمس كما فعل عليه السلام، ولا يجزئ الرمى قبل طلوع الفجر بحالٍ؛ إذ

(4/361)


فاعله مخالف لسنة النبى عليه السلام ومن رماها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدًا قال لا يجزئه، وقال الطبرى: وفيه الدليل الواضح أن لأهل الضعف فى أبدانهم أن يتقدموا إلى منى ليلة النحر من جمع، وأنه مرخص لهم فى ترك الوقوف بالمشعر غداة النحر. وقد اختلف السلف فى ذلك فقالت طائفة: جائز التقدم من جمعٍ بليل قبل الوقوف بها غداة النحر وصلاة الصبح بها لضعفة الناس خاصة والنساء والصبيان دون أهل القوة والجلد، وقالوا: إنما أذن فى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لضعفة الناس خاصة، واحتجوا بحديث ابن عباس، قالوا: فمن تقدم من جمعٍ بليل من أهل القوة فلم يقف بها مع الإمام، فقد ضيع نسكًا وعليه إراقة دم. وهو قول مجاهد، وعطاء، وقتادة، والزهرى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وكان مالك يقول: إن مر بها فلم ينزل بها فعليه دم ومن نزل بها ثم دفع منها بعدما نزل بها وكان دفعه منها فى أول الليل أو وسطه أو آخره ولم يقف مع الإمام، فقد أجزأه ولا دم عليه. وهو قول النخعى، وحجة هذا القول أن النبى عليه السلام بات بها حين حج بالناس وعلمهم مناسكهم، فمن ضيع من ذلك شيئًا فعليه دم، وإنما أجزنا له التقدم بالليل إلى منى إذا بات بها؛ لتقديم النبى (صلى الله عليه وسلم) أهله من جمع بليل، فكان ذلك رخصة لكل أحد بات بها. وقال الشافعى: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شىء عليه، وإن خرج منها قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة.

(4/362)


وقال آخرون: جائز ذلك لكل أحد: للضعيف والقوى، وكانوا يقولون: إنما جَمْع منزل نزله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كبعض منازل السفر، فمن شاء طواه فلم ينزل به، ومن شاء نزله فله أن يرتحل منه متى شاء من ليل أو نهار، ولا شىء عليه، روى ذلك عن عطاء، وهو قول الأوزاعى، واحتجوا بما حدثنا أبو كريب قال: حدثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن عبد الله، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنما جمع منزل لدلج المسلمين) . وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الوقوف بالمزدلفة فرض لا يجوز الحج إلا بإصابته، واحتجوا فى ذلك بقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] فذكر الله المشعر الحرام كما ذكر عرفات، وذكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عروة بن مضرس، فحكهما واحد لا يجزئ الحج إلا بإصابته. قال ابن المنذر: وهذا قول علقمة والشعبى والنخعى، قالوا: فمن لم يقف بجمع فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة. قال الطحاوى: والحجة عليهم أن قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (ليس فيد دليل أن ذلك على الوجوب، ولأن الله إنما ذكر الذكر، ولم يذكر الوقوف، وكُل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله تعالى أن حجة تام، فإذا كان الذكر المذكور فى الكتاب ليس من صلب الحج، فالموطن الذى يكون ذلك الذكر فيه الذى لم يذكر فى الكتاب أحرى ألا يكون فرضًا، وقد ذكر الله أشياء فى كتابه فى الحج لم يُرد بذكرها إيجابها فى قول أحد من الأمة، من

(4/363)


ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] وكل قد أجمع النظر أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد تم، وعليه دم مكان ما ترك من ذلك، فكذلك ذكر الله فى المشعر الحرام فى كتابه لا يدل على إيجابه، وأما قوله عليه السلام فى حديث عروة بن مضرس: (من شهد معنا صلاة الفجر بالمزدلفة وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارًا فقد تم حجه) فلا حجه فيه؛ لإجماعهم أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجة تام، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج الذى لا يجزئ إلا به، كان الموطن الذى تكون فيه تلك الصلاة التى لم يذكر فى الحديث أحرى ألا يكون كذلك، فلم يتحقق بهذا الحديث ذكر الفرض إلا بعرفة. قال الطحاوى: وفى حديث سودة ترك الوقوف بالمزدلفة أصلا، وكذلك فى حديث ابن عباس وأسماء، وفى إباحة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم ذلك للضعيف دليل أن الوقوف بها ليس من صلب الحج الذى لا يجزئ إلا به كالوقوف بعرفة؛ ألا ترى أن رجلا لو ضعف عن الوقوف بعرفة، فترك ذلك لضعفه حتى طلع الفجر من يوم النحر أن حجه قد فسد، ولو وقف بها بعد الزوال ثم نفر منها قبل غروب الشمس أن أهل العلم مجمعون أنه غير معذور بالضعف الذى به، وأن طائفة منهم تقول: إن عليه دم لتركه بقية الوقوف بعرفة، وطائفة منهم تقول: قد فسد حجه، ومزدلفة ليست كذلك؛ لأن الذين أوجبوا الوقوف بها يجيزون النفور عنها بعد وقوفه بها قبل فراغ وقتها،

(4/364)


وهو قبل طلوع الشمس من يوم النحر لعذر الضعف، فلما ثبت أن عرفة لا يسقط فرض الوقوف بها للعذر، ولا يحل النفور منها قبل وقته بالعذر، وكانت مزدلفة مما يباح ذلك منها بالعذر ثبت أن حكم مزدلفة ليس فى حكم عرفة؛ لأن الذى يسقط للعذر ليس بواجب، والذى لا يسقط للعذر هو الواجب. وقال الخطابى: الثبطة: البطيئة، وقد ثبطت الرجل عن أمره، ومنه قوله تعالى: (وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة: 46] ، وقد تقدم تفسير قوله: (يا هنتاه) فى باب قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ (فأغنى عن إعادته.
90 - بَاب مَتَى يُصَلِّى الْفَجْرَ بِجَمْعٍ
/ 138 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى صَلاةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلا صَلاتَيْنِ، جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا. / 139 - وَقَالَ مرة: صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِى هَذَا الْمَكَانِ: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَلا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا، وَصَلاةَ الْفَجْرِ فِى هَذِهِ السَّاعَةَ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ، فَمَا أَدْرِى أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلى الفجر بالمزدلفة حين تبين

(4/365)


له الصبح بأذان وإقامة. قال المهلب: وقول ابن مسعود: (ما رأيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى صلاة لغير ميقاتها) فإنه لا يريد بذلك أنه صلاها فى الوقت الذى لا يحل، وإنما أراد غير ميقاتها المعهود المستحب للجماعات بعد دخول الوقت وتمكنُّه، بييّن ذلك قوله: (قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع) يريد أنه بادر الفجر أول طلوعه فى الوقت الذى لا يتبينه كل أحد، ولم يَتَأَنَّ حتى يتبّين طلوعه لكل أحد، كما كانت عادته أن يصلى قبل ذلك، ولا يجوز أن يتأول عليه غير هذا التأويل.
91 - بَاب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ
/ 140 - فيه: عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ عُمَرَ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. قال الطبرى: فيه من الفقه بيان وقت الوقوف الذى أوجبه الله تعالى على حجاج بيته بالمشعر الحرام، لقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] فمن وقف بالمشعر الحرام ذاكرًا له فى الوقت الذى وقف به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو فى بعضه، فقد ادركه وأدى ما ألزم الله من ذكره به، وذلك حين صلاة الفجر بعد طلوع الفجر الثانى إلى أن يدفع الإمام منه قبل طلوع

(4/366)


الشمس يوم النحر، ومن لم يدرك ذلك حتى تطلع الشمس فقد فاته الوقوف فيه بإجماع. وقال ابن المنذر: ثبت أن النبى عليه السلام أفاض من جمع قبل طلوع الشمس حين أسفر جدا، وأخذ بهذا ابن مسعود وابن عمر، وقال بذلك عامة العلماء أصحاب الرأى والشافعى، غير مالك فإنه كان يرى أن يدفع قبل طلوع الشمس وقبل الإسفار. قال المهلب: فإنما عجل النبى عليه السلام الصلاة، وزاحم بها أول وقتها ليدفع قبل إشراق الشمس على جبل ثبير ليخالف أمر المشركين، فكلما بَعُدَ دفعُه من طلوع الشمس كان أفضل، فلهذا والله أعلم اختار هذا مالك. قال الطبرى: وقوله: (لا يفيضون) يعنى: لا يرجعون من المشعر الحرام إلى حيث بدأ المصير إليه من منى حتى تطلع الشمس، وكذلك تقول العرب لكل راجع من موضع آخر إلى الموضع الذى بدا منه: أفاض فلان من موضع كذا. وكان الأصمعى يقول: الإفاضة: الدفعة، وكل دفعة إفاضة، ومنه قيل: أفاض القوم فى الحديث، إذا دفعوا فيه. وأفاض دمعه يفيضه، فأما إذا سالت دموع العين، فإنما يقال: فاضت عينه بالدموع. قال ابن قتيبة: وقولهم: أَشْرق ثبير، هو من شروق الشمس، وشروقها: طلوعها، يقال: شرقت الشمس شروقًا، إذا هى طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت، وإنما يريدون: أُدْخُلْ أيها الجبل فى

(4/367)


الشروق كما يقال: أشمل القوم: إذا دخلوا فى ريح الشمال، وأجنبوا: إذا دخلوا فى الجنوب، وأراحوا: إذا دخلوا فى الريح، وأربعوا: إذا دخلوا فى الربيع، فإذا أردت أن شيئًا من هذا أصابهم، قلت: شمل القوم وجنبوا وريحوا وربعوا وشرقوا، وغيثوا إذا أصابهم الغيث. وقوله: (كيما نغير) يريد كيما ندفع للنحر، قال الطبرى: وهو من قولهم: أغار الفرس إغارة الثعلب، وذلك إذا دفع وأسرع فى عدوه.
92 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حَتى يرمى جَمرة العَقبة وَالارتداف فِى السَّير
/ 141 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّى حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ. وَقَالَ أُسَامَةَ: لَمْ يَزَلِ رِدْفَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلاهُمَا، قَالا: لَمْ يَزَلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. اختلف السلف فى الوقت الذى يقطع الحاج فيه التلبية، فذهبت

(4/368)


طائفة إلى حديث الفضل وأسامة وقالوا: يلبى الحاج حتى يرمى جمرة العقبة. روى هذا عن ابن مسعود وابن عباس، وبه قال عطاء، وطاوس، والنخعى، وابن أبى ليلى، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: يقطعها مع أول حصاة يرميها من جمرة العقبة، إلا أحمد وإسحاق فإنه يقطعها عندهما إذا رمى الجمرة بأسرها، على ظاهر الحديث. وروى عن على بن أبى طالب أنه كان يلبى فى الحج، فإذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية، قال مالك: وذلك الأمر الذى لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وقال ابن شهاب: وفعل ذلك الأئمة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وابن المسيب، وذكر ابن المنذر عن سعيد مثله، وذكره الطحاوى عن مكحول، وكان ابن الزبير يقول: أفضل الدعاء يوم عرفة التكبير. وروى معناه عن جابر بن عبد الله. واحتج ابن القصار لمالك وأهل المدينة فقال فى حديث ابن عباس وأسامة: لو فعل ذلك النبى عليه السلام على أنه المستحب عنده لم تخالفه الصحابة بعده، فيحتمل أنه أراد ألا يقطع التلبية عند زوال الشمس؛ لأن الناس كانوا يتلاحقون به يوم عرفة حتى لا يبقى أحد إلا سمع تلبيته؛ لأنه صاحب الشرع، فأعلمهم أنها تجوز إلى هذا الوقت، ويكون المستحب لنا عند الزوال بعرفة لما قد تقرر من اختيار الصحابه له، وهم الذين أمرنا بالاقتداء بهم؛ لأنهم المبلغون للسنن، والمفسرون لها، فوجب اتباع سبيلهم واختيار ما اختاروه، والرغبة عما رغبوا عنه. وتأول الطحاوي في قطع الصحابة للتلبية عند الرواح إلى عرفة أن ذلك لم يكن على أن وقت التلبية قد انقطع، ولكن لأنهم كانوا

(4/369)


يأخذون فيما سواها من الذكر والتكبير والتهليل، كما لهم أن يفعلوا ذلك قبل يوم عرفة أيضًا، وقد تقدم فى باب: التلبية ولا يكبر إذا غدا من منى إلى عرفة، أن التلبية هى الإجابة لما دعى إليه، فإذا بلغ عرفة فقد بلغ غاية ما يدرك الحاج بإدراكه، ويفوت بفوته، فلذلك يقطع التلبية عند بلوغ النهاية، وقد تقدم ذكر الارتداف فى السير فى أول كتاب الحج. وقال ابن المنذر: ثبت أن النبى عليه السلام رمى الجمرة يوم النحر على راحلته، وقال به مالك فرأى أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر راكبًا؛ اقتداءً بالنبى عليه السلام وفى غير يوم النحر ماشيًا، وكره مالك أن يركب إلى شىء من الجمار إلا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون الجمار إلا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون الجمار وهم مشاة، واستحب ذلك أحمد وإسحاق، قال الطبرى: وإنما قيل لها: جمرة؛ لأنها حجارة مجتمعة، وكل شىء مجتمع فهو عند العرب جمرة وجمار، ومنه قولهم: أَجْمَرَ السلطانُ جيشهَ فى الثغر، بمعنى: جَمَعَهُم فيه، ومنه قيل لأحياء من العرب تجمعت: جمار وجمرات.
93 - باب قول الله تَعَالَى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ (إلى قوله: (حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 196]
/ 142 - فيه: أَبُو جَمْرَةَ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَأَمَرَنِى بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْهَدْىِ، فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِى دَمٍ، وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِى حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِى الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) .

(4/370)


قَالَ آدَمُ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، وَغُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ: عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، وَحَجٌّ مَبْرُورٌ. قال الطحاوى: إن قال قائل: إنما أطلق الله فى كتابه المتعة للمحُحْصَرين بالحج، ولم يذكر معهم من لم يُحْصَر، فكيف أبحتم العمرة فيمن لم يحصر؟ فالجواب: إن فى الآية ما يدل على أن غير المحصرين قد دخلوا فيها بما أجمعوا عليه، وهو قوله: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] . فلم يختلف أهل العلم فى المحرم بالحج والعمرة مِمَّنْ لم يحصر أنه إذا أصابه أذى فى رأسه، أو أصابهُ مرض أنه يحلقَ وأن عليه الفدية المذكورة فى الآية التى تليها، وأن القصد بها إلى المحصرين لا يمنع أن يدخل فيها من سواهم من المحرمين غير المحصرين، فكذلك قوله: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (لا يمنع أن يكون غير المحصرين فى ذلك كالمحصرين، بل هذا أَوْلى بما ذكرنا من المعنى الأول الذى فى الآية؛ لأنه قال فى المعنى الأول: (فَمَن كَانَ مِنكُم (. ولم يقل ذلك فى المعنى الثانى منها. واختلف العلماء فيما استيسر من الهدى، فقالت طائفة: شاة، روى ذلك عن على وابن عباس، وهو قول مالك وجمهور العلماء، وروى عن ابن عمر وعائشة أن ما استيسر من الهدى من الإبل والبقر خاصة. قال إسماعيل: وأحسب هؤلاء ذهبوا إلى ذلك من أجل قوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ) [الحج: 36] فذهبوا إلى أن الهدى ما وقع عليه اسم بدن. ويرد هذا التأويل قوله تعالى: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا

(4/371)


قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95] إلى قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقد حكم المسلمون فى الظبى بشاة، فوقع عليها اسم هدى. وروى عن ابن عمر وأنس أنه يجزئ فى المتعة والقران شرك فى دم. وروى عن عطاء وطاوس والحسن مثله، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، ولا تجزئ عندهم البدنة أو البقرة عن أكثر من سبعة على حديث جابر، ولا تجزئ عندهم الشاة عن أكثر من واحد. قال المؤلف: ولا تعلق لهم فى حديث أبى جمرة عن ابن عباس، قال إسماعيل: وأبو جمرة وإن كان من صالحى الشيوخ فإنه شيخ، وقد روى ثقات أصحاب ابن عباس عنه أن) فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] شاة، وأن المعتمد فى العلم على الثقات المعروفين بالعلم، وقد روى ليث بن أبى سشليم عن طاوس، عن ابن عباس مثل رواية أبى جمرة، وليث ضعيف، فلا يتعنى بالكلام فيه، وقد روى حماد ابن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن عباس قال: ما كنت أدرى أن دمًا واحدًا يقتضى عن أكثر من واحد. وأما ما روى عن جابر أنه قال: (نحرنا يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) فلا حجة فيه؛ لأن الحديبية لم يكن فيها تمتع، وإنما كان عليه السلام أحرم بالعمرة من ذى الحليفة وساق الهدى، فلما صده المشركون نحروا الهدى، وهو تطوع ليس فيه تمتع ولا غيره مما يوجب هديًا، وهذا كما روى عنه عليه السلام أنه ضحى عن أمته، وكما روى عن أبى أيوب أن الرجل يضحى بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال: تفسير

(4/372)


حديث جابر فى التطوع، والعمرة تطوع لا بأس بذلك. وروى عنه ابن القاسم أنه لا يشترك فى هدى واجب ولا تطوع. فإن قيل: إن الهدى كان عليهم لأنهم حُصِرُوا، قيل: الهدى قد كان أشعر وأوجب هديًا بعد الحصر. وما روى عن أنس أنهم كانوا يشتركون السبعة فى البدنة والبقرة، فإنما يعنى به الأضاحى، وليس المراد به أنهم يشتركون فى الأضحية، على أن لكل واحدٍ منهم سهمًا من ملكها، وإنما يعنى به أن أهل البيت يضحون بالجزور أو البقرة عن جماعة منهم، وهذا جائز عندنا ولو كان أكثر من سبعة إذا كان ملكها لرجل واحد، وضحى بها عن نفسه وأهله، وقد تقدم فى كتاب الصيام الاختلاف فى صوم التمتع الثلاثة الأيام فى الحج، فأغْنى عن إعادته.
94 - باب رُكُوبِ الْبُدْنِ
وَقَوْلِهِ: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ (إلى قوله: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 36] . قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتِ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا. / 143 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا) ، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، فِى الثَّانِيَةِ أَوْ فِى الثَّالِثَةِ) . قال المهلب: فيه من الفقه استعمال بعض ما وجه لله تعالى إذا احتيج إليه، على خلاف ما كانت الجاهلية عليه من أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فأعلم الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما أهل به لله إنما هو

(4/373)


دماؤها، وأما لحومها والانتفاع بها قبل نحرها وبعده فغير ممنوع، بل هو مباح بخلاف سُنن الجاهلية. واختلف العلماء فى ركوب الهدى الواجب والتطوع، فذهب أهل الظاهر إلى أن ذلك جائز من غير ضرورة، وبه قال أحمد وإسحاق، وبعضهم أوجب ذلك، واحتجوا بحديث أبى هريرة وأنس، وكره مالك وأبو حنيفة والشافعى ركوبها من غير ضرورة، وكرهوا شرب لبن الناقة بَعْدَ رىِّ فصيلها، وقال أبو حنيفة والشافعى: إن نقصها الركوبُ والشربُ فعليه قيمة ذلك، واحتجوا أن ما خرج لله فغير جائز الرجوع فى شىء منه والانتفاع به إلا عند الضرورة. وقال الطحاوى: احتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر بركوب البدنة لغير ضرورة، واحتمل أن يكون أمر بذلك لضرورة، فنظرنا فى ذلك فإذا نصر بن مرزوق، حدثنا عن ابن معبد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس (أن النبى عليه السلام رأى رجلا يسوق بدنة، وقد جهد، فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إنها بدنة، قال اركبها) . وروى ابن أبى شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر فى ركوب البدن قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (اركبها بالمعروف إذا لم تجد ظهرًا) . فأباح عليه السلام ركوبها فى حال الضرورة، فثبت أن حكم الهدى أن يركب للضرورة. وقد روى عن ابن عمر ما يدل على هذا المعنى، روى هشيم عن الحجاج، عن نافع، عن ابن عمر (أنه كان يقال للرجل إذا ساق بدنة وأعيا: اركبها، وما أنتم بمستنين سنة هى أهدى من سنة محمد) .

(4/374)


ثم اعتبرنا ذلك من طريق النظر، فرأينا ما الملك فيه متكامل كالعبد الذى لم يُدبره مولاه، والأَمَة التى لم تلد، والبدنة التى لم يوجبها صاحبها، كل ذلك جائز بيعه، والانتفاع به وجائز تمليك منافعه ببدل وبغير بدل، ورأينا البدنة إذا أوجبها ربها، فكل قد أجمع أنه لا يجوز أن يؤاجرها، ولا يجوز أن يبيع منافعها، كان كذلك ليس له أن ينتفع بها، ولا يجوز له الانتفاع إلا بشىء له التعوض بمنافعه وأخد البدل فيها، وروى عن مجاهد فى قوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) [الحج: 33] قال: فى طهورها وألبانها وأصوافها وأوبارها حتى تصير بدنًا، وبه قال النخعى وعروة. قال المهلب: وفيه من الفقه تكرير العالم الفتوى، وفيه توبيخ الذى لا يأتمر بالفتوى والدعاء عليه بالويل وشبهه، مما عادة العرب أن تدعوا به، وقيل: هذا مما لا يراد به الوقوع، وإنما هو على سبيل التحضيض، وقد قال عليه السلام: (إنما أنا بشر أغضب كما تغضبون، فمن سَبَبَتْتُه فاجعل ذلك له كفارة وأجرًا) . فهذا دليل أنه عليه السلام لم يُرد بشىء من دُعائه على من وَبَّخَهُ الوقوع.
95 - باب مَنْ سَاقَ الهدىِ مَعَهُ
/ 144 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْىَ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى،

(4/375)


فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِل، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ) ، فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَىْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ أَهْدَى، وَسَاقَ الْهَدْىَ مِنَ النَّاسِ. وقَالَ ابْن شهاب: عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ، مثل حديث ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: قول ابن عمر: (تمتع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى أنه أمر بذلك كما يقال: رجم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يرجم، وكتب ولم يكتب، بل أمر بذلك وقوله: (فى حجة الوداع) دليل أن النبى عليه السلام لم يتمتع فى خاصة نفسه، بل كانت حجة مُفردَة، وسميت حجة الوداع، وقوله: (فبدأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأهَلَّ بالعمرة) إنما يريد أنه بدأ حين أمرهم بالتمتع أن يهلوا بالعمرة أولا، ويقدموها قبل الحج، أو ينشئوا الحج بعد العمرة إذا حَلُّوا منها، وقوله: (فتمتع الناس مع النبى عليه السلام) معناه: تمتعوا بحضرته، ومثل هذا فى الكلام مشهور كما جاء فى الحديث: (أن فلانًا قتل مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فى بعض غزواته) معناه: قتل بحضرة النبى عليه السلام. وقوله للناس: (من كان منكم أهدى فلا يحل من شئ) دليل على أنه عليه السلام لم يتمتع؛ لأنه ساق الهدى، ولم يُحل كما

(4/376)


حلَّ من لم يسق الهدى، وما فى آخر الحديث من تعليم الناس يفسر ما فى أوله من إشكال قوله: (أنه تمتع) لأن المفسّر يقضى على المجمل، وقد صح عن ابن عمر أنه رَدَّ قول أنس: (أن النبى عليه السلام تمتع) وقال: (أهلَّ النبى عليه السلام بالحج وأهللنا به، فلما قدمنا مكة، قال: من لم يكن معه هدى فليجعلها عمرة، وكان مع النبى عليه السلام هدى) ذكره البخارى عن مسدد فى كتاب المغازى، وقد ذكرناه فى باب: التمتع والقران والإفراد وفسخ الحج، فكيف ينكر ابن عمر على أنس أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحجة؟ هذا ما لا يتوهمه عاقل، فصح أن تأويل قول ابن عمر فى هذا الباب: (تمتع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) أنه أمر بذلك، لا أنه فعله عليه السلام فى خاصّة نفسه، وهذا التأويل ينفى التناقض عن الخبرين، ويجمع بين المتضادين. وأما قوله فى حديث عروة: أن عائشة أخبرته عن النبى عليه السلام فى تمتعه بالعمرة إلى الحج بمثل حديث سالم عن أبيه، فنعم هو مثله فى الوهم؛ لأن أحاديث عائشة كلها من رواية عروة والأسود والقاسم وعمرة مسقطة لهذا الوهم؛ لأنهم يروون عنها أنها قالت: (خرجنا مع النبى عليه السلام ولا نرى إلا أنه الحج) مُخالفة لرواية ابن شهاب عن عروة، عن عائشة فى تمتعه بالعمرة التى فى آخر هذا الباب، وموافقة لرواية الجماعة عن عائشة، وأما قوله فى الترجمة: باب من ساق البدن فإنما أراد أن يعرف أن السنة فى الهدى أن يساق من الحل إلى الحرم. واختلف العلماء فى ذلك. فقال مالك: من اشترى هَدْيَهُ بمكة أو بمنى، ونحره ولم يقف به بعرفة فى الحل فعليه بَدَلُه، وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن جبير، وبه قال الليث، وروى عن القاسم أنه

(4/377)


أجازه إن لم يوقف به عرفة، وقاله أبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور، قال الشافعى: وَقْفُ الهدى بعرفة سنة لمن شاء إذا لم يسقه من الحل. وقال أبو حنيفة: ليس بسنة؛ لأن النبى عليه السلام إنما ساق الهدى من الحل؛ لأن مسكنه كان خارج الحرم، والحجة لمالك أن النبى عليه السلام ساق الهدى من الحل إلى الحرم، وقال: (خذوا عنى مناسككم) . وأفعاله على الوجوب.
96 - بَاب مَنِ اشْتَرَى الْهَدْىَ مِنَ الطَّرِيقِ
/ 145 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّهُ قَالَ لأبِيهِ: أَقِمْ فَإِنِّى لا آمَنُهَا أَنْ تصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ، قَالَ: إِذًا أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِى الْعُمْرَةَ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الدَّارِ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلا وَاحِدٌ، ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْىَ مِنْ قُدَيْدٍ، ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وقوله: (إذًا أفعل كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: من الإحلال حين صُدَّ بالحديبية على ما يأتى ذكره فى باب: الحصر بَعْدُ إن شاء الله، ولم يُصد ابن عمر وأَهَلَّ بعمرة من المدينة، فلما خرج إلى الميقات أردف الحج على العمرة وقال: (ما شأنهما إلا واحد) يعنى فى العمل، لأن القارن لا يطوف عنده إلا طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا. وأجمع العلماء أن من أَهَلَّ بعمرة فى أشهر الحج أن له أن يدخل عليها الحج ما لم يفسخ الطواف بالبيت، والحجةُ لهم أن أصحاب

(4/378)


النبى عليه السلام أهلوا بعمرة فى حجة الوداع، ثم قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان معه هدى فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منها جميعًا) . وبهذا احتج مالك فى الموطأ. واختلفوا فى إدخال الحج على العمرة إذا افتتح الطواف، فقال مالك: يلزمه ذلك ويصير قارنًا، وحكى أبو ثور أنه قول الكوفيين، وقال الشافعى: لا يكون قارنًا، وذكر أنه قول عطاء، وبه قال أبو ثور. وأما إدخال العمرة على الحج، فمنع منه مالك، وهو قول إسحاق وأبى ثور، وأجازه الكوفيون وقالوا: يصير قارنًا، وقد أساء فيما فعل، واختلف قول الشافعى على القولين، وإنما أجاز مالك إرداف الحج على العمرة، ولم يُجز إرداف العمرة على الحج؛ لأن عمل الحج يستغرق عمل العمرة ويزيد عليها، فإذا أدخل العمرة على الحج فلم يأت بزيادة فى العمل، ولا أفاد فائدة، فلم يكن لإدخالهما على الحج معنى، والقياس عند أبى حنيفة لا يمنع إدخال عمرة على حجة، ومن أصله أن على القارن طوافين وسعيين. وأما قول البخارى: باب من اشترى الهدى من الطريق، فإنما أراد أن يبيّن مذهب ابن عمر أن الهدى ما أدخل من الحل إلى الحرم؛ لأن قُديَدًا حيث اشتراه ابن عمر من الحل فى نصف طريق مكة، وقد روى مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: الهدى ما قلد وأشعر، ووقف به بعرفة، وكذلك فعل النبى عليه السلام فلا معنى لقول من خالف هذا. وقوله: (لا أيمنها) قال سيبويه: من العرب من يكسر زوائد كل فعل مضارع، ماضيه فعل، ومستقبله يفعل، إلى الياء، فيقولون: أنا

(4/379)


أعلم، وأنت تعلم، ونحن نعلم، وهو يعلم بفتح الياء؛ كراهية الكسرة فيها لثقلها، على هذا جاء: (لا أيمنها) لأنهم يقولون: أيمن.
97 - باب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَهْدَى مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، يَطْعُنُ فِى شِقِّ سَنَامِهِ الأيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ، وَوَجْهُهَا إلى الْقِبْلَةِ بَارِكَةً. / 146 - فيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَر، قَالا: خَرَجَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِى بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِى الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْهَدْىَ، وَأَشْعَرَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. / 147 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ رسُول اللَّه، عليه السَّلام، بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ. عرض البخارى فى هذا الباب أن يبيّن أن من أراد أن يحرم بالحج أو العمرة، وساق معه هديًا، فإن المستحب له أن لا يشعر هديه، ولا يقلده إلا من ميقات بلده، وكذلك يستحب له أيضًا أن لا يحرم إلا بذلك الميقات على ما عمل النبى عليه السلام بالحديبية وفى حجته أيضًا، وكذلك من أراد أن يبعث بهدى إلى البيت ولم يُرد الحج والعمرة، وأقام فى بلده فإنه يجوز له أن يقلده وأن يشعره فى بلده، ثم يبعث به كما فعل النبى عليه السلام إذ بعث بهديه مع أبى بكر سنة تسع، ولم يوجب ذلك على النبى (صلى الله عليه وسلم) إحرامًا ولا تجردًا من ثيابه ولا غير ذلك، وعلى هذا جماعة أئمة الفتوى، منهم مالك، والليث، والأوزاعى،

(4/380)


والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، كلهم احتج بحديث عائشة أن تقليد الهدى لا يوجب الإحرام على من لم يَنْوِهِ، وَرَدُّوا قول ابن عباس، فإنه كان يرى أن من بعث بهدى إلى الكعبة، لزمه إذا قلده: الإحرام، وتجنُّب كل ما يتجنب الحاج حتى ينحر هديه، وتابع ابن عباس على ذلك ابن عمر، وبه قال عطاء، وهم محجوجون بالسنة الثابتة فى حديث عائشة، وليس أحد بحجة على السنة. قال الطحاوى: وقد رأى ربيعة بن الهدير رجلا متجردًا بالعراق، فسأل الناس عنه، فقالوا: أمر بهديه أن يقلد، فلذلك تجرد، فذكر ذلك لابن الزبير، فقال: بدعة ورب الكعبة. فلا يجوز أن يكون ابن الزبير حلف على ذلك أنه بدعة إلا وقد علم أن السنة خلاف ذلك.
98 - بَاب فَتْلِ الْقَلائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ
/ 148 - فيه: حَفْصَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ؟ قَالَ: (إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ) . / 149 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يُهْدِى مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلائِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ. فيه من الفقه: أيما عمل لله من الأعمال فإنه يجب إتقانها وتحسينها؛ ألا ترى عائشة لم تقنع فى القلائد إلا بفتلها وإحكامها. وأجمع العلماء على تقليد الهدى، والتقليد إنما هو علامة للهدى، كأنه إشهاد أنه أخرجه من ملكه لله تعالى وليعلم الناس الذين يبتغون أكله فيشهدون نَحْره، وفيه عمل أزواج النبى عليه السلام

(4/381)


بأيديهن، وخدمتهن فى بيوتهن، وقد كان النبى عليه السلام يخدم فى بيته.
99 - باب إِشْعَارِ الْبُدْنِ
قَالَ الْمِسْوَرِ: قَلَّدَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْهَدْىَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. / 150 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْىِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا، أَوْ قَلَّدْتُهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ. جمهور العلماء يَرَوْنَ إشعار البدن؛ لأنه سنة ثابتة، وممن رأى ذلك عمر بن الخطاب، وابن عمر، والحسن البصرى، والقاسم، وسالم، وعطاء، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وأنكر الإشعار أبو حنيفة وقال: إنما كان ذلك قبل النهى عن المثلة، وهذا تحكم لا دليل عليه وسوء ظن، ولا تترك السنن بالظنون، وقد روى الإشعار عن النبى عليه السلام جماعة. قال ابن قصار: فإن قيل: فقد روى عن عائشة: (إن شئت فأشعر، وإن شئت فلا، فإنما أشعر ليعلم أنها بدنة إذا ضلت) فدل أنه علامة ليس بنسك، وقد روى مثل ذلك عن ابن عباس، قيل: إن ابن عباس وعائشة إنما أعلما أن الإشعار ليس بواجب، وبذلك نقول، غير أن فعله أفضل من تركه؛ لأن ابن عمر قال: لا هَدْى

(4/382)


إلا ما قُلد أو أُشعر. أى لا هدى كامل، ولا نقول إن الإشعار نسك يجب فى تركه دم، واستحب مالك الإشعار فى الشق الأيسر على ما رواه نافع عن ابن عمر أنه ربما فعل هذا، وربما فعل هذا. واستحب أبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق الإشعار فى الشق الأيمن، رواه معمر عن الزهرى، عن سالم، عن أبيه أنه كان يفعله. واختلفوا فى إشعار البقر، فكان ابن عمر يقول: نشعر البقر فى أسنمتها، وقال عطاء والشعبى: يقلد ويشعر. وهو قول أبى ثور. وقال مالك: تُشعر التى لها سنام وتُقلد، ولا تُشعر التى لا سنام لها وتقلد. وقال سعيد ابن جبير: تُقلدُ ولا تُشعر.
0 - باب مَنْ قَلَّدَ الْقَلائِدَ بِيَدِهِ
/ 151 - فيه: زِيَادَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ، كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِى، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَىْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْىُ. فيه من الفقه: جواز امتهان الخليفة فى الخدمة، وتناول بعض الأمور بنفسه، وإن كان له من يكفيه، ولا سيما فيما يكون من إقامة الشرائع وأمور الديانة، وفيه إنكار عائشة على ابن عباس أن من بعث بهدى فقد وجب عليه الإحرام، واحتجاجها عليه بفعل النبى

(4/383)


عليه السلام أنه بعث مع أبى بكر سنة تسع بهدى، وقعد عن الحج، ولم يحرم عليه شئ، وهذه حجة قاطعة، وقد تقدمت هذه المسألة فى باب: من أشعر وقلد الهدى بذى الحليفة ثم أحرم.
1 - باب تَقْلِيدِ الْغَنَمِ
/ 152 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَهْدَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَرَّةً غَنَمًا. / 153 - وَقَالَتْ مرة: كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلائِدَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ، وَيُقِيمُ فِى أَهْلِهِ حَلالا. اختلف العلماء فى تقليد الغنم، فممن رأى تقليدها أخذًا بهذا الحديث: عائشة أم المؤمنين، وهو قول عطاء، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يقلد الغنم، وأظنه لم يبلغهم الحديث.
2 - بَاب الْقَلائِدِ مِنَ الْعِهْنِ
/ 154 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِى. العهن: الصوف، وأكثر ما يكون مصبوغًا ليكون أبلغ فى العلامة.
3 - باب تَقْلِيدِ النَّعْلِ
/ 155 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، رَأَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، قَالَ: (ارْكَبْهَا) ، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَالنَّعْلُ فِى عُنُقِهَا. قال ابن عمر: يقلد الهدى نعلين، وبه قال الثورى والشافعى، وقال مالك: تجزئ النعل الواحدة، وهو قول الزهرى، وقال الثورى: فم القربة تجزئ ونعلان أفضل لمن وجدهما.

(4/384)


4 - باب الْجِلالِ لِلْبُدْنِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَشُقُّ مِنَ الْجِلالِ إِلا مَوْضِعَ السَّنَامِ، وَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلالَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا. / 156 - فيه: عَلِيّ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلالِ الْبُدْنِ الَّتِى نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا. قال الطبرى: فيه الإبانة أن من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى البدن إذا ساقها سائق إلى الكعبة أن يجللها، فإذا بلغت محلها أن ينحرها، ويتصدق بلحومها وجلودها وجلالها، وفيه أن لصاحبها أن يولى نحرها غيره، وأنه لا بأس عليه إن لم يلى ذلك بنفسه، وفيه أن له أن يولى قسم لحومها من شاء. وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يجلِّل بُدنه الأنماط والبرود الحبر حتى يخرج من المدينة، ثم ينزعها ويطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها إياها حتى ينحرها، ثم يتصدق بها. قال المهلب: وهذا إنما فعله على وجع التطوع والتبرع بما كان أَهَلَّ به الله أَلا يرجع فى شىء منه، ولا فى المال المضاف إليه، وليس بفرض عليه، وكان مالك وأبو حنيفة والشافعى يرون تجليل البدن.
5 - باب ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ
/ 157 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَلا نُرَى إِلا الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ لَمْ يَكُنْ

(4/385)


مَعَهُ هَدْىٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ، فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ. وهذا الذبح إنما كان هدى التمتع، نحره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمن تمتع من أزواجه، وأخذ جماعة من العلماء بظاهر هذا الحديث، وأجازوا الاشتراك فى هدى التمتع والقران على ما تقدم فى حديث أبى جمرة عن ابن عباس، ومنع مالك ذلك، ولا حجة لمن خالف مالكًا فى هذا الحديث؛ لأن قوله: (نحر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أزواجه البقر) يحتمل أن يكون نحر عن كل واحدة منهن بقرة، وهذا غير مدفوع من التأويل. فإن قيل: إنما نحر البقر عنهن على حسب ما أتى عنه فى الحديبية: (أنه نحر البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة) قيل: هذه دعوى لا دليل عليها؛ لأن نحره فى الحديبية كان عندنا تطوعًا، والاشتراك فى هدى التطوع جائز على رواية ابن عبد الحكم عن مالك، والهدى فى حديث عائشة واجب، ولا يجوز الاشتراك فى الهدى الواجب، فالحديثان مستعملان عندنا على هذا التأويل. قال إسماعيل بن إسحاق: وأما رواية يونس عن الزهرى، عن عمرة، عن عائشة: (أن النبى عليه السلام نحر عن أزواجه بقرة واحدة) فإنّ يونس انفرد بذلك وحده، وخالفه مالك فأرسله، ورواه القاسم وعمرة عن عائشة (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذبح عن أزواجه البقر) حدثنا بذلك أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم،

(4/386)


عن أبيه، عن عائشة. وحدثنا به القعنبى عن سليمان بن بلال، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة. وهذه أسانيد الفقهاء الذين يفهمون ما يحتاج إلى فهمه. قال المهلب: فى حديث عائشة من الفقه أنه من كَفَّر عن غيره كفارة يمين أو ظهار، أو قتل نفس، أو أهدى عنه، أو أَدَّى عنه دينا بغير أمره، أن ذلك كله مجزئًا عنه؛ لأنه لم يعرف نساء النبى عليه السلام بما أدى عنهن من نحر البقر لما وجب عليهن من نُسك التمتع، وهذا حجة لابن القاسم فى قوله: إذا أعتق الرجل عبده عن غيره فى كفارة الظهار أنه يجزئه، ولم يُجز ذلك أشهب وابن المواز، وقالا: لا يعتق عنه بغير علمه؛ لأنه فرض وجَبَ عليه، ودليل هذا الحديث لازم لهما، ولمن قال بقولهما من الفقهاء. وقد تقدمت هذه المسألة واختلاف أهل العلم فيما يجوز عمله بنية وبغير نية فى آخر كتاب الإيمان فى باب: ما جاء من الأعمال بالنية والحسنة، وقد تقدم معنى قوله: أتتك بالحديث على وجهه، وهو أنها ذكرت ابتداء الإحرام وذكرت انتهاءه حين وصلوا إلى مكة، وفسخ من لم يسق الهدى.
6 - باب النَّحْرِ فِى مَنْحَرِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِمِنًى
/ 158 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ فِىمَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ رسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ. المنحر فى الحج بمنى إجماع من العلماء، فأما العمرة فلا طريق لنا فيها، فمن أراد أن ينحر فى عمرته، أو ساق هديا تطوع به، نحره

(4/387)


بمكة حيث شاء، وهذا إجماع أيضًا، فمن فعل هذا فقد أصاب السنة، وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة والشافعى: إن نحر فى غير منى ومكة من الحرم أجزأه، قالوا: وإنما أريد بذلك مساكين الحرم ومكة. وقد أجمعوا أنه إن نحر فى غير الحرم ولم يكن محصرًا بعدو أنه لا يجزئه، قال ابن القصار: والحجة لمالك ما ذكره فى موطئه: أنه بلغه أن النبى عليه السلام قال فى حجه بمنى: (هذا المنحر، ومنى كلها منحر) . فدل دليل الخطاب أن غيرهما ليس بمنحر؛ لأنه كان يكفى أن يذكر أحدهما لينبه به على سائر الحرم، فلما خصها جميعًا علم أن منى خصت للحجاج؛ لأنهم يقيمون بها، فجعل نحرهم بها، وجعل مكة منحرًا للمعتمرين إذا فرغوا من سعيهم عند المروة. فإن قيل: فقد نحر النبى عليه السلام هديه بالحديبية وليست بمكة ولا منى ولكنها من الحرم، قيل: هذا الهدى لم يكن بلغ محله كما قال الله، وإنما جاز له أن يذبحه فى غير محله، كما جاز له أن يخرج من إحرامه فى غير محله، ولما قال الله فى الهدى: (مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] علمنا أن محله مكة لقوله تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] . وصَدُّ النبى عليه السلام لم يكن عن الحرم، وإنما كان عن البيت؛ لأن الحديبية بعضها حرم، وبعضها حل، وترجح قياسًا أن مكة مخصوصة بالبيت، والطواف بالبيت دون سائر الحرم، ومنى مخصوصة بالتحلل فيها بالرمى والمقام بها لبقية أعمال الحج، وليس

(4/388)


كذلك سائر الحرم، فخص هذان الموضعان بالنحر فيهما لهذا التخصيص فيهما، وكذلك فعل الرسول وأصحابه بعده.
7 - باب مَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ 108 - وَبَاب نَحْرِ الإبِلِ الْمُقَيَّدَةً
/ 159 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، أنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: معنى قوله: (قيامًا مقيدة) يعنى: معقولة اليد الواحدة قائمة على ما بقى من قوائمها، وعلى هذا المعنى قراءة من قرأ (صوافن) لأنه قال: صفن الفرس، إذا رفع إحدى يديه، وأما من قرأ: (صَوَافَّ) [الحج: 36] فإنه أراد قائمة، وقال مالك: تعقل إن خيف أن تنفر، ولا تنحر باركة إلا أن يصعب، وبقية الكلام فى هذا المعنى فى الباب الذى بعد هذا إن شاء الله.
9 - باب نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سُنَّةَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (صَوَافَّ) [الحج: 36] قِيَامًا. / 160 - فيه: أَنَسٍ، أنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، لَمَّا أهَل عَلَى الْبَيْدَاءِ وَأَهل لنا بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَنَحَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ بكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ.

(4/389)


قول ابن عمر: (سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى أن تُنحر قيامًا، ويشهد لهذا دليل القرآن، قوله: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) [الحج: 36] يعنى سقطت إلى الأرض، وممن استحب أن تنحر قيامًا: مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثورى: تنحر باركة وقائمة، واستحب عطاء أن ينحرها باركة معقولة. قال المهلب: (أهل لنا بهما جميعًا) معناه: أمر من أَهَلَّ بالقران ممن لم يفسخ حجَّه؛ لأنه قد صح أنه عليه السلام كان مفردًا بالحج. ولم يكن قارنًا، فمعنى (أهل لنا) أى أباح لنا الإهلال بهما قولا، فكان إهلاله لهم بالإباحة أمرًا، وتعليمًا منه لهم كيف يهلون من قرن منهم، وإلا فما معنى (لنا) فى هذا الموضع؟ وقد تقدم قولُ عائشة وابن عمر قولَ أنس، ووصفهما له بالصغر وقلة الضبط لهذه القصة.
0 - باب لا يُعْطَى الْجَزَّارُ مِنَ الْهَدىِ شَيْئًا
/ 161 - فيه: عَلِيٍّ، قَالَ: بَعَثَنِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقُمْتُ عَلَى الْبُدْنِ، فَأَمَرَنِى بقَسَمْتُ لُحُومَهَا، ثُمَّ أَمَرَنِى بقسمة جِلالَهَا وَجُلُودَهَا، وَأَمَرَنِى أَنْلا أُعْطِىَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِى جِزَارَتِهَا. وترجم له باب: (يتصدق بجلود الهدى) ، وترجم له باب: (يتصدق بجلال البدن) . وزاد فيه: قال على: (أهدى النبى عليه السلام مائة بدنة، فأمرنى بلحومها فقسمتها، ثم أمرنى بجلالها وجلودها فقسمتها) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فذهبت طائفة إلى الأخذ بهذا

(4/390)


الحديث، وقالوا: لا يعطى الجزار منها شيئًا، هذا قول مالك وأبى حنيفة وأحمد، وأجاز الحسن البصرى أن يعطى الجزار الجلد. واختلفوا فى بيع الجلد، فروى عن ابن عمر أنه لا بأس بأن يبيعه، ويتصدق بثمنه، وقاله أحمد وإسحاق. وقال أبو هريرة: من باع إهاب أضحيته فلا أضحية له، وقال ابن عباس: يتصدق به أو ينتفع به، ولا يبيعه، وعن القاسم وسالم: لا يصلح بيع جلودها، وهو قول مالك، وقال النخعى والحكم: لا بأس أن يشترى به الغربان والمنخل، ورخص أبو هريرة فى بيعه، وقال عطاء: إن كان الهدى واجبًا تصدق بإهابه، وإن كان تطوعًا باعه إن شاء فى الدَّيْن. وأما من أجاز بيع جلودها، فإنما قال ذلك والله أعلم قياسًا على إباحة الله الأكل منها، فكان بيع الجلد والانتفاع به تبعًا للأكل، وهذا ليس بشئ؛ لأنه يجوز أكل لحمها، ولا يجوز بيعه بإجماع، والأصل فى كل ما اخرج لله تعالى أنه لا يجوز الرجوع فى شىء منه، ولولا إباحة الله الأكل منها ما جاز أن يستباح، فوجب ألا يتعدى الأكل إلى البيع إلا بدليل لا مُعارِض له. قال المهلب: وإعطاء الجازر منها فى جزارته عوضًا من فعله وذبحه فهو بيع، ولا يجوز بيع شىء من لحمها، وكذلك الجلد، وقال: ولا يخلو الإهاب من أن يكون مع سائر الشاة بإيجابها وذبحها فقد صار مسبلا فيما سلبت به الأضحية، أو لم يَصِرْ مسبلاَ إذا كان عليه دين، فإن كان قد صار لِمَا جعله له فغير جائز صرفه أو صرف شىء منه إلا فيما سَبَلَهُ، أو لم يصر ذلك فيما جعله له إذ كان عليه دين، فيكون إيجابه الشاة أضحية، وجِلْدها غير جلد أضحية، وذلك فيما لا يفعل فى نظر ولا خبر.

(4/391)


والصواب إن كان الدَّيْن على صاحب الأضحية والبدنة قبل إيجابها، ولم يكن عنده ما يقضى غريمه سوى الشاة أو البدنة، فإيجابه لها عندنا باطل، وملكه عليها ثابت، وله بيعها فى دينه، إذ ليس عليه إتلاف ماله، ولا صرفه فى غير قضاء دينه.
1 - بَاب) وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ (إلى قوله: (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 26 - 30]
معنى الآية: أن الله تعالى أعلم نَبيَّه بعظيم ما ركب قومه، قريش خاصة دون غيرهم، من سائر عبادتهم فى حرمه والبيت الذى أمر خليله عليه السلام ببنائه وتطهيره من الآفات والشرك إلهًا غيره، وتقدير الكلام: (واذكر إذ بوأنا لإبراهيم هذا البيت الذى يعبد قومك فيه غيرى) . روى معمر عن قتادة قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم حين أهبط إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال له: يا آدم، أهبطت لك شيئًا يطاف به كما يطاف حول عرشى، ويصلى عنده كما يصلى حول عرشى، فانطلق إليه، فخرج وَمَدَّ له فى خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفازة على ذلك، وأتى آدم البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء، ثم بوأ الله مكانه لإبراهيم بعد الغرق، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (وَأَذِّن فِى النَّاسِ) [الحج: 27] عنى بالناس هاهنا أهل القبلة، ألم تسمعه قال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ

(4/392)


لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا (إلى) وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97] يقول: من دخله من الناس الذين أمر أن يُوَذَّنَ فيهم، وكتب عليهم الحج. وقال ابن عباس: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 28] ، قال: التجارة. واختلف الناس فى الأيام المعلومات، فقال على بن أبى طالب: هى يوم النحر ويومان بعده، اذبح فى أيها شئت، وأفضلها أولها، وهو قول ابن عمر وأهل المدينة، وقال ابن عباس: هى العشر ويوم النحر منها، وهو قول الكوفيين، وأجمعوا أن المعدودات أيام التشريق الثلاثة، وقد ذكرنا لم سميت معلومات ومعدودات فى كتاب صلاة العيدين، فى باب: فضل العمل فى أيام التشريق. والبائس فى اللغة: الذى به البؤس، وهو شدة الفقر، وقال ابن عباس: التفث: الحلق والتقصير والذبح والأخذ من الشارب واللحية، ونتف الإبط، وقص الأظفار، وكذلك هو عند أهل التفسير، أنه الخروج من الإحرام إلى الحل، ولا يعرفهُ أهل اللغة إلا من التفسير، وقال ابن عمر: التفث: ما عليهم من الحج، وقال مرة: المناسك كلها، وقال مجاهد: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج: 29] نذر الحج والمشى، وما نذره من شىء يكون فى الحج. والبيت العتيق سمى بذلك؛ لأن الله أعتقه من الجبارة أن يصلوا إلى تخريبه، عن قتادة ومجاهد. وقال ابن زيد: سمى عتيقًا لقدمه؛ لأنه أول بيت وضع للناس، بناه آدم عليه السلام، وهو أول من بناه، ثم بَوَّا الله موضعه لإبراهيم بعد الغَرق، فبناه إبراهيم وإسماعيل، وقوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ) [الحج: 29] هو طواف الإفاضة المفترض، وسيأتى حكمه فى موضعه بعد هذا إن شاء الله.

(4/393)


2 - باب مَا يَأْكُلُ مِنَ الْبُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّقُ
وَقَالَ ابْن عُمَرَ: لا يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ، وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنَ الْمُتْعَةِ. / 162 - فيه: جَابِر، كُنَّا لا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاثِ، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (كُلُوا وَتَزَوَّدُوا) ، فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لا. / 163 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: ذَبَحَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ أَزْوَاجِهِ. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فيما يؤكل من الهدى، وما لا يؤكل، فكان ابن عمر يقول: لا يؤكل من جزاء الصيد، ولا من النذر، ويكل مما سوى ذلك، وروى مثله عن طاوس والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، وروينا عن الحسن قولا ثانيا: أنه لا بأس أن يأكل من جزاء الصيد، ونذر المساكين، وهو قول الحكم فى جزاء الصيد. وقال مالك: يؤكل من الهدى كله إلا جزاء الصيد، وفدية الأذى، ونذر المساكين، وهو قول طاوس وسعيد بن جبير، وذكر ابن المواز عن مالك أنه يأكل من الهدى النذر، إلا أن يكون نذره للمساكين، وكذلك ما أخرجه بمعنى الصدقة لا يأكل منه، وهدى التطوع إذا قصر عن بلوغ محله وعطب فلا يؤكل منه، وكان الأوزاعى يكره أن يؤكل من جزاء الصيد وفدية الكفارة، ويؤكل النذر وهدى التمتع والتطوع. وقال أبو حنيفة: يؤكل هدى القران والمتعة والتطوع، ولا يأكل سوى ذلك، وقال الشافعى: لا يأكل إلا هدى التطوع خاصة، ولا يأكل من المتعة والقران، لأنه عنده واجب، وهو قول أبى ثور، واحتج ابن القصار لقول مالك بقول الله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ

(4/394)


فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] ولم يخص واجبًا من تطوع، فهو عام فى جواز الأكل إلا بدلالة، وأيضًا فإن الإجماع حاصل على جواز الأكل من دم المتعة ولا نعلم أحدًا منعه قبل الشافعى. وقول عائشة: (فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر) يردّ قوله؛ لأنه لا خلاف أن لحم البقر التى نحر النبى عليه السلام عن أزواجه كانت هدى المتعة التى متعن، وقد أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يحمل إليهن منه ليأكلنه. قال المهلب: وإنما لم يجز الكل من جزاء الصيد لأنه غرم جناية، فإذا أكل منه لم يغَرم المثل الذى أوجب الله عليه، وفدية الأذى من هذا الباب، وأما نذر المساكين فإذا نذره فقد أوجبه لهم، فإذا اكل منه فلم ينفذ إليهم حقوقهم. واحتج الطحاوى لأبى حنيفة فقال: ظاهر قوله: (فكلوا منها وأطعموا) إباحة الأكل من جميع الهدايا إذ لم يُذكر فى ذلك خاص منها، واحتمل أن باطن الآية كظاهرها، واحتمل أن تكون على خلاف ظاهرها، فنظرنا فى ذلك، فوجدنا أهل العلم لا يختلفون فى هذى التطوه إذا بلغ محله؛ أنه مباح لمهديه الأكل منه وأنه ما دخل فى هذه الآية، وشهد بذلك السُنَن المأثورة، لأن النبى عليه السلام قد أكل من هديه فى حجته، وكانت تطوعًا، ووجدناهم لا يختلفون فى جزاء الصيد والنذر للمساكين أن مُهدِى ذلك لا يأكل منه وأنه غير ذا حل فى هذه الآية. واختلفوا فى هدى القران والمتعة وهدى الجماع، فنظرنا فى ذلك فكان هدى المتعة والقران بهدى التطوع أشبه منهما بما سوى ذلك من الهدايا إذا كان هاذان الهديان إنما يجبان بأفعال غير

(4/395)


منهى عنها كالهدى التطوع الذى يجب بفعل غير منهى عنه ولم يكن ذلك كهدى النذر؛ لأن هدى النذر إنما يكون شكر الشىء يراد به أن يكون جزاء له. كقول الرجل: إن بلغنى الله تعالى الحج فله على أن أهدى بدنة، فأشبهت العوض عن الأشياء التى تتعوض بهدى وكأن هدى الجماع بهدى جزاء الصيد أشبه منه بهدى التطوع؛ إذ كانت إصابة الصيد منهى عنها فى الإحرام، وإصابة الجماع كذلك فلم تجز أن يؤكل منها كما لا يجوز أن يؤكل من نظيرها من الهدايا، وأما هدى التطوع إذا عطب قبل محله، فقد اختلف أهل العلم فيه، فقالت طائفة: صاحبه ممنوع من الأكل منه. رُوى ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك وأبى حنيفة والشافعى، ورخصت طائفة فى الكل منه، روى ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر. قال المؤلف: وأما حديث جابر فهو مجمل كالآية. وفيه: جواز الأكل من الهدى دون تخصيص نوع منه بالمنع. وقد ذكرت أقوال العلماء فى الآية، واقتضى ذلك معنى الحديث. وقول جابر: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث. فقال النخعى: وكان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فأبيح للمسلمين الكل منها، وإنما منعوا من ذلك فى أول الإسلام من أجل الدافة فلما زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا ويدخروا. واختلف فى مقدار ما يأكل منها ويتصدق، فذكر علقمة أن ابن مسعود أمره أن يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويهدى ثلثه. وروى عن عطاء، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، وقال الثورى: يتصدق بأكثره. وقال أبو حنيفة: ما أحب أن يتصدق بأقل من الثلث.

(4/396)


3 - باب الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ
/ 164 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ، عليه السَّلام: (مَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ لا حَرَجَ، لا حَرَجَ) ، فَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: (لا حَرَجَ) ، قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: (لا حَرَجَ) . قَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ؟ قَالَ: (لا حَرَجَ) ، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ: (لا حَرَجَ) . / 165 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: (أَحَجَجْتَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. . . الحديث إلى قول عُمر: وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَإِنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ. سنّة الحاج أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر ثم ينحر، ثم يحلق رأسه، ثم يطوف طواف الإفاضة، وهو الذى يسميه أهل العراق: طواف الزيارة، وكذلك فعل النبى عليه السلام وهذا المعنى مقتضى حديث عمر فى حديث أبى موسى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يحل حتى بلغ، يريد أنه لم يحلق حتى نحر الهدى، وهذا معنى الترجمة، فمن قدم شيئًا عن رتبته فللعلماء فى ذلك أقوال: فذهب عطاء وطاوس ومجاهد إلى أنه إن قدم نسكًا قبل نسكٍ أنه لا حرج عليه، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال ابن عباس: من قدَّم من حجه شيئًا أو أخَّره فعليه دم. وهو قول الشعبى والحسن وقتادة. واختلفوا إذا حَلق قبل أن يذبح، فقال مالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا شىء عليه. وهو نص الحديث. وقال النخعى: عليه دم. وهو قول أبى حنيفة، قال: وكذلك إن كان قارنًا، والمراد بالمحل قوله تعالى: (وَلاَ تَحْلِقُوا

(4/397)


رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] المكان الذى يقع فيه النحر؛ فإذا بلغ محله جاز أن يحلق قبل الذبح. وقال زفر: إن كان قارنًا فعليه دمان لتقدم الحلاق. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شىء عليه. واحتجا بقوله عليه السلام: (لا حرج) وقول أبى حنيفة وزفر مخالف للحديث، فلا وجه له. واختلفوا فيمن طاف للزيارة قبل أن يرمى، فقال الشافعى: إن ذلك يجزئه ويرمى، على نص الحديث. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يرمى ثم يحلق رأسه، ثم يعيد الطواف؛ فإن رجع إلى بلده فعليه دم، ويجزئه طوافه، وهذا خلاف نص ابن عباس، وأظن مالكًا لم يبلغه الحديث، وفيه رَد لما كرهه مالك أن يسمى طواف الإفاضة: طواف الزيارة؛ لأن الرجل قال للنبى عليه السلام: (زرت قبل أن أرمى) فلم ينكر الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) عليه. واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد الرمى، فقال ابن عمر: يرجع فيحلق أو يُقَصِّر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض. وقالت طائفة: تجزئه الإفاضة ويحلق أو يقصر، ولا شىء عليه. هذا قول عطاء ومالك والشافعى، وقال مالك فى الموطأ: أحب إلىّ أن يهريق دمًا؛ لحديث ابن عباس. وأما إذا ذبح قبل أن يرمى، فقال مالك وجمماعة من العلماء: لا شىء عليه؛ لأن ذلك نص فى الحديث، والهدى قد بلغ محله، وذلك يوم النحر، كما لو لم يَنْحَر المعتمر بمكة هديًا ساقه قبل أن يطوف لعمرته. واختلفوا إذا قَدَّم الحلق على الرمى، فقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية، والحجة فيها أنه حرام عليه أن يمس من شعره شيئًا، أو يلبس، أو يمس طيبًا حتى يرمى جمرة العقبة، وقد حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

(4/398)


على من حلق رأسه قبل محله من ضرورةٍ بالفدية، فكيف من غير ضرورة؟ وجوزه الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بقول النبى عليه السلام فى التقديم والتأخير: (لا حرج) وسيأتى الكلام فيمن رمى جمرة العقبة بعد ما أمسى فى بابه إن شاء الله. وتأول الكوفيون فى وجوب الدم فيمن قَدَّم شيئًا من نسكه أن معنى قوله عليه السلام: (لا حرج) : لا إثم؛ لأنه عليه السلام كان يعلمهم مناسكهم، فأخبرهم أن الحرج الذى رفع عنهم هو لجهلهم لا لغير ذلك؛ لأنهم كانوا أعرابًا، لا على أنه أباح لهم عليه السلام التقديم والتأخير فى العمد. وهذا ابن عباس يوجب على من قَدَّم من نسكه شيئًا أو أَخَرَّه الدم، وهو أحد من روى الحديث عن النبى عليه السلام فلم يكن معنى ذلك عنده على الإباحة، وذهب عطاء إلى أن معنى قوله: (لا حرج) على العموم: لا شىء على فاعل ذلك من إثم ولا فدية. قال الطبرى: والدليل على صحة هذا أن النبى عليه السلام لم يسقط عنه الحرج فى ذلك إلا وقد أجزأه فعله، ولو لم يكن عنده مجزئا لأمره إما بالإعادة، وإما ببدل منه من فدية وجزاء، ولم يقل له: لا حرج؛ لأن الفدية إنما تلزم الحاج للحرج الذى يأتيه، فعلم بذلك أن من قَدَّم شيئًا من نسكه، فدخل وقته قبل شىء منه وأجزأه أنه لا يلزمه شئ. فإن ظن ظان أن فى قول الرجل للنبى عليه السلام: نحرتُ قبل أن أرمى ولم أشعر، دلالة على أنه لا يجوز ذلك للعامد، وأن عليه القضاء إن كان مما يُقضى، أو الفدية إن كان مما لا يُقضى، فقد ظن غير الصواب، وذلك أن الجاهل والناسى لا يضع الجهل والنسيان الحكم الذى يلزمه المعتمد فى وضع مناسك الحج غير مواضعها،

(4/399)


وإنما يضع الجهل والنسيان فى ذلك: الإثم، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن جاهلا من الحاج لو جهل ما عليه، فلم يرم الجمرات حتى انقضت أيام الرمى، أو أن ناسيًا نسى ذلك حتى مضت أيام الرمى، أن حكمهم فيما يلزمهما من الفدية حكم المعتمد، وكذلك تارك الوقوف بعرفة جاهلا أو ناسيًا حتى انقضى وقته، وكذلك سائر أعمال الحج سواءٌ فى اللازم من الفدية، والجاهل والعامد والناسى، وإن اختلفت أحوالهم فى الإثم، فكذلك مقدِّم شىء من ذلك ومؤخِّره، الجاهل والعامد فيه سواء؛ لأنه عليه السلام قال: (لا حرج) ولم يفصل بجوابه بين العالم والجاهل والناسى.
4 - باب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الإحْرَامِ وَحَلَقَ
/ 166 - فيه: حَفْصَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: (إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ) . / 167 - وَقَالَ ابْن عُمَرَ: حَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّتِهِ. التلبيد: أن يجعل الصمغ فى الغسول، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام، ليمنعه ذلك من الشعث، وجمهور العلماء على أن من لبد رأسه فقد وجب عليه الحلاق، كما فعل النبى عليه السلام وبذلك أمر الناس عمر بن الخطاب وابن عمر، وهو قول مالك والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وكذلك لو ضفر شعره أو عقصه كان حكمه حكم التلبيد؛ لأن الذى فعل: سنة التلبيد الذى أوجب النبى عليه السلام فيه الحلاق، وقال أبو حنيفة: من لبَّد رأسه أو ضفره؛ فإن قصر ولم يحلق أجزأه. وروى عن ابن عباس

(4/400)


أنه كان يقول: (من لبد أو عقص أو ضفر؛ فإن كان نوى الحلق فليحلق، وإن لم ينوه فإن شاء حلق، وإن شاء قصر) وفعل النبى عليه السلام أولى، وسيأتى فى كتاب اللباس قول عمر: (من ضفر فليحلق، ولا تشبهوا بالتلبيد) ومعناه إن شاء الله.
5 - باب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإحْلالِ
/ 168 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ) ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ) ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (وَالْمُقَصِّرِينَ) . / 169 - وفيه: [ابن عمر] حَلَقَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ. / 170 - وفيه: مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمِشْقَصٍ. هذا الموضع الذى قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا القول كان بالحديبية، ذكره ابن إسحاق عن الزهرى، عن عروة، عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا: (لما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الكتاب، أمر الناس أن ينحروا ويحلقوا، فوالله ما قام رجل؛ لما دخل فى قلوب الناس من الشَّرِّ، فقالها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثلاث مرات، فما قام أحد، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدخل على أم سلمة، فقال لها: (أما ترى الناس آمرهم بالأمر لا يفعلونه) ، فقالت: يا رسول الله، لا تَلُمهم؛ فإن الناس دخلهم أمر عظيم مما رأوك حملت على نفسك فى الصلح، فاخرج يا رسول الله لا تكلم أحدًا حتى تأتى هديك فتنحر وتحل؛ فإن الناس إذا رأوك فعلت ذلك فعلواه. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ففعل ذلك، فقام الناس فنحروا، فحلق بعض وقصر بعض، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم اغفر

(4/401)


للمحلفين، ثلاثًا، وقال فى الثالثة: وللمقصرين) . وذكر ابن إسحاق عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم ارحم المحلقين، ثلاثًا، قيل: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرات لهم فى الترحم؟ قال: (لأنهم لم يشكوا) . واختلف أهل العلم هل الحلاق نسك يجب على الحاج والمعتمر أم لا فقال مالك: هو نسك يجب على الحاج والمعتمر، وهو أفضل من التقصير، ويجب على من فاته الحج أو الحصر بِعَدوِّ أو بمرض. وهو قول جماعة من الفقهاء، إلا فى الحصر؛ فإنهم اختلفوا هل هو من النسك؟ فقال أبو حنيفة: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وهذا أمر النبى عليه السلام أصحابه بالحديبية حين صُدّ عن البيت بالحلاق وهم محصورون، فلا وجه لقوله. وقال الشافعى مرة: الحلاق من النسك. وقال مرة: الحلاق من الإحلال؛ لأنه ممنوع منه للإحرام. وقال غيره: من جعل الحلاق نسكًا أوجب على من تركه الدم، ومن جعله من باب الإحلال لم يوجب على من تركه شيئًا، ودعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمحلقين ثلاثًا دليل على أن الحلاق نسك، فلا وجه لإسقاط أبى حنيفة له عن المحصر. قال ابن القصار: والدليل على أنه نسك يجب عليه عند التحلل قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح: 27] فخص الحلق والتقصير من بين المباحات، ولم يقل: لابسين متطيبين، فُعلِم أن الحلاق نسك، وليس حكمه

(4/402)


حكم اللباس وغيره، وأيضًا فإنه دَعَا للمحلقين ثلاثًا، ولم يَدْعُ لهم على شىء من فعل المباحات مثل اللباس والطيب، ودعاؤه عليه السلام معه الثواب، فثبت أن الحلاق نسك؛ لأن الثواب يقع عليه، ولو كان أباحه من حَظْرٍ لم يستحق الدعاء والثواب عليه. واجمعوا أن النساء لا يحلقن، وأن سنتهن التقصير. قال المهلب: ووجه دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) للمحلقين ثلاثًا والله أعلم أن التحليق أبلغ فى العبادة، وأدل على صدق النية فى التذلل لله؛ لأن المفصر لشعره مبق لنفسه من الزينة التى أراد الله أن يأتيه المستجيبون لدعوته بالحج مبرئين منها، مظهرين للذلة والخشوع، مجانبين للطيب والتزين كله، شعثًا غبرًا، ومن ترك من شعره البعض فقد أبقى لنفسه من الزينة ما دل على أنه لم يتزين بالشعث والغبرة لله وحده، فأكد النبى عليه السلام الحض على الشعث والغبرة بالدعوة لمن آثرها على إبقاء الزينة لدنياه، ثم جعل له من الدعوة نصيبًا، وهو الربع، لئلا يخيب أحدًا من أمته من صالحٍ دعوتِهِ. وقال أبو عبيد: المِشْقَص: النصل الطويل، وليس بالعريض. قال أبو حنيفة الدينورى: المشقص: كل نصل فيه عين وكل ناتئ فى وسطه حديدة فهو عين ومنه عين الكتف والورقة.

(4/403)


6 - باب تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ
/ 171 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا، أَوْ يُقَصِّرُوا. وليس فيه أكثر من أن الحلاق أو التقصير لازم للمعتمر كما يلزم الحاج؛ لأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) المتمتعين عند الإحلال به.
7 - باب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ
قَالَتْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَخَّرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ، وذكَر ابْنِ عَبَّاسٍ، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنَّهُ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى. / 172 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَقِيلُ، ثُمَّ يَأْتِى مِنًى، يَعْنِى يَوْمَ النَّحْرِ. وَرَفَعَهُ عَبْدُالرَّزَّاقِ. / 173 - وفيه: عَائِشَةَ، حَجَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: (حَابِسَتُنَا هِيَ) ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: (اخْرُجُوا) ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] . وأجمع العلماء أن هذا الطواف هو الواجب: طواف الإفاضة؛ ألا ترى أن النبى عليه السلام لما توهم أن صفية لم تطف يوم النحر،

(4/404)


قال: (أحابستنا هى؟) فلما أخبر أنها قد طافت للإفاضة، قال: فلا إذًا. فأخبر أنه يجزئها عن غيره، فاستحب جميع العلماء طواف يوم النحر ثم يرجع إلى منى للمبيت والرمى، وذكر عبد الرزاق عن سعيد بن جبير: أنه كان إذا طاف يوم النحر لم يزد على سبع، وأخر، وعن طاوس مثله، وعن الحكم قال: أصحاب عبد الله لا يزيدون يوم النحر على سبع، وأخر. قال الحجاج: فسألت عطاء، فقال: طف كم شئت، ولا خلاف بين الفقهاء أن من أخر طوافه من يوم النحر، وطافه فى أيام التشريق أنه مؤد لفرضه، ولا شىء عليه. واختلفوا إن أخره حتى مضت أيام التشريق، فقال عطاء: لا شىء عليه. وهو قول أبى يوسف ومحمد والشافعى وأبى ثور، وقال مالك: إن عجله فهو أفضل، وإن أخره حتى مضت أيام التشريق، وانصرف من منى إلى مكة فلا بأس، وإن أخره بعد ما أنصرف من منى أيامًا، وتطاول ذلك فعليه دم. واختلفوا إذا آخره حتى رجع إلى بلده، فقال عطاء، ومالك، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يرجع فيطوف، لا يجزئه غيره. وروى عن عطاء قول ثان: وهو أن يأتى عامًا قابلاً بحجٍ أو عمرة. وقال ابن القاسم فى المدونة: ورواه ابن عبد الحكم عن مالك أن طواف الدخول يجزئه عن طواف الإفاضة لمن نسيهُ إذا رجع إلى بلده، وعليه دم. وروى ابن الماجشون ومطرف عن مالك أن طواف الدخول لا يجزئ عن طواف الإفاضة البتة، وإنما يجزئ عندهم عن طواف الإفاضة كل عمل يعمله الحاج يوم النحر وبعده فى حجته. وهو قول أبى حنيفة والشافعى، قال إسماعيل بن إسحاق: والحجة لذلك:

(4/405)


) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] ففرض الطواف بالبيت العتيق بعد قضاء التفث، وذلك طواف الإفاضة يوم النحر بعد الوقوف بعرفة، فإذا طاف تطوعًا أجزأه عن فرضه؛ لأنه جاء بطواف فى وقته. وقال ابن القصار: لما كان الإحرام بالحج إذا انعقد ناب تطوعه عن فرضه، كطواف الوداع ينوب عن طواف الفرض، ولو أوقع طواف تطوع ولم يعتقده طواف الإفاضة لناب عنه بلا خلاف. وقال ابن شعبة: إنما قالوا: يجزئه؛ لأن كل عمل يكون فى الحج ينوى به التطوع، ولم يكمل فرض الحج، فالفرض أولى به من النية التى نويت به، كالداخل فى صلاة بإحرام نواه بها، ثم صلى منها صدرًا، ثم ظن أنه قد فرغ منها، فصلى ما بقى على أنه تطوع عنده، فهو للفرض الذى ابتدأه ولا تضره نيته إذ لم يقطع الصلاة عمدًا. قال المهلب: وقد خص الله الحج بما لم يخص غيره من الفرائض وذلك قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) [البقرة: 197] الآية، فمن فرض الحج فى حرمه وشهوره فليس له أن ينتقل عما فرضه بنية إلى غيره حتى يتمه؛ لأن العمل على النية الأولى حتى يكملها، وهو فرضه؛ لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ألا ترى أن من وطئ بعد جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة، أن منهم من قال: يحج قابلا. ومنهم من قال: إن أحرم بعمرة وأهدى أجزأه ذلك. وهُم: ابن عباس وعكرمة وطاوس وربيعة، وفسره ابن عباس
فقال: إنما (يفي من أمره) أربعة أميال، فيحرم من التنعيم أربعة أميال، فيكون طواف مكان طواف، وهذا طواف عمرة يجزئه عن طواف

(4/406)


فريضة، وكذلك القارن يجزئه طواف واحد وسعى واحد لعمرته وحجته، للسُنَّة الثابتة عن عائشة وابن عمر عن النبى عليه السلام والعمرة تطوع.
8 - باب إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلا
/ 174 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قِيلَ لَهُ فِى الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْىِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، فَقَالَ: (لا حَرَجَ) . أجمع العلماء أن الاختيار فى رمى جمرة العقبة يوم النحر من طلوع الشمس إلى زوالها، وأنه إن رمى قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه، إلا مالكًا فإنه يستحب له أن يهريق دمًا يجئ به من الحل. واختلفوا فيمن رمى من الليل أو من الغد، فقال مالك: عليه دم. وهو قول عطاء والثورى وإسحاق، وقال مالك فى الموطأ: من نسى جمرة من الجمار أيام منى حتى يمسى، يرميها أى ساعة ذكرها من ليل أو نهار ما دام بمنى، كما يصلى الصلاة أى ساعة ذكرها من ليل أو نهار. ولم يذكر دمًا، ومرة لا يرى عليه ذلك، وقال أبو حنيفة: إن رماها من الليل فلا شىء عليه، وإن أخرها إلى الغد فعليه دم. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: لا شىء عليه وإن أخرها إلى الغد. واحتجوا

(4/407)


بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا حرج) للذى قال له: رميت بَعْد ما أمسيت. وأيضًا فإن النبى عليه السلام أرخص لرعاء الإبل فى مثل ذلك، يرعون بالنهار ويرمون بالليل، وما كان ليرخص لهم فيما لا يجوز، وحجة مالك أن النبى عليه السلام وقت لرمى جمرة العقبة وقتًا، وهو يوم النحر، فمن رمى بعد غروب الشمس فقد رمى بعد وقتها، ومن فعل فى الحج شيئًا بعد وقته فعليه دم، وقد تقدم اختلافهم فى رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر، أو قبل طلوع الشمس من يوم النحر لأهل العذر وغيرهم فى باب (من قدم ضعفة أهله بالليل) فأغنى عن إعادته. وأما قوله: ناسيًا أو جاهلا، فإن العلماء لم يفرقوا بين الجاهل والعامد فى أمور الحج، وقد تقدم الاختلاف فيمن حلق قبل أن يذبح فى باب (الذبح قبل الحلق) فأغنى عن إعادته. فإن قال قائل: ما معنى قول القائل للنبى عليه السلام: (رميت بعد ما أمسيت) وهذا يوهم أنه كان السؤال له عليه السلام بعد انقضاء المساء، وهذا حديث عبد الله بن عمرو فى الباب بعد هذا أنه وقف النبى عليه السلام على ناقته يوم النحر للناس يسألونه، وذكر الحديث. فالجواب: أن العرب تسمى ما بعد الزوال: مساءً وعشاءً ورواحًا، وهو مشهور فى لغتهم، روى مالك عن ربيعة، عن القاسم بن محمد أنه قال: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشى. وإنما يريد تأخيرها إلى ربع القامة، وتمكن الوقت فى شدة الحر، وهو وقت الإبراد الذى أمر به عليه السلام.

(4/408)


9 - باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ
/ 175 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَفَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: (اذْبَحْ وَلا حَرَجَ. . .) ، الحديث. وقد تقدم هذا التبويب فى كتاب العلم، وأن معناه أنه يجوز أن تسأل العالم وإن كان مشتغلا بطاعة الله تعالى وقد أجاب السائل وقال له: (لا حرج) وكل ذلك طاعة لله تعالى.
0 - باب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى
/ 176 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا) ؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: (فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا) ؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: (فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا) ؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا) ، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) مرتين. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، (فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) . وَقَالَ جَابِر بْنَ زَيْدٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ. / 177 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، خَطَبَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ النَّحْرِ. . . فذكر مثله سواء. / 178 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِمِنًى: (أَتَدْرُونَ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا) ؟ . . . الحديث.

(4/409)


وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ: أَخْبَرَنا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَفَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِى الْحَجَّةِ الَّتِى حَجَّ، بِهَذَا، وَقَالَ: (هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأكْبَرِ) ، فَطَفِقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) ، فَوَدَّعَ النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ. اختلف الناس فى خُطب الحج، فكان مالك يقول: يخطب الإمام فى اليوم السابع قبل يوم التروية بيوم، ويخطب ثانى يوم النحر، وهو يوم القر، سمى بذلك؛ لأن الناس يستقرون فيه بمنى. وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، ووافقهم الشافعى فى خطبة اليوم السابع يأمرهم بالغدو إلى منى، وخطبة يوم عرفة بعد الزوال، وخالفهم فقال: يخطب يوم النحر بعد الظهر، يعلم الناس فيها النحر والرمى والتعجيل لمن أراد، وخطبة رابعة: ثالث يوم النحر بعد الظهر، وهو يوم النفر الأول، يودع الناس ويعلمهم أن من أراد التعجيل فذلك له، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله وطاعته. واحتج الشافعى بخطبة يوم النحر بحديث ابن عباس وابن عمر وأبى بكرة (أن النبى عليه السلام خطب يوم النحر) قال الشافعى: وبالناس حاجة إلى هذه الخطبة ليعلمهم المناسك، وإن علمهم النحر والإفاضة إلى مكة للطواف والعود إلى منى للمبيت بها، فوجب أن يكون ذلك سُنة. وقال ابن القصار: أما خطبة يوم النحر فإنه عليه السلام إنما وقف للناس فقال: أى يوم هذا؟ وأى شهر هذا؟ وأى بلد هذا؟ فعرفهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم حرام، وأمرهم بتبليغ ذلك لكثرة اجتماعهم من أقاصى الأرض، فظن أنه خطب. وقال الطحاوى: لم تكن هذه الخطبة من أسباب الحج؛ لأنه عليه

(4/410)


السلام ذكر فيها أمورًا لا يصلح لأحد بعده ذكرها، والخطبة إنما هى لتعليم الحج، ولم ينقل أحد عنهم أنه علمهم يوم النحر شيئًا من سنن الحج، فعلمنا أن خطبة يوم النحر لم تكن للحج، وإنما كانت لما سواه. قال ابن القصار: وقوله: يحتاج أن يعلمهم النحر، فقد تقدم تعليمهم فى خطبته يوم عرفة، وأعلمهم ما عليهم فيه وبعده، وخطب ثانى النحر فأعلمهم ما بقى عليهم فى يومه وغده، وأن التعجيل يجوز فيه، وكذلك خطب قبل يوم التروية بيوم وهو بمكة، فكانت خطبه ثلاثًا، كل خطبة ليومين، وأما قول الشافعى أنه يخطب ثالث يوم النحر، مع اجتماعهم بأنها خطبة يأمر الإمام الناس فيها بالتعجيل إن شاءوا، ولما كان لم يختلفوا فيه أن الخطبة التى يأمر الإمام الناس فيها بالخروج إلى منى قبل الخروج إليها، كان كذلك الخطبة التى يأمرهم فيها بالتعجيل فى يومين قبل ذلك أيضًا. قال ابن الموّاز: الخطبة الأولى قبل التروية بيوم فى المسجد الحرام بعد الظهر لا يجلس فيها، والثانية بعرفة يجلس فى وسطها، والثالثة بمنى أول يومٍ من أيام التشريق، وهى بعد الظهر لا يجلس فيها، وهى كلها تعليم المناسك، ولا يجهر بالقراءة فى شىء من صلاتها. وقال الطبرى: معنى قوله عليه السلام: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) يريد أن دماء بعضكم وأمواله وأعراضه حرام على البعض الآخر، فأخرج الخبر عن تحريم ذلك على وجه الخطاب لهم؛ إذ كانوا أهل ملة واحدة، وكان جميعهم فيما لبعضهم على بعض من الحق فى معنى الواحد فيما لنفسه وعليه، وذلك نظير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [النساء: 29] والمعنى: لا يأكل بعضكم

(4/411)


مال بعض بالباطل، ولا يقتل بعضكم بعضًا، وذلك أن المؤمنين بعضهم إخوة بعض، فما أصاب أخاه من مكروه فكأنه المصاب به، ومثله قوله تعالى موبخًا لبنى إسرائيل الذين كانوا بين ظهرانى المسلمين فى قتل بعضهم بعضًا من ديارهم: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) [البقرة: 84] فأخرج الخبر عن قتل بعضهم لبعض على وجه الخبر عن أنفسهم، وفيه البيان عن أن الله حرم من مال المسلم وعرضه نظير الذى حرم من دمه، وسوَّى بين جميعه فلا يستحل ماله، وكذلك قال ابن مسعود فى خطبته: حُرمة مال المسلم كحرمة دمه. فإن قال قائل: فإنك تستحل سفك دماء أقوام من المسلمين وأنت لأموالهم محرم، وذلك كقطاع الطريق والخوارج ومن يجب قتله بحدٍّ لزمه. قيل: أما هؤلاء فإنما لزم الإمام سفك دمائهم إقامة لِحدِّ الله الذى وجب عليهم، وليس ذلك استحلالا لزمه من الوجه الذى سوَّى الله بينه وبين ماله وعرضِه فى الحرمة، وإنما ذلك عقوبة لجرمه دون ماله، كما أمر بعقوبة آخر فى ماله دون بدنه، وليس إلزامه الدية استحلالا لماله من الوجه الذى سوَّى بينه وبين دمه وماله، وإنما الوجه الذى سَوّى بين حُرمة جميع ذلك فى ألا يتناول شيئًا منه بغير حق، فحرام أن يُغتابَ أحدٌ بسوءٍ بغير حق، وكذلك مَالُهُ؛ أخذُ شىء منه حرام بغير حق كتحريم دمه. وأما قوله عليه السلام: (لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) فإنه قد تقدم منه عليه السلام إلى أمته بالثبوت على الإسلام، وتحريم بعضهم من بعض على نفسه سفك دمه، ما أقاموا

(4/412)


على الإسلام، فإن ظن ظان أن ذلك حكم من النبى (صلى الله عليه وسلم) لضارب رقبة أخيه المسلم بالكفر، فقد أعظم الغفلة وأفحش الخطأ، وذلك أنه لا ذنب يوجب لصاحبه الكفر مع الإقرار بالتوحيد والنبوة إلا بذنب يركبه صاحبه على وجه الاستحلال مع العلم بتحريمه، فأما إذا ركبه معتقدًا تحريمه، فإن ذلك معصية لله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهو بذلك الذنب آثم، ومن ملة المسلمين غير خارج؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) [النساء: 48] فإن قال قائل: فما معنى قوله عليه السلام: (لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) إذ كان لهم الرجوع وهو حى بينهم كفارًا، فيشترط فى نهيه النهى عن ذلك بعده؟ قيل: لذلك وجوه مفهومة: أحدها: أن يكون قال لهم: (لا ترجعوا بعدى كفارًا) لأنه قد علم أنهم لا يفعلون ذلك وهو فيهم حى، فقال لهم: لا تفعلوه بعد وفاتى، فأما قبل وفاتى فقد علمت أنكم لا تفعلونه بإعلام الله ذلك. والثانى: أن يكون عنى بقوله: (بعدى) بعد فراقى من موقفى هذا. والثالث: أن يكون عنى بقوله: (بعدى) خلافى، فيكون معنى الكلام: لا ترجعوا خلافى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فتخلفونى فى أنفسكم بغير الذى أمرتكم به.
1 - بَاب هَلْ يَبِيتُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ وَغَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى
/ 179 - فيه: ابْن عُمَرَ، رخص النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للعباس لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ.

(4/413)


قال ابن المنذر: السنة أن يبيت الناس بمنى ليالى أيام التشريق إلا من أرخص له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك؛ فإنه أرخص للعباس أن يبيت بمكة من أجل سقايته، وأرخص لرعاء الإبل، وأرخص لمن أراد التعجيل أن ينفر فى النفر الأول. واختلف الفقهاء فيمن بات ليلةً بمكة من غير من رُخِّصَ له، فقال مالك: عليه دم. وقال الشافعى: إن بات ليلة أطعم عنها مسكينًا، وإن بات ليالى منى كلها أحببتُ له أن يُهريق دمًا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا شىء عليه إن كان يأتى منى ويرمى الجمار. وهو قول الحسن البصرى، قالوا: ولو كانت سُنَّة ما سقطت عن العباس وآله، وإنما هو استحباب، وحسبه إذا رمى الجمار فى وقتها، وقد روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا بأس أن يبيت الرجل بمكة ليالى منى، ويظل إذا رمى الجمار. وحجة من أوجب الدم أن الرخصة فى ذلك إنما هى تخصيص من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل السقاية، ولمن أذن له دون غيرهم.
2 - باب رَمْىِ الْجِمَارِ
وَقَالَ جَابِرٌ: رَمَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ. / 180 - فيه: وَبَرَةَ، سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ مَتَى أَرْمِى الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا. قول جابر: (رمى النبى يوم النحر ضُحى) فإنما يريد جمرة العقبة، لا يرمى يوم النحر غيرها، وقوله: (ثم رمى بعد ذلك بعد

(4/414)


الزوال) فإنه يعنى رمى الجمار أيام التشريق، وممن رماها بعد الزوال: عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن الزبير، ولذلك قال ابن عمر: كنا نتحين؛ فإذا زالت الشمس رمينا. وهذه سنة الرمى أيام التشريق الثلاثة، لا تجوز إلا بعد الزوال عند الجمهور، منهم: مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، ولكنا استحسنا أن يكون فى اليوم الثالث قبل الزوال. وقال إسحاق: إن رمى فى اليوم الأول والثانى قبل الزوال أعاد، وفى اليوم الثالث يجزئه. وقال عطاء وطاوس: يجوز فى الأيام الثلاثة قبل الزوال. وحديث جابر وابن عمر يرد هذا القول، والحجة فى السنة، فلا معنى لقول من خالفها، ولا لمن استحب غيرها، واتفق مالك وأبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور إذا مضت أيام التشريق وغابت الشمس من آخرها، فقد فات الرمى، ويجبر ذلك بالدم.
3 - باب رَمْىِ الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى
/ 181 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ: وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، هَذَا مَقَامُ الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. رمى الجمرة من حيث تيسر من العقبة، من أسفلها أو أعلاها أو أوسطها، كل ذلك واسع، والموضع الذى يختار منها بطن الوادى؛ من أجل حديث ابن مسعود، وكان جابر بن عبد الله يرميها من بطن الوادى، وبه قال عطاء وسالم، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، وقال مالك: يرميها من أسفلها أحب إلى. وقد روى عن

(4/415)


عمر بن الخطاب أنه خاف الزحام عند الجمرة، فصعد فرماها من فوقها.
4 - باب رَمْىِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ
/ 182 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ، وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وترجم له باب: (من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره) . اتفقت الأمة على أن رمى كل جمرة بسبع حصيات فقد أحسن، واختلفوا إذا رماها بأقل من سبع، فذكر الطبرى عن عطاء أنه إن رمى بخمس أجزأه، وعن مجاهد: إن رمى بست فلا شىء عليه، وذكر ابن المنذر أن مجاهدًا احتج بحديث سعد بن أبى وقاص قال: (رجعنا مع النبى عليه السلام وبعضنا يقول: رميت بست، وبعضنا يقول: رميت بسبع، فلم يَعِبْ بعضهم على بعض) وبه قال أحمد وإسحاق، وعن طاوس إن رمى ستًا يطعم تمرة أو لقمة. وذكر الطبرى قال: قال بعضهم: لو ترك رمى جميعهن بعد أن يكبر عند كل جمرة بسبع تكبيرات أجزأه ذلك. وقال: إنما جعل الرمى فى ذلك بالحصى سببًا لحفظ التكبيرات السبع، كما جعل عقد الأصابع بالتسبيح سبًا لحفظ العدد. وذكر عن يحيى بن سعيد أنه سئل عن الخرز والنوى يسبح به، فقال: حسن، قد كانت عائشة زوج النبى عليه السلام تقول: إنما الحصى للجمار ليحفظ به التكبير. وقال

(4/416)


الشافعى وأبو ثور: إن بقيت عليه حصاة فعليه مُد من طعام، وفى حصاتين مُدَّان، وإن بقيت ثلاث فأكثر فعليه دم. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن ترك أقل من نصف جميع الجمرات الثلاث، فعليه فى كل حصاة نصف صاع من طعام إلا أن يبلغ ذلك دمًا، فيطعم ما شاء ويجزئه، وإن كان ترك أكثر من نصف جميع الجمرات الثلاث فعليه دم، وعلتهم إجماع الجميع أنَّ على كل تارك رمى الجمرات الثلاث فى أيام الرمى حتى تنقضى: دمًا، فلما كان ذلك إجماعًا، كان الواجب أن يكون لترك رمى ما دون جميع الجمرات الثلاث من الدم بقسطه، وأن يكون ذلك مردودًا إلى القيمة؛ إذ كان غير ممكن نسك بعض الدم، فجعلوا ذلك طعامًا، وجعلوا ما يعطى كل مسكين من ذلك قوت يومه، وجعلوا تارك ما زاد على نصف جميع الجمرات الثلاث بمنزلة تارك الجمرات كلها؛ إذ كان الحُكم عندهم للغلب، مع أن ذلك إجماع من الجميع. وقال الحكم وحماد: من نسى جمرة أو جمرتين أو حصاة أو حصاتين يهريق دمًا. وقال عطاء: من نسى شيئًا من رمى الجمار فذكر ليلا أو نهارًا فليرمى ما نسى، ولا شىء عليه، وإن مضت أيام التشريق فعليه دم. وهو قول الأوزاعى، وقال مالك: إن نسى حصاة من الجمرة حتى ذهبت أيام الرمى ذبح شاة، وإن نسى جمرة تامة ذبح بقرة. قال الطبرى: والصواب عندنا أن رمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، ورمى الجمرات الثلاث أيام التشريق الثلاثة كل جمرة منها بسبع حصيات من مناسك الحج التى لا يجوز تضييعها؛ لنقل الأمة جميعًا وراثة عن النبى عليه السلام أن رميهن كذلك مما عَلَّمَ

(4/417)


أمته، وقد جعل الله بيان مناسكه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعلم بذلك أنه من الفروض التى لا يجوز تضييعها، وعُلم أن من ترك شيئًا مما علمهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى فات وقته فعليه الكفارة؛ إذ كان قد نص فى محكم كتابه على وجوب ذلك فى تضييع بعض المناسك، فكان فى حكمه حكم ما لم ينص الحكم فيه، فمما نص الحكم فيه فى كتابه (الشعر) الذى تَقَدَّم إلى عباده فى ترك حلقه أيام إحرامهم بقوله: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] ثم جعل فى حلقه قبل وقته المباح لمرض أو أذى فديةً من طعام أو صدقة أو نسك، وكذلك أوجب فى قاتل الصيد فى الإحرام الكفارة، فمثل ذلك حكم كل مضيع شيئًا من مناسك الحج عليه الكفارة والبدل، وإن اختلفت الكفارات فى ذلك إلا أن ينص الله على وضع شىء من ذلك عن فاعله، ولما ثبت أن كل جمرة منها فرض، بينا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان منقولا عنه وِرَاثة أن من ضيع رميهن حتى تنقضى أيام التشريق الثلاثة عليه فدية شاة يذبحها ويتصدق بها، كان على تارك بعضها ما على تارك جميعها، كما حكم تارك شوط واحد من السبعة الأشواط فى طواف الإفاضة يوم النحر حكم تارك الأشواط السبعة فيما يلزمه. واختلفوا فيمن رمى سبع حصيات فى مرة واحدة، فقال مالك والشافعى: لا يجزئه إلا عن حصاةٍ واحدة، ويرمى بعدها سِتا. وقال عطاء: يجزئه عن السبع رميات. وهو قول أبى حنيفة؛ لأنه لو وجب عليه الحد فلا فرق أن يقام عليه الحد سوطًا أو سياطًا مجموعة فإنه يسقط عنه الفرض إذا علم وصول الكل إلى بدنه، كذلك الرمى. قال ابن القصار: والحجة لمالك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رمى بحصاةٍ بعد حصاة وقال: (خذوا عنى مناسككم) فوجب امتثال فعله، ونحن لا نجيز

(4/418)


ضربه إلا بسوط بعد سوط؛ لأنه لا يكون ألم الكل فى ضربةٍ كألمه سوطًا بعد سوط، فالعدد فى الحد معتبر، وفى الرمى معتبر. وقال ابن المنذر: إذا جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، فهو مستقبل للجمرة بوجهه وهى السنة، ولذلك ترجم باب (من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره) .
5 - باب يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ
قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 183 - فيه: الأعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: السُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لإبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا، فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، قَامَ الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. والسنة أن يكبر مع كل حصاة كما فعل عليه السلام، وعمل بذلك الأئمة بعده، وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر، وهو قول مالك والشافعى، وكان على يقول كلما رمى حصاة: اللهم اهدنى بالهدى، وقنى بالتقوى، واجعل الآخرة خيرًا لى من الأولى. وكان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند ذلك: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.

(4/419)


وأجمعوا أنه إن لم يكبر فلا شىء عليه، وفى هذا الحديث رد على من يقول: إنه لا يجوز أن يقال: سورة البقرة، ولا سورة آل عمران كما قال الحجاج، وقد سبقه إلى ذلك من السلف وقالوا: إذ قال: سورة البقرة، وسورة آل عمران، فقد أضاف السورة إلى البقرة، والبقرة لا سورة لها، وإنما الصواب أن يقال: السورة التى يذكر فيها البقرة، واحتج النخعى عن الأعمش بقول ابن مسعود، عن النبى عليه السلام: (الذى أنزلت عليه سورة البقرة) وقال أهل العلم بكتاب الله: ليست هذه إضافة ملك، ولا إضافة نوع إلى جنسه، وإنما هى إضافة لفظ بمنزلة قولك: باب الدار، وسرج الدابة، ومثل قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير: 19] فأضاف القول إلى جبريل الذى نزل به من عند الله تعالى وهذا من اتساع لغة العرب تضيف الشىء إلى من له فيه أقل سبب، وقد ترجم البخارى لهذا المعنى فى كتاب فضائل القرآن فقال: باب من لم ير بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا، خلافًا للحجاج ولمن أنكر ذلك قبله.
6 - باب مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يَقِفْ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
/ 184 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ يَرْمِى جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَفْعَلُهُ.

(4/420)


جمرة العقبة فى هذا الحديث هى الجمرة الثالثة من الجمار التى تُرمى كل يوم من أيام التشريق، تُرمى فى المكان الذى رميت فيه جمرة العقبة يوم النحر، ولا يقف عند هذه الجمرة الثالثة إذا رماها كما يقف عند الأولى والثانية، وكذلك وردت السنة، وروى عن عمر ابن الخطاب أنه كان يفعله، وذكر البخارى عن ابن عمر أنه كان يفعله.
7 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى
/ 185 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِى الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ. وترجم له باب: (الدعاء عند الجمرتين) . الجمرة الدنيا: هر الجمرة الأولى من أول أيام التشريق، وهن ثلاث جمرات فى كل يوم من الثلاثة الأيام جمرة، فالجمرة الأولى مسجد منى، والوسطى عند العقبة الأولى بقرب مسجد منى أيضًا، يرميها ويقف طويلا ويدعو، ويرمى الثالثة عند العقبة حيث رمى يوم النحر، يرميها ولا يقف على ما ثبت فى الحديث، وروى الثورى، عن عاصم الأحول، عن أبى مجلز قال: كان ابن عمر يشبر ظله

(4/421)


ثلاثة أشبار، ثم يرمى، وقام عند الجمرتين قدر سورة يوسف. وقال عطاء: كان ابن عمر يقف عندها بمقدار ما يقرأ سورة البقرة. قال ابن المنذر: ولعله قد وقف مرتين كما قال أبو مجلز، وكما قال عطاء، ولا يكون اختلافًا وكان ابن عباس يقف بقدر قراءة سورة من المائتين، ولا توقيف فى ذلك عند العلماء، وإنما هو ذكر ودعاء، فإن لم يقف ولم يدع فلا حرج عليه عند أكثر العلماء إلا الثورى؛ فإنه استحب أن يطعم شيئًا أو يهريق دمًا، والسنة أن يرفع يديه فى الدعاء عند الجمرتين، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا أنكر غير مالك؛ فإن ابن القاسم حكى عنه أنه لم يكن يعرف رفع اليدين هنالك، قال ابن المنذر: واتباع السنة أفضل.
8 - باب الطِّيبِ بَعْدَ رَمْىِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الإفَاضَةِ
/ 186 - فيه: عَائِشَةَ، طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدَىَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا. قال ابن المنذر: واختلف العلماء فيما أبيح للحاج بعد رمى جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت، فروى عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنه يحل له كل شىء إلا النساء، وهو قول سالم وطاوس والنخعى، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بحديث عائشة فى إباحة الطيب لمن رمى جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة، وقالوا: سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حجة على من خالفها. قال ابن المنذر: قولها: (ولحلِّه) يدل أنه حلال من كل شىء إلا النساء، الذى دل على المنع منه الخبر والإجماع، وروى عن عمر بن الخطاب وابنه أنه يحل له كل شىء إلا النساء والطيب.

(4/422)


قال مالك: يحل له كل شىء إلا النساء والصيد. ذكره ابن المواز، وقال فى المدونة: أكره لمن رمى جمرة العقبة أن يتطيب حتى يفيض؛ فإن فعل فلا شىء عليه لما جاء فيه. فعلى هذا القول الصحيح من مذهب مالك أنه يحل له كل شىء إلا النساء والصيد. واحتج ابن القصار لمالك فى تحريم الصيد على من لم يفض بقوله: (لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95] وليس إذا أحل له الحلق يخرج عن كونه محرمًا؛ لأن الحلق والطيب واللباس قد أبيح على وجه، ولم يخرج بذلك عن كونه محرمًا، فلذلك يحل له بعد الرمى أشياء، ويبقى عليه تحريم أشياء وهو محرم، وقوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة: 2] فاقتضى الإحلال التمام، وألا يبقى شىء من الإحرام بعد افحلال المطلق، ومن بقيت عليه الإفاضة فلم يحلل الإحلال التام، ومثله قوله تعالى: (وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4] فلو وضعت واحدًا وبقى فى بطنها آخر لم تكن قد وضعت الوضع التام؛ لأن الرجعة قبل وضعها الثانى تصح. واحتج الطحاوى لأصحابه بما رواه عن على بن معبد، حدثنا يزيد ابن هارون، حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شىء إلا النساء) وبما روى سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العُرَنى، عن ابن عباس قال: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شىء إلا النساء، فقال له رجل: والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

(4/423)


يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب هو؟) . وروى أفلح بن حميد، عن أبى بكر بن حزم قال: دعانا سليمان بن عبد الملك يوم النحر، أرسل إلى عمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم وخارجة بن زيد وعبد الله بن عبد الله ابن عمر وابن شهاب فسألهم عن الطيب فى هذا اليوم قبل الإفاضة، فقالوا: تطيب يا أمير المؤمنين. قال ابن المنذر: واختلفوا فيمن جامع بعد رمى الجمرة يوم النحر قبل الإفاضة، فروى عن ابن عمر أن عليه حجة قابل، وعن الحسن والنخعى والزهرى مثله. وقال النخعى والزهرى: وعليه الهدى مع حج قابل. وقال ربيعة ومالك: يعتمر من التنعيم ويهدى. وقال أحمد وإسحاق: يعتمر من التنعيم. وقال ابن عباس: عليه بدنة، وحَجُّهُ تام. وعن عطاء والشعبى مثله، وهو قول الكوفيين والشافعى وأبى ثور.
9 - باب طَوَافِ الْوَدَاعِ
/ 187 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ. / 188 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ. طواف الوداع لكل حاج ومعتمر، لا يكون مكيًا، من سنن الحج وشعائره، قال مالك: وإنما أمر الناس أن يكون آخر نسكهم الطواف بالبيت؛ لقول الله: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32] وقال: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33] .

(4/424)


قال مالك: ومن أخر طواف الإفاضة إلى أيام منى فإن له سعة أن يصدر إلى بلده وإن لم يطف بالبيت إذا أفاض. واختلفوا فيمن خرج ولم يطف للوداع، فقال مالك: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن لم يرجع فلا شىء عليه. وقال عطاء والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن تباعد مضى وأهراق دمًا. وحجتهم فى إيجاب الدم قول ابن عباس: من نسى من نسكه شيئًا فليهريق دمًا. والطواف نسك، وحجة مالك أنه طواف أسقط عن المكى والحائض، فليس من السنن اللازمة، والذمة بريئة إلا بيقين، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى هذا الباب الذى بعد هذا إن شاء الله. واختلفوا فى حد القُرْب، فروى أن ابن عمر رَدَّ رجلا من مَرّ الظهران لم يكن ودع، وبين مَرّ الظهران ومكة ثمانية عشر ميلا، وهذا بعيد عند مالك، ولا يُرد أحد من مثل هذا الموضع، وعند أبى حنيفة: يرجع ما لم يبلغ المواقيت، عند الشافعى: يرجع من مسافة لا تقصر فيها الصلاة، وعند الثورى: يرجع ما لم يخرج من الحرم. واختلفوا فيمن وَدَّع ثم بدا له فى شراء حوائجه، فقال عطاء: يعيد حتى يكون آخر عمله الطواف بالبيت. وبنحوه قال الثورى والشافعى وأحمد وأبو ثور. قال مالك: لا بأس أن يشترى بعض حوائجه وطعامه فى السوق، ولا شىء عليه، وإن أقام يومًا أو بعضه أعاد. وقال أبو حنيفة: لو ودع وأقام شهرًا أو أكثر أجزأه، ولم يكن عليه إعادة. وهذا خلاف حديث ابن عباس: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت) .

(4/425)


0 - باب إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ
/ 189 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَحَابِسَتُنَا هِىَ) ؟ قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ: (فَلا إِذًا) . / 190 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ. / 191 - وفيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول، عليه السَّلام، وَلا نَرَى إِلا الْحَجَّ. . . فذكر الحديث فَحَاضَتْ هِىَ، فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ غَيْرِى؟ قَالَ: (مَا كُنْتِ تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ لَيَالِىَ قَدِمْنَا) ؟ قُلْتُ: بلى، وَقَالَ مُسَدَّدٌ: لا. وَتَابَعَهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ فِى قَوْلِهِ: لا، قَالَ: (فَاخْرُجِى مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى بِعُمْرَةٍ) ، وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (عَقْرَى حَلْقَى، أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ) ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: (فَلا بَأْسَ انْفِرِى) . معنى هذا الباب أن طواف الوداع ساقط عن الحائض؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما أُخبر عن صفية أنها حاضت، قال: (أحابستنا هى؟) فلما أُخبر أنها قد أفاضت قبل أن تحيض، قال: (فلا إذًا) وهو قول عوام أهل العلم، وخالف ذلك طائفة فقالوا: لا يحل لأحد أن ينفر حتى يطوف طواف الوداع، ولم يعذروا فى ذلك حائضًا بحيضها. ذكره الطحاوى. قال ابن المنذر: روى ذلك عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر، فقد روينا عنهم الرجوع، وقول عمر بن الخطاب يَرُدُّه الثابت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر الحائض أن تنفر بعد الإفاضة، ومن هذا الحديث. قال مالك: لا شىء على من ترك طواف الوداع حتى يرجع إلى بلاده لسقوطه عن الحائض. وفيه رد لقول عطاء والكوفيين

(4/426)


والشافعى ومن وافقهم، أن من لم يودع البيت فعليه دم، وقولهم خلاف حديث صفية، وفى قوله: (أحابستنا هى؟) دليل أن طواف الإفاضة يحبس الحائض بمكة، لا تبرح حتى تطوف للإفاضة؛ لأنه الطواف المفترض على كل من حج، وعلى هذا أئمة أهل العلم. قال مالك: إذا حاضت المرأة بمنى قبل أن تفيض حُبس عليها كَرِيُّهَا أكثر ما يحبس النساء الدم. قال ابن عبد الحكم: ويحبس على النساء أكثر ما يحبس النساء الدم فى النفاس، ولا حجة للكَرِىِّ أن يقول لم أعلم أنها حامل. قال مالك: وليس عليها أن تعينه فى العلف. وقال ابن المواز: لست أعرف حبس الكَرِىِّ، كيف يحبس وحده يعرض لقطع الطريق. وقال الشافعى: ليس على جَمَّالها أن يحبس عليها، ويقال لها: احملى مكانك مثلك. قال المؤلف: والصواب فى حديث عائشة رواية مسدد وجرير عن منصور فى قولها: (لا) وقد بان ذلك فى حديث أبى معاوية أنها قالت: (فحضت قبل أن أدخل مكة) وقال فليح: (فما كنا بسرف حضت، فقال عليه السلام: افعلى كما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت حتى تطهرى. قالت: فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فلما قدمنا طهرتُ، فخرجت من منى فأفضت بالبيت) . فدل هذا الحديث أن عائشة لم تكن متمتعة؛ لأنها لم تطف بالبيت حين قدمت مكة، كما طاف من فسخ حجه فى عمرة من أجل حيضتها، ولذلك قالت: (كل أصحابك يرجع بحجة وعمرة غيرى؟) فأمر أخاها أن يخرجها إلى التنعيم فتهل منه بعمرة لترجع بحجة وعمرة كما أرادت، ودل هذا أيضًا أنها لم تكن قارنة، ولو كانت قارنة لم تأسف على فوات العمرة، ولا قالت: (كل أصحابك يرجع بحجة وعمرة غيرى) فثبت أنها كانت مفردة بالحج.

(4/427)


وقوله: (عَقْرَى حَلْقى) فيه: جواز توبيخ الرجل أهله على ما يدخل على الناس بسببها، كما وبخ أبو بكر أيضًا عائشة فى قصة العِقْد.
1 - باب مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالأبْطَحِ
/ 192 - فيه: أَنَس، صَلَّى النَّبِىّ، عليه السَّلام، الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، قُلْتُ: وَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأبْطَحِ. افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. / 193 - قَالَ أَنَسًا أيضًا: صَلَّى النَّبِىّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ. قال ابن القاسم فى المدونة: إذا رمى آخر أيام منى فليخرج إلى مكة ولا يصلى الظهر بمنى، واستحب النزول بأبطح مكة وهو حيث المقبرة يصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم يدخل مكة أول الليل، كذلك فعل النبى عليه السلام وأُحب أن يفعل ذلك الأئمة ومن يُقتدى به. وربما قال مالك: ذلك واسع لغيرهم. وكان أبو بكر وعمر وعثمان ينزلون بالأبطح، وهو مستحب عند العلماء، إلا أنه عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين، وكلهم مجمعون أنه ليس من مناسك الحج، وهذه البطحاء هى المعرس، والأبطح والبطحاء: ما انبطح واتسع من بطن الوادى.

(4/428)


2 - باب الْمُحَصَّبِ
/ 194 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. يَعْنِى بِالأبْطَحِ. / 195 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَىْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . المُحَصَّب: هو الأبطح، وهو المعرس، وهو خيف منى المذكور فى حديث أبى هريرة (أن النبى عليه السلام قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غدًا إن شاء الله بخيف بنى كنانة) يعنى: المحصب. وقد ذكرنا فى الباب قبل هذا عن أبى بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا ينزلون به، وقال عمر بن الخطاب: حصبوا، يعنى: انزلوا بالمحصب، وكان ابن عمر ينزل به، وعن النخعى وطاوس مثله، واستحب النخعى وطاوس أن ينام فيه نومة، وقول عائشة وابن عباس: (إنما هو منزل نزله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يدل أنه ليس من مناسك الحج، وأنه لا شىء على من تركه، وهذا معنى قوله: ليس التحصيب بشىء. أى: ليس من المناسك التى تلزم الناس، وكانت عائشة لا تحصب ولا أسماء، وهو مذهب عروة. قال الطحاوى: لم يكن نزوله عليه السلام بالمحصب لأنه سنة، وقد اختلف فى معناه، فقالت عائشة: ليكون أسمح لخروجه. قال المؤلف: يريد للمدينة ليستوى فى ذلك البطئ والمعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم فى السحر، ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة. وروى عن أبى رافع أنه قال: (أمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أضرب له الخيمة،

(4/429)


ولم يأمرنى بمكان بعينه، فضربتها بالمحصب) رواه سفيان، عن صالح ابن كيسان، عن سليمان بن يسار، عن أبى رافع. وروى ابن أبى ذئب عن شعبة، أن ابن عباس قال: إنما كانت الحصبة؛ لأن العرب كانت يخاف بعضها بعضًا، فيرتادون فيخرجون جميعًا، فجرى الناس عليها.
3 - باب النُّزُولِ بِذِى طُوًى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ
وَالنُّزُولِ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِى بِذِى الْحُلَيْفَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ / 196 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ يَبِيتُ بِذِى طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِى بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا لَمْ يُنِخْ نَاقَتَهُ إِلا عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَدْخُلُ، فَيَأْتِى الرُّكْنَ الأسْوَدَ فَيَبْدَأُ بِهِ، ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا ثَلاثًا سَعْيًا وَأَرْبَعًا مَشْيًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ إِذَا صَدَرَ عَنِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِى بِذِى الْحُلَيْفَةِ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُنِيخُ بِهَا. / 197 - وسُئِلَ عُبَيْدُاللَّهِ عَنِ الْمُحَصَّبِ، فَحَدَّثَنَا عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ. وكَانَ ابْن عُمَرَ يُصَلِّى بِهَا، يَعْنِى

(4/430)


بالْمُحَصَّبَ، الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، أَحْسِبُهُ قَالَ: وَالْمَغْرِبَ. قَالَ خَالِدٌ: لا أَشُكُّ فِى الْعِشَاءِ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. النزول بذى طوى قبل أن يدخل مكة، والنزول بالبطحاء التى بذى الحليفة عند رجوعه، ليس شيئًا من سنن الحج ومناسكه، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها.
4 - باب مَنْ نَزَلَ بِذِى طُوًى إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ
/ 198 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ إِذَا أَقْبَلَ بَاتَ بِذِى طُوًى حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ دَخَلَ، وَإِذَا نَفَرَ، مَرَّ بِذِى طُوًى وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وهذا أيضًا ليس من مناسك الحج، وإنما فيه استحباب دخول مكة نهارًا، وهو مذهب ابن عمر، واستحبه النخعى ومالك وإسحاق، وكانت عائشة تدخل مكة ليلا، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير، وقال عطاء والثورى: إن شئت دخلتها نهارًا، وإن شئت دخلتها ليلا. قال ابن المنذر: وقد دخلها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليلا حين اعتمر من الجعرانة.
5 - باب التِّجَارَةِ فِى أَيَّامَ الْمَوْسِمِ وَالْبَيْعِ والشِراء فِى أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ
/ 199 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: 198] فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ.

(4/431)


ذكر إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد ابن زياد، حدثنا العلاء بن المسيب، عن أبى أمامة التيمى قال: (كنت أكرى فى هذا الوجه وكان ناس يقولون: إنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر فسألته، فقال: أليس تحرم وتلبى، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمى الجمار؟ قلت: بلى. قال: فإن لك حجًا، وإن رجلا سأل النبى عليه السلام عن مثل ما سألتنى عنه، فسكت عنه عليه السلام حتى نزلت هذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) [البقرة: 198] . وقال مجاهد فى هذه الآية: أحلت لهم التجارة فى المواسم، وكانوا لا يبيعون ولا يبتاعون بعرفة ولا بمنى فى الجاهلية. وقال قتادة: كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا ولم يتعرجوا على كسير ولا ضالة، فأحل الله لهم ذلك فأنزل الآية. وقال الطحاوى: أخبر ابن عباس أن هذه الآية نسخت ما كانوا عليه فى الجاهلية من ترك التبايع فى الحج، وأنهم كانوا لا يخلطونه بغيره، فأباحهم تعالى التجارة فى الحج وابتغاء فضله، ولم يكن ما دخلوا فيه من حرمة الحج قاطعًا لهم عن ذلك. ودل ذلك على أن الداخل فى حرمة الاعتكاف لا بأس عليه أن يتجر فى مواطن الاعتكاف منه، كما لم تمنعه حرمة الحج منه. وممن أجاز للمعتكف البيع والشراء الكوفيون والشافعى، وقال الثورى: يشترى الخبز إذا لم يكن له من يشتريه له. وبه قال أحمد، واختلف فيه عن مالك، فروى عنه ابن القاسم إجازة ذلك إذا كان يسيرًا، وروى عنه مثل قول الثورى، وكره ذلك عطاء ومجاهد والزهرى.

(4/432)


6 - باب الادِّلاجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ
/ 200 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فَقَالَتْ: مَا أُرَانِى إِلا حَابِسَتَكُمْ. . . الحديث، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لَمْ أَكُنْ حَلَلْتُ؟ قَالَ: (فَاعْتَمِرِى مِنَ التَّنْعِيمِ) ، فَخَرَجَ مَعَهَا أَخُوهَا، فَلَقِينَاهُ مُدَّلِجًا، فَقَالَ: (مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا) . وهذا ليس من مناسك الحج، ذكر عبد الرزاق قال: أخبرنا عمر ابن ذر، أنه سمع مجاهدًا يقول: (أناخ النبى عليه السلام ليلة النفر بالبطحاء ينتظر عائشة، وكره أن يقتدى الناس بإناخته، فبعث حتى أناخ على ظهر العقبة أو من ورائها ينتظرها) . قال الطبرى: الادلاج بتشديد الدال: الرحيل من المنزل بسحر. قال الأعشى: وادّلاج بعد المنام وتهجير والإِدْلاج بتخفيف الدال: الرحيل من المنزل فى أول الليل والسير فيه. قال الأعشى: وإِدْلاج ليل على غرة وهاجرة حرّها محتدم [أَبْوَاب الْعُمْرَةِ]
7 - باب وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِى كِتَابِ اللَّهِ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [الحج: 196] . / 201 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ) .

(4/433)


اختلف الناس فى وجوب العمرة، فكان ابن عباس وابن عمر يقولان: هى واجبة فرضًا. وهو قول عطاء وطاوس والحسن وابن سيرين والشعبى، وإليه ذهب الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق. وقال ابن مسعود: العمرة تطوع. وهو قول أبى حنيفة وأبى ثور، وقال النخعى: هى سنة. وهو قول مالك، قال: ولا يعلم لأحد الرخصة فى تركها. واحتج الذين أوجبوها فرضًا بقول الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ومعنى أتموا عندهم: أقيموا، قالوا: فإذا كان الإتمام واجبًا، فالابتداء واجب. قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا غلط؛ لأن من أراد أن يفعل السنة فواجب أن يفعلها تامة، كمن أراد أن يصلى تطوعًا فيجب أن يكون على طهارة، وكذلك إذا أراد أن يصوم، فيلزمه التبييت، وكذلك من نذر صلاة وصومًا فقد أوجب على نفسه وإن لم تجب فى الأصل، فإذا دخل فى ذلك انحتم عليه تمامه حتى يصير بمنزلة ما ابتدأه لله، وما قالوه يبطل بالدخول فى عمرة ثانية وثالثة لأنه يجب المضى فيها، فلما أجمعنا أنه يجب عليه تمامها وإن لم يكن ابتداء الدخول فيها واجبًا سقط قولهم، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى عليه السلام قال: (ليس أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان) فالجواب: أن البخارى أوقفه على ابن عمر من قوله، فلا حجة فيه، ولو صح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكان ذكره للعمرة مقارنة الحج لا يدل على وجوبها، وإنما معناه الحض على هذا الجنس من العبادات، كما قال عليه السلام: (قال تعالى: الصوم لى، وأنا أجزى به) . وقال: (تابعوا بين الحج والعمرة) لما لم يدل على وجوب المتابعة،

(4/434)


لم يدل على وجوب العمرة، وإنما أراد عليه السلام أن لهذا الجنس من العبادات فضلا على غيره. وقال الطحاوى: ليس فى قول ابن عمر أنها واجبة ما يدل أنها فريضة؛ لأنه قد يجوز أن يقول أنها واجبة على المسلمين وجوبًا عامًا يقوم به البعض، كوجوب الجهاد، أنه واجب على المسلمين وجوبًا، من قام به أجزأ عنهم، وكوجوب الجنائز وغسل الموتى، ويدل على هذا قول ابن عمر: إذا حللتم فشدوا الرحال للحج والعمرة؛ فإنهما أحد الجهادين؛ ألا ترى أنه شبههما بالجهاد الذى يقوم بفرضه بعضهم. وقوله عليه السلام: (بنى الإسلام على خمس) فذكر الحج ولم يذكر العمرة، فدل أنها ليست بفريضة؛ لأنها لو كانت فريضة ما وسعه عليه السلام السكوت عن ذكرها مع جملة الفرائض، وقوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) يريد ما اجتنبت الكبائر (والحج المبرور) هو الذى لا رياء فيه ولا رفث ولا فسوق، ويكون بمال حلال والله أعلم.
8 - باب مَنِ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ
/ 202 - فيه: ابْنَ عُمَرَ لا بَأْسَ بالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، اعْتَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ. قال المؤلف: قول ابن عمر هذا يدل أن مذهبه أن فرض الحج قد كان نزل على النبى عليه السلام قبل اعتماره، ولو اعتمر عليه السلام قبل نزول فرض الحج ما صح استدلال ابن عمر بهذا الكلام

(4/435)


على جواز الاعتمار قبل الحج، والذى يتفرغ من هذا المعنى: هل فرض الحج على الفور ولا يجوز تأخيره، أو هل فيه فسحة وسعة؟ والذى نزع فيه ابن عمر هو الصحيح فى النظر، وهو الذى تعضده الأصول، أن فى فرض الحج سعة وفسحة؛ لأن العمرة لم يَجْرِ لها ذكر فى القرآن إلا والحج مذكور معها، ولذلك قال ابن عباس: إنها لقرينتها فى كتاب الله) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ولو كان فرض الحج على الفور لم يجز فسخه فى عمرة، ولا أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بذلك، ولو كان وقته مضيقًا لوجب إذا أخره إلى سنة أخرى أن يكون قضاء لا اداء، فلما ثبت أنه أداء فى أى وقت به، علم أنه ليس على الفور. وقد تقدم الكلام فى هذا المعنى فى باب (لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك) ، فى الجزء الأول من الحج، وسيأتى شىء منه فى قصة كعب بن عجرة حين آذاه هوامه وحلق رأسه بالحديبية إن شاء الله.
9 - باب كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام
/ 203 - فيه: عُرْوَة، أنه سأل ابْن عُمَرَ كَمِ اعْتَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِى رَجَبٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِى رَجَبٍ قَطُّ. / 204 - وفيه: أَنَس، اعْتَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَرْبَعٌ: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ، حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ،

(4/436)


حَيْثُ صَالَحَهُمْ، وَعُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، قُلْتُ: كَمْ حَجَّ؟ قَالَ: وَاحِدَةً، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ. وقَالَ هَمَّام: اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فِى ذِى الْقَعْدَةِ إِلا الَّتِى اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ. / 205 - وفيه: الْبَرَاء، اعْتَمَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، ثلاث عمرة. والرابعة إنما تجوز نسبتها إليه؛ لأنه أمر الناس بها، وعُملت بحضرته، لا أنه عليه السلام اعتمرها بنفسه، ويدل على صحة هذا القول أن عائشة ردت على ابن عمر قوله: وقالت: (ما اعتمر فى رجب قط) . وأما أنس فإنه لم يضبط المسألة ضبطًا جيدًا، وقد أنكر ذلك عليه ابن عمر حين ذكر له أن أنسًا حدث (أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحج، فقال ابن عمر: أهل النبى عليه السلام وأهللنا به) ذكره البخارى فى المغازى، ففى رد ابن عمر على أنس أن النبى عليه السلام اعتمر مع حجته، رد من ابن عمر على نفسه أيضًا، وقد جاء عن أنس نفسه خلاف قوله، وهو حديث مروان الأصفر عنه أن النبى عليه السلام قال لعلى: (لولا أن معى الهدى لأحللت) ذكره فى باب: من أهل فى زمن النبى عليه السلام كإهلال النبى (صلى الله عليه وسلم) . فامتناعه عليه السلام من الإحلال لأجل الهدى يدل أنه كان مفردًا للحج؛ لأنه اعتذر عن الفسخ فيه بالهدى، ولو كان قارنًا ما جاز أن يعتذر لاستحالة الفسخ على القارن، فكيف يجوز أن ينسب إليه عليه السلام أنه اعتمر مع حجته إلا على معنى أنه أمر بذلك من لم يكن معه هدى؟ هذا ما لا ريب فيه ولا شك، وروى عبد الرزاق، عن عمر ابن ذر، عن مجاهد، أنه قال: (اعتمر النبى عليه السلام ثلاثًا، كلهن فى ذى القعدة) وعن معمر، عن هشام بن عروة قال: (اعتمر النبى (صلى الله عليه وسلم) ثلاثًا) .

(4/437)


0 - باب عُمْرَةٍ فِى رَمَضَانَ
/ 206 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّينَ مَعَنَا) ؟ قَالَتْ: كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلانٍ وَابْنُهُ، لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا، وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ، قَالَ: (فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِى فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِى رَمَضَانَ حَجَّةٌ) . قوله: (فإن عمرة فيه كحجة) يدل أن الحج الذى ندبها إليه كان تطوعًا؛ لإجماع الأمة أن العمرة لا تجزئ من حجة الفريضة، فأمرها بذلك على الندب لا على الإيجاب. وقوله: (كحجة) يريد فى الثواب، والفضائلُ لا تدرك بقياس، والله يؤتى فضله من يشاء. والناضح: البعير أو الثور أو الحمار يربط به الرشاء يجره فيخرج الغرب، ويقال لها أيضًا: السانية.
1 - باب عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ
/ 207 - فيه: عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ، وَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. / 208 - وفيه: جَابِر، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِى ذِى الْحَجَّةِ، وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ لَقِىَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ بِالْعَقَبَةِ، فَقَالَ: أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّه؟ ِ قَالَ: (لا، بَلْ لِلأبَدِ) . فقه هذا الباب: أن المعتمر المكى لابد له من الخروج إلى الحِلِّ ثم يحرم منه؛ لأن التنعيم أقرب الحِلِّ، وشأن العمرة عند الجميع أن يجمع فيها بين حل وحرم، المكى وغيره، والعمرة زيارة، وإنما يزار

(4/438)


الحرم من خارجه كما يزار المزور فى بيته من غير [. . . . . .] وتلك سنة الله فى عباده المعتمرين، وما بعد من الحل كان أفضل، ويجزئ أقل الحل وهو التنعيم. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن العمرة لمن كان بمكة لا وقت لها غير التنعيم، وجعلوا التنعيم خاصة وقتًا لعمرة أهل مكة، وقالوا: لاينبغى لهم أن يجاوزوه، كما لا ينبغى لغيرهم أن يجاوز ميقاتًا وقته لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وخالفهم فى ذلك آخرون، وقالوا: وقت أهل مكة الذى يحرمون منه بالعمرة: الحِلُّ، فمن أَىِّ الحِلِّ أحرموا أجزأهم ذلك، والتنعيم وغيره عندهم فى ذلك سواء، واحتجوا بأنه قد يجوز أن يكون النبى عليه السلام قصد إلى التنعيم فى ذلك؛ لأنه كان أقرب الحِلِّ منها، لا لأن غيره من الحل ليس هو فى ذلك كهو، فطلبنا الدليل على أحد القولين، فإذا يزيد بن سنان حدثنا قال: حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا أبو عامر صالح بن رستم، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة قالت: (دخل علىَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بسرف وأنا أبكى، فقال: (ما ذلك؟) قلت: حضت. قال: (فلا تبكى، اصنعى ما يصنع الحاج) . فقدما مكة ثم أتينا منى، ثم غدونا إلى عرفة، ثم رمينا الجمرة تلك الأيام، فلما كان يوم النفر ارتحل فنزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلا من أجلى، فأمر عبد الرحمن فقال: (احمل أختك، فأخرجها من الحرم) قالت: والله ما ذكر الجعرانة ولا التنعيم فلتهل بعمرة، فكان أدنانا من الحرم التنعيم، فأهللت بعمرة، فطفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة، ثم أتينا فارتحل) .

(4/439)


فأخبرت عائشة أن النبى عليه السلام لم يقصد لِما أراد أن يعمرها إلا إلى الحل، لا إلى موضع بعينه خاص، وأنه إنما قصد التنعيم؛ لأنه كان أقرب الحل إليهم، لا لمعنى آخر؛ فثبت أن وقت أهل مكة لِعُمَرِهم هو الحل، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه. وقال الطحاوى: سؤال سراقة للنبى عليه السلام يحتمل أن يكون أراد عمرتنا هذه فى أشهر الحج لعامنا هذا، ولا يفعل ذلك فيما بعد؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فيما مضى فى أشهر الحج، ويعدُّون ذلك من أفجر الفجور، أو للأبد، فقال رسول الله: (هى للأبد) أى: لكم أن تفعلوا ذلك أبدًا، وليس على أن لهم أن يحلوا من الحج قبل عرفة بطوافهم بالبيت وسعيهم بين الصفا والمروة، لِما تقدم منه أن الفسخ كان لهم خاصة، هكذا رواه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: (عمرتنا لعامنا هذا أو للأبد؟) وتابعه خصيف والأوزاعى جميعًا عن عطاء، عن جابر (أن سراقة قال للنبى عليه السلام: لكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: لا، بل للأبد) . والمعنى فيهما واحد على ما فَسَّره الطحاوى.
2 - باب العمرة ليلة الحصبة وغيرها
/ 209 - فيه: عَائِشَةُ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِى الْحَجَّةِ، فَقَالَ لنا: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ) ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ. . . إلى قولها: فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِى عَبْدَالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فأهللت بِعُمرَة مَكَانَ عُمْرَتى.

(4/440)


فقه هذا الباب: أن الحاج يجوز له أن يعتمر إذا تم حجه بعد انقضاء أيام التشريق، وليلة الحصبة: هى ليلة النفر الأخير؛ لأنها آخر أيام الرمى. وقد اختلف السلف فى العمرة بعد أيام الحج، فذكر عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد قال: سئل عمر وعلى وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة، فقال عمر: هى خير من لا شئ. وقال على: هى خير من مثقال ذرة. وقالت عائشة: العمرة على قدر النفقة. وعن عائشة أيضًا قالت: لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين أحب إلى من أن أعتمر العمرة التى اعتمرت من التنعيم. وقال طاوس فيمن اعتمر بعد الحج: لا أدرى أتعذبون عليها أم تؤجرون. وقال عطاء بن السائب: اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير. وأجاز ذلك آخرون. روى ابن عيينة، عن الوليد بن هشام قال: سألت أم الدرداء عن العمرة بعد الحج، فأمرتنى بها. وسُئل عطاء عن عُمرة التنعيم، قال: هى تامة وتجزئه. وقال القاسم بن محمد: عمرة المحرم تامة. وقد روى عن عائشة مثل هذا المعنى، قالت: تمت العمرة السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، ويومين من أيام التشريق. وقال أبو حنيفة: العمرة جائزة السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق للحاج وغيره. ومن حديث عائشة فى هذا الباب استحب مالك ألا يعتمر حتى تغيب الشمس من آخر أيام التشريق؛ لأن النبى عليه السلام قد كان وَعَد عائشة بالعمرة وقال لها: (كونى فى حجك عسى الله أن يرزقكيهما) ولو استحب لها العمرة فى أيام التشريق لأمرها بالعمرة

(4/441)


فيها، وبه قال الشافعى، وإنما كرهت العمرة فيها للحاج خاصة؛ لئلا يُدخل عملا على عمل؛ لأنه لم يكمل عمل الحج بعد، ومن أحرم بالحج فلا يحرم بالعمرة؛ لأنه لا تضاف العمرة إلى الحج عند مالك وطائفة من العلماء، وأما من ليس بحاج فلا يمنع من ذلك، فإن قيل: فقد روى أبو معاوية، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة فى هذا الباب: (وكنت ممن أهل بعمرة) وروى مثله يحيى القطان عن هشام فى الباب بعد هذا، وهذا خلاف ما تقدم عن عائشة أنها أهلت بالحج. فالجواب: أنا قد قدمنا أن أحاديث عائشة فى الحج أشكلت على الأئمة قديمًا، فمنهم من جعل الاضطراب فيها جاء من قبلها، ومنهم من جعله جاء من قبل الرواة عنها، وقد روى عروة والقاسم والأسود وعمرة عن عائشة، أنها كانت مفردة للحج على ما بيناه فى باب: التمتع والقران والإفراد فى أول كتاب الحج، فالحكم لأربعة من ثقات أصحاب عائشة، فالصواب أن حمل ذلك على التضاد أولى من الحكم لرجلين من متأخرى رواة حديثها. وقد يحتمل قولها: (وكنت ممن أهل بعمرة) تأويلا ينتفى به التضاد عن الآثار، وذلك أن عَمْرَة روت عن عائشة أنها قالت: (خرجنا لخمس بقين من ذى القعدة مهلين بالحج، فلما دنونا من مكة. .) وقالت مرة: فنزلنا بسرف، قال النبى عليه السلام لأصحابه: (من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل) . فأهلت عائشة حينئذ بعمرة، فحاضت قبل أن تطوف بالبيت طواف العمرة، فقالت للنبى عليه السلام: منعت العمرة، فأمرها عليه السلام برفض ذكر العمرة بأن تبقى على إحرامها بالحج الذى كانت أهلت به أولا، فمن روى عنها: (وكنت ممن أهل بعمرة حين دنوا من مكة) ممن رتب الحاديث على موطنها ومواضع ابتداء الإحرام؛

(4/442)


بان له أن ما اختلف من ظاهر الآثار غير مخالف فى المعنى، وزال الإشكال عنها، والحمد لله. هذا معنى قول المهلب. وقولها: (مكان عمرتى) تريد عمرتى التى أحرمت بها من سرف، ثم مُنعتها من أجل الحيض.
3 - باب الاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ
/ 210 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ الرسولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِى الْحَجَّةِ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ، وَلَوْلا أَنِّى أَهْدَيْتُ لأهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ) ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِى يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (دَعِى عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ) ، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِى عَبْدَالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْىٌ وَلا صَدَقَةٌ وَلا صَوْمٌ. قال المهلب: قولها: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موافين لهلال ذى الحجة) إنما هو بمعنى المقاربة؛ لأنه قد صح عنها أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لخمس بقين من ذى القعدة) والخمس قريب من آخر الشهر، فوافاهم الهلال فى الطريق، وقولها: (فأدركنى يوم عرفة وأنا حائض) وقالت فى رواية القاسم: (وطهرت حين قدمنا منى، صبيحة ليلة عرفة يوم النحر بمنى) وقولها: (لم يكن فى شىء من ذلك هدى) لأن عمرتها بعد انقضاء عمل الحج. ولا خلاف بين العلماء أن من اعتمر بعد انقضاء عمل الحج وخروج أيام التشريق أنه لا هدى عليه فى عمرته؛ لأنه ليس بمتمتع، وإنما المتمتع من اعتمر فى أشهر الحج وطاف لعمرته قبل الوقوف بعرفة، وأما من اعتمر بعد يوم

(4/443)


النحر فقد وقعت عمرته فى غير أشهر الحج، فلذلك ارتفع حكم الهدى عنها، والصحيح من قول مالك أن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة. ولم يكن عليها أيضًا فى حجتها هدى؛ لأنها كانت مفردة على ما روى عنها القاسم والأسود وعمرة، ولم يأخذ مالك بقولها فى آخر الحديث: (ولم يكن فى شىء من ذلك هدى) لأنها كانت عنده فى حكم القارنة، ولزمها لذلك هدى القران، ولا أخذ بذلك أبو حنيفة أيضًا؛ لأنها كانت عنده رافضة لعمرتها، والرافضة عنده عليها دم للرفض، وعليها عمرة. وقوله: (فقضى الله حجها وعمرتها، ولم يكن فى ذلك هدى ولا صوم ولا صدقة) ليس من لفظ عائشة، وإنما هو لفظ هشام بن عروة، لم يذكر ذلك أحد غيره، ولا تقول به الفقهاء، وقد تقدم مذاهب الفقهاء فى قوله: (انقُضى رأسك وامتشطى) فى باب كيف تهل الحائض والنفساء. فأغنى عن إعادته.
4 - باب الْمُعْتَمِرِ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ هَلْ يُجْزِئُهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ
/ 211 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحُرُمِ. . . إلى قوله: حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنًى وَنَزَلْنَا الْمُحَصَّبَ، فَدَعَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ الْحَرَمَ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا، أَنْتَظِرْكُمَا هَاهُنَا) ، فَأَتَيْنَا فِى جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: (فَرَغْتُمَا) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَادَى بِالرَّحِيلِ فِى أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ.

(4/444)


لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف وخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة، وأما إن أقام بمكة بعد عمرته ثم بدا له أن يخرج منها، فيستحبون له طواف الوداع.
5 - باب أَجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ
/ 212 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ، وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ، فَقِيلَ لَهَا: (انْتَظِرِى، فَإِذَا طَهُرْتِ، فَاخْرُجِى إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى، ثُمَّ ائْتى مَكَانِ كَذَا، وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ، أَوْ نَصَبِكِ) . أفعال البر كلها الأجر فيها على قدر المشقة والنفقة، ولهذا استحب مالك وغيره الحج راكبًا، ومصداق هذا فى كتاب الله قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التوبة: 20] وفى هذا فَضْل الغنى وإنفاق المال فى الطاعات، ولما فى قمع النفس عن شهواتها من المشقة على النفس، وَعَدَ الله تعالى الصابرين على ذلك: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] .
6 - باب يَفْعَلُ فِى الْعُمْرَةِ مَا يَفْعَلُ فِى الْحَجِّ
/ 213 - فيه: يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ، أَوْ قَالَ: صُفْرَةٌ، فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِى أَنْ أَصْنَعَ فِى عُمْرَتِى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَسُتِرَ بِثَوْبٍ، فَلَمَّا سُرِّىَ

(4/445)


عَنْهُ، قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ؟ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ) . / 214 - وفيه: هِشَامِ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) [البقرة: 158] الحديث، وقَالَ هِشَامٍ: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قوله عليه السلام: (اصنع فى عمرتك كما تصنع فى حجك) . هذا مما لفظه العموم والمراد به الخصوص، يدل على ذلك أن المعتمر لا يقف بعرفة، ولا يرمى جمرة العقبة، ولا يعمل شيئًا من عمل الحج غير الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، وإنما أمره عليه السلام أن يصنع فى عمرته مثل ما يصنع فى حجه ن اجتناب لباس المخيط واستعمال الطيب، وأعلمه أن جميع ما يحرم على الحاج بالإحرام يحرم مثله على المعتمر بالإحرام، كالصيد والنساء وغير ذلك.
7 - باب مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ؟
وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ: أَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، وَيَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا، وَيَحِلُّوا. / 215 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، اعْتَمَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ، وَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبٌ لِى: أَكَانَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لا، وَقَالَ: (بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ) .

(4/446)


/ 216 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سُئل عن رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِى عُمْرته، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِى امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وقَالَ جَابِر: لا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. / 217 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَهُوَ مُنِيخٌ، بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: (أَحَجَجْتَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ؟ قَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ) ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلالٍ كَإِهْلالِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحِلَّ) ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ، فَفَلَتْ رَأْسِى، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، فَكُنْتُ أُفْتِى بِهِ حَتَّى كَانَ فِى خِلافَةِ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنْ أَخَذْنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ. / 218 - فيه: أَسْمَاءَ قَالَتْ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالحَجُونِ: (صلى الله عليه وسلم) لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ، قَلِيلٌ ظَهْرُنَا، قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا، فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِى عَائِشَةُ وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا، ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنَ الْعَشِىِّ بِالْحَجِّ. اتفق أئمة الفتوى على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر، على ما جاء فى هذا الحديث، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، إلا شذوذًا روى عن ابن عباس أنه قال: العمرة الطواف. وتبعه عليه إسحاق بن راهويه، والحجة فى السنة لا فى خلافها. واحتج الطبرى بحديث أبى موسى على من زعم أن المعتمر إذا كمل عمرته ثم جامع قبل أن يحلق أنه مفسد لعمرته، قال: ألا ترى قوله

(4/447)


عليه السلام لأبى موسى: (طف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصر من شعرك واحلق ثم أحل) فبين بذلك أن التقصير والحلق ليسا من النسك، وإنما هما من معانى الإحلال، كما لبس الثياب والطيب بعد طواف المعتمر بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة من معانى إحلاله، وكذلك إحلال الحاج من إحرامه بعد رميه جمرة العقبة، لا من نسكه، فبيّن فساد قول من زعم أن من جامع من المعتمرين قبل التقصير من شعره أو الحلق، ومن بعد طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة أنه مفسد عمرته، وهو قول الشافعى، قال ابن المنذر: ولا أحفظ ذلك عن غيره. وقال مالك والثورى والكوفيون: عليه الهدى. وقال عطاء: يستغفر الله ولا شىء عليه. قال الطبرى: وفى حديث أبى موسى بيان فساد قول من قال: إن المعتمر إن خرج من الحرم قبل أن يقصر من شعره أو يحلق أن عليه دمًا، وإن كان قد طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل خروجه منه، وفيه أيضًا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما أذن لأبى موسى بالإحلال من عمرته بعد الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، فبان بذلك أن من حل منهما قبل ذلك فقد أخطأ وخالف سنته عليه السلام، واتضح به فساد قول من زعم أن المعتمر إذا دخل الحرم فقد حل من إحرامه، وله أن يلبس ويتطيب ويعمل ما يعمل الحلال، وهو قول ابن عمر وابن المسيب وعروة والحسن، وصح أنه مَنْ حل مِنْ شىء كان عليه حرامًا قبل ذلك فعليه الجزاء والفدية. واختلف العلماء إذا وطئ المعتمر قبل طوافه بالبيت وقبل أن يسعى بين الصفا والمروة، فقال مالك والشافعى وأحمد وأبو ثور: عليه الهدى وعمرة أخرى مكانها، ويتم التى أفسد. ووافقهم أبو حنيفة إذا جامع بعد طواف ثلاثة أشواط، وقال: إذا جامع بعد أربعة أشواط بالبيت أنه يقضى ما بقى من عمرته، وعليه دم، ولا شىء عليه.

(4/448)


وهذا تحكم لا دليل عليه إلا الدعوى، وحجة مالك ومن وافقه حديث ابن أبى أوفى أن النبى عليه السلام اعتمر مع أصحابه ولم يحلوا حتى طافوا وسعوا بين الصفا والمروة، ولذلك أمر النبى عليه السلام أيضًا أبا موسى الشعرى قال له: (طف بالبيت وبين الصفا والمروة وأحل) فوجب الاقتداء بسنته واتباع أمره، وقال: (خذوا عنى مناسككم) . وقد فهم الصحابة الذين تلقوا عنه السنة قولا وعملا هذا المعنى، فقال جابر وابن عمر: لا يقرب امرأته حتى يطوف بين الصفا والمروة. واحتج ابن عمر فى ذلك بفعل النبى عليه السلام وإن كان عليه السلام غير معتمر، فمعنى ذلك أنه لم يُدخل بين الصواف والسعى عملا، ولا أباحه للمعتمرين الذين أمرهم بالإحلال حتى وصلوا سعيهم بطوافهم، وكذلك حلوا بمسيس الناسء والطيب وغير ذلك والله الموفق. قال المهلب: قولها: (فاعتمرت أنا واختى عائشة) . بالإحرام بعمرة حين أمرهم عليه السلام أن يجعلوا إحرامهم بالحج عمرة، فثبتت أسماء على عمرتها، وحاضت عائشة فلم تطف بالبيت، وأمرها النبى عليه السلام أن ترفض ذكر العمرة، وأن تكون على ما كانت أبدأت الإحرام به من ذى الحليفة من الحج، وتركت العمرة التى كانت أحلت بها من سرف، فأخبرت أسماء عن نفسها وعن الزبير وفلان وفلان الذين أحلوا بمسح البيت بعمرة، ولم يدل ذلك أن عائشة مسحت البيت معهم؛ لثبوت أنها حاضت فمنعت العمرة، وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) لها: (كونى على حجك عسى الله أن يرزقكيها غير ألا تطوفى بالبيت) ومثله قول ابن عباس فى حرمة

(4/449)


الفسخ: طفنا بالبيت وأتينا النساء. لأنه كان فى حجة الوداع صغيرًا قد ناهز الحلم، وقد قال: توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا ابن عشر سنين. فكان فى حجة الوداع ابن ثمان أو نحوها ممن لا يأتى النساء، وكذلك قالت عائشة فى حديث الأسود: فلما قدمنا تطوفنا بالبيت. وهى لم تطف بالبيت حتى طهرت ورجعت من عرفة؛ لأنها قالت فيه: ونساؤه لم يسقن الهدى فأحللن، فحضت فلم أطف بالبيت. بعد أن قالت: تطوفنا. وعلى هذا التأويل يخرج قول من قال: (تمتع رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) وتمتعنا معه) يعنى: تمتع بأن أمر بذلك والله أعلم وقد تقدم معنى قولها: (فما مسحنا البيت أحللنا) يريد بعد السعى بين الصفا والمروة، وعلى ذلك تأوله الفقهاء.
8 - باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْغَزْوِ
/ 219 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِذَا قَفَلَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمرةٍ أَوْ غزْوِ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ) . فيه من الفقه: استعمال حمد الله تعالى والإقرار بنعمته، والخضوع له، والثناء عليه عند القدوم من الحج والجهاد على ما وهب من تمام المناسك، وما رزق من النصرة على العدو، والرجوع إلى الوطن سالمين، وكذلك يجب إحداث الحمد لله والشكر له على ما

(4/450)


يحدث على عباده من نعمه، فقد رضى من عباده بالإقرار له بالوحدانية، والخضوع له بالربوبية، والحمد والشكر عوضًا مما وهبهم من نعمه تفضلا عليهم ورحمة لهم. وفى هذا الحديث بيان أن نهيه عليه السلام عن السجع فى الدعاء أنه على غير التحريم؛ لوجود السجع فى دعائه ودعاء أصحابه، فيحمل أن يكون نهيه عن السجع يتوجه إلى حسن الدعاء خاصة، خشية أن يشتغل الداعى بطلب الألفاظ وتعديل الأقسام عن إخلاص النية وإفراغ القلب فى الدعاء والاجتهاد فيه، وسأزيد فى بيان هذا المعنى فى باب: ما يكره من السجع فى الدعاء. فى كتاب الدعاء إن شاء الله.
9 - باب اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ وَالثَّلاثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
/ 220 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ. فيه من الفقه: جواز تلقى القادمين منالحج تكرمة لهم وتعظيمًا؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر تلقيهم له، بل سُرَّ به لحمله لهم بين يديه وخلفه، ويدخل فى معنى ذلك من قدم منالجهاد أو من سفر فيه طاعة لله، فلا بأس بالخروج إليه وتلقيه، تأنسًا له وصلةً. قال المهلب: وفيه رد قول من يقول: لا يجوز ركوب ثلاثة على دابة، وإنما أصل هذا ألا يكلف الدابة حمل ما لا تطيق، أو ما تطيقه بمشقة ظاهرة، فإذا أطاقت حمل ثلاثة وأربعة جاز ركوبها. وسيأتى اختلاف العلماء فى ركوب الثلاثة على الدابة فى آخر كتاب الزينة، فإنه ترجم لهذا الحديث باب: الثلاثة على الدابة.

(4/451)


0 - باب الْقُدُومِ بِالْغَدَاةِ
/ 221 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّى فِى مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. إنما اختار عليه السلام القدوم بالغداة والله أعلم ليتقدم خبره إلى أهله، ويتأهبوا للقائه، فيقدم على ذلك، والله أعلم.
1 - باب الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ
الدخول بالعشى مباح، وإنما الذى نهى عنه عليه السلام عن أن يطرق القادمُ أهلَهُ.
2 - باب لا يَطْرُقُ أَهْلَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ
/ 222 - فيه: جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلا. قد جاء فى الحديث بيان المعنى الذى من أجله نهى الرسول عن هذا، وهى تممتشط الشعثة، وتستحد المغيبة، كراهية أن يهجم منها على ما يقبح عنده اطلاعه عليه، فيكون سببًا إلى شنآنها وبغضها، فنبههم عليه السلام على ما تدوم به الألفة بينهم، ويتأكد به المحبة، فينبغىلمن أراد الأخذ بأدب نبيه أن يتجنب مباشرة أهله فى حال البذاذة وغير النظافة، وألا يتعرض لرؤية عورة يكرها منها، ألا ترى أن الله تعالى أمر من لا يبلغ الحلم بالاستئذان قبل صلاة الفجر ووقت الظهيرة وبعد العشاء؛ لما كانت هذه أوقات التجرد والخلوة، خشية الاطلاع على العورات وما يكره النظر إليه، وروى

(4/452)


عن ابن عباس أنه قال: آية لم يؤمن بها أكثر الناس؛ آية الإذن، وإنى لآمر جاريتى هذه أن تستأذن على.
3 - باب مَنْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ
/ 223 - فيه: أَنَس، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا. وقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حُمَيْدٍ، (جُدُرَاتِ) . قوله: (من حبها) يعنى لأنها وطنه، وفيها أهله وولده الذين هم أحب الناس إليه، وقد جبل الله النفوس على حب الأوطان والحنين إليها، وفعل ذلك عليه السلام، وفيه أكرم الأسوة، وأمر أمته سرعة الرجوع إلى أهلهم عند انقضاء أسفارهم.
4 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) [البقرة: 189]
/ 224 - فيه: الْبَرَاءَ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا، كَانَتِ الأنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) [البقرة: 189] . وقال مجاهد فى هذه الآية: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم

(4/453)


ثقب كوة فى ظهر بيته وجعل سلمًا، فجعل يدخل منها. وقال معمر عن الزهرى: كان الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شىء يتحرجون من ذلك، وكان الرجل حين يخرج مهلا بالعمرة، فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع، لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيقتحم الجدار من ورائه، حتى بلغنا أن النبى عليه السلام أهل من الحديبة بالعمرة فدخل حجرته، فدخل رجل من الحمس من ورائه، فقال له الأنصار، فقال: أنا أحمسى. فقال: وأنا على دينك؛ لأن الحمس كانت لا تبالى ذلك؛ فأنزل الله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) [البقرة: 189] .
5 - باب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ
/ 225 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، عليه السَّلام: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) . فيه: حض وندب على سرعة رجوع المسافر إلى أهله عند انقضاء حاجته، وقد بين عليه السلام المعنى فى ذلك بقوله: (يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه) فامتناع هذه الثلاثة التى هى أركان الحياة مع ما ينضاف إليها من شقة السفر وتعبه، هو العذاب إلى أشار إليه، ولذلك قال عليه السلام: (فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله) لكى يتعوض من ألم ما ناله، من ذلك الراحة والدعة فى أهله، والعرب تشبه الرجل فى أهله بالأمير، وقيل فى قوله: (وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا) [المائدة: 20] قال: من كان له دار وخادم فهو داخل فى معنى الآية.

(4/454)


وقد أخبر الله تعالى بلطف محل الأزواج من أزواجهن بقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم: 21] فقيل: المودة: الجماع، والرحمة: الولد. فإن قيل: فقد روى ابن عمر وابن عباس، عن النبى عليه السلام أنه قال: (سافروا تصِحُوا وتغنموا) وهو مخالف لحديث أبى هريرة. قيل: لا خلاف بين شىء من ذلك، وليس كون السفر قطعة من العذاب بمانع أن يكون فيه منفعة ومصحة لكثير من الناس؛ لأن فى الحركة والرياضة منفعة، ولا سيما لأهل الدعة والرفاهية، كالدواء المرّ المُعْقِب للصحة وإن كان فى تناوله كراهية، فلا خلاف بين الحديثين. قال أبو محمد الأصيلى: انفرد مالك بهذا الحديث عن سُمَىٍّ وقال: هؤلاء أهل العراق يسألوننى عنه. قيل له: لأنك انفردت به. قال: لو أعلم أنى انفردت به ما حدثت به.
6 - باب الْمُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ
/ 226 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ، نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّى رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. فيه: جواز الإسراع على الدواب عند الحاجة تَعْرِضُ، ولا سيما عند خبرٍ مقلق يبلغه عن أهله.

(4/455)


7 - باب المحصر وجزاء الصيد وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] وَقَالَ عَطَاءٌ: الإحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ
. الإحصار: ينقسم قسمين: فإحصار بعدو، وإحصار بمرض، وأصل الإحصار فى اللغة: المنع والحبس، واختلف فى ذلك أهل اللغة، فقال بعضهم: يقال من العدو: حُصِرَ، فهو محصور، ويقال من المرض: أُحصِر، فهو محصر هذا قول الكسائى وأبى عبيد، ذكره ابن القصار. وقال بعضهم: يقال: أحصر من المرض ومن العَدوّ ومن كل شىء حبس الحاج، كما قال عطاء، وهو قول النخعى والثورى والكوفيين، وهو قول الفراء وأبى عمرو، والحجة لذلك قول الله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) [البقرة: 196] وإنما نزلت هذه الآية بالحديبية، وكان حبسهم يومئذٍ بالعدو، قال أبو عمرو: يقالُ: حَصرنى الشىء وأحصرنى: حبسنى. وحكم الإحصار بعدو مخالف لحكم الإحصار بمرض عند جمهور العلماء على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله.
8 - باب إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ
/ 227 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِى الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. / 228 - وقال أيضًا: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ

(4/456)


دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنْطَلِقُ فَإِنْ خُلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ، وَإِنْ حِيلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا مَعَهُ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِى) ، فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَى، وَكَانَ يَقُولُ لا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ. / 229 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدْ أُحْصِرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَحَلَقَ وحل مع نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلا عوضه. فى هذه الترجمة: رَدُّ قول من يقول أن من أحصر فى العمرة بعدوٍّ أنه لابد له من الوصال إلى البيت والاعتمار؛ لأن السَّنَةَ كُلَّها وقت للعمرة بخلاف الحج، ولا إحصار فى العمرة، ويقيم على إحرامه أبدًا، وهو قول لبعض السلف، وهو مخالف لفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه كان مُعْتمرًا بالحديبية وهو وجميع أصحابه حَلُّوا دون البيت، والفقهاء على خلافه، حكم الإحصار فى الحج والعمرة عندهم سواء. واختلف فيمن أحصر بعدو، فقال مالك والشافعى: لا حصر إلا حصر العدو. وهو قول ابن عباس وابن عمر، ومعنى ذلك أنه لا يحل للمحصر أن يحل دون البيت إلا من حَصَره العدو، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكان حصره بالعدو، واحتج الشافعى فقال: على الناس إتمام الحج والعمرة، ورخص الله فى الإحلال للمحصر بعدو، فقلنا فى كُلٍّ بأَمْر الله، ولم نَعْدُ بالرخصة موضعها، كما لم نَعْدُ بالرخصة المسح على الخفين، ولم نجعل عمامة ولا قفازين قياسًا على الخفين. وخالف الشافعى مالكًا فأوجب عليه الهدى، ينحره فى المكان الذى

(4/457)


حُصر فيه وقد حَلَّ، كما فعل النبى عليه السلام بالحديبية، وهو قول أشهب، وقال أبو حنيفة: الهدى واجب عليه أن ينحره فى الحرم وقد حَلَّ. واحتجوا بإيجاب الهدى عليه بقوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] الآية فأجابهم الكوفيون أن هذا إحصار مرض، ولو كان إحصار عدو لم يكن فى نحر أهل الحديبية حجة؛ لأن ما كان معهم من الهدى لم يكونوا ساقوه لما عرض لهم من حصر العدو؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يعلم حين قلده أنه يُصَد، وإنما ساقه تطوعًا، فلما صُد أخبر الله تعالى عن صدهم وحبسهم الهدى عن بلوغ محله، وكيف يجوز أن ينوب هدى قد ساقه عليه السلام قبل أن يُصَدَّ عن دم وجب بالصَّدِّ، ولم يأمرهم عليه السلام بدمٍ لحصرهم، قاله جابر بن عبد الله، ولو وجب عليهم الهدى لأمرهم به كما أمرهم بالحلق الذى وجب عليهم، فكيف يُنقل الحلق ولا يُنقل إيجاب الهدى، وهو يحتاج إلى بيان من معه هدى ما حكمه؟ ومن لا هدى معه ما حكمه؟ وأما قول أبى حنيفة: ينحره فى الحرم، فقوله تعالى: (وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] يدل أن التقصير عن بلوغ المحل سواء كان ذلك فى الحل أو الحرم اسم التقصير واقع عليه إذا لم يبلغ مكة؛ لقوله تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقول ابن عمر: (إنما شأنهما واحد) يعنى: الحج والعمرة فى اجتناب ما يجتنبه المحرم بالحج وفى العمل لهما؛ لأن طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا يجزئ القارن عنده.

(4/458)


واختلفوا فيمن أحصر بمرض، فقال مالك: لا يجوز لمن أحصر بمرض أن يحل دون البيت بالطواف والسعى الذى هو عمل العمرة، ثم عليه حج قابل والهدى. وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، وروى عن ابن عمر وابن عباس. وقال أبو حنيفة: المحصر بالمرض الذى حيل بينه وبين البيت، وحكمه حكم المحصر بالعدو، فعليه أن يبعث بهديه إلى الحرم، فإذا عَلم أنه قد نُحر عنه حَلَّ فى مكانه من غير عمل عمرة، وإنما لم يَرَ عليه عمرة؛ لأنه محرم، والعمرة تحتاج إلى إحرام مستأنف، ولا يدخل إحرام على إحرام. وهو قول النخعى وعطاء والثورى. واحتجوا بحديث الحجاج بن أبى عثمان الصواف، عن يحيى بن أبى كثير قال: حدثنا عكرمة قال: حدثنى الحجاج بن عمرو قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (من كُسر أو عرج فقد حَلَّ) يحتمل أن يكون معناه: فقد حل له أن يحل إذا نحر الهدى فى الحرم، لا على أنه قد حَلَّ بذلك من إحرامه، كما يقال: حَلَّتْ فلانة للرجل، إذا خرجت من عدتها، ليس على معنى أنها قد حلت للأزواج، فيكون لهم وطؤها، ولكن على معنى أنهم قد حل لهم تزويجها، فيحل لهم حينئذٍ وطؤها. هذا سائغ فى الكلام، وهذا يوافق معنى حديث ابن عمر أن النبى عليه السلام لم يحل من عمرته بحصر العدو إياه حتى نحر الهدى، ومعنى هذا الحديث عند أهل المقالة الأولى (فقد حل) يعنى: إذا وصل البيت فطاف وسعى، حلا كاملا، وحَلَّ له بنفس الكسر والعرج أن يفعل ما شاء من إلقاء التفث ويفتدى، وليس للصحيح أن يفعل ذلك. فقال الترمذى: سألت البخارى عن هذا الحديث فقال: رواه

(4/459)


عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بن عمرو، عن النبى عليه السلام وهو يروى عن عكرمة، عن الحجاج، قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا إسناد صالح من أسانيد الشيوخ، ولكن أحاديث الثقات تضعفه. وذلك ما حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة قال: خرجت معتمرًا حتى إذا كنت بالدثينة وقعت عن راحلتى فانكسرت، فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا: ليس لها وقت كوقت الحج، يكون عرى إحرامه حتى يصل إلى البيت. وحدثنا على، حدثنا سفيان قال عمرو: أخبرنى ابن عباس قال: لا حصر إلا حصر العدو. ورواه ابن جريح ومعمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس. قال إسماعيل: فقد بان بما رواه الثقات عن ابن عباس فى هذا الباب أنه خلاف لما رواه حجاج الصواف عن يحيى بن أبى كثير؛ لأن ابن عباس حصر الحصر بالعدو دون غيره، فبان أن مذهبه كمذهب ابن عمر. قال غيره: من الحجة لمالك فى أن المحصر بمرض لا يحله إلا البيت قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] فأعلمنا تعالى أنهم حبسوا الهدى عن بلوغ محله، فينبغى أن يكون بلوغ محله شرطًا فيه مع القدرة عليه، وأما قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33] . فالمخاطب بذلك: الآمن الذى يجد السبيل إلى

(4/460)


الوصول إلى البيت، والمريض آمن يمكنه ذلك، وقول الكوفيين ضعيف وفيه تناقض؛ لأنهم لا يجيزون لمحصرٍ بعدوٍ ولا بمرضٍ أن يحل حتى ينحر فى الحرم، وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث هديه، ويواعد حامله يومًا ينحره فيه فيلحق ويحل، أجازوا له الإحلال بالظنون، فالعلماء متفقون أنه لا يجوز لمن لزمه فرض أن يخرج منه بالظن، والدليل على أن ذلك ظن قولهم أنه لو عطب الهدى أو ضل أو سرق فحل مرسله، وأصاب النساء وصَادَ، أنه يعود حرامًا، وعليه جزاء ما صاد، وأباحوا له فساد الحج بالجماع، وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه، وهذا تناقض لا شك فيه. واحتج الكوفيون بحديث ابن عباس وقوله: (حتى اعتمر عامًا قابلا) فى وجوب قضاء الحج والعمرة على من أحصر فى أحدهما بعدو. وقال أهل الحجاز: معنى قوله: (حتى اعتمر عامًا قابلا) هو ما عقده معهم فى صلح الحديبية ألا يمنعوه البيت عامًا قابلا، ولا يحال بينهم وبينه، فإما أن يكون ما فعلوه من العُمَر قضاء عن عمرة الحديبية، ففيه التنازع فيحتاج إلى دليل، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك فى باب: من قال ليس على المحصر بدل إن شاء الله. وقول ابن عباس: (قد أحصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) حجة على من قال: لا يقال: أحصره العدو، وإنما يقال: حصره العدو، وأحصره المرض، واحتج بقول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. واحتج به ابن القصار، فيقال له: هذا ابن عباس قد قال: (أحصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) وأجمع المسلمون أن النبى عليه السلام لم يُحصر بمرض، وإنما أحصر

(4/461)


بعدو عام الحديبية، فثبت أنه قال: حصره العدو، وأحصره القتال، وقوله: (أشهدكم أنى قد أوجبت حجة مع عمرتى) فهو حجة لمن قال: إن الحج يرتدف على العمرة. روى معمر عن منصور، عن مالك بن الحارث قال: (لقيت عليا وقد أهللت بالحج، فقلت له: هل أستطيع أن أضيف مع حجتى عمرة؟ قال: لا، ذلك لو كنت بدأت بالعمرة ضممت إليها حجا) . وهذا قول مالك وأبى حنيفة، قالا: ويصير قارنًا. قال مالك: ولا تدخل العمرة على الحج، وهو قول أبى ثور وإسحاق، وقال الكوفيون: يجوز ذلك ويصير قارنًا. وقال الشافعى بالعراق كقول الكوفى، وقال بمصر: أكثر من لقيت يقول لى: ليس له ذلك. قال ابن المنذر: والحجة لقول مالك أن أصل الأعمال ألا يدخل عمل على عمل، ولا صلاة على صلاة، ولا صوم على صوم، ولا حج على حج، ولا عمرة على عمرة، إلا ما خصت السنة مكن إدخال الحج على العمرة، وعلى أن الذى يحرم بعمرة إذا ضم إليها حجا، فقد ضم إلى العمل الذى كان دخل فيه وألزمه نفسه أعمالا لم تكن لزمته أحرم بالعمرة، مثل: الخروج إلى منى، والوقوف بالموقفين، ورمى الجمار، والمقام بمنى، وغير ذلك من أعمال الحج، والذى يضم إلى الحج لم يضم إليها عملا؛ لأن عمل المنفرد والقارن واحد، والذى يعتمد عليه فى هذا الباب السنة وإجماع الأمة.

(4/462)


9 - باب الإحْصَارِ فِى الْحَجِّ
/ 230 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلا، فَيُهْدِى أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا. واحتج ابن عمر فيمن أحصر فى الحج أنه يلزمه ما يلزم من أحصر فى العمرة، وحكم الحج والعمرة فى الإحصاء سواء، وقاس الحج على العمرة، والنبى عليه السلام لم يحصر فى حج، إنما حصر فى عمرة، هذا أصل فى إثبات القياس لاستعمال الصحابة له وقوله: (طاف بالبيت) يعنى: فيطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحل ويكون محصرًا بمكة. واختلف العلماء فيمن أحصر بمكة، فقال الشافعى وأبو ثور: حكم الغريب والمكى سواء، ويطوف ويسعى ويحل، ولا عمرة عليه على ظاهر حديث ابن عمر. وأوجبها مالك على المحصر المكى، وعلى من أنشأ الحج من مكة، وقال: لابد لهم من الخروج إلى الحل لاستئناف عمرة التحلل؛ لأن الطواف الأول لم يكن نواهُ للعمرة، لذلك يعمل بهذا. وفرق بين هؤلاء وبين الغريب يدخل من الحل محرمًا فيطوف ويسعى، ثم يحصره العدو عن الوقوف بعرفة، أنه لا يحتاج إلى الخروج إلى حل؛ لأنه منه دخل، ولم يحل من إحرامه فيتحلل بعمرة يُنْشِئُها من مكة، قال أبو حنيفة: لا يكون مُحْصَرًا من بلغ مكة؛ لأن الإحصار عنده من مُنع من الوصول إلى مكة، وحِيل بينه وبين الطواف والسعى، فيفعل ما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) من الإحلال بموضعه.

(4/463)


وأما من بلغ مكة فحكمه عنده حكم من فاته الحج، يحل بعمرة وعليه الحج من قابل، ولا هدى عليه؛ لأن الهدى لجبر ما أدخله على نفسه، ومن حُبس عن الحج فلم يدخل على نفسه نقصًا. وقال الزهرى: إذا أحصر المكى فلابد له من الوقوف بعرفة وإن تَعَسَّ بعساء، وفى حديث ابن عمر رد على ابن شهاب؛ لأن المحصر لو وقف بعرفة لم يكن محصرًا؛ ألا ترى قول ابن عمر: فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة، ولم يذكر الوقوف بعرفة، وفيه أيضًا رَدُّ قول أبى حنيفة أن من كان بمكة لا يكون محصرًا، وقد استدل ابن عمر على أنه يكون محصرًا بقوله: (أليس حسبكم سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن حبس أحدكم عن الحج) والحبس عن الحج هو الإحصار عند أهل اللغة، وقول ابن عمر: (ثم حل من كل شئ حتى يحج عامًا قابلا ويهدى هديًا) معناه عند الحجازيين: إن كان صُدَّ و [. . . . . .] ومعنى الهدى المصدودة إذا قضى الحج، إنما هو من أجل وقوع الحج الذى كان يقع له فى سفر واحد فى سفرين، وكذلك معنى هدى الإحصار بمرض.
0 - باب النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِى الْمَحَصْرِ
/ 231 - فيه: الْمِسْوَر، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. / 232 - وفيه: ابْن عُمَرَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، مُعْتَمِرِينَ، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بُدْنَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ. قال ابن المنذر: النحر قبل الحلق للمحصر وغيره من ظاهر كتاب الله

(4/464)


قال الله تعالى: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] إلا أن سنة المحصر أن ينحر هديه حيث أحصر، وإن كان فى الحل؛ اقتداءً بما فعل النبى عليه السلام فى الحديث، قال الله تعالى: (وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] أى: محبوسًا، ولما سقط عنه عليه السلام أن يبلغ محله سقط من هديه، وأما قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33] فقد ذكرنا قبل هذا أن المخاطب به الآمن الذى يجد السبيل إلى الوصول إلى البيت والله أعلم وليس للمحصَر بعدوٍّ أن يفعل شيئًا مما يحرم على المحرمين حتى ينحر هديه، كما فعل النبى عليه السلام فإن فعل شيئًا من ذلك فعليه الفدية، استدلالا بأن النبى عليه السلام أمر كعب بن عجرة بالفدية لمَّا حلق، وهذا قول مالك والشافعى. قال الطحاوى: واختلفوا فى المحصَر إذا نحر هديه، هل يحلق رأسه أم لا؟ فقال قوم: ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله. هذا قول أبى حنيفة ومحمد، وقال آخرون: بل يحلق؛ فإن لم يحلق فلا شىء عليه. هذا قول أبى يوسف. وقال آخرون: يحلق ويجب عليه ما يجب على الحاج والمعتمر، وهو قول مالك، فكان من حجة أبى حنيفة فى ذلك أنه قد سقط عنه بالإحصار جميع مناسك الحج من الطواف والسعى بين الصفا والمروة، وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه، ألا ترى أنه إذا طاف بالبيت يوم النحر حل له أن يحلق، فيحل له بذلك الطيب واللباس، فلما كان ذلك مما يفعله حين يحل فسقط ذلك عنه بالإحصار، سقط عنه سائر ما يحل به المحرم بسبب الإحصار.

(4/465)


وكان من حجة الآخرين عليهم فى ذلك أن تلك الأشياء من الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار قد صُدَّ عنه المحرم، وحيل بينه وبينه، فسقط عنه أن يفعله، والحلق لم يحل بينه وبينه، وهو قادر على فعله، فما كان يصل إلى فعله فحكمه فيه فى حال الإحصار كحكمه فيه فى غير حال الإحصار، وما لا يستطيع أن يفعله فى حال الإحصار فهو الذى يسقط عنه، وقد ثبت عنه عليه السلام أنه حلق حين صُدَّ، فى حديث ابن عمر والمسور، وليس لأحد قياس مع وجود السنة الثابتة. وقد دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للمحلقين يوم الحديبية ثلاث مرات، ودعا للمقصرين مرة واحدة، فقيل له: (يا رسول الله، لم ظاهرت الترحم على المحلقين؟ قال: لأنهم لم يَشْكُّوا) فثبت بتفصيل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حلق على من قصر أنه قد كان عليهم الحلق والتقصير، كما يكون عليهم لو وصلوا إلى البيت، ولولا ذلك لما كانوا فيه إلا سواء، ولا كان لبعضهم فى ذلك فضيلة على بعض، فبان أن حكم الحلق والتقصير لا يزول بالإحصار.
1 - باب مَنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ، إِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ فِى أَىِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ

(4/466)


وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْىُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقضى شَيْئًا، وَلا يَعُودُوا لَهُ، وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ. / 233 - فيه: ابْن عُمَرَ، إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ نَظَرَ فِى أَمْرِهِ، فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ. ولهذا اختلف السلف فى هذا الباب، فذهب ابن عباس إلى أن المحصر لا بدل عليه ولا [. . . . . .] ذكره عنه عبد الرزاق وقال: لا حصر إلا من حُبِسَهُ بعدو، فيحل بعمرة، وليس عليه حج قابل ولا عمرة، فإن حبس وكان معه هدى بعث به ولم يحل حتى ينحر الهدى، وإن لم يكن معه هدى حل مكانه، وذكر عطاء عن ابن عباس فى الذى يفوته الحج قال: يحل بعمرة وليس عليه حج قابل. وعن طاوس مثله، وروى ابن الماجشون عن مالك فى المحصر بعَدُوٍّ يحل لِسُنَّةِ الإحصار ويجزئه من حجة الإسلام، وهو قول أبى مصعب صاحب مالك [. . . . . .] به لمحمد بن سحنون. وقال ابن شعبان: يجزئه من حجة الإسلام وإن صُدَّ قبل أن يحرم. وقال ابن الماجشون: إنما استحب له مالك القضاء. وفيها قول آخر روى عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت أنه يحل بعمرة وعليه حج قابل والهدى، وهو قول عروة.

(4/467)


وقال علقمة والنخعى: عليه حجة وعمرة. وهو قول الكوفيين، وقال مجاهد والشعبى: عليه حج قابل. وقال مالك فى المدونة: لا قضاء على المحصر بعدو فى حج التطوع ولا هدى عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر أصحاب الحديبية بقضاء ولا هدى، إلا أن تكون حجة الإسلام، فعليه حج قابل والهدى. وبه قال الشافعى وأبو ثور. واحتج الكوفيون بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما صُدَّ فى الحديبية قضاها فى العام القابل، فسميت عمرة القضاء. واحتج أصحاب مالك فقالوا: هذه التسمية ليست من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا من أصحابه، وإنما هى من أهل السير، فليس فيها حُجَّة، ولم تُسم عمرة القضاء من أجل ما ذكروه، وإنما سميت من أجل أن النبى عليه السلام قَاضَى عام الحديبية قُريشًا وصالحهم لمدة من الزمان، وعلى أن يرجع إلى مكة فى العام المقبل، ولو وجب عليهم القضاء لعرفهم به وقال: هذه العمرة لى ولكم قضاء عن التى صُددنا عنها؛ لأن الله تعالى فرض عليه البيان والتبليغ، فلما لم يعرفهم بذلك ولا أمرهم به دل أنه لم يكن واجبًا، ووجه إيجاب مالك عليه الهدى من أجل أن إحرامه حيل بينه وبين تمامه بالوصول إلى البيت. وجعل أبو حنيفة العمرة عوضًا من ذلك، فإن قيل: فما وجه ذكر حديث ابن عمر فى هذا الباب، وليس فى لفظه ما يدل على الترجمة؟ قيل: وجه ذلك والله أعلم أن البخارى استغنى بشهرة قصة صَدِّ النبى عليه السلام بالحديبية، وأنهم لم يؤمروا بالقضاء فى ذلك لأنها لم تكن حجة الفريضة، وإنما كانوا محرمين بعمرة، فلذلك قال مالك: لا قضاء على المحصر بعدوٍ للحج إذا كان تطوعًا، كما لم يكن على الرسول (صلى الله عليه وسلم) قضاء العمرة التى صُدَّ عنها؛ لأنه لم يعرفهم فى عمرة القضاء أنها قضاء عن التى صُدَّ عنها.

(4/468)


فهذا الحديث موافق لقول مالك، ولذلك ذكر البخارى قول مالك فى صدر الباب ليدل على أنه مأخوذ من حديث ابن عمر والله الموفق. وأما قول البخارى: والحديبية خارج المحرم فقد قال مالك: إن الحديبية فى الحرم، وكلا القولين له وجه، وذلك أن الحديبية فى أول الحرم، وهو موضع بروك ناقة النبى عليه السلام لأنها لما بركت فى أول الحرم وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (حبسها حابس الفيل) وصاحب الفيل لم يدخل الحرم، فمن قال: إن الحديبية خارج الحرم فممكن أن يريد موضع نزول النبى (صلى الله عليه وسلم) ومن قال: إنها فى الحرم يريد موضع حلاقهم ونحرهم. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الهدى إذا صد عن الحرم نحر فى غير الحرم، واحتجوا بهذا الحديث وقالوا: إنما نحر النبى عليه السلام هديه بالحديبية إِذْ صُدَّ، دل على أن لمن منع من إدخال هديه فى الحرم أن يذبحه فى غير الحرم، وهذا قول مالك. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجوز نحر الهدى إلا فى الحرم، واحتجوا بقوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] فكان الهدى قد جعله الله ما بلغ الكعبة، فهو كالصيام الذى جعله الله متتابعًا فى كفارة الظهار وكفارة القتل، فلا يجوز غير متتابع، وإن كان الذى وجب عليه غير مطيق للإتيان به متتابعًا، فلا تبيحه الضرورة أن يصومه متفرقًا. كذلك الهدى الموصوف ببلوغ الكعبة لا يجزئ إلا كذلك وإن صُدَّ عن بلوغ الكعبة، واحتجوا بأن نحر النبى (صلى الله عليه وسلم) لهديه حين صُدَّ كان فى الحرم، والدليل على ذلك ما رواه إسرائيل عن مجزأة بن زاهر، عن

(4/469)


ناجية بن جندب الأسلمى، عن أبيه قال: (أتيت النبى عليه السلام حين صُدَّ عن البيت فقلت: يا رسول الله، ابعث معى بالهدى فلأنحره فى الحرم، قال: وكيف تأخذ به؟ قلت: آخذ به فى أودية لا يقدرون علىّ فيها، فبعثه معى حتى نحرته) . وقال آخرون: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الحديبية وهو يقدر على دخول الحرم، ولم يكن صُد عن الحرم، وإنما صُد عن البيت. واحتجوا بحديث رواه ابن إسحاق، عن الزهرى، عن عروة، عن المسور (أن النبى عليه السلام كان بالحديبية خباؤه فى الحل، ومُصَلاه فى الحرم) . ولا يجوز فى قول أحد من العلماء لمن قدر على دخول شىء من الحرم أن ينحر هديه دون الحرم. فلما ثبت الحديث الذى ذكرناه أن الرسول كان يصل إلى الحرم، استحال أن يكون نحر الهدى فى غير الحرم؛ لأن الذى يبيح نحر الهدى فى غير الحرم إنما يبيحه فى حال الصَّدِّ عن الحرم، لا فى حال القدرة على دخوله، فانتفى بما ذكرناه أن يكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) نحر الهدى فى غير الحرم، وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد. وقد احتج أهل المقالة الأولى بما روى سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، عن أبى أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال: (خرجت مع على وعثمان، رضى الله عنهما، فاشتكى الحسن بالسقيا وهو محرم، فأصابه برسام فأومأ إلى رأسه، فحلق على رأسه، ونحر عنه جزورًا) . ورواه مالك عن يحيى، ولم يذكر عثمان ولا أن الحسن كان محرمًا، فاحتجوا بهذا الحديث؛ لأن فيه أن عليا نحر الجزور دون الحرم. قال الطحاوى: والحجة عليهم فى ذلك أنهم لا يبيحون لمن كان

(4/470)


غير ممنوع من الحرم أن يذبح فى غير الحرم، وإنما يختلفون إذا كان ممنوعًا منه، فدل أن عليا لما نحر فى هذا الحديث فى غير الحرم، وهو واصل إلى الحرم، أنه لم يكن أراد به الهدى، وإنما أراد به الصدقة والتقرب إلى الله، مع أنه ليس فى الحديث أنه أراد به الهدى، فكما يجوز لمن حمله على أنه هدى ما حمله عليه، فكذلك يجوز لمن حمله على أنه ليس بهدى ما حمله عليه.
2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] وَهُوَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلاثَةُ أَيَّامٍ
/ 234 - فيه: كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أن النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ) . قوله: (فَمَن كَانَ مِنكُم (معناه: من حلق ففدية، أجمع العلماء أنه من حلق رأسه لعذر أنه مخير فيما نص الله من الصيام أو الصدقة أو النسك، واختلفوا فيمن حلق أو لبس أو تطيب عامدًا من غير ضرورة، فقال مالك: بئس ما فعل، وعليه الفدية وهو مخير فيها. وقال أبو حنيفة والشافعى وأبو ثور: ليس مخيًا إلا فى الضرورة؛ لشرط الله) فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ) [البقرة: 196] فأما إذا حلق أو تطيب أو لبس عامدًا من غير ضرورة فعليه دم. وحجة مالك أن السُّنَّة وردت فى كعب بن عجرة فى حلقه رأسه

(4/471)


وقد آذاه هوامه، ولو كان حكم غير الضرورة مخالفًا لها لَبَيَّنَهُ عليه السلام، ولما لم تسقط الفدية من أجل الضرورة، علم أن من لم يكن بمضطر أولى ألا تسقط عنه الفدية، وقال مالك والليث والثورى وأبو حنيفة: إذا حلق ناسيًا فعليه الفدية كالعامد. وقال الشافعى: لا فدية عليه. وهو قول إسحاق. واحتج من يقول بأن فرض الحج على غير الفور؛ لأن النبى عليه السلام قال لكعب بن عجرة: (تؤذيك هوامك؟) قال: نعم، قال: احلق وانسك بشاة. فنزل قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ (إلى قوله: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] . قالوا: وإتمام الشىء حقيقة إنما هو كماله بعد الدخول فيه، وقد يستعمل فى ابتداء الشىء تجوزًا واتساعًا، ولم يُرد الله بقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] الإكمال بعد الدخول فيه، ولكنه تجوَّز واستعمله فى ابتداء الدخول، يدل على ذلك قول عمر وعلى: تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما من دويرة أهلك. فأخبر أن التمام فيهما هو ابتداء الدخول فيهما، وهم لم يكونوا فى الحديبية محرمين بالحج فيصح خطابهم بإكماله، وإنما كانوا محرمين بالعمرة، فعلم أن الأمر لهم بإتمام الحج ليس هو أمر بإكماله بعد الدخول فيه، وإنما هو أمر بالدخول فيه ابتداء، فدل هذا أن فرض الحج على غير الفور، وأن أحكام الحج وجبر ما يعرض فيه قد كان نَزَل، وكانت قصة كعب بن عجرة فى الحديبية، والحديبية كانت سنة ست، احتج بهذا أصحاب الشافعى.

(4/472)


3 - باب قوله: (أَوْ صَدَقَةٍ (وَهِىَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ
/ 235 - فيه: كَعْبَ، وَقَفَ عَلَىَّ النبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِى يَتَهَافَتُ قَمْلا، فَقَالَ: (يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاحْلِقْ رَأْسَكَ، وصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ) . لم يختلف الفقهاء أن الإطعام لستة مساكين، وأن الصيام ثلاثة أيام، وأن النسك شاة على ما فى حديث كعب، إلا شىء روى عن الحسن البصرى وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الإطعام لعشرة مساكين، والصيام عشرة أيام. ولم يتابعهم أحد من الفقهاء على ذلك؛ للسُّنَّة الثابتة بخلافه عن كعب بن عجرة فى الفدية، سُنُّة معمول بها عند جماعة العلماء، ولم يروها أحد من الصحابة غير كعب، ولا رزاها عن كعب إلا رجلان من أهل الكوفة: عبد الرحمن بن أبى ليلى، وعبد الله بن معقل، وهى سنة أخذها أهل المدينة من أهل الكوفة.
4 - باب الإطْعَامُ فِى الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ
/ 236 - فيه: كَعْب، نَزَلَتْ الفدية فِىَّ خَاصَّةً، وَهِىَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِى، فَقَالَ: (مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً) ؟ فَقُلْتُ: لا، فَقَالَ: (فَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ) . قال مالك وأبو حنيفة والشافعى: الإطعام فى الفدية مدان بِمُدِّ النبى (صلى الله عليه وسلم) على ما جاء فى حديث كعب. وروى عن الثورى وأبى حنيفة أنهما قالا عن الفدية: بالبر نصف صاع، ومن التمر أو الشعير أو الزبيب صاع لكل مسكين. وهذا خلاف نص الحديث

(4/473)


فلا معنى له؛ لأنه قال عليه السلام: (لكل مسكين نصف صاع) فعم بذلك جميع أنواع الطعام، ولم يستثن بعض ما يطعم المساكين أنه بخلاف هذا فيلزم إخراج صاع منه، وقاس أبو حنيفة الأيمان على كفارة فدية الأذى، فأوجب فى كفارة اليمان وسائر الكفارات مدين مدين لكل إنسان، وسيأتى بيان قولهم فى كتاب النذور والكفارات إن شاء الله.
5 - باب النُّسْكُ شَاةٌ
/ 237 - فيه: كَعْب، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ، وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِىَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. أجمع العلماء أن أقل النسك شاة، وبها أفتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) كعب بن عجرة، وقد ثبت أنه نسك ببقرة، حدثنا به أبو بكر التجيبى قال: حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن خليد المقبرى بمكة، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبى ليلى، عن نافع، عن سليمان بن يسار قال: (ذبح كعب بقرة) فأخذ الكفارات ولم تكن هذه مخالفة للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، بل كان موافقة وزيادة، ففى هذا من الفقه أن من أُفتى بأيسر الأشياء

(4/474)


وأقل الكفارات أن له أن يأخذ بأعالى الأمور وأرفع الكفارات، كما فعل كعب والله الموفق. قال ابن المنذر: قوله فى هذا الحديث: (ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة) فيه دليل أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت أن عليه أن يقيم حتى ييئس من الوصول فيحل، وقال من احفظ عنه من أهل العلم: إن من يئس أن يصل إلى البيت فجاز له أن يحل، فلم يفعل حتى خلى سبيله، أن عليه أن يمضى إلى البيت لتتم مناسكه. قال المهلب: وقوله: (فأمره أن يحلق، ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها) فيه حجة لمالك فى وجوب الكفارة على المرأة تقول فى رمضان: غدًا حيضتى، والرجل يقول: غدًا يوم حُمَّاى، فيفطران، ثم ينكشف الأمر بالحمى والحيض كما قالا، أنهما عليهما الكفارة؛ لأنهم لم يكن، كما كان فى علم الله من أنهم يحلون بالحديبية، وأن الهدى قد بلغ محله، بمسقط عن كعب الكفارة إذا استباح الحلاق قبل علم الله بأن الهدى قد بلغ محله، فكذلك ما كان فى علم الله من أنها تحيض لا يسقط عنها الكفارة إذا استباحت حُرْمة رمضان قبل علمها بالحيض، وكذلك المريض، إذا قد يجوز أن يكون ما ظنا؛ لأنه لا يقطع على مغيبه.
6 - باب قوله: (فَلا رَفَثَ ولا فسوق ولا جدال فِى الحج) [البقرة: 197]
/ 238 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، عليه السَّلام: (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّه) .

(4/475)


اختلفوا فى الرفث، فروى عن ابن عباس أنه قال: الرفث فى الحج: ما كلم به النساء، وروى مثله عن ابن عمر وعطاء، وروى عن ابن عباس أيضًا أن الرفث: الجماع، وهو قول مجاهد والزهرى، وقال ابن عباس: الفسوق: السباب. وقال مجاهد والزهرى: الفسوق: المعاصى. وقال ابن عباس: الجدال أن تمارى صاحبك حتى تغضبه. وقال طاوس: هو جدال الناس.
7 - باب جَزَاءِ الصَّيْدِ وقوله تَعَالَى: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ (إلى قوله: (الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [المائدة: 95]
. اتفق أئمة الفتوى بالحجاز والعراق أن المحرم أذا قتل الصيد عمدًا أو خطأ فعليه الجزاء، منهم: مالك والليث والأوزاعى والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق، وقال أهل الظاهر: لا يجب الجزاء إلا على من قتل الصيد عمدًا؛ لقوله تعالى: (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا) [المائدة: 95، 96] لأن دليل الخطاب يقتضى أن المخطئ بخلافه، وإلا لم يكن لتخصيص المتعمد معنى. قالوا: وقد روى عن عمر بن الخطاب ما يدل على أن ذلك كان مذهبه، رَوى سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، عن عمر أنه سأل رامى الظبى وقاتله: عمدًا أصبته أم خطأ؟ قالوا: ولم يسأله عمر عن ذلك إلا لافتراق العمد والخطأ عنده. قال ابن القصار: وروى مثله عن ابن عباس. قال الطحاوى: وذهب جماعة العلماء فى تأويل قوله: (وَمَن

(4/476)


قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا (إلى قوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة: 95] وقالوا: لا حجة فى قول عمر للرجل: أعمدًا أصبته أم خطأ؟ لأنه يجوز أن يسأله عن ذلك ليعلمه إن كان قتله عمدًا، ثم قتل بعده صيدًا عمدًا انتقم الله منه، فأراد عمر تحذيره من ذلك، مع أنه قد روى شعبة هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة قال له: أعمدًا أصبته أم خطأ؟ فقال: ما أدرى. فأمر بالفدية. فخالف رواية سفيان، فدل ذلك على أنه سأله عن العمد والخطأ ليقف به على وجوب الانتقام فى العودة، مع أن الأشبه بمذهب عمر مذهب الجماعة، روى شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، أن كعبًا قال لعمر: إن قومًا استفتونى فى مُحرم قتل جرادة، فأفتيتهم أن فيها درهم، فقال: إنكم بأهل مصرٍ كثيرة دراهمكم، لتمرة خير من جرادة. أفلا ترى عمر لم ينكر على كعب تركه سؤال القوم عن قتل المحرم للجرادة إن كان عمدًا أو خطأ؛ لاستواء الحكم فى ذلك عنده. ولو اختلف الحكم فى ذلك عنده لأنكر عليه تركه السؤال عن ذلك، وهذا ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو كلهم قد أجاب فيما أصاب المحرم بوجوب الجزاء، ولم يسأل أحد منهم عن عمدٍ فى ذلك ولا خطأ، ولا يكون ذلك إلا لاستواء الحكم عندهم فى ذلك. ثم إن السنة الثابتة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تدل على هذا المعنى، روى جرير ابن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبى عمار، عن جابر: (أن النبى عليه السلام سئل عن الضبع، فقال: هى صيد، وفيها إذا أصابها المحرم كبش) ورواه عطاء عن جابر،

(4/477)


فلما جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجزاء فى الصيد ولم يذكر فى ذلك عمدًا ولا خطأ؛ ثبت أن ذلك سواء فى وجوب الجزاء، وقال الزهرى: نزل القرآن بالعمد، وهو فى الخطأ سنة. قال الطحاوى: والقياس يدل على هذا المعنى لأنا قد رأينا الله تعالى قد حرم على المحرم أشياء منها: الجماع، وقتل الصيد، مع سائر ما حرمه الله عليهم سواهما، فكان مَنْ جَامع فى إحرامه عامدًا أو ساهيًا فى وجوب الدم وفساد الحج، وكذلك قتل الصيد كالجماع، سواء يستوى فيه العمد والخطأ، والخطأ بالكفارة أقل من العمد؛ لأن الله تعالى جعل فى كتابه على من قتل مؤمنًا خطأ ولم يوجبها على من قتله متعمدًا. قال ابن القصار: واحتج أهل الظاهر بقوله عليه السلام: (رفع عن أمتى الخطأ والنسيان) قال: والفقهاء مجمعون أن الخطأ والنسيان ليس فى غتلاف الأموال، وإنما المراد به رفع المأثم. قال إسماعيل بن إسحاق: وما رواه أهل الظاهر عن ابن عباس فإسناده ضعيف، رواه قتادة عن رجل، عن ابن عباس. واختلفوا فى تأويل قوله: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95] فقال ابن القصار عن مالك: إذا قتل المحرمُ صيدًا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ فى المنظر، فعليه مثله، ففى الغزال شاة، وفى النعامة بدنة، وفى حمار الوحش بقرة. وبه قال مجاهد والحسن والشافعى. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الواجب فى قتل الصيد القيمة، سواء كان له مِثْلٌ النَّعَم أم لا، وهو بالخيار بين أن يتصدق بقيمته وبين أن يصرف القيمة فى النعم فيشتريه ويهديه، وقالوا: لما لم يجز أن يراد بالمثل المثل من الجنس، عُلم أن المراد به القيمة، وأنها

(4/478)


تصرف فى النعم والدليل على أن المراد بالمثل القيمة قوله: (لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95] وهذا لفظ عام فى جميع الصيد، سواء كان له مثل أو لا، ومعلوم أن ما لا مثل له من جنسه ونظيره؛ فإن الواجب فى إتلافه القيمة، فصار المراد بالمثل القيمة فى أحد الأمرين فينبغى أن يكون المراد بالنظير؛ لامتناع أن يعبر باللفظ الواحد على معين مجانس؛ لأن القيمة متى صارت مرادة بالآية فى أحد نوعى الصيد صارت كالمذكورة فى الآية، فبقى حمل الآية على غيرها. قال ابن القصار: فالجواب أن قوله تعالى: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95] فالمراد به مثل المقتول، ولو اقتصر عليه ولم يقيده بالنعم لكان الواجب فى الظبى ظبيًا، وفى النعامة نعامة، وفى بقرة الوحش بقرة، فلما قال: (مِنَ النَّعَمِ (أوجب أن يكون الجزاء مثل المقتول من النعم لا من غيره، ومثله من النعم ليس هو القيمة، والمماثلة من طريقة الخلقة مشاهدة محققة، وما طريقها القيمة طريقها الاستدلال. ولما خص الله النعم من سائر الحيوان لم تكن له فائدة، إلا أن المراد المثل من طريق الخلقة والصورة من النعم دون القيمة، ولم يعقل منه مثل ما قتل من الدراهم؛ لأنه لو اقتصر على قوله: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ) [المائدة: 95] لم يعقل منه مثله من الدراهم، فتقييده بالنعم أولى ألا يعقل منه الدراهم، وقد يراد بالآية الحقيقة فى موضع والمجاز فى آخر، فيكون المثل من النعم فى قتل الغزال والنعامة وبقرة الوحش، وفيما لا مثل له القيمة، وإنما يتنافى ذلك فى حالة واحدة، فأما فى حكمين فلا. قال المهلب: فإن قيل: فقد قال مالك وجماعة الفقهاء غير أبى

(4/479)


حنيفة: فى الحمامة شاة، وليست الشاة مماثلة للحمامة. يقال له: أغفلت، وذلك أن اشتراطه تعالى فى المثل أن يكون من النعم، والطير ليست من النعم، فوجب أن يكون كل جزاء يغرم من النعم لا منجنس الحيوان المقتول؛ لأن الجزاء لا يكون إلا هديًا كما شرط الله) هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وأقل الهدايا من النعم شاة، فوجب هدى المقتول مما يكون هديًا لا مماثلا من جميع الجهات كما ظنالمخالف. واختلفوا فى قوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) [المائدة: 95] فقال مالك: لا يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين. وجوزه الثورى والشافعى، واختلف أصحاب أبى حنيفة على القولين، قال ابن القصار: والحجة لقول مالك قوله تعالى: (ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) [المائدة: 95] كما قال تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) [الطلاق: 2] فيحتاج إلى حكمين غيره يحكمان، كما يحتاج إلى شاهدين غيره. وقال الطحاوى: ووجدنا الحكومات المذكورات فى كتاب الله فيما سوى ذلك إنما يكون من غير المحكوم عليهم، قال تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) [النساء: 35] ولا يجوز أن يكون الزوج الحكم الذى من أهله، وإنما يكون من عُلم عدله، وأُمن على المحكوم عليه وعلى المحكموم له، ولم يكن جارا إلى نفسه ولا دافعًا عنها شيئًا. قال ابن المنذر: اتفق مالك والكوفيون والشافعى وأحمد وأبو ثور أنه بالخيار، إن شاء أتى بالهدى، وإن شاء صام، وإن شاء تصدق، وقال الثورى: إن لم يجد هديا أطعم، فإن لم يجد طعامًا صام. وقال الحسن والنخعى: إن لم يكن عنده جزاؤه قُوِّم بدراهم، ثم قومت الدراهم بطعام وصام، وإنما أريد بالطعام الصيام.

(4/480)


وقال سعيد بن جبير: إنما الطعام والصيام فيما لا يبلغ ثمن الهدى. والصواب قول من جعله بالخيار؛ لقول ابن عباس: كل شىء أراد فهو مخير، وما كان فإن لم يجد فهو الأول فالأول. واختلفوا فى الصوم المعدل فى القيمة، فكان بعضهم يقول: يصوم عن كل نُدَّيْن يومًا. هذا قول ابن عباس، وبه قال الثورى والكوفيون وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال بعضهم: يصوم عن كل مُدٍّ يومًا. هذا قول عطاء ومالك والشافعى، قال الطحاوى: فنظرنا فى ذلك، فوجدنا النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أمر كعب بن عجرة أن يطعم كل مسكين يومًا واحدًا، كان يصوم اليوم الواحد عن المُدَّين. واختلفوا فى قوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة: 95] هذا الوعيد معه جزاء عائد على مُصيب الصيد، كما كان عليه فى إصابته إياه بدءًا. فذهب بعضهم إلى أنه لا جزاء عليه فى ذلك إلا أول مرة، فإن عاد تُرك والنقمة، روى هذا عن شريح وذكره ابن المنذر عن ابن عباس وشريح والنخعى والحسن وقتادة ومجاهد. وذهب الكوفيون ومالك والشافعى وأحمد وإسحاق إلى أنه يحكم عليه بالجزاء كل مرة أصابه، قال الطحاوى: وهذا الصواب؛ لأنا روينا عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيرهم، أنهم حكموا على المُحْرِمين بإصابة الصيد ولم يسأل أحد منهم المحكوم عليه هل أصاب صيدًا قبل إصابته ذلك الذى حكموا فيه بالجزاء، فدل ذلك على أنه لا فرق عندهم بين البدء والعود، والنظر يدل على ذلك؛ لأنا رأينا أشياء منع الله منها المحرمين، منها الجماع وقتل الصيد وغير ذلك، وكان من جامع فى إحرامه فوجب

(4/481)


عليه الهدى فأهداه، ثم جامع ثانية فى إحرامه فوجب عليه الهدى أيضًا، كذلك الصيد، فإن قيل: إنما أثنيت الكفارة على العائد لوقع النقمة عليه. قيل: أو ليس إنما كان منتقمًا منه بمعصية الله، أفرأيت إن قتل الصيد بدءًا عالمًا منتهكًا للحرمة، أما كان يجب عليه فى ذلك نقمة وكان عليه الجزاء، فكذلك إذا عاد، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة: 95] إن شاء ذلك؛ لأن أحكام الوعيد فى العقوبات كذلك كانت عند العرب، إن شاء الله أوعد بها أنجزها، وإن شاء تركها. وقال ابن المنذر: أجمع اهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وبيعه وشراؤه واختلفوا فى معنى قوله: (وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ) [المائدة: 96] وسأذكره فى كتاب الصيد.
8 - باب إِذَا صَادَ الْحَلالُ، فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ فَأَكَلَهُ
وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ بِالذَّبْحِ بَأْسًا، وَهُوَ غَيْرُ الصَّيْدِ نَحْوُ الإبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ وَالْخَيْلِ. / 239 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، أنَّهُ انْطَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ، وَحُدِّثَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنَّ عَدُوًّا يَغْزُوهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ، تَضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، وَاسْتَعَنْتُ بِهِمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِى، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ، فَطَلَبْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَرْفَعُ فَرَسِى شَأْوًا، وَأَسِيرُ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلا مِنْ بَنِى غِفَارٍ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ، قُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهَنَ، وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلامَ

(4/482)


وَرَحْمَةَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ فَانْتَظِرْهُمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، وَعِنْدِى مِنْهُ فَاضِلَةٌ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: (كُلُوا) ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وفى حديث أبى قتادة من الفقه أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده وصاده حلال، وفى ذلك دليل أن قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 96] معناه: الاصطياد، وقيل: الصيد وأكل الصيد لمن صاده، وإن لم يصده فليس ممن عُنى بالآية، يبين ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95] لأن هذه الآية إنما نُهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير. وهذه مسألة اختلف فيها السلف قديمًا، فذهبت طائفة إلى أنه يجوز للمحرم أكل ما صاده الحلال، روى هذا عن عمر بن الخطاب وعثمان والزبير وعائشة وأبى هريرة، وإليه ذهب الكوفيون، وذهبت طائفة إلى أن ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله فلا يجوز له أكله، وما لم يُصد له فلا بأس بأكله، وهو الصحيح عن عثمان، وروى عن عطاء، وهو قول مالك فى العتبية وكتاب ابن المواز، وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وذكر ابن القصار أن المحرم إذا أكل ما صيد من أجله فعليه الجزاء، استحسان لا قياس. وعند أبى حنيفة والشافعى: لا جزاء عليه. واحتج الكوفيون بقوله عليه السلام للمحرمين: (كلوا) قالوا: فقد علمنا أن أبا قتادة لم يصده فى وقت ما صاده إرادةً منه أن يكون له خاصَةً، وإنما أراد أن يكون له ولأصحابه الذين كانوا معه، فقد أباح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك له ولهم، ولم يحرمه لإرادته أن يكون لهم معه، قاله الطحاوى.

(4/483)


قال: والنظر يدل على ذلك؛ لأنهم أجمعوا أن الصيد يحرمه الإحرام على المحرم، ويحرمه الحرم على الإحلال، وكان من صاد صيدًا فى الحل فذبحه فيه، ثم أدخله الحرم فلا بأس بأكله فيه، ولم يكن إدخاله لحم الصيد الحرم كإدخاله الصيد حيا فى الحرم؛ لأنه لو كان كذلك لنهى عن إدخاله فيه، ولمنع من أكله كما يمنع من الصيد، ولكان إذا أكله فى الحرم وجب عليه ما يجب فى قتله، فلما كان الحرم لا يمنع من لحم الصيد الذى صيد فى الحل كما يمنع من الصيد الحى؛ كأن النظر على ذلك أن يكون الإحرام يحرم على المحرم الصيد، ولا يحرم عليه لحمه إذا تولى الحلاُ ذبحه قياسًا ونظرًا. وحجة الذين أجازوا للمحرم أكل ما لم يصد له، أن أبا قتادة إنما صاده لنفسه لا للمحرمين، وكان وَجَّهَهُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) على طريق البحر مخافة العدو، فلم يكن محرمًا حين اجتمع مع أصحابه؛ لأن مخرجهم لم يكن واحدًا، فلم يكن صيده للمحرمين ولا بعونهم، ألا ترى قوله: (فأبوا أن يعينونى) . قالوا: فلذلك أجاز لهم عليه السلام أكله، قالوا: وعلى هذا تتفق الأحاديث المروية عن النبى عليه السلام فى أكل الصيد ولا تتضاد. وقد روى هذا المعنى عن النبى عليه السلام روى ابن وهب، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب أخبره عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن جابر أن النبى عليه السلام قال: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم) . وقالت طائفة: لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال،

(4/484)


ولا يجوز لمحرمٍ آكله البتة، على ظاهر قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 96] قال ابن عباس: هى مبهمة. وهو مذهب على وابن عمر، وبه قال الثورى، وهى رواية القاسم عن مالك فى المدونة، وبه قال إسحاق، واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة (أنه أهدى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حمارَ وحشٍ وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه وقال: لم نَرُدَّهُ عليك إلا أنا حرم) فلم يعتل بغير الإحرام، واعتل من أجاز أكله بأنه عليه السلام إنما رده لأنه كان حيا، ولا يحل للمحرم قتل الصيد، ولو كان لحمًا لم يرده؛ لقوله فى حديث أبى قتادة، وستأتى رواية من روى أن الحمار كان مذبوحًا فى باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيا لم يقبل. وأما قول البخارى: ولم ير ابن عباس وأنس بالذبح بأسا، وهو غير الصيد. فهو قول جماعة العلماء، لا خلاف بينهم أن الداجن كله من الإبل والبقر والغنم والدجاج وشبهه يجوز للمحرم ذبحه؛ لأن الداجن كله غير داخل فى الصيد المحرَّم على المحرِم، وأما أكل الخيل فأجازه أبو يوسف ومحمد والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل الحديث؛ لحديث جابر وأسماء أنهم أكلوه على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكره أكل الخيل مالك وأبو حنيفة، وستأتى هذه المسألة فى كتاب الذبائح إن شاء الله. وقال صاحب العين: شأوت القوم شأوا: سبقتهم، والشأو: الطلق.
9 - باب إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الْحَلالُ
/ 240 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ أُحْرِمْ، فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ، فَتَوَجَّهْنَا

(4/485)


نَحْوَهُمْ، فَبَصُرَ أَصْحَابِى بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ، فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا. . . الحديث. وترجم له: (بَاب لا يُعِينُ الْمُحْرِمُ الْحَلالَ فِى قَتْلِ الصَّيْدِ) ، وقال فيه: (كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالْقَاحَةِ، وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابِى يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، يَعْنِى وَقَعَ سَوْطُهُ، فَقَالُوا: لا نُعِينُكَ. . .) الحديث. وترجم له: (باب لا يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلالُ) ، وقال فيه: فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا) ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: (فَكُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا) . قال المهلب: إنما لم يجعل النبى عليه السلام ضحك المحرمين بعضهم إلى بعض دلالة على الصيد، وأباح لهم أكله؛ لأن ضحك المحرم إلى المحرم مثله، مما لا يحل له الصيد، لا حرج فيه، وإن كان قد آل إلى أن تنبه عليه أبو قتادة، فلم يكن أبو قتادة عندهم ممن خرج يقتنص صيدًا، فلذلك لم يجب عليهم جزاء، ولا حرم عليهم أكله، وأما إن أشار محرم على قناصٍ أو طالبٍ له، أو أغراه به، أو أعطاه سلاحًا، أو أَعَانَهُ بأى، فيكره له أكله؛ لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى قتادة، (أمنكم أحد أمر أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: كلوا ما بقى من لحمها) . وفى ذلك دليل أنه لا يحرم عليهم بما سوى ذلك، ودل ذلك على أن معنى قوله عليه

(4/486)


السلام فى حديث عَمرو مولى المطلب: (أو يُصَد لكم) أنه على ما صيد لهم بأمرهم. وقال غيره: وهذا يدل أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز له، واختلفوا فى ذلك، فقالت طائفة: إن دل محرم حلالا على صيد، أو أشار إليه، أو ناوله سيفًا أو شبهه حتى قتله، فعلى المحرم الدال أو المعين له الجزاء، روى ذلك عن على وابن عباس، وقال به عطاء، وإليه ذهب الكوفيون وأحمد وإسحاق، واحتج بقوله عليه السلام: (هل أشرتم أو أعنتم؟ قالوا: لا) فدل ذلك أنه إنما يحرم عليهم إذا فعلوا شيئًا من هذا، ولا يحرم عليهم بما سوى ذلك، فجعل المشاورة والمعاونة كالقتل؛ لأن الدلالة بسببٍ يُتوصل به إلى إتلاف الصيد، فوجب الجزاء، دليله: من نصب شبكه حتى وقع فيها صيد فمات. وقال مالك وابن الماجشون والشافعى وأبو ثور: لا جزاء على الدال. وهو قول أصبغ ابن الفرج، واحتج أهل هذه المقالة فقالوا: الدال ليس بمباشر للقتل، وقد اتفقنا أنه لو دَلَّ حلال حلالا على قتل صيد فى الحرم لم يكن على الدال جزاء؛ لأنه لم يحصل منه قتل الصيد، فكذلك هاهنا، وقد تقرر أنه لو دل على رجل مسلم فقتله المدلول، لم يجب على الدال ضمان، وحُرمة المسلم أعظم من حرمة الصيد، ولا حجة للكوفيين فى حديث أبى قتادة؛ لأنه إنما سألهم عن الإشارة والمعاونة، دل أنه يكره لهم أكله، أو يحرم عليهم، ولم يتعرض لذكر الجزاء، فمن أثبت الجزاء فعليه الدليل. وأيضًا فإن القاتل انفرد بقتله بعد الدلالة بإرادته واختياره مع كون الدال منفصلا عنه، فلا يلزمه ضمان، وهذا كمن دل محرمًا أو صائمًا على امرأة فوطئها، ومحظورات الإحرام لا تجب فيها الكفارات بالدلالة، كمن دل على طيب أو لباس.

(4/487)


0 - بَاب إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا لَمْ يَقْبَلْ
/ 241 - فيه: ابْن عَبَّاس، أن الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ: (إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلا أَنَّا حُرُمٌ) . أجمع العلماء أنه لا يجوز للمحرم قبول صيدٍ، حتى إذا وُهب له بعد إحرامه، ولا يجوز له شراؤه، ولا إحداث ملكه؛ لعموم قوله: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 95] ولحديث صعب، فإنما رده عليه السلام؛ لأنه لا يحل للمحرم تذكية الصيد ولا إهلاله، وقال أشهب: سمعت مالكًا يقول: كان الحمار حيا. قال الطحاوى: وقد روى هذا الحديث عن ابن عباس جماعة من أصحابه: سعيد بن جبير وعطاء ومقسم وطاوس، ففى حديث سعيد ابن جبير (أنه أهدى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حمارًا وحشيا فرده، وكان مذبوحًا) . وقال مرة: (أهدى إليه عجز حمار فرده يقطر دمًا) . وقال مقسم: (رِجْل حمار) . وقال عطاء: (عضد صيد) . وقال طاوس: (لحم حمار وحش) . قال الطحاوى: قد اتفقت هذه الآثار فى حديث الصعب عن ابن عباس أن الحمار كان غير حى، فذلك حجة لمن كره للمحرم أكل الصيد، وإن كان الذى تولى صيده وذبحه حلال وقد خالف ذلك حديث المطلب عن جابر.

(4/488)


قال المؤلف: واختلاف هذه الروايات يدل على أنه لم تكن قصة واحدة، وإنه كان فى أوقات مختلفة، فمرة أهدى إليه الحمار كله، ومرة أهدى إليه عجزه لأن مثل هذا لا يذهب على الرواة ضبطه، حتى يقع فيه التضاد فى النقل والقصة واحدة، والله أعلم. وقال إسماعيل بن إسحاق: سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجل النبى عليه السلام ولولا ذلك كان أكله جائزًا، قال سليمان: ومما يدل على أنه صيد من أجله قوله فى الحديث: (فرده يقطر دمًا) كأنه صيد فى ذلك الوقت. قال إسماعيل: وأما رواية مالك أنه أهدى إليه حمار وحش، فلا تحتاج إلى تأويل؛ لأن المحرم لا يجوز له إمساك صيد حى ولا يذكيه، وإنما يحتاج إلى التأويل من روى أنه أهدى إليه بعض الحمار. قال إسماعيل: وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث غير مختلفة، أعنى حديث الهدى فى الحمار العقير، وحديث أبى قتادة، وحديث الصعب، ويفسرها كلها حديث المطلب عن جابر أن النبى عليه السلام قال: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم) وقد ذكرته فى باب: إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم. قال الطبرى: معناه: أو يُصد لكم بأمركم. قال غيره: وهذا الحديث يشهد لمذهب مالك أنه أعدل المذاهب وأولاها بالصواب. قال المهلب: وفى حديث الصعب من الفقه رد الهدية إذا لم تحل للمهدَى له، وفيه الاعتذار لرد الهدية.

(4/489)


1 - باب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ
/ 242 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِى قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ) . وقال ابْن عُمَرَ: قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَ، عليه السَّلام: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، لا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) . / 243 - وفيه: عَائِشَةَ، عن النَّبِىّ، عليه السَّلام، مثل معناه. / 244 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى غَارٍ بِمِنًى؛ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ) وَالْمُرْسَلاتِ) [المرسلات: 1] وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا، وَإِنِّى لأتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا؛ إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْتُلُوهَا) ، فَابْتَدَرْنَاهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وُقِيَتْ شَرَّكُمْ، كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أَرَدْنَا بِهَذَا أَنَّ مِنًى مِنَ الْحَرَمِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بِقَتْلِ الْحَيَّةِ بَأْسًا. / 245 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لِلْوَزَغِ: (فُوَيْسِقٌ) ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ. أجمع العلماء على القول بجملة الأحاديث، إلا أنهم اختلفوا فى تفصيلها، فقال بظاهر حديث ابن عمر وحفصة: مالك والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، قالوا: ولم يعن بالكلب العقور الكلاب الإنسية، وإنما عنى بذلك كل سبع يعقر، كذلك فسره مالك وابن عيينة وأهل اللغة. وقال الخليل: كل سبع عقور كلب. وذكر ابن عيينة أن زيد بن

(4/490)


أسلم فسره له كذلك، وكلهم لا يرى ما ليس من السباع فى طبعه العقر والعداء فى الأغلب من معنى الكلب العقور فى شئ، ولا يجوز عندهم للمحرم قتل الهر الوحشى ولا الثعلب ولا الضبع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقتل المحرم من السباع إلا الخمس المذكورة فى الحديث فقط، والكلب العقور عنده الكلب المعروف، وليس الأسد فى شىء منه. وأجازوا قتل الذئب خاصة من غير الخمس، وسوى هذه الخمس والذئب ابتدأته أم لا، ولا شىء عليهم فيها، وأما غيرها من السباع فلا يقتلها؛ فإن قتلها فداها إلا أن تبتدئه، فإن بدأته فقتلها فلا شىء عليه. وقال الشافعى: لا جزاء فى قتل جميع ما يكل، سواء كان طبعه الابتداء بالضرر أم لا، ولا جزاء عنده إلا فى قتل صيد حلال أكله من سباع الوحش أو الطير. قال ابن القصار: والحجة على أبى حنيفة أن الكلب العقور اسم لكل ما يتكلب من أسد أو نمر أو فهد، فيجب أن يكون جميع ما يتناوله هذا الاسم داخل تحت ما أبيح للمحرم قتله. وقد روى زيد ابن أسلم عن عبد ربه، عن أبى هريرة أنه قال: الكلب العقور: الأسد. وقال (صلى الله عليه وسلم) فى عتبة بن أبى لهب: (اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك. فعدا عليه الأسد فقتله) . فإذا أباح عليه السلام قتل الكلب العقور لخوف عقه وضرره، فالسبع الذى يفترس ويقتل أعظم وأولى؛ لأنه لا يجوز أن يمنع من قتله مع إباحه قتل ما هو دونه، ولما قال عليه السلام: (خمس فواسق يقتلن) فسماهن فواسق لفسقهن وخروجهن لما عليه سائر الحيوان، لما فيهن من الضرر، فأباح قتلهن لهذه العلة، كان الضرر الذى فى الأسد والنمر والفهد أعظم، فهو بالفسق وإباحة القتل

(4/491)


أولى؛ لأنه إذا نص على شىء لضرره، فإنما نبه بذلك على أن الجنس الذى هو أكثر ضررًا أولى بذلك. كما ذكر الحية والعقرب، فنبه بهما على ما هو أعظم ضررًا من جنسهما، ونص على الفأرة، ونبه على ما هو أقوى حيلة من جنسها، ونص على الغراب والحِدَأ؛ لأنهما [. . . . . .] ويأخذان أزواد الناس، فكذلك نص على الكلب لينبه به على ما هو أعظم ضررًا منه، وأجاز قتل الأفعى، وهى داخلة عنده فى معنى الكلب العقور، والكلب العقور عنده صفة، لا عين مسماة. قال المؤلف: وقد نقض أبو حنيفة أصله فى الذئب فألحقه بالخمس، وليس بمذكور فى الحديث، فكذلك يلزمه أن يجعل الفهد والنمر وما أشبههما فى العدى بمنزلة الذئب. فإن قيل: إن الضبع من السباع، وهى غير داخلة عندكم فيما أبيح للمحرم قتله، قيل: قد قال الأوزاعى: كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها. وذكر ابن حبيب عن مالك قال: لا يقتل الضبع بحال، وقد جاء أن فيها شاة إلا أن تؤذيه. وكذلك قال فى الغراب والحدأة. قال أشهب: سألت مالكًا: أيقتلها المحرم من غير أن يضراَّ به؟ قال: لا، إنما أذن فى قتلهما إذا أضراَّ فى رأيى، وإذا لم يضراَّ فهما صيد، وليس للمحرم أن يصيد، وليسا مثل العقرب والفأرة، ولا بأس بقتلهما وإن لم يضراَّ، وكذلك الحية. والحجة على الشافعى فى أنه لا يوجب الجزاء فيما خاصَّةُ عمومُ قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 95] والصيد: عبارة عن الاصطياد، والأصطياد يقع على ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل،

(4/492)


وليس المعتبر فى وجوب الجزاء كون المقتول مأكولا؛ لأن الحمار المتولد عن الوحشى والأهلى لا يؤكل، وفى قتله الجزاء على المحرم. قال ابن المنذر: ولا خلاف بين العلماء فى جواز قتل المحرم وخلاف قول أهل العلم، وروى عن عطاء ومجاهد قالا: لا يقتل الغراب، ولكن يرمى. وهذا خلاف السنة وخلاف قول أهل العلم، وروى عن عطاء ومجاهد قالا: لا يقتل الغراب، ولكن يرمى. وهذا خلاف السنة، وشذت فرقة من أهل الحديث فقالوا: لا يقتل المحرم إلا الغراب الأبقع خاصة. ورووا فى ذلك حديثًا عن قتادة، عن ابن المسيب، عن عائشة، عن النبى عليه السلام وهذا الحديث لا يعرف من حديث ابن المسيب، ولم يروه عنه غير قتادة، وهو مدلس، وثقات أصحاب سعيد من أهل المدينة لا يوجد عندهم، مع معارضته حديث ابن عمر وحفصة، فلا حجة فيه، وأجمع العلماء على جواز قتل الحية فى الحل والحرم، وقال سفيان: قال لنا زيد ابن أسلم: وأى كلب أعقر من الحية. قال الطبرى: فإن قيل: قد صح أمر النبى عليه السلام بقتل الحيات، فما أنت قائل فيما روى مالك عن نافع، عن أبى لبابة بن عبد المنذر أخبره (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن قتل حيات البيوت) . قيل: قد اختلف السلف قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم بظاهر أمر النبى عليه السلام بقتل الحيات كلهامن غير استثناء شىء منها، كما روى أبو إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس منى) روى هذا القول عن عمر وابن مسعود. وقال آخرون: لا ينبغى أن يقتل عوامر البيوت وسكانها إلا بعد مناشدة العهد الذى أخذ عليهن، فإن ثبت بعد إنشاده قُتل، واعتلوا بحديث أبى سعيد الخدرى أن النبى عليه السلام قال: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإن رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنه شيطان) .

(4/493)


قال الطبرى: وجميع هذه الأخبار عن النبى عليه السلام حق وصدق، وليس فى شىء منها خلاف لصاحبه، والرواية عن النبى عليه السلام أنه أمر بقتل الحيات من غير استثناء شىء منها خبر مجمل، بَّين معناه الخبرُ الآخر أن النبى عليه السلام نهى عن قتل جنان البُيوت وعوامرها إلا بعد النشدة بالعهود والمواثيق التى أخذ عليها حذار الإصابة، فأقل ذلك شيئًا من التمثل بالحيات، فيلحقه من مكروه ذلك ما لحق الفتى المعرس بأهله، إذ قتل الحية التى وجدها على فراشه قبل مناشدته إياها، وذلك أنه ربما تمثل بعض الجن ببعض صور الحيات، فيظهر لأعين بنى آدم، كما روى ابن أبى مليكة عن عائشة بنت طلحة، أن عائشة أم المؤمنين رأت يومًا فى مغتسلها حية فقتلتها، فأتيت فى منامها فقيل لها: إنك قتلت مسلمًا. فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أمهات المؤمنين. فقيل: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فزعة، ففرقت فى المساكين اثنا عشر ألفا. وقال ابن نافع: لا ينذر عوامر البيوت إلا بالمدينة خاصة على ظاهر الحديث. وقال مالك: أحب إلى أن تنذر عوامر البيوت بالمدينة وغيرها، وذلك بالمدينة أوجب، ولا ينذر فى الصحارى. وقال غيره: المدينة وغيرها سواء فى الإنذار؛ لأن العلة إسلام الجن، ولا يحل قتل مسلم جنى ولا إنسى. قال المهلب: فى تسمية النبى (صلى الله عليه وسلم) الوزغ: فواسقًا ما يدل على عقرها، كما سمى العقورات كلها: فواسق، وقد روى الدراوردى عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعد بن أبى وقاص (أن النبى عليه السلام أمر بقتل الوزغ) ولكن الحديث مرسل؛ لأن ابن

(4/494)


شهاب بينه وبين سعد رجل، وذكر ابن المواز عن مالك قال: سمعت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر بقتل الوزغ، فأما المحرم فلا يقتلها؛ فإن قتلها رأيت أن يتصدق مثل شحمة الأرض. قيل له: وقد أذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى قتلها؟ قال: وكثير مما أذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى قتله لا يقتله المحرم. وروى ابن القاسم وابن وهب، عن مالك قال: لا أرى أن يقتل المحرم الوزغ؛ لأنه ليس من الجنس الذى أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقتلهن؛ فإن قتلها تصدق. قال: ولا يقتل المحرم قردًا ولا خنزيرًا ولا الحية الصغيرة ولا صغار السباع. وقال الشافعى: ما يجوز للمحرم قتله فصغاره وكباره سواء لا شىء عليه فى قتلها. وقال مالك فى الموطأ: ولا يقتل المحرمُ ما ضَرَّ من الطير إلا ما سَمَّى الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) : الغراب والحدأة، فإن قتل غيرهما من الطير فَدَاهُ. قال إسماعيل: واختلف المدنيون فى الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، فإن عرض لإنسان فدفعه عن نفسه لم يكن عليه فيه شئ. وذكر ابن المنذر أن عمر بن الخطاب كان يأمر بقتله، وقال عطاء وأحمد: لا جزاء فيه. وقال بعضهم: يُطعم شيئًا. قال إسماعيل: وإنما لم يدخل أولاد الكلب العقور فى حكمه؛ لأنهن لا يعقرن فى صغرهن، وقد سمى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الخمس فواسق، والفواسق: فواعل، والصغار لا فعل لهن. وقال الخطابى: أصل الفسق الخروج عن الشئ، ومنه قوله: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف: 50] أى: خرج، وسمى الرجل فاسقًا لانسلاخه من الخير. وقال ابن قتيبة: لا أرى الغراب سماه فاسقًا إلا لتخلفه عن أمر نوح

(4/495)


حين أرسله، ووقوعه على الجيفة وعصيانه إياه. وحكى عن الفراء أنه قال: ما أحسب الفأرة سميت فويسقة إلا لخروجها من جحرها على الناس. قال أبو سليمان: ولا يعجبنى واحد من القولين، وقد بقى عليهما أن يقولا مثل ذلك فى الحدأة والكلب، إذ كان هذا النعت يجمعهما، وهذا اللقب يلزمهما لزومه الغراب والفأرة، وإنما أراد والله أعلم بالفسق الخروج من الحرمة، يقول: خمس لا حرمة لهن، ولا بغيًا عليهن، ولا فدية على المحرم فيهن إذا أصابهن، وإنما أباح قتلهن لعاديتهن. وفيه: وجه آخر، وهو أن يكون أراد بتفسيقها تحريم أكلها، كقوله تعالى وقد ذكر المحرمات: (ذَلِكُمْ فِسْقٌ) [المائدة: 3] يدل على صحة هذا ما رواه المسعودى، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، عن النبى عليه السلام قال: (الغراب فاسق. فقال رجل من القوم: أيؤكل لحم الغراب؟ قالت: لا، ومن يأكله بعد قوله: فاسق) . وروت عمرة مثله عن عائشة وقالت: والله ما هو من الطيبات، تريد قوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [الأعراف: 157] ومما يدل على أن الغراب يقذر لحمه قول الشاعر: فما لحم الغراب لنا بزاد ولا سرطان أنهار البريص
2 - باب لا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ) . / 246 - فيه: أَبُو شُرَيْح، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى

(4/496)


مَكَّةَ: ائْذَنْ لِى أَيُّهَا الأمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِى، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَاىَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً. . .) الحديث إلى قوله: (أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلا فَارًّا بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخُرْبَةٍ) . قال الطبرى: معنى قوله عليه السلام: (لا يعضد بها شجرة) يعنى: لا يفسد ولا يقطع، وأصله من عضد الرجلُ الرجلَ، إذا أصاب عضده ذلك، عضد فلان فلانًا يعضد عضدًا، وفى كتاب العين: العضد من السيوف: الممتهن فى قطع الشجر. قال الطبرى: لا يجوز قطع أغصان شجر مكة التى أنشأها الله فيها مما لا صنع فيه لبنى آدم، إذا لم يجز قطع أغصانها فقطع شجرها بالنهى عن ذلك أولى. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم، واختلفوا فيما يجب على من قطعها، فذهب مالك إلى أنه لا يجب عليه إلا الاستغفار، وهو مذهب عطاء، وبه قال أبو ثور، وذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب مثل معناه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن قطع ما أنبته آدمى فلا شىء عليه، وإن قطع ما أنبته الله كان عليه الجزاء حلالا كان أو حرامًا، فإن بلغ هديًا كان هديًا، وإن قُوم طعامًا فأطعم كل مسكين نصف صاع. وقال الشافعى: عليه الجزاء فى الجميع، المحرم والجلال فى ذلك سواء، فى الشجرة الكبيرة بقرة، وفى الخشب قيمته ما بلغت دمًا كان أو طعاما. وحكى بعض أصحاب الشافعى أن مذهبه كمذهب أبى حنيفة فيما أنبته الآدمى، ذكره ابن القصار، واحتجوا بقوله عليه

(4/497)


السلام: (لا يقطع شجرها) قالوا: وهذا نهى يقتضى التحريم، وإذا ثبت تحريمه وجب فيه الجزاء كالصيد. قال ابن القصار: فيقال لهم: النهى عن قطعه لا يدل على وجوب الجزاء، كالنهى عن تنفير الصيد والإشارة والمعاونة عليه، وقد روى أن عمر بن الخطاب رأى رجلا يقطع من شجر الحرم، فسأله: لِمَ تقطعه؟ فقال: لا نفقة معى، فأعطاه نفقةً ولم يوجب عليه شيئًا. ولو كان قطع الشجر كالصيد لوجب على المحرم إذا قطعها فى حل أو حرم كما يجب فى الصيد. قال ابن المنذر: ولا أجد دلالة أوجب بها فى شجر الحرم شيئًا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وبقول مالك أقول، وأجمع العلماء على إباحة أخذ كل ما ينبته الناس فى الحرم من البقول والزرع والرياحين وغيرها، فوجب أن يكون ما يغرسه الناس من النخيل والشجر مباح قطعه؛ لأن ذلك بمنزلة الزرع الذى يزرعونه، فقطعه جائز، وما يجوز قطعه فمحال أن يكون فيه جزاء، هذا يقال للشافعى، فإن قال: فأوجب الجزاء فيما أنبته الله. قيل: لا أجد دلالة أُوجب بها ذلك من كتاب ولا سنة ولا إجماع، فوجب رَدُّ ما أنبته الله إلى ما أنبته الآدمى فى سقوط الجزاء. وقوله: (فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا) اختلف العلماء فيمن أصاب حدا فى غير الحرم من قتل أو زنا أو سرقة، ثم لجأ إلى الحرم، هل تنفعه استعاذته؟ فقالت طائفة: لا يجالس ولا يبايع ولا يكلم ولا [. . . . . .] حتى يخرج منه، فيؤخذ بالواجب لله عليه، وإن أتى حدا فى الحرم أقيم عليه فيه.

(4/498)


روى ذلك عن ابن عباس، وهو قول عطاء والشعبى والحكم، وعلة هذه المقالة ظاهر قوله تعالى: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] قالوا: فجعل الله حرمه آمنا لمن دخله، فداخله آمن من كل شىء وجب عليه قبل دخوله حتى يخرج منه، وأما من كان فيه فأتى فيه حدا فالواجب على السلطان أخذه به؛ لأنه ليس ممن دخله من غيره. قاله الطحاوى والطبرى. قال الطبرى: وعلتهم فى أنه لا يكلم ولا يبايع حتى يخرج من الحرم أنه لما كان غير محظور عليهم، كان لهم فعله؛ ليكون سببًا إلى خروجه وأخذ الحدِّ منه. وقال آخرون: لا يُخرج من لجأ إلى الحرم حتى يخرج منه فيقام عليه الحد، ولم يحظروا مبايعته ولا مجالسته. روى ذلك عن ابن عمر، وقال: لو وجدت قاتل عمر فى الحرم ما هجته. وعلة هذه المقالة أن الله جعل الحرم أَمنا لمن دخله، ومن كان خائفًا وقوع الاحتيال عليه، فإنه غير آمن، فغير جائز إخافته بالمعانى التى تضطره إلى الخروج منه لأخذه بالعقوبة التى هرب من أجلها. وقال آخرون: من أتى فى الحرم ما يجب به عليه الحد؛ فإنه يقام عليه ذلك فيه، ومن أتاه فى غيره فدخله مستجيرًا به، فإنه يُخرج منه ويُقام عليه الحد. روى ذلك عن ابن الزبير والحسن ومجاهد وعطاء وحماد، وعلة هذه المقالة أن الله جعل الحرم لمن دخله أمنةً من أن يعاقب فيه، ولم يجعله أمنةً من الجزاء الذى أوجبه عن من فعله. وذكر الطحاوى عن أبى يوسف قال: الحرم لا يجير ظالمًا، وإن من لجأ إليه أقيم عليه الحد الذى وجب قبل أن يلجأ إليه. ويشبه هذا أن يكون مذهب عمرو بن سعيد لقوله: (إن الحرم لا يعيذ

(4/499)


عاصيًا ولا فارا بخُرْبة) فلم ينكر ذلك عليه أبو شريح، وقال قتادة فى قوله تعالى: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] كان ذلك فى الجاهلية، فأما اليوم فلو سرق فى الحرم قُطع، ولو قَتل فيه قُتل، ولو قُدر فيه على المشركين قُتلوا، ولا يمنع الحرم من إقامة الحدود عند مالك، واحتج بعض أصحابه بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة من القتل، وهذا القول أولى بالصواب؛ لأن الله تعالى أمر بقطع السارق، وجلد الزانى، وأوجب القصاص أمرًا مطلقا ولم يخص به مكانا دون مكان، وفإقامة الحدود تجب فى كل مكان على ظاهر الكتاب. ومما يشهد لذلك أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقتل الفواسق المؤذية فى الحرم، فقام الدليل من هذا أن كل فاسق استعاذ بالحرم أنه يقتل بجريرته، ويؤخذ بقصاص جُرْمه. وقال إسماعيل بن إسحاق: وقد أنزل الله الحدود والأحكام على العموم بين الناس، فلا يجوز أن يترك حكم الله فى حرم ولا غيره؛ لأن الذى حرم الحرم هو الذى حرم معاصيه أن ترتكب، وأوجب فيها من الأحكام ما أوجب. وسيأتى طرف من هذه المسألة فى باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فى كتاب الديات إن شاء الله. وذكر الطحاوى عن أبى حنيفة وزفر وأبى يوسف ومحمد كقول ابن عباس، إلا أنهم يجعلون ذلك أمانا فى كل حد يأتى على النفس من حدود الله وحدود عباده، مثل أن يزنى وهو محصن، أو يرتد عن الإسلام، أو يقتل رجلا عمدًا، أو يقطع طريق المسلمين، فيجب عليه القتل فيلجأ إلى الحرم فيدخله، ولا يجعلون ذلك على الحدود التى لا تأتى على النفس، كقطع السارق والقود فى قطع الأيدى وشبهها، والتعزير الواجب بالأقوال الموجبة للعقوبات.

(4/500)


قال الطحاوي: ولا وجه لتفريقهم بين الحدود التى تأتى على النفس وبين التى تأتى عليها؛ لأن الحرم إن كان دخوله يؤمن عند العقوبات فى الأنفس، ويؤمن فيما دونها، وإن كان لا يؤمن من العقوبات فيما دون الأنفس فلا يؤمن منها فى الأنفس، ولم يفرق ابن عباس بين شىء من ذلك، فقوله أولى من قول أبى حنيفة وأصحابه لا سيما ولا يُعلم أحد من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) خالفه فى قوله.
3 - باب لا يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ
/ 247 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِى، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلا لِمُعَرِّفٍ) ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ: (إِلا الإذْخِرَ) . فَقَالَ عِكْرِمَةَ: يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنَ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ. قال الطبرى: فيه البيان البين أن صيد الحرم حرام اصطياده، وذلك أن النبى عليه السلام إذ نهى عن تنفير صيده؛ فاصطياده أوكد فى التحريم من تنفيره. فإن قيل: أفنقول: إن نفر صيده فعليه الجزاء؟ قيل: إن أداه تنفيره سببًا إلى هلاكه لم يجب عليه شىء غير التوبة، ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء. وقد روى عن عطاء أنه من أخذ طائرًا فى الحرم ثم أرسله قال: يطعم شيئًا لما نفره. وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه لا شىء فى التنفير، روى شعبة عن الحكم، عن شيخ من أهل مكة أن حمامًا كان على البيت فذرق على يد عمر، فأشار عمر بيده فطار، فوقع

(4/501)


على بعض بيوت مكة، فجاءت حية فأكلته، فحكم عمر على نفسه بشاة، فلم ير عمر لما نفر الحمامة عليه شيئًا حتى تلفت، ورأى أن تلفها كان منسبب تنفيره، وإنما استجاز عمر تنفيره من الموضع الذى كان واقفًا عليه مع علمه أن تنفيره صيده غير جائز؛ لأنه ذرق على يده، فكان له طرده عن الموضع الذى يلحقه أذاه فى كونه فيه، وكذلك كان عطاء يقول فى معنى ذلك. قال ابن جريح: قلت لعطاء: كم فى بيضة الحمام؟ قال: نصف درهم، فقال له إنسان: بيضة وجدتها على فراشى أميطها عنه؟ قال: نعم. قال: وجدتها فى سهوة وفى مكان من البيت؟ قال: لا تمطها. فرأى عطاء إن أماط عن فراشه بيضة من بيض حمام غير حرج، ولا لازم بإماطته إياها شئ؛ لأن مِنْ تِرْكه إياها على فراشه عليه أذى، ولم ير جائزًا إماطتها عن الموضع الذى لا أذى عليه فى كونها فيه، فكذلك كان فعل عمر فى إطارته الحمامة التى ذرقت على يده من الموضع الذى كانت واقفة عليه. وقوله: (لا يختلى خلاها) يريد لا يقطع عشبها، والخلى مقصور: كل كلأ رطب؛ فإذا يبس كان حشيشًا، قال الطبرى: واتفق الفقهاء أن نهيه عليه السلام عن اختلاء خلاها، هو مما ينبت فيه مما أنبته الله ولم يكن لآدمى فيه صنع، فأما ما أنبته الآدميون فلا بأس باختلائه. واختلف السلف فى الرعى فى خلاها، هل هو داخل فى نهيه عليه السلام عن الاختلاء أم لا؟ فقال بعضهم: ذلك غير داخل فى النهى عن الاختلاء، ولا بأس بالرعى فيها. روى ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد وابن أبى ليلى، قالوا: لا بأس بالرعى فى الحرم إلا أنه لا يخبط.

(4/502)


قال المؤلف: وحكى ابن المنذر مثله عن أبى يوسف والشافعى. قال الطبرى: وعلة هذه المقالة أن النهى إنما ورد فى الاختلاء دون الرعى فيها، والراعى غير مختل؛ لأن المختلى هو الذى يقطع الخلى بنفسه. وقال آخرون: لا يجوز الرعى فيها؛ لأن الرعى أكثر من الاختلاء. هذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد، قالوا: لو جاز أن يرعى فيها جاز أن يحتش فيه إلا الإذخر خاصة. وقال مالك: لا يحتش أحد لدابة. واعتلوا بقوله عليه السلام: (لا يختلى خلاها) واختلاؤه: استهلاك له وإماتة، وإرعاء المواشى فيه أكثر من احتشاشه فى الاستهلاك. فإن قيل: فقد قلتم إن العلماء متفقون على أن النهى من الاختلاء المراد به ما أنبته الله لم بكن لآدمى فيه صنع، فكيف جوزتم اجتناء الكمأة، وهى مما أنبته الله تعالى ولا صنع فيها لبنى آدم؟ فيقال له: إنما أجزنا ذلك؛ لأن الكمأة لا يقع عليها اسم شجر ولا حشيش، وفى إجماع الجميع على أنه لا بأس بشرب مياه آبار والانتفاع بترابه، الدليل الواضح على أن ما أحدث الله فى حرمه مطلق أخذه والانتفاع به كالمكأة؛ لأنها لا تستحق اسم كلأ ولا شجر، وإنما هى كبعض ما خلق فيها من الحجر والمدر والمياه؛ إذ لا أصل لها ثابت. فإن قيل: كيف ساغ للعباس أن يسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) استثناء الإذخر، وهو يسمعه يحرم الاختلاء وقطع الشجر؟ قيل: فى ذلك جوابان: قال المهلب: يحتمل أن يكون تحريم مكة خاصَّةً من تحريم الله تعالى ويكون سائر ما ذكر فى الحديث من تحريم الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فلذلك استثنى الإذخر، ولو كان من تحريم الله ما استبيح منه إذخر ولا غيره، وقد تأتى فى آية وفى حديث أشياء فرض، ومنها سنة، ومنها رغبة، ويكون الكلام فيها كل واحد، قال الله تعالى: (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ

(4/503)


وَإِيتَاء ذِى الْقُرْبَى) [النحل: 90] والعدل فرض، والإحسان وإيتاء ذى القربى وسنن ورغائب، ومثله قوله عليه السلام: (إذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) نافلة. وفيها قول آخر: يحتمل أن يكون تحريم مكة وكل ما ذكر فى الحديث من تحريم الله، ويكون وجه استثنائه عليه السلام تحليل الإذخر دون استعلام الله تحليل ذلك؛ لأن الله قد كان قد أعلم نبيه فى كتابه بتحليل المحرمات عند الضرورات، فمنها أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما فى الآية وأحلها لعباده عند اضطرارهم إليها بقوله: (فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3] فلما كان هذا أصلا من أصول الشريعة قد أنزله الله فى كتابه على رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وأخبره العباس أن الإذخر لا غنى بالناس عنه لقبورهم وبيوتهم وصاغتهم، حكم النبى عليه السلام بكم المباحات عند الضرورات، وهذا تأويل حسن.
4 - باب لا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ
/ 248 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: (لا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ. . .) الحديث. قال الطبرى: فيه الإبانة عن أن مكة غير جائز استحلالها، ولا نصب الحرب عليها لقتال بعد ما حرمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى قيام الساعة،

(4/504)


وذلك أنه عليه السلام أخبر حين فرغ من أمر المشركين بها أنها لله حرم، وأنها لم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعده بعد تلك الساعة التى حارب فيها المشركين، وأنها قد عادت حرمتها كما كانت، فكان معلوم بقوله هذا أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذى أحلت له به، وذلك محاربة أهلها وقتالهم وردهم عن دينهم. قال المؤلف: إن قال قائل: قد رأينا الحَجَّاج وغيره قاتل مكة ونصب الحرب عليها، وأن القرمطى الكافر قلع الحجر الأسود منها وأمسكه سبعة عشر عامًا، فما وجه ذلك؟ قيل له: معناه بَيِّن بحمد الله، وذلك أن الحَجَّاج وكل من نصب الحرب عليها بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكن ذلك مباحًا ولا حلالا كما حل للنبى عليه السلام وليس قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (وقد عادت حرمتها كما كانت، ولا يحل القتال بها لأحد بعدى) . أن هذا لا يقع ولا يكون، وقد يَرِدُ ذلك، وقد أنذرنا عليه السلام أن ذا السويقين من الحبشة يهدم الكعبة حَجَرًا حَجَرًا، وإنما معناه أن قتالها ونصب الحرب عليها حرام بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) على كل أحد إلى يوم القيامة، وأن من استباح ذلك فقد ركب ذنبًا عظيمًا، واستحل محرمًا شنيعًا. قال الطبرى: فإن قيل: فلو ارتد مرتد بمكة، أو ارتد قوم فيها فمنع أهلها السلطان من إقامة الحد عليه، أيجوز للسلطان بها حربهم وقتالهم حتى يصل إلى من يجب عليه إقامة الحد؟ قيل: يجوز ذلك، ولكن يجب على الإمام الاحتيال لإخراجهم من الحرم حتى يقيم عليهم ما أوجبه الله فيهم، والحيلة فى ذلك حصار مانعيهم، والحول بينهم وبين وصول الطعام إليهم وما يُطرون مع فقده إلى إمكان السلطان منهم وممن لزمه حَدُّ الله تعالى حتى يخرج من الحرم ويقام عليه.

(4/505)


5 - باب الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِم
وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ. / 249 - فيه: ابْن عَبَّاس، احْتَجَمَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَهُوَ مُحْرِمٌ. / 250 - وفيه: ابْن بُحَيْنَةَ، قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُحْرِمٌ، بِلَحْىِ جَمَلٍ فِى وَسَطِ رَأْسِهِ. قوله: (بلحى جمل) هو مكان بطريق مكة، واختلف العلماء فى الحجامة للمحرم، فرخص فيها عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والشعبى، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، وأخذوا بظاهر هذا الحديث، وقالوا: ما لم يقطع الشعر. وقال قوم: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة. روى ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك، وحجة هذا القول أن بعض الرواة يقول إن النبى (صلى الله عليه وسلم) احتجم لضرر كان به، رواه هشام بن حسان عن عكرمة، عن ابن عباس (أن النبى عليه السلام إنما احتجم وهو محرم فى رأسه لأذى كان به) . ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له حلق شىء من شعر رأسه حتى يرمى جمرة العقبة يوم النحر إلا من ضرورة، وأنه إن حلقه من ضرورة فعليه الفدية التى قضى بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على كعب بن عجرة، وإن لم يحلق المحتجم شعرًا فهو كالعرق يقطعه، أو الدمل يبطه، أو القرحة ينكأها، ولا يضره ذلك، ولا شىء عليه فيه عند جماعة العلماء. وقال الطبرى: فيه من الفقه الإبانة أن للمحرم إذا احتاج إلى إخراج

(4/506)


دمه: الاحتجامَ والفصدَ ما لم يقطع شعرًا، وأن له العلاج لكل ما عرض له من علة فى جسده بما رجى دفع مكروهها عنه من الأدوية بَعْدَ ألا يأتى فى ذلك ما هو محظور عليه فى حال إحرامه، ثم لا يلزمه بكل ما فعل من ذلك فدية ولا كفارة، وكذلك له بط دمل وقلع ضرس إن اشتكاه؛ لأن النبى عليه السلام احتجم فى حال إحرامه لحاجته إلى ذلك، ثم لم ينقل عنه ناقل أنه حظر ذلك على أحد من أمته ولا أنه افتدى، فبان بذلك أن كل ما كان نظير الحجامة التى هى إخراج الدم من جسده فله فعله، ونظير ذلك بط الحدس، وقلع الضرس، وفصد العِرْق، وقطع الظفر الذى انقطع فتعلق فآذى صاحبه، أن على المحرم قلعه، ولا يلزمه لذلك كفارة ولا فدية. وقال ابن المنذر: أجمعوا أن للمحرم أن يزيل عن نفسه ما انكسر من أظفاره، وأجمعوا أنه ممنوع من أخذ أظفاره، وذكر عن الكوفيين أن المحرم إذا أصابه فى أظافيره أذى فقصها يكفر بأى الكفارات شاء. وقال أبو ثور: فيها قولان: أحدهما: قول الكوفيين، والثانى: لا شىء عليه، بمنزلة الظفر ينكسر. وقال ابن القاسم: لا شىء عليه إذا أراد أن يداوى قرحة فلم يقدر على ذلك إلا أن يقلم أظفاره. وقال ابن عباس: إذا وجعه ضرسه ينزعه، فإن الله لا يصنع بأذاكم، وكذلك إذا انكسر ظفره، وقاله عطاء وإبراهيم وسعيد بن المسيب، وقال عطاء: ينتقش الشوكة من رجله ويداوى جرحه. وقال عطاء: إن أصابته شجة فلا بأس أن يأخذ ما حولها من الشعر، ثم يداويها بما ليس فيه طيب.

(4/507)


6 - باب تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ
/ 251 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ. اختلف الآثار فى تزويج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميمونة، فروى ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم، وروى أنه تزوجها وهو حلال، والروايات فى ذلك متواترة عن أبى رافع مولى النبى عليه السلام وعن سليمان ابن يسار وهو مولاها، وعن يزيد الأصم وهو ابن أختها. فمنها حديث ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم قال: حدثتنى ميمونة بنت الحارث: (أن النبى عليه السلام تزوجها وهو خلال) قال يزيد: كانت خالتى، وخالة ابن عباس. وجمهور علماء المدينة يقولون: لم ينكح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميمونة إلا وهو حلال. روى مالك، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث أبا رافع مولاه ورجلاً من الأنصار يزوجاه ميمونة بنت الحارث، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة قبل أن يخرج) . واختلف الفقهاء فى ذلك من أجل اختلاف الآثار، فذهب أهل المدينة إلى أن المحرم لا يَنكح غيره، فإن فعل فالنكاح باطل، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى، وزيد بن ثابت، وابن عمر. وبه قال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد. واحتجوا أيضًا بحديث مالك، عن نبيه بن وهب، عن أبان ابن عثمان، عن عثمان بن عفان قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) . وذهب الثورى والكوفيون إلى أنه يجوز للمحرم أن ينكح وينكح

(4/508)


غيره، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وأنس بن مالك، ذكره الطحاوى، وروى عن القاسم بن محمد والنخعى، وحجتهم حديث ابن عباس وقالوا: الفروج لا تحل إلا بنكاح أو بشراء، والأُمَّة مجمعة على أن المحرم يملك ذلك بشراء وهبة وميراث ولا يبطل ملكه، فكذلك إذا ملكه بنكاح لا يبطل ملكه قياسًا على الشراء، عن الطبرى، قال: والصواب عندنا أن نكاح المحرم فاسد يجب فسخه لصحة الخير عن عثمان، عن النبى عليه السلام بالنهى عن ذلك، وخبر ابن عباس أن النبى عليه السلام تزوج ميمونة وهو محرم. فقد عارضهم فيه غيرهم من الصحابة وقالوا: تزوجها وهو حلال، فلم يكن قول القائلين: تزوجها وهو محرم أولى من قول القائلين تزوجها وهو حلال. وقد قال سعيد بن المسيب: وَهِمَ ابن عباس وإن كانت بخالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل، وحدثنى يعقوب، حدثنى ابن علية، حدثنى أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف إنما كان فى نكاح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميمونة: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث العباس بين يديه لينكحها إياه فأنكحه. قال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم: بعدما أحرم. وقد ثبت أن عُمر وعليا وزيدًا فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته، ولا يكون هذا إلا عن صحة ويقين. وأما قياسهم النكاح على الشراء؛ فإن الذين أفسدوا نكاح المحرم لم يفسدوه من جهة القياس والاستنباط، فلتزمهم المقاييس والنظائر والأشباءه، وإنما أفسدوه من جهة الخبر الوارد عن النبى عليه السلام بالنهى عن ذلك، فالذى ينبغى لمخالفيهم

(4/509)


أن يناظروهم من جهة الخبر؛ فإن ثبت لزمهم التسليم له، وإن بطل صاروا حينئذٍ إلى استخراج الحكم فيه من المثال والأشباه، فأما والخبر ثابت بالنهى عن النكاح فلا وجه للمقايسة فيه.
7 - بَاب مَا يُنْهَى مِنَ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لا تَلْبَسِ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ. / 252 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ رَجُل: مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ. فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (لا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ. . .) إلى قوله: (وَلا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ، وَلا وَرْسُ. . .) الحديث. / 253 - وفيه: ابْن عَبَّاس، وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ، فَقَتَلَتْهُ، فَأُتِىَ بِهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (اغْسِلُوهُ، وَكَفِّنُوهُ، وَلا تُغَطُّوا رَأْسَهُ، وَلا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يوم القيامة يُهِلُّ) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: كل ثوب مسه ورس أو زعفران، فلا يحل لبسه فى الإحرام، وإن غُسل؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يبين فى هذه الآثار ما غسل فى ذلك مما لم يغسل. وخالفهم فى ذلك آخرون، فقالوا: ما غسل من ذلك حتى لا ينفض فلا بأس بلبسه فى الإحرام؛ لأن الثوب الذى صُبغ إنما نهى عن لبسه فى حال الإحرام لما كان فى دخله مما هو حرام على المحرم، فإذا غسل وذهب ذلك المعنى منه عاد الثوب إلى أصله الأول، كالثوب الذى تصيبه النجاسة، فإذا طهر حلت الصلاة فيه. قال ابن المنذر: وممن رخص فى ذلك: سعيد بن المسيب،

(4/510)


والنخعى، والحسن البصرى، وعطاء، وطاوس، وبه قال الكوفيون والشافعى وأبو ثور، وكان مالك يكره ذلك إلا أن يكون غُسل وذهب لونه. قال الطحاوى: وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه استثناه مِمَّا حرمه على المحرم من ذلك فقال: (إلا أن يكون غسيلا) حدثناه فهد، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا أبو معاوية وحدثنا ابن أبى عمران، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الزدى، عن أبى معاوية، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام بمثل حديثه الذى فى الباب، فثبت بهذا استثناء الغسيل مما قد مسه ورس أو زعفران. قال ابن أبى عمران: رأيت يحيى بن معين يتعجب من الحمانى إذ حدث بها الحديث. وقال عبد الرحمن بن صالح: هذا عندى. فوثب من فَوْرِه، فجاء بأصله، فأخرج منه هذا الحديث عن أبى معاوية كما ذكره الحمانى فكتبه عنه يحيى بن معين.
8 - باب الاغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاس: يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا. / 254 - فيه: ابْن عَبَّاس، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أنهما اخْتَلَفَا بِالأبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: لا، فَأَرْسَلَنِى ابْنُ عَبَّاس إِلَى أَبِى أَيُّوبَ الأنْصَارِىِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ،

(4/511)


فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِى إِلَيْكَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاس، أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِى رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ. اختلف العلماء فى غسل المحرم رأسه، فذهب أبو حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق إلى أنه لا بأس بذلك، ورويت الرخصة فى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس وجابر، وعليه الجمهور، وحجتهم حديث أبى أيوب، وكان مالك يكره ذلك للمحرم، وذكر أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه إلا من الاحتلام. قال مالك: فإذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل وحلق الشعر وإلقاء التفث، وهو الذى سمعته من اهل العلم. وروى عن سعد بن عبادة مثل قول مالك، وكان أشهب وابن وهب يتغاطسان فى الماء وهما محرمان مخالفة لابن القاسم، وكان ابن القاسم يقول: إن غمس رأسه فى الماء أطعم خوفًا من قتل الدواب، ولا يجب الفداء إلا بيقين، وغير ذلك استحباب، ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصب المحرم على رأسه للحرِّ يجده. قال أشهب: غمس المحرم رأسه فى الماء وما يخاف فى الغمس ينبغى أن يخاف مثله فى صب الماء على الرأس من الحرِّ. وقد قال عمر بن الخطاب ليعلى بن منبه حين كان عمر يغسل رأسه ويعلى يصب عليه: اصبب فلن يزيده الماء إلا شعثًا، يعنى: إذا لم يغسل بغير الماء؛ ألا ترى فعل أبى أيوب حين صب على رأسه الماء حركه بيديه، ولم ير ذلك مما ذهب الشعث، ومثله قوله عليه السلام لعائشة: (انقضى رأسك فى غسلك وامتشطى. .) أى: امشطيه بأصابعك

(4/512)


وخلليه بها، فإن ذلك لا يذهب الشعث، وإن شعثه لا يمنعك من المبالغة فى غسل رأسك؛ لأن الماء لا يزيده إلا شعثًا. فابن عباس أفقه من المسور لموافقته النبى عليه السلام وأصحابه، قاله أبو عبد الله بن أبى صفرة. وأما إن غسل رأسه بالخطمى والسدر، فإن الفقهاء يكرهون ذلك، هذا قول مالك وأبى حنيفة والشافعى، وأوجب مالك وأبو حنيفة عليه الفدية، وقال أبو ثور: لا شىء عليه. وقد رخص عطاء وطاوس ومجاهد لمن لُبِّد رأسه فشق عليه الحلق أن يغسله بالخطمى حتى يلين، وكان ابن عمر يفعل ذلك. قال ابن المنذر: وذلك جائز؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمرهم أن يغسلوا الميت المحرم بماء وسدر، وأمرهم أن يجنبوه ما يجتنب الحى، فدل ذلك على إباحة غسل رأس المحرم بالسدر، والخطمى فى معناه. وأجاز الكوفيون والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق للمحرم دخول الحمام. وقال مالك: إن دخل الحمام فتدلك وأنقى الوسخ فعليه الفدية، وقال ابن وهب: القرنان هما الرِّجْلان اللذان فى جنبتى البئر. وفيه من الفقه: أن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن الحجة فى قول أحد منهم إلا بدليل يجب التسليم له من الكتاب أو السنة، كما نزع أبو أيوب بالسنة، ففَلَج ابن عباس المسور. وفيه من الفقه: التناظر فى المسائل والتحاكم فيها إلى الشيوخ العالمين بها. وقوله فى الترجمة: ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسًا يعنى: حك جلده إذا أكله. وقال عطاء: يحك الحب فى جلده وإن أدماه.

(4/513)


9 - باب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ
/ 255 - فيه: ابْنَ عَبَّاس، خطب النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ. . .) الحديث. / 256 - وفيه: ابْن عُمرَ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ. . .؟ إلى قوله: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ) . اختلفوا إذا احتاج إلى لبس الخفين عند عدم النعلين وقطعهما. فقال مالك والشافعى: لا فدية عليه، وأخذا بحديث ابن عمر، وقال أبو حنيفة: عليه الفدية. وهذا مخالف للحديث، واحتج أصحابه وقالوا: إن النبى عليه السلام أباح له لباس السراويل عند عدم الإزار، وذلك يوجب فيه الفدية. فقال ابن القصار: الفرق بينهما أن الخف أُمِرَ بقطعه حتى لا يصير فى معنى النعلين التى لا فدية فى لبسهما، والسراويل لم يمر بفتقه لئلا تنكشف عورته، فبقى فى حكم القميص المخيط، ولو أمر بفتقه لصار فى معنى الخف إذا قطع. قال ابن القصار: والحجة لمالك قوله عليه السلام: (وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) ولو وجبت الفدية مع قطعهما وتركهما لم يكن لقطعهما فائدة؛ لأنه إتلاف من غير فائدة، وإنما قطعهما ليصيرا فى معنى النعلين حتى لا تجب فدية، ولا يدخل النقص فيجبر بالفدية، ولو وجبت الفدية بلبسه بعد القطع كما تجب بلبسه قبل القطع لم يأمر عليه السلام بالقطع؛ لأن لبسه بعد القطع كلبسه قبله، فلما جوز له لبسه بعد القطع ولم يجوزه قبله؛ علم أنه إذا لبسه بعد القطع كان مخالفًا لحكمه إذا لبسه قبل القطع فى الفدية.

(4/514)


0 - باب إِذَا لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ
/ 257 - فيه: ابْن عَبَّاس، خَطَبَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ. . .) الحديث. أجمعوا أن المحرم إذا وجد إزارًا لم يجز له لبس السراويل. واختلفوا إذا لم يجد إزارًا؛ فقال عطاء والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يلبسه ولا شىء عليه. وأخذوا بحديث ابن عباس. وقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية إذا لبسها سواء وجد إزارًا أم لا إلا أنه يشقها ويتزر بها. خَالَفا ظاهر الحديث. وقال الطحاوى: يحتمل قوله عليه السلام: (من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل) على أن يشق السراويل فيلبسها كما يلبس الإزار، كما يفعل بالخفين يقطعهما أسفل من الكعبين ويلبسهما كما يلبس النعلين، فإن كان أريد بالحديث هذا المعنى فلسنا نخالفه بل نقول به، وإنما الخلاف فى التأويل لا فى نفس الحديث. وأما النظر فى ذلك؛ فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن من وجد إزارًا أن لبس السراويل غير مباح له؛ لأن الإحرام قد منعه من ذلك، فأردنا أن نعلم هل يوجب لبس ذلك للضرورة كفارة أم لا؟ فرأينا الإحرام ينهى عن أشياء قد كانت مباحة منها لبس العمائم والقمص والسراويلات، وكان من اضطر فوجد الحر يغطى رأسه، أو وجد البرد فلبس ثيابه؛ أنه قد فعل ما هو مباح له وعليه مع ذلك الكفارة، وكذلك حرّم عليه الإحرامُ حلقَ رأسِه إلا من ضرورة، وقد وجدنا من حلق رأسه للضرورة فعل ما هو مباح له والكفارة عليه واجبة، فكذلك لبس السراويل لا يُسقط لباسُه للضرورة الكفارة، وإنما تسقط الآثام خاصة.

(4/515)


قال ابن القصار: واحتج المخالفون فقالوا: لا يخلو أن يكون أراد عليه السلام جواز لبس السراويل عند الحاجة أو سقوط الفدية فى لبسه، فلا يجوز أن يكون أراد جواز لبسه عند الحاجة خاصة، وقصد ذلك باستثناء السراويل من جملة المخيط؛ وحملُه على ذلك إسقاط لفائدة تخصيص السراويل واستثنائِه من الجملة، فلم يبق إلا أنه أراد سقوط الفدية فى لبسه. فقال لهم الآخرون: إنما اختص السراويل بالإباحة من جملة المخيط عند عدم الإزار؛ لأن افزار المقصود منه ستر العورة التى هى مكان السراويل، ولا يجوز كشف ذلك الموضع، وموضع القميص من أعلاه يجوز كشفه، فالضرورة فى السراويل أشد منها فى القميص، فهذه فائدة، فإذا لبسه ستر عورته وبقى سائر جسده مكشوفًا بحكم الإحرام، فلم تسقط الفدية كما لم تسقط فى الحلق والطيب للعذر
. 181 - باب لُبْسِ السِّلاحِ لِلْمُحْرِمِ
قَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا خَشِىَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلاحَ وَافْتَدَى، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِى الْفِدْيَةِ. / 258 - فيه: الْبَرَاء، اعْتَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى ذِى الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ لا يُدْخِلُ مَكَّةَ سِلاحًا إِلا فِى الْقِرَابِ. قال المهلب: كان هذا فى عام القضية. وفيه من الفقه: جواز حمل المحرم السلاح فى الحج والعمرة إذا كان خوف واحتيج إليها، وأجاز ذلك عطاء ومالك والشافعى،

(4/516)


وكرهه الحسن البصرى، وهذا الحديث حجة على الحسن فى كراهيته وعلى عكرمة فى إيجاب الفدية فى ذلك.
2 - باب دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ
وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِالإهْلالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ. / 259 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَّتَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. / 260 - وفيه: أَنَس، دَخَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ) . قال ابن القصار: اختلف قول مالك والشافعى فى جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يُرِدْ الحج والعمرة فقالا مرَّةً: لا يجوز دخولها إلا بإحرام؛ لاختصاصها ومباينتها جميع البلدان إلا الحطابين ومن قرب منها مثل جدة والطائف وعسفان لكثرة ترددهم عليها، وبه قال أبو حنيفة والليث. وقالا مَرَّةً أخرى: دخولها بلإحرام استحباب لا واجب. قال المؤلف: وإلى هذا القول ذهب البخارى، وله احتج بقوله

(4/517)


عليه السلام: (ولكل آت أتى عليهن ممن أراد الحج والعمرة) فدل هذا أن من لم يرد الحج والعمرة فليست ميقاتًا له، واستدل أيضًا بدخوله عليه السلام عام الفتح وعلى رأسه المغفر وهو غير محرم، وبهذا احتج ابن شهاب، ولم يره خصوصًا للرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وأجاز دخول مكة بغير إحرام، وهو قول أهل الظاهر. وقال الطحاوى: قول أبى حنيفة وأصحابه فى أن من كان منزله فى بعض المواقيت أو دونها إلى مكة فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لم يدخل مكة إلا الإحرام، وأخذوا فى ذلك بما روى عن عمر أنه خرج من مكة وهو يريد المدينة، فلما كان قريبًا من قديد بلغه خبر من المدينة فرجع فدخل حلالا. وقال آخرون: حكم أهل المواقيت كحكم من كان قبلها. قال الطحاوى: وليس النظر قول أصحابنا؛ لأننا رأينا من يريد الإحرام إذا جاوز المواقيت حلالا حتى فرغ من حجه ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ومن أحرم من المواقيت كان محسنًا، وكذلك من أحرم قبلها، فلما كان الإحرام من المواقيت كحكم الإحرام مما قبلها لا فى حكم الإحرام مما بعدها؛ ثبت أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها، فلا يجوز لأهلها من دخول الحرم إلا ما يجوز لأهل الأمصار التى قبل المواقيت، فانتفى بهذا ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، ووجدنا الآثار تدل على خصوص الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدخولها غير محرم بقوله: (إنما أحلت لى ساعة من نهار فلا تحل

(4/518)


لأحد بعدى، وقد عادت حرامًا إلى يوم القيامة) فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بإحرام؛ وهو قول ابن عباس والقاسم والحسن البصرى. قال المؤلف: والصحيح فى معنى قوله: (لا تحل لأحد) يريد بمثل المعنى الذى حل للنبى عليه السلام وهو محاربة أهلها وقتالهم وردهم عن دينهم، على ما تقدم فى باب (لا يحل القتال بمكة) عن الطبرى. وهو أحسن من قول الطحاوى أن الذى خص به عليه السلام دخول مكة بغير إحرام. واحتج من أجاز دخولها بغير إحرام أن فرض الحج مرة فى الدهر، وكذلك العمرة وهى مرة فى الأبد، فمن أوجب على الداخل مكة إحرامًا فقد أوجب عليه ما أوجبه الله. وفى قتل النبى (صلى الله عليه وسلم) لابن خطل فى الفتح حجة لمن قال أن النبى (صلى الله عليه وسلم) دخل مكة عنوة، وهو قول مالك وأبى حنيفة وجماعة المتقدمين والمتأخرين، وقال الشافعى وحده: فتحت صلحًا. وفائدة الخلاف فى هذه المسألة ما ذهب إليه مالك والكوفيون أن الغانمين لا يملكون الغنائم ملكًا مستقرا بنفس الغنيمة وأنه يجوز للإمام أن يمنَّ ويعفو عن جملة الغنائم كما منَّ على الأسرى وهم من جملة الغنائم، ولا خلاف بينهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَنَّ على أهل مكة وعفا عن أموالهم كلها. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: إنما قتل ابن خطل؛ لأنه كان يسب النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد عفا عن غيره ذلك اليوم ممن كان يسبه، فلم ينتفع ابن خطل باستعاذته بالبيت ولا بالتعلق بأستار الكعبة، فدل ذلك على العنوة، وعلى أن الحدود تقام بمكة على من وجبت عليهم.

(4/519)


فإن قيل: فإن قوله يوم الفتح: (من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن) يعارض قتله لابن خطل يوم الفتح. فالجواب: أنه لا معارضة بينهما؛ لما رواه ابن أبى شيبة قال: حدثنا أحمد بن مفضل، حدثنا أسباط بن نصر وقال: زعم السدى عن مصعب، عن سعد، عن أبيه قال: (لما كان يوم فتح مكة أَمَّنَ النبى عليه السلام الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبى جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح) . وسأذكر شيئًا من معنى فتح مكة فى كتاب الجهاد فى حديث ابن خطل فى باب: قتل الأسير والصبر. واستدل المالكيون من حديث ابن خطل أن من سب النبى يُقتل ولا يستتاب كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بابن خطل.
3 - باب إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ جَاهِلا أَوْ نَاسِيًا فَلا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. / 261 - فيه: يَعْلَى، أتى النَّبِىّ، عليه السَّلام، رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ، وبهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: (انزع الجبة، واصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ) . هذا الباب رد على الكوفى والمزنى فى قولهم أنه من لبس أو تطيب ناسيًا فعليه الفدية على كل حال، وقولهم خلاف لهذا الحديث؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر الرجل بالكفارة عن لباسه وتطيبه قبل علمه بالنهى عن ذلك، وإنما تلزم الكفارة من تعمد فعل ما نُهى عنه فى إحرامه، ولو لزمه شىء لبيَّنه له عليه السلام، وأمره به ولم يجز أن يؤخر ذلك.

(4/520)


وذهب مالك إلى أن من تطيب أو لبس فنزع اللباس وغسل الطيب فى الحال فلا شىء عليه. وقال الشافعى: لا شىء عليه وإن طال وانتفع. والشافعى أشد موافقة للحديث؛ لأن الرجل كان أحرم فى الجبة المطيبة، فسأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فلم يجبه حتى أوحى إليه وسُرى عنه، فطال انتفاع الرجل باللبس والطيب ولم يوجب عليه النبى عليه السلام كفارة، وقول مالك احتياط؛ لأن الحلق والوطء والصيد نُهى عنه المحرم، وحُكْمُ العمد والسهو فيها سواء إذا وقعت، وكذلك الصوم لو أكل فيه وهو ساهٍ لفسد الصوم، فكذلك الحج. وفى هذا الحديث رد على من زعم أن الرجل إذا احرم وعليه قميص أنَّ له أن يشقه، وقال: لا ينبغى أن ينزعه؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد غطى رأسه وذلك لا يجوز له، فلذلك أُمر بشقه، وممن قال هذا: الحسن والشعبى والنخعى وسعيد بن جبير. وجميع فقهاء الأمصار يقولون: من نسى فأحرم وعليه قميص أنه ينزعه ولا يشقه. واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر الرجل بأن ينزع الجبة ولم يأمره بشقها، وهو قول عكرمة وعطاء. وقد ثبت عنه عليه السلام أنه نهى عن إضاعة المال، والحجة فى السنة لا فيما خالفها. قال الطحاوى: وليس نزع القميص بمنزلة اللباس؛ لأن المحرم لو حمل على رأسه ثيابًا أو غيرها لم يكن بذلك بأس ولم يدخل بذلك فيما نهى عنه من تغطية الرأس بالقلانس وشبهها؛ لأنه غير لابس؛ فكان النهى إنما وقع من ذلك على ما يلبسه الرأس لا على ما يغطى به، وكذلك الأبدان إنما نُهى عن إلباسها القمص ولم يُنه عن تجليلها بالإزار؛ لأن ذلك ليس بلباس المخيط، ومن نزع قميصه فَلاقَى ذلك

(4/521)


رأسه فليس ذلك بإلباس منه شيئًا، فثبت بهذا أن النهى عن تغطية الرأس فى الإحرام المعهود فى الإحلال إذا تعمد فعل ما نهى عنه من ذلك قياسًا ونظرًا.
4 - باب الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ
وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ / 262 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِعَرَفَةَ؛ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، أَوْ قَالَ: ثَوْبَيْهِ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّى) . قال المهلب: يدل أنه لا يحج أحد عن أحدٍ؛ لأن الحج من أعمال الأبدان كالصلاة لا تصح فيها النيابة عن غيره، ولو صح فيها النيابة لأمر النبى عليه السلام بإتمام الحج عن هذا، كما أنه قد يمكن ألا يتبع بما بقى عليه من الحج فى الآخرة والله أعلم لأنه قد بلغ جهده وطاقته ووقع أجره على الله بقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة) . قال المؤلف: وفيه دليل أن من شرع فى عمل من عمل الطاعات وصحت فيه نيته الله، وحال بينه وبين تمامه الموت؛ فإن الرجاء قوى أن الله قد كتبه فى الآخرة من أهل ذلك العمل وتقبله منه، ويشهد لهذا قوله تعالى: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ) [النساء: 100] أنه لا يُقطع على أحد بعينه

(4/522)


بهذا ولا أنه بمنزلة ذلك الموقوص، ولذلك قال كثير من اهل العلم: إن هذا الحديث خاص فى الموقوص، وإن سنة المحرم أنه إذا مات يخمر رأسه ويطيب ويفعل به ما يفعل بالمبيت الحلال، ولا يجنب ما يجتنبه المحرم، هذا قول مالك وأبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى، وبذلك أخذ ابن عمر حين توفى ابنه بالجحفة وهو محرم، خمر رأسه ووجهه وقال: لولا أنا حُرم لطيَّبْنَاهُ. لأنه لم يقطع ابن عمر أن ابنه بمنزلة الموقوص الذى أخبر عليه السلام أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا. وبهذا قالت عائشة، ولم يأخذوا بحديث الموقوص، وأخذ به الشافعى وقال: لا يخمر رأس المحرم ولا يطيب اتباعًا لظاهر حديث ابن عباس. وهو قول عثمان وعلى بن أبى طالب وابن عباس. واحتج الذين رأوا الحديث خاصا فى الموقوص بعينه أن من مات بعده فى حال الإحرام، لا يعلم هل يُقبل حَجُّه؟ وهل يبعث يوم القيامة ملبيًا أم لا؟ ولا يُقطع على غير ذلك إلا بوحى، فافترقا فى المعنى، واحتج مالك كذلك فقال: إنما يعمل الرجل ما دام حيا، فإذا مات انقطع عمله. قال الأصيلى: ثبت الخبر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد يدعو له، أو علم ينتشر عنه، أو صدقة موقوفة بعده) .
5 - بَاب الْحَجِّ وَالنُّذرِ عَنِ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنِ الْمَرْأَةِ
/ 263 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ

(4/523)


عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ) . اختلف العلماء فى الرجل يموت وعليه حجة الإسلام أو حجةُ نذرٍ؛ فقالت طائفة: يجوز أن يُحج عنه وإن لم يُوصِ بذلك، ويُجزئه. روى ذلك عن ابن عباس وأبى هريرة، وهو قول عطاء وابن سيرين ومكحول وسعيد بن المسيب وطاوس، وبه قال الأوزاعى وأبو حنيفة والشافعى وأبو ثور. وقالت طائفة: لا يَحج أحد عن أحدٍ، روى ذلك عن ابن عمر والقاسم بن محمد والنخعى. وقال مالك والليث: لا يَحج أحد عن أحدٍ إلا عن ميت لم يحج الإسلام ولا ينوب عن فرضه. فإن أوصى بذلك الميت؛ فعند مالك وأبى حنيفة يُخرج من ثلثه. وهو قول النخعى. وعند الشافعى يخرج من رأس ماله. وحجة أهل المقالة الأولى حديث ابن عباس قالوا: ألا ترى أن النبى عليه السلام شبه الحج بالدَّيْن، يجوز أن يقضيه عنه غيرهُ، أوصى بذلك أو لم يُوص؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يشترط فى إجازته ذلك، إن كان من أمها لها فذلك أمرها، ولو كان ذلك غير قاض عن أمها لكان عليه السلام قد أعلمها أن ذلك غير جائز، إلا أن تحج عنها بأمرها فلما أعلمها عليه السلام أن ذلك قضاء عنها صح أن ذلك مجزئ عمن حج عنه ممن عجز عن أدائه فى حياته، وسبيل ذلك قضاء دين على رجل أن ذلك براءة للمقضى عنه بأمر الله،

(4/524)


كان عليه أو بغير أمره، وتشبيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك بالدَّيْن يدل أن ذلك عليه من جميع ماله ثلثه كسائر الديون، قاله الطبرى، وذكر ابن المنذر أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته. وحجة من منع الحج عن غيره أن الحج عمل الإنسان ببدنه، وقد أجمعوا أنه لا يُصلِّى أحد عن أحدٍ فكذلك الحج. قال ابن القصار: والدليل على أنه لا يَحجُّ أحد عن أحدٍ قوله عليه السلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيه) ؟ إنما سألها: هل كنت تفعلين ذلك تطوعًا؟ لأنه لا يجب عليها أن تقضى دين أمها إذا لم يكن لها تَركَة؛ لأن الحج من عمل الأبدان وهى عبادة لا تصح النيابة مع القدرة ولا مع العجز فى حال الحياة فلم يصح بعد الممات، دليله الصلاة. وأما قول البخارى فى الترجمة: والرجل يحج عن المرأة. وأدخل حديث المرأة التى سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فكان ينبغى أن يقول: والمرأة تحج عن المرأة. فالجواب عن ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء، وهو قوله: (اقضوا الله) ، وهذا يصح للمذكر والمؤنث، ولا خلاف فى حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل، إلا الحسن ابن صالح، وسأذكر قوله فى الباب بعد هذا إن شاء الله.
6 - باب الْحَجِّ عَمَّنْ لا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ
/ 264 - فيه: ابْن عَبَّاس، عن الفضل، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِىَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِى عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) .

(4/525)


وترجم له: (باب: حج المرأة عن الرجل) . واختلف العلماء فى الذى لا يستطيع أن يستوى على الراحلة لكبرٍ أو ضعف أو زمانة، فذكر الطبرى أن رجلا أتى على بن أبى طالب فقال: كبرتُ وضعفتُ وفرطت فى الحج. فقال: إن شئت فجهزت رجلا فحج عنك. وقال مالك: لا يلزمه فرض الحج أصلا وإن وجد المال وأمكنه أن يحمل من يحج عنه. وقال أبو حنيفة والشافعى: هو مستطيع يلزمه أن يحج غيره يؤذى عنه الحج. واختلفا فقال الشافعى: إذا بذل له ابنه الطاعة وهو غير واجد للمال؛ فإنه يحج عنه ويلزمه فرض الحج. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه إلا إذا كان وزاجدًا للمال يمكنه أن يحمل غيره يحج عنه. واحتج أصحاب أبى حنيفة والشافعى بحديث الخثعمية. قال: وفى الحديث دليلان على وجوب الحج على المغضوب: أحدها: أنها قالت: (إن فريضة الله فى الحج أدركت أبى) فأقرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، ولو لم يلزمه وهى قد ادَّعَت وجوبه على أبيها بحضرته لأنكره عليه السلام. والثانى: أنه شبهه بالدَّيْن فى رواية عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار (أن النبى عليه السلام حين أمر أن يحج عن الشيخ الكبير، قيل: أوَ ينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما يكون على أحدكم الدَّيْن فيقضيه) . ولهذا: الدَّيْنُ الذى يُقضى عن الإنسان يكون واجبًا عليه، ومن قضاه أسقط الفرض والمأَثم، فكذلك يجب أن يكون الحج، مَنْ قضاه أسقط الفرض والمأثم جميعًا لقولها: (فهل يقضى عنه أن أحج عنه؟) وروى عبد الرزاق: (أيفعه أن أحج عنه؟ قال: نعم) . قال ابن القصار: ولا دلالة لهم فيه؛ لأنها قالت: (إن فريضة الله على عباده فى الحج أدركت أبى) ولم تقل: فرضت على أبى،

(4/526)


وإنما قالت: إنها نزلت وأبى شيخ. أى: فرضت فى وقتٍ أبى كبير لا يلزمه فرضها، فلم ينكر عليه السلام قولها، وقد يمكن أنها وهمت أن الذى فرض على العباد يجوز أن يدخل فيه أبوها غير أنه لا يقدر على الأداء. ولا يمتنع أن يتعلق الوجوب بشرطية القدرة على الداء، فيكون الفرض وجب على أبيها ثم وقت الداء كان عاجزًا؛ لأن الإنسان لو كان واجدًا للراحلة والزاد، وكان قادرًا ببدنه؛ لم يمتنع أن يقال له فى الحرم: قد فرض عليك الحج، فإن بقيت على ما أنت عليه إلى وقت الحج لزمك الداء وإلا سقط عنك. ونحن نعلم أنه فرض تراخى عن وقت الحج المضيق، وإنما سألته فى وقت الداء عن ذلك، وقولها: (أفأحج عنه؟ قال: نعم) لا يدل على أن الأداء كان مقدرًا عليه فسقط بفعلها، ولكنه أراد عليه السلام أنها إن فعلت ذلك لحقه ثواب ما [. . . . . .] من دعائها فى الحج، كما لو تطوعت بقضاء دينه، لا أنه مثل الدين فى الحقيقة؛ لأن الدين حق لآدمى يسقط بالإبراء ويؤدى عنه مع القدرة والعجز بأمره مع الصحة وغير أمره، ولو كان كالدين كان إذا حجت عنه ثم قوى وصح سقط عنه، كما يقضى دين المعسر. وفى حديث الخثعمية جواز حج المرأة عن الرجل، وأجازه جماعة الفقهاء إلا الحسن بن صالح؛ فإنه قال: لا يجوز. واعتل بأن المرأة تلبس الثياب فى الإحرام والرجل لا يلبسها. قال ابن المنذر: وهذه غفلة وخروج عن ظاهر السنة؛ لأن النبى عليه السلام أمر المرأة أن تحج عن أبيها، وعلى هذا يعتمد من أجاز الحج عن غيره.

(4/527)


واختلفوا فى المريض يأمر من يحج عنه، ثم يصح بعد ذلك وتعذّر؛ فقال الكوفيون والشافعى وأبو ثور: لا يجزئه، وعليه أن يحج. وقال أحمد وإسحاق: يجزئه الحج عنه. وكذلك إن مات من مرضه وقد حُج عنه، فقال الكوفيون وأبو ثور: يجزئه من حجة الإسلام. وقال الشافعى فيها قولان: أحدهما: هذا. والثانى: لا يجزئ عنه. وهو أصح القولين.
187 - باب حَجِّ الصِّبْيَانِ
/ 265 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَعَثَنِى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ. / 266 - وفيه: أَقْبَلْتُ، وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ، أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِى، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ يُصَلِّى بِمِنًى، حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ، فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِمِنًى فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. / 267 - وفيه: السَّائِب، حُجَّ بِى مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. اتفق أئمة الفتوى على سقوط فرض الحج عن الصبى حتى يبلغ؛ لقوله عليه السلام: (رفع القلم عن الصبى حتى يبلغ) إلا أنه إذا حُجَّ به كان له تطوعًا عند مالك والشافعى وجماعة من العلماء وعلى هذا المعنى حمل العلماء أحاديث هذا الباب. وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه ولا يلزمه شىء إن فعل من محظورات الإحرام، وإنما يُفعل به ذلك، ويجنب محظوراته على وجه

(4/528)


التعليم له والتمرين عليه، كما قالوا فى صلاته أنها لا تكون صلاة أصلا، وشذ من لا يُعد خلافه فقال: إذا حَج الصبى قبل بلوغه أجزأه ذلك عن حجة افسلام ولم يكن عليه أن يحج بعد بلوغه، واحتج بحديث ابن عباس: (أن امرأة سألت النبى عليه السلام عن صبى: هل لهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) ذكره الطحاوى. قال ابن القصار: والحجة على أبى حنيفة فى نفيه عنه حج التطوع ما رواه ابن عباس من قول المرأة: (ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: نعم، ولك أجر) فأضاف الحج الشرعى إليه فوجب أن يتعلق به أحكامه، وأكد هذا بقوله: (ولك أجر) أخبر أنها تستحق الثواب عن إحجابه، وهذا مذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة. وقد روى عن ابن عباس أنه قال لرجل حج بابنٍ صبىٍّ له أصاب حمامًا فى الحرم: اذْبَحْ عن ابنك شاة. وأجمع العلماء أن جنايات الصبيان لازمة لهم فى أموالهم، قال الطحاوى: وتاويل الحديث عندنا أن النبى عليه السلام أوجب للصبى حجا وهذا مما قد أجمع الناس عليه، ولم يختلفوا أن للصبى حجا كما أن له صلاة، وليست تلك الصلاة بفريضة عليه، فكذلك يجوز أن يكون حجات ولا يكون فريضة عليه، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج للصبى، وأما من يقول أن له حجا وأنه غير فريضة فلم يخالف الحديث، وإنما خالف تأويل مخالفه خاصة. وقال الطبرى: جعل له (صلى الله عليه وسلم) حجا مضافًا كما يضاف إليه القيام والقعود والأكل والشرب، وإن لم يكن ذلك من فعله على الوجه الذى يفعله أهل التمييز باختيار.

(4/529)


قال الطحاوى: هذا ابن عباس وهو راوى الحديث قد صرف حج الصبى إلى غير الفريضة، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبى السفر قال: سمعت ابن عباس يقول: يا أيها الناس، أسمعونى ما تقولون، ولا تخرجوا تقولوا: قال ابن عباس، أيما غلام حَج به أهلُه فمات فقد قضى حجة الإسلام، فإن عُتق فعليه الحج. وقد أجمعوا أن صبيا لو دخل وقت صلاة فصلاها، ثم بلغ بعد ذلك فى وقتها أن عليه أن يعيدها، فكذلك الحج، وذكر الطبرى: أن هذا تأويل سلف الأمة، وروى أن أبا بكر الصديق حج بابن الزبير فى [. . . . . .] ، وقال عمر: أحجوا هذه الذرية. فكان ابن عمر يجرد صبيانه عند الإحرام ويقف بهم المواقيف وكانت عائشة تفعل ذلك وفعله عروة بن الزبير، قال عطاء: يجرد الصغير ويلبى عنه، ويجنب ما يجنب الكبير ويقضى عنه كل شىء إلا الصلاة، فإن عقل الصلاة صلاها، فإذا بلغ وجب عليه الحج. واختلفوا فى الصبى والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم الصبى ويُعتق العبد قبل الوقوف بعرفة؛ فقال مالك: لا سبيل إلى رفض الإحرام ويتماديان عليه ولا يجزئهما عن حجة الإسلام. وقال الشافعى: إذا نويا بإحرامهما المتقدم حجة الإسلام أجزأ عنهما. وعند مالك: أنهما لو استأنفا الإحرام قبل الوقوف بعرفة أنه لا يجزئهما من حجة الإسلام. وهو قول أبى حنيفة؛ لأنه يصح عنده رفض الإحرام.

(4/530)


وحجة مالك أن الله تعالى أمر كل من دخل فى حج أو عمرة بإتمامه تطوعًا كان أو فرضًا؛ لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ومن رفض إحرامه فلم يتم حجه ولا عمرته. وحجة الشافعى فى إسقاط تجديد النية أنه جائز عنده لكل من نوى بإهلاله أن يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أصحابه المهلين بالحج أن يفسخوه فى عمرة، فدل أن النية فى الإحرام ليست كالنية فى الصلاة، وحجة أبى حنيفة: أن الحج الذى كان فيه لما لم يكن يجزئ عنده ولم يكن الفرض لازمًا له فى حين إحرامه، ثم لما لزمه حين بلغ، استحال أن يشتغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه، كمن دخل فى نافلة، فأقيمت عليه مكتوبة وخشى فوتها قطع النافلة ودخل فى المكتوبة وأحرم لها، فكذلك الحج يلزمه أن يجدد له الإحرام؛ لأنه لم يكن للفريضة.
8 - باب حَجِّ النِّسَاءِ
وَأَذِنَ عُمَرُ لأزْوَاجِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ. / 268 - فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: (لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ) ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ النَّبِىّ، عليه السَّلام (صلى الله عليه وسلم) . / 269 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ، وَلا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ) ، فَقَالَ: رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِى جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِى تُرِيدُ الْحَجَّ، فَقَالَ: (اخْرُجْ مَعَهَا) .

(4/531)


/ 270 - وفيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا رَجَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنْ حَجَّتِهِ، قَالَ لأمِّ سِنَانٍ: مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ. . .؟ الحديث. قال المهلب: قوله عليه السلام: (لكنَّ أفضل الجهاد حج مبرور) يبطل إفك المتشيعين وكذب الرافضيين فيما اختلقوه من الكذب على النبى عليه السلام أنه قال لأزواجه فى حجة الوداع: (هذه، ثم ظهور الحصر) . وهذا ظاهر الاختلاق؛ لأنه عليه السلام حَضَّهُنَّ على الحج وبَشَّرَهُنَّ أنه أفضل جهادهن، وأذن عمر لهن فى الحج، ومسير عثمان وغيره من أئمة الهدى معهن حجة قاطعة على الإجماع على ما كُذِبَ به على النبى عليه السلام فى أمر عائشة والتسبب إلى عرضها المطهر، وكذلك قولهم: (فتقاتلى عليا وأنت له ظالمة؟) إفك وباطل لا يصح، وأما سفرها إلى مكة مع غير ذى محرم منها من النسب؛ فالمسلمون كلهم أبناؤها وذوو محارمها بكتاب الله تعالى كيف وإنها كانت تخرج فى رفقة مأمونة وخدمة كافية؟ هذه الحال ترفع تحريج الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن النساء المسافرات بغير ذى محرم، كذلك قال مالك والأوزاعى والشافعى: تخرج المرأة فى حجة الفريضة مع جماعة النساء فى رفقة مأمونة وإن لم يكن معها محرم، وجمهور العلماء على جواز ذلك، وكان ابن عمر يحج معه نسوة من جيرانه، وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن البصرى، وقال الحسن: المسلم محرم، ولعل بعض من ليس بمحرمٍ أوثق من المحرم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تحج المرأة إلا مع ذى محرم. وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور، حملوا نهيه على العموم فى كل سفر، وحمله مالك وجمهور الفقهاء على الخصوص، وأن المراد بالنهى

(4/532)


الأسفار غير الواجبة عليها بعموم قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97] فدخلت المرأة فى عموم هذا الخطاب ولزمها فرض الحج، ولا يجوز أن تُمنع المرأة من الفروض كما لا تمنع من الصلاة والصيام؛ ألا ترى أن عليها أن تهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا أسلمت فيه بعير محرم، وكذلك كل واجبٍ عليها أن تخرج فيه، فثبت بهذا أن نهيه عليه السلام أن تسافر المرأة مع غير ذى محرم أنه أراد بذلك سفرًا غير واجب عليها، والله أعلم. واتفق الفقهاء أَن لْيسَ للرجل منع زوجته حجة الفريضة، تخرج للحج بغير إذنه، وللشافعى قول أنها لا تخرج إلا بإذنه، وأصح قوليه ما وافق فيه سائر العلماء، وقد أجمعوا أنه لا يمنعها من صلاة ولا من صيام، فكذلك الحج. وسيأتى فى كتاب الجهاد فى باب: من اكتتب فى جيش فخرجت امرأته حاجَّة، أن معنى قوله عليه السلام: (ارجع فاحجج مع امرأتك) أنه محمول على الندب لا على الوجوب.
9 - باب مَنْ نَذَرَ الْمَشْىَ إِلَى الْكَعْبَةِ
/ 271 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: (مَا بَالُ هَذَا) ؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ) . / 272 - وفيه: عُقْبَةَ، قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِى أَنْ تَمْشِىَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَأَمَرَتْنِى أَنْ أَسْتَفْتِىَ لَهَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ) .

(4/533)


أخذ أهل الظاهر بحديث أنس وعقبة بن عامر وقالوا: من عجز عن المشى فلا هدى عليه اتباعًا للسنة فى ذلك، قالوا: ولا يثبت شىء فى الذمة إلا بيقين، وليس المشى مما يوجب نذرًا؛ لأن فيه تعب الأبدان، وليس الماشى فى حال مشيه فى حرمة إحرام، فلم يجب عليه المشى ولا بدل منه. وأما سائر الفقهاء فإن لهم فى هذه المسألة ثلاثة أقوال غير هذه: الأول: روى عن على بن أبى طالب وابن عمر أن من نذر المشى إلى بيت الله فعجز، أنه يمشى ما استطاع، فإذا عجز ركب وأهدى. وهو قول عطاء والحسن، وبه قال أبو حنيفة والشافعى، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: وكذلك إن ركب وهو غير عاجز، قالوا: ويكفر يمينه لحنثه كما حكاه الطحاوى عنه، وقال الشافعى: الهدى فى هذه المسألة احتياط من قِبَل أنه من لم يُطِقْ شيئًا سقط عنه، وحجتهم ما رواه همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عقبة ابن عامر (أن أخته نذرت المشى إلى بيت الله، فسأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فقال: إن الله لغنى عن نذر أختك، فلتركب ولتُهد) . والقول الثانى: يعود ثم يحج مرة أخرى، ثم يمشى مَا ركبَ ولا هَدْى عليه، هذا قول ابن عمر، ذكره مالك فى (الموطأ) ، وروى عن ابن عباس وابن الزبير والنخعى وسعيد بن جبير. والقول الثالث: يعود فيمشى ما ركب وعليه الهدى، روى عن ابن عباس أيضًا، وروى عن سعيد بن المسيب والنخعى، وهو قول مالك، جمع عليه الأمرين: المشى والهدى؛ احتياطًا لموضع تفريقه المشى الذى كان يلزمه فى سفر واحد، فجعله فى سفرين قياسًا على التمتع والقران، والله أعلم.

(4/534)


قال المؤلف: ويمكن أن يُتأولَ حديثُ أنسٍ وعُقبةَ بوجهٍ موافقٍ لفقهاء الأمصار، حتى لا ينفرد أهل الظاهر بالقول بهما وذلك أن فى نصهما ما يبيِّن المعنى فيهما، وهو أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) رأى شيخًا يهادى بين ابنيه فقال: (إن الله لغنى عن تعذيب هذا نفسه) فبان واتضح أنه كان غير قادر على المشى، وممن لا ترجى له القدرة عليه، ومن كان غير قادر على شىء سقط عنه. والعلماء متفقون أن الوفاء بالنذر إنما يكون فيما هو لله طاعة، والوفاء به بِر، ولا طاعة ولا بِرَّ فى تعذيب أحدٍ نفسهَ، فكأن هذا الناذر على نفسه ما لا يقدر على الوفاء به، وكان فى معنى أبى إسرائيل الذى نذر ليقومن فى الشمس ولا يستظل ويصوم ذلك اليوم فأمره عليه السلام بكفارة وقد روى فى حديث عقبة بن عامر ما يدل أن أخته كانت غير قادرة على المشى، فلذلك لم يأمرها عليها السلام بالهَدْى. روى الطبرى قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثنا محمد بن أبى يحيى الأسلمى، حدثنا إسحاق بن سالم، عن عقبة بن عامر (أن أخته نذرت أن تمشى إلى الكعبة، وهى امرأة ثقيلة، والمشى يشق عليها، فذكر ذلك عقبة للنبى عليه السلام فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مُرها فلتركب) فصح التأويل أنها نذرت وهى فى حال من لا يُرجى له القدرة على الوفاء بما نذرت كأبى إسرائيل، والعلماء مجمعون على سقوط المشى على من لا يقدر عليه، فسقوط الهَدْى أَحْرَى، وإن كان مالك يستحب الهدى لمن عجز عن المشى.

(4/535)


قال الطحاوى: ونظرنا فى قول من قال: ليس الماشى فى حرمة إحرام فرأينا الحج فيه الطواف بالبيت والوقوف بعرفة وجمع، وكان الطواف منه ما يفعله الرجل فى حال إحرامه وهو طواف الزيارة، ومنه ما يفعله بعد أن يحل من إحرامه، وهو طواف الصَّدْر، فكان ذلك من أسباب الحج قد أريد أن يفعله الرجل ماشيًا، وكان إن فعله راكبًا مقصرًا وجعل عليه الدم، هذا إذا فعله من غير علة، وإن فعله من علة فالناس مختلفون فى ذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا شىء عليه. وقال غيرهم: عليه دم. وهو النظر عندنا؛ لأن العلل إنما تُسقط الآثام فى انتهاك المحرمات ولا تُسقط الكفارات، فحلق الرأس فى الإحرام إن حلقه من غير عذر عليه الإثم والكفارة، فإن اضطر إلى حلقه فعليه الكفارة ولا إثم عليه، فكذلك المشى الذى قبل الإحرام لما كان من أسباب الإحرام، كان حكمه حكم المشى الواجب فى الإحرام يجب على تاركه الدم.
0 - باب ما جاء فِى حَرَمِ الْمَدِينَةِ
/ 273 - فيه: أَنَس، قَالَ، عليه السَّلام: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) . / 274 - وفيه: أَنَس، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (يَا بَنِى النَّجَّارِ ثَامِنُونِي) ، فَقَالُوا: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ. / 275 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (حُرِّمَ مَا بَيْنَ لابَتَىِ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي،

(4/536)


وَأَتَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بَنِى حَارِثَةَ، فَقَالَ: (أَرَاكُمْ يَا بَنِى حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الْحَرَمِ) ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ) . / 276 - وفيه: عَلِىٍّ رضي الله عنه، قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ. . .) ، الحديث. حَرَّمَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) المدينةَ إلى الحدود المشار إليها، و (عائر) جبل بقرب المدينة، ويروى: (عير) وقوله: (إلى كذا) وقع فى بعض الأمهات وفى بعض الكتب من رواية ابن السكن (ما بين عير إلى ثور) وثور جبل معروف أيضًا. قال أبو عبيد والطبرى: وقد أنكر قوم من أهل المدينة أن يكون بها جبل يسمى ثورًا، وقال: إنما ثور بمكة. قال أبو عبيد: فنرى الحديث إنما أصله (ما بين عير إلى أحد) وكذلك حَرَّمَ ما بين لابتى المدينة، واللابة: الحرة، وهو الموضع ذو الحجارة السود. قال أبو عبيد: وجمعها لاب ولوب. قال ابن حبيب: وتحريم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لابتى المدينة إنما ذلك فى الصيد، فأما قطع الشجر فبريد فى بريد فى دور المدينة كلها، كذلك أخبرنى مطرف عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واللابتان هما: الحرتان الغربية والشرقية، وللمدينة حرتان أيضًا: حرة فى القبلة وحرة فى الجوف وترجع كلها إلى الحرتين؛ لأن القبلة والجوفية متصلان بهما، ولذلك حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما بين لابتى المدينة، جمع دورها كلها فى اللابتين، وقد ردها حسان بن ثابت إلى حرة واحدة فقال:

(4/537)


لنا حرة مأطورة بجبالها بنى العز فيها بيته فتأثلا وقوله: مأطورة يعنى: مقطوعة بجبالها لاستدارتها، وإنما جبالها الحجارة السود التى تسمى: الجرار. قال المهلب: وإنما أدخل حديث أنس فى بناء المسجد فى هذا الباب بعد قوله: (لا يقطع شجرها) ليعرفك أن قطع النخل ونبش قبور المشركين ليس هو القطع الذى نهى عنه فى تحريم المدينة؛ لأن قطع النخيل كان لتبوئ المسلمين مسجدًا. ففى هذا من الفقه أن من أراد أن يتخذ جنانًا فى حرم ليعمرها، ويغرس فيها النخل، ويزرع فيها الحبوب، أنه لا يتوجه إليه النهى عن قطع شجرها، ولا يمنع من قطع ما فيه من شجر الشعر أو شوكها؛ لأنه يبتغى الصالح والتأسيس للسكنى فى موضع العمارة، فهذا يبين وجه النهى أنه موقوف على المفسد لبهجة المدينة وخضرتها لعين المهاجر إليها حتى تبتهج نفسه لنضرتها ويرتاح بمبانيها، وإن كان ابتهاجه بمسجدها بيت الله تعالى ومنزل ملائكته ومحل وحيه أعظم والسرور به أشد. وقيل: قطعه عليه السلام للنخيل من موضع المسجد يدل أن النهى إنما يتوجه إلى ما اثبته الله من المسجد مما لا صنع فيه لآدمى؛ لأن النخيل التى قطعت من موضع المسجد كانت من غرس الآدميين؛ لأنه طلب شراء الحائط من بنى النجار إذ كان ملكًا لهم، فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، وعلى هذا التأويل حمل نهيه عليه السلام عن قطع شجر مكة. واتفق مالك والشافعى وأحمد وجمهور الفقهاء على أن الصيد محرم فى حرم المدينة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: صيد المدينة غير محرم، كذلك قطع

(4/538)


شجرها، فخالف آثار هذا الباب، واحتج الطحاوى بحديث أنس (أن النبى عليه السلام دخل داره وكان لأنس أخ صغير، وكان لهم نغير يلعب به، فقال له النبى عليه السلام: (يا أبا عمير، ما فعل النغير؟) وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يمكن أن يصطاد ذلك النغر من غير حرم المدينة. وحجة الجماعة: أن الصحابة فهمت من الرسول (صلى الله عليه وسلم) تحريم الصيد فى حرم المدينة؛ لأنهم أَمروا بذلك وأفتوا به، وهم القدوة الذين يجب اتباعهم. وروى عن أبى سعيد الخدرى أنه كان يضرب بنيه إذا اصطادوا فيه ويرسل الصيد. وروى عن سعد بن أبى وقاص: أنه أخذ سلب من صاد فى حرم المدينة وقطع شجرها، ورواه عن النبى عليه السلام إلا أن أئمة الفتوى لم يقولوا بأخذ سلبه. قال المهلب: وقوله عليه السلام: (حُرم ما بين لابتى المدينة على لسانى) يريد أن تحريمها كان من طريق الوحى، فوجب تحريم صيدها وقطع شجرها، إلا أن جمهور العلماء على أنه لا جزاء فى حرم المدينة، لكنه آثم عندهم من استحل حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإن قال الكوفيون: لما أجمعوا على سقوط الجزاء فى حرم المدينة دل أنه غير محرم. قيل: لا حجة فى هذا؛ لأن صيد مكة قد كان محرمًا على غير أمة محمد، ولم يكن عليهم فيه جزاء وإنما الجزاء فيه على أمة محمد، فليس إيجاب الجزاء فيه علة للتحريم، وشذ ابن أبى ذئب، ونافع صاحب مالك، والشافعى فى أحد قوليه فأوجبوا فيه الجزاء.

(4/539)


قال ابن القصار: والدليل على سقوط الجزاء أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما حرم المدينة وذكر ما ذكر لم يذكر جزاءً على من قتل الصيد بها، وما كان من جهته عليه السلام لم يكن تبيان لما فى القرآن فليس محرم تحريم القرآن، وإنما هو مكروه حتى يكونَ بَيْنَ تحريمه وتحريم القرآن فرق. فإن احتجوا بحديث سعد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (من وجدتموه يصيد فى حرم المدينة ويقطع شجرها؛ فخذوا سلبه) فلم يصح عند مالك ولا رأى العمل عليه بالمدينة، ولو صح الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأوجب الجزاء على من لا سلب له، ولو لم يكن على القاتل إلا ما ستر به عورته لم يجز أخذه وكشف عورته، فثبت أن الصيد ليس بمضمون أصلا. ألا ترى أن صيد مكة لما كان مضمونًا لم يفترق حكم الغنى والفقير ومن له سلب ومن لا سلب له فى أنه مضمون عليه فى أى وقت قدر. وقد قال مالك: لم أسمع أن فى صيد المدينة جزاءً، ومن مضى أعلم ممن بقى، فقيل له: فهل يؤكل؟ فقال: ليس كالذى يصاد بمكة وإنى لأكرهه. قال المهلب: وفى حديث أنس وعلى من الفقه لعنة أهل المعاصى والعناد لأوامر النبى عليه السلام. وفيه: أن المحدث فى حرم المدينة والمؤوى للمحدث فى الإثم سواء. وقول بنى النجار: (لا نطلب ثمنه إلا من الله) فيه من الفقه إثبات الأحباس المراد بها وجه الله؛ لأنهم وهبوا البقعة للمسلمين حبسًا موقوفًا عليهم، فطلبوا الأجر على ذلك من الله. وفى حديث أبى هريرة من الفقه أن للعالم أن يقول على غلبة الظن، ثم ينظر فيصح النظر، ويقول بعد ذلك، كما قال عليه السلام لبنى حارثة.

(4/540)


وقوله عليه السلام: (من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا) قال أبو عبيد: الحدث: كُلُّ حَدٍّ لله يجب على صاحبه أن يقام عليه، وهذا شبيه بحديثٍ فى الرجل يأتى حدا من الحدود، ثم يلجأ إلى الحرم أنه لا يقام عليه الحد، ولكنه لا يجالس ولا يكلم حتى يَخرج منه؛ فإذا خرج منه أُقيم عليه الحَدُّ، فجعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) حرمة المدينة كحرمة مكة فى المأثم فى صاحب الحّدِّ ألا يؤذيه أحد حتى يخرج منه فيقام عليه الحد. وقوله: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) هذا يمكن أن يكون فى وقت دون وقت، إن أنفذ الله عليه الوعيد، ليس أن هذه حاله عند الله أبدًا؛ لأن الذنوب لا تُخرج من الديانة ولا يُخْرِج منها غير الكفر وحده. وقوله: (أخفر مسلمًا) قال الخليل: يقال: أخفرت الرجل: إذا لم تف بذمته، والاسم: الخفور. وقوله: (صرف ولا عدل) قال أبو عبيد عن مكحول: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية. قال أبو عبيد: وفى القرآن ما يصدق هذا التفسير وهو قوله: (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا) [الأنعام: 70] وأما الصرف فلا أدرى قوله تعالى: (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصْرًا) [الفرقان: 19] من هذا أم لا؟ وبعض الناس يحمله على هذا، ويقال: إن الصرف النافلة، والعدل الفريضة. قال أبو عبيد: والتفسير الول أشبه بالمعنى. وقال أبو على البغدادى: الصرف الحيلة، والصرف الاكتساب، والعدل الفدية، والعدل الدية، صحيح فى الاشتقاق. فأما من قال: الصرف

(4/541)


الفريضة، والعدل النافلة، والصرف الدية، والعدل الزيادة على الدية؛ فغير صحيح فى الاشتقاق. وقال الطبرى: الصرف مصدر من قولك: صرفت نفسى عن الشىء أصرفها صرفًا. وإنما عنى به فى هذا الموضع صرف راكب الذنب وهو المحدث فى الحرم حدثًا من سفك دم أو استحلال محرم فلا تقبل توبته، والعدل: ما يعدله من الفدية والبدل، وكل ما عادل الشىء من غير جنسه وكا له مثلا من وجه الجزاء لا من وجه المشابهة فى الصورة والخلقة، فهو له عَدل، بفتح العين، ومنه قوله: (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا) [الأنعام: 70] بمعنى وإن تفد منها كل فدية. وأما العِدل بكسر العين، فهو مثل الحِمل المحمول على الظهر، يقال: عندى غلام عِدل غلامك، وشاة عِدل شاتك، بكسر العين، إذا كان غلامًا يعدل غلامًا وشاة تعدل شاة، وذلك فى كل مثل للشىء من جنسه، فإذا أراد أن عنده قيمته من غير جنسه فتحت العين فيقول: عندى شاتك من الدراهم. وقد ذكر عن بعض العرب أنهم يكسرون العين من العدل الذى هو بمعنى الفدية، وذلك لتقارب معنى العدل عندهم.
1 - باب فَضْلِ الْمَدِينَةِ
/ 277 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِىَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِى النَّاسَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) . قوله: (أُمرت بقرية) يريد أمرت بالهجرة إليها.

(4/542)


وقوله: (تأكل القُرى) يعنى: بيفتتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم، ويسبون ذراريهم، ويقتلون مقاتلتهم، وهذا من فصيح كلام العرب تقول: أكلنا بنى فلان، وأكلنا بلد كذا: إذا ظهروا على أهله وغلبوهم. قال الخطابى: (تاكل القرى) يريد أن الله ينصر الإسلام بأهل المدينة وهم النصار، وتفتح على أيديهم القرى، ويغنمها إياهم فيأكلونها، وهذا فى الاتساع والاختصار كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] يريد أهل القرية، فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد عرض نفسه على قبائل العرب أيهم ينصره فيفوز بالفخر فى الدنيا والثواب فى الآخرة، فلم يجد فى القوم من يرضى بمعاداة من جاوره ويبذل نفسه وماله لله، فمثل الله المدينة فى منامه فرأى أنه يؤمر بالهجرة إليها، فوصف ذلك أبى بكر، وقد كان عاقد قومًا من أهلها، وسألوه أن ينظر فيما يريدون أن يعقدوا معه عليه السلام، فخرج مع أبى بكر للمدينة، ففتح الله منها جميع الأمصار حتى مكة التى كانت موطنه. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وهذا الحديث حجة لمن فضل المدينة على مكة؛ لأنها هى التى أدخلت مكة وسائر القرى فى الإسلام، فصارت القرى ومكة فى صحائف أهل المدينة. وذهب مالك وأهل المدينة إلى أنها أفضل من مكة. وقال الشافعى: مكة أفضل منها. وقد تقدم القول فى ذلك فى كتاب الصلاة فى قوله: صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. وقوله: (يقولون: يثرب) كره أن يسمى باسمها فى الجاهلية وسماها (المدينة) فلا تسمى بغير ما سماها النبى عليه السلام

(4/543)


وكانوا يسمونها (يثرب) باسم أرض بها فغير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اسمها وسماها (طيبة) كراهية التثريب، وإنما سميت فى القرآن (يثرب) على وجه الحكاية لتسمية المشركين، وقد روى عنه عليه السلام أنه (من قال: يثرب فكفارته أن يقول المدينة عشر مرات) يريد بذلك التوكيد أن يقال لها: المدينة، وصارت مُعرفة بالألف واللام؛ لأنها انفردت بجميع خصال الإسلام، ولا يقول أحد: المدينة لبلد فيعرف ما يريد القائل إلا لها خاصة.
2 - باب الْمَدِينَةُ طيبة
/ 278 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَذِهِ طَابَةٌ) . قوقه: (طابة) مشتقة من الطيب، وزنها فعلة، وقد يقال أيضًا: طيبة، وزنها فعلة، وهذان المثالان فعلة وفعلة متعاقبان على معنى واحد، كقولهم: عيب وعاب، وديم ودام، ودين ودان، فاشتق لها عليه السلام هذا الاسم من الطيب، وكره اسمها لما فى لفظه من التثريب، وقد قال بعض أهل العراق: وأمر المدينة فى ترابها وهوائها دليل شاهد وبرهان على قوله عليه السلام: (إنها طيبة) يبقى حبها وينصع طيبها؛ لأن من دخلها وأقام بها يجد من تربتها وحيطانها

(4/544)


رائحة طية [. . . . . .] اسم فى الأرائج وبذلك السبب طاب طينها، والمعجونات من الطيب فيها أحدّ رائحة، وكذلك العود وجميع البخور يتضاعف طيبه فى تلك البلدة على كل بلدة استعمل ذلك الطيب بعينه فيها.
3 - بَاب لابَتَىِ الْمَدِينَةِ
/ 279 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ، عليه السَّلام: (مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ) . قد تقدم أن اللابتين الحرتان. وقوله: (ما ذعرتها) فالإذعار والتنفير هو أقل ما ينهى عنه من أمر الصيد وما فوقه من الأذى للصيد وقتله أكثر من الإذعار، وإنما أخذ أبو هريرة قوله: (ما ذعرتها) والله أعلم من قوله عليه السلام فى مكة: (لا ينفر صيدها) والتنفير والإذعار واحد.
4 - باب مَنْ رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ
/ 280 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، سَمِعْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ لا يَغْشَاهَا إِلا الْعَوَافِ، يُرِيدُ عَوَافِىَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا) .

(4/545)


/ 281 - وفيه: سُفْيَانَ بْنِ أَبِى زُهَيْرٍ، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِى قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ، وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ كذلك) . قال المهلب: قوله: (تترك المدينة على خير ما كانت) يريد على أرخى أحوالها ووجود ثمارها وخيراتها فيأكلها الطير والسباع. قال غيره: وفى هذا برهان من النبى عليه السلام لأنه ذكر أهلُ الأخبار أنه قد رحل عن المدينة أكثر الناس فى الفتن التى تعاورتها، وخاف أهلها على أنفسهم، وكانت فى عهد الخلفاء أحسن ما كانت من البنيان والعمارة والغرس للنخيل والأشجار، فتركت للطير والسباع، وبقيت مدة على ذلك ثم عاد الناس إليها. وروى عن مالك فى هذا الحديث (لتتركن المدينة خير ما كانت حتى يدخل الكلب، أو الذئب، فيعوى على بعض سوارى المسجد) وأكثر المدينة اليوم خراب لا يدخلها أحد منفردًا فيأمن، وهذا مما يلى القبلة والجوف، وليس لأبوابها ثقاف ولا غلق، وكذلك أبواب المسجد أكثرها لا تغلق وهى كبيرة. وقد رأى كثير من الناس الكلب يعوى على بعض سوارى المسجد كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وأما كونه فيما يستقبل فلا شك فيه بما قد أنذر به أمته من عموم الفتن واشتدادها، وانتقاض الخير، وغلبة الباطل وأهله، وأن الإسلام سيعود غريبًا كما بدأ غريبًا، وظهور الشرائط وتواتر المحن حتى يتمنى الأحياء الموت. وقال الأخفش: العوافى واحدها عافية، وهى التى تطلب أقواتها، والمذكر عاف، والعوافى والمعتفى التى تطلب فضلك.

(4/546)


قال الأعشى: تطوف العفاة بأبوابه كما تطوف النصارى ببيت الوثن يعنى بالعفاة: طلاب الحاجات. قال المهلب: وهذا الحديث يدل أن المدينة تُسكن إلى يوم القيامة وإن خلت فى بعض الأوقات، لقصد هذين الراعيين بغنمهما إلى المدينة، وهذا يكون قرب قيام الساعة، وأن آية قيام الساعة عند موت هذين الراعيين أحرى أن تصير غنمهما وحوشًا، فإن قيل: فما معنى قوله: (آخر من يحشر راعيان من مزينة) ولم يذكر حشرهما وإنما ذكر أنهما يخران على وجوهما أمواتًا؟ فالجواب: أنه لا يُحشر أحد إلا بعد الموت، فهما آخر من يموت بالمدينة وآخر من يحشر بعد ذلك كما قال عليه السلام. وقال صاحب (العين) : نعق بالغنم ينعق نعاقًا وإذا صاح بها. وأما قوله: (تفتح اليمن فيأتى قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) يعنى: يحملون من المدينة إلى هذه البلاد المتفتحة لسعة العيش فيها، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وفيه برهان جليل بصدق الرسول فى إخباره بما يكون قبل وقته، فأنجز الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) ما وعد به أمته فَفُتحت اليمن قبل الشام وفُتحت الشام قبل العراق وكمل ذلك كله. وقوله: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) يعنى: لفضل الصلاة فى مسجده، التى هى خير من ألف صلاة فيما سواه، ولما فى سكنى المدينة والصبر على لأوائها وشدتها، فهو خير لهم مما يصيبون من الدنيا فى غيرها، والمراد بالحديث: الخارجون عن المدينة رغبة

(4/547)


عنها كارهين لها، فهؤلاء المدينةُ خير لهم، وهم الذين جاء فيهم الحديث (أنها تنفى خبثها) وأما من خرج من المدينة لحاجة أو طلب معيشة أو ضرورة ونيته الرجوع إليها فليس بداخل فى معنى الحديث والله أعلم. وقوله: (يبسون) فقال أبو عبيد: يقال فى الزجر إذا سقت حمارًا أو غيره: بس بس، وهو من كلام أهل اليمن، وفيه لغتان: بَسَسْتُ وأَبْسَسْتُ، فيكون على هذا يَبسون ويُبسون بفتح الباء وضمها. وقال الخليل: بس زجر للبغل والحمار، بضم الباء وفتح السين، تقول: بس بس، يقال منه: يَبُسون ويُبِسون. قال أبو عمر الشيبانى: يقال: بس فلان كلابه أى: أرسلها.
5 - باب الإيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ
/ 282 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا) . قال المهلب: فيه أن المدينة لا يأتيها إلا المؤمن، وإنما يسوقه إليها إيمانه ومحبته فى النبى (صلى الله عليه وسلم) فكأن الإيمان يرجع إليها كما خرج منها أولا، ومنها ينتشر كانتشار الحية من جحرها، ثم إذا راعها شىء رجعت إلى جحرها، فكذلك الإيمان لما دخلته الدواخل لم يقصد المدينة إلا مؤمن صحيح الإيمان. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: قوله: (يأزر) يعنى ينضم إليها، ويجتمع بعضه إلى بعض. قال الأصمعى: وأخبرنى عيسى بن عمر، عن الأسود الديلى أنه قال: إن فلانًا إذا سئل أرز وإذا دُعى اهتز. قال أبو عبيد: يعنى: إذا سئل المعروف تضام، وإذا دعى إلى طعام وغيره مما يناله اهتز لذلك.

(4/548)


6 - باب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ
/ 283 - فيه: سَعْد، قَالَ، عليه السَّلام: (لا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلا انْمَاعَ، كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِى الْمَاءِ) . قال المهلب: وقوله: (لا يكيدُ أهلَ المدينةِ أحد) أى: لا يدخلها بمكيدة ولا يمكن يطلب فيها غرتهم ويفترس عورتهم. وقوله: (إلا انماع) أى: إلا ذاب كما يذوب الملح فى الماء، يقال منه: ماع العسل فى الماء، فهو يماع إيماعًا، وهو عسل مائع، وقد ماع يميع ميعًا مويعًا، وتَمَيع الشراب إذا ذهب وجاء، فهو يتميع تميعًا.
7 - باب آطَامِ الْمَدِينَةِ
/ 284 - فيه: أُسَامَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، وقف عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّى لأرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلالَ بُيُوتِكُمْ، كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ) . قال المهلب: مُثِّل للنبى (صلى الله عليه وسلم) الفتن التى حدثت بعده فرآها عيانًا، وأنذر بها عليه السلام قبل وقوعها، وهذه علامة من علامات نبوته؛ لإخباره عن الغيب فى ذلك، فكانت الفتن بعده كالقطر كما أخبر وخبره الصادق المصدوق. وقال الخطابى: الطم: الحصن المبنى بالحجارة، والجمع: آطام.
8 - بَاب لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الدَّجَّالُ
/ 285 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ) .

(4/549)


/ 286 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ) . / 287 - وفيه: أَبو سَعِيد، حَدَّثَنَا النبِىّ، عليه السَّلام، طَوِيلا عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ: (يَأْتِى الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِى بِالْمَدِينَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِى حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِى الأمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لا، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: حِينَ يُحْيِيهِ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّى الْيَوْمَ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَقْتُلُهُ فَلا أُسَلَّطُ عَلَيْهِ) . / 288 - وفيه: أَنَس، قَالَ، عليه السَّلام: (لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلا عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ) . قال الأخفش: أنقاب المدينة: طرقها، الواحد: نقب، وهو من قول الله تعالى: (فَنَقَّبُوا فِى الْبِلاَدِ) [ق: 36] أى: جعلوا فيها طرقًا ومسالك. قال غيره: ونقاب أيضًا جمع نقب، ككلاب وكلب، ويجمع فعل أسمًا على غير فعال وفعول قياسًا ومطردًا. وفى هذه الأحاديث برهان ظهر إلينا صحته، وعلمنا أن ذلك من بركة دعائه (صلى الله عليه وسلم) للمدينة، وقد أراد عمر والصحابة أن يرجعوا إلى المدينة حين وقع الوباء بالشام؛ ثقة منهم بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

(4/550)


الذى أمنهم من دخول الطاعون بلدهم، ولذلك نوقن أن الدجال لا يستطيع دخولها البتة، وهذا فضل عظيم للمدينة. وقد أخبر الله تعالى أنه يوكل الملائكة بحفظ من شاء من عباده من الآفات والعدو والفتن، فقال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد: 11] يعنى: بأمر الله لهم بحفظه، وما زالت الملائكة تنفع المؤمنين بالنصر لهم والدعاء والاستغفار ويستغفرون لذنوبهم، وسأذكر معنى حديث الدجال وفتنته للناس فى كتاب الفتن إن شاء الله. وفى حديث أنس أن الدجال لا يدخل مكة أيضًا، وهذا فضل كبير لمكة والمدينة على سائر الأرض، فإن قيل: إن قوله عليه السلام: (لا يدخل المسيح) يعارضه قوله فى حديث أنس: (ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات) والرجف رعب، قال المهلب: ليس يعارض، وإنما الرجفة تكون من أهل المدينة على من بها من المنافقين والكافرين فيخرجونهم من المدينة بإخافتهم إياهم تعاطيًا عليهم وعلى الدجال، فيخرج المنافقون إلى الدجال فرارًا من أهل المدينة ومن قوتهم عليهم، والله أعلم.
9 - باب الْمَدِينَةُ تَنْفِى الْخَبَثَ
/ 289 - فيه: جَابِر، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَبَايَعَهُ عَلَى الإسْلامِ، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُومًا، فَقَالَ: أَقِلْنِى، فَأَبَى ثَلاثَ مِرَارٍ، فَقَالَ: (الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا) .

(4/551)


/ 290 - وفيه: زَيْدَ، لَمَّا خَرَجَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِلَى أُحُدٍ، رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَقْتُلُهُمْ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لا نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلَتْ: (فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء: 88] وَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهَا تَنْفِى الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِى النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) . قال بعض العلماء: كان هذا الأعرابى من المهاجرين، فأراد أن يستقيل النبى عليه السلام فى الهجرة فقط، ولم يُرد أن يستقيله فى الإسلام، فأبى عليه السلام ذلك فى الهجرة؛ لأنها عون على الإثم، وكان ارتدادهم عن الهجرة من أكبر الكبائر؛ ولذلك دعا لهم الرسول فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) . فى هذا من الفقه أن من عقد على نفسه أو على غيره عقد الله، فلا يجوز له حله؛ لأن فى حله خروج إلى معصية الله، وقد قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1] والدليل على أنه لم يرد الارتداد عن الإسلام أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، ولو كان خروجه عن المدينة خروجًا عن الإسلام لقتله عليه السلام حين خرج، وإنما خرج عاصيًا، ورأى أنه معذور لِمَا نزل به من الوباء، ولعله لم يعلم أن الهجرة فرض عليه وكان من الذين قال لهم فيهم: (وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ) [التوبة: 97] فقال فيه عليه السلام: (إن المدينة كالكير تنفى خبثها) . فإن قيل: فإن المنافقين قد سكنوا المدينة وماتُوا فيها ولم تنفهم؟ قيل: إن المنافقين كانت دارهم ولم يسكنوها اعتباطًا بالإسلام ولا حبًا له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرد عليه

(4/552)


السلام بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبًا فيه ثم خبث قلبه، ولم يصح عندك أن أحدًا ممن لم تكن له المدينة دارًا فارتد عن الإسلام ثم اختار السكنى فيها، بل كلهم فَرَّ إلى الكفر راجعًا، فبمثل أولئك ضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المثل. وقال المهلب: كان المنافقون الساكنون بالمدينة قد ميزهم الله كأنهم بارزون عنها؛ لما وسمهم به من قوله تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 79] ، و) الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [التوبة: 61] وبقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد: 30] فكانوا معروفين معينين، وأبقاهم (صلى الله عليه وسلم) لئلا يقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه أو ينفيهم، والنفى كالقتل. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء: 88] فَبَيَّنَ منكرًا عليهم اختلافَهم فى قتلهم، فعرفهم الله أنه أركسهم بنفاقهم، فلا يكون لهم صنع ولا جمع، ولا يسمع لهم قول، مع أنه قد ختم الله أنهم لا يجاورونه فيها إلا قليلا، فنفتهم المدينة بعده عليه السلام لخوفهم القتل، قال الله تعالى: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب: 61] فلم يأمنوا فخرجوا، فصح إخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنها تنفى خبثها، لكن ليس ذلك ضربة واحدة، لكن الشىء بعد الشىء حتى يخلص أهلها الطيبين الناصعين وقت الحاجة إليهم فى العلم؛ لأنهم فى حياته عليه السلام مستغنى عنهم، فلما احتيج إليهم بعده فى العلم حفظتهم بركة المدينة فنفت خبثها.

(4/553)


قال غيره: وقوله: (المدينة كالكير) إنما هو تمثيل منه وتنظير، ففيه دليل على جواز القياس بين الشيئين إذا اشتبها فى المعنى، فشبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة فى نفيها مَنْ خبث قلبه بالكير الذى ينفى خبث الحديد حتى يصفو، وقوله: (ينصع طَيِّبُها) هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها وشدتها مع فراق الأهل والمال والتزام المخافة من العدو، فلما باع نفسه من الله والتزم هذا بأن صدقُه، ونصع إيمانه وقوى؛ لاغتباطه بسكنى المدينة وتقربه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا على سائر البلاد، خصوصية خص الله بها بلدة رسوله (صلى الله عليه وسلم) التى اختار تربتها لمباشرة جسده الطيب المطهر (صلى الله عليه وسلم) ، وقد جاء فى الحديث أن المؤمن يقبر فى التربة التى خلق منها، فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب كما هو (صلى الله عليه وسلم) أفضل البشر؛ فلهذا والله أعلم تتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلاد.
0 - بَاب
/ 291 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَىْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ) . وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ، أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا. استدل بعض الناس على أن المدينة أفضل من مكة بدعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمدينة بضعف دعائه لمكة وقال آخرون ممن يرى أن مكة أفضل من المدينة: لو كان تضعيف الدعاء للمدينة دليلا على فضلها على مكة، لكانت الشام واليمن أفضل من مكة؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد كرر الدعاء للشام واليمن مرات، وهذا لا يقوله مسلم، روى ابن عمر: أن

(4/554)


الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (اللهم بارك لنا فى شامنا، اللهم بارك لنا فى يمننا، قالها ثلاثًا) . وهذا اعتراض غير لازم؛ لأن الأمة مجمعة أن مكة أفضل من الشام واليمن وجميع الأرض غير المدينة. فلما تقرر هذا لم يكن تكرير الدعاء للشام واليمن موجبًا لفضلهما على مكة؛ لأنه لم يقصد بالدعاء لهما التفضيل على مكة، وإنما قصد التفضيل لهما على نجد، وإنما كان يصح هذا الاعتراض لو قرن بالدعاء للشام واليمن ثلاث مرات الدعاء لمكة أقل من ذلك، وإنما فى حديث ابن عمر الشام واليمن أفضل من نجد خاصة؛ لتكريره الدعاء للشام واليمن دون نجد، فكذلك تكريره الدعاء للمدينة دون مكة، فوجب فضلها على مكة، والله أعلم. واحتج من فضل المدينة بقوله: (حركها من حبها) يريد من حبه للمدينة، قال: فقد خصها الله بفضائل كثيرة منها: أن الله اختارها دارًا لنبيه أفضل خلقه، وجعلها منزل وحيه، وحباها بقبره، ومنها نشر الله دينه وبَلَّغ شريعته، إلى ما لا يحصى من فضائلها، وتعجيل سيره (صلى الله عليه وسلم) إذا نظر إليها من أجل أن قرب الدار يجدد الشوق للأحبة والأهل، ويؤكد الحنين إلى الوطن، وفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأسوة الحسنة.
1 - باب كَرَاهِيَةِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ
/ 292 - فيه: أَنَس، أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ، وَقَالَ: (يَا بَنِى سَلِمَةَ أَلا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ) . إنما أراد عليه السلام ألا تعرى المدينة وأن تعمر ليعظم

(4/555)


المسلمون فى أعين المنافقين والمشركين، إرهابًا وغلظة عليهم. وقوله: (ألا تحتسبون آثاركم) يعنى: فى الخطا إلى المسجد؛ ولذلك قال أبو هريرة: إن أعظمكم أجرًا أبعدكم دارًا، قيل: لِمَ يا أبا هريرة؟ قال: من أجل كثرة الخطا. وهذا لا يكون من رأى أبى هريرة؛ لأن الفضائل لا تدرك بالقياس، وقد ترجم لهذا الحديث فى كتاب الصلاة باب احتساب الآثار.
2 - بَاب
/ 293 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى وقبرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِى عَلَى حَوْضِى) . / 294 - وفيه: عَائِشَةَ، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى، يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِى أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: أَلا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِى شَامَةٌ وَطَفِيلُ

(4/556)


(اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى صَاعِنَا، وَفِى مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ) ، قَالَ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهِىَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِى نَجْلا، مَاءً آجِنًا. / 295 - وفيه: عُمَرَ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى شَهَادَةً فِى سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِى فِى بَلَدِ رَسُولِكَ (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: قوله: (روضة من رياض الجنة) يحتمل أن يكون على الحقيقة، ويحتمل أن يكون على المجاز، فوجه الحقيقة أن يكون الموضع الذى بين المنبر والقبر يوم القيامة فى الجنة روضة، واحتج قائل هذا بقوله تعالى عن أهل الجنة روضة، واحتج قائل هذا بقوله تعالى عن أهل الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء) [الزمر: 74] قالوا: فدلت هذه الآية أن الجنة تكون فى الأرض يوم القيامة. ووجه المجاز أن يكون معناه أن من صلى بين المنبروالقبر فقد استوجب روضة فى الجنة، فيجازى بها يوم القيامة على قصده وصلاته فى هذا الموضع، كما قال عليه السلام: (ارتعوا فى رياض الجنة) يعنى: حلق الذكر والعلم لما كانت مؤدية إلى الجنة، ويكون معناه التحريض على زيارة قبر النبى عليه السلام والصلاة فى مسجده، وكذلك يدل قوله: (صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه) على الحض والندب على قصده والصلاة فيه والزيارة له، وقد بسطت الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الصلاة فى باب: فضل ما بين القبر والمنبر، بأسبغ مما ذكرته ها هنا.

(4/557)


وقول عمر: اللهم اجعل موتى فى بلد رسولك (صلى الله عليه وسلم) . احتج به من فضل المدينة على مكة، وقالوا: لو علم عمر بلدة أفضل من المدينة لدعا ربه أن يجعل موته وقبره فيها، وكان مما استُدل به على فضلها أن الله لما اختارها لقبر نبيه أفضل البشر عُلم أنه لم يختر له إلا أفضل البقاع، وقد جاء أن ابن آدم إنما يدفن فى التربة التى خلق منها، وقد ذكرنا ذلك. وقال بعض العلماء: وأما حديث عائشة حين وُعك أبو بكر وبلال وإنشادهما فى ذلك؛ فإن الله تعالى لما ابتلى نبيه بالهجرة وفراق الوطن ابتلى أصحابه بما يكرهون من الأمراض التى تؤلمهم، فتكلم كل إنسان منهم حسب يقينه وعلمه بعواقب الأمور فتعزى أبو بكر عند أخذ الحمى له بما ينزل به الموت فى صباحه ومسائه، ورأى أن ذلك شامل للخلق، فلذلك قال: كل امرىِِء مصبح فى أهله. يعنى: تصبحه الآفات وتمسيه، وأما بلال فإنما تمنى الرجوع إلى مكة وطنه الذى اعتاده ودامت فيه صحته، فبان فضل أبى بكر وعلمه بسرعة فناء الدنيا حتى الموت بشراك نعله. فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما نزل بأصحابه من الحُمَّى والوباء خشى كراهية البلد، لما فى النفوس من استثقال ما تكرهه، فدعا الله فى رفع الوباء عنهم، وأن يحبب إليهم المدينة كحبهم مكة وأشد؛ فدل ذلك أن أسباب التحبيب والتكريه بيد الله، وهبة منه يهبها لمن شاء، وفى هذا حجة واضحة على من كذب بالقدر؛ إِذِ الذى يملك النفوس فيجب إليها ما أحب، ويكره إليها ما كره هو الله، فأجاب دعوة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، فأحبوها حبا أدامه فى نفوسهم حتى ماتوا عليه.

(4/558)


وأما قوله: (وصححها) ففيه من الفقه أن الله أباح للمؤمن أن يسأل ربه صحة جسمه وذهاب الآفات عنه إذا نزلت به، كسؤاله إياه فى الرزق والنصر، وليس فى دعاء المؤمن ورغبته فى ذلك إلى الله لوم ولا قدح فى دينه، وقد كان من دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) كثيرًا أن يقول: (وقونى فى سبيلك) وفى هذا رد على الصوفية فى قولهم: إن الولى لا تتم له الولاية إلا تم له الرضا بجميع ما نزل به ولا يدعوا الله فى كشف ذلك عنه، فإن دعا فليس من الولاية فى حال الكمال، وقد [. . . . . .] فى قولهم هذا بمحمد عليه السلام وأصحابه، وقد كان إذا نزل به شىء يكثر عليه الدعاء والرجاء فى كشفه. وأما قوله: (وانقل حُمَّاها إلى الجحفة) فكانت الجحفة يومئذ دار شرك، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثيرًا ما يدعوا على من لم يجب إلى الإسلام إذا خاف منه معونة أهل الكفر، حين يئس منهم فقال (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف) ودعا على أهل الجحفة بالحمى ليشغلهم بها، فلم تزل الجحفة من يومئذ أكثر بلاد الله حمى، وإنه يتقى شرب الماء من عينها الذى يقال له: عين حم، وقَلَّ من شرب منه إلا حُمَّ، وهو متغير الطعم. وقوله: (رفع عقيرته) يعنى: صوته، وأصل ذلك عند العرب أن رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ بأعلى صوته؛ فقيل لكل رافع صوته: قد رفع عقيرته، ففيه من المعانى جواز هذا النوع من الغناء، وهو نشيد الأعراب للسفر بصوت رفيع.

(4/559)


قال الطبرى: وهذا النوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة، وهو الذى غنى به فى بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلم يَنْهَ عنه، وهو الذى كان السلف يجيزون ويسمعون، وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: نعم زاد الراكب الغناء نصبًا، وروى ابن وهب، عن أسامة وعبد الله ابنى زيد بن أسلم، عن أبيهما زيد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: الغناء من زاد الراكب. وروى ابن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز أن محمد ابن نوفل أخبره أنه رأى أسامة بن زيد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى بمعنى النصب. قال الطبرى: وإنما تسميه العرب النصب لنصب المتغنى به صوته وهو الإنشاد له بصوت رفيع. وروى ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعًا عقيرته يتغنى. قال عبد الله بن عتبة: والله ما رأيت رجلا أخشى لله من عبد الله بن الأرقام. وقد تقدم شىء من هذا المعنى فى كتاب الصلاة فى باب: سنة العيدين لأهل الإسلام، عند ذكر الجاريتين اللتين غنتا فى بيت عائشة يوم العيد، وسيأتى ما يحل من الغناء ويحرم فى كتاب الاستئذان فى باب: كل لهو فباطل إذا شغله عن طاعة الله. وفى حديث عائشة من الفقه تمثل الصالحين والفضلاء بالشعر، وفيه عيادة الجلّة السادة لعبيدهم؛ لأن بلالا أعتقه أبو بكر الصديق وكانت عائشة تزوره، وكان ذلك قبل نزول الحجاب. والإذخر والجليل ينبتان بمكة، وشامة وطفيل جبلان بها، وقال الفكهانى: بينهما وبين مكة نحو ثلاثين ميلا. قال الخطابى: وكنت مرة أحسبهما جبلين حتى تبين لى أنهما عينان.

(4/560)


(بطحان يجرى نجلا) بطحان اسم للكمان المنبطح، وهو المستوى المتسع، ويجرى نجلا: يريد واسعًا، تقول العرب: استنجل الوادى: إذا اتسع جريه، ومنه العين النجلاء الواسعة: وطعنة نجلاء أى: واسعة، والأجن والآجن: المتغير. قال الأعشى: وقليب آجن كأن من بأرجائه لُقُوطَ نصَال. . . . . . . . . . .

(4/561)