شرح صحيح البخارى لابن بطال

الجزء الخامس

(5/4)


بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الْجِهَادِ
فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ (إِلَى قَوْلِهِ: (والحافظون لحدود الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 111] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُدُودُ الطَّاعَةُ. 1647 / - فيه: ابْن مَسْعُود، سَأَلْتُ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الصَّلاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى. 1648 / - وفيه: ابْن عَبَّاس قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) . 1649 / - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لَكُنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) . 1650 / - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ، قَالَ: لا أَجِدُهُ، قَالَ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ،؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِى طِوَلِهِ، فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ.

(5/5)


قال الطبرى: معنى حديث ابن مسعود أن الصلاة المفروضة وبر الوالدين والجهاد فى سبيل الله أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله، وذلك أن من ضيع الصلاة المفروضة، حتى خرج وقتها لغير عذر فقدرته مع خفة مؤنتها وعظم فضلها فهو لا شك لغيرها من أمر الدين والإسلام أشد تضيعاَ، وبه أشد تهاوناَ واستخفافاَ، وكذلك من ترك بر والديه وضيع حقوقهما مع عظيم حقهما عليه بتربيتهما إياه، وتقطعهما عليه، ورفقهما به صغيرًا وإحسا نهما إليه كثيراَ، وخالف أمر الله ووصيته إياه فيهما، فهو لغير ذلك من حقوق الله أشد تضييعًا، وكذلك من ترك جهاد أهداء الله، وخالف أمره فى قتالهم مع كفرهم بالله ومناصبتهم أنبياءه وأولياءه للحرب، فهو لجهاد من دونهم من فساق أهل التوحيد ومحاربة من سواهم من أهل الزيغ والنفاق أشد تركًا، فهذه الأمور الثلاثه تجمع المحافظة عليهن الدلالة لمن حافظهن أنه محافظ على ما سواهن، ويجمع تضييعهن الدلالة على تضييع ما سواهن من أمر الدين والإسلام فلذلك خصهن (صلى الله عليه وسلم) بأنهن أفضل الأعمال. قال المهلب: وأما الهجرة فكانت فرضا فى أول الإسلام على من أسلم، لقلتهم وحاجتهم إلى الاجتماع والتأليف، فلما فتح الله مكة دخل الناس فى دين الله أفواجا سقط فرض الهجرة، وبقى فرض الجهاد والنية على من قام به أو أنزل به عدو، والله جعل الحج أفضل للنساء من الجهاد لقلة غنائهن فى الجهاد، وفى حديث أبى هريرة أن المجاهد على كل أحواله يكتب له ما يكتب للمتعبد فالجهاد أفضل من التنفل بالصلاة والصيام.

(5/6)


وقوله: (ليستن فى طوله) يعنى ليأخذ فى السنن على وجه واحد ماضيا وهو يفتعل من السنن ويقال: فلان يستن الريح والسيل إذا كان على جهتها وممرها، وأهل الحجاز يقولون: سُنن بضم السين وفى قوله تعالى: (فيقتلون ويقتلون (دليل على أن القاتل والمقتول فى سبيل الله جميعا فى الجنة. وقال بعض الصحابة: (ما أبالى قتلت فى سبيل الله أو قتلت) وتلا هذه الآية وهذا يرد على الشعبى أن الغالب فى سبيل الله أعظم أجرًا من المقتول.
- باب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ (الآية. 1651 / - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مُؤْمِنٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِى اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) . 1652 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ ويُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) . قال المهلب: فيه فضل الغنى. وقوله: (أى الناس أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : مؤمن يجاهد فى سبيل الله) ليس على عمومه ولا يريد أنه أفضل الناس قاطبة؛ لأن

(5/7)


أفضل منه من أوتى منازل الصديقين، وحمل الناس على شرائع الله وسنن نبيه، وقادم إلى الخيرات، وسبب لهم أسباب المنفعة فى الدين والدنيا، لكن إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) والله أعلم أفضل أحوال عامة الناس؛ لأنه قد يكون فى خاصتهم من أهل الدين والعلم والفضل والضبط بالسنن من هو أفضل منه. وقوله فى حديث أبى هريرة: (والله أعلم بمن يجاهد فى سبيله) يريد والله أعلم بعقد نيته إن كانت لله خالصة وإعلاء كلمته، فذلك المجاهد فى سبيل الله، وإن كان فى نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فيها فقد شرك مع سبيل الله سبيل الدنيا. وقوله: (كمثل الصائم القائم) يدل أن حركات المجاهد ونومه ويقظته حسنات، وإنما مثله بالصائم؛ لأن الصائم ممسك لنفسه عن الأكل واللذات، وكذلك المجاهد ممسك لنفسه على محارسة العدو، وحابس نفسه على مراعاته ومقابلتة. وقوله: (مع ما نال من أجر أو غنيمة) إنما أدخل (أو) هاهنا؛ لأنه قد يرجع مرة بالأجر وحده، وقد يرجع أخرى بالأجر والغنيمة جميعًا، فأدخل (أو) لتدل على اختلاف الحالين، لا أنه يرجع بغنيمة دون أجر، بل أبدًا يرجع بالأجر كانت غنيمة أو لم تكن. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: تفاضلهم فى الأجر وتساويهم فى الغنيمة دليل قاطع أن الأجر يستحقونه لقتالهم، فيكون أجر كل واحد على قدر عنائه، وأن الغنيمة لا يستحقونها بذلك لكن بتفضل الله عليهم ورحمته لهم بما رأى من ضعفهم، فلم يكن لأحد فضل على غيره إلا أن يفضله قاسم الغنيمة فينفله من رأسها، كما نفل أبا

(5/8)


قتادة، أو من الخمس كما نفلهم فى حديث ابن عمر، والله يوتى فضله من يشاء. وفيه فضل العزلة والانفراد عن الناس، والفرار عنهم ولا سيما فى زمن الفتن وفساد الناس، وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال؛ لأنها فى الأغلب مواضع الخلسة والانفراد، فكل موضع يبعد عن الناس، فهو داخل فى هذا المعنى كالمساجد والبيوت، وقد قال عقبة بن عامر: (ما النجاة يا رسول الله؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) .
3 - باب الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ: [اللَّهُمَّ] ارْزُقْنِى شَهَادَةً فِى بَلَدِ رَسُولِكَ. 1653 / - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِى رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ قُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الأسِرَّةِ - أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأسِرَّةِ - شَكَّ إِسْحَاقُ - قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، كَمَا قَالَ فِى الأوَّلِ، قَالَتْ: قُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، قَالَ: (أَنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ) ، فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِى زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ.

(5/9)


قال المهلب: كانت أم حرام خالة النبى (صلى الله عليه وسلم) من الرضاعة، فلذلك كان ينام فى حجرها، وتفلى رأسه. قال غيره: إنما كانت خالة لأبيه أو لجده؛ لأن أم عبد المطلب كانت من بنى النجار، وكان يأتيها زائرًا لها، والزيارة من صلة الرحم. وفيه: إباحة أكل ما قدمته المرأة إلى ضيفها من مال زوجها؛ لأن الأغلب أن ما فى البيت من الطعام هو للرجل. وفيه أن الوكيل والمؤتمن إذا علم أنه يسر صاحب المنزل بما يفعله فى ماله جاز له فعل ذلك، ومعلوم أن عبادة كان يسره أكل رسول الله فى بيته. واختلف العلماء فى عطية المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وسيأتى ذلك فى موضعه. وقوله: (يركبون ثبج هذا البحر) والثبج: الظهر. وقال الخطابى: الثبج: أعلى متن الشيء. وضحكه (صلى الله عليه وسلم) هو سرور منه، بما يدخله الله على أمته من الأجر، وما ينالوه من الخير، وإنما رآهم ملوكًا على الأسرة فى الجنة فى رؤياه، وفيه إباحة الجهاد للنساء فى البحر، وقد ترجم له بذلك بعد: باب: جهاد النساء، بعد هذا. وقالت أم عطية: (كنا نغزوا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فنداوى الكلمى ونقوم على المرضى) وفيه أن الجهاد تحت راية كل إمامٍ جائز ماض إلى يوم القيامة؛ لأنه رأى الآخرين ملوكًا على الأسرة كما رأى الأولين، ولا نهاية للآخرين إلى يوم القيامة، قال تعالى: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) [الواقعة: 39، 40] ، وهذا الحديث من أعلام النبوة وذلك

(5/10)


أنه أخبر فيه بضروب من الغيب قبل وقوعها، فمنها: جهاد أمته فى البحر، وضحكه دليل على أن الله يفتح لهم ويغنمهم، ومنها: الإخبار بصفة أحوالهم فى جهادهم وهو قوله: (يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة) ومنها قوله لأم حرام: (أنت من الأولين) فكان كذلك، غزت مع زوجها فى أول غزوة كانت إلى الروم فى البحر مع معاوية. وفيه: هلكت، وهذا كله لا يعلم إلا بوحى من الله تعالى على ما أوحى إليه به فى نومه. وفيه: أن رؤيا الأنبياء وحى، وفيه ضحك المبشر إذا بشر بما يسره كما فعل (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: وفيه فضل معاوية - رحمه الله وأن الله قد بشر به نبيه فى النوم؛ لأنه أول من غزا فى البحر وجعل من غزا تحت رايته من الأولين. وذكر أهل السير أن هذه الغزاة كانت فى زمن عثمان. قال الزبير بن أبى بكر: ركب معاوية البحر غازيًا بالمسلمين فى خلافة عثمان إلى قبرس ومعه أم حرام زوجة عبادة، فركبت بغلتها حين خرجت من السفينة فصرعت فماتت. وقال ابن الكلبى: كانت هذه الغزاة لمعاوية سنة ثمان وعشرين. وفيه أن الموت فى سبيل الله شهادة. وذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبى العجفاء السلمى قال: قال عمر بن الخطاب: قال محمد (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل فى سبيل الله أو مات فهو فى الجنة) .

(5/11)


4 - باب دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى
يُقَالُ: هَذِا سَبِيلِى، وَهَذهِ سَبِيلِى. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: (غُزًّا (: وَاحِدُهَا غَازٍ،) هُمْ دَرَجَاتٌ) [آل عمران: 163] لَهُمْ دَرَجَاتٌ. 1654 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: (إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ) . 1655 / - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَصَعِدَا بِى الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلانِى دَارًا هِىَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالا: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ، فَدَارُ الشُّهَدَاءِ) . قال المهلب: تستحق الجنة بالإيمان بالله ورسوله، وقد روى عن الرسول أنه قال: (ثمن الجنة لا إله إلا الله) وبالشهادة والأعمال الصالحة تستحق الدرجات والمنازل فى الجنة وقوله: (وسط الجنة) فيحتمل أن يريد موسطتها، والجنة قد حفت بها من كل جهة. وقوله: (أعلى الجنة) يريد أرفعها؛ لأن الله تعالى مدح الجنات إذا كانت فى علو، فقال: (كمثل جنة ربوة) [البقرة: 265] ، وقوله: (منها تفجر أنهار الجنة) يريد أنها عالية من الارتفاع وقال المؤلف: وقوله: (من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، جاهد فى سبيل الله

(5/12)


أو جلس فى أرضه) فيه تأنيس لمن حرم الجهاد فى سبيل الله، فإن له من الإيمان بالله والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة؛ لأنها هى غاية الطالبين، ومن أجله تبذل النفوس فى الجهاد. فلما قيل لرسول الله: (أفلا نبشر الناس) أخبر (صلى الله عليه وسلم) بدرجات المجاهدين فى سبيله وفضيلتهم فى الجنة ليرغب أمته فى مجاهدة المشركين وإعلاء كلمة الإسلام، وهذا الحديث كان قبل فرض الزكاة والحج. فلذلك لم يذكرا فيه والله أعلم. وقد روى ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن سهل بن أبى أمامة بن سهل ابن حنيف، عن أبيه، عن جده، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وحديث أبى هريرة شبه هذا المعنى؛ لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى) خطاب لجميع أمته يدخل فيه المجاهدون وغيرهم. فدل ذلك أنه قد يعطى الله لمن لم يجاهد قريبًا من درجة المجاهد؛ لأن الفردوس إذا كان أعلى الجنة ولا درجة فوقه، وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) جميع أمته بطلب الفردوس من الله؛ دل أن من بوأه الفردوس وإن لم يجاهد فقد تقارب درجته من درجات المجاهد فى العلو وإن اختلفت الدرجات فى الكثرة، والله يؤتى فضله من يشاء.

(5/13)


5 - باب الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَابِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
656 / فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِيّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لَغَدْوَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . 1657 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) : (لَقَابُ قَوْسٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ) ، قال المهلب: قوله: (الغدوة والروحة خير من الدنيا) يعنى خير من زمن الدنيا؛ لأن الغدوة والروحة فى زمن، فيقال: إن ثواب هذا الزمن القليل فى الجنة خير من زمن الدنيا كلها، وكذلك قوله: (لقاب قوس أحدكم) أو (موضع سوط فى الجنة) يريد أن ما صغر فى الجنة من المواضع كلها من بساتينها وأرضها، فأخبر فى هذا الحديث أن قصير الزمان وصغير المكان فى الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان فى الدنيا، تزهيدًا فيها وتصغيرًا لها وترغيبا فى الجهاد، إذا بالغدوة والروحة فيه أو مقدار قوس المجاهد يعطيه الله فى الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب فيه نفسه وأنفق ماله. وقال صاحب العين: قاب القوس: قدر طولها.
6 - باب نزول الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ
يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ) وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عين) [الدخان: 54] أَنْكَحْنَاهُمْ. 1658 / - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ

(5/14)


يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلا الشَّهِيدَ، لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى) . 1659 / - وَقَالَ أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ - أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِى سَوْطَهُ - مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ لأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . قال المهلب: إنما ذكر حديث أنس فى هذا الباب لأن المعنى الذى يتمنى الشهيد من أجله أن يرجع إلى الدنيا فيقتل هو مما يرى مما يعطى الله الشهيد من النعيم ويزوجه من الحور العين، وكل واحدة منهن لو اطلعت إلى الدنيا لأضاءت كلها، ليستزيد من كرامة الله وتنعيمه وفضله. وفى ذلك حض على طلب الشهادة وترغيب فيها. وقال ابن قتيبة: إنما سمى الشهداء شهداء؛ لأنهم يشهدون ملكوت الله، واحدهم شهيد كما يقال عليم وعلماء، وكفيل وكفلاء، وقال ابن الأنبارى: قال أبو العباس: سمى الشهيد شهيدًا؛ لأن الله وملائكته شهود له بالجنة، وهو فعيل بتأويل مفعول. مثل طبيخ وقدير بمعنى مطبوخ ومقدور. وقيد الرمح: قدره وقيسه، والنصيف: الخمار من كتاب العين.

(5/15)


7 - باب تَمَنِّى الشَّهَادَةِ
660 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا أَنَّ رِجَالا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ) . 1661 / وفيه: أَنَس، خَطَبَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، وَقَالَ: (مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. فيه من الفقه: أن رسول الله كان يتمنى من أعمال الخير ما يعلم أنه لا يعطاه حرصًا منه (صلى الله عليه وسلم) على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين، وبذلا لنفسه فى مرضات ربه وإعلاء كلمة دينه، ورغبة فى الازدياد من ثواب ربه، ولتتأسى به أمته فى ذلك، وقد يثاب المرء على نيته، وسيأتى فى كتاب التمنى ما تمناه الصالحون مما لا يصل إلى كونه. وقوله: (والذى نفسى بيده) فيه إباحة اليمين بالله على كل ما يعتقده المرء مما يحتاج فيه إلى يمين، وما لا يحتاج، وكثيرًا كان (صلى الله عليه وسلم) يقول فى كلامه: (ومقلب القلوب) لأن فى اليمين بالله توحيدًا وتعظيمًا له، وإنما يكره تعمد الحنث. وفيه: أن الجهاد ليس بفرض معين على كل أحد، ولو كان معينًا ما تخلف رسول الله، ولا أباح لغيره التخلف عنه ولو شق على أمته؛

(5/16)


إذ كانوا يطيعونه، هذا إذا كان العدو لم يفجأ المسلمين فى دارهم ولا ظهر عليهم وفيه: أنه يجوز للإمام العالم ترك فعل الطاعة إذا لم يطق أصحابه ونصحاؤه على الإتيان بمثل ما يقدر هو عليه منها إلى وقت قدرة الجميع عليها وذلك من كرم الصحبة وأدب الأخلاق. وفيه عظيم فضل الشهادة، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (وما يسرنا أنهم عندنا) لعلمه بما صاروا إليه من رفيع المنزلة.
8 - باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ (إلى) وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [النساء: 100]
وَقَعَ: وَجَبَ. 1662 / وفيه: أَنَس، عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ، قَالَتْ: نَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّى، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فتَبَسَّم. . . . . . الحديث، فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ. قال المؤلف: مصداق حديث أنس فى قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله (الآية. فنزلت هذه الآية على مثل ما دل عليه الحديث أن من مات فى سبيل الله فهو شهيد. وقد روى ابن وهب، عن عمر بن مالك، عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن جعفر

(5/17)


بن عبد الله بن الحكم، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهنى، سمعت رسول الله يقول: (من صرع عن دابته فمات فهو شهيد) وفى حديث أنس أن حكم المنصرف من سبيل الله فى الأجر مثل حكم المتوجه إليه فى خطاه وتقلبه وحركاته، وأن له ثواب المجاهد فى كل ما ينويه ويشق عليه ويتكلفه من نفقة أو غيرها حتى ينصرف إلى بيته، والله أعلم.
9 - باب مَنْ يُنْكَبُ أَوْ يطعن فِى سَبِيلِ اللَّهِ
663 / فيه: أَنَس، بَعَثَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَقْوَامًا مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ إِلَى بَنِى عَامِرٍ فِى سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا، قَالَ لَهُمْ خَالِى: أَتَقَدَّمُكُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِى حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، وَإِلا كُنْتُمْ مِنِّى قَرِيبًا، فَتَقَدَّمَ، فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلُوهُمْ، إِلا رَجُلا أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ - قَالَ هَمَّامٌ: فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) : أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ، فَرَضِىَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، فَكُنَّا نَقْرَأُ: (أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا (ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِى لَحْيَانَ وَبَنِى عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) . 1664 / وفيه: جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ فِى بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، فدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: (هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) إنما دعا عليهم (صلى الله عليه وسلم) فى صلاة الفريضة من أجل غدرهم،

(5/18)


وقبيح نكثهم بعد تأمينهم وآنس الله تعالى نبيه بما أنزل عليه من أنه رضى عنهم وأرضاهم. ففى هذا من الفقه: جواز الدعاء على أهل الغدر والختر وانتهاك المحارم، والإعلان باسمهم والتصريح بذكرهم. وقد جاء فى حديث أنس فى باب قول الله: (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا) [آل عمران: 169] أنه دعا عليهم ثلاثين صباحًا. ودل حديث جندب بن سفيان على أن كل ما أصيب به المجاهد فى سبيل الله من نكبة أو عثرة فإن له أجر ذلك على قدر نيته واحتسابه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هل أنت إلا أصبع دميت، وفى سبيل الله ما لقيت) . فهو رجز موزون، وقد يقع على لسانه مقدار البيت من الشعر أو البيتين من الرجز كقوله: (أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) . فلو كان هذا شعرًا لكان خلاف قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغى له) [يس: 69] والله يتعالى أن يقع شيء من خبره أو يوجد على خلاف ما أخبر به تعالى، وهذا من الحجاج اللازمة لأهل الإسلام خاصة، ويقال للملحدين: إن ما وقع من كلامه من الموزون فى النادر من غير قصد فليس بشعر؛ لأن ذلك غير ممتنع على أحد من العامة والباعة أن يقع له كلام موزون فلا يكن بذلك شعرًا مثل قولهم: اسقنى فى الكوز ماء يا غلام، واسرج البغل وجئنى بالطعام. وقولهم: من يشترى باذنجان. وقد يقول العمى منهم: وخالق الأنام ورسله الكرام وبيته الحرام والركن والمقام، لا فعلت كذا وكذا. وقد علم أن المقسم بذلك من النساء والعامة ليس بشاعر ولا قاصد إلى

(5/19)


ذلك، وهذا لا يمكن دفع اتفاق مثله من العامة، فثبت بذلك أن هذا المقدار ليس بشعر وأن الرجز ليس بشعر، ذكر هذا القاضى أبو بكر ابن الطيب وغيره، قال وذكر بعض أهل العراق: سمعت غلامًا لصديق لى، وقد كان قد سقى بطنه. يقول لغلمان مولاه: اذهبوا به إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى. وهذا الكلام يخرج وزنه عن فاعلات مفاعل فاعلات مفاعل مرتين. وقد علمت أن هذا الغلام لا يخطر على باله قط أن يقول بيت شعر ومثل هذا كثير لو تتبع فى كلام الناس.
- باب مَنْ يُجْرَحُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
665 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِهِ - إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ) . قوله: (لا يكلم) : يعنى لا يجرح، والكلوم الجراح. وقوله: (فى سبيل الله) المراد به الجهاد، ويدخل فيه بالمعنى كل من جرح فى سبيل بر أو وجه مما أباحه الله تعالى كقتال أهل البغى والخوارج واللصوص، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل دون ماله فهو شهيد) وقوله: (والله أعلم بمن يكلم فى سبيله) فإنه يدل على أنه ليس كل من جرح فى العدو، تكون هذه حاله، عند الله حتى تصح نيته، ويعلم الله من قتله أنه يريد وجهه، ولم يخرج رياء ولا سمعة ولا ابتغاء دنيا يصيبها. وفيه: أن الشهيد يبعث فى حاله وهيئته التى قبض عليها. وقد

(5/20)


احتج الطحاوى بهذا الحديث لقول من يرى غسل الشهيد فى المعترك. وقد روى عن الرسول أنه قال: (يبعث الميت فى ثيابه التى قبض فيها) أى يعاد خلق ثيابه كما يعاد خلقه.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة 52] وَالْحَرْبُ سِجَالٌ
666 / فيه: ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. قال المهلب: قوله تعالى: (إلا إحدى الحسنيين (يريد الفتح والغنيمة، أو الشهادة والجنة. قال المؤلف: هذا قول جماعة أهل التأويل، واللفظ استفهام والمعنى توبيخ. فإن قيل: أغفل البخارى أن يذكر تفسير الآية فى الباب، وذكر حديث ابن عباس: أن الحرب سجال، فما تعلقه بالآية التى ترجم بها؟ قيل: تعلقه بها صحيح، والآية مصدقة للحديث، والحديث مبين للآية وإذا كانت الحرب سجالا، فذلك إحدى الحسنيين؛ لأنها إن كانت علينا فهى الشهادة، وهى أكبر الحسنيين، وإن كانت لنا فهى الغنيمة، وهى أصغر الحسنيين، فالحديث مطابق لمعنى الآية. قال المهلب: فكل فتح يقع إلى يوم القيامة أو غنيمة؛ فإنه من إحدى الحسنيين له، وإنما يبتلى الله الأنبياء ليعظم لهم الأجر والمثوبة ولمن معهم، ولئلا يخرق العادة الجارية بين الخلق، ولو أراد الله خرق

(5/21)


العادة لأهلك الكفار كلهم بغير حرب، ولثبط أيديهم عن المدافعة حتى يؤسروا أجمعين، ولكن أجرى تعالى الأمور على العوائد ليأجر الأنبياء ومن معهم، ويأتوا يوم القيامة مكلومين شهداء فى سبيل الله ظاهرى الوسيلة والشفاعة، وقد تقدم تفسير الحديث: (سجال) فى كتاب بدء الوحى، والحمد لله.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) [الأحزاب 23]
667 / فيه: أَنَس، غَابَ عَمِّى عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ أَشْهَدَنِى اللَّهُ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ - يَعْنِى أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ - يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ ابْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ، الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّى أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، وَكُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ: (رِجَالٌ صَدَقُوا (الآيَةِ، الحديث. 1668 /

(5/22)


وفيه: زَيْدَ، نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ، فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأحْزَابِ، كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأنْصَارِىِّ الَّذِى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَهَادَتَهُ بشَهَادَة رَجُلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (رِجَالٌ صَدَقُوا (. قال المهلب: وفيه الأخذ بالشدة واستهلاك الإنسان نفسه فى طاعة الله. وفيه الوفاء بالعهد لله بإهلاك النفس، ولا يعارض قوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) [البقرة: 195] ؛ لأن هؤلاء عاهدوا الله فوفوا بما عاهدوه من العناء فى المشركين وأخذوا فى الشدة بأن باعوا نفوسهم من الله بالجنة كما قال تعالى. ألا ترى قوله: (فما استطعت ما صنع) يريد ما استطعت أن أصف ما صنع من كثرة ما أغنى وأبلى فى المشركين. وقوله: (إنى أجد ريح الجنة من قبل أحد) يمكن أن يكون على الحقيقة، لأن ريح الجنة يوجد من مسيرة خمسمائة عام، فيجوز أن يشم رائحة طيبة تشهيه الجنة وتحببها إليه، ويمكن أن يكون مجازًا، فيكون المعنى إنى لأعلم أن الجنة فى هذا الموضع الذى يقاتل فيه؛ لأن الجنة فى هذا الموضع تكتسب وتشترى. وأما قوله: (ففقدت آية من الأحزاب، فلم أجدها إلا مع خزيمة) فلم يرد أن حفظها قد ذهب عن جميع الناس فلم تكن عندهم؛ لأن زيد بن ثابت قد حفظها. وروى أن عمر قال: (أِشهد لسمعتها من رسول الله) وروى أن أبى بن كعب قال مثل ذلك، وعن هلال بن أمية أيضًا، وإنما أمر أبو بكر عند جمع الصحف عمر بن الخطاب وزيدًا

(5/23)


بأن يطلبا على ما ينكرانه شهادة رجلين فيشهدان سماع ذلك من فى النبى (صلى الله عليه وسلم) ليكون ذلك أثبت وأشد فى الاستظهار ومما لا يتسرع أحد إلى دفعه وإنكاره، قاله القاضى أبو بكر بن الطيب، وقد ذكر فى ذلك وجوهًا أخر، هذا أحسنها، سأذكرها فى فضائل القرآن فى باب: جمع القرآن، إن شاء الله.
- باب العَمَلٌ الصَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (إلى قوله: (مَرْصُوصٌ) [الصف: 4] . 1669 / - فيه: الْبَرَاءَ، أَتَى النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: (أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ) ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (عَمِلَ قَلِيلا، وَأُجِرَ كَثِيرًا) . قال المهلب: فى هذا الحديث دليل أن الله يعطى الثواب الجزيل على العمل اليسير تفضلا منه على عباده، فاستحق هذا نعيم الأبد فى الجنة بإسلامه، وإن كان عمله قليلا؛ لأنه اعتقد أنه لو عاش لكان مؤمنًا طول حياته فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد فى النار؛ لأنه انضاف إلى كفره اعتقاده أنه يكون كافرًا طول حياته؛ لأن الأعمال بالنيات.

(5/24)


- باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ
670 / - فيه: أَنَس، أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ - وَهِىَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ - أَتَتِ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَلا تُحَدِّثُنَا عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ - فَإِنْ كَانَ فِى الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِى الْبُكَاءِ، قَالَ: (يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأعْلَى) . قال المهلب: هذا نحو حديث أم حرام إذ سقطت عن دابتها فماتت، فهذا وشبهه مما يستحق به الجنة إذا صحت فيه النية، وأما قوله: (سهم غرب) قال أبو عبيد: يقال: أصابه سهم غرب: إذا كان لا يعلم من رماه. وقال ابن السكيت: سهم غَرْب وسهم غَربٍ وغَرَبٍ، وقال غيره: سهم غربٍ. وحكى الخطابى عن أبى زيد قال: سهم غرْب ساكنة الراء إذا أتاه من حيث لا يدرى، وسهم غَرَب بفتح الراء إذا رماه فأصاب غيره. ابن دريد: سهم عائر لا يدرى من رماه.
- باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا
671 / فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، ولِلذِّكْرِ، ولِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ

(5/25)


كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: إذا كان فى أصل النية إعلاء كلمة الله ثم دخل عليها من حب الظهور والمغنم ما دخل فلا يضرها ذلك، ومن قاتل لتكون كلمة الله هى العليا، فخليق أن يحب الظهور بإعلاء كلمة الله وأن يحب الغنى بإعلاء كلمة الله، فهذا لا يضره إن كان عقدًا صحيحًا.
- باب مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وقوله: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا (الآية [التوبة: 120]
. 1672 / فيه: أَبُو عَبْسٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ) . مصداق هذا الحديث فى آخر الآية التى فى هذا الباب وهو قوله تعالى: (ولا يطئون موطئًا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدونيلا إلا كتب لهم به عمل صالح (ففسر (صلى الله عليه وسلم) ذلك العمل الصالح أنه لا تمس النار من اغبرت قدماه فى سبيل الله، وهذا وعد من النبى (صلى الله عليه وسلم) والوعد منه منجز، وسبيل الله جميع طاعاته.
- باب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنِ الرَّأْسِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
673 / فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ لابنه ولعكرمة: ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ، فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِى حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ، فَلَمَّا رَآنَا، جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ، فَقَالَ: كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ، وَقَالَ: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) .

(5/26)


قال المهلب: أما مسح النبى الغبار عن رأس عمار، فرضى من النبى بفعله وشكرًا له على عزمه فى ذات الله. وقوله: (ويح عمار) فهى كلمة لا يراد بها فى هذا الموضع وقوع المكروه بعمار، ولكن المراد بها المدح لعمار على صبره وشدته فى ذات الله، كما تقول العرب للشاعر إذا أحسن: قاتله الله ما أشعره، غير مريدين إيقاع المكروه به. وقوله: (يدعوهم إلى الله) فيريد والله أعلم أهل مكة الذين أخرجوه من دياره وعذبوه فى ذات الله لدعائه لهم إلى الله. ولا يمكن أن يتأول هذا الحديث فى المسلمين البتة؛ لأنهم قد دخلوا دعوة الله، وإنما يدعى إلى الله من كان خارجًا من الإسلام. وقوله: (ويدعونه إلى النار) دليل أيضًا على ذلك؛ لأن المشركين أهل مكة إنما فتنوه وطالبوه أن يرجع إلى دينهم، فهو النار. فإن قيل: إن فتنة عمار قد كانت بمكة فى أول الإسلام، وإنما قال: يدعوهم بلفظ المستقبل، وهذا لفظ الماضي. قيل: العرب قد تخبر بالفعل المستقبل عن الماضى إذا عرف المعنى، كما تخبر بالماضى عن المستقبل، فقوله: (يدعوهم إلى الله) بمعنى دعاهم إلى الله؛ لأن محنة عمار كانت بمكة مشهورة، فأشار (صلى الله عليه وسلم) إلى ذكرها لما طابقت شدته فى نقله لبنتين شدته فى صبره بمكة على عذاب الله، فضيلة لعمار، وتنبيهًا على ثباته، وقوته فى أمر الله تعالى.

(5/27)


- باب الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ
674 / - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَوَضَعَ السِّلاحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ، فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلاحَ، فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، فَقَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (فَأَيْنَ) ؟ قَالَ: هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِى قُرَيْظَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: إنما اغتسل من الغبار للتنظيف، وإن كان الغبار فى سبيل الله شاهدًا من شواهد الجهاد. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما اغبرت قدما عبد فى سبيل الله فتمسه النار) ألا ترى أن جبريل لم يغسله عن نفسه تبركًا به فى سبيل الله. وفيه من الفقه: أن النبى لم يخرج إلى حرب إلا بأذن من الله تعالى وفيه دليل أن الملائكة تصحب المجاهدين فى سبيل الله، وأنها فى عونهم ما استقاموا؛ فإن خانوا وغلوا فارقتهم والله أعلم يدل على ذلك الحديث الذى جاء: (مع كل قاضى ملكان يسددانه ما أقام الحق، فإذا جار تركاه) والمجاهد حاكم بأمر الله فى أعوانه وأصحابه.
- باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا (الآيات [آل عمران 169]
675 / - فيه: أَنَس، دَعَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاثِينَ غَدَاةً، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ؛ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ أَنَسٌ: أُنْزِلَ فِى الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ: بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا، وَرَضِينَا عَنْهُ. وفيه: جَابِر، اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ. قِيلَ لِسُفْيَانَ: مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا فِيهِ.

(5/28)


قال المهلب: فى هذه الآية التى فى الترجمة دليل على أن كل مقتول غدرًا أنه شهيد؛ لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرًا بهم. وأما حياة الشهيد فقد اختلف الناس فى كيفيتها، وأولى ما قيل فيها والله أعلم أن تكون الأرواح ترزق، وكذلك جاء الخبر أن (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنما نسمة المؤمن طائر تعلق فى شجر الجنة) يعنى: يأكل منها، كذلك فسره أهل اللغة، وحديث تعليق عام، وقد خصصه القرآن بأشياء باشتراط الشهداء. وقوله فى حديث جابر: (ثم قتلوا شهداء) يعنى: والخمر فى بطونهم؛ فإنما كان هذا قبل نزول تحريمها، فلم يمنعهم ما كان فى علم الله من تحريمها، ولا كونها فى بطونهم من حكم الشهادة، وفضلها؛ لأن التحريم إنما يلزم بالنهى، وما كان قبل النهى فهو معفو عنه.
- باب ظِلِّ الْمَلائِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
676 / - فيه: جَابِر: جِىءَ بِأَبِى إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَنَهَانِى قَوْمِى، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقِيلَ: بَنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، فَقَالَ: (لِمَ تَبْكِى؟ أَوْ فَلاَ تَبْكِى، مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رُفِعَ) . قال المهلب: هذا من فضل الشهادة وضع الملائكة أجنحتها عليه رحمة له وفيه أن النياحة ليست الشدة فى النهى عنها إلا إذا كان معها شيء من أفعال الجاهلية من شق وخمش ودعوى الجاهلية على ما تقدم فى كتاب الجنائز.

(5/29)


وفيه أن الشهيد والرجل الصالح ومن يرجى له الخير لا يجب أن يبكى عليه، ألا ترى أن الرسول قال لها: (لم تبكين) فأخبرها بالأمن عليه فى الآخرة وإنما البكاء على من يخشى عليه النار ويشهد لهذا المعنى حديث أم حارثه إذ قالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) (أخبرنى بمنزلة ابنى فإن كان فى الجنة صبرت واحتسبت) .
- باب تَمَنِّى الشهيد أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا
677 / - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَىْءٍ، إِلا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ) . هذا الحديث أجل ما جاء فى فضل الشهادة والحض عليها والترغيب فيها، وإنما يتمنى أن يقتل عشر مرات والله أعلم لعلمه بأن ذلك مما يرضى الله ويقرب منه؛ لأن من بذل نفسه ودمه فى إعزاز دين الله ونصرة دينه ونبيه، فلم تبق غاية وراء ذلك وليس فى أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم الثواب عليه، والله أعلم.
- باب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وسلم) عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا، أنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَلَيْسَ قَتْلانَا فِى الْجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِى النَّارِ؟ قَالَ: (بَلَى) .

(5/30)


78 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ) . قال المهلب: فيه أنه قد يجوز أن يقطع لقتلى المسلمين كلهم بالجنة؛ لقول عمر: (أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار) ولكن على الجملة وليس يمكن أن يشخص من هذه الجملة واحد فيقال: إن هذا فى الجنة إلا بخبر فيه نفسه؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (والله أعلم بمن يجاهد فى سبيله) فنحن نقطع بظاهر هذا الحديث فى الجملة ونكل التفصيل والغائب من النيات إلى الله تعالى لئلا يقطع فى علم الله بغير خبر، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حين سئل، فقيل له: (منا من يقاتل للمغنم وليرى مكانه وللدنيا) فلما فصل له تبرأ من موضع القطع على الغيب. فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى الجنة) وهذا القول يقضى على سائر معانى الحديث والمسألة، والترجمة صحيحة. وأن من قَتل أو قُتل فى إعلاء كلمة الله فهو فى الجنة. وقوله: (تحت بارقة السيوف) هو من البريق، والبريق معروف. وقال الخطابى: يقال: أبرق الرجل بسيفه إذا لمع به، ويسمى السيف: إبريقا وهو إفعيل من البريق. وقال ابن أحمر: تقلدت إبريقًا وعلقت جفنه ليهلك حيا ذا زهاء وحامل

(5/31)


- باب مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ
679 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ سُلَيْمَانُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، كُلُّهُنَّ تَأْتِى بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ تحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) . قال المهلب: فى هذا الحديث حض على الولد بنية الجهاد فى سبيل الله، وقد يكون الولد بخلاف ما أمله فيه، فيكون كافرًا، ولكن قد تم له الأجر فى نيته وعمله. وفيه أن من قال: إن شاء الله. وتبرأ من المشيئة لله ولم يعط الخاصة لنفسه فى أعماله، أنه حرى بأن يبلغ أمله ويعطى أمنيته، ألا ترى أن سليمان لما لم يرد المشيئة إلى الله، ولم يستثن ما لله، فمن ذلك حرم أمله، ولو استثنى لبلغ أمله، كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة فواجب ألا يبلغ أمله بل منهم من يشاء الله إتمام أمله، ومنهم من يشاء ألا يتم أمله بما سبق فى علمه، ولكن هذه التى أخبر عنها الرسول أنها مما لو أستثنى المشيئة لتم أمله فدل هذا على أن الأقدار فى علم الله على ضروب. فقد يقدر للإنسان الولد والرزق والمنزلة إن فعل كذا أو قال أو دعا، فإن لم يفعل ولا قال لم يعط ذلك الشيء، وأصل هذا فى قصة يونس (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون (فبان بهذه الآية أن تسبيحه كان سبب خروجه من بطن الحوت، ولو لم يسبح ما خرج منه.

(5/32)


وفيه أن الاستثناء قد يكون بإثر القول، وإن كان فيه سكوت يسير لم تنقطع به دونه الأفكار الحائلة بين الاستثناء واليمين، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله.
- باب الشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ فِى الْحَرْبِ
680 / فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ، وَقَالَ: (وَجَدْنَاهُ بَحْرًا) . 1681 / وفيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَت الأعراب يسألونه حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَعْطُونِى رِدَائِى، لَوْ كَانَ لِى عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِى بَخِيلا وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا) . قال المهلب: فيه أن الرئيس قد يشجع فى بعض الأوقات إذا وجد من نفسه قوة وإن كان اللازم له أن يحوط أمر المسلمين بحياطة نفسه، لكن النبى لما رأى الفزع المستولى علم أنه ليس يكاد بما أخبره الله فى قوله: (والله يعصمك من الناس) [المائدة: 67] وأنه لا بد أن يتم أمره حتى تمر المرأة من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله؛ فلذلك أمن (صلى الله عليه وسلم) فزعهم باستبراء الصيحة، وكذلك كل رئيس إذا استولى على قومه الفزع ووجد من نفسه قوة فينبغى له أن يذهب عنهم الفزع باستبرائه نفسه، وفيه استعمال المجاز فى الكلام؛ لقوله فى الفرس:

(5/33)


(إنه بحر) فشبه ذلك؛ لأن الجرى منه لا ينقطع كما لا ينقطع ماء البحر، وأول من تكلم بهذا رسول الله، وسأريد فى هذا المعنى فى باب: أسم الفرس والحمار، بعد هذا إن شاء الله. وفيه استعارة الدواب للحرب وغيره، وفيه ركوب الدابة عُريًا لاستعجال الحركة. قال المؤلف: وفى حديث جبير أنه لا بأس للرجل الفاضل أن يخبر عن نفسه بما فيه من الخلال الشريفة عندما يخاف من سوء ظن أهل الجهالة به. وفيه أن البخل والجبن والكذب من الخلال المذمومة التى لا تصلح أن تكون فى رؤساء الناس، وأما من كانت فيه خلة منها لم يتخذه المسلمون إمامًا ولا خليفة، وكذلك من كان كذوبًا فلا يتخذ إمامًا فى دين الله؛ لأن الكذب فجور لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الكذب يهدى إلى الفجور) ولا يؤمن على وحى الله وسنة رسوله الفجار، وإنما يؤمن عليه أهل العدالة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) . قال المهلب: وفيه أن الإلحاف فى المسألة قد يرد بالقول والعدة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (لو أن لى عدد هذه العضاه نعمًا لقسمته بينكم) والوعد من النبى فى حكم الإنجاز واجب لقوله: (ثم لا تجدونى كذوبا) . وفيه: الصبر لجهلة الناس وجفاة السؤال وإن ناله فى ذلك أذى. وسؤاله رداءه تأنيسًا لهم من الأذى والجفاء عليه والمزاحمة فى الطريق، ثم رد إلحافهم بأن أعلمهم أن ما ملكه مقسوم بينهم وأن وعده منجز لهم، وأن الذى يسألونه من قتالهم وعونهم به ليسوا بالمتقدمين عليه فيه؛ بل هو المقدم عليهم فى القتال وفى كل حال لقوله: (ولا جبانًا) ولم ينكر أحد منهم ما وصف به نفسه لا عترافهم به.

(5/34)


وقال أبو عبيد: العضاه من الشجر كل ما له شوك ومن أعرف ذلك الطلح والسيل والسيال والعرفط والسمر، وقال غيره: والقتاد.
- باب مَا يُتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ الْجُبْنِ
682 / فيه: سَعْد، أنهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ فِى دُبُرَ الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ) . 1683 / وفيه: أَنَس، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وعَذَابِ الْقَبْرِ) . قال المهلب: أما استعاذته (صلى الله عليه وسلم) من الجبن فإنه يؤدى إلى عذاب الآخرة؛ لأنه يفر من قرنه فى الزحف فيدخل تحت وعيد الله لقوله: (ومن يولهم يومئذ) [الأنفال: 16] الآية، وربما يفتن فى دينه، فيرتد لجبن أدركه، وخوف على صحته من الأسر والعبودية، وأرذل العمر: الهرم والضعف عن أداء الفرائض وعن خدمة نفسه فيما يتنظف به فيكون كلا على أهله مستثقلا بينهم، وفتنة الدنيا أن يبيع الآخرة بما يتعجله فى الدنيا من حال أو مال، وتعوذ من العجز؛ لئلا يعجز عما يلزمه فعله من منافع الدين والدنيا. والعجز: مختلف فى معناه، أما أهل الكلام فيجعلونه: ما لا استطاعة لأحد على ما يعجز عنه؛ لأن الاستطاعة عندهم مع الفعل.

(5/35)


وأما أهل الفقه فيقولون: العجز هو ما يستطيع أن يعمله إذا أراد لأنهم يقولون: إن الحج ليس على الفور ولو كان على المهلة عند أهل الكلام لم يصح معناه؛ لأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل والذين يقولون بالمهلة يجعلون الاستطاعة قبل الفعل، وأما الكسل فهم مجمعون على أنه ضعف النية وإيثار الراحة للبدن على التعب، وإنما أستعيذ منه؛ لأنه يبعد عن الأفعال الصالحة للدنيا والآخرة، وسيأتى هذا الحديث فى كتاب الدعاء ونزيده بيانًا ووجه حاله إن شاء الله.
- باب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِى الْحَرْب
684 / - فيه: السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: صَحِبْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدًا، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأسْوَدِ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، إِلا أَنِّى سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ. قال المؤلف: إنما لم يحدث هؤلاء عن رسول الله والله أعلم خشية التزيد والنقصان؛ لئلا يدخلون فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من تقول على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) فاحتاطوا على أنفسهم أخذًا بقول عمر: (أقلوا الحديث عن رسول الله وأنا شريككم) وقد تقدم هذا فى كتاب العلم. وأما حديث طلحة عن مشاهده يوم أحد، ففيه من الفقه: أن للرجل أن يحدث عما تقدم له من العناء فى إظهار الإسلام وإعلاء كلمته، وما نفذ فيه من أعمال البر والموجبات غير النوافل؛ لأنه كان عليهم نصر الرسول وبذل أنفسهم دونه فرضا؛ ليتأسى بذلك متأسٍ

(5/36)


ولا يدخل ذلك فى باب الرياء؛ لأن إظهار الفرائض أفضل من سترها ليشاد منار الإسلام وتظهر أعلامه، وكان طلحة من أهل النجدة، وثبات القدم فى الحرب. ذكر البخارى عن قيس فى المغازى، قال: (رأيت يد طلحة شلاء وقى بها الرسول يوم أحد) وعن أبى عثمان (أنه لم يبق مع النبى (صلى الله عليه وسلم) غير طلحة وسعد) فلهذا حدث طلحة عن مشاهده يوم أحد؛ ليقتدى به ويرغب الناس فى مثل فعله، والله أعلم.
- باب وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ
وقوله تَعالَى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا) [التوبة: 41] ، وَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ (الآية [التوبة: 38] 1685 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) . قال المهلب: النفير والجهاد، يجبان وجوب فرض ووجوب سنة، فأما من استنفر لعدو غالب ظاهرٍ فالنفير فرض عليه، ومن استنفر لعدو غير غالب ولا قوى على المسلمين فيجب عليه وجوب سنة، من أجل أن طاعة الإمام المستنفر للعدو الغالب قد لزم الجهاد فيه كل أحد مشخص بعينه وأما العدو المقاوم أو المغلوب، فلم يلزم الجهاد فيه لزوم التشخيص لكل إنسان، وما لزم الجماعة فمن انتدب له قام به، ومن قعد عنه أرجو أن يكون فى سعة، ومن ذلك قوله: (لا هجرة بعد الفتح) وذلك أنه كان فى بدو الإسلام فرضًا على كل مسلم أن

(5/37)


يهاجر مع الرسول فيقاتل معه حتى تكون كلمة الله هى العليا، فلما فتح الله مكة وكسر شوكة صناديد قريش ودخل الناس فى دين الله أفواجًا نزلت المقاومة من المسلمين و [. . . . .] على عدوهم فلم تلزم الناس الهجرة بعد؛ لكثرة المسلمين، وسيأتى تفسير باقى الحديث، ومذاهب العلماء فى قوله: (لا هجرة بعد الفتح) فى آخر كتاب الجهاد فى باب لا هجرة بعد الفتح، إن شاء الله.
- باب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ أَوْ يُقْتَلُ
686 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ) . 1687 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَتَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْهِمْ لِى، فَقَالَ بَعْضُ بَنِى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لا تُسْهِمْ لَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ، فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ، تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَىَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَىَّ؛ وَلَمْ يُهِنِّى عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ: فَلا أَدْرِى أَسْهَمَ لَهُ أَوْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ. قال المؤلف: ذكر أبو داود هذا الحديث فى مصنفه قال: (ولم يسهم له رسول الله) وذكر أنه أبان بن سعيد بن العاص، والترجمة صحيحة، ومعناها عند العلماء أن القاتل الأول كان كافرًا، وتوبته إسلامه وقوله: (يضحك الله إلى رجلين) أى: يتلقاهما بالرحمة

(5/38)


والرضوان، والضحك منه على المجاز؛ لأن الضحك لا يكون منه تعالى على ما يكون من البشر؛ لأنه ليس كمثله شيء. وفيه من الفقه: أن الرجل قد يوبخ بما سلف إلا أن يتوب، فلا يوبخ عليه، ولا تثريب، ألا ترى أن أبا هريرة لما [. . . . .] سعيد على قتل ابن قوقل كيف رد عليه أقبح الرد، وصارت له عليه الحجة كما صارت لآدم على موسى من أجل أنهما وبخا بعد التوبة من الذنب. وفيه: أن التوبة تمحو ما سلف قبلها من الذنوب: القتل وغيره لقوله: (أكرمه الله على يدى ولم يهنى على يديه) لأن ابن قوقل وجبت له الجنة بقتل ابن سعيد له ولم تجب لابن سعيد النار؛ لأنه تاب وأسلم ويصحح ذلك سكوت الرسول على قوله، ولو كان غير صحيح لما لزمه السكوت؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) بعث مبينًا للناس. وفى حديث أبى هريرة حجة على الكوفيين فى قولهم فى المدد يلحق بالجيش فى أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم فى الغنيمة، وسائر العلماء إنما تجب عندهم الغنيمة لمن شهد الوقعة. واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يسهم لأبى هريرة فى هذا الحديث. قال الكوفيون: لا حجة فى حديث أبى هريرة؛ لأن خيبر صارت حين فتحت دار إسلام وهذا لا شك فيه، قالوا: وقد روى حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة قال: (ما شهدت لرسول الله مغنمًا إلا قسم لى إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله كان وعدهم بها بقوله: (وأخرى لم تقدروا عليها) [الفتح: 21] واحتجوا بما رواه

(5/39)


أبو أسامة، عن بريد بن أبى بردة، عن أبى موسى قال: (قدمنا على النبى (صلى الله عليه وسلم) مع جعفر من أرض الحبشة بعد فتح خيبر بثلاث فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد فتحها غيرنا) . قال الطحاوى: وهذا يحتمل أن يكون لأنهم كانوا من أهل المدينة أو يكون استطاب أنفس أهل الغنيمة. وعلى قول الطحاوى لا حجة لأصحابه فى حديث أبى موسى، وسيأتى تمام هذا القول فى هذه المسألة فى حديث ابن عمر أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - أسهم لعثمان يوم بدر فى باب: إذا بعث الإمام رسولاً فى حاجة أو أمره بالمقام عليها هل يقسم له، بعد هذا إن شاء الله. وقوله: (واعجبًا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن) وقد روى من رأس ضأن، فمن رواه لوبر بفتح الباء فمعناه أنه شبه أبا هريرة بالوبر الذى لا حطب له ولا مقدار؛ لأنه لم يكن لأبى هريرة عشيرة ولا قوم يمتنع بهم ولا يغنى فى قتال ولا لقاء عدو وكان ابن سعيد وأبو هريرة طارئين، ذكر الطبرى أن أبا هريرة وأبانًا قدما على الرسول بخيبر. ومن روى الوبر بإسكان الباء فمعناه أنه يشبهه بالوبر وهو دويبة على قدر السنور، عن صاحب العين، فأراد به فى ضعف المنة وقلة الغناء كالنسور فى السباع وإنما سكت النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الإنكار على ابن سعيد؛ لأنه لم يذم أبا هريرة بحد ولا تنقصه فى دين، وإنما تنقصه فى قلة العشيرة والعدد أو بضعف المنة. وأما قوله: (تدلى علينا من قدوم ضأن) فإن أبا ذر الهروى،

(5/40)


قال: (ضأن) جبل بأرض دوس وهو بلد أبى هريرة. وقوله: (تدلى علينا) يعنى: انحدر، ولا يخبر بهذا إلا عمن جاء من موضع عال، هذا الأشهر عند العرب. وقوله: (من قدوم ضأن) يحتمل أن يكون قدوم جمع قادم، مثل راكع وركوع وساجد وسجود، ذكر ذلك سيبويه فيكون المعنى تدلى علينا من جملة القوم القادمين، أقام الصفة مقام الموصوف. وتكون (من) فى قوله (من قدوم) تبيينًا للجنس كقوله: (لو تدلى علينا من ساكنى ضأن) ولا تكون (من) مرتبطة بالفعل فى قوله، تدليت من الجبل. لاستحالة تدليه من قوم. ولا يقال تدليت من بنى فلان، ويحتمل أن يكون (قدوم) مصدر وصف به الفاعلون، ويكون فى الكلام حذف، وتقديره: (تدلى علينا من ذوى قدوم) فحذف الموصوف وأقام المصدر مقامه، كما قالوا: رجل صوم ورجل فطر أى: ذو صوم وذو فطر، و (من) على هذا التقدير أيضًا تبيين للجنس كما كانت فى الوجه الأول. ويحتمل أن يكون معناه: تدلى علينا من مكان قدوم ضأن، ثم حذف المكان وأقام القدوم مكانه، كما قالت العرب: ذهب به مذهب وسلك به مسلك، يريد المكان الذى يسلك فيه ويذهب، ويشهد لهذا رواية من روى (من رأس ضأن) . وفيه قول آخر: يحتمل أن يكون (قدوم) اسم لمكان من الجبل متقدم منه، ولا يكون مصدرًا ولا جمعًا، ويدل على هذا رواية من روى: (تدلى علينا من رأس ضأن) ويحتمل أن يكون اسمًا لمكان قدوم بفتح القاف دون الضم، لقلة الضم فى هذا البناء فى الأسماء، وكثرة الفتح. ويحتمل أن يكون قدوم ضأن بتشديد الدال وفتح القاف

(5/41)


لو ساعدته رواية؛ لأنه بناء من أسماء المواضع، وطرف القدوم موضع بالشام.
- باب مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ
688 / فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لا يَصُومُ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إِلا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى. قال المهلب: كان أبو طلحة فارس رسول الله، وممن له الغناء فى الحرب؛ فلذلك كان يفطر ليتقوى على العدو، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (تقووا لعدوكم بالإفطار) وأيضًا فإن المجاهد يكتب له أجر الصائم القائم، وقد مثله (صلى الله عليه وسلم) بالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر، فدل هذا كله على فضل الجهاد على سائر أعمال التطوع، فلما مات رسول الله وكثر الإسلام واشتدت وطأة أهله على عدوهم، ورأى أنه فى سعة عما كان عليه من الجهاد، ورأى أن يأخذ لحظه من الصوم؛ ليدخل يوم القيامة من باب الريان، والله أعلم.
30 - باب الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ
689 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . 1690 / وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) .

(5/42)


قال المؤلف: لا تخرج هذه الترجمة من الحديث أصلا. وهذا يدل أن البخارى مات ولم يهذب كتابه؛ لأنه لم يذكر الحديث الذى فيه أن الشهداء سبعة سوى القتل فى سبيل الله، وهو حديث رواه مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، عن عتيك بن الحارث بن عتيك أن جابر بن عتيك، أخبره أن رسول الله جاء يعود عبد الله ابن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه. . .) ، وذكر الحديث، وقال فيه رسول الله: (الشهداء سبعة سوى القتل فى سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذى يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد) فالمطعون هو الذى يموت فى الطاعون، وقد قالت عائشة: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (فناء أمتى فى الطعن والطاعون. قالت: أما الطعن فقد عرفناه؟ فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير تخرج فى المراق والآباط، من مات منه مات شهيدًا) والمبطون: هو [. . .] وقيل: صاحب انخراق البطن بالإسهال. وذات الجنب: وهى الشوصة. وفى بعض الآثار: (المجنوب شهيد) يريد صاحب ذات الجنب، يقال: منه رجل جنب بكسر النون إذا كان به ذلك، وأما المرأة تموت بجمع، ففيه قولان: أحدهما: المرأة تموت من الولادة وولدها فى بطنها قد تم خلقه، وقيل: إذا ماتت من النفاس فهو شهيد سواء ألقت ولدها وماتت، أو ماتت وهو

(5/43)


فى بطنها. والقول الثانى: هى المرأة تموت عذراء قبل أن تحيض لم يمسها الرجال. والأول أشهر فى اللغة. قال المهلب: وقد أخبر (صلى الله عليه وسلم) فى غير ما ذكر فى هذه الآثار فى قوم أنهم شهداء فقال: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله ودون دينه) وإن كان بنص كتاب الله إنما أتى فيمن قتل فى سبيل الله فمن ألحق النبى (صلى الله عليه وسلم) ميتته بالشهادة فحاله كحال من قتل فى سبيل الله، والله أعلم.
31 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الآية [النساء: 95]
691 / فيه: الْبَرَاء، لَمَّا نَزَلَتْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (دَعَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، زَيْدًا، فَجَاءَ بِكَتِفٍ، فَكَتَبَهَا، وجاء ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ (. 1692 / فيه: زَيْدَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَمْلَى علىَّ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ () وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ رَجُلا أَعْمَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِى، فَثَقُلَتْ عَلَىَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِى، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ (. قال المهلب: فيه دليل على أن من حبسه العذر عن الجهاد وغيره من أعمال البر مع نيته فيه فله أجر المجاهد والعامل؛ لأن نص الآية على

(5/44)


المفاضلة بين المجاهد والقاعد ثم استثنى من المفضولين أولى الضرر، وإذا استثناهم من المفضولين فقد ألحقهم بالفاضلين، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا المعنى، فقال: (إن بالمدينة أقوامًا ما سلكنا واديًا، وشعبًا إلا وهم معنا حبسهم العذر) وقد جاء عن الرسول فيمن كان يعمل شيئًا من الطاعة ثم حبسه عنه مرض أو غيره أنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح، وكذلك من نام عن حزبه نومًا غالبًا كتب له أجر حزبه، وكان نومه صدقة عليه، وهذا معنى قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (أى غير مقطوع بزمانة أو كبر أو ضعف، ففى هذا أن الإنسان يبلغ بنيته أجر العامل إذا كان لا يستطيع العمل الذى ينويه، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب يكتب للمسافر ما كان يعمل فى الإقامة إن شاء الله وفيه اتخاذ الكاتب وتقييد العلم، وفيه قرب الكاتب من مستكتبه حتى تمس ركبته ركبته.
32 - باب الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ
693 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) . قال المهلب: الصبر سبب إلى كل خير، وقد نص الله عليه فى غير موضع من كتابه، فأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالصبر عند لقاء العدو رجاء بركته؛ ولئلا يأنس الناس بالكسل والفشل اللذين هما آفة الحرمان فى الدنيا والآخرة، والصبر على مطلوبات الدنيا والآخرة ضمان لإدراكها.

(5/45)


وقوله: (فاصبروا) معناه: الحض والندب؛ لأن الفرض الذى فرض الله على المسلمين عند لقاء العدو إنما هو عند المثلين، فما كان أكثر فإنما هو حض وندب والله الموفق.
33 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ
وَقَوْلِهِ اللَّه تَعَالَى: (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) [الأنفال: 65] . 1694 / فيه: أَنَس، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا قال المهلب: فيه دليل أن الحفر فى سبيل الله والتحصين للديار ولسد العورة منها أجر كأجر القتال، والنفقة فيه محسوبة فى نفقات المجاهدين إلى تسعمائة ضعف. وفيه استعمال الرجز والشعر إذا كان فيه إقامة النفوس فى الحرب وإثارة الأنفة والعزة. وفيه المجاوبة بالشعر على الشعر، وليس هذا الشعر من قول النبى (صلى الله عليه وسلم) هو من قول عبد الله بن رواحة، ولو كان من لفظ النبى لم يكن بذلك شعرًا ولا ممن ينبغى له الشعر؛ لأنه قد يقع فى تضاعيف كلام العامة كلام موزون ولا يسمى ذلك شعرًا ولا من تكلم

(5/46)


به شاعرًا، ولو جاز أن يسمى بهذا المقدار شاعرًا لكان جميع العامة شعراء؛ إذا لا يسلم أحد من أن يقع فى كلامه كلام موزون، وقد تقدم بيان هذا فى باب: من ينكب أو يطعن فى سبيل الله. وإنما يستحق اسم الشعر من قصد صناعته وعلم السبب والوتد والشطر وجميع معانى الشعر من الزحاف والحزم والقبض وما شاكل ذلك.
34 - باب حَفْرِ الْخَنْدَقِ
695 / فيه: أَنَس، جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ. . . . الحديث. 1696 / وفيه: الْبَرَاءِ، رَأَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الأحْزَابِ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ كتفيه. . . . . الحديث. . . ويقول: (اللهم لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا) . قال المهلب: فيه امتهان الإمام نفسه فى التحصين على المسلمين وما يتأسى به الناس ويقتدون به، فيه شرف له وتحريض وتنشيط وإثارة النية والعزم على العمل والطاعة.

(5/47)


35 - باب مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْغَزْوِ
697 / فيه: أَنَس، رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا، وَلا وَادِيًا إِلا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) . هذا يدل أن من حبسه العذر عن أعمال البر مع نيته فيها أنه يكتب له أجر العامل فيها، كما قال (صلى الله عليه وسلم) فيمن غلبه النوم عن صلاة الليل أنه يكتب له أجر صلاته، وقد تقدم هذا المعنى فى باب: (لا يستوى القاعدون من المؤمنين (.
36 - باب فَضْلِ الصَّوْمِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
698 / فيه: أَبُو سَعِيد، سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) . قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الصيام فى سائر أعمال البر أفضل إلا أن يخشى الصائم ضعفًا عند اللقاء؛ لأنه قد ثبت عن الرسول أنه قال لأصحابه فى بعض المغازى حين قرب من الملاقاة بأيام يسيرة: (تقووا لعدوكم) فأمرهم بالإفطار؛ لأن نفس الصائم ضعيفة وقد جبل الله الأجسام على أنها لا قوام لها إلا بالغذاء. ولهذا المعنى قال النبى (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عمرو: (أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى) فلا يكره الصوم البتة إلا عند اللقاء وخشية الضعف عند القتال؛ لأن الجهاد وقتل المشركين أعظم أجرًا من الصوم لمن فيه قوة.

(5/48)


37 - باب فَضْلِ النَّفَقَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
699 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ - كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ -: أَىْ فُلُ هَلُمَّ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَقُولُونَ اللَّهُمَ ذَلِكَ الَّذِى لا تَوَى عَلَيْهِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) . 1700 / وفيه: أَبُو سَعِيد، قَامَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأرْضِ - ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا - الحديث إلى قوله: (فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) . قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من أنفق زوجين فى سبيل الله دعاه كل خزنة باب) فيه فضل الجهاد على سائر الأعمال وأن للمجاهد أجر المصلى والصائم والمتصدق وإن لم يفعل ذلك؛ ألا ترى أن باب الريان هو للصائمين خاصة، وقد اشترط فى هذا الحديث أنه يدعى من كل باب فاستحق ذلك بإنفاق قليل من المال فى سبيل الله، ففى هذا أن [. . . . . .] إذا أنفق فى سبيل الله. أفضل الأعمال. إلا أن طلب العلم ينبغى أن يكون أفضل من الجهاد وغيره؛ لأن الجهاد لا يكون إلا بعلم حدوده وما أحل الله منه وحرم، ألا ترى أن المجاهد متصرف بين أمر العالم ونهيه، ففضل عمله كله فى ميزان العالم الآمر له بالمعروف والناهى له عن المنكر والهادى له إلى السبيل، فكما أن أجر المسلمين كلهم مذخور للنبى (صلى الله عليه وسلم) من أجل

(5/49)


تعليمه لهم وهدايته إياهم سبيل العلم، فكذلك يجب أن يكون أجر العالم فيه أجر من عمل بعلمه. وفيه دليل أن من دعى إلى أبواب الجنة كلها لم يكن ممن استحق عقوبة فى نار والله أعلم لقول أبى بكر: (ذلك الذى لا توى عليه) أى: لا هلاك، فلم ينكره الرسول. وفيه القول بالدليل فى أحكام الدنيا والآخرة لاستدلال أبى بكر بالدعاء له من كل باب أنه لا هلاك عليه، ولتصديق الرسول ذلك الاستدلال، وتبشيره لأبى بكر أنه منهم، من أجل أنه أنفق فى سبيل الله كلها أزواجًا كثيرة من كل شيء، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الصيام فى باب الريان للصائمين، ومر فيه من الكلام ما لم أذكره هاهنا. وكذلك تقدم القول فى حديث أبى سعيد فى كتاب الزكاة، وذكر ابن المنذر من حديث جرير بن حازم قال: حدثنى بشار بن أبى سيف الجرمى، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن عياض بن غطيف: (أن أبا عبيدة بن الجراح أخبره عن الرسول أنه قال: من أنفق فى سبيل الله فبسبعمائة ضعف، والنفقة على نفسه وأهله بعشر أمثالها) . ومن حديث خريم بن فاتك، روى زائدة قال: حدثنا الركين بن ربيع ابن عميلة الفزارى، عن أبيه، عن يسير بن عميلة الفزارى عن خريم، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من أنفق نفقة فى سبيل الله فبسبعمائة ضعف) . وقد جاء أن الذكر وأعمال البر فى سبيل الله أفضل من النفقة. فيه

(5/50)


من حديث الليث، عن موسى بن أيوب، عن موسى بن حبير، عن معاذ بن أنس الجهنى صاحب النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يضعف الذكر والعمل فى سبيل الله على تضعيف النفقة بسبعمائة ضعف) وعن ابن المسيب مثله.
38 - باب فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ
701 / فيه: زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا) . 1702 / وفيه: أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: (إِنِّى أَرْحَمُهَا، قُتِلَ أَخُوهَا مَعِى) . قال المهلب: أوجب له (صلى الله عليه وسلم) الفعل مجازًا واتساعًا وإن لم يفعله لوجوب أجره له. وقال الطبرى: وفيه من الفقه أن كل من أعان مؤمنًا على عمل بر فللمعين عليه أجر مثل العامل، وإذا أخبر الرسول أن من جهز غازيًا فقد غزا، فكذلك من فطر صائمًا أو قواه على صومه، وكذلك من أعان حاجا أو معتمرًا بما يتقوى به على حجه أو عمرته حتى يأتى ذلك على تمامه فله مثل أجره. ومن أعان فإنما يجيء من حقوق الله بنفسه أو بماله حتى يغلبه على الباطل بمعونة فله مثل أجر القائم، ثم كذلك سائر أعمال البر، وإذا كان ذلك بحكم المعونة على أعمال البر فمثله المعونة على معاصى الله وما يكرهه الله، للمعين عليها من الوزر والإثم

(5/51)


مثل ما لعاملها، ولذلك نهى الرسول عن بيع السيوف فى الفتنة ولعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وكذلك سائر أعمال الفجور. قال المهلب: وقوله: (لم يكن يدخل بيتًا غير بيت أم سليم) يعنى: من بيوت النساء غير ذوى محارمه؛ فإنه كان يخص أم سليم للعلة التى ذكر، ولأنها كانت أختها أم حرام خالته من الرضاعة. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وكانت أم حرام أختها تسكن بقباء. وقوله: (قتل أخوها معي) أى: قتل فى سبيلى؛ لأنه قتل ببئر معونة، ولم يشهدها الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
39 - باب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ
703 / فيه: مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، قَالَ - وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ - قَالَ: أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لا تَجِىءَ؟ قَالَ: الآنَ يَا ابْنَ أَخِى، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ - يَعْنِى مِنَ الْحَنُوطِ - ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَذَكَرَ فِى الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، بِئْسَ مَا عَوَّدْتَكُمْ أَقْرَانَكُمْ. قال المهلب: فيه الأخذ بالشدة فى استهلاك النفس وغيرها فى ذات الله، وترك الأخذ بالرخصة لمن قدر عليها؛ لأنها لا يخلو أن تكون الطائفة من المسلمين التى غزت اليمامة أكثر منهم أو أقل، فإن كانوا أكثر فلا يتعين الفرض على أحد بعينه أن يستهلك نفسه فيه، وإن كانوا

(5/52)


أقل وهو المعروف فى الأغلب أن لا يغزو جيش أجدًا فى عقر داره إلا وهم أقل من أهل الدار، فإذا كان هكذا فالفرار مباح، وإن تعذر معرفة الأكثر من الفريقين فإن الفار لا يكون عاصيًا إلا باليقين أن عدوهم مثلان فأقل، وما دام الشك، فالفرار مباح للمسلمين. وفيه أن التطيب للحرب سنة من أجل مباشرة الملائكة للميت. وفيه اليقين بصحة ما هو عليه من الدين، وصحة النية بالاغتباط فى استهلاك نفسه فى طاعة الله. وفيه التداعى للقتال؛ فإن أنسًا قال لعمه: ما يحبسك ألا تجيء. ومعنى قوله: (بئس ما عودتكم أقرانكم) يعنى: العدو، فى تركهم اتباعكم قبلكم حتى اتخذتم الفرار عادة للنجاة، وطلب الراحة من مجالدة الأقران.
40 - باب فَضْلِ الطَّلِيعَةِ
704 / فيه: جَابِر، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يَأْتِينِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الأحْزَابِ) ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ يَأْتِينِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ) ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِكُلِّ نَبِىٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِىَّ الزُّبَيْرُ) . وترجم له (باب: هل يبعث الطليعة وحده) . قال المهلب: فيه أن الطليعة يستحق اسم النصرة؛ لأن الرسول سماه: حوارى، ومعنى هذه التسمية أن عيسى ابن مريم لما قال

(5/53)


لقومه: (من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله (فلم يجبه غيرهم، فكذلك لما قال الرسول: (من يأتينى بخبر القوم) مرتين لم يجبه غير الزبير، فشبهة بالحواريين أنصار عيسى، وسماه باسمهم، وإذا صح من هذا الحديث أن الطليعة ناصر، فأجره أجر المقاتل المدافع؛ قام منه الدليل على صحة قول مالك أن طليعة اللصوص يقتل مع اللصوص، وإن كان لم يقتل ولم يسلب، وكذلك قال عمر بن الخطاب: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. وفيه شجاعة الرئيس وتقدمه وفضله، وفيه الأدب من الإمام فى الندب إلى القتال والمخاوف؛ لأنه كان للنبى أن يقول لرجل بعينه: قم فائتنى بخبر القوم، فلزم الرجل ذلك؛ لقوله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم (وزعم بعض المعتزلة أن بعث النبى الزبير طليعة وحده يعارض قوله: (الراكب شيطان) ونهيه عن أن يسافر الرجل وحده. قال المهلب: وليس فى ذلك تعارض بحمد الله لاختلاف المعنى فى الحديثين، وذلك أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الراكب شيطان) إنما جاء فى المسافر وحده، لأنه لا يأنس بصاحب ولا يقطع طريقه محدث يهون عليه مؤنة السفر، كالشيطان الذى لا يأنس بأحد، ويطلب الوحيد ليغويه بتذكار فتكة وتدبير شهوة، حضًا منه (صلى الله عليه وسلم) على الصحبة، والمرافقة لقطع المسافة، وطى بعيد الأرض بطيب الحكاية، وحسن المعاونة على المؤنة، وقصة الزبير بضد هذا. بعثه طليعة عينًا متجسسًا على قريش ما يريدونه من حرب الرسول، فلو أمكن أن يتعرف ذلك منهم بغير طليعة. لكان أسلم وأخف،

(5/54)


ولكن أراد أن يبين لنا جواز العذر فى ذلك لمن احتسب نفسه وسخى بها فى نفع المسلمين وحماية الدين، ومن خرج فى مثل هذا الخطير من أمر الله لم يعط الشيطان أذنه ليصغى إلى خدعه، بل عليه من الله حافظ، وبعد ألا ترى تثبيت الله له حين نادى أبو سفيان فى المشركين: ليعرف كل إنسان منكم جليسه. فقال الزبير لمن قرب منه: من أنت؟ فسبق بحضور ذهنه إلى ما لو سبقه إليه جليسه لكان سبب فضيحته، ولو أرسل معه غيره لكان أقرب إلى أن يعثر عليهما، فالوحدة فى هذا هى الحكمة البالغة، وفى المسافر هى العورة البينة، ولكل وجه من الحكمة غير وجه الآخر لتباين القصص واختلاف المعانى، وفى الباب الذى بعد هذا شيء من هذا المعنى.
41 - باب سَفَرِ الاثْنَيْنِ
705 / فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، انْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لَنَا - أَنَا وَصَاحِبٍ لِى -: (أَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) . إن قال قائل: إباحته (صلى الله عليه وسلم) لمالك بن الحويرث وصاحبه أن يؤذنا ويقيما عند انصرافهما من عنده، يعارض قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان) ونهيه أن يسافر الرجل وحده. قيل: ليس كما توهمت؛ لأنه لا يجوز على أخباره التضاد. قال الطبرى: ونهيه عن سفر الرجل وحده والاثنين نهى أدب

(5/55)


وإرشاد لما يخشى على فاعل ذلك من الوحشة بالوحدة لا نهى تحريم، وذلك نظير نهيه عن الأكل من وسط الطعام، وعن الشرب من فى السقاء، والنهى عن المبيت على السطح غير المحجور، وكل ذلك تأديب لأمته، وتعريف لهم منه ما فيه حظهم وصلاحهم، لا شريعة ودين يحرجون بتضييعه وترك العمل به، فالعامل محتاط لنفسه من مكروه يلحقه إن ضيعه. وذلك أن السائر فى فلاة وحده والبائت فى بيت وحده إذا كان ذا قلب مخيف وفكر رديء لم يؤمن أن يكون ذلك سببًا لفساد عقله، والنائم على سطح غير محجور عليه غير مأمون أن يقوم بوسن النوم وغمور فهمه فيتردى منه فيهلك، والشارب من فى السقاء غير مأمون عليه انحدار ما خفى عليه استكنانه من الهوام القاتلة فى السقاء فيهلك أيضًا، وكذلك المسافر مع آخر قد يخشى من غائلته ولا يأمن مكره، فإذا كانوا ثلاثة أمن ذلك فى الأغلب، وهذا وما أشبهه من تأديبه (صلى الله عليه وسلم) لأمته. وأيضًا فإن الناس مختلفوا الأحوال متفاوتوا الأسباب فمن كَمِىٍّ باسل لا يهوله هائل ولا يبقى غول غائل، فهو لا يبالى وحده سلك المفاوز أو فى عسكر، فذلك الذى أذن عمر فى السير لمثله من المدينة إلى الكوفة وحده حين بلغه عن سعد أنه بنى قصرًا أو أمره بإحراق بابه، ومن مخيف الفؤاد يروعه كل منظر، ويهوله كل شخص، ويفزعه كل صوت، فذلك الذى يحرم عليه أن يسافر وحده ويمكن أن يكون الذى نهاه الرسول أن يبيت وحده كان بهذه الصفة، ومن أخذ بين ذلك الاحتياط له فى نفسه ودينه ترك السفر وحده ومع آخر أيضًا، فمن كان الأغلب عليه الشجاعة، والقوة لم يكن إن شاء الله حرجًا ولا آثمًا، ومن كان الأغلب من قلبه الهلع ومن نفسه الخور خشيت عليه فى السفر وحده الإثم والحرج وأن يورثه ذلك العلل الردية.

(5/56)


42 - باب الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
706 / فيه: ابْن عُمَرَ، وعُرْوَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . 1707 / وفيه: أَنَس، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الْبَرَكَةُ فِى نَوَاصِى الْخَيْلِ) . وترجم له باب (الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ) لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة) . 1708 / وفيه: عُرْوَةُ الْبَارِقِىُّ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ) . قال بعض أهل العلم: معناه الحث على ارتباط الخيل فى سبيل الله يريد أن من ارتبطها كان له ثواب ذلك فهو خير آجل، وما يصيب على ظهرها من الغنائم وفى بطونها من النتاج خير عاجل، وخص النواصى بالذكر؛ لأن العرب تقول: فلان مبارك الناصية، فيكنى بها عن الإنسان. وقال المهلب: استدلال البخارى صحيح أن الجهاد ماض مع البر والفاجر إلى يوم القيامة. من أجل أنه أبقى (صلى الله عليه وسلم) الخير فى نواصى الخيل إلى يوم القيامة. وقد علم أن من أئمته أئمة جور لا يعدلون، ويستأثرون بالمغانم، فأوجب هذا الحديث الغزو معهم،

(5/57)


ويقوى هذا المعنى أمره بالصلاة وراء كل بر وفاجر من السلاطين، وأمره بالسمع والطاعة ولو كان عبدًا حبشيا. وقوله: (فالأجر والمغنم) يفسر قوله: (مع ما نال من أجر أو غنيمة) أن (أو) بمعنى الواو فكأنه قال: (مع ما نال من أجر وغنيمة أو أجر) . وقوله: (الخيل فى نواصيها الخير) لفظه لفظ العموم، والمراد به الخصوص؛ لأنه لم يرد إلا فى [. . . . . . .] الخيل بدليل قوله: (الخيل لثلاثة) فبين أنه أراد الخيل الغازية فى سبيل الله، فإن الخير المعقود فى نواصيها إنما هو أجر فى سبيل الله، لا أنها على كل وجوهها معقود فى نواصيها الخير، بل إذا كانت مستعملة فى سبيل الله أو معدة لذلك؛ فإن الإنفاق عليها خير أو أجر دون ما كان منها وزرًا، وقال مثله ابن المنذر. والناصية: الشعر المسترسل على الجبهة، عن الخطابى.
43 - باب مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ترهبون به) [الأنفال: 60]
. 1709 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِى مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الأحباس جارية فى الخيل والرياع

(5/58)


وغيرها؛ لأنه إذا جاز ذلك فى الخيل للمدافعة عن المسلمين وعن الدين والنفع لهم بجر الغنائم والأموال إليهم، فكذلك يجوز فى الرياع المثمرة لهم، وما وصف الرسول من الروث وغيره فإنما يريد ثوابه؛ لأن الروث لا يوزن بل أجره، ولا تقول إن زنة الأجر زنة الروث بل أَضعافه إلى ما شاء الله. وفيه أن النية قد يؤجر الإنسان بها كما يؤجر العامل؛ لأن هذا إنما احتبس فرسه ليقاتل عليه ويغير، فيعوض من أجدر العمل المعدوم فى ترك استعماله فيه، فعد نفقاته وأرواثه أجرًا له، مع أنه فى رباطه نافع؛ لأن الإرهاب بارتباطه فى نفس العدو وسماعهم عنه نافع. وفيه أن الأمثال تضرب لصحة المعانى وإن كان فيها بعض المكروهات الذكر.
44 - باب اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ
710 / فيه: سَهْل، كَانَ للرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى حَائِطِنَا فَرَسٌ، يُقَالُ لَهُ: اللُّحَيْفُ. 1711 / وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَخَلَّفَ أَبُو قَتَادَةَ، فَرَكِبَ فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: الْجَرَادَةُ. . . الحديث. 1712 / وفيه: مُعَاذ بن جبل، كُنْتُ رِدْيفَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى حِمَارٍ، يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِى حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ) ؟ الحديث. 1713 / وفيه: أَنَس، كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: الْمَنْدُوبٌ، فَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . قَالَ البخارى: قَالَ بَعْضُهُمُ: اللُّخَيْفُ بالخَاءِ.

(5/59)


قال المهلب: فقه هذا الباب جواز تسمية الدواب بأسماء تخصها غير أسماء جنسها. وقال الواقدى: إنما سمى اللحيف لكثرة سبائبه يعنى: ذنبه. قال: وكان للنبى (صلى الله عليه وسلم) فرس يقال له: السكب، وآخر يقال: اللزاز، وآخر يقال: المرتجز، وإنما سمى: السكب؛ لأن لونه يشبه لون الشقائق، وأنشد الأصمعى: كالسكب المحبر فوق الرابية وكذلك المرتجز إنما سمى بذلك؛ لحسن صهيله. وقوله: (إن وجدناه لبحرًا) والبحر: الفرس الواسع الجرى. قال الأصمعى: يقال: فرس بحر وفيض وحث وغمر. وقال نفطويه: معناه: كثير الجرى. قال الخطابى: وذكر الواقدى أنه كان اسم حماره: يعفور، قال: وإنما سمى بذلك لعفرة لونه، والعفرة: حمرة يخالطها بياض. يقال له: أعفر ويعفور، وأخضر ويخضور، وأصفر ويصفور، وأحمر ويحمور. قال المؤلف: وعفير من المعفرة، وهو تصغير أعفر، وقال الطبرى: وقد حدثنى عبد الرحيم البرقى، قال: حدثنى عمرو بن أبى سلمة، عن زهير، عن محمد قال: اسم راية الرسول: العقاب، وفرسه: المرتجز، وناقته: العضباء والجدعاء، والحمار: يعفور، والسيف: ذو الفقار، والدرع: ذات الفضول، والرداء: الفتح، والقدح: الغمر. فإذا كان ذلك من فعله (صلى الله عليه وسلم) فى أملاكه، وكان الله قد ندب

(5/60)


خلقه إلى الاستنان به والتأسى فيما لم ينههم عنه، فالصواب لكل من أنعم الله عليه وخوله رقيقًا أو حيوانًا من البهائم والطير أو غير ذلك أن يسميه باسم كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) . وعلم بذلك أن المرتدين لما ادعوا أنساب الخيل لم يتعدوا فى ذلك إذ كان لها من الأسماء مثل ما لبنى آدم، يميزوا بها بين أعيانها وأشخاصها، إذ الأسماء إنما هى أمارات وعلامات.
45 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الْفَرَسِ
714 / فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِى ثَلاثَةٍ: فِى الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ) . 1715 / وفيه: سَهْل، قَالَ الرسول: (إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ، فَفِى الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالْمَسْكَنِ) . قال المهلب: قوله: (إنما الشؤم فى ثلاث) فحقيق فى ظاهر اللفظ حين لم يستطع أن ينسخ التطير من نفوس الناس، فأعلمهم أن الذى يعذبون به من الطيرة لمن التزمها إنما هو فى ثلاثة أشياء وهى الملازمة لهم، مثل دار المنشأ والمسكن، والزوجة التى هى ملازمة فى حال العيش اليسير، والفرس الذى به عيشه وجهاده وتقلبه، فحكم (صلى الله عليه وسلم) بترك هذه الثلاثة الأشياء لم ألزم التطير حين قال فى الدار التى سكنت، والمال وافر، والعدد كثير؛ اتركوها ذميمة خشية ألا يطول تعذب النفوس بما يكره من هذه الثلاثة ويتطير به، وأما غيرها من الأشياء التى إنما هى خاطرة وطارئة، وإنما تحزن بها النفوس ساعة أو أقل مثل الطائر المكروه الاسم عند العرب بمن يرحل منهم، فإنما يعرض له ذلك فى حين مروره به، فقد أمر (صلى الله عليه وسلم) فى مثل هذا وشبهه لا يضر من عرض له بأمر فى المرأة والفرس والدار

(5/61)


خلاف ذلك؛ لطول التعذب بها. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظن والحسد؛ فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق) . وحكى بعض المعتزلة أن أحاديث الشؤم يعارضها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا عدوى ولا طيرة) . وسأذكر ما فسر به العلماء ذلك ونفى التعارض عنها فى كتاب الطب عند قوله: (لا عدوى ولا طيرة) إن شاء الله.
48 - باب الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ وَقَوْلُهُ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) [النحل: 8]
716 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِى هِى لَهُ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ لهَا فِى مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِى طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ، أَوِ الرَّوْضَةِ، كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَت طِيَلَهَا ذَلِكَ وَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَينِ كَانَتْ آَثَارُهَا وَأَرْوَاتُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً لأهْلِ الإسْلامِ فَهِىَ وِزْرٌ عَلَى ذَلِكَ) . وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: (مَا أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهَا إِلا هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ) : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] الحديث. إن المرء لا يؤجر فى اكتسابها لأعيانها، وإنما يؤجر بالنية الخالصة فى استعمال ما ورد الشرع بالفضل فى عمله؛ لأنها خيل كلها، وقد اختلف أحوال مكتسبيها لاختلاف النيات فيها.

(5/62)


وفيه: أن الحسنات تكتب للمرء إذا كان له فيها سبب وأصل، تفضلا من الله على عباده المؤمنين؛ لأنه ذكر حركات الخيل وتقلبها ورعيها وروثها وأن ذلك حسنات للمجاهد، والطيل: الحبل الذى تربط به الدابة، ويقال له: طول أيضًا. قال طرفة: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد ومعنى الكلام: أن فرس المجاهد ليمضى على وجهه فى الحبل الذى أطيل له فيكتب له بذلك حسنات. وقوله: (استنت شرفًا أو شرفين) والاستنان أن تأخذ فى سنن على وجه واحد ماضيًا وهو يفتعل من السنن وهو القصد، ويقال: فلان يستن الريح إذا كان على جهتها وممرها، وأهل الحجاز يقولون: اسننها. ويقال فى مثل: (استنت الفصال حتى القرعى) يضرب مثلا للرجل الضعيف، يرى الأقوياء يفعلون شيئًا فيفعل مثله. والشرف: ما ارتفع من الأرض. وقوله: تغنيًا يعنى: استغناء، يقال منه: تغنيت تغنيًا، وتغانيت تغانيًا، واستغنيت استغناء. وقوله: (نواء) هو مصدر ناوأت العدو مناوأة ونواء وهى: المساواة. قال أهل اللغة: أصله من ناء إليك ونؤت إليه، أى: نهض إليك ونهضت إليه وفى كتاب العين: ناوأت الرجل: ناهضته بالعداوة، والنواء: العداوة، والفاذة هى: المعددة، ويقال: فاذة وفذة، وفاذ وفذ ومن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ) ومعنى ذلك أنها متعددة فى عموم الخير والشر لا آية أعم منها.

(5/63)


قال المؤلف: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم ينزل على فى الحمر إلا هذه الآية: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (فهذا تعليم منه (صلى الله عليه وسلم) لأمته الاستنباط والقياس، وكيف تفهم معانى التنزيل؛ لأنه شبه (صلى الله عليه وسلم) ما لم يذكر الله فى كتابه وهى الحمر بما ذكره من عمل مثقال ذرة من خير إذ كان معناهما واحدًا، وهذا نفس القياس الذى ينكره من لا تحصيل له ولا فهم عنده؛ لأن قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (يدخل فيه مع الحمر جميع أفعال البر دقيقها وجليلها، ألا ترى إلى فهم عائشة وغيرها من الصحابة هذا المعنى من هذه الآية حتى تصدقوا بحبة عنب وقالوا: كم فيها من مثاقيل الذر.
47 - باب مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِى الْغَزْوِ
717 / وفيه: جَابِر، سَافَرْتُ مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً، فَلَمَا أَقْبَلْنَا، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ، إِلَى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ) ، فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِى أَرْمَكَ، لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ، وَالنَّاسُ خَلْفِى، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَىَّ، فَقَالَ لِى الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (يَا جَابِرُ، اسْتَمْسِكْ) ، فَضَرَبَهُ بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً، فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ، فَقَالَ لِى: أَتَبِيعُ الْجَمَلَ؟ قُلْتُ: (نَعَمْ) ، الحديث. قال المهلب: فيه المعونة فى الجهاد بسوق الدابة وقودها، وقد رأى الرسول رجلا يحط رحل رجل ضعيف، فقال: ذهب هذا بالأجر يعنى: المعين فكذلك المعين فى سوق الدابة يؤجر على ذلك وفيه دليل على جواز إيلام الحيوان، والحمل عليها بعض ما يشق بها؛ لأنه جاء فى بعض الحديث أنه كان أعيا، فإذا ضرب المعين فقد كلف

(5/64)


ما يشق عليه، وإذا صح هذا فكذلك يجوز أن يكلف العبد والأمة بعض ما يشق عليهما إذا كان فى طاقتهما ووسعهما، ويؤدبا على تقصيرهما فيما يلزمهما من الخدمة. وفيه أن السلطان قد يتناول الضرب بيده؛ لأنه إذا ضرب الدابة فأحرى أن يضرب الإنسان الذى يعقل؛ تأديبًا له. وفيه: بركة الرسول؛ لأنه ضربه، فأحدث الله له بضربه قوة وأذهب عنه الإعياء. وقوله: (أرمك) قال أبو عبيد عن الأصمعى: إذا خالطت حمرته سواد فتلك الرمكة، وبعير أرمك. وقال صاحب العين: الرمكة لون فى ورقة وسواد، والورقة شبه بالغرة. وقوله: (ليس فيه شية) أى: ليس لمعة من غير لونه، قال صاحب العين: الشية: لمعة من سواد أو بياض. وقوله: (إذ قام على الجمل) معناه: وقف من الإعياء والكلال، قال تعالى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا (. قال أهل التفسير: معناه: وقفوا. وفيه تفسير آخر، قال أبو زيد: يقال: قام بى ظهرى، أى: أوجعنى ما أوجعك من جسدك فقد قام بك، والمعنى متقارب. قال ابن المنذر: اختلفوا فى المكترى يضرب الدابة فتموت. فقال مالك: إذا ضربها ضربًا لا يضرب مثله أو حيث لا يضرب ضمن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور قالوا: إذا ضربها ضربًا يضرب صاحبها مثله ولم يتعد فليس عليه شيء. واستحسن هذا القول أبو

(5/65)


يوسف ومحمد. وقال الثورى وأبو حنيفة: هو ضامن إلا أن يكون أمره أن يضرب والقول الأول أولى. وعليه يدل الحديث؛ لأن النبى لم يضرب الجمل إلا بما يشبه أن يكون أدبًا، له مثله، ولم يتعد عليه فكان ذلك مباحًا، فلو مات الجمل من ذلك لم يضمنه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه لم يكن متعديًا، والضمان فى الشريعة إنما يلزم المتعدي.
48 - باب: الْفُحُولَةِ مِنَ الْخَيْلِ
وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَةَ؛ لأنَّهَا أَجْرَأ وَأَجْسَرُ. 1718 / فيه: أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَاسْتَعَارَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، يُقَالُ لَهُ: مَنْدُوبٌ، فَرَكِبَهُ، وَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . لا فقه فى هذا الباب، وإنما فيه أن فحول الخيل أفضل للركوب من الإناث لشدتها وجرأتها، ومعلوم أن المدينة لم تخل من إناث الخيل، ولم ينقل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا جملة أصحابه ركبوا غير الفحول، ولم يكن ذلك إلا لفضلها على الإناث، إلا ما ذكر عن سعد بن أبى وقاص أنه كان له فرس أنثى بلقاء.
49 - باب سِهَامِ الْفَرَسِ
وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا (وَلا يُسْهَمُ لأكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ.

(5/66)


19 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا. قال الله تعالى -: (وما آتاكم الرسول فخذوه (فقسم رسول الله للفارس ثلاثة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه، وفرض علينا اتباعه وطاعته. وجاء عن عمر بن الخطاب (أنه فرض للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا) وعن على بن أبى طالب مثله، ولا مخالف لهما فى الصحابة، وهو قول عامة العلماء فى القديم والحديث غير أبى حنيفة؛ فإنه خالف السنة وجماعة الناس فقال: لا يسهم للفرس إلا سهم واحد. وقال: أكره أن أفضل البهيمة على مسلم. وخالفه أصحابه، فبقى منفردًا شاذا. واختلفوا فى الإسهام للبراذين والهجن فقال مالك: إنها من الخيل يسهم لها. وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور. وقال الليث: للهجين والبرذون سهم دون سهم الفرس، ولا يلحقان بالعراب. وروى عن مكحول أنه قال: أول من أسهم للبراذين خالد بن الوليد قسم لها نصف سهمان الخيل. وبه قال أحمد بن حنبل. وقال مكحول: لا شيء للبراذين. وبه قال الأوزاعى، واحتج مالك فى الموطأ بقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها (واسم الخيل يقع على الهجن والبراذين وهى تغنى غناءها فى كثير من المواضع، فمن زعم أن بينهما فرقًا فعليه الدليل.

(5/67)


واحتج مالك أيضًا بقول سعيد بن المسيب انه سئل: هل فى البراذين صدقة؟ قال: وهل فى الخيل صدقة؟ واختلفوا فيمن له أفراس كثيرة، فقال مالك: لا يسهم إلا لفرس واحد وهوالذى يقاتل عليه. وهو قول أبى حنيفة ومحمد والشافعي. وقال الثورى والأوزاعى وأبو يوسف والليث وأحمد وإسحاق: يسهم لفرسين. وحجة القول أنهم أجمعوا على أن سهم فرس واحد يجب مع ثبوت الخبر بذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فثبت القول به إذ هو سنة وإجماع، ووجب التوقيف عن القول بأكثر من ذلك إذ لا حجة مع القائلين به. قال المهلب: وفى قسمته (صلى الله عليه وسلم) للفرس سهمين حض على اكتساب الخيل واتخاذها؛ لما جعل الله فيها من البركة فى اعتلاء كلمته وإعزاز حزبه ولتعظم شوكة المسلمين بالخيل الكثيرة، والله أعلم.
50 - باب مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِى الْحَرْبِ
720 / فيه: الْبَرَاء، قيل له: أَفَرَرْتُمْ عَنْ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ، وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ

(5/68)


قال المهلب: فيه خدمة السلطان فى الحرب وسياسة دابته لأشراف الناس من قرابته وغيرهم. وفيه جواز الأخذ بالشدة والتعرض إلى الهلكة فى سبيل الله؛ لأن الناس فروا عن رسول الله ولم يبق إلا مع اثنى عشر رجلا، والمشركون فى أضعافهم عددًا مرارًا كثيرة، فلزموا مكانهم ومصافهم، ولم يأخذوا بالرخصة من الفرار. وفيه ركوب البغال فى الحرب للإمام ليكون أثبت له ولئلا يظن به الاستعداد للفرار والتولية، ومن باب السياسة لنفوس الأتباع؛ لأنه إذا ثبت ثبت أتباعه، وإذا رئى منه العزم على الثبات عزم معه عليه. وفيه جواز الفخر والندابة عند القتال. وفيه إثبات النبوة؛ لأنه قال: أنا النبى لا كذب. أى: ليس أنا بكاذب فيما أقول؛ فيجوز علىّ الانهزام، وإنما ينهزم من ليس على يقين من النصرة وهو على خوف من الموت، والنبى (صلى الله عليه وسلم) على يقين من النصر بما أوحى الله إليه فى كتابه وأعلمه أنه لا بد له من كمال هذا الأمر، فمن زعم بعد هذا أن الرسول ينهزم فقد رماه بأنه كذب وحى الله أن الله يعصمه من الناس فارتاب وإلا قتل؛ لأنه كافر إن لم يتأول ويعذر بتأويله، وسأشبع القول فى معنى هذا الحديث فى باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته واستنصر بعد هذا إن شاء الله.

(5/69)


51 - باب الرِّكَابِ وَالْغَرْزِ للدَّابَّةِ
721 / - فيه: ابْن عُمَرَ، أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِى الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِى الْحُلَيْفَةِ. الغرز للرحل مثل ركاب سرج الدابة يستعين به الراكب عند ركوبه ويعتمد عليه، وهو شيء قديم معروف عندهم، وهذا تفسير ما جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبًا) أنه لم يرد بذلك منع اتخاذ الركب أصلاً، وإنما أراد بذلك تمرينهم وتدريبهم على ركوب الخيل حتى يسهل عليهم ذلك من غير استعانة بالركب البتة؛ لأن الرسول اتخذها واستعان بها فى ركوبه.
52 - باب رُكُوبِ الْفَرَسِ الْعُرْىِ
722 / فيه: أَنَس، اسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى فَرَسٍ عُرْىٍ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، وَفِى عُنُقِهِ سَيْفٌ. ركوب الفرس العرى من باب التواضع، وفيه رياضة وتدرب للفروسية، ولا يفعله إلا من أحكم الركوب، فقه ذلك أنه يجب على الفارس أن يتعاهد صنعته ويروض طباعه عليها لئلا يثقل إذا احتاج إلى نفسه عند الشدائد، وفيه تعليق السيف فى العنق.
53 - باب الْفَرَسِ الْقَطُوفِ
723 / - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَكِبَ فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ: (وَجَدْنَا بَحْرًا، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لا يُجَارَى) .

(5/70)


يقال: قطفت الدابة: أبطأت السير مع تقارب الخطو فهى قطوف. وفيه أن الإمام لا بأس أن يركب دون الدواب ليروضها ويؤدبها حتى تمرن على دابته، وذلك من التواضع. وفيه بركة النبى؛ لأن ركوبه الفرس أزال عنه اسم البطء والقطاف، وصار لا يجارى بعد ذلك لشدة سرعته، فهذه من علامات النبوة.
54 - باب السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ
724 / - فيه: ابْن عُمَرَ، أَجْرَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَا ضُمِّرَ مِنَ الْخَيْلِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ، وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى. قَالَ سُفْيَانُ: بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَبَيْنَ الثَنِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ مِيلٌ. وترجم له باب: (غاية السبق للخيل المضمرة) . وقال ابن عقبة: ستة أميال أو سبعة. قال المؤلف: جعل بعض الناس المسابقة بين الخيل سنة، وجعلها بعضهم إباحة، والإضمار للخيل أن يدخل الفرس فى البيت يجلل عليه بجل ليكثر عرقه وينتقص من علفه لينقص لحمه فيكون أقوى على الجري. وفيه جواز المسابقة بين الخيل وذلك ممن خص وخرج من باب القمار بالسنة، وكذلك هو خارج من تعذيب البهائم؛ لأن الحاجة إليها تدعو إلى تأديبها وتدريبها.

(5/71)


وفيه تجويع البهائم على وجه الصلاح عند الحاجة إلى ذلك. وفيه أن المسابقة بين الخيل يجب أن يكون أمرها معلومًا، وأن تكون الخيل متساوية الأحوال أو متقاربة، وألا يسابق المضمر مع غير المضمر، وهذا إجماع من العلماء؛ لأن صبر الفرس المضمر المجوع فى الجرى أكثر من صبر المعلوف فلذلك جعلت غاية المضمرة ستة أميال أو سبعة، وجعلت غاية المعلوفة ميلا واحدًا. واختلف العلماء فى صفة المسابقة، فقال سعيد بن المسيب: ليس برهان بأس إذا أدخل فيها محلل لا يأمنان أن تسبق؛ فإن سبق أخذ السبق وإن سبق لم يكن عليه شيء. وبهذا قال الزهرى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق قالوا: إذا دخل فرس بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار لا يجوز. وقال مالك: ليس عليه العمل. وفسر العلماء قول سعيد أن معنى دخول المحلل بينهم للخروج عن معنى القمار المحرم فيجعل عنده كل واحد من المتراهنين سيفًا، فمن سبق منهما أخذ السيفين جميعًا، وكذلك إن سبق المحلل أخذهما وإن سبق لم يؤخذ منه شيء، ولا يقول مالك بالسبق، فالمحلل إنما يجوز عنده أن يجعل الرجل سيفه ولا يرجع إليه بكل حال كسبق الإمام، فمن سبق كان له وإن أجرى جاعل السبق معهم فسبق هو كان للمصلى وهو الذى يليه إن كانت خيلا كثير، وإن كانا فرسين فسبق جاعل السبق فهو طعمة لمن حضر، وإن سبق الآخر أخذه، وهو قول ربيعة وابن القاسم. وروى ابن وهب عن مالك أنه أجاز أن يشترط واضع السبق إن سبق أخذ السبق، وإم سبق هذا أخذ سبقه وبه أخذ أصبغ وابن وهب.

(5/72)


قال ابن المواز: وكراهة مالك المحلل إنما هو على قوله: إنه يجب إخراج السبق بكل حال، وهو قول ابن المسيب وابن شهاب. وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: الأسباق على ملك أربابها وهم فيها على شروطهم، ولا يجوز أن يملك السبق إلا بالشرط المشروط فيه وإن لم يكن ذلك انصرف السبق إلى من جعله. وقال محمد بن الحسن وأصحابه: إذا جعل السبق واحد فقال: إن تسبقنى فلك كذا، ولم يقل: إن سبقتك فعليك كذا، فلا بأس به، ويكره أن يقول: إن سبقتك فعليك كذا، وإن سبقتنى فعلى كذا، هذا لا خير فيه. وإن قال رجل غيرهما: أيكما سبق فله كذا. فلا بأس به، وإن كان بينهما محلل إن سبق لم يغرم، وإن سبق أخذ فلا بأس به، وذلك إذا كان يسبق ويسبق. قالوا: وما عدا هذه الأشياء فهو قمار.
55 - باب إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ
725 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِى لَمْ تُضَمَّرْ، وَكَانَ أَمَدُهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ سَابَقَ بِهَا. إن قال قائل: كيف ترجم البخارى باب (إضمار الخيل للسبق) وذكر أن الرسول سابق بين الخيل التى لم تضمر؟ فالجواب: أنه إنما أشار بطرف من الحديث إلى بقيته وأحال على سائره؛ لأن تمام الحديث (أن الرسول سابق بين الخيل التى ضمرت وبين الخيل التى لم تضمر) وذلك موجود فى حديث واحد، فلا حرج عليه فى ثبوته.

(5/73)


56 - باب نَاقَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
الْقَصْوَاءُ، وَالْعَضْبَاءُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرْدَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَا خَلأتِ الْقَصْوَاءُ) . 1726 / فيه: البراء، كَانَ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَاقَةٌ يُقال لها: الْعَضْبَاءَ، لا تُسْبَقُ - أَوْ لا تَكَادُ تُسْبَقُ - فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ، فَقَالَ: (حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يَرْفَعَ شَىْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ) . فيه اتخاذ الأمراء والأئمة الإبل للركوب، وفيه جواز الارتداف للعلماء والصالحين، وفيه التزهيد فى الدنيا والتقليل [. . . .] لإخباره أن كل شيء يرتفع من الدنيا يحق على الله أن يضعه وبهذا نطق القرآن، قال تعالى: (قل متاع الدنيا قليل (وما وصفه أنه قليل فقد وضعه وصغره، وقال تعالى تسلية عن متاع الدنيا: (والآخرة خير لمن اتقى (وقال: (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (إرشادًا لعباده وتنبيهًا لهم على طلب الأفضل. والقصواء من النوق التى فى أذنها حذف، يقال منه: ناقة قصواء وبعير مقصو ولا يقال: بعير أقصى. وذكر الأصمعى فى الناقة أنه يقال منها: قصوة. وقال صاحب العين: ناقة عضباء مشقوقة الأذن، وشاه عضباء مكسورة القرن، وقد عضبت عضبًا، والعضب: القطع، ومنه قيل للسيف القاطع: عضب، وقد عضب يعضب إذا قطع. والقعود: الجمل المسن.

(5/74)


57 - باب بَغْلَةِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم)
، الْبَيْضَاءِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَغْلَةً بَيْضَاءَ. 1727 / فيه: عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاحَهُ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً. 1728 / وفيه: الْبَرَاءِ، مَا وَلَّى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ، وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ. . . . . الحديث. وفيه جواز ركوب الأمراء والعلماء البغال والدواب، وأن ذلك من المباح وليس من السرف؛ لأن الإمام يلزمه التصرف والتعاهد لأمور رعيته والجهاد بنفسه والنظر فى مصالح المسلمين، وكذلك له أن يتخذ السلاح وكل ما به إليه حاجة من الآلات والقوت لأهله من الخمس.
58 - باب جِهَادِ المرأة
729 / فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الْجِهَادِ، فَقَالَ: (جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ) . وَقَالَ مرة: (نِعْمَ الْجِهَادُ الْحَجُّ) . هذا الحديث يدل على أن النساء لا جهاد عليهن واجب، وأنهن غير داخلات فى قوله: (انفروا خفافًا وثقالا (وهذا إجماع من العلماء وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (جهادكن الحج) دليل أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد وإنما فيه أنه الأفضل لهن، وإنما كان الحج أفضل لهن من الجهاد؛ لأنهن لسن من أهل القتال للعدو ولا قدرة لهن عليه ولا قيام به، وليس للمرأة أفضل من الاستتار وترك المباشرة

(5/75)


للرجال بغير قتال، فكيف فى حال القتال التى هى أصعب؟ والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال والاستتار عنهم؛ فلذلك كان أفضل لهن من الجهاد، والله أعلم.
59 - باب غَزْوِ النساء فِى الْبَحْرِ
730 / فيه: أَنَس، دَخَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ، فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عرضوا علىّ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الأخْضَرَ فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، فركبت. . . . . الحديث. فيه جواز جهاد النساء فى البحر، وقد تقدم القول فى هذا الحديث فى غير موضع.
60 - باب حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِى الْغَزْوِ دُونَ بَعْضِ نِسَائِهِ
731 / فيه: عَائِشَةَ، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَرَادَ سفرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِى غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِى، فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَعْدَ مَا نزِلَ الْحِجَابُ. هذه الترجمة لا تصح إلا بذكر القرعة فيها؛ لأن العدل بين النساء فريضة، فلو خرج بواحدة من أزواجه دون قرعة لم يكن ذلك عدلا بينهن وكان ميلا، فكانت القرعة فضلا فى ذلك يرجع إليه كما يحكم بالقرعة فى كثير مما يشكل أمره من أمور الشريعة.

(5/76)


61 - باب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ
732 / فيه: أَنَس، لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ، وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِى أَفْوَاهِ الْقَوْمِ. قد تقدم أن النساء لا غزو عليهن، وإنما غزوهن تطوع وفضيلة وعونهن للغزاة بسقى، وسقيهن وتشميرهن هو ضرب من القتال؛ لأن العون على الشيء ضرب منه، وقد روى عن أم سليم أنها كانت تسبق الشجعان فى الجهاد، وثبتت يوم حنين والأقدام قد زلت، والصفوف قد انتقضت والمنايا قد فغرت، والتفت إليها النبى (صلى الله عليه وسلم) وفى يدها خنجر فقالت: يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك، [. . .] بشر منهم) وروى معمر، عن الزهرى قال: كان النساء يشهدن المشاهد مع رسول الله ويسقين المقاتلة ويداوين الجراح، ولم أسمع بامرأة قاتلت معه، وقد قاتل نساء من قريش يوم اليرموك حتى دهمتهم جموع الروم وخالطوا عسكر المسلمين فضربت النساء يومئذ بالسيوف، وذلك فى خلافة عمر. واختلفوا فى المرأة يسهم لها، فقال الأوزاعى: يسهم للنساء وقد أسهم رسول الله بحنين وأخذ المسلمون بذلك. وقال الثورى والكوفيون والليث والشافعى: لا يسهم للنساء ولكن يرضخ لهن، واحتجوا بكتاب ابن عباس إلى نجدة أن النساء كن يحضرن فيداوين من المرضى ويحذين من الغنيمة فى الغزو، قال: ما سمعت ذلك. وقول مالك أصح؛ لأن النساء لا جهاد عليهن وإنما يجب السهم

(5/77)


والرضخ لمن كان مقاتلا أورد إليهم، و [. . . . .] النساء لا غناء لهن ولا نكاية للعدو فيهن، فأما إذا قاتلت امرأة وكان لها غناء وعون فلو أسهم لها لكان صوابا؛ لأن السهم إنما جعله الله لأهل الجيش بقتالهم العدو ودفعهم عن المسلمين فمن وجدت هذه الصفة فيه فهو مستحق للسهم، سواء كان رجلا أو امرأة، وإنما خرج جوابا للعالم فى هذه المسألة على أنه لا سهم للنساء للغالب من حالهن، فإن من يقاتل فيهن لا يكاد يوجد، والله أعلم. قال صاحب العين: الخدم سير كالحلقة يشد فى رسغ البعير، ثم تشتد إليه سرائح نعلها، والمخدم: موضع ذلك السير، والخدمة: الخلخال. وقال أبو عبيد: الخدام الخلاخيل واحدها: خدمة، وفى كتاب العين: النقز والنقزان: الوثبان، والنواقز: القوائم.
62 - باب حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبَ إِلَى النَّاسِ فِى الْغَزْوِ
733 / - وفيه: ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِى مَالِكٍ، أَنَّ عُمَرَ قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ فِى الْمَدِينَةِ، فَبَقِىَ مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: أَعْطِه ابْنَةَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الَّتِى عِنْدَكَ - يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِىٍّ - فَقَالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ - امرأة مِنْ نِسَاءِ الأنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) - فكَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ. قال المهلب: فيه دليل على أن الأولى بالنبى من أتباعه أهل

(5/78)


السابقة إليه والنصرة له، لا يستحق أحد ولايته ببنوة ولا بقرابة إذا لم يقارنها الإسلام، ثم إذا قارنها الإسلام تفاضل أهله بالسابقة والنصرة من المعونة بالمال والنفس، ألا ترى أن عمر جعل أم سليط أحق بالقسمة لها من المروط من حفيدة رسول الله بالبنوة لتقدم أم سليط بالإسلام والنصرة والتأييد وهو معنى قوله تعالى: (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل (وكذلك يجب أن لا تستحق الخلافة بعده ببنوة ولا بقرابة، وإنما تستحق بما ذكره الله من السابقة والإنفاق والمقاتلة. وفيه الإشارة بالرأى على الإمام، وإنما ذلك للوزير والكاتب وأهل الصحبة والبطانة له، ليس ذلك لغيرهم، إلا أن يكون من أهل العلم والبروز فى الإمامة فله الإشارة على الإمام وغيره. وقوله: (تزفر لنا القرب) يعنى: تحمل، قال صاحب العين والأفعال: زفر بالحمل زفرًا: نهض به، والزفر: القربة، والزوافر: الإماء يحملن القرب.
63 - باب مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِى الْغَزْوِ
734 / فيه: الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، كُنَّا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) نَسْقِى، وَنُدَاوِى، الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وترجم له باب: (رد النساء القتلى) . قال المهلب: فيه مباشرة المرأة غير ذى محرم منها فى المداواة وما شاكلها من إلطاف المرضى ونقل الموتى.

(5/79)


فإن قيل: كيف جاز أن يباشر النساء الجرحى وهم غير ذوى محارم منهن؟ فالجواب: أنه يجوز ذلك للمتجالات منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل تقشعر منه الجلود، وتهابه النفوس، ولمسه عذاب للامس والملموس، وأما غير المتجالات منهن فيعالجن الجرحى بغير مباشرة منهن لهم، بأن يصنعن الدواء ويضعه غيرهن على الجرح، ولا يمسسن شيئًا من جسده. قال غيره: والدليل على صحة هذا التأويل أنى لم أجد أحدًا من سلف العلماء يقول فى المرأة تموت مع الرجال أو الرجل يموت مع النساء غير ذوى المحارم لا يحضر ذلك غيرهم أن أحدًا منهما يغسل صاحبه دون حائل وثوب يستره. وقال الحسن البصرى: يصب عليها من فوق الثياب وهو قول النخعى وقتادة والزهرى وبه قال إسحاق. وقالت طائفة: تيمم بالصعيد، روى ذلك عن سعيد بن المسيب والنخعى أيضًا، وبه قال مالك والكوفيون وأحمد، وقال الأوزاعى: تدفن كما هى ولا تيمم. وهذا يدل من قولهم أنه لا يجوز عندهم مباشرة غير ذوى المحارم؛ لأن حالة الموت أبعد من التسبب إلى دواعى اللذة والذريعة إليها من حال الحياة، فلما اتفقوا أنه لا يجوز للأجنبى غسل الأجنبية الميتة مباشرًا لها دون ثوب يسترها، دل بأن مباشرة الأحياء الأحس أولى بأن لا يجوز، والله أعلم.

(5/80)


64 - باب نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ الْبَدَنِ
735 / - فيه: أَبُو مُوسَى، رُمِىَ أَبُو عَامِرٍ فِى رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: انْزِعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْتُهُ، فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ، فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ. قال المهلب: فيه جواز نزع السهام من البدن وإن خشى بنزعها الموت، وكذلك البط والكى وما شاكله، يجوز للمرء أن يفعله رجاء الانتفاع بذلك، وإن كان فى غبها خشية الموت، وليس من صنع ذلك بملق نفسه للتهلكة؛ لأنه بين الخوف والرجاء. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم اغفر لعبيد أبى عامر) إنما دعا له؛ لأنه علم أنه ميت من ذلك السهم. وقوله: (نزا منه الماء) . قال صاحب العين: نزا ينزو نزوًا ونزوانًا وينزى: إذا وثب. وقال أبو زيد: النزاء والنفار داء يأخذ النساء فتنزوا منه وتنفر حتى تموت، وسيأتى زيادة فى شرح هذه الكلمة بعد هذا إن شاء.
65 - باب الْحِرَاسَةِ فِى الْغَزْوِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
736 / فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سَهِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: (لَيْتَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِى صَالِحًا يَحْرُسُنِى اللَّيْلَةَ) ؛ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ

(5/81)


سِلاحٍ، فَقَالَ: (مَنْ هَذَا) ؟ فَقَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، جِئْتُ لأحْرُسَكَ، وَنَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) . 1737 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِى السَّاقَةِ، كَانَ فِى السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ) . قال المهلب: فيه التزام السلطان للحذر والخوف على نفسه فى الحضر والسفر؛ ألا ترى فعل الرسول مع ما عرفه الله أنه سيكمل به دينه، ويعلى به كلمته، التزم الحذر خوف فتك الفاتك، وأذى المؤذى بالعداوة فى الدين، والحسد فى الدنيا. وفيه أن على الناس أن يحرسوا سلطانهم ويتخفوا به خشية الفتك وانخرام الأمر. وفيه أنه من تبرع بشىء من الخير أنه يسمى صالحًا؛ لقوله: (ليت رجلا صالحًا) أى: (يبعثه) صالحة على حراسة سلطانه فكيف بنبيه؟ . وفيه دليل أن هذا كان قبل أن ينزل عليه: (والله يعصمك من الناس (وقَبل لأن ينزل عليه: (إنا كفيناك المستهزئين (لأنه قد جاء فى الحديث أنه لما نزلت هذه الآية ترك الاحتراس بالليل.

(5/82)


وفيه أنه متى سمع الإنسان حس سلاح بالليل أن يقول: من هذا؟ ويعلم أنه ساهر لئلا يطمع فيه أهل الطلب للغرة والغفلة؛ فإذا علم أنه مستيقظ ردعهم بذلك. وقوله: (تعس عبد الدينار والدرهم) يعنى: إن طلب ذلك، وقد استعبده وصار عمله كله فى طلب الدينار والدرهم كالعبادة لهما. وقوله: (إن أعطى رضي) أى: وإن أعطى ما له عمل رضى عن معطيه وهو خالقه عز وجل، وإن لم يعط سخط ما قدر له خالقه ويسر له من رزقه، فصح بهذا أنه عبد فى طلب هذين، فوجب الدعاء عليه بالتعس؛ لأنه أوقف عمله على متاع الدنيا الفانى وترك العمل لنعيم الآخرة الباقي. والتعس: ألا ينتعش ولا يفيق من عثرته، وانتكس أى: عاوده المرض كما بدأه، هذا قول الخليل. وقال ابن الأنبارى: التعس: الشر، قال تعالى: (فتعسًا لهم (أراد ألزمهم الله الشر. هذا قول المبرد. وقال غيره: التعس: البعد. وقال الرستمى: التعس أن يخر على وجهه، والنكس أن يخر على رأسه، قال: والتعس أيضًا: الهلاك. ثم أكد الدعاء عليه بقوله: (وإذا شيك فلا انتقش) أى: إذا أصابته شوكة فلا أخرجها بمنقاشها، فيمتنع السعى للدينار والدرهم، ثم حض على الجهاد فقال: (طوبى لعبد ممسك بعنان فرسه) إلى آخر الحديث فجمع فى هذا الحديث مدح من العمل: خير الدنيا والآخرة لقوله: (الخيل معقود فى نواصيها الخير) الأجر: والغنيمة: ونعيم الآخرة بقوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم (الآية.

(5/83)


وفيه ترك حب الرياسة والشهرة، وفضل الخمول ولزوم التواضع لله بأن يجهل المؤمن فى الدنيا ولا تعرف عينه فيشار إليه بالأصابع، وبهذا أوصى (صلى الله عليه وسلم) ابن عمر فقال له: (يا عبد الله، كن فى الدنيا كأنك غريب) والغريب مجهول العين فى الأغلب فلا يؤبه لصلاحه فيكرم من أجله ويبجل، فمن لزم هذه الطريقة كان حريًا إن استأذن ألا يؤذن له، وإن شفع ألا يشفع.
66 - باب فَضْلِ الْخِدْمَةِ فِى الْغَزْوِ
738 / فيه: أَنَس، صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، فَكَانَ يَخْدُمُنِى، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنَسٍ، قَالَ جَرِيرٌ: إِنِّى رَأَيْتُ الأنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا بالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لا أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلا أَكْرَمْتُهُ. 1739 / وفيه: أَنَس، خَرَجْتُ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ، وَقَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَكْثَرُنَا ظِلا الَّذِى يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا، فَقَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأجْرِ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: فيه أن أجر الخدمة فى الغزو أعظم من أجر الصيام؛ إذا كان المفطر أقوى على الجهاد وطلب العلم وسائر الأعمال الفاضلة من معونة ضعيف أو حمل ما بالمسلمين إلى حمله حاجة. وفيه: أن التعاون فى الجهاد والتفاضل فى الخدمة من حل وترحال واجب على جميع المجاهدين. وفيه: جواز خدمة الكبير للصغير إذا رعى له شرفًا فى قومه أو فى

(5/84)


نفسه أو نجابة فى علم أو دين أو شبهه، وأما فى الغزو فالخادم المحتسب أفضل أجرًا من المخدوم الحسيب.
67 - باب فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِى السَّفَرِ
740 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (كُلُّ سُلامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، يُعِينُ الرَّجُلَ فِى دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) . قال المؤلف: السلامى عظام الأصابع والأكارع، عن صاحب (العين) وليس ما ذكر فى هذا الحديث أنه صدقة على الإنسان تجب عليه فرضًا، وإنما هو عليه من باب الحض والندب، كما أمر الله تعالى المؤمنين بالتعاون والتناصر وقال: (وتعاونوا على البر والتقوى (وقال (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) (والله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه) ، فهذه كلها وما شاكلها من حقوق المسلمين بعضهم على بعض مندوب إليها مرغب فيها. ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن رجل ذكره، عن عائشة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن فى الإنسان ثلاثمائة وستين مفصلا؛ فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله عددها فى يوم أمسى وقد زحزح عن النار) والمراد بحديث أبى هريرة أن الحامل فى السفر لمتاع غيره إنما معناه أن الدابة للمُعان فيؤجر الرجل

(5/85)


على عونه لصاحبها فى ركوبها أو فى رفع متاعه عليها، وقد جاء هذا الحديث بينًا بهذا المعنى بعد هذا، وترجم له: (من أخذ بالركاب ونحوه) وقال فى الحديث: (ويعين الرجال على دابته فيحمل عليها ويرفع عليها متاعه) . فدل قوله: من أخذ بالركاب ونحوه. أنه أراد لدابة غيره وإذا أجر من فعل ذلك بدابة غيره أجر إذا حمل على دابة نفسه أكثر، والله الموفق.
68 - باب فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا (الآية [آل عمران: 200]
741 / - فيه: سَهْل، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (رِبَاطُ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها. . . . .) الحديث. قال المهلب: إنما صار رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها؛ لأنه عمل يؤدى إلى الجنة، وصار موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها من أجل أن الدنيا فانية وكل شيء فى الجنة وإن صغر فى التمثيل لنا وليس فيها صغير فهو أدوم وأبقى من الدنيا الفانية المنقطعة فكان الدائم الباقى خيرًا من المنقطع. وقوله تعالى: (اصبروا وصابروا (اختلف فيها أهل التأويل فقال زيد: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدو، ورابطوا الخيل على العدو. وعن الحسن وقتادة: اصبروا على طاعة الله، وصابروا

(5/86)


أعداء الله، ورابطوا فى سبيل الله. وعن الحسن أيضًا: اصبروا على المصائب، وصابروا على الصلوات الخمس. قال محمد بن كعب: اصبروا على دينكم، وصابروا لوعدى الذى وعدتكم عليه، ورابطوا عدوى وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم، واتقوا الله فيما بينى وبينكم لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني. وعن أبى سلمة: رابطوا على الصلوات أى: انتظروها.
69 - باب مَنْ غَزَا بِصَبِىٍّ لِلْخِدْمَةِ
742 / فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِيّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لأبِى طَلْحَةَ: (الْتَمِسْ لى غُلامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ) ، فَخَرَجَ بِى أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِى، وَأَنَا غُلامٌ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ. . . . . .) الحديث. قال أبو عبد الله: فى حديث أنس: (خرج بى أبو طلحة وأنا غلام راهقت الحلم) وفى طريق آخر: (وأنا ابن عشر سنين) . وكذلك فى حديث ابن عباس: (ناهزت الحلم) . وفى طريق آخر: (توفى رسول الله وأنا ابن عشر سنين، وقد حفظت المحكم الذى يدعونه المفصل) فسمى أنس وابن عباس ابن عشر سنين مراهقًا. وفيه: جواز الاستخدام لليتامى بشبعهم وكسوتهم. وفيه: دليل على جواز الاستخدام بغير نفقة ولا كسوة إذا كان خدمة

(5/87)


عالم أو إمام فى الدين؛ لأنه لم يذكر فى حديث أنس أن له أجر الخدمة وإن كان قد يجوز أن تكون نفقته من عند النبى، واما الأجرة فلم يذكرها أنس فى حديثه ولا ذكرها أحد عن النبى ولا عن أبى طلحة ولا عن أم سلمة، وهما اللذان أتيا به إلى الرسول وأسلماه لخدمته ولم يشترطا أجرة ولا نفقة ولا غيرها، فجائز على اليتيم إسلام أمه ووصيه وذى الرأى من أهله فى الصناعات واستئجاره فى المهنة وذلك لازم له ومنعقد عليه، وفيه جواز حمل الصبيان فى الغزو وقوله: (يحوى لها وراءه) فالحوية مركب يهيأ للمرأة، من كتاب العين
70 - باب رُكُوبِ الْبَحْرِ
743 / - فيه: أَنَس، حَدَّثَتْنِى أُمُّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نام يَوْمًا فِى بَيْتِهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَ: (عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِى يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأسِرَّةِ. . . . .) الحديث. فيه جواز ركوب البحر للجهاد وإذا جاز ركوبه للجهاد فهو للحج أجوز وهذا الحديث يرد أحد قولى الشافعى أنه من لم يكن له طريق إلى الحج إلا على البحر سقط عنه فرض الحج، وقال مالك وأبو حنيفة: يلزمه الحج على ما يقتضيه دليل هذا الحديث، إلا أن مالكًا يكره للمرأة الحج فى البحر وهو للجهاد أكره، وإنما كره ذلك؛ لأن المرأة لا تكاد تستتر عن الرجال ولا يستترون عنها، ونظرها إلى عورات الرجال ونظرهم إليها حرام، فلم ير لها استباحة فضيلة ولا أداء فريضة بمواقعة محرم.

(5/88)


وذكر مالك أن عمر بن الخطاب كان يمنع الناس من ركوب البحر فلم يركبه أحد طول حياته، فلما مات استأذن معاوية عثمان بن عفان فى ركوبه؛ فأذن له فلم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه، ثم ركب بعده إلى الآن. ولا حجة لم منع ركوبه؛ لأن السنة قد أباحت ركوبه فى الجهاد للرجال والنساء فى حديث أنس وغيره وهى الحجة فيها الأسوة، وقد ذكر أبو عبيد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عن ركوب البحر فى وقت ارتجاجه وصعوبته قال: حدثناه عباد بن عباد، عن أبى عمران الجونى، عن زهير بن عبد الله يرفعه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من ركب البحر إذا التج أو قال: ارتج فقد برئت منه الذمة أو قال: فلا يلومن إلا نفسه) قال أبو عبيد: وأكبر ظنى أنه قال: (التج) باللام. فدل هذا الحديث أن ركوبه مباح فى غير وقت ارتجاجه وصعوبته فى كل شيء فى التجارة وغيرها، وسيأتى فى كتاب البيوع فى (باب التجارة فى البحر) زيادة فى هذا المعنى إن شاء الله ولم يفسر أيو عبيد قوله: (برئت منه الذمة) ومعناه إن شاء الله -: فقد برئت منه ذمة الحفظ؛ لأنه ألقى بيده إلى التهلكة وغرر بنفسه، ولم يرد فقد برئت منه ذمة الإسلام؛ لأنه لا يبرأ أحد من الإسلام إلا بالكفر.

(5/89)


71 - باب مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِى الْحَرْبِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ لِى قَيْصَرُ: سَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ ضُعَفَاءَهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. 1744 / فيه: سَعْد، أَنَّهُ رَأَى فَضْلا له عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ) . 1745 / وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) : (يَأْتِى زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِم، ثُمَّ يَأْتِى زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ، ثُمَّ يَأْتِى زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ) . قال المؤلف: ذكر النسائى زيادة فى حديث سعد يبين بها معناه فيقال فيه: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بصومهم وصلاتهم ودعائهم) وتأويل ذلك أن عبادة الضعفاء ودعاءهم أشد إخلاصًا وأكثر خشوعًا؛ لخلاء قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا وزينتها وصفاء ضمائرهم مما يقطعهم عن الله فجعلوا همهم واحدًا؛ فزكت أعمالهم، وأجيب دعاؤهم قال المهلب: إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) بهذا القول لسعد الحض على التواضع ونفى الكبر والزهو عن قلوب المؤمنين. ففيه من الفقه أن من زها على ما هو دونه أنه ينبغى أن يبين من

(5/90)


فضله ما يحدث له فى نفس المزهو مقدارًا أو فضلا حتى لا يحتقر أحدًا من المسلمين؛ ألا ترى أن الرسول أبان من حال الضعفاء ما ليس لأهل القوة والغناء فأخبر أن بدعائهم وصلاتهم وصومهم ينصرون. وذكر عبد الرزاق، عن مكحول أن سعد بن أبى وقاص قال: (يا رسول الله، أرأيت رجلا يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه ليكون نصيبه كنصيب غيره؟ فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: ثكلتك أمك يا ابن أم سعد، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) . فيمكن أن يكون هذا المعنى الذى لم يذكره البخارى فى حديث سعد الذى رأى به الفضل لنفسه على من دونه والله أعلم وحديث أبى سعيد يشهد لصحته، ويوافق معناه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خيركم قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لأنه يفتح لهم لفضلهم، ثم يفتح للتابعين لفضلهم، ثم يفتح لتابعيهم لفضلهم، وأوجب الفضل لثلاثة القرون ولم يذكر الرابع ولم يذكر فضلا فالنصر فيهم أقل، والله أعلم. وقال صاحب العين: الفئام: الجماعة من الناس وغيرهم.
72 - باب لا يقال فُلانٌ شَهِيدٌ
وَقَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِهِ) . 1746 / فيه: سَهْل، الْتَقَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا، وَفِى أَصْحَابِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) رَجُلٌ لا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلا فَاذَّةً إِلا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ كَمَا أَجْزَأَ فُلانٌ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (

(5/91)


أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فاتبعه رَجُلٌ كُلَّمَا وَقَفَ، وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ الرسول: (وَمَا ذَاكَ) ؟ فأخبره، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) . قال المهلب: فى هذا الحديث ضد ما ترجم له البخارى، أنه لا يقال: فلان شهيد، ثم أدخل هذا الحديث وليس فيه من معنى الشهادة شيء وإنما فيه ضدها والمعنى الذى ترجم به قولهم: ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان فمدحوا جزاءه وغناءه، ففهم الرسول منهم أنهم قضوا له بالجنة فى نفوسهم بغناءه ذلك، فأوحى إليه بغيب مآل أمره لئلا يشهدوا لحى بشهادة قاطعة عند الله ولا لميت، كما قال رسول الله فى عثمان بن مظعون: (والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل به) وكذلك لا يعلم شيئًا من الوحى حتى يوحى إليه به ويعرف بغيبه، فقال: إنه من أهل النار بوحى من الله له. وفيه أن صدق الخبر عما يكون وخروجه على ما أخبر به المخبر زيادة فى زكاته وهو من النبى (صلى الله عليه وسلم) من علامات نبوته وزيادة فى يقين المؤمنين به، ألا ترى قول الرجل حين رأى قتله لنفسه: أشهد إنك لرسول الله وهو كان قد شهد قبل ذلك. وقد قال أبو بكر الصديق فى غير ما قصة حين كان يرى صدق ما أخبر به النبى كان يقول: أشهد أنك رسول الله.

(5/92)


وفيه جواز الإغياء فى الوصف لقوله: ما أجزأ أحدكما أجزأ، ولا يدع لهم شاذة ولا فاذة، ولا شك أن فى أصحاب الرسول من كان فوقه، وأنه قد ترك شاذات وفاذات لم يدركها، وإنما خرج كلامه على الإغياء والمبالغة، وهو جائز عند العرب. وقوله: (إلا اتبعها يضربه بسيفه) معناه: يضرب الشيء المتبوع؛ لأن المؤنث قد يجوز تذكيره على معنى أنه شيء، وأنشد الفراء للأعرابية: تركتنى فى الحى ذا غربة تريد ذات غربة لكنها ذكرت على تقدير: تركتنى فى الحى إنسان ذا غربة، أو شخصًا ذا غربة.
73 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْىِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60]
747 / فيه: سَلَمَةَ: مَرَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (ارْمُوا بَنِى إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِى فُلانٍ) ، قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لَكُمْ لا تَرْمُونَ) ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِى وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ) . 1748 / وفيه: أَبُو سعيد، قَالَ: قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ بَدْرٍ، حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: (إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ) . قال ابن المنذر: ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى قوله

(5/93)


تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (: (ألا وإن القوة الرمى) . رواه المقرىء، عن سعيد بن أبى أيوب، حدثنا يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير مرثد بن عبد الله اليزنى، عن عقبة بن عامر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب فيه من الفقه: أن للسلطان أن يأمر رجاله بتعليم الرمى وسائر وجوه الحرابة ويحض عليها. وفيه: أنه يجب أن يطلب الرجل خلال أبيه المحمودة ويتبعها ويعمل مثلها؛ لقوله: (ارموا فإن أباكم كان راميًا) . وفيه: أن السلطان يجب أن يعلم المجودين أنه معهم أى فى حزبهم ومحب لهم كما فعل الرسول فى المجودين للرماية فقال: (وأنا مع بنى فلان) أى: أنا محب لهم ولفعلهم كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (المرء مع من أحب) . وفيه من الفقه: أنه يجوز للرجل أن يبين عن تفاضل إخوانه وأهله وخاصته فى محبته، ويعلمهم كلهم أنهم فى حزبه ومودته، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (أنا معكم كلكم) بعد أن كان أفراد إحدى الطائفتين. وفيه: أن من صار السلطان عليه فى جملة الحزب المناضلين له ألا يتعرض لمناوأته كما فعل القوم حين أمسكوا؛ لكون الرسول مع مناضليهم خوف أن يرموا فيسبقوا فيكون النبى مع من سبق فيكون ذلك حقا على النبى، وأمسكوا تأدبًا عليه، فلما أعلمهم أنه معهم أيضًا رموا؛ لسقوط هذا المعنى. وفيه: أن السلطان يجب أن يعلم بنفسه أمور القتال كما فعل - عليه السلام -.

(5/94)


وقوله: (ينتضلون) يعنى: يرمون. تقول: ناضلت الرجل: راميته. وقوله: (أكثبوكم) أى: قربوا منكم. تقول العرب: أكثبك الصيد: قرب منك. والكثب: القرب. من كتاب الأفعال.
74 - باب اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا
749 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِحِرَابِهِمْ، دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ، فَقَالَ: (دَعْهُمْ يَا عُمَرُ) . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٌ: فِى الْمَسْجِدِ. هذا اللعب بالحراب هو سنة ليكون ذلك عدة للقاء العدو، وليتدرب الناس فيه، ولم يعلم عمر معنى ذلك حين حصبهم حتى قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (دعهم) . ففيه من الفقه: أن من تأول خطأ لا لوم عليه؛ لأن النبى لم يوبخ عمر على ذلك؛ إذ كان متأولا. وفيه: جواز مثل هذا اللعب فى المسجد؛ إذ كان مما يشمل الناس نفعه. وقد تقدم بيان هذا فى باب: أصحاب الحراب فى المسجد. فى كتاب الصلاة.
75 - باب الترسة وَالْمِجَنِّ
750 / فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْىِ، فَكَانَ إِذَا رَمَى يشَرَّف النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ.

(5/95)


51 / وفيه: سَهْلٍ، لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَأْسِهِ، وَأُدْمِىَ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ عَلِىٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِى الْمِجَنِّ. . . . . الحديث. 1752 / وفيه: عُمَرَ، كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِى النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِىَ فِى الْكُرَاعِ وَالسِّلاحِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. قال المهلب: فيه ركوب شيء من الغدر للإمام لحرصه على معاينة نكاية العدو وإن كان احتراس الإمام خطيرًا، وليس كسائر الناس فى ذلك بل هو آكد. وفيه: اختفاء السلطان عند اصطفاف القتال؛ لئلا يعرف مكانه. وفى حديث سعد: جواز امتحان الأنبياء وإيلامهم، ليعظم بذلك أجرهم ويكون أسوة لمن ناله جرح وألم من أصحابه، فلا يجدون فى أنفسهم مما نالهم غضاضة، ولا يجد الشيطان السبيل إليهم بأن يقول لهم: تقتلون أنفسكم وتحملون الآلام فى صون هذا، فإذا أصابه ما أصابهم فقدت هذه المكيدة من اللعين، وتأسى الناس به فجدوا فى مساواتهم له فى جميع أحواله. وفيه: خدمة السلطان. وفيه: بذل السلاح فيما يضرها إذا كان فى ذلك منفعة لخطير الناس. وفيه دليل أن ترستهم كانت مقعرة ولم تكن منبسطة فلذلك كان يمكن حمل الماء بها. وفيه: أن النساء ألطف بمعالجة الرجال والجرحى.

(5/96)


وقوله: (فرقىء الدم) قال صاحب العين: يقال. رقأ الدم والدمع رقوءًا: سكن بعد جريه.
76 باب فيه: مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) يُفَدِّى رَجُلا بَعْدَ سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (ارْمِ فِدَاكَ أَبِى وَأُمِّى
. قال المهلب: هذا مما خص به سعد، وفيه دليل أن الرجل إذا كان له أبوان وإن كانا على غير دينه فلهما عليه حرمة وحق؛ لأنه لا يفدى إلا بذى حرمة ومنزلة، وإلا لم يكن يفديه، ولا فضيلة للمفدي. فمن هاهنا قال مالك: إنه من آذى مسلمًا فى أبويه الكافرين عوقب وأدب لحرمتهما عليه. وقال الطبرى: فى هذا الحديث دلالة على جواز تفدية الرجل الرجل بأبويه ونفسه، وفساد قول منكرى ذلك، فإن ظن ظان أن تفدية الرسول من فداه بأبويه إنما كان لأن أبويه كانا مشركين، فأما المسلم فغير جائز أن يفدى مسلمًا ولا كافرًا بنفسه ولا بأحد سواه من الإسلام، واعتلالا بما روى أبو سلمة قال: أخبرنى مبارك، عن الحسن قال: (دخل الزبير على الرسول وهو شاك، فقال: كيف تجدك جعلنى الله فداك؟ فقال له: أما تركت إفداء بيتك بعد) قال الحسن: لا ينبغى أن يفدى أحد أحدًا، ورواه المنكدر، عن أبيه قال: (دخل الزبير. . .) فذكره. قلت: هذه أخبار واهية لا يثبت مثلها حجة فى الدين؛ لأن

(5/97)


مراسيل الحسن أكثرها عن غير سماع، وإذا وصل الأخبار فأكثر رواته عن مجاهيل لا يعرفون، والمنكدر بن محمد عند أهل النقل لا يعتمد على نقله، ولو صحت هذه الأخبار لم يكن فيها حجة فى إبطال حديث على؛ إذ لا [. . . . .] فى حديث الزبير أن النبى نهاه عن قول ذلك، بل إنما قال له فيه: (أما تركت إفداء بيتك بعد) والمعروف من قول القائل إذا قال: فلان لم يترك إفداء بيته، وإنما يشبه إلى الجفاء لا إلى نقل ما لا يجوز فعله، وأعلمه أن غيره من القول والتحية ألطف وأورق منه، وسيأتى شيء من هذا المعنى فى كتاب الأدب إن شاء الله.
77 - باب الدَّرَقِ
753 / فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ عَلَىَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ - فذكر الحديث - وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ - إلى قوله: (دُونَكُمْ بَنِى أَرْفِدَةَ. . . .) الحديث. قد تقدم القول فى هذا الحديث فى كتاب الصلاة وغيره. وفيه: أن الدرق من آلات الحرب التى ينبغى لأهلها اتخاذها والتحرز بها من أسلحة العدو، وأن أصحاب النبى استعملوها فى ذلك. وقوله: (دونكم) يحضهم على ما هم فيه من اللعب بالحراب والدرق؛ لأن فى ذلك منفعة وتدريبًا وعدة للقاء العدو. وقوله: (بنى أرفدة) نسبهم إلى جدهم وكان يسمى أرفدة.

(5/98)


78 - باب الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْوفِ بِالْعُنُقِ
754 / فيه: أَنَس، كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأبِى طَلْحَةَ عُرْىٍ، وَفِى عُنُقِهِ السَّيْفُ. . . . قد تقدم القول فى هذا الحديث قبل هذا، وإنما فائدة هذا الباب أن السيوف تتقلد فى الأعناق بخلاف قول من اختار أن يربط السيف فى الحزام ولا يتقلد فى العنق، وليس فى شىء من هذا حرج.
79 - باب حِلْيَةِ السُّيُوفِ
755 / فيه: أَبُو أُمَامَةَ، لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمُ الذَّهَبَ وَلا الْفِضَّةَ، إِنَّمَا كَانَتْ حِلْيَتُهُمُ الْعَلابِىَ وَالآنُكَ وَالْحَدِيدَ. العلابى [. . . .] . قال صاحب العين: رمح منقلب ومقلوب مجاوز بالعلباء. والعلباء عصب العنق، يقال: علبت السيف أعلبه علبًا: إذا حزمت مقبضه بعلباء البعير. وقال المهلب: فيه أن الحلية المباحة من الذهب والفضة فى السيوف إنما كانت ليرهب بها على العدو، فاستغنى أصحاب رسول الله صلى - الله عليه وسلم - بشدتهم على العدو وقوتهم فى الإيقاع بهم والنكاية لهم عن إرهاب الحلية؛ لإرهاب الناس وشجاعتهم، والآنك: الرصاص وهو الأسرب.

(5/99)


80 - باب مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ فِى السَّفَرِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ
756 / فيه: جَابِر، أَنَّهُ غَزَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، أَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِى وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَحْتَ سَمُرَةٍ، وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَىَّ سَيْفِى، وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ فِى يَدِهِ صَلْتًا) ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى؟ قُلْتُ: (اللَّهُ، ثَلاثًا) ، فَشَامَ السَّيْف وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وَجَلَسَ. وترجم له (باب: تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر) . قال المهلب: فيه أن تعليق السيف والسلاح فى الشجر صيانة لها من الأمر المعمول به. وفيه: أن تعليقها على بعد من صاحبها من الغرر لا سيما فى القائلة والليل؛ لما وصل إليه هذا الأعربى من سيف الرسول. وفيه: تفرق الناس عن الإمام عند القائلة وطلبهم الظل والراحة، ولكن ليس ذلك فى غير الرسول إلا بعد أن يبقى معه من يحرسه من أصحابه؛ لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه أن يعصمه من الناس. وفيه: أن هذه القضية كانت سبب نزول هذه الآية. وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا أسود بن عامر، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: (كنا إذا نزلنا طلبنا للنبى أعظم شجرة وظلها، قال: فنزلنا تحت

(5/100)


شجرة، فجاء رجل وأخذ سيفه فقال: يا محمد، من يعصمك منى؟ قال: الله؛ فأنزل الله: (والله يعصمك من الناس (. وفيه: أن حراسة الإمام فى القائلة والليل من الواجب على الناس، وأن تضييعه من المنكر والخطأ. وفيه: دعاء الإمام لأتباعه إذا أنكر شخصًا وشكوى من أنكره إليهم. وفيه: ترك الإمام معاقبة من جفا عليه وتوعده إن شاء، والعفو عنه إن أحب. وفيه: صبر الرسول وحلمه وصفحه عن الجهال. وفيه: شجاعته وبأسه وثبات نفسه صلى الله عليه ويقينه أن الله ينصره ويظهره على الدين كله. وقوله: (فشام السيف) يعنى: أغمده. وشامه أيضًا: سله وهو من الأضداد.
81 - باب لُبْسِ الْبَيْضَةِ
757 / فيه: سَهْل، جُرْحِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ. . . . الحديث. هذه الأبواب كلها التى ذكرت فيها آلات الحرب وأنواع السلاح وأن الرسول وأصحابه استعملوها واتخذوها للحرب وإن كان الله قد وعدهم بالنصر وإظهار الدين فليكون ذلك سنة للمؤمنين؛ إذ الحرب سجال مرة لنا ومرة علينا، وقد أمر باتخاذها فى قوله: (وأعدوا

(5/101)


لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فأخبر أن السلاح فيها إرهاب العدو، وفيها أيضًا تقوية لقلوب المؤمنين من أجل أن الله تعالى جبلها على الضعف، وإن كانت السلاح لا تمنع المنية لكن فيها تقوية للقلوب وأنس لمتخذيها.
82 - باب مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ
758 / فيه: عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِلا سِلاحَهُ، وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَأَرْضًا صَدَقَةً. قال المهلب: كان أهل الجاهلية إذا مات سلطانهم أو رئيسهم عهد بكسر سلاحه وحرق متاعه وعقر دوابه، فخالف الرسول فعلهم وترك بغلته وسلاحه وأرضه غير معهود فيها بشيء إلا صدقة فى سبيل الله.
83 - باب مَا قِيلَ فِى الرِّمَاحِ
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى) . 1759 / فيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ رَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا، فَأَخَذَهُ. . . . الحديث. قال المؤلف: ومعنى هذا كالأبواب التى قبله أن الرمح كان من آلات النبى للحرب ومن آلات أصحابه، وأنه من مهم السلاح وشريف

(5/102)


القدر؛ لقول الرسول: (جعل رزقى تحت ظل رمحي) وهذه إشارة منه لتفضيله والحض على اتخاذه والاقتداء به فى ذلك. قال المهلب: وفيه أن الرسول خص بإحلال الغنائم وأن رزقه منها بخلاف ما كانت الأنبياء قبله عليه، وخص بالنصر على من خالفه، ونصر بالرعب وجعلت كلمة الله هى العليا، ومن اتبعها هم الأعلون، وإنما ثقف المخالفون لأمره إلا بحبل من الله وهو العهد، باءوا بغضب من الله وضربت عليهم الذلة والصغار وهى الجزية، والله الموفق.
84 - باب مَا قِيلَ فِى دِرْعِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَالْقَمِيصِ فِى الْحَرْب
ِ 1760 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى قُبَّةٍ يوم بدر: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ) ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ فِى الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (الآية [القمر: 45] . 1761 / وفيه: عَائِشَةَ، تُوُفِّىَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِىٍّ. 1762 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ) ، وذكر الحديث. قال المهلب: فيه اتخاذ الدرع والقتال فيه. وفيه دليل على أن نفوس البشر لا يرتفع عنها الخوف والإشفاق جملة واحدة؛ لأن الرسول قد كان وعده الله بالنصر وهو الوعد

(5/103)


الذى نشده، وكذلك قال الله عن موسى حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم فأخبر بعد أن أعلمه أنه ناصره وأنه معهما يسمع ويرى فقال تعالى: (فأوجس فى نفسه خيفة موسى (وإنما هى طوارق من الشياطين يخوف بها النفوس ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة. وقوله: (اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك) : اللهم إنى أسألك إنجاز وعدك وإتمامه بإظهار دينك وإعلاء كلمة الإسلام الذى رضيت بظهوره على جميع الأديان، وشئت أن يعبدك أهله، ولم تشأ ألا تعبد، فتمم ما شئت كونه؛ فإن الأمور كلها بيدك. وقوله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) فيه تأنيس من استبطأ كريم ما وعد الله به من النصر بالبشرى لهم بهزم حزب الشيطان وتذكيرهم بما يثبتهم به من كتابه. وفيه فضل أبى بكر الصديق ويقينه بما وعد الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) ولذلك سماه الصديق، وقد تقدم القول فى حديث عائشة فى كتاب الزكاة.
85 - باب الْحَرِيرِ فِى الْحَرْبِ
763 / فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِى قَمِيصٍ حَرِيرٍ لحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا. وَقَالَ مرة: لقَمْلَ، فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِى الْحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِى غَزَاةٍ. اختلف السلف فى لباس الحرير فى الحرب، فأجازته طائفة وكرهته

(5/104)


طائفة، فممن كرهه عمر بن الخطاب، وروى مثله عن ابن محيريز وعكرمة وابن سرين وقالوا: كراهيته فيى الحرب أشد لما يرجون من الشهادة، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، وقال مالك: ما علمت أحدًا يقتدى به لبسه فى الغزو. وممن أجازه فى الحرب: روى معمر، عن ثابت قال: رأيت أنس بن مالك يلبس الديباج فى فزعة فزعها الناس. وقال أبو فرقد: رأيت على تجافيف أبى موسى الديباج والحرير. وقال عطاء: الديباج فى الحرب سلاح. وأجازه عروة والحسن البصرى، وهو قول أبى يوسف والشافعي. وذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه استحب الحرير فى الجهاد والصلاة به حينئذ للترهيب على العدو والمباهاة، وفى مختصر ابن شعبان، عن ابن الماجشون، عن مالك مثل ما ذكره ابن حبيب. وقال الطبرى: أما الذين كرهوا لباسه فى الحرب وغيره فإنهم جعلوا النهى عنه عامًا فى كل حال. والذين رخصوا فى لباسه فى الحرب احتجوا بترخيصه (صلى الله عليه وسلم) لعبد الرحمن بن عوف والزبير فى لباسه للحكة والقمل، فبان بذلك أن من قصد بلبسه إلى دفع ما هو أعظم عليه من أذى الحكة، كأسلحة العدو المريد نفس لابسه بنبلٍٍ ونشاب، ولبسه، فله من ذلك نظير الذى كان لعبد الرحمن والزبير لسبب الحكة، أيضًا ما حدثنا به أبو كريب، حدثنا أبو خالد وعبدة ابن سليمان، عن حجاج، عن أبى عثمان ختن عطاء عن أسماء، قال: (أخرجت إلينا جبة مزررة بالديباج، وقالت: كان رسول الله يلبسها فى الحرب) .

(5/105)


قال المهلب: ولباسه فى الحرب من باب الإرهاب على العدو، وكذلك ما رخص فيه من تحلية السيوف وكل ما استعمل فى الحرب هو من هذا الباب. ويدل على أن أفضل ما استعمل فى قتل العدو [. . . . .] فى قذف الرعب والخشية فى قلوبهم، وكذلك رخص فى الاختيال فى الحرب، وقال (صلى الله عليه وسلم) لأبى دجانة وهو يتبختر فى مشيته: (إنها لمشية يبغضها الله إلا فى هذا الموضع) لما فى ذلك من الإرهاب على أعداء الله، وقام الدليل من هذا على أن حسن الرأى وجودة التدبير من الرجل الواحد يشير به فى قتال العدو وقد يكون [. . . .] من الشجاعة [. . . .] العساكر العظام.
86 - باب مَا قيل فِى السِّكِّينِ
764 / فيه: عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، رَأَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَأْكُلُ مِنْ كَتِفٍ يَحْتَزُّ مِنْهَا، ثُمَّ دُعِىَ إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وألقى السِّكَينِ. ليس فيه أكثر من استعمال السكين وأنه معروف عندهم اتخاذه واستعماله.
87 - باب مَا قِيلَ فِى قِتَالِ الرُّومِ
765 / فيه: عُمَيْرَ بْنَ الأسْوَدِ الْعَنْسِىَّ عن أُمُّ حَرَامٍ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (تَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا) ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فِيهِمْ؟

(5/106)


قَالَ: (أَنْتِ فِيهِمْ) ، ثُمَّ قَالَ: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِى يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ) ، قُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: (لا) . قال المهلب: من هذا الحديث فضل لمعاوية؛ لأنه أول من غزا الروم وابنه يزيد غزا مدينة قيصر. وعمير بن الأسود العنسى منسوب إلى قبيلة من العرب يقال لهم: بنو عنس بالكوفة، والعيش بالبصرة، وفى أخرى: ولا [. . . . .] .
88 - باب قِتَالِ الْيَهُودِ
766 / فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِىَء أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِىٌّ وَرَائِى، فَاقْتُلْهُ) . 1767 / وقا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ. . . . .) الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث دليل على ظهور الآيات بتكلم الجماد وما شاكله عند نزول عيسى ابن مريم الذى يستأصل الدجال واليهود معه. وفيه دليل على بقاء دين محمد ودعوته بعد نزول عيسى ابن مريم لقوله: (تقاتلوا) ولا يكونوا مخاطبين بالقتال إلا وهم على دينهم لجواز علم النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الذين يقاتلون الدجال غير من يخاطب بالحضرة، لكن خاطب من بالحضرة لمجيء من بعدهم

(5/107)


على مذهبهم، وهذا فى كتاب الله كثير خاطب من الحضرة ما يلزم الغائبين الذين لم يخلقوا بعد. وفيه جواز مخاطبة من لا يسمع الخطاب، ومخاطبة من قد يجوز منه الاستماع يومًا ما.
89 - باب قِتَالِ التُّرْكِ
768 / فيه: عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) : (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُون قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُون قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ) . 1769 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ، صِغَارَ الأعْيُنِ، حُمْرَ الْوُجُوهِ، ذُلْفَ الأنُوفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ) . قال المهلب: فيه علامة للنبوة وأنه سيبلغ ملك أمته غاية المشارق التى فيها هؤلاء القوم على ما ذكر فى غير هذا الحديث، وكذلك خلقة وجوههم بالعيان عريضة، وسائر ما وصفهم به كما وصفهم. وفيه التشبيه للشيء بغيره إذا كان فيه شبه منه من جهة ما، وإن خالف فى غير ذلك. قال صاحب الأفعال: المجان جمع مجن وهى الترسة، ويقال: أطرقت النعل والترس: أطبقتها. وقال صاحب العين: الذلف: غلظ واستواء فى طرف الأنف.

(5/108)


90 - باب: من صف أصحابه عند الهزيمة ونزول عن دابته واستنصر
770 / فيه: الْبَرَاءَ، سَأَلَهُ رَجُلٌ أَكُنْتُمْ فَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَكِنّ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلاحٍ، فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِى نَصْرٍ، مَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا، مَا يَكَادُو يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إِلَى الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا النّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ. قال المهلب: فيه الترجمة، وتثبيت من بقى مع الإمام، ونزول الرسول عن بغلته إنما كان لتثبيت الرجالة الباقين معه، وليتأسوا به فى استواء الحال، فكذلك يجب على كل إمام إذا ولى أصحابه وبقى فى قلة منهم إن أخذ على نفسه بالشدة أن يفعل ما فعل (صلى الله عليه وسلم) من النزول، وإن لم يكن له نية يأخذ بالشدة، فليكن انهزامه يتحيز مع فئة من قومه إلى فئة أخرى يروم تثبيتهم، وهذا الحديث يبين أن المنهزمين يوم حنين لم يكونوا جميع الصحابة وأن بعضهم بقى مع النبى (صلى الله عليه وسلم) غير منهزمين. قال الطبرى: وفيه البيان عما خص الله به نبينا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) من الشجاعة والنجدة؛ وذلك أن أصحابه انفلوا فانهزموا من عدوهم حتى ولوا عنهم مدبرين، كما وصفهم فى كتابه: (ثم وليتم مدبرين (فكان أصحابه وهم زهاء عشرة آلاف أو أكثر مدبرين

(5/109)


انهزامًا من المشركين وهو فى نفر من أهله قليلين متقدم تلقاء العدو وقتالهم جاد فى النظر نحوهم، غير مستأخر، غير مدبر، والعدو من العدد فى مثل السيل والليل. فإن قيل: قد انهزم من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) من انهزم عنه، والفرار من الزحف كبيرة، فكيف فعل ذلك أصحابه؟ قال الطبرى: والجواب أن الفرار المكروه الذى وعد الله عليه الانتقام: الانهزام على نية ترك العود لقتالهم إذا وجدوا قوة. وأما الاستطراد للكرة أو التحيز إلى فئة عند قهر العدو المسلمين لمكيدة أو كثرة عدد فليس ذلك من الفرار الذى توعد الله المؤمنين عليه، ولو كان ذلك فرارًا لكان القوم يوم حنين قد استحقوا من الله الوعيد وذلك أنه تعالى أخبر عنهم أنهم ولوا مدبرين بقوله: (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (فولوا عن رسول الله وهم أكثر ما كانوا عددًا وأتم سلاحًا، لم يوجب لهم غضبه بل قال: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها (ولو كان إدبارهم يومئذ على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة؛ لكانوا قد استحقوا وعيده تعالى. وبمثل ما قلناه قال السلف، روى داود، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد فى قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره (قال: كان ذلك يوم بدر ولم يكن لهم يومئذ أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذ مسلم على وجه الأرض غيرهم، وقال الضحاك: إنما كان الفرار يوم بدر ولم يكن لهم ملجأ يلجئون إليه،

(5/110)


وأما اليوم فليس فرار. وقال ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قال عمر بالمدينة: وأنا فئة كل مسلم. وسئل الحسن البصرى عن الفرار من الزحف فقال: والله لو أن أهل سمرقند انحازوا إلينا لكنا فئتهم.
91 - باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة
771 / فيه: عَلِىّ، لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأحْزَابِ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَلأ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ) . 1772 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَدْعُو فِى الْقُنُوتِ: (اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ) . 1773 / وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى: دَعَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ الأحْزَابِ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ) . 1774 / وفيه: ابْن مسعود، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فجاء أَبُو جَهْلٍ وَنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، بسلا جَزُورٌ فَطَرَحُوهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) ، ثلاثًا، وسمى اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأبِى جَهْلِ. . .) . وذكر الحديث. 1775 / وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَلَعَنْتُهُمْ، فَقَالَ: (مَا لَكِ) ؟ فَقُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَ لَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ) . قال المهلب: قد تقدم القول فى الصلاة الوسطى أنها الصبح على الحقيقة، وأنها العصر بالتشبيه بها. وقوله: (شغلونا) فهذا شغل لا يمكن ترك القتال له على حسب الاستطاعة له من الإيماء والإقبال والإدبار والمطاعنة والمسابقة لكن لهذا وجهان:

(5/111)


أحدهما: أن صلاة الخوف لم تكن نزلت بعد، وفى الآية بها إباحة الصلاة على حسب القدرة والإمكان، وفى هذا الوقت لم يكن مباح لهم الإتيان بها إلا على أكمل أوصافها؛ فلذلك شغلوا عنها بالقتال، وهذا الشغل كان شديدًا عليهم حتى لا يمكن أحد منهم أن يشتغل بغير المدافعة والمقاتلة. والمعنى الآخر: أن يكونوا على غير وضوء؛ فلذلك لم يمكنهم ترك القتال لطلب الماء وتناول الوضوء؛ لأن الله لا يقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وأما دعاؤه (صلى الله عليه وسلم) على قوم ودعاؤه لآخرين بالتوبة؛ فإنما كان على حسب ما كانت ذنوبهم فى نفسه (صلى الله عليه وسلم) ، فكان يدعو على من اشتد أذاه للمسلمين وكان يدعو لمن يرجى نزوعه ورجوعه إليهم كما دعا لدوس حين قيل له: إن دوسًا قد عصت وأبت ولم تكن لهم نكاية ولا أذى، فقال: (اللهم اهد دوسًا وائت بهم) وأما هؤلاء فدعا عليهم لقتلهم المسلمين، فأجيبت دعوته فيهم، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الاستسقاء، وسيأتى أيضًا فى كتاب الدعاء باب: (الدعاء على المشركين) مستقصى فيه القول إن شاء الله.
92 - باب: هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب؟
776 / فيه: ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّينَ) . قال المؤلف: إرشاد أهل الكتاب ودعاؤهم إلى الإسلام على الإمام، وأما تعليمهم الكتاب فاستدل الكوفيون على جوازه بكتابة النبى إليهم آية من كتاب الله بالعربية، فعلمهم كيف حروف العربية وكيف تأليفها وكيف إيصال ما اتصال من الحروف، وانقطاع ما انقطع منها

(5/112)


قالوا: فهذا تعليم لهم؛ لأنهم لم يقرءوا حتى ترجم لهم، وفى الترجمة تعريف ما يوافق من حروفها حروفهم وما يعبر عنه، ألا ترى أن فى أسماء الطير فى نظير أبيات الشعر تعليمًا للكتاب فضلا عن الحروف التى هى بنغمتها تدل على أمثالها، وأسماء الطير لا يفهم منها نغمة وينفك منها الكلام، قاله المهلب. وإلى هذا المعنى ذهب أبو حنيفة فقال: لا بأس بتعليم الحربى والذمى القرآن والعلم والفقه رجاء أن يرغبوا فى الإسلام، وهو أحد قولى الشافعي. وقال مالك: لا يعلمون الكتاب ولا القرآن، وهو قول الشافعى الآخر، واحتج الطحاوى لأصحابه بكتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل بآية من القرآن وبما رواه حماده بن سلمة، عن حبيب المعلم قال: سألت الحسن: أعلم أهل الذمة القرآن؟ قال: نعم، أليس يقرءون التوراة والإنجيل وهو كتاب الله؟ واحتج الطحاوى بقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله (. قالوا: وقد روى أسامة بن زيد (أن رسول الله مر على مجلس فيه عبد الله بن أبى قبل أن يسلم وفى المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فقرأ عليهم القرآن) . وحجة مالك قوله تعالى: (إنما المشركون نجس (وقد نهى الرسول أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، وكره مالك أن يشترى من أهل الكفر فيعطوا دراهم فيها اسم الله، وكره إذا كان صيرفى يهودى أو نصرانى أن يصرف منهم. وقال الطحاوى: يكره أن يعطى الكافر الدراهم فيها القرآن؛ لأنه لا يغتسل من الجنابة فهو كالجنب يمس المصحف فيكره أن يعطاه،

(5/113)


والدراهم على عهد الرسول لم يكن عليها قرآن وإنما ضربت فى أيام عبد الملك. وقال غيره: وفى كتاب الرسول آية من القرآن؛ ففيه جواز مباشرة الكفار صحائف القرآن إذا احتيج إلى ذلك.
93 - باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم
777 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِىُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ) . كان الرسول يحب دخول الناس فى الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع فى إجابتهم إلى الإسلام، بل كان يدعو لمن كان يرجو منه الإنابة، ومن لا يرجوه ويخشى ضره وشوكته يدعو عليه، كما دعا عليهم بسنين كسنى يوسف، ودعا على صناديد قريش، لكثرة أذاهم وعداوتهم، فأجيبت دعوته فيهم، فقتلوا ببدر، كما أسلم كثير ممن دعا له بالهدى.
94 - باب: دعوة اليهود والنصارى وعلى ما يقاتلون عليه وما كتب الرسول إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال
778 / فيه: أَنَس لَمَّا أَرَادَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِى يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. 1779 / وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، فَأَمَرَهُ أَنْ

(5/114)


يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى خَرَّقَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمُ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. قال المهلب: فيه ما دعا الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى قيصر، كتب إليه يدعوه بدعاية الإسلام: (أسلم تسلم) ، فهذا الذى يقاتلون عليه، والدعوة لازمة إذا لم تبلغهم، وإذا بلغتهم فلا يلزم، فإن شاء أن يكرر ذلك عليهم، وإن شاء أن يطلب غرتهم فعل، وإنما كانوا لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا؛ لأنهم كانوا يكرهون أن يقرأ الكتاب إليهم غيرهم وأن يكون مباحًا لسواهم فكانوا يأنفون من إهماله، وقد قيل فى تأويل قوله: (كتاب كريم (أنه مختوم، فأخذ (صلى الله عليه وسلم) بأرفع الأحوال التى بلغته عنهم، واتخذ خاتما ونقش فيه: محمد رسول الله، وعهد ألا ينقش أحد مثله، فصارت خواتيم الأئمة والحكام سنة لا يفتات عليهم فيها لا يتسور فى اصطناع مثلها، وتخريق الكتاب من التهاون بأمر النبوة والاستهزاء بها؛ فلذلك دعا عليهم بالتمزيق فأجيب، والاستهزاء من الكبائر العظيمة إذا كان فى الدين، وهو من باب الكفر، ويقتل المستهزىء بالدين؛ لأن الله أخبر عن الاستهزاء أنه كفر فقال: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم (.

(5/115)


95 - باب دُعَاءِ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، النَّاسَ إِلَى الإسْلامِ وَالنُّبُوَّةِ وَألاَّ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا
وَقَوْلِهِ: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ) [آل عمران: 79] الآيَةِ. 1780 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإسْلامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِىِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، فقرئ، فَإِذَا فيه: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأرِيسِيِّينَ وَ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (الحديث) . 1781 / فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِيّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ خَيْبَرَ: (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ) ، فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: (أَيْنَ عَلِىٌّ) ؟ قِيلَ: يَشْتَكِى عَيْنَيْهِ، فَأَمَرَ، فَدُعِىَ لَهُ، فَبَصَقَ فِى عَيْنَيْهِ، فَبَرَأَ مَكَانَهُ، [حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَىْءٌ] ، فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: (عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لأنْ يُهْدَى اللَّه بِكَ رَجُلاً وَاحِدً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) . 1782 / وفيه: أَنَس، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ، فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فقالوا: محمد،

(5/116)


والله: مُحَمَّدٌ، وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ) فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ () [الصافات: 177] . 1783 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ ذلك، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ) . فى هذا الباب الدعاء إلى الإسلام بالمكاتبة وبعثة الرسول، واستحب العلماء أن يدعى الكافر إلى الإسلام قبل القتال، فقال مالك: أما من قربت داره منا فلا يدعون؛ لعلمهم بالدعوة ولتأمين غرتهم، ومن بعدت داره وخيف ألا تبلغه فالدعوة أقطع للشك. وذكر ابن المنذر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى جعونة وأمره على الدروب أن يدعوهم قبل أن يقاتلهم، وأباح أكثر أهل العلم قتالهم قبل أن يدعوا؛ لأنهم قد بلغهم الدعوة، هذا قول الحسن البصرى والنخعى وربيعة والليث وأبى حنيفة والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، قال الثورى: ويدعون أحسن. واحتج الليث والشافعى بقتل ابن أبى الحقيق، وكعب بن الأشرف، وذكر ابن القصار عن أبى حنيفة: إن بلغتهم الدعوة فحسن أن يدعوهم الإمام إلى الإسلام أو أداء الجزية قبل القتال. قال: ولا بأس أن يغيروا عليهم بغير دعوة. وقال الشافعى: لا أعلم أحدًا من المشركين لم تبلغه الدعوة اليوم إلا أن يكون خلف الغور، والترك أمة لم تبلغهم، فلا يقاتلوا حتى يدعوا، ومن قتل منهم قبل ذلك فعلى قاتله الدية. وقال أبو حنيفة: لا شيء عليه. قال الطحاوى: قد لبث الرسول بعد النبوة سنين يدعو الناس إلى الإسلام، ويقيم عليهم الحجج والبراهين كما أمره الله بقوله: (ادفع

(5/117)


بالتى هى أحسن (وقوله تعالى: (فاعف عنهم واصفح (ثن أنزل الله بعد ذلك: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه (فأباح قتال من قاتله، ولم يبح قتال من لم يقاتله، وكان الإسلام ينتشر فى ذلك وتقوم الحجة به على من لم يكن علمه، ثم أنزل الله بعد ذلك: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار (قاتلوكم قبل ذلك أم لا، فكان فى ذلك زيادة فى انتشار الإسلام، ثم أنزل عليه: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة (فأمر بقتالهم كافة حتى يكون الدين كله لله. وقد تقدمت معرفة الناس جميعًا بالإسلام وعلموا منابذته (صلى الله عليه وسلم) أهل الأديان، ولم يذكر فى شيء من الآى التى أمر فيها بالقتال دعاء من أمر بقتالهم؛ لأنهم قد علموا خلافهم له وما يدعوهم إليه، واحتج لهذا القول بحديث أنس أنه كان (صلى الله عليه وسلم) إذا سمع أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أذانًا أغار بعد ما أصبح، فهذا يدل أنه كان لا يدعو. وذهب من استحب دعوتهم قبل القتال إلى حديث على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال له: (على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم) . وقال أهل القول الأول: هذا يحتمل أن يكون فى أول الإسلام فى قوم لم تبلغهم الدعوة، ولم يدروا ما يدعون إليه فأمر بالدعاء ليكون ذلك تبليغًا لهم وإعلامًا، ثم أمر بالغارة على آخرين فلم يكن ذلك إلا لمعنى لم يحتاجوا معه إلى الدعاء؛ لأنهم قد علموا ما يدعون إليه وما لو أجابوا إليه لم يقاتلوا فلا معنى للدعاء، واحتجوا بحديث ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فقال: إنما كان ذلك فى أول الإسلام قد أغار رسول الله على بنى المصطلق وهم

(5/118)


غارون فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث، حدثنى بذلك ابن عمر وكان فى الجيش، وبما رواه الزهرى، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله: (أغر على أبنى صباحًا وحرق) . قال المهلب: وفى حديث أنس الحكم بالدليل فى الأبشار والأموال، ألا ترى أنه حقن دماء من سمع من دارهم الأذان، واستدل بذلك على صدق دعواهم للإيمان. قال الطبرى: فيه البيان عن حجة قول من أنكر على غزاة المسلمين بيات من لم يعرفوا حاله من أهل الحصون حتى يصبحوا فيتبين حالهم بالأذان ويعلموا هل بلغتهم الدعوة أم لا؟ فإن كانوا ممن بلغتهم ولم يعلموا أمسلمين هم أم أهل صلح أو حرب، فلا يغيروا حتى يصبحوا، فإن سمعوا أذانا من حصنهم كان من الحق عليهم الكف عنهم، وإن لم يسمعوا أذانا وكانوا أهل حرب أغاروا عليهم إن شاءوا. فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث الصعب بن جثامة (أن الرسول سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون ليلا ويصاب من نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم) . وفى هذا إباحة البيات وحديث أنس بخلاف ذلك. قيل: كل ذلك صحيح ولا يفسد أحدهما معنى الآخر، وذلك أن

(5/119)


حديث الصعب فيمن بلغته الدعوة ولا يشك فى حاله من أهل الحرب فإنه يجوز بياتهم، وإنما الذى ينتظر بهم الصباح لا ستبراء حالهم بالأذان أو غيره من شعار أهل الإسلام من التبس أمره ولم يعرف حاله فعلى هذا يحمل حديث أنس. وقولهم: (محمد والخميس) يعنون: الجيش، ومعنى الكلام: هذا محمد وجيشه، أو قد جاء محمد وجيشه وإنما سمى: خميسًا؛ لأنه يخمس ما يجد من شيء. وقال الطحاوى: اختلف أهل العلم فى تأويل حديث أبى هريرة فذهب قوم إلى أن من قال: لا إله إلا الله فقد صار بها مسلمًا، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم واحتجوا به، وخالفهم آخرون وقالوا: لا حجة لكم فيه؛ لأن الرسول إنما كان يقاتل قومًا لا يوحدون الله فكان أحدهم إذا وحد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه وخروجه منه ولم يعلم بذلك دخوله فى الإسلام أو فى أحد الملل التى توحد الله وتكفر بجحدها مرسله وغير ذلك من الوجوه التى يكفر بها مع توحيدهم الله كاليهود والنصارى الذين يوحدون الله ولا يقرون برسوله. وفى اليهود من يقول: إن محمدًا رسول الله إلى العرب خاصة، فكان حكم هؤلاء ألا يقاتلوا إذا وقعت هذه الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم بوجوب قتالهم وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) على بن أبى طالب حين وجهه إلى خيبر وأهلها يهود بما رواه ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة (أن رسول الله لما دفع الراية إلى على حين وجهه إلى خيبر قال: امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فقال على: علام أقاتلهم؟ قال: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) .

(5/120)


ففى هذا الحديث أن النبى قد أباح له قتالهم وإن شهدوا ألا إله إلا الله حتى يشهدوا أن محمدًا رسول الله، وحتى يعلم على خروجهم من اليهود، كما أمر بقتال عبدة الأوثان حتى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه، وقد أتى قوم من اليهود إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فأقروا بنبوته ولم يدخلوا فى الإسلام فلم يقاتلهم على إبائتهم الدخول فى الإسلام، إذ لم يكونوا بذلك الإقرار عنده مسلمين. وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال أن يهوديًا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي. فقال له الآخر: لا تقل له نبى؛ فإنه إن سمعها صارت له أربعة أعين، فأتاه فسأله عن هذه الآية: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات (فقال: لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تسخبوا، تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا فى السبت؛ فقبلوا يده وقالوا: نشهد أنك نبي. قال: فما يمنعكم أن تتبعونى؟ قالوا: نخشى أن تقتلنا اليهود) فأقروا بنبوته مع توحيدهم لله ولم يكونوا بذلك مسلمين. فثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعانى التى تدل على الدخول فى الإسلام وترك سائر الملل. وروى ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس (أن رسول الله قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ فإذا شهدوا بذلك وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا؛ حرمت علينا

(5/121)


دماؤهم وأموالهم إلا بحقها) قال: وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد. قال الطحاوى: فالحديث الأول الذى فيه توحيد الله خاصة هو المعنى الذى يكف به عن القتال حتى يعلم ما أراد به قائله الإسلام أو غيره، حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد. وقال الطبرى نحوًا من ذلك، وزاد فقال: أما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا منى دماءهم وأموالهم. . .) الحديث، فإنه (صلى الله عليه وسلم) قائله فى حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بتوحيد الله، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (. فدعاهم الرسول إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان فى الظاهر داخلا فى صبغة الإسلام، ثم قال: آخرون من أهل الكفر كانوا يوحدون الله غير أنهم كانوا ينكرون نبوة محمد، فقال (صلى الله عليه وسلم) فى هؤلاء: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويشهدوا أن محمدًا رسول الله) فإسلام هؤلاء: الإقرار بما كانوا به جاحدين كما كان إسلام الآخرين إقرارهم بالله أنه واحد لا شريك له، وعلى هذا تحمل الأحاديث.
96 - باب: من أراد غزوة فورى بغيرها ومن أراد الخروج يوم الخميس
784 / فيه: كَعْب، أن الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يكنّ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَغَزَاهَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى حَرٍّ

(5/122)


شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِى يُرِيدُ. وَقَلَّمَا كَانَ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَخْرُجُ فِى سَفَرٍ إِلا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وخَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ. قال المهلب: فيه المكايدة فى الحرب، وطلب غرة العدو، وفيه جواز الكلام بغير نية للإمام وغيره إذا لم يضر بذلك أحدًا وكان فيه نفع للمسلمين خاصة وعامة فهو جائز وهو خارج من باب الكذب وأخبرهم (صلى الله عليه وسلم) بغزوة تبوك لطول المدة؛ ليتأهبوا كما ذكر فى الحديث، ولأنه آمن ألا يسبقه إليها الخبر لبعد الشقة التى بينه وبينها وقفرها، وخروجه يوم الخميس لمعنى يجب أن يحمل عليه ويتبرك به؛ لأن لنا فى رسول الله أسوة حسنة. وقوله: (ورى بغيرها) قال أبو على الفسوى: أصله من الورى كأنه قال: لم يشعر به من ورى كأنه قال: ساترت بكذا، وأصحاب الحديث لا يضبطون الهمز فيه، وتصغيره: ورية وأصله: وريية، ويسقط واحدة منهما كما قلت فى عطاء: عطى، والأصل: عطيى فتقول: وريت عن كذا وكذا بغير همز، والمفازة: المهلكة سميت بذلك تفاؤلا بالفوز والسلامة كما قالوا للديغ: سليم. وذكر ابن الأنبارى عن ابن الأعرابى، المفازة مأخوذة من قولهم: قد فوز الرجل: إذا هلك.
97 - باب: الْخُرُوجِ بَعْدَ الظُهْرِ
785 / فيه: أَنَس، أَنَّ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا.

(5/123)


فى خروج النبى إلى سفر الحج دليل على أنه لا ينبغى أن يكره السفر وابتداء العمل بعد ذهاب صدر النهار وأوله؛ إذ الأوقات كلها لله، وأن ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم بارك لأمتى فى بكورها) . لا يدل أن غير البكور لا بركة فيه؛ لأن كل ما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) - ففيه البركة ولأمته فيه أكبر الأسوة. وإنما خص (صلى الله عليه وسلم) البكور بالدعاء بالبركة فيه من بين سائر الأوقات والله أعلم - لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم وهو وقت نشاط وقيام من دعة، فخصه بالدعاء؛ لينال بركة دعوته جميع أمته. والحديث بذلك ذكره ابن المنذر قال: حدثنا سليمان بن شعيب قال: حدثنى يحيى بن حسان، حدثنا هشيم، اخبرنا يعلى بن عطاء، عن عمارة، عن صخر الغامدى قال: قال رسول الله: (اللهم بارك لأمتى فى بكورها) ، قال: وكان إذا بعث جيشًا أو سرية بعثهم أول النهار. قال: وكان صخر رجلا تاجرًا فكان إذا بعث غلمانه بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله.
98 - باب الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: انْطَلَقَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ. 1786 / فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَلا نُرَى إِلا الْحَجَّ. . . . وذكر الحديث. خروجه (صلى الله عليه وسلم) آخر الشهر بخلاف أفعال الجاهلية فى استقبالهم

(5/124)


أوائل الشهور فى الأعمال وتوجيههم ذلك وتجنبهم بفضل الشهور من أجل نقصان العمر، فبعث الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) يبيح ذلك كله ولم يراع نقصان شهر ولا ابتداؤه، ولا محاق قمر ولا كماله، فخرج فى أسفاره على حسب ما تهيأ له ولم يلتفت إلى أباطيلهم ولا طيرتهم الكاذبة، ورد أمره إلى الله، ولم يشرك معه غيره فى فعله فأيده ونصره.
99 - باب الْخُرُوجِ فِى رَمَضَانَ
787 / فيه: ابْن عَبَّاس، خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ. الخروج فى رمضان جائز، وللمسافر أن يصوم أو يفطر إن اختار ذلك بخلاف ما روى عن على بن أبى طالب أنه قال: (من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر لزمه الصوم) ؛ لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه (وبه قال أبو عبيد وأبو مجلز، وهذا القول مردود؛ لسفر الرسول فى رمضان وإفطاره فيه، وجماعة الفقهاء على خلاف قوله، وقد تقدم فى (كتاب الصيام) .
0 - باب: التَّوْدِيعِ
788 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْثٍ، وَقَالَ: (إِنْ لَقِيتُمْ فُلانًا وَفُلانًا فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ) ، فَأَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ، فَقَالَ: (إِنِّى كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلانًا وَفُلانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا) .

(5/125)


قال المهلب: الترجمة صحيحة وهو من الشأن المعلوم فى البعوث والأسفار البعيدة توديع المسافر و [. . . . .] والأئمة ومن ترجى بركة دعوته واستصحاب فضله، وسيأتى الكلام على النهى عن التحريق بالنار فى باب (لا يعذب بعذاب الله) بعد هذا فى الجزء الذى يليه إن شاء الله.
1 - باب: السّمْعِ وَالطَّاعَةِ للإِمَام مَا لَمْ يَأْمُر بِمَعْصِيَةٍ
789 / فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ) . قال المؤلف: احتج بهذا الحديث الخوارج ورأوا الخروج على أثمة الجور والقيام عليهم عند ظهور جورهم، والذى عليه جمهور الأمة أنه لا يجب القيام عليهم ولا خلعهم إلا بكفرهم بعد الإيمان وتركهم إقامة الصلوات، وأما دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج عليهم إذا استوطأ أمرهم وأمر الناس معهم؛ لأن فى ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفى القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتت الألفة. وكذلك لا يجوز القتال معهم لمن خرج عليهم عن ظلم ظهر منهم؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) . وقال (صلى الله عليه وسلم) : (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق) . وذكر على بن سعيد فى كتاب (الطاعة والمعصية) حديثًا أسنده إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم،

(5/126)


وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم. قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا فمن ولى عليه وال فأتى شيئًا من المعاصى فليكره ما يأتى من معصية الله، ولا ينزعن يدًا عن طاعة) يعنى: لا يخرجن عليه. وروى الآجرى، عن البغوى، عن القواريرى: حدثنا حكيم بن حزام وكان من عباد الله الصالحين حدثنا عبد الملك بن عمير، عن الربيع بن عميلة، عن ابن مسعود عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (سيليكم أمراء يفسدون، وما يصلح الله بهم أكثر، فمن عمل منهم بطاعة الله فله الأجر وعليكم الشكر، ومن عمل منهم بمعصية الله فعليه الوزر وعليكم الصبر) وسيأتى شيء من هذا المعنى فى (كتاب الأحكام) وفى (كتاب الفتن) إن شاء الله.
2 - باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به
790 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) . 1791 / وبهذا الإسناد: (مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِى، وَمَنْ يَعْصِ الأمِيرَ فَقَدْ عَصَانِى، وَإِنَّمَا الإمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ) . قال المهلب: قوله: (من وراء الإمام) يعنى: من أمام الإمام كما قال تعالى: (وكان وراءهم ملك (أى: أمامهم، وقوله:

(5/127)


(يتقى به) أى: يرجع إليه فى الرأى والفعل وغير ذلك مما لا يجب أن يقضى فيه إلا برأى الإمام وحكمه، ويتقى به الخطأ فى الدين والعمل من الشبهات وغيرها، والإمام جنة بين الناس بعضهم من بعض؛ لأن بالسطان نزع الله تعالى عن المستضعفين من الناس فهو ستر لهم، وحرز الأموال، وسائر حرمات المؤمنين أن تنتهك. وقال غيره: تأويل: (يقاتل من ورائه) عند العلماء على الخصوص وهو فى الإمام العدل خاصة، فمن خرج عليه وجب على جميع المسلمين قتاله مع الإمام العدل؛ نصرة له إلا أن يرى الإمام أن يفعل ما فعل عثمان فطاعة الإمام واجبة، إلا أن الخارجين عليه إن قتلوه فى غير قتال اجتمعت فيه الفئتان للقتال أو قتلوا غيره؛ فإن القصاص يلزمهم بخلاف قتلهم لأحد فى حال الملاقاة للفئتين. ولذلك استجاز المسلمون طلب دم عثمان؛ إذ لم يكن قتله عن ملاقاة، وإن كان الإمام غير عدل فالواجب عند العلماء من أهل السنة ترك الخرج عليه وأن يقيموا معه الحدود: الصلوات، والحج، والجهاد، وتؤدى إليه الزكوات، فمن قام عليه من الناس متأولا بمذهب خالف فيه السنة أو لجور أو لاختيار إمام غيره سمى فاسقًا ظالمًا غاصبًا فى خروجه لتفريقه جماعة المسلمين، ولما يكون فى ذلك من سفك الدماء. فإن قاتلهم الإمام الجائر لم يقاتلوا معه ولم يجز أن يسفكوا دماءهم فى نصره، وقد رأى كثير من الصحابة ترك القتال مع على، ومكانه من الدين والعلم ما لا يخفى على أحد له مسكة فهم، وسموه قتال فتنة، وادعاء كل واحد على صاحبه أنه الفئة الباغية، وهذا شأن العصبية عند أهل العلم. ولم ير علىّ على من قعد عن القتال معه ذنبًا يوجب سخطه حاله،

(5/128)


وإن كان قد دعا بعضهم إلى القتال، فأبوا أن يجيبوه فعذرهم، وكذلك يجب على الإمام الصالح الذى يأخذ الأمر عن شورى ألا يعتب من قعد عنه، وسنوضح كيف القتال فى الفتنة فى موضعه من (كتاب الفتنة) إن شاء الله. وقال صاحب العين: الجنة: الدرع، وسمى المجن: مجنًا؛ لأنه يستتر به عند القتال. وقوله: (فإن عليه منه) كذا روى الحديث، وقد جاء فى بعض طرقه (فإن عليه منه وزرًا) وهو مفهوم المعنى.
3 - باب الْبَيْعَةِ فِى الْحَرْبِ أَلاّ يَفِرُّوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لَقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: 18] . 1792 / فيه: ابْنُ عُمَرَ، رَجَعْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِى بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ. فَسَأَلْتُ نَافِعًا عَلَى أَىِّ شَىْءٍ بَايَعَهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ؟ قَالَ: لا، بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ. 1793 / وفيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْمَوْتِ، فَقَالَ: لا أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) . 1794 / وفيه: مَسْلَمَةَ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ شَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ، قَالَ: (يَا ابْنَ الأكْوَعِ، أَلا تُبَايِعُ) ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَأَيْضًا، فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَىِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ.

(5/129)


95 / وفيه: أَنَس، كَانَتِ الأنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، تَقُولُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا فَأَجَابَهُمُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَهْ فَأَكْرِمِ الأنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ) 1796 / وفيه: مُجَاشِعٍ بْن مسعود، أَتَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَا وَأَخِى، فَقُلْتُ: بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (مَضَتِ الْهِجْرَةُ لأهْلِهَا) ، فَقُلْتُ: عَلامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: (عَلَى الإسْلامِ وَالْجِهَادِ) . قال المهلب: هذه الأحاديث مختلفة الألفاظ، منهم من يقول على الموت، وعلى ألا يفر، وعلى الصبر، والصبر يجمع المعانى كلها وهو أولى الألفاظ بالمعنى؛ لأن بيعة الإسلام هى على الجهاد وقتال المثلين، فإن كان المشركون أكثر من المثلين كان المسلم فى سعة من أن يفر، وفى سعة أن يأخذ بالشدة ويصبر، وهذا كله بعد أن نسخ قتال العشرة أمثال، وأما قبل نسخها فكان يلزم قتال العشرة أمثال وألا يفر إلا من أكثر منها. وبيعة الشجرة إنما هى على الأخذ بالشدة وألا يفر أصلا ولا بد من الصبر إما إلى فتح وإما إلى موت، فمن قال: بايعنا على الموت، أراد يفتح لنا، ومن قال: لا نفر. فهو نفس القصة التى وقعت عليها المبايعة، وهو معنى الصبر؛ وقول نافع: على الصبر؛ كراهية لقول من قال بأحد الطريقين: الموت أو الفتح، فجمع نافع المعنيين فى كلمة الصبر. وقوله لسلمة بن الأكوع: (ألا تبايع) أراد أن يؤكد بيعته؛ لشجاعة سلمة وغنائه فى الإسلام وشهرته بالثبات؛ فلذلك أمره بتكرير المبايعة.

(5/130)


وحديث مجاشع بن مسعود إنما كان بعد الفتح؛ لأن الرسول قال: (لا هجرة بعد الفتح، إنما هو جهاد ونية) فكل من بايع الرسول قبل الفتح لزمه الجهاد أبدًا ما عاش إلا لعذر يجوز له به التخلف، وكذلك قالوا بحضرة رسول الله فى ارتجازهم يوم الخندق: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا وكذلك قال الله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة (فأباح لهم أن يتخلف عن الغزو من ينفر إلى التفقه فى الدين ولم يبح لغير المتفقهين التخلف عن الغزو. وأما من أسلم بعد الفتح فله أن يجاهد وله أن يتخلف بنية صالحة كما قال: (جهاد ونية) إلا أن ينزل عدو أو ضرورة فيلزم الجهاد كل أحد، والدليل على أن كل من بايع النبى (صلى الله عليه وسلم) قبل الفتح لا يجوز له التخلف عن الجهاد أبدًا قصة كعب بن مالك إذ تخلف عن تبوك مع صاحبيه هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع أنهم لم يغزوا و [. . . . .] الله ورسوله والمؤمنون عليهم وأخرجوهم من بين أظهرهم ولم يسلموا عليهم ولم يكلموهم حتى بلغت منهم العقوبة مبلغها وعلم الله إنابتهم فتاب عليهم. وأخو مجاشع بن مسعود أسمه: مجالد ابن مسعود السلمي. قوله: (فما اجتمع اثنان على الشجرة، كانت رحمة) يعنى: جهلهم بها رحمة، خشية أن تعبد وتصير كالقبلة والمسجد، وبيعة الشجرة كانت بالمدينة فرضت الحرب على المسلمين، وقد كانت بيعة العقبة بمكة على ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، على

(5/131)


ما ذكر الله فى آخر سورة الممتحنة، وذكره عبادة بن الصامت فى حديثه، ولم يفرض فى هذه البيعة حرب إنما كانت بيعة النساء، وقد تقدم بيان ذلك فى (كتاب الإيمان) فى باب (علامة الإيمان حب الأنصار) . وأما قول عبد الله بن زيد فى زمن الحرة: لا أبايع أحدًا على الموت بعد النبي. وإنما قال ذلك؛ لأنه يرى القعود فى الفتن التى بين المسلمين وترك القتال مع إحدى الطائفتين، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من السلف على ما يأتى بيانه فى (كتاب الفتنة) ، فى باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم) .
4 - باب: عزم الإمام على الناس فيما يطيقون
797 / فيه: ابْن مسعود، قَالَ: لَقَدْ سَأَلَنِى رجلٌ عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلا مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِى الْمَغَازِى، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِى أَشْيَاءَ لا نُحْصِيهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لَكَ إِلا أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَعَسَى أَنْ لا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِى أَمْرٍ إِلا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ، وَإِذَا شَكَّ فِى نَفْسِهِ شَىْءٌ سَأَلَ رَجُلا فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لا تَجِدُوهُ، وَالَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا كَالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِىَ كَدَرُهُ. قال المهلب: هذا الحديث يدل على شدة لزوم الناس طاعة الإمام ومن يستعمله الإمام؛ ألا ترى تحرج السائل لعبد الله وتعرفه كيف موقع التخلف عن أمر السلطان من السنة، وتحرج عبد الله من أن يفتيه

(5/132)


فى ذلك برخصة أو شدة، ولكن قد فسر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك فى الحديث الذى أمر فيه بعض قواده أن يجمعوا حطبًا ويوقدونها ففعلوا، فقال لهم: ادخلوها. قال بعضهم: إنما دخلنا فى الإسلام فرارًا من النار، فلم يزالوا يتمارون حتى خمدت النار وسكن غضبه فأخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذلك فقال: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا؛ إنما الطاعة فى المعروف) وقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها (يقضى على ذلك كله، وقد كان له أن يكلفها فوق وسعها فلم يفعل وتفضل فى أخذ العفو، هذا معنى الحديث. وفيه تشكى عبد الله بن مسعود قلة العلماء وتغير الزمن عما كان عليه فى وقت رسول الله. وقوله: (مؤديًا) معناه: ذو أداة وسلاح تام العدة والشكل، عن أبى عبيد. وقوله: (ما غبر من الدنيا) يعنى: بقى، والغابر هو الباقى، ومنه قوله: (إلا عجوزًا فى الغابرين (يعنى: ممن تخلف فلم تمض مع لوط. وقوله: (كالثغب) قال صاحب العين: الثغب: ما يستنقع فى صخرة، والجمع: ثغبان.

(5/133)


5 - باب
كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ) 1798 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، إِنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِى لَقِىَ فِيهَا، انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِى النَّاسِ، فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ) . قال المهلب: معنى هذا الحديث والله أعلم مفهوم من قوله: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور) فهو يستبشر بما نصره الله به من الرياح، ويرجو أن يهلك الله أعاديه بالدبور كما أهلك عادًا، وإذا أهلك عدوه بالدبور فقد نصر بها، فكان إذا لم يقاتل بالغدو وهو الوقت الذى تهب فيه الرياح، أخر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر. وقد بين هذا المعنى ما رواه قاسم بن أصبغ قال: حدثنا الحسن بن سلام السواق، قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو عمران الجونى، عن علقمة بن عبد الله المزنى، عن معقل بن يسار قال: قال النعمان بن مقرن: (شهدت القتال مع رسول الله فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر) رواه البخارى فى باب الجزية، وقال: (انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات) وأوقات الصلوات أفضل الأوقات ويستجاب فيها الدعاء، والله أعلم.

(5/134)


6 - باب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإمَامَ وقوله تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ) [النور: 62]
799 / فيه: جَابِر، غَزَوْتُ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَلاحَقَ بِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ لَنَا قَدْ أَعْيَا، فَتَخَلَّفَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَىِ الإبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ، فَقَالَ: (كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ) ؟ قُلْتُ: بِخَيْرٍ، أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى عَرُوسٌ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِى، فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ. . . . الحديث. قال المهلب: هذه الآية أصل فى أن لا يبرح أحد عن السلطان إذا جمع الناس لأمر من أمور المسلمين يحتاج فيه إلى اجتماعهم أو جهادهم عدوًا إلا بإذنه؛ لأن الله تعالى قال: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فائذن لمن شئت منهم (فعلم أن الإمام ينظر فى أمر الذى استأذنه، فإن رأى أن يأذن له أذن، وإن لم ير ذلك لم يأذن له؛ لأنه لو أبيح للناس تركه (صلى الله عليه وسلم) والانصراف عنه لدخل الخرم وانفض الجمع ويجد العدو غرة، فيثبون عليها وينتهزون الفرصة فى المسلمين. وفيه أن من كان حديث عهد بعرس أو متعلق القلب بأهله وولده فلا بأس أن يستأذن فى التعجيل عند الغفلة إلى دار الإسلام كما فعل جابر، وفى هذا المعنى حديث لداود النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال فى غزوة خرج إليها: (لا يتبعنى من ملك بضع امرأة، ولم يبن بها، أو بنى دارًا ولم يسكنها) فإنما أراد أن يخرج معه من لم يشغل نفسه بشيء من علائق الدنيا؛ ليجتهد فيما خرج له وتصدق نيته ويثبت فى

(5/135)


القتال ولا يفر؛ فيدخل الجبن على غيره ممن لا يريد الفرار، وسيأتى ما بقى من معانى هذا الباب فى (كتاب البيوع) وغيره إن شاء الله.
7 - باب: مُبَادَرةِ الإِمَامِ عِنْدَ الفَزَع
800 / فيه: أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . وترجم له باب (السرعة والركض عند الفزع) وباب (الخروج فى الفزع وحده) وترجم له باب (إذا فزعوا من الليل) وقال فيه: (فزع أهل المدينة ليلا. . .) . وقد تقدم القول فى هذه الأبواب كلها، وجملة ذلك أن الإمام ليس له أن يسخو بنفسه وينبغى له أن يشح بنفسه؛ لأن فى ذلك نظمًا للمسلمين وجمعًا لكلمتهم إلا أن يكون من أهل الغناء الشديد والنكاية القوية كما كان (صلى الله عليه وسلم) قد علم أن الله يعصمه ويؤيده ولا يخزيه فله أن يأخذ بالشدة على نفسه؛ ليقوى قلوب المسلمين وليتأسوا به فيجتهدوا.
8 - باب الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلانِ فِى السَّبِيلِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، لابْنِ عُمَرَ: أريد الْغَزْوَ، قَالَ: إِنِّى أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِى، قُلْتُ: أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَىَّ، قَالَ: إِنَّ غِنَاكَ لَكَ، وَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِى فِى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْمَالِ؛ لِيُجَاهِدُوا، ثُمَّ لا يُجَاهِدُونَ، فَمَنْ فَعَلَ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ حَتَّى نَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: إِذَا دُفِعَ إِلَيْكَ شَىْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ.

(5/136)


01 / فيه: عُمَر، حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أشْتَرِيهِ، فَقَالَ: (لا تَشْتَرِهِ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ) . 1802 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ، وَلَكِنْ لا أَجِدُ حَمُولَةً، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَىَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى) . قال المؤلف: قوله: (باب الجعائل) ، إنما أراد أن يخرج الرجل شيئًا من ماله يتطوع به فى سبيل الله كما فعل ابن عمر أو يعين به من لا مال له من الغابرين كالفرس الذى حمل عليه عمر فى سبيل الله فهذا حسن مرغب فيه، وليس من باب الجعائل التى كرهها العلماء، فقال مالك: أكره أن يؤاجر الرجل نفسه أو فرسه فى سبيل الله، وكره أن يعطيه الوالى الجعل على أن يتقدم إلى الحصن. ولا نكره الجعائل لأهل العطاء؛ لأن العطاء مأخوذ على هذا الوجه. قال مالك: لا بأس بالجعائل فى البعوث، لم يزل الناس يتجاعلون عندنا بالمدينة يجعل القاعد للخارج إذا كانوا من أهل ديوان واحد؛ لأن عليهم سد الثغور، وأصحاب أبى حنيفة يكرهون الجعائل ما كان بالمسلمين قوة أو فى بيت المال ما يفى بذلك، فإن لم تكن لهم قوة ولا مال فلا بأس أن يجهز بعضهم بعضًا على وجه المعونة لا على وجه البدل، وهذا الموضع ينبغى أن يكون وفاقًا لقول مالك. وقد روى أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عمر قال: كان القاعد يمنح الغازى، فأما أن يبيع الرجل غزوه فلا أدرى ما هو. وقال الشافعى: لا يجوز أن يغزو بجعل يأخذه من رجل، وأرده إن غزا به، وإنما أجيزه من السلطان دون غيره؛ لأنه يغزو بشيء من حقه، واحتج بأن الجهاد فرض على الكفاية، فمن فعله وقع عن فرضه فلا يجوز أن يستحق على غيره عوضًا.

(5/137)


قال ابن القصار: فيقال له: ليس كل من دخل فى شيء يتعين عليه بدخوله فيه يكون فى ابتدائه متعينًا عليه؛ ألا ترى أن المتطوع بالحج فى الابتداء ليس بواجب عليه، وإذا دخل فيه تعين فرض إتمامه عليه، وكذلك المجعول له لم يكن الجهاد متعين عليه فى الابتداء، فلما دخل فيه نائبًا عن غيره تعين عليه، إلا أنه قد سد فى جهاد العدو مسد الجاعل وناب منابه؛ فجاز له الجعل. فإن قيل: فإن المجاهد يستحق سهمًا من الغنيمة فلو وقع فعله عن غيره لم يصح ذلك، وإن وقع فعله عن نفسه لم يجب له جعل. قيل: وما يمنع من هذا؟ هو يستحق الجعل بالمعاونة ويحصل الجعل له؛ لأن المعنى المقصود من الجهاد قد حصل كما يحصل من الجاعل لو حضر، وقلنا إن المجعول له لم يتعين عليه الفرض فى الابتداء، وإنما جعل للجعل ونوى الجهاد فتعين عليه بدخوله، وقد أدى القاعد للخارج مائة دينار فى بعث فى أيام عمر، وكان مسروق يجعل عن نفسه إذا خرج البعث. قال المهلب: أما قول طاوس ومجاهد: إذا دفع إليك شيء فى سبيل الله فاصنع به ما شئت. فإنه يخرج من حديث عمر فى الفرس؛ لأنه وضع عنده للجهاد فأخذ ثمنه وانتفع به وإنما باعه الرجل؛ لأنه لم يكن حبيسًا، وإنما كان حملانًا للجهاد صدقة؛ لقول الرسول: (لا تعد فى صدقتك) . وقد روى عن ابن عباس وابن الزبير خلاف قول طاوس ومجاهد، قال ابن عباس: أنفقها فى الكراع والسلاح. وقال ابن الزبير: أنفقها فى سبيل الله. وقال النخعى: كانوا يعطون أحب إليهم من أن يأخذوا. وسيأتى تمام القول فى قصة بيع الفرس فى باب (إذا حمل

(5/138)


على فرس فرآها تباع) بعد هذا إن شاء الله وفى حديث عمر وأبى هريرة الحمل على الخيل فى سبيل الله. وقوله: (لولا أن أشق على أمتى ما تخلفت عن سرية) يريد أنهم كانوا يقتدون به فيخرجون على العسر واليسر ولا يتخلفون عنه صلى الله عليه؛ لحرصهم على اتباعه ورغبتهم فى امتثال سيرته.
9 - باب الأجِيرِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: يُقْسَمُ لِلأجِيرِ مِنَ الْمَغْنَمِ. وَأَخَذَ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ فَرَسًا عَلَى النِّصْفِ، فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَرَسِ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَخَذَ مِائَتَيْنِ، وَأَعْطَى صَاحِبَهُ مِائَتَيْنِ. 1803 / فيه: يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَحَمَلْتُ عَلَى بَكْرٍ، فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ رَجُلا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ. . . . الحديث. اختلف العلماء فى الأجير فقال مالك وأبو حنيفة: لا يسهم له. وهو قول إسحاق. وقال الشافعى: يسهم له قاتل أو لم يقاتل. وحجة مالك والكوفى قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شىء فإن لله خمسه (فجعلها للغانمين، ومن لم يقاتل عليها فليس بغانم فلا يستحق شيئًا وروى عن سلمة بن الأكوع قال: (كنت تابعًا لطلحة بن عبيد الله وأنا غلام شاب، فأعطاه رسول الله سهم الفارس والراجل جميعًا) واحتج الشافعى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الغنيمة لمن حضر الوقعة) . وهو قول أبى بكر وعمر وهو إجماع العلماء. قال المهلب: وأما حديث يعلى فليس فيه أن النبى عليه السلام

(5/139)


أسهم لأجير، وإنما حاول البخارى إثبات ذلك بالدليل؛ لأن فى الحديث جواز استئجار الحر فى الجهاد، وقد خاطب الله جماعة المؤمنين الأحرار بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه (فدخل الأجير فى هذا الخطاب؛ فوجب له سهم المجاهد الغانم لما تقدم من المخاطبة له، وأما فعل عطية بن قيس فلا يجوز عند مالك وأبى حنيفة والشافعى؛ لأنها إجارة مجهولة، فإذا وقع مثل هذا كان لصاحب لادابة كراء مثلها، وما أصاب الراكب فى المغنم فله، وأجاز الأوزاعى وأحمد بن حنبل أن يعطى فرسه على النصف فى الجهاد.
0 باب: مَا قِيلَ فِى لِوَاء النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
804 / فيه: قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ. 1805 / وفيه: سَلَمَةَ، كَانَ عَلِىٌّ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ، فَلَحِقَ بِالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِى فَتَحَهَا فِى صَبَاحِهَا، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ - أَوْ لَيَأْخُذَنَّ - غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَ يَدَيْهِ) ، فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِىٍّ، وَمَا نَرْجُوهُ، فَقَالُوا: هَذَا عَلِىٌّ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَىَ يَدَيْهِ. 1806 / وفيه: نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، أن الْعَبَّاسَ، قَالَ لِلْزُّبَيْرِ: هَاهُنَا أَمَرَكَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ. قال المهلب: فيه أن لواء الإمام ينبغى أن يكون له صاحب معلوم، وإن كان من الأنصار فهو أولى؛ للاستنان بالنبى - (صلى الله عليه وسلم) - لأن

(5/140)


قيس بن سعد كان من الأنصار، وهم الذين كانوا عاقدوا الرسول أن يقاتلوا الناس كافة حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فهم أشد الناس فى قتال العدو بعد من هاجر مع النبى - عليه السلام - وبالأنصار نادى الرسول يوم حنين أول من نادى. وفى حديث على أيضًا أن الراية لا يجب أن يحملها إلا من ولاه الإمام إياها ولا تكون فيمن أخذها إلا بولاية. وقال الطبرى: فيه الدلالة البينة على إمام المسلمين إذا وجد جيشًا أو سرية أن يؤمر عليهم أميرًا موثوقًا بنيته وبصيرته فى قتالهم ممن له بأس وعنده معرفة سياسة الجيش وتدبير الحرب، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) وجه إلى خيبر من أفضل أصحابه وأنفذهم بصيرة وغناء وأنكاهم للعدو، وجعل له لواء وراية يجتمع جيشه تحتها فيثبتوا لثباتها عند اللقاء ويرجعوا لرجعتها. وقوله: (لأعطين الراية) فعرفها بالألف واللام يدل أنها كانت من سنته - (صلى الله عليه وسلم) - فى حروبه فينبغى أن يسار بسيرته فى ذلك. وروى أن لواء النبى - (صلى الله عليه وسلم) - كان أبيض ورايته سوداء من مرط مرجل لعائشة. وقال جابر: دخل النبى مكة ولواؤه أبيض. وقال مجاهد: كان لرسول الله لواء أغبر. وروى أن راية على يوم صفين كانت حمراء مكتوب فيها: محمد رسول الله، وكانت له راية سوداء. قال المهلب: وفى حديث الزبير أن الراية لا يركزها إلا بإذن الإمام؛ لأنها علامة على الإمام ومكانه؛ فلا ينبغى بأن يتصرف فيها إلا بأمره، ومما يدل أنها ولاية قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها خالد من غير إمرة ففتح له) . فهذا نص فى ولايتها.

(5/141)


وقوله: (أراد الحج فرجل) . يريد أنه رجل شعره؛ لطول بقائه شعثًا، والله أعلم. قال الطبرى: وفى حديث على الخبر عن بعض أعلام النبوة، وذلك خبره عن الغيب الذى لا يكون مثله إلا بوحى من الله، وهو قوله: (يفتح الله على يديه) .
1 - باب قَوْلِ الرسول: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ) [آل عمران: 151]
807 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا. 1808 / وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ لما قرأ كِتَابِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصْحَابِى: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ، يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَرِ. قال المهلب قوله: (نصرت بالرعب) . هو شيء خصه الله وفضله به، لم يؤته أحدًا غيره ورأينا ذلك عيانًا، أخبرنا أبو محمد الأصيلى قال: افتتحنا برشلونة مع ابن أبى عامر، ثم صح عندنا بعد ذلك عمن أتى من القسطنطينية أنه لما اتصل بأهلها افتتاحنا برشلونة بلغ بهم الرعب إلى أن غلقوا أبواب القسطنطينية ساعة بلوغهم الخبر بها نهارًا وصاروا على صورها وهى على أكثر من شهرين. وأما قوله: (أتيت بمفاتيح خزائن الأرض) فإن العرب كانت أقل

(5/142)


الأمم أموالا فبشرهم أنها ستصير أموال كسرى وقيصر إليهم، وهم الذين يملكون الخزائن. وقوله: (وقد ذهب رسول الله وأنتم تنتثلونها) يعنى: أن رسول الله ذهب ولم ينل منها شيئًا، بل قسم ما أدرك منها بينكم وآثركم بها، ثم أنتم اليوم تنتثلونها على حسب ما وعدكم. وهذا الحديث فى معنى حديث مصعب بن عمير الذى مضى ولم يأخذ من الدنيا، زهدًا فكذلك رسول الله. وأما جوامع الكلم فهو القرآن؛ لأنه تأتى منه الآية فى معان مختلفة ولها تأويلات مختلفة، وكل يؤدى إلى [. . . .] والأخذ به، يدل على ذلك قوله تعالى: (ما فرطنا فى الكتاب من شىء (فهذا يدل أن القرآن جوامع، وبقوله: (خذ العفو واؤمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (فلو أن هذا نزل فى تدبير الدنيا والآخرة لكفاها.
2 - باب حَمْلِ الزَّادِ فِى الْغَزْوِ وقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]
809 / فيه: أَسْمَاءَ، أنها صَنَعْتُ سُفْرَةَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلا لِسِقَايَتِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا فَقُلْتُ لأبِى بَكْرٍ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلا نِطَاقِى، قَالَ: فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ، وَارْبِطِيهِ بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ وَبِالآخَرِ السُّفْرَةَ، فَفَعَلْتُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.

(5/143)


10 / وفيه: جَابِر، كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأضَاحِىِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمَدِينَةِ. 1811 / وفيه: سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ، وَهِىَ مِنْ خَيْبَرَ، وَهِىَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّوُا الْعَصْرَ، فَدَعَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِالأطْعِمَةِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَا، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَضْمَضَ، [وَمَضْمَضْنَا] ، وَصَلَّيْنَا. 1812 / وفيه: سَلَمَةَ، خَف أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) [فِى نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ] فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (نَادِ فِى النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ) ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) . قال المهلب: فيه من الفقه أخذ الزاد وتحمل ثقله فى الأسفار البعيدة لفعل خير البرية وأكرمها على الله وعلى عباده وشفيع الأمم كلها يوم القيامة، وهذا يدفع ما يدعيه أهل البطالة من الصوفية والمخرقة على الناس باسم التوكل الذى المتزودون أولى به منهم. وقوله: إن أكرم الأمم قد أملقوا بالصهباء فجمع رسول الله بقايا أزوادهم وجعلهم فيه شركاء سواء، ليس من كان له بقية منها بأولى ممن ليس له شيء. ففى هذا من الفقه أنه إذا أصاب الناس مخمصة ومجاعة أن يأمر الإمام الناس بالمواساة ويجبرهم على ذلك، على وجه النظر لهم بثمن وبغير ثمن، وقد استدل بعض الفقهاء من هذا الحديث أنه جائز للإمام عند قلة الطعام أن يأمر من عنده طعام يفضل عن قوته أن يخرجه

(5/144)


للبيع، ويجبره على ذلك لما فيه من صلاح الناس، ولم ير ذلك مالك وقال: لا يجبر الناس على إخراج الطعام فى الغلاء. وفيه من الفقه أن للإمام أن يحبس الناس فى الغزو ويصبرهم على الجوع وعلى غير زاد، ويعللهم ما أمكن حتى يتم قصده ونصبه الضلعين إنما فعله اعتبارًا لخلق الله وتعجبًا لعظيم قدرته؛ ليخبر بذلك المخبر فيتذكر بذلك السامع. وقول عمر: (ما بقاؤكم بعد إبلكم) فيه من الفقه اعتراض الوزير رأى الأمير وإن لم يشاوره الأمير؛ لأن الخطة تعطيه ذلك، وقد جعل ذلك أبو بكر الصديق فى سلب قتادة. وفيه أن الظهر عليه مدار المسافر لاسيما بالحجاز الذى الراجل فيه هالك فى أغلب أحواله إن لم يأو إلى ظهر أو صاحب ظهر؛ ليحمل له بعض مؤنته؛ ألا ترى قول عمر: (ما بقاؤكم بعد إبلكم) يعنى: أن بقاءهم يسير؛ لغلبة الهلكة على الراجل. وهذا القول من عمر أصل نهى الرسول عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر استبقاء لظهورها ليحمل المسلمين عليها وتحمل أزوادهم، وفى قوله: (ما بقاؤكم بعد إبلكم) دليل على أن الأرض تقطع مسافتها وليست تطوى المسافات كما يدعى بعض البطالين أنه يحج من قاصية من قواصى الأرض فى ثلاثة أيام أو أربعة. وهذا منتقض من وجوه، وإنما قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (إن الأرض تطوى بالليل) . أى أنها تقرب مسافاتها بتيسير المشى وقطع ما لا يرى منها، فإذا أصبح وعرف مكانه حمد سراه (عند الصباح يحمد القوم السرى) .

(5/145)


وفيه علامة من علامات النبوة فى بركة الطعام القليل حتى تزودوا منه أجمعون، فكيف بمن يدعى من البطالين قلب الأعيان بعد رسول الله. وأما قوله: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى (فإن جماعة من المفسرين قالوا: نزلت فى ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى مكة بغير زاد، وقد تقدم ذلك فى (كتاب الحج) .
3 باب: حمل الزاد على الرقاب
813 / فيه: جَابِر، خَرَجْنَا، وَنَحْنُ ثَلاثُ مِائَةٍ، نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا، فَفَنِىَ زَادُنَا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْكُلُ فِى كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً، قَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْنَ كَانَتِ التَّمْرَةُ تَقَعُ مِنَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَقَدْنَاهَا، حَتَّى أَتَيْنَا الْبَحْرَ، فَإِذَا حُوتٌ قَدْ قَذَفَهُ الْبَحْرُ، يعنى السمك، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا أَحْبَبْنَا. قال المهلب: هذه التمرة إنما كانت تغنى عنهم ببركة النبى وبركة الجهاد معه، وإنما بارك الله لهم فى التمرة حتى وجدوا لها مسدا من الجوعة متبينة فى أجسامهم وصبرهم حين فقدوها على الجوع؛ لئلا تخرق العادة عن رتبتها، ولا تخرج الأمور على معهودها المتسق فى حكمته مع أنه قدير أن يخلق لهم طعامًا ويجعل لهم من الحجارة خبزًا ومن الجلاميد فاكهة، لكنه مع قدرته على ذلك لم يخرجهم عن العادة، وفيه الترجمة.

(5/146)


4 باب: إِرْدَافِ المَرْأَةِ خَلْفَ أَخِيهَا
814 / فيه: عَائِشَةَ، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ أَصْحَابُكَ بِأَجْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى الْحَجِّ؟ فَقَالَ لَهَا: (اذْهَبِى، وَلْيُرْدِفْكِ عَبْدُالرَّحْمَنِ) ، فَأَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. قال المهلب: فيه جواز ركوب رجلين الدابة وهذا إنما هو محمول على طاقة الدابة، فإذا قصرت قوتها عن شيء لم يجز حمله عليها إذا كان مسرفًا فى المشقة عليها، وأما المشقة اليسيرة التى تستطيع بمثلها، فللرجل أن يحمل دابته ومملوكه ذلك ما لم يكن إسرافًا. وركوب المرأة مع الرجل على الدابة وإن كانت ذات محرم منه، فإن السنة فى ذلك والأدب أن تكون خلفه على الدابة، ولا يحملها أمامه خوف الفتنة وكذلك فعل موسى بابنة شعيب حين دلته على الطريق وكانت الريح تضرب ثيابها فقال لها: كونى خلفى وأشيرى لى الطريق. ولذلك قالت لأبيها: (إن خير من استأجرت القوى الأمين (.
5 - باب الارْتِدَافِ فِى الْغَزْوِ وَالْحَجِّ
815 / فيه: أَنَس، كُنْتُ رَدِيفَ أَبِى طَلْحَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وقد تقدم ذكر الارتداف فى (كتاب الحج) ومعناه: التعاون على أفعال البر فى الغزو والحج، وكل سبيل لله تعالى وأن ذلك من السنة ومن فعل السلف الصالح وهو من باب التواضع.

(5/147)


6 - باب الرِّدْفِ عَلَى الْحِمَارِ
816 / فيه: أُسَامَة، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ. 1817 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ. . . الحديث. قال المهلب: فى هذا التواضع من وجوه: أحدها: ركوب الإمام الحمار، ثم ركوبه على قطيفة، ثم مردفًا غلامًا. وقال الطبرى: فيه البيان على أنه (صلى الله عليه وسلم) مع محله من الله وجلالة منزلته لم يكن يرفع نفسه عن أن يحمل ردفًا معه على دابته، ولكنه كان يردف لتتأسى به فى ذلك أمته، فلا يأنفوا مما لم يأنف منه ولا يستنكفوا مما لم يستنكف منه.
7 - باب مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ
818 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ. . . . .) الحديث. قال المهلب: الأخذ بالركاب من الفضائل، وهى صدقة من الآخذ بالركاب على الراكب؛ لأنه معروف فإن قيل: أين موضع الترجمة من الحديث؟ . قيل: هو فى قوله: (يعين الرجل على دابته) فدخل فيه الأخذ بالركاب وغيره،

(5/148)


وقد روى عن ابن عباس: أنه اخذ بركاب زيد بن ثابت قال له: لا تفعل يا ابن عم رسول الله فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فأخذ زيد يد ابن عباس فقبلها فقال له: لا تفعل فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله.
8 - باب السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَقَدْ سَافَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ فِى أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ. 1819 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ. هذا الباب وقع فيه غلط من الناسخ؛ لأن قوله: وكذلك يروى عن محمد بن بشر، ولم يتقدم فى هذا الباب ذكر شيء يشار إليه، فلذلك لا معنى له، والصواب فيه أنه يكون حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر فى أول الباب، ثم يقع بعده وكذلك يروى عن محمد ابن بشر، وتابعه ابن إسحاق، وإنما احتاج إلى ذكر هذه المتابعة؛ لأن بعض الناس زاد فى الحديث: مخافة أن يناله العدو. وجعله من لفظ النبى - (صلى الله عليه وسلم) - ولم تصح هذه الزيادة عند مالك ولا عند البخارى، وإنما هى من قول مالك. قال المهلب: وفائدة قوله: (وقد سافر النبى وأصحابه فى أرض العدو وهم يعلمون القرآن) فإنما أراد أن يبين أن نهيه - عليه السلام - عن

(5/149)


السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ليس على العموم، ولا على كل الأحوال، وإنما هو فى العساكر والسرايا التى ليست مأمونة، وأما إذا كان فى العساكر العظام فيجوز حمل القرآن إلى أرض العدو، ولأن أصحاب رسول الله كان يعلم بعضهم بعضًا القرآن؛ لأنهم لم يكونوا مستظهرين له. وقد يمكن أن يكون عند بعضهم صحف فيها قرآن يعلمون منها؛ فاستدل البخارى أنهم فى تعلمهم كان فيهم من يتعلم بكتاب، فلما جاز لهم تعلمهم فى أرض العدو بغير كتاب وبكتاب كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو بغير كتاب وبكتاب كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو إذا كان عسكرًا مأمونًا، وهذا قول أبى حنيفة. ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير والصغير فى النهى عن ذلك، ومعنى النهى عن السفر به إلى أرض العدو خشية أن يناله العدو ولا يكرموه، وقد أخبر الله أنه) فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة (وهم الملائكة، وقال تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون (وهم الملائكة أيضًا ففهم من هذا الندب إلى أن لا يمسه عندنا إلا طاهر، وأن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن السفر به إلى أرض العدو ليس على وجه التحريم والفرض وإنما هو على معنى الندب للإكرام للقرآن؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد كتب إلى قيصر بآية إلى آخرها وهو يعلم أنهم نجس وعلم أنهم يقرءونها، فصح أن نهيه عن ذلك فى حال دون حال وفى العساكر التى ليست مأمونة.

(5/150)


9 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْحَرْبِ
820 / فيه: أَنَس، صَبَّحَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَيْبَرَ، وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِى عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَلَجَئُوا إِلَى الْحِصْنِ، فَرَفَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَدَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ. . . . .) الحديث. قال المهلب: إنما فعل النبى هذا استشعارًا لكبرياء الله على ما تقع عليه العين من عظيم خلقه وكبير مخلوقاته أنه أكبر الأشياء وليس ذلك على معنى أن غيره كبير وإنما معنى قولهم: الله أكبر: الله الكبير، هذا قول أهل اللغة، وقال معمر عن أبان: لم يعط أحد التكبير إلا هذه الأمة، وكذلك يفعل (صلى الله عليه وسلم) فى أسباب الجبال، ورفع اليدين فى الدعاء، والتكبير استسلام لله تعالى وتبرؤ من الحول والقوة إليه، وقد روى سفيان، عن أيوب فى هذا الحديث (حالوا إلى الحصن) أى: حولوا إليه. يقال: حلت عن المكان إذا تحولت عنه و [. . . . .] حلت عنه.
0 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بالتَّكْبِيرِ
821 / فيه: أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) . قال المهلب: إنما نهاهم - والله أعلم - عن رفع الصوت إبقاء عليهم ورفقًا بهم؛ لأنهم كانوا فى مشقة السفر فأراد: اكلفوا من

(5/151)


العمل ما تطيقون وكان بالمؤمنين رحيمًا، ثم أعلمهم أن الله يعلم خفى كلامهم بالتكبير كما يسمع عاليه؛ إذ لا آفة تمنعه من ذلك؛ لأنه سميع قريب. قال الطبرى: فى هذا الحديث من الفقه كراهية رفع الصوت بالدعاء وهو قول عامة السلف من الصحابة والتابعين، حدثنى يعقوب ابن إبراهيم، حدثنى إسماعيل، عن هشام، حدثنى قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال: (كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت عند ثلاثة مواطن: عند الذكر، وعند القتال، وعند الجنائز) . وروى يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال: (كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت ورفع الأيدى عند القتال، والدعاء) . قال سعيد بن أبى عروبة: حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: (ثلاث مما أحدث الناس: رفع الصوت عند الدعاء، ورفع الأيدى، واختصار السجود) وذكر عن مجاهد أنه رأى رجلا يرفع صوته بالدعاء فحصبه. وقوله: (أربعوا على أنفسكم) ففى كتاب الأفعال: ربع به: رفق به، وربع عن الشيء: كف عنه، ومنه قيل: أربع على نفسك.
1 - باب التَّكْبِيرِ إِذَا عَلا شَرَفًا
822 / فيه: جَابِر، كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزلنا سَبَّحْنَا. 1823 / وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَفَلَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ -

(5/152)


وَلا أَعْلَمُهُ إِلا قَالَ: الْغَزْوِ - يَقُولُ: كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ) . قال المهلب: تكبيره عند إشرافه على الجبال استشعار لكبرياء الله عندما تقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء تعالى وقد تقدم هذا فى باب التكبير عند الحرب. وأما تسبيحه فى بطون الأودية فهو مستنبط من قصة يونس (صلى الله عليه وسلم) وتسبيحه فى بطن الحوت، قال تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون (فنجاه الله بذلك من الظلمات فامتثل النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا التسبيح فى بطون الأودية؛ لينجيه الله منها ومن أن يدركه عدوه، وقد قيل: إن تسبيح يونس كان صلاة قبل أن يلتقمه الحوت فروعى به فضلها، الأول أولى بدليل تسبيح الرسول فى بطون الأودية وكل منخفض. وقال غيره: معنى تسبيحه فى بطون الأودية وما انخفض من الأرض أنه لما كان التكبير لله تعالى عند رؤية عظيم مخلوقاته وجب أن يكون فيما انخفض من الأرض تسبيح لله؛ لأن التسبيح فى اللغة تنزيه الله عن صفات الانخفاض والضعة. قال ابن الأنبارى: سبحان الله: تنزيه الله من الأولاد والصاحبة والشركاء. وقال غيره: سبحان الله: براءة الله من ذلك. قال أبو عبيد: الفدفد: المكان المرتفع فيه صلابة، والثنية: أعلى مسيل فى رأس الجبل. وقال صاحب العين: الثنايا: العقاب.

(5/153)


2 - باب يُكْتَبُ لِلْمُسَافِرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِى الإقَامَةِ
824 / فيه: أَبُو بُرْدَةَ، أنَّهُ اصْطَحَبَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِى كَبْشَةَ فِى سَفَرٍ، فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِى السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا) . قال المهلب: أصل هذا فى كتاب الله، قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم (إلى) الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (أى: غير مقطوع، يريد أن لهم أجرهم فى حال الكبر والضعف عما كانوا يفعلونه فى الصحة غير مقطوع لهم؛ فلذلك كل مرض من غير الزمانة وكل آفة من سفر وغيره يمنع من العمل الصالح المعتاد؛ فإن الله قد تفضل بإجراء أجره على من منع ذلك العمل بهذا الحديث. قال المؤلف: وليس هذا الحديث على العموم، وإنما هو لمن كانت له نوافل وعادة من عمل صالح فمنعه الله منها بالمرض أو السفر وكانت نيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليها ولا يقطعها؛ فإن الله يتفضل عليه بأن يكتب له أجر ثوابها حين حبسه عنها، فأما من لم يكن له تنفل ولا عمل صالح فلا يدخل فى معنى الحديث؛ لأنه لم يمنعه مرضه من شيء فكيف يكتب له ما لم يكن يعمله؟ وما يدل أن الحديث فى النوافل ما روى معمر، عن عاصم بن أبى النجود، عن خيثمة، عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله: (إن العبد إذا كان على طريق حسنة من العبادة، ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طلقًا حتى أطلقه أو أكفته إلى) وقوله: (إذا

(5/154)


كان على طريق حسنة من العبادة) لا يقال: إلا فى النوافل، ولا يقال ذلك لمؤدى الفرائض خاصة؛ لأن المريض والمسافر لا يسقط عنهما صلوات الفرائض؛ فسنة المريض الجلوس، وسنة المسافر قصر الصلاة، فلم يبق أن يكتب للمريض والمسافر إلا أجر النوافل كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما من امرىء تكون له صلاة من الليل يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه) وهذا لا إشكال فيه.
3 باب: السير وحده
825 / فيه: جَابِر، نَدَبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثلاثًا، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِكُلِّ نَبِىٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِىَّ الزُّبَيْرُ) . قَالَ سُفْيَانُ: الْحَوَارِىُّ: النَّاصِرُ. 1826 / وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ) . قال المهلب: نهيه عن الوحدة فى سير الليل إنما هو إشفاق على الواحد من الشياطين؛ لأنه وقت انتشارهم وأذاهم للبشر بالتمثل لهم وما يفزعهم ويدخل فى قلوبهم الوساوس؛ ولذلك أمر الناس أن يحبسوا صبيانهم عند حدقة الليل، وأما قصة الزبير فإنما هى ليعرف أمر العدو، والواحد الثابت فى ذلك أخفى على العدو وأقرب إلى التجسس بالاختفاء والقرب منهم مع ما علم الله من نيته والتأييد عليها، فبعثه (صلى الله عليه وسلم) واثقًا بالله، ومع أن الوحدة ليست محرمة، وإنما هى مكروهة؛ فمن أخذ بالأفضل من الصحبة فهو أولى، ومن أخذ بالوحدة فلم يأت حرامًا، وقد تقدم الكلام فى حديث جابر والأحاديث المعارضة له فى باب: (هل يبعث الطليعة وحده) ، وفى باب (سفر الاثنين) قبل هذا بأبسط من هذا وأتم، فأغنى عن إعادته.

(5/155)


4 - باب السُّرْعَةِ فِى السَّيْرِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِى فَلْيَتَعَجِّل) . 1827 / فيه: أُسَامَةُ، سُئل عَنْ مَسِيرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ - وَالنَّصُّ: فَوْقَ الْعَنَقِ. 1828 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ بَلَغَهُ بطريق مكة عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَقَالَ: إِنِّى رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ. 1829 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) . قال المؤلف: أما تعجيله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة؛ فليخرج نفسه من عذاب السفر، وليفرح بنفسه أهله وجماعة المؤمنين بالمدينة. وأما تعجيل السير إذا وجد فجوة حين دفع من عرفة؛ فليتعجل الوقوف بالمشعر الحرام ويدعو الله فى ذلك الموقف؛ لأن ساعات الدعاء فى ذلك الوقت ضيقة ولا تدوم ونادرة، إنما هى من عام إلى عام، وأما تعجيل ابن عمر إلى زوجته إنما هو ليدرك من حياتها من يمكنه أن تعهد إليه بما لا تعهد به إلى غيره، لئلا يحرمها ما تريده من طاعة الله فى عهدها، ومع ذلك فإنه كان يسرها بقدومه. وفيه التواضع وترك التكبر.

(5/156)


5 - باب إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ
830 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لا تَبْتَعْهُ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صدقته كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . وفيه: الحمل على الخيل فى سبيل الله. وفيه: أنه من حمل على فرس فى سبيل الله وغزا به فله أن يفعل به بعد ذلك ما يفعل فى سائر ماله، ألا ترى أن رسول الله لم ينكر على بائعه بيعه، وإنما أنكر على عمر شراءه. واختلف العلماء فيمن حمل على فرس فى سبيل الله ولم يقل: هو حبس فى سبيل الله، فروى مالك، عن ابن عمر أنه كان إذا أعطى شيئًا فى سبيل الله يقول لصاحبه: إذا بلغت به وادى القرى فشأنك به. قال أحمد بن حنبل: إنما قال ذلك ابن عمر؛ لأنه كان يذهب إلى أن المحمول عليه إنما يستحقه بعد الغزو. وكذلك قال سعيد بن المسيب: إذا أعطى الرجل الشيء فى الغزو فبلغ به رأس مغزاته، فهو له. وهو قول القاسم، وسالم، والثورى، والليث، قال الليث: إلا أن يكون حبسًا فلا يباع. والعلماء متفقون فى الحبس أنه لا يباع غير الكوفيين الذين لا يجيزون الأحباس. وقال مالك: من أعطى فرسًا فى سبيل الله وقيل له: هو لك فى سبيل الله فله أن يبيعه، فإن قيل: هو فى سبيل الله، ركبه ورده، ويكون موقوفًا عنده لحمل الغزاة عليه. وقال أبو حنيفة والشافعى: الفرس المحمول عليه فى سبيل الله هو تمليك لمن يحمل عليه. وإن قيل له: إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، كان تمليكًا على

(5/157)


مخاطرة ولم يجز، وهى عندهم عطية غير بتلة؛ لأنها شرط قد يقع وقد لا يقع لجواز موته قبل بلوغه راس مغزاته ولم يملك منه شيئًا قبل ذلك. وأما إذا قال له: هو لك فى سبيل الله أو أحملك عليه فى سبيل الله فقد أعطاه إياه على شرط الغزو به، وهذا معنى قول ابن عمر وابن المسيب عند الكوفيين والشافعى، وسواء ذلك كله عند مالك؛ لأنه إذا قال له: إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، فمعناه عنده أن لك أن تتصرف فيه حينئذ بما يتصرف به المالك، وقد صح له ملكه عند أخذه بشرط الغزو عليه. واختلفوا فى كراهية شراء صدقة الفرض والتطوع إذا أخرجها من يده، فقال مالك فى الموطأ فى رجل تصدق بصدقة فوجدها تباع عند غير الذى تصدق بها عليه -: تركها أحب إلىّ. وكره الليث والشافعى ذلك، فإن اشتراها لم يفسخوا البيع، وكذلك قالوا فى شراء ما يخرجه الإنسان فى كفارة اليمين وإنما كرهوا شراءها بهذا الحديث، ولم يفسخوا البيع؛ لأنها راجعة إليه بغير ذلك المعنى ويشهد لهذا حديث بريرة فى اللحم الذى تصدق عليها به، وإجماعهم أن من تصدق بصدقة، ثم ورثها أنها حلال له، وقد تقصيت الكلام فى هذه المسألة فى باب (هل يشترى الرجل صدقته) فى (كتاب الزكاة) فتأمله هناك.
6 - باب الْجِهَادِ بِإِذْنِ الأبَوَيْنِ
831 / فيه: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِى الْجِهَادِ، فَقَالَ: (أَحَىٌّ وَالِدَاكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) .

(5/158)


قال المهلب: هذا - والله أعلم - فى زمن استظهار المسلمين على عدوهم وقيام من انتدب إلى الغزو بهم مع أنه - والله أعلم - رأى به ضعفًا لم يقدر نفاذه فى الجهاد، فندبه إلى الجهاد فى بر والديه، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان (أن من أراد الغزو وأمرته أمه بالجلوس أن يجلس) وقال الحسن البصرى: إذا أذنت له أمه فى الجهاد وعلم أن هواها أن يجلس، فيجلس. ومن رأى ألا يخرج إلى الغزو إلا بإذن والديه: مالك والأوزاعى والشافعى والثورى وأحمد وأكثر أهل العلم، هذا كله فى حال الاختيار ما لم تقع ضرورة وقوة للعدو، وإذا كان ذلك تعين الفرض على الجميع وزال الاختيار، ووجب الجهاد على الكل.
7 باب: مَا قِيلَ فِى الَجرَسِ فِى أَعْنَاقِ الإِبِلِ
832 / فيه: عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأنْصَارِىَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ - قَالَ عَبْدُاللَّهِ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِى مَبِيتِهِمْ - فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولا: (أَنْ لا يَبْقَيَنَّ فِى رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلادَةٌ إِلا قُطِعَتْ) . قال مالك فى الموطأ بإثر هذا الحديث -: أرى ذلك من العين، ففسر المعنى الذى من أجله أمر الرسول بقطع القلائد؛ وذلك أن الذى قلدها إذا اعتقد أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر، ولا يجوز اعتقاد هذا، ولذلك روى أن الرفقة الذى فيها الجرس لا تصحبها الملائكة، ولا بأس بتعليق التمائم والخرز التى فيها الدعاء والرقى

(5/159)


بكتاب الله عند جميع العلماء؛ لأن ذلك من التعوذ بأسماء الله، وقد سئل عيسى بن دينار عن قلادة ملونة فيها خرز يعلقها الرجل على فرسه للجمال. فقال: لا بأس بذلك إذا لم تجعل للعين. قال المهلب: إنما تجعل القلائد من وتر لقوتها ونقائها فخصها (صلى الله عليه وسلم) ، ثم عم سائر القلائد بقوله: (ولا قلادة إلا قطعت) . فأطلق النهى على جميع ما تقلد به الدواب. وقد سئل مالك عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهته إلا فى الوتر. قال أبو عبيد: وإنما نهى عن التقليد بالأوتار؛ لأن الدواب تتأذى بذلك، وربما تعلق ذلك بشجر فتختنق فتموت. وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) -: (قلدوا الخيل، ولا تقلدوها الأوتار) وفسره وكيع فقال: معناه: لا تركبوها فى العين خشية أن يتعلق على راكبها وتر يطالب به.
8 - باب مَنِ اكْتُتِبَ فِى جَيْشٍ فَخَرَجَتِ، امْرَأَتُهُ حَاجَّةً أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ
833 / فيه: ابْن عَبَّاس قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِى حَاجَّةً، قَالَ: (اذْهَبْ، وَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ) . قال المؤلف: إذا قام بثغور المسلمين من فيه الكفاية لدفع العدو فلا بأس أن يأذن الإمام لمن له عذر فى الرجوع؛ ولهذا المعنى أذن النبى للرجل

(5/160)


أن يرجع ويحج مع امرأته، فإن كان للعدو ظهور وقوة تعين فرض الجهاد على كل أحد فلا يأذن له الإمام فى الرجوع. قال المهلب: والجهاد أفضل لمن قد حج عن نفسه من الحج، لكن لما استضاف إلى الحج النافلة ستر عورة وقطع ذريعة كان أوكد وأفضل من الجهاد فى وقت قد استظهر المسلمون فيه على عدوهم. قال المؤلف: وقوله: (ارجع فاحجج مع امرأتك) محمول عند العلماء على معنى الندب للزوج أن يحج مع امرأته لا أنه يلزمه ذلك فرضًا كما لا يلزمه مئونة حملها فى الحج؛ فلذلك لا يلزمها أن تحمله إليه بنفسه، وقد تقدم فى باب حج النساء فى آخر كتاب الحج اتفاق الفقهاء فى أنه ليس للرجل منع زوجته من حجة الفريضة، كما لا يمنعها من صلاة ولا صيام، فأغنى ذلك عن إعادته.
9 - باب الْجَاسُوسِ وقوله تَعَالَى: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1]
834 / فيه: عَلِىّ، بَعَثَنِى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، قَالَ: (انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا) ، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِى الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا) ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،

(5/161)


لا تَعْجَلْ عَلَىَّ إِنِّى كُنْتُ أمْرًَا مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِنْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا، أوْ لاَ أَرْضَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ، فَقَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ صَدَقَكُمْ) ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) . قال الطبرى: فى حديث حاطب بن أبى بلتعة من الفقه أن الإمام إذا ظهر من رجل من أهل الستر على أنه قد كاتب عدوًا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسره المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسفه والغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة من غير أن يكون لها أخوات؛ فجائز العفو عنه كما فعله الرسول بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما اطلع عليه من فعله. وهذا نظير الخبر الذى روت عمرة عن عائشة أن الرسول قال: (أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا حدا من حدود الله) فإن ظن ظان أن صفحه (صلى الله عليه وسلم) إنما كان لما أعلمه الله من صدقه، ولا يجوز لمن بعد الرسول أن يعلم ذلك، فقد ظن خطأ؛ لأن أحكام الله فى عباده إنما تجرى على ما ظهر منهم. وقد أخبر الله نبيه عن المنافقين الذين كانوا بين ظهرانى أصحابه مقيمين معتقدين الكفر، وعرفه إياهم بأعيانهم، ثم لم يبح له قتلهم وسبيهم؛ إذ كانوا يظهرون الإسلام بألسنتهم، فكذلك الحكم فى كل أحد من خلق الله أن يؤخذ بما ظهر لا بما بطن، وقد روى مثل ذلك

(5/162)


عن الأئمة، روى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى منصور قال: (بلغ عمر بن الخطاب أن عامله على البحرين أتى برجل قامت عليه بينة أنه كاتب عدوًا للمسلمين بعورتهم، وكان اسمه: أضرباس، فضرب عنقه وهو يقول: يا عمر، يا عمراه، فكتب عمر إلى عامله فقدم عليه فجلس له عمر وبيده حربة، فلما دخل عليه علا لجبينه بالحربة وجعل يقول: أضرباس لبيك، أضرباس لبيك. . فقال له عامله: يا أمير المؤمنين، إنه كاتبهم بعورة المسلمين وهم أن يلحق بهم. فقال له عمر: قتلته على هذه، وأينا لم يهم، لولا أن تكون سيئة لقتلتك به) . قال الطبرى: وفيه البيان عن بعض أعلام النبوة؛ وذلك إعلام الله نبينا بخبر المرأة الحاملة كتاب حاطب إلى قريش، ومكانها الذى هى به، وحالها الذى تغلب عليها من الستر وكل ذلك لا يعلم إلا بوحى الله تعالى. وقال المهلب: وفيه هتك ستر المذنب، وكشف المرأة العاصية. وفيه: أن الجاسوس قد يكون مؤمنًا، وليس تجسسه مما يخرجه من الإيمان. وفيه: أنه لا يتسور فى قتل أحد دون رأى الإمام. وفيه: إشارة الوزير بالرأى على السلطان وإن لم يستشره. وفيه: الاشتداد عند السلطان على أهل المعاصى، والاستئذان فى قتلهم. وفيه: جواز العفو عن الخائن لله ورسوله تجسس أو غيره. وفيه: مراعاة فضيلة سلفت، ومشهد شاهده الجاسوس وغيره من المذنبين والتشفع بذلك له. وفيه: الحجة لترك إنفاذ الوعيد من الله لمن شاء ذلك له بقوله:

(5/163)


(لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم) . وفيه: جواز غفران ما تأخر وقوعه من الذنوب قبل وقوعه، وسيأتى بعض معانى هذا الحديث فى باب (المتأولين) فى آخر كتاب الديات وفى كتاب الاستئذان فى باب من (نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين؛ ليستبين أمره) . واختلف الفقهاء فى المسلم يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، فقال مالك: ما فيه شيء وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال أبو حنيفة والأوزاعى: يوجع عقوبة، ويطال حبسه. وقال الشافعى: إن كان ذا هيئة عفا الإمام عنه، واحتج بهذا الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يعاقب حاطبًا، وإن كان غير ذى هيئة عذره الإمام؛ لأنه لا يحل دم أحد إلا بكفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس. وقال ابن القاسم فى العتبية: يضرب عنقه؛ لأنه لا تعرف توبته. وهو قول سحنون، وقال ابن وهب: يقتل إلا أن يتوب. وقال ابن الماجشون: إن كان نادرًا من فعله، ولم يكن من أهل الطعن على الإسلام، فلينكل لغيره، وإن كان معتادًا لذلك فليقتل. ومن قال بقتل الجاسوس المسلم فقد خالف الحديث وأقوال المتقدمين من العلماء، فلا وجه لقوله. واختلفوا فى الحربى المستأمن أو الذمى يتجسس ويدل على عورات المسلمين، فقال الثورى والكوفيون والشافعى: لا يكون ذلك نقضًا للعهد فى حربى ولا ذمى، ويوجعه الإمام ضربًا ويطيل حبسه.

(5/164)


وقال الأوزاعى: قد نقض العهد وخرج من الذمة؛ فإن شاء الإمام قتله أو صلبه. وهو قول سحنون، وقال مالك فى أهل الذمة: إذا تلصصوا أو قطعوا الطريق لم يكن ذلك نقضًا للعهد حتى يمنعوا الجزية ويمتنعوا من أهل الإسلام فهؤلاء فيء إذا كان الإمام عدلا. وعند مالك إذا استكره الذمى مسلمة فزنى بها فهو نقض للعهد وإن طاوعته لم يخرج من العهد. وعند الشافعى لا ينقض الذمة شيء من فعله إلا الامتناع من أداء الجزية، أو الامتناع من الحكم؛ فإذا فعلوا ذلك نبذ إليهم. وقال الطحاوى: لم يختلفوا أن المسلم لو فعل ذلك لم يبح دمه؛ فكذلك المستأمن، والذمى قياسًا عليه. ولم يراع الطحاوى اختلاف أصحاب مالك ولا غيره من المتقدمين مع خلافهم للحديث. والظعينة: المرأة فى الهودج، ولا يقال لها: ظعينة إلا وهى كذلك قال الخطابى: إنما قيل للمرأة: ظعينة؛ لأنها تظعن مع زوجها إذا ظعن. والعقاص: السير الذى تجمع به شعرها على رأسها، والعقص: الظفر، هو الفتل. وقوله: (إنى كنت ملصقًا فى قريش) يعنى: كنت مضافًا إليهم ولست منهم، وأصل ذلك من لصاق الشيء بغيره؛ ليبين منه، ولذلك قيل: المدعى فى القوم ملصق، عن الطبري.
0 - باب الْكِسْوَةِ لِلأسَارَى
835 / - فيه: جَابِر، لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِىَ بِأُسَارَى، وَأُتِىَ بِالْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَنَظَرَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ

(5/165)


عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ يَقْدُرُه عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَمِيصَهُ الَّذِى أَلْبَسَهُ إياه. قال ابن عيينة: كانت له عند النبى (صلى الله عليه وسلم) يد أحب أن يكافئه. قال المهلب: وفيه كسوة الأسارى والإحسان إليهم، ولا يتركوا عراة فتبدوا عوراتهم ولا يجوز النظر إلى عورات المشركين. وفيه: وجوب المكافأة على اليد تسدى إلى قريب الرجل إذا كان ذلك إكرامًا له فى قريبه ولم يطلبها القريب، إذا كانت بسبب الستر من أهله. وفيه: أن المكافأة تكون فى الحياة وبعد الممات.
1 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ
836 / فيه: سَهْل، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ خَيْبَرَ: (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا، يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ. . . . .) الحديث إلى قوله: (فَوَاللَّهِ لأنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ) . قال المؤلف: ومما يشبه معنى هذا الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئًا) وقد روينا عن الرسول: (أن العالم إذا لم يعمل بعلمه يأمر الله به إلى النار يوم القيامة، فيقول رجل قد كان علمه ذلك العالم علمًا دخل به الجنة فيقول -: يا رب، هذا علمنى ما دخلت به الجنة، فهب لى معلمي. فيقول تعالى. هبوا له معلمه) . وقال ابن الأنبارى: حمر النعم: كرامها وأعلاها منزلة. وقال أبو عبيد عن الأصمعى: بعير أحمر إذا لم يخالط حمرته شيء، فإن خالطت حمرته قنوء فهو كميت.

(5/166)


2 - باب الأسَارَى فِى السَّلاسِلِ
837 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِى السَّلاسِلِ) . قال المهلب: قوله: (يدخلون الجنة فى السلاسل) يعنى: يدخلون الإسلام مكرهين، وسمى الإسلام باسم الجنة؛ لأنه سببها ومن دخله دخل الجنة، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى الحديث، ذكره البخارى فى التفسير فى قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس (قال: (خير الناس للناس يأتون بهم فى السلاسل فى أعناقهم حتى يدخلوا فى الإسلام) . وفيه: سوق الأسرى فى الحبال والسلاسل والاستيثاق منهم حتى يرى الإمام فيهم رأيه. وقال ابن فورك: والعجب المضاف إلى الله يرجع إلى معنى الرضا والتعظيم، وأن الله يعظم من أخبر عنه بأنه تعجب منه ويرضى عنه.
3 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ
838 / فيه: أَبُو موسى قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأمَةُ، فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِى كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْعَبْدُ الَّذِى يُؤَدِّى حَقَّ اللَّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ) . ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِىُّ: وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِى أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ.

(5/167)


قال المهلب: فيه أن من أحسن فى معنيين من أى فعل كان من أفعال البر؛ فله أجره مرتين، والله يضاعف لمن يشاء، وإنما جاء النص فى هؤلاء الثلاثة؛ ليستدل بذلك فى سائر الناس وسائر الأعمال. وفى قول الشعبى جواز الامتنان بالعلم والتعنيف لخطره لينبه على ذلك من يجهل مقداره.
4 - باب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِىُّ) بَيَاتًا (: لَيْلا
839 / فيه: الصَّعْبِ، مَرَّ بِىَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِالأبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - فَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، قَالَ: (هُمْ مِنْهُمْ) ، وَسَمِعْتُهُ، يَقُولُ: (لا حِمَى إِلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) . اختلف الفقهاء فى العمل بهذا الحديث، فتركه قوم وذهبوا إلى أنه لا يجوز قتل النساء والولدان فى الحرب على كل حال، وأنه لا يحل أن يقصد إلى قتل غيرهم إذا كان لا يؤمن فى ذلك تلفهم مثل أن يتترس أهل الحرب بصبيانهم ولا يستطيع المسلمون رميهم، إلا بإصابة صبيانهم فحرام عليهم رميهم، وكذلك إن تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا فيها نساء وصبيانًا وأسارى مسلمين فحرام رمى ذلك الحصن وحرق تلك السفينة؛ إذا كان يخاف تلف النساء والصبيان والأسارى. واحتجوا بعموم نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن قتل النساء والصبيان، وبعموم قوله تعالى: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليمًا (هذا قول مالك والأوزاعي.

(5/168)


وقال الكوفيون والشافعى: إنما وقع النهى عن قتل النساء والصبيان إذا قصد إلى قتلهم، فأما إذا قصد إلى قتل غيرهم ممن لا يوصل إلى ذلك منهم إلا بتلف نسائهم وصبيانهم فلا بأس بذلك، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (هم منهم) . قال الطحاوى: فلما لم ينههم النبى عن الغارة، وقد كان يعلم أنهم يصيبون فيهم الولدان والنساء الذى يحرم القصد إلى قتلهم دل ذلك أن ما أباح فى حديث الصعب معنى غير المعنى الذى من أجله منع قتلهم فى حديث ابن عمر، وأن الذى أباح هو القصد إلى قتل المشركين وإن كان فى ذلك تلف غيرهم ممن لا يحل القصد إلى قتله؛ حتى لا تتضاد الآثار. وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) بالغارة على العدو فى آثار متواترة، ولم يمنعه من ذلك ما يحيط به علمًا أنه لا يؤمن من تلف النساء والولدان فى ذلك، والنظر يدل على ذلك أيضًا، وقد روى عن رسول الله فى الذى عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنايا العاض؛ فأبطل ذلك (صلى الله عليه وسلم) . قال الطحاوى: فلما كان المعضوض نزع يده وإن كان فى ذلك تلف ثنايا غيره وكان حرامًا عليه القصد إلى نزع ثنايا غيره بغير إخراج يده من فيه ولم يكن القصد فى ذلك إلى غير التلف كالقصد إلى التلف فى الإثم ولا فى وجوب العقل، كان كذلك من له أخذ شيء وفى أخذه إياه تلف غيره مما يحرم عليه القصد إلى تلفه، فكذلك العدو قد جعل لنا قتالهم، وحرم علينا قتل نسائهم وذراريهم فحرام علينا القصد إلى ما نهينا عنه من ذلك، وحلال لنا القصد إلى ما أبيح لنا، وإن كان فيه تلف غيره مما حرم علينا. وقوله فى حديث الصعب: (لا حمى إلا لله ولرسوله)

(5/169)


فلا شيء فيه من معنى ما تقدم من التبييت، هو سببه بما روى عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ثم وصل ذلك المحدث بكلام آخر ليس فيه شيء من معنى ما قبله، وإنما كانوا يحدثون بالأحاديث على نحو ما كانوا يسمعونها، وقد تقدم بيان هذا فى (كتاب الطهارة) فى باب (لا يبول فى الماء الدائم) .
5 - باب قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِى الْحَرْبِ
840 / فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِى بَعْضِ مَغَازِى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وترجم له باب (قتل النساء فى الحرب) وقال مكان (فأنكر) (فنهى) . ولا يجوز عند جميع العلماء قصد قتل نساء الحربيين ولا أطفالهم؛ لأنهم ليسوا ممن قاتل فى الغالب. وقال تعالى: (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم (وبذلك حكم رسول الله فى مغازيه أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية؛ لأنهم مال للمسلمين إذا سبوا. واتفق الجمهور على أن النساء والصبيان إذا قاتلوا قتلوا وهو قول مالك والليث وأبى حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال الحسن البصرى: إن قاتلت المرأة وخرجت معهم إلى ديار المسلمين فلتقتل، وقد قتل رسول الله يوم قريظة والخندق [. . . . .] وقتل يوم الفتح قينتين كانتا تغيان بهجاء رسول الله.

(5/170)


واتفق مالك والكوفيون والأوزاعى والليث أنه لا يقتل الشيوخ ولا الرهبان، وأجاز قتلهم الشافعى فى أحد قوليه، واحتج بأن رسول الله أمر بقتل دريد بن الصمة يوم حنين، وكذلك أجمعوا أن من قاتل من الشيوخ أنه يقتل، واحتج الطحاوى فقال: قد روى علقمة ابن مرثد، عن بريدة، عن أبيه أن الرسول كان إذا بعث سرية قال: (لا تقتلوا شيخًا كبيرًا) . وهذا خلاف حديث دريد، وقد قال رسول الله فى حديث المرقع ابن صيفى فى المرأة المقتولة: (ما كانت هذه تقاتل) . فدل ذلك أن من أبيح قتله هو الذى يقاتل، والذى يجمع بين الأحاديث أن النهى من الرسول فى قتل الشيوخ هم الذين لا معونة لهم على شيء من أمر الحرب فى قتل ولا رأي. وحديث دريد فى الشيوخ الذين لهم معونة فى الحرب كما كان لدريد، فلا بأس بقتلهم، وإن لم يكونوا يقاتلون؛ لأن تلك المعونة أشد من كثير من القتال، وهذا قول محمد ابن الحسن، وهو قياس قول أبى حنيفة أبى يوسف.
6 - باب: لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ
841 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْثٍ، فَقَالَ: (إِنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا وَفُلانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ) ، ثُمَّ قَالَ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: (إِنِّى أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوهما، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا) . 1842 / وفيه: عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ، لأنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ) ، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) .

(5/171)


قال المهلب: ليس نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن التحريق بالنار على معنى التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع لله، وأن لا يتشبه بغضبه فى تعذيب الخلق؛ إذ القتل يأتى على ما يأتى عليه الإحراق. والدليل على أنه ليس بحرام سمل الرسول عين العرنيين بالنار فى مصلى المدينة بحضرة الصحابة. وتحريق على بن أبى طالب الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب، وهذا كله يدل أن معنى الحديث على الحض والندب لا على الإيجاب والفرض والله أعلم. وممن كره رمى أهل الشرك بالنار: عمر بن الخطاب وابن عباس وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك بن أنس، وأجازه على بن أبى طالب، وحرق خالد بن الوليد ناسًا من أهل الردة، فقال عمر لأبى بكر الصديق: انزع هذا الذى يعذب بعذاب الله. فقال أبو بكر: لا أشيم سيفًا سله الله على المشركين. وأجاز الثورى رمى الحصون بالنار. وقال الأوزاعى: لا بأس أن يدخن عليهم فى المطمورة إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة، ويحرقوا ويقتلوا بكل قتلة، ولو لقيناهم فى البحر رميناهم بالنفط والقطران. وأجاز ابن القاسم حرق الحصن والمراكب إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فقط.

(5/172)


7 - باب) فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) [محمد: 4]
843 / - فِيهِ: حَدِيثُ ثُمَامَةَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأرْضِ) [الأنفال: 67] يَعْنِى يَغْلِبَ فِى الأرْضِ. اختلف العلماء فى حكم الأسرى من أجل اختلافهم فى تأويل قوله: (فإما منًّا بعد وإما فداء (فقال السدى وابن جريج: نسخها قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (وقال قتادة: نسخها قوله تعالى: (وإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم (وقال الطبرى: روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: لا يفادى بأسير المشركين وإن أعطى فيه كذا وكذا مديًا من المال. قال الزهرى: كتب عمر بن الخطاب: اقتلوا كل من جرت عليه المواسي. وهو قول الزهرى ومجاهد، واعتلوا لإنكارهم إطلاق الأسرى بقوله تعالى: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا (الآيات. قالوا: فأنكر الله إطلاق أسارى بدر على نبيه على الفداء، فغير جائز لأحد أن يتقدم على فعله، وسنة الله تعالى فى أهل الكفر به إن كانوا من أهل الأوثان، فقتلهم على كل حال؛ لقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (الآية. وإن كانوا من أهل الكتاب، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فأما إطلاقهم على فداء يؤخذ منهم فتقوية لهم. وقال الضحاك: قوله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء (هى

(5/173)


ناسخة لقوله تعالى: (فاقتلوا المشرككين حيث وجدتموهم (ومثل هذا عن ابن عمر قال: أليس بهذا أمرنا الله؟ قال تعالى: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء (وهو قول عطاء والشعبى والحسن البصرى، كرهوا قتل الأسير، وقالوا: مُنَّ عليه أو فاده. وبمثل هذا استدل الطحاوى فقال: ظاهر قوله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء (يقتضى المن أو الفداء ويمنع القتل. قالوا: ولو كان لنا من قتلهم بعد الإيثاق ما لنا قبله لم يفهم قوله تعالى: (حتى إذا أُثخنتموهم فشدوا الوثاق (فدل أن حكم الكافر بعد الاستيثاق والأسر خلاف حكمه قبل ذلك، قال أبو عبيد: والقول عندنا فى ذلك أن الآيات جميعًا محكمات لا نسخ فيهن، يبين ذلك ما كان من أحكام رسول الله فيهم وذلك أنه عمل بالآيات كلها، من القتل والمن والفداء، حتى توفاه الله على ذلك، فكان أول أحكامه فيهم يوم بدر، فعمل بها كلها يومئذ، بدأ بالقتل فقتل عقبة ابن أبى معيط والنضر بن الحارث فى قفوله، ثم قدم المدينة فحكم فى سائرهم بالفداء، ثم حكم يوم الخندق سعد بن معاذ بقتل المقاتلة، وسبى الذرية، فصوب ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) وأمضاه. ثم كانت غزاة بنى المصطلق رهط جويرية بنت الحارث، فاستحياهم جميعًا وأعتقهم. ثم كان فتح مكة، فأمر بقتل ابن خطل ومقيس والقينتين، وأطلق الباقين، ثم كانت حنين فسبى هوازن، ومَنَّ عليهم، وقتل أبا غرة الجمحى يوم أُحد وقد كان مَنَّ عليه يوم

(5/174)


بدر وأطلق ثمامة بن أثال. وكانت هذه أحكامه (صلى الله عليه وسلم) بالمن والفداء والقتل، فليس شيئًا منها منسوخًا، والأمر فيهم أن الإمام وهو مخير بين القتل والمن والفداء، يفعل الأفضل فى ذلك للإسلام وأهله، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور. قال المهلب: وأما قوله تعالى: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض (فإن هذه الآية نزلت فى أسرى بدر، أخذ فيهم (صلى الله عليه وسلم) رأى أبى بكر الصديق فى استحيائهم وقبول الفداء منهم، وكان عمر أشار عليه بقتلهم، وأشار عليه غيره بحرقهم استبلاغًا فيهم، فبات النبى يرى رأيه فى ذلك، وكانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بالكفار، فأراد الله أن يكسر كيدهم بقتلهم، فعاتب النى (صلى الله عليه وسلم) وأنزل عليه: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا (يعنى: الفدية،) والله يريد الآخرة (أى: إعلاء كلمته، وإظهار دينه بقتلهم. وقال (صلى الله عليه وسلم) : (لو نزلت آية عذاب ما نجا منها إلا عمر) لأنهم طلبوا الفداء، وكانت الغنائم محرمة عليهم. وقال الطبرى: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو نزلت آية عذاب ما نجا منها غير عمر) وفى قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (إن قيل: كيف استحقوا هذه اللائمة العظيمة؟ قال الطبرى: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) ومن شهد معه بدرًا لم يخالفوا أمر ربهم؛ فيستوجبوا اللائمة، وإن الذين اختاروا فداء الأسرى على قتلهم اختاروا أوهن الرأيين فى التدبير على أحزمهما

(5/175)


وأقلهما نكاية فى العدو، فعاتبهم الله على ذلك، وأخبرهم أن الأنبياء قبل محمد لم تكن الغنائم لهم حلالا، فكانوا يقتلون من حاربوا ولا يأسرونه على طلب الفداء) لولا كتاب من الله سبق (لولا قضاؤه أنه يحل لكم الغنيمة ولا يعذب من شهد بدرًا) لمسكم فيما أخذتم (من الفداء) عذاب عظيم (. وفى حديث ثمامة من الفقه جواز المن على الأسير بغير مال، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور وقالوا: لا بأس أن يفادى بأسرى المسلمين وبالمال أيضًا. وقال الطحاوى: اختلف قول أبى حنيفة فى هذه المسألة، فروى عنه أن الأسرى لا يفادون ولا يردون حربًا؛ لأن فى ذلك قوة لأهل الحرب، وإنما يفادون بالمال وبما سواه مما لا قوة لهم فيه، وروى عنه أنه لا بأس أن يفادى بالمشركين أسارى المسلمين، وهو قول أبى يوسف، ومحمد، قال ابن القصار: ومما يرد به على أبى حنيفة أنا اتفقنا معه أن مكة فتحت عنوة. وأن نبى الله من عليهم بغير شيء كما فعل بثمامة.
8 - باب هَلْ لِلأسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ أوَ يَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنَ الْكَفَرَةِ
844 / فيه: الْمِسْوَرُ عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . قال المؤلف: يريد حديث: (صالح النبى (صلى الله عليه وسلم) المشركين بالحديبية، على أن يردوا من هرب إليهم مسلمًا، فهرب أبو بصير إلى النبى، فأرسلوا فى طلبه رجلين إلى النبى؛ وقالوا: العهد

(5/176)


الذى جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إنى لأرى سيفك يا فلان جيدًا فاستله الآخر، وقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت. فقال له أبو بصير: أرانى أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال الرسول حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا فجاء أبو بصير، فقال: يا نبى الله، قد أوفى الله بذمتك ورددتنى إليهم، ثم أنجانى الله منهم. فقال (صلى الله عليه وسلم) : ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده، فخرج حتى أتى سيف البحر، ولحق به أبو جندل، وكل من أسلم من قريش، حتى اجتمعت منهم عصابة، وكانوا لا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا قتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) تناشده الله والرحم، فمن أتاه منهم فهو آمن، فأنزل الله تعالى: (وهو الذى كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة (وذكر الحديث. اختلف العلماء فى الأسير، هل له أن يقتل المشركين أو يخدعهم حتى ينجو منهم، فقالت طائفة من العلماء: لا ينبغى للأسير المقام بدار الحرب إذا أمكنه الخروج، وإن لم يتخلص منهم إلا بقتلهم، وأخذ أموالهم، وإحراق دورهم؛ فعل ما شاء من ذلك، وهو قول أبى حنيفة والطبرى، وقال أشهب: إن خرج به العلج فى الحديد ليفادى به، فله أن يقتله إن أمكنه ذلك وينجو. واختلفوا إذا أمنوه، وعاهدهم ألا يهرب، فقال الكوفيون:

(5/177)


إعطاؤه العهد على ذلك باطل. وقال الشافعى: له أن يخرج ولا يأخذ شيئًا من أمولهم؛ لأنه قد أمنهم بذلك كما أمنوه. وقال مالك: إن عاهدهم على ذلك فلا يجوز أن يهرب إلا بإذنهم. وهو قول سحنون وابن المواز، قال ابن المواز: وهذا بخلاف إذا أجبروه ألا يهرب بطلاق أو عتاق، أنه لا يلزمه، وذلك لأنه مكره. ورواه أبو زيد عن ابن القاسم. وقال غيره: لا معنى لقول من فرق بين يمينه وعهده ألا يهرب؛ لأن حالته حال المكره حلف لهم أو وعدهم أو عاهدهم، سواء أمنوه أو أخافوه؛ لأن الله فرض على المؤمن ألا يبقى تحت أحكام الكفار، وأوجب عليه الهجرة من دارهم، فخروجه على كل وجه جائز، والحجة فى ذلك (خروج أبى بصير، الرسول فعله ورضاه) .
9 - باب إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّقُ
845 / فيه: أَنَس، أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْغِنَا رِسْلا، فَقَالَ: (مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلا أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ، فَانْطَلَقُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا) ، حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِىَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ - إلى قوله -: فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ، فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا. . . . . الحديث. 1846 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأمَمِ تُسَبِّحُ) .

(5/178)


قال المهلب: قوله: باب إذا أحرق المشرك المسلم هل يحرق، ولم يذكر سمل العرنيين أعين الرعاة، يدل أن ذلك من فعلهم مروى، إلا أن طرق ذلك ليست من شرط كتابه. قال المؤلف: وسأذكر الروايات بذلك فى كتاب المحاربين إن شاء الله وقد يخرج معنى الترجمة من هذا الحديث بالدليل لو لم يصح سمل العرنيين والسمل العرنيين للرعاة، وذلك أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - تحريق بالنار، استدل منه البخارى أنه لما جاز تحريق أعينهم بالنار ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاء، أنه أولى بالجواز تحريق المشرك إذا أحرق المسلم. وروى سحنون عن ابن القاسم أنه لا بأس برمى المركب من مراكب العدو بالنار إذا بدءونا بالرمى، وإن كان فيهم أسرى مسلمين ونساء وصبيان لهم. وكذلك حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى أحرق فيه النمل، فيه دليل على جواز التحريق؛ لأن الله إنما عاتبه فى تحريق جماعة النمل التى لم تقرصه، ولم يعلمه أن ذلك من فعله حرام، ولا أنه أتى كبيرة، فتلزمه التوبة منها؛ لأن الأنبياء معصومون من الكبائر، وقد تقدم ذكر من أجاز التحريق بالنار، ومن كرهه من السلف فى باب: (لا يعذب بعذاب الله) قبل هذا. وسيأتى شيء منه فى كتاب المحاربين. والرسل: اللبن. وترجل النهار: ارتفع. فى كتاب العين.

(5/179)


0 باب: حرق الدور والنخيل
847 / فيه: جَرِيرٌ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا تُرِيحُنِى مِنْ ذِى الْخَلَصَةِ؟ - وَكَانَ بَيْتًا فِى خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ - قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فِى خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، قَالَ: وَكُنْتُ لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِى صَدْرِى، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِى صَدْرِى، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَحَرَّقَهَا وَكَسَرَهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُخْبِرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا، كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ - أَوْ أَجْرَبُ - قَالَ: (فَبَارَكَ فِى خَيْلِ أَحْمَسَ، وَرِجَالِهَا، خَمْسَ مَرَّاتٍ) . 1848 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، حَرَّقَ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ. قال المهلب: فى حديث جرير من الفقه جواز هتك كل ما افتتن الناس به من بناء أو إنسان أو حيوان أو غيره. وفى حديث ابن عمر بيان أن للمسلمين أن يكيدوا عدوهم من المشركين بكل ما فيه تضعيف شوكتهم، وتوهين كيدهم وتسهيل الوصول إلى الظفر بهم من قطع ثمارهم، وتغوير مياههم والحول بينهم وبين ما يتغذون به من الأطعمة والأشربة، والتضييق عليهم بالحصار، وذلك أن رسول الله لما أمر بتحريق نخل بنى النضير كان معلومًا أن ما كان من نظير ذلك من قطع أسباب معاشهم وتغوير مياههم فجائز فعله بهم. وقد روى عن على بن أبى طالب قال: (أمرنى رسول الله أن أغور مياه بدر) قاله الطبرى. وفيه الدعاء للجيوش إذا بعثت، وفيه بركة دعوة النبى، وفيه البشارة فى الفتوح، وفيه الدليل على صحة قول من أباح إضرام النيران فى حصون العدو، ونصب المجانيق عليهم، ورميهم بالحجارة، وكل ذلك يعمل فى الضر مثل عمل النار أو نحوه.

(5/180)


واختلف العلماء فى قطع شجر المشركين، وتخريب بلادهم، فرخصت فى ذلك طائفة وكرهته طائفة، فممن أجاز ذلك مالك، والكوفيون، والشافعي. قال الكوفيون: تحرق شجرهم، وتخرب بلادهم، وتذبح الأنعام، وتحرق إذا لم يمكن إخراجها. وقال مالك: يحرق النخل ولا تعرقب المواشي. وقال الشافعى: تحرق الأشجار المثمرة والبيوت، وأكره تحريق الزرع والكلأ. وأما من كره ذلك: فروى الزهرى عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق قال فى وصية الجيش الذى وجه إلى الشام: (لا تغرقن نخلا ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة مثمرة ولا تهدموا بيعة) وقال الليث: أكره حرق النخل والشجر المثمر، ولا تعرقب بهيمة، وهو قول الأوزاعى فى رواية، وبه قال أبو ثور، والحجة فى قول من أجاز تحريقها؛ لشهادة الكتاب والسنة له، قال تعالى: (ما قطعتم من لينة (الآية. قال ابن عباس: اللينة: النخلة والشجرة. وقال ابن إسحاق: التحريق سنة إذا كان أنكى للعدو. وحديث جرير وابن عمر يشهد لصحة هذا القول. وقد تأول بعض الفقهاء أن أمر أبى بكر الصديق: (ألا تحرقن شجرة) إنما كان من أجل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخبرهم أنهم يفتتحونها. وقال الطحاوى: خبر أبى بكر مرسل؛ لأن سعيد بن المسيب لم يولد فى أيام أبى بكر الصديق، وقال الطبرى: نهى أبى بكر عن تحريق النخل وتغريقه إنما هو نهى أن يقصد بذلك ويتعمد، فأما إذا أصابه التحريق والغرق فى خلال الغارة فغير متبوع به فى الدنيا والآخرة من فعله، كما النهى عن قتل النساء والصبيان، إنما هو نهى

(5/181)


عن قصدهم بالقتل وتعمدهم بأعيانهم، فأما من أصابته الخيل فى البيات، أو هلك عند سقوط حصن المدينة عليهم عند هدم المسلمين إياه إرادة وصولهم إلى المقاتلة، أو من أحرقته النار، أو غرقه الماء على هذا الوجه؛ فغير داخل فى الذين نهى الرسول عن قتلهم؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد نصب المنجنيق على الطائف، ولا شك أن حجارته إذا وقعت فى الحصن ربما أصابت المرأة والطفل، فلو كان سبيل ما أصابه ذلك سبيل ما أصاب الرامى بيده متعمدًا كان (صلى الله عليه وسلم) لا ينصبه خشية أن تصيب حجارته من نهى عن قتله، فلما فعل ذلك وأباحه لأمته كان مخالفًا سبيل القصد والعمد فى ذلك. واختلفوا إذا غنم المسلمون مواشى الكفار ودوابهم، وخافوا من كرة عدوهم وأخذها من أيديهم. فقال مالك وأبو حنيفة: تعرقب وتعقر حتى لا ينتفعوا بها. وقال الشافعى: لا يحل قتلها، ولا عقرها، ولكن تخلى. واحتج ابن القصار فى ذلك فقال: لا خلاف بيننا أن المشرك لو كان راكبًا لجاز لنا أن نعرقب ما تحته ونقتله؛ لنتوصل بذلك إلى قتله، فكذلك إذا لم يكن راكبًا، وكذلك فعل ما فيه توهينهم وضعفهم بمنزلة واحدة؛ ألا ترى أن قطع شجرهم وإتلاف زروعهم يجوز؛ لأن فى ذلك ضعفهم وتلفهم وكذلك خيلهم ومواشيهم وقد مدح الله تعالى من فعل ذلك فقال: (ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح (فهو عام فى جميع ما ينالون ولما كانت نفوسهم وأموالهم سواء فى استحلالنا إياهم ثم جاز قتلهم إذا لم يتمكن من أسرهم كذلك يجوز إتلاف أموالهم التى يتقوون بها.

(5/182)


1 - باب: قتل المشرك النائم
849 / فيه: الْبَرَاءِ بَعَثَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَهْطًا مِنَ الأنْصَارِ إِلَى أَبِى رَافِعٍ: لِيَقْتُلُوهُ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ حِصْنَهُمْ، قَالَ: فَدَخَلْتُ فِى مَرْبِطِ دَوَابَّ لَهُمْ، قَالَ: وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ، فَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ، أُرِيهِمْ أَنَّنِى أَطْلُبُهُ مَعَهُمْ، فَوَجَدُوا الْحِمَارَ، فَدَخَلُوا، وَدَخَلْتُ، وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ لَيْلا، وَوَضَعُوا الْمَفَاتِيحَ فِى كَوَّةٍ حَيْثُ أَرَاهَا، فَلَمَّا نَامُوا أَخَذْتُ الْمَفَاتِيحَ، فَفَتَحْتُ بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، فَأَجَابَنِى، فَتَعَمَّدْتُ الصَّوْتَ فَضَرَبْتُهُ، فَصَاحَ، فَخَرَجْتُ [ثُمَّ] جِئْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ كَأَنِّى مُغِيثٌ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، وَغَيَّرْتُ صَوْتِى، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ لأمِّكَ الْوَيْلُ، قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: لا أَدْرِى، مَنْ دَخَلَ عَلَىَّ فَضَرَبَنِى، قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِى فِى بَطْنِهِ، فَتَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَعَ الْعَظْمَ، ثُمَّ خَرَجْتُ، وَأَنَا دَهِشٌ، فَأَتَيْتُ سُلَّمًا لَهُمْ؛ لأنْزِلَ مِنْهُ فَوَقَعْتُ، فَوُثِئَتْ رِجْلِى، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِى، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى سَمِعْتُ نَعَايَا أَبِى رَافِعٍ تَاجِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَقُمْتُ، وَمَا بِى قَلَبَةٌ حَتَّى أَتَيْنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْنَاهُ. وقال البراء: (إن عبد الله بن عتيك دخل عليه بيته فقتله وهو نائم) . قال المهلب: فيه جواز الاغتيال لمن أغار على رسول الله بيد أو مال، أو (راعب) ، وكان أبو رافع يعادى رسول الله ويؤلب الناس عليه، وهذا من باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الحرب خدعة) . فيه: جواز التجسس على المشركين، وطلب غرتهم، وفيه الاغتيال فى الحرب، والإيهام بالقول، وفيه الأخذ بالشدة فى الحرب، والتعرض لعدد كثير من المشركين، والإلقاء إلى التهلكة فى سبيل الله، وأما الذى نهى عنه من ذلك فهو فى الإنفاق فى سبيل الله،

(5/183)


وألا يخل يده من المال فيه رجوعًا وضياعًا، وهى رحمة من الله ورخصة، ومن أخذ بالشدة فمباح له ذلك وأحب إلينا ألا يأخذ بالشدة فى إخلاء يده من المال؛ لوقوع النهى فيه خاصة، وفيه الحكم بالدليل المعروف والعلامة المعروفة على الشيء؛ لحكم هذا الرجل بالواعية على موت أبى رافع. وقال صاحب العين: الواعية: الصارخة التى تندب القتيل، والواعى: الصوت، والوعى: جلبة وأصوات الكلاب فى الصيد إذا جدت. وقوله: (فما برحت حتى سمعت نعايا أبى رافع) المعنى: انع أبا رافع، جعل دلالة الأمر فيه، وعلامة الجزم آخره بغير تنوين. كما قالت العرب فى نظير ذلك من (أدركها) : دراكها، ومن (نظمت) : نظام كقول الراجز: دراكها من إبل دراكها يعنى: أدركها. وزعم سيبويه أنه يطرد هذا الباب فى الأفعال الثلاثية كلها، أن يقال فيها: فعال بمعنى: افعل. نحو: حذار، ومتاع، وتراك، كما تقول اترك، احذر امتع، وأنشد للكميت: نعا جذامًا غير موت ولا قتل أراد: انع جذامًا. وقوله: (وما بى قلبة) قال الفراء: أصله من القلاب، وهو داء يصيب الإبل، وزاد الأصمعى: يشتكى البعير منه قلبه، فيموت من يومه، فقيل: ذلك لكل سالم ليست به علة. وقال ابن الأعرابى: معناه: ليست به علة يقلب لها فينظر إليه.

(5/184)


2 - باب لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
850 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ) . 1851 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وزاد: (فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) . نهى الرسول أمته عن تمنى لقاء العدو؛ ولأنه لا يعلم ما يئول أمره إليه ولا كيف ينجو منه، وفى ذلك من الفقه النهى عن تمنى المكروهات، والتصدى للمحذورات، ولذلك سأل السلف العافية من الفتن والمحن؛ لأن الناس مختلفون فى الصبر على البلاء، ألا ترى الذى أحرقته الجراح فى بعض المغازى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقتل نفسه، وقال الصديق: (لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر) . وروى عن على بن أبى طالب أنه قال لابنه: (يا بنى لا تدعون أحدًا إلى المبارزة ومن دعاك إليها فاخرج إليه؛ لأنه باغ، والله تعالى قد ضمن نصر من بغى عليه) . وأما أقوال الفقهاء فى المبارزة، فذكر ابن المنذر قال: أجمع كل من نحفظ عنه من العلماء أن على المرء أن يبارز، ويدعو إلى البراز بإذن الإمام، غير الحسن البصرى؛ فإنه يكره المبارزة ولا يعرفها، هذا قول الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وأباحت طائفة البراز، ولم يذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه، هذا قول مالك، والشافعى، وسئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز؟ قال: ذلك إلى نيته، إن كان يريد به وجه الله فأرجو أن

(5/185)


لا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك من مضى. وقال أنس بن مالك: قد بارز البراء بن مالك مرزبان الزارة فقتله. وقال أبو قتادة: (بارزت رجلا يوم حنين فقتلته، وأعطانى النبى (صلى الله عليه وسلم) سلبه) وليس فى خبره أنه استأذن الرسول فى ذلك، واختلفوا فى معونة المسلم المبارز على المشرك، فرخص فى ذلك الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وذكر الشافعى قضية حمزة وعبيدة، ومعونة بعضهم بعضا، قال: فأما إن دعا مسلم مشركًا، أو مشرك مسلمًا إلى أن يبارزه، وقال له: لا يقاتلك غيرى أحببت أن يكف عن أن يحمل عليه غيره. وكان الأوزاعى يقول: لا تعينوه على هذا. قيل للأوزاعى: وإن لم يشترط ألا يخرج إليه غيره؟ قال: وإن لا؛ لأن البارزة إنما تكون على هذا، ولو حجزوا بينهما ثم خلوا سبيل العلج المبارز، فإن أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم.
3 - باب: الحَرْبُ خَدْعَةٌ
852 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلَكَ كِسْرَى، ثُمَّ لا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ، ثُمَّ لا يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، وَلَتُنَفَقَنَّ كُنُوزُهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ سَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً) . 1853 / وفيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْحَرْبُ خَدْعَةٌ) . قال المؤلف: ذكر بعض أهل السير أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال هذا يوم الأحزاب لما بعث نعيم ابن مسعود أن يحول بين قريش وغطفان

(5/186)


ويهود، ومعناه أن المماكرة فى الحرب أنفع من المكاثرة والإقدام على غير علم، ومنه قيل: نفاذ الرأى فى الحرب أنفذ من الطعن والضرب. وقال المهلب: الخداع فى الحرب جائز كيفما أمكن ذلك إلا بالأيمان والعهود والتصريح بالأيمان، فلا يحل شيء من ذلك. قال الطبرى: فإنما يجوز من الكذب فى الحرب ما يجوز فى غيرها من التعريض مما ينحى به نحو الصدق مما يحتمل المعنى الذى فيه الخديعة والغدر والألغاز، لا القصد إلى الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. قال المهلب: ومن ذلك أن يقول للمبارز له: خذ حزام فرسك، قد انحل؛ يشغله عن الاحتراس منه فيجد فرصة، وهو يريد أن حزام سرجه قد انحل فيما مضى من الزمان، أو يخيره بخبر يفظعه من موت أميره وهو يريد موت المنام أو الدين، ولا يكون قصد الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه البتة؛ لأن ذلك حرام، ومن ذلك ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه كان إذا أراد غزو قوم ورى بغيرهم. وقال: حديث أبى هريرة عام فى كسرى، وخاص فى قيصر. ومعناه: لا قيصر بعده فى أرض الشام، وقد دعا النبى لقيصر لما قرأ كتابه أن يثبت ملكه فلم يذهب ملك الروم أصلا إلا من الجهة التى جلى منها. وأما كسرى فمزق كتاب رسول الله فدعا عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يمزق ملكه كل ممزق، فانقطع إلى اليوم. وفيه: من علامات النبوة إخباره (صلى الله عليه وسلم) أن كنوزهما ستنفق فى سبيل الله، فكان كذلك. وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الحرب خدعة) لغات، قال سلمة بن

(5/187)


عاصم تلميذ الفراء: من قال الحرب خدعة فهو يخدع وإذا خدع أحد الفريقين صاحبه فكأنها خدعت هى، ومن قال: خدعة، فقد وصفها باسم المصدر، فيحتمل أن يكون فى معنى خدعة تخدعه أى: هى تخدع وصف المفعول بالمصدر، كما تقول: درهم ضرب الأمير، وإنما هو مضروب الأمير. وقال بعض أهل اللغة: معنى الخدعة: المرة الواحدة. أى: من خدع فيها مرة واحدة لم تقل العثرة بعدها. وقال ثعلب: الحرب خدعة، هذه أفصح اللغات بفتح الخاء وإسكان الدال، قال: وذكر لى أنها لغة النبى (صلى الله عليه وسلم) .
4 - باب: الكذب فى الحرب
854 / فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا - يَعْنِى محمدًا - قَدْ عَنَّانَا، وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ أَيْضًا: وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: فَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ. قال المؤلف: روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن، عن أم كلثوم قالت: (ما سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) رخص فى الكذب إلا فى ثلاث كان (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا أعدهن كذبًا الرجل يصلح بين الناس، والرجل يحدث زوجته، والرجل يقول فى الحرب) .

(5/188)


فسألت بعض شيوخى عن معنى هذا الحديث، فقال لى: إن الكذب الذى أباحه (صلى الله عليه وسلم) فى الحرب هى المعاريض التى لا يفهم منها التصريح بالتأمين؛ لأن من السنة المجتمع عليها أن من أمن كافرا فقد حقن دمه، ولهذا قال عمر بن الخطاب: يتبع أحدكم العلج حتى إذا اشتد فى الجبل قال له: مترس، ثم قتله، والله لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا قتلته. وقال المهلب: موضع الكذب من هذا الحديث قول محمد بن مسلمة: قد عنانا وسألنا الصدقة؛ لأن هذا الكلام يحتمل أن يتأول منه أن اتباعهم له إنما هو للدنيا على نية كعب ابن الأشرف، وليس هو بكذب محض بل هو تورية ومن معاريض الكلام؛ لأنه ورى له عن الحق الذى اتبعوه له فى الآخرة، وذكر العناء الذى يصيبهم فى الدنيا والنصب، أما الكذب الحقيقى فهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وليس فى قول ابن مسلمة إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وإنما هو تحريف لظاهر اللفظ، وهو موافق لباطن المعنى. ولا يجوز الكذب الحقيقى فى شيء من الدين أصلا، ومحال أن يأمر بالكذب وهو (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وإنما أذن له أن يقول ما لو قاله بغير إذن النبى (صلى الله عليه وسلم) وسمع منه لكان دليلا على النفاق، ولكن لما أذن له فى القول لم يكن معدودًا عليه أنه نفاق، وسيأتى فى كتاب الصلح زيادة فى هذا المعنى فى (باب ليس الكاذب الذى يصلح بين الناس) إن شاء الله تعالى.

(5/189)


5 باب: الفتك فى الحرب
855 / - فيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ) ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قَالَ: فَأْذَنْ لِى فَأَقُولَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. الفتك فى الحرب على وجهين: أحدهما محرم، والثانى جائز، فالفتك الذى يحرم به الدم أن يصرح بلفظ يفهم منه التأمين. فإذا أمنه فقد حرم بذلك دمه والغدر به وعلى هذا جماعة العلماء، وأما الوجه المباح منه فهو أن يخادعه بألفاظ هى معاريض غير تصريح بالتأمين، فهذا يجوز؛ لأن الحرب خدعة. قال المؤلف: واختلف فى تأويل قتل ابن الأشرف على وجوه: فقيل: إن قتله هو من هذا الباب المباح؛ لأن ابن مسلمة لم يصرح له بشيء من لفظ التأمين، وإنما أتاه بمعاريض من القول فيجوز هذا أن يسمى: فتكًا على المجاز. وفيه وجه آخر قاله بعض شيوخنا قال: إن قتل ابن الأشرف هو من باب أن من آذى الله ورسوله قد حل دمه، ولا أمان له يعتصم به فقتله جائز على كل حال؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما قتله بوحى من الله وأذن فى قتله فصار ذلك أصلا فى جواز قتل من كان لله ولرسوله حربًا، عن الطبري. قال غيره: ألا ترى لو أن رجلا أدخل رجلا مشركًا فى داره فأمنه فسب عنده النبى (صلى الله عليه وسلم) حل بذلك للذى أمنه قتله، ونحو هذا ما حكاه ابن حبيب، قال: سمعت المدنيين من أصحاب

(5/190)


مالك يقولون: إنما تجب الدعوة لكل من لم يبلغه الإسلام، ولا يعلم ما يقاتل عليه، فأما من قد بلغه الإسلام، وعلم ما يدعى إليه، ومن حارب وحورب مثل الروم والإفرنج، فالدعوة فيما بيننا وبينهم مطرحة ولا بأس بتبييت مثل أولئك بالغارة وتصبيحهم، وانتهاز الفرصة فيهم بلا دعوة، وقد بعث رسول الله عبد الله بن أنيس الجهنى إلى عبد الله ابن نبيح الهذلى فاغتاله بالقتل، وهو بعرفة من جبال عرفة، وبعث نفرًا من الأنصار إلى ابن أبى الحقيق، وإلى كعب بن الأشرف فهجموا عليهما بالقتل فى بيوتهما بخيبر. قال المؤلف: فلا يجوز أن يقال: إن ابن الأشرف قتل غدرًا؛ لأنه لم يكن معاهدًا، ولا كان من أهل الذمة، ومن قال: إنه قتل غدرًا فهو كافر ويقتل بغير استتابة؛ لأنه تنقص النبى (صلى الله عليه وسلم) ورماه بكبيرة، وهو الغدر وقد نزهه الله عن كل دنية، وطهره من كل ريبة. ألا ترى قول هرقل لأبى سفيان: سألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون، وإنما قال هذا هرقل؛ لأنه وجد فى الإنجيل صفته، وصفة جميع الأنبياء عليهم السلام أنه لا يجوز عليهم صفات النقص؛ لأنهم صفوة الله وهم معصومون من الكبائر، والغدر كبيرة، وسيأتى فى كتاب الرهون فى باب (رهن السلاح) زيادة فى معنى قتل كعب بن الأشرف إن شاء الله. وروى فى الأثر أن (تاس السبائى) قال فى مجلس على بن أبى طالب: إن ابن الأشرف قتل غدرًا. فأمر به على فضرب عنقه. وقد قال مالك: من تنقص النبى (صلى الله عليه وسلم) فإنه يقتل، ومن قال: إن زر النبى (صلى الله عليه وسلم) وسخة يريد بذلك الإزراء عليه

(5/191)


قتل، قال: ومن سبه قتل بغير استتابة إن كان مسلمًا، وإن كان ذميا قتل قبل أن يسلم. وقال الكوفيون: من سب النبى فقد ارتد، وإن كان ذميا عزر ولم يقتل، وسيأتى تمام هذه المسألة، والحجة فيها فى موضعه إن شاء الله.
6 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاحْتِيَالِ وَالْحَذَرِ مَعَ مَنْ يَخْشَى مَعَرَّتَهُ
856 / - فيه: ابْن عُمَرَ، انْطَلَقَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَعَهُ أُبَىُّ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، فَحُدِّثَ بِهِ فِى نَخْلٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ طَفِقَ يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَابْنُ صَيَّادٍ فِى قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) . قال المهلب: فيه الترجمة، وفيه ألا يجعل على من ظهر منه مكروه؛ حتى يتيقن أمره، وفيه أن الإمام إذا أشكل عليه أمر من جهة الشهادات عنده أن يلى ذلك بنفسه، فيباشره؛ حتى يسمع ما نقل إليه ويرى ما شهد به عنده، فبالعيان تنكشف الريب. وفيه نهوض السلطان راجلا ليعرف ما يحتاج إليه، وفيه زجر أهل الباطل بزجر الكلاب، وفيه ترك عقوبة غير البالغ من الرجال، وقد تقدم فى (كتاب الجنائز) فى باب: (هل يعرض على الصبى الإسلام) شيء من معنى هذا الحديث، وسيأتى شيء منه فى (كتاب الاعتصام) فى باب (من رأى ترك النكير حجة لا من غير الرسول) .

(5/192)


7 - باب الرَّجَزِ فِى الْحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِى حَفْرِ الْخَنْدَقِ
857 / فيه: سَهْلٌ وَأَنَسٌ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وَيَزِيدُ، عَنْ سَلَمَةَ. 1858 / وفيه: الْبَرَاءِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا. . . إلى قوله: إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا. وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ. قال المهلب: فيه ابتذال الإمام وتوليه المهنة فى التحصين على المسلمين لينشط الناس بذلك على العمل، ولذلك ارتجز هذا الرجز ليذكرهم ما يعملون ولمن يعملون ذلك، ويعرفهم أن الأمر أعظم خطرًا من ابتذالهم وتعبهم. وفيه أنه لا بأس برفع الصوت فى أعمال الطاعات إذا لم يكن مضعفًا عنها ولا قاطعًا دونها.
8 - باب: مَنْ لاَ يَثْبُتَ عَلَى الخَيْلِ
859 / فيه: جَرِيرٍ، مَا حَجَبَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلا رَآنِى إِلا تَبَسَّمَ فِى وَجْهِى، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّى لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِى صَدْرِى، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) . فيه أن الرجل الوجيه فى قومه له حرمة ومكانة على من هو دونه؛ لأن جريرًا كان سيد قومه. وفيه أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب للمودة. وفيه فضل

(5/193)


الفروسية وإحكام ركوب الخيل وأن ذلك مما ينبغى أن يتعلمه الرجل الشريف والرئيس. وفيه أنه لا بأس للعالم والإمام إذا أشار إلى إنسان فى مخاطبته أو غيرها أن يضع عليه يده، ويضرب بعض جسده، وذلك من التواضع وفيه استمالة النفوس. وفيه بركة دعوة النبى؛ لأنه قد جاء فى هذا الحديث أنه ما سقط بعد ذلك من الخيل. وقوله: (هاديًا مهديًا) من باب التقديم والتأخير الذى فى كلام العرب؛ لأنه لا يكون هاديًا لغيره إلا بعد أن يهتدى هو ويكون مهديًا.
9 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلافِ فِى الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ وقوله: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا (الآية [الأنفال: 46]
860 / فيه: أَبُو مُوسى، بَعَثَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا) . 1861 / فيه: الْبَرَاءَ، جَعَلَ النَّبِىُّ، عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ - وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلا - عَبْدَاللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: (إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا، حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) ، فَهَزَمُوهُمْ، قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْدُدُنَ، قَدْ بَدَتْ خَلاخِلُهُنَّ وَسْوُقُهُنَّ، رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ،

(5/194)


قَالَ أَصْحَابُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ، أَىْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ، فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ، لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ، صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِى أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْق مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إلا اثْنَىْ عَشَرَ رَجُلا، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا، وَسَبْعِينَ قَتِيلا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِى الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ فَنَهَاهُمُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِى الْقَوْمِ ابْنُ أَبِى قُحَافَةَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ ثُمَّ قَالَ: أَفِى الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ، فَقَدْ قُتِلُوا، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لأحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِىَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِى الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا، وَلَمْ تَسُؤْنِى، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: أُعْلُ هُبَلْ أُعْلُ هُبَلْ فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَفَلاَ تُجِيبُوه) ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ) ، قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا تُجِيبُوه) ؟ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: (اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ) . قال المهلب: التنازع والخلاف هو سبب الهلاك فى الدنيا والآخرة؛ لأن الله تعالى قد عبر فى كتابه بالخلاف الذى قضى به على عباده عن الهلاك فى قوله: (ولا يزالون مختلفين (ثم قال: (ولذلك خلقهم (فقال قوم: خلقهم للخلاف. وقال آخرون: خلقهم ليكونوا: فريق فى الجنة وفريق فى السعير من أجل اختلافهم. وهذا

(5/195)


كثير فى كتاب الله، وقد أخبر الله تعالى - أن مع الخلاف يكون الفشل والكسل، فيتمكن العدو من المخالفين؛ لأنهم كانوا كلهم مدافعين دفاعًا واحدًا، فصار بعضهم يدافع بعضًا، فتمكن العدو. وفى حديث عبد الله بن جبير معاقبة الله على الخلاف، وعلى ترك الائتمار للرسول والوقوف عند قوله كما قال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (. وفى قوله: (حتى تخطفنا الطير) دليل على جواز الإغياء فى الكلام. وفيه بيان أن النبى لم ينهزم كل أصحابه. ونهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن جواب أبى سفيان تصاون عن الخوض فيما لا فائدة فيه، وإجابة عمر بعد نهى النبى إنما هى حماية للظن بالنبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قتل، وأن بأصحابه الوهن، فليس فى هذا عصيان للنبى فى الحقيقة، وإن كان عصيانًا فى الظاهر، فهو مما يؤجر به. وقوله: (قد بقى لك ما يسوؤك) أرهب عليه لما ظن به الوقيعة، وكسر شوكة الإسلام، وأنه قد مضى النبى وسادة أصحابه، فعرفهم أنهم أحياء، وأنه قد بقى له ما يسوؤه. و (هبل) صنم كانوا يعبدونه فى الجاهلية، وأمر النبى بجوابه؛ لأنه بعث بإعلاء كلمة الله تعالى وإظهار دينه، فلما كلم هذا الكلام لم يسعه السكوت عنه، حتى تعلو كلمة الله، ثم عرفهم فى جوابه أنهم يقرون أن الله أعلى وأجل لقولهم: (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى (فلم يراجعه أبو سفيان، ولا نقض عليه كلامه، اعترافًا بما قال. ثم ذكر صنمًا آخر فقال: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فأمر الرسول بمجاوبته، وعرف فى جوابه أن العزى ومثلها من

(5/196)


الأصنام لا موالاة لها، ولا نصر. فقال: الله مولانا ولا مولى لكم. فعرف أن النصر من عند الله، وأن الموالاة والنصر لا تكون من الأصنام، فبكته بذلك، ولم يراجعه، وإنما ترك النبى مجاوبته بنفسه تهاونًا من خصام مثله، وأمر من ينوب عنه تنزهًا عنه. وقال الخطابى: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير) مثل، والمعنى: إن رأيتمونا قد انهزمنا وولينا، فلا ترجعوا. يقال: فلان ساكن الطير، وواقع الطير إذا كان هاديًا وقورًا. وضرب المثل بالطير؛ لأنه لا يقع إلا على الشيء الساكن، ويقال للإنسان إذا طاش وأسرع: قد طار طيره.
0 - باب: مَنْ رَأَى العَدُوَّ فَنَادَى بِصَوْتِهِ يَا صَبَاحَاهْ حَتَى يُسْمِعَ النَّاسَ
862 / فيه: سَلَمَةَ، خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِى غُلامٌ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ، مَا بِكَ؟ قَالَ: قَدْ أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ، فَصَرَخْتُ ثَلاثَ صَرَخَاتٍ، أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهْ، يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ، وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَقُولُ: أَنَا ابْنُ الأكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّى أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ، فَابْعَثْ فِى إِثْرِهِمْ، فَقَالَ: (يَا ابْنَ الأكْوَعِ، مَلَكْتَ، فَأَسْجِحْ، إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِى قَوْمِهِمْ) .

(5/197)


قال المهلب: فيه وجوب النذير بالعسكر والسرية بالصراخ بكلمة تدل على ذلك. وقوله: (يا صباحاه) معناه: قد أغير عليكم فى الصباح، أو قد صوبحتم فخذوا حذركم. وفيه جواز الأخذ بالشدة، ولقاء الواحد أكثر من المثلين؛ لأن سلمة كان وحده، وألقى بنفسه إلى التهلكة، وفيه تعريف الإنسان بنفسه فى الحرب شجاعته وتقدمه. وسيأتى فى الباب بعد هذا زيادة فى ذلك، وفيه فضل الرماية؛ لأنه وحده قاومهم بها ورد الغنيمة. وقوله: (واليوم يوم الرضع) فيه أقوال للعلماء: قيل: معناه أن من أرضعته الحرب من صغره، فهو الظاهر، وقيل: معناه أن اليوم يعرف من رضع كريمة أو من رضع لئيمة، فيبدو فعله فى الدفع عن حريمه. وقال الخطابى: معناه أن اليوم يوم هلاك اللئام من قولهم: لئيم رضع، وهو الذى يرضع الغنم لا يحلبها، فيسمع صوت الحلب. وقوله: (فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا) يعنى: الماء، وعلى ذلك يدل قوله: (إن القوم عطاش) يحضه على اتباعهم وإهلاكهم، فقال له (صلى الله عليه وسلم) : (ملكت فأسجح) أى: استنقذت الغنيمة فملكتها وملكت الحماية فأسجح. أى ارفق ولا تبالغ فى المطالبة، فربما عادت عليك كسرة من حيث لا تظن، فبعد أن كنت ظفرت يظهر بك، وقال ذلك (صلى الله عليه وسلم) رجاء توبة منهم، ودخول فى الإسلام. وقوله: إن القوم (يقرون) يعنى: أنهم سيلقون أول بلادهم فيطعمون ويسقون قبل أن تبلغ منهم ما تريد، ومن روى (يقرون)

(5/198)


جعل القرى لهم أنهم يضيفون الأضياف، فراعى لهم (صلى الله عليه وسلم) حق ذلك ورجا أن يتوب الله عليهم.
1 - باب: مَنْ قَالَ أَنَا ابُن فُلانٍ
وَقَالَ سَلَمَةُ: خُذْهَا، وَأَنَا ابْنُ الأكْوَعِ. 1863 / فيه: الْبَرَاءَ، أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يُوَلِّ يوم حنين، كَانَ أَبُو سُفْيَانَ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ، نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ: (أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ) [قَالَ] : فَمَا رُئِىَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ. قال المؤلف: فى (النوادر) قال محمد بن عبد الحكم: لا بأس بالافتخار عند الرمى، والانتماء بالقبائل، والرجز، وكل ذلك إذا رمى بالسهم فظنه مصيبًا أن يصيح عليه، وبالذكر لله أحب إلى، وإن قال: أنا الفلانى لقبيلته فذلك جائز كله مستحب. وفيه إغراء لبعضهم ببعض، وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أنا ابن العواتك) ورمى ابن عمر بين الهدفين فقال: (أنا لها، أنا لها، وقال: أنا أبو عبد الرحمن. فقال: أنا الغلام الهذلي. وكان مكحول فارسيا وكانت لغته بالدال. وقوله: (خذها، وأنا ابن الأكوع) أى: أنا ابن المشهور فى الرمى بالإصابة عن القوس، وهذا على سبيل الفخر؛ لأن العرب تقول: أنا ابن نجدتها. أى: القائم بالأمر. وأنا ابن جلاء، يريد المنكشف للأمر الواضح الجلي. وقال الهذلى: فرميت فوق ملاءة محبوكة وأبنت للأشهاد حرة أدعى يقول: أبنت لهم قولى: خذها وأنا ابن فلان، و (حرة) يعنى

(5/199)


ساعة أدعى إلى قومى، ولا يقول مثل هذا إلا الشجاع البطل، والعادة عند العرب أن يعلم الشجاع نفسه بعلامة فى الحرب بتميز بها من غيره ليقصده من يدعى الشجاعة، فأعلم النبى نفسه بالنبوة المعصومة، وبنسبه الطاهر فقال: أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب ليقوى قلب من تمكن الشيطان منه فاستزله وانهزم، ولذلك نزل (صلى الله عليه وسلم) بالأرض؛ لأن النزول غاية ما يكون من الطمأنينة، والثقة بالله تعالى ليقتدى به المؤمنون فيثبتوا؛ لأن الرسول لا يجوز عليه من كيد الشيطان أن يقذف فى قلبه خوفا يزل به قدمه، أو ينكص على عقبيه فينهزم؛ لأنه على بصيرة من أمره، ويقين من نصر الله له، وإتمام أمره، ومنعه من عدوه، وقد تقدم هذا المعنى. قال الطبرى: وقد اختلف السلف: هل يعلم الرجل الشجاع نفسه عند لقاء العدو؟ فقال بعضهم: ذلك جائز على ما دل عليه هذا الحديث، وقد أعلم نفسه حمزة بن عبد المطلب يوم بدر بريشة نعامة فى صدره، وأعلم نفسه أبو دجانة بعصابة محضر النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان الزبير يوم بدر معتم بعمامة صفراء، فنزلت الملائكة معتمين بعمائم صفر. وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (إنهم أتوا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) مسومين بالصوف، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف، وكره آخرون التسويم والإعلام فى الحرب، وقالوا: فعل ذلك من الشهرة، ولا ينبغى للرجل المسلم أن يشهر نفسه فى خير ولا شر، قالوا: وإنما

(5/200)


ينبغى للمؤمن إذا فعل شيئًا لله أن يخفيه عن الناس؛ فإن الله لا يخفى عليه شيء، روى هذا عن بريدة الأسلمي. قال الطبرى: والصواب أنه لا بأس بالتسويم والإعلام فى الحرب إذا فعله الفاعل من أهل البأس والنجدة، وهو قاصد بذلك شد الناس على أن لا [. . . .] والصبر للعدو والثبات لهم فى اللقاء، وهو يريد ترهيب العدو إذا عرفوا مكانه، وإعلام من معه من المسلمين أنه لا يخذلهم ولا يسلمهم. وأما إذا لم يرد ذلك وقصد به الافتخار فهذا المعنى هو المكروه؛ لأنه ليس ممن قاتل لتكون كلمة الله هى العليا وإنما قاتل للذكر.
2 - باب: إِذَا نَزَلَ الَعُدُّو عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ
864 / فيه: أَبُو سَعِيد، لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ بْن مُعَاذٍ، بَعَثَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لَهُ: (إِنَّ هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ) ، قَالَ: فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، قَالَ: (لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ) . قال المهلب: فيه جواز التحكيم فى أمر الحرب وغيره، وذلك رد على الخوارج الذين أنكروا التحكيم على عليّ. وفيه: أن التحاكم فى الدنيا إلى رجل معلوم الصلاح والخير لازم للمتحاكمين. فكيف بيننا وبين عدونا فى الدين؟ وأن المال أخف مؤنة من النفس والأهل. وفيه: أمر السلطان والحاكم بإكرام السيد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل فى مجلس السلطان الأكبر والقيام فيه لغيره من أصحابه وسادة أتباعه، وإلزام الناس كافة القيام إلى سيدهم.

(5/201)


وقد اعترض هذا من قال: إنما أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) الأنصار بهذا خاصة؛ لأنه سيد الأنصار، وهذا لا دليل عليه، بل هو سيد من حضر من أنصارى ومهاجرى؛ لأنه قال فيه قولا مجملا لم يخص فيه أحدًا ممن بين يديه من غيره، وسيأتى فى كتاب الاستئذان تأويل حديث أبى سعيد مع الحديث العارض إن شاء الله. قال الطبرى: فيه البيان عن أن لإمام المسلمين إذا حاصر العدو، فسألوهم أن ينزلوهم على حكم رجل من المسلمين، مرضية أمانته على الإسلام وأهله، موثوق بعقله ودينه أن يجيبهم إلى ذلك، وإن كان الرجل غائبًا عن الجيش؛ لأن سعدًا لم يشهد حصار رسول الله لبنى قريظة، حين سألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ينزلوا على حكمه، وكان بالمدينة يعالج كلمه الذى كلمه بالخندق، فأرسل فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى حكم فيهم، فإن وافق حكمه حكم الله ورسوله أمضى، وإن خالف ذلك رد حكمه. وقيل للنازلين على حكمه: إن رضيتم حكم غيره يحكم فيكم بحكم يجوز فى ديننا أمضينا حكمه، وإن كرهتم ذلك رددناكم إلى حصنكم، والحكم الذى لا يجوز لأحد الفريقين الرجوع عنه هو أن يحكم بقتلهم، وسبى ذراريهم ونسائهم، وقسم أموالهم، إن كان ذلك هو النظر المسلمين، وإن حكم باسترقاق مقاتلتهم، أو المن عليهم، ووضع الخراج على رءوسهم فجائز بعد أن يكون نظرًا للمسلمين. وأما الحكم الذى يرد ولا يمضى: فهو أن يحكم أنهم يقروا فى أرض المسلمين كفار بغير خراج يؤدونه إلى الإمام ولا جزية؛ لأنه غير جائز أن يقيم كافر فى أرض الإسلام سنة بغير جزية يؤديها عن رقبته، وإن سألوهم أن ينزلهم على حكم الله أو يحكم فيهم بحكم الله؛ فإنه لا ينبغى أن يجيبهم إلى ذلك لصحة الخبر الذى رواه سفيان عن علقمة

(5/202)


ابن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: (كان (صلى الله عليه وسلم) إذا بعث أميرًا على جيش وصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا وقال: اغزوا بسم الله فى سبيل الله قاتلوا من كفر إلى قوله وإن قاتلت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، واجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ خير أن تخفر ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تعلم أصبت حكم الله فيهم أم لا) . فإن قيل: كيف جاز للإمام أن ينزلهم على حكم رجل، مرضى دينه لا يتجاوز فيهم حكم الله وحكم رسوله، ثم إنه يقول: لا يجوز للإمام أن يجيبهم إذا سألوه أن ينزلهم على حكم الله وحكم رسوله، وهذان قولان يفسد أحدهما صاحبه. قيل له: ليس كما توهمت، فأما كراهيتها للإمام أن يجيب من سأله النزول على حكم الله وحكم رسوله الذى هو الحق عنده، فإن ذلك لا يعلمه إلا علام الغيوب، وإنما يحكمون إذا كانوا أهل دين وأمانة بأصلح ما حضرهم فى الوقت، ولا سبيل إلى الحكم بعلم الله، فهذا معنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) . وإن هم حكموا على حكم رجل من المسلمين ثم بدا لهم فى الرضا بحكمه قبل أن يحكم بينهم، وسألوا الإمام غيره ممن هو رضا، فللإمام أن يجيبهم إلى ذلك، وذلك أن رسول الله ذكر عنه أن بنى قريظة كانوا نزلوا على حكمه، ثم سألوه أن يجعل الحكم لسعد ابن معاذ، فأجابهم إلى ذلك، فأما إذا حكم بينهم الذى نزلوا على حكمه إذا لم يخالف حكمه ما يجوز فى ديننا.

(5/203)


وفيه أن الإمام إذا ظهر من قوم من أهل الحرب الذى بينه وبينهم مواعدة وهدنة على خيانة وغدر أن ينبذ إليهم على سواء وأن يحاربهم، وذلك أن قريظة كانوا أهل مواعدة للنبى قبل الخندق. فلما كان يوم الأحزاب ظاهروا قريشًا وأبا سفيان على رسول الله وراسلوهم: إنَّا معكم، وأثبتوا مكانكم. فأحل الله بذلك من فعلهم قتالهم ومنابذتهم على سواء، وفيهم نزلت هذه الآية: (وإما تخافن من قوم خيانة (الآية. فحاصرهم رسول الله والمسلمون معه، حتى نزلوا على حكم سعد. قال المهلب: وفيه أن الإنسان قد يوافق برأيه ما فى حكم الله ولا يعلم ذلك إلا على لسان نبى كما قال النبى لسعد.
3 باب: قَتْلِ الأَسِيرِ وَقَتَلِ الصَّبْرِ
865 / فيه: أَنَسِ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَه رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ، مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ) . قد تقدم القول فى قتل الأسرى، وأن الإمام مخير بين القتل والمن، وكذلك فعل الرسول يوم فتح مكة؛ قتل ابن خطل ومقيس بن صبابة والقينتين ومن على الباقين. وفيه أن للإمام أن يقتل صبرًا من حاد الله ورسوله وكان فى قتله صلاحًا للمسلمين، كما قتل يوم بدر عقبة بن أبى معيط، قام إليه على بن أبى طالب فقتله صبرًا. فقال: من للصبية يا محمد؟ قال النار. وقتل النضر بن الحارث، وكذلك فعل سعد بن معاذ فى بنى

(5/204)


قريظة، وهذا الحديث حجة لقول جمهور العلماء أن مكة فتحت عنوة، وقد تقدم ذلك فى كتاب الحج. ومن الآثار الدالة على ذلك ما ذكره أبو عبيد قال: حدثنا أبو النضر، عن سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت البنانى، عن عبد الله بن رباح، عن أبى هريرة أنه حدث بفتح مكة قال: (ثم أقبل رسول الله حين قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالد ابن الوليد على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسر، وأخذوا بطن الوادى، فأمرنى رسول الله، فناديت بالأنصار فلما طافت به قال: أترون أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال: بيده إحداهما على الأخرى -: احصدوهم حصدًا، حتى توافونى بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم من شاء إلا قتله. فجاء أبو سفيان بن حرب فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن) . قال أبو عبيد: حدثنا هشيم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، قال: قال رسول اله يوم فتح مكة: (ألا لا يجهزن على جريح، ولا يتبع مدبر، ولا يقتلن أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن) . وهذا بين فى دخولها عنوة، ومن خالف ذلك، واعتل بأن الرسول لم يحكم فيها بحكم العنوة من الغنم لها، واسترقاق أهلها، فلم تكن عنوة، فقد علم من تخصيص مكة، ومباينتها فى أحكامها لسائر البلاد، ما فيه مقنع من أنها حرام، وأنها مناخ من سبق فلا تباع رباعها، ولا تكرى بيوتها، ولا تحل لقطتها، ولا تحل غنائمها، فليست تشبه مكة شيئًا من البلاد

(5/205)


4 - باب: هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَينِ عِنْدَ القَتْلِ
866 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِىَّ؛ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ، وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ، يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمُ: انْزِلُوا، وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَلا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمُ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِى ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِى سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأنْصَارِىُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لا أَصْحَبُكُمْ إِنَّ [لِى] فِى هَؤُلاءِ لأسْوَةً يُرِيدُ الْقَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَأَبَى، فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَقَالَت ابْنَة الْحَارِثِ أَنَهُ اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِى، وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ يُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِى وَجْهِى، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِى يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِى الْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِى الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِى

(5/206)


أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ لَأَصَلْتٌهَا، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا: مَا أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ يَشَأْ عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ، وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ اللَّه عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا. قال المهلب: فيه أنه جائز أن يستأنس الرجل إذا أراد أن يأخذ برخصة الله فى إحياء نفسه، كما فعل خبيب، وصاحباه. وقال الحسن البصرى: لا بأس أن يستأنس الرجل إذا خاف أن يغلب. وقال الأوزاعى: لا بأس للأسير بالشدة والإبائة من الأسر والأنفة من أن يجرى ملك كافر كما فعل عاصم وأحد صاحبى خبيب، حتى أبى من السير معهم، حتى قتلوه. وقال الثورى: أكره للأسير المسلم أن يمكن من نفسه إلا مجبورًا. وفيه استنان الركعتين لكل من قتل صبرًا. وفيه استنان الاستحداد لمن أسر، ولمن يقتل، والتنظيف لمن

(5/207)


[. . . . .] بعد القتل لئلا يطلع منه على قبح عورة، وفيه: أداء الأمانة إلى المشرك وغيره، وفيه: التورع من قتل أطفال المشركين رجاء أن يكونوا مؤمنين. وفيه: الامتداح بالشعر فى حين ينزل بالمرء هوان فى دين أو ذلة ليسلى بذلك نفسه، ويرغم بذلك أنف عدوه، ويجدد فى نفسه صبرًا وأنفة. وأما قول جويرية: رأيت فى يده قطف عنب، وما بمكة من ثمرة، فهذا ممكن أن يكون آية لله تعالى على الكفار، وبرهانًا لنبيه، وتصحيحًا لرسالته عند الكافرة وأهل بلدها الكفار من أجل ما كانوا عليه من تكذيب الرسول. فأما من يذكر اليوم مثل هذا بين ظهرانى المسلمين فليس لذلك وجه؛ إذ المسلمون كلهم قد دخلوا فى دين الله أفواجًا، وآمنوا بمحمد، وأيقنوا به، فأى معنى لإظهار آية عندهم، وعلى ما يستشهد بها فيهم؛ لأنه قد يشك المرتاب ومن فى قلبه غرارة وجهل. يقول: إذا جاز ظهور هذه الآيات من غير نبى، فكيف يصدقها من نبى وغيره يأتى بها، فلو لم يكن فى هذا إلا رفع هذا الريب عن قلوب أهل التقصير والغرارة والجهل لكان قطع الذريعة واجبًا، والمنع منها لازمًا لهذه العلة، فكيف ولا معنى لها فى الإسلام بعد تأصله، وعند أهل الإيمان بعد تمكنه، إلا أن يكون من ذلك ما لا يخرق عادة، ولا يقلب عينًا، ولا يخرج عن معقول البشر، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوة من حينه فى أمر عسير وسبب ممتنع، ودفع بأس نازل وشنعة قد أظلت فيصرفها بلطفه عن وليه، فهذا ومثله مما يظهر فيه فضل

(5/208)


الفاضل وكرامة الولى عند ربه، وقد أخبرنى أبو عمران الفقيه الحافظ بالقيروان أنه وقف أبا بكر بن الطيب الباقلانى على تجويزه لهذه المعجزات، فقال له: أرأيت إن قالت لنا المعتزلة: إن برهاننا على تصحيح مذهبنا، وما ندعيه من المسائل المخالفة لكم ظهور هذه الآية على يدى رجل صالح منا. قال أبو عمران: فأطرق عنى ومطلنى بالجواب، ثم اقتضيته فى مجلس آخر، فقال لى: كل ما أعترض من هذه الأشياء شيئًا من الدين أو السنن أو ما عليه صحيح العلم، فلا يقبل أصلا على أى طريق جاء. فهذا آخر ما رجع إليه ابن الطيب. أما حماية الله عاصمًا (من الدبر) فلئلا ينتهك حرمته عدوه، فهذه الكرامة التى تجوز، ومثل ذلك غير منكر؛ لأن الله حماه على طريق العادة، ولم يكن قلب عين ولا خرق عادة، فهذا ومثله جائز وفيه علامة من علامات النبوة بإجابة دعوة عاصم بأن أخبر الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالخبر قبل بلوغه على ألسنة المخلوقين. والدبر جماعة النحل لا واحد لها، وكذلك الثوم والخشرم لا واحد لشيء منها، كما يقال لجماعة الجراد: رجل. ولجماعة النعام: خيط، ولجماعة الظباء: إجل، وليس لشيء من ذلك واحد.

(5/209)


5 - باب: فَكَاكِ الأَسِيرِ
867 / فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فُكُّوا الْعَانِىَ، يَعْنِى الأسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ) . 1868 / وفيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قُلْتُ لِعَلِىٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ مِنَ الْوَحْىِ إِلا مَا فِى كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلا فِى الْقُرْآنِ، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: [وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ؟] قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. فكاك الأسير فرض على الكفاية؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : فكوا العاني. وعلى هذا كافة العلماء؛ وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: فكاك كل أسير من أسرى المسلمين من بيت المال. وبه قال إسحاق، وروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن على عن فكاك الأسير، قال: على الأرض التى يقاتل عليها. وروى أشهب وابن نافع عن مالك أنه سئل: أواجب على السلمين افتداء من أسر منهم؟ قال: نعم، أليس واجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذهم، فكيف لا يفدونهم بأموالهم؟ وقال أحمد: يفادون بالرءوس، وأما بالمال فلا أعرفه، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : فكوا العاني. عموم فى كل ما يفادى به، فلا معنى لقول أحمد، وقد قال عمر بن عبد العزيز: إذا خرج الذمى بالأسير من المسلمين فلا يحل للمسلمين أن يردوه إلى الكفر، ليفادوه بما استطاعوا. قال تعالى: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم (. وقوله: (أطعموا الجائع) هو فرض على الكفاية أيضًا، ألا ترى رجلا يموت جوعًا، وعندك ما تجيبه به، بحيث لا يكون فى ذلك الموضع أحد غيرك، الفرض عليك فى إحياء نفسه، وإمساك رمقه، وإذا ارتفعت حال الضرورة كان ذلك ندبًا، وسيأتى شيء من هذا المعنى فى كتاب الأطعمة إن شاء الله

(5/210)


وأما قوله: (وعودوا المريض) . فهو محمول على الحض والندب إلى التواخى والتآلف، ويحتمل أن يكون من فرض الكفاية كسائر الحديث. قال المهلب: وأما يمين على أن ما عنده إلا كتاب الله أو فهما يعطيه الله رجلا، فهو دليلا على صحة قول مالك: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما هو نور وفهم يضعه الله فى قلب من يشاء. فمن أنكر هذا على مالك فلينكره على عليّ. وفيه أن كتاب الله أصل العلم، وأن الفهم إنما هو عنه، وعن حديث رسول الله المبين له، وقوله: والذى فلق الحبة وبرأ النسمة، هو من أيمان العرب. قال أبو عبيد: فلق الحبة: شقها فى الأرض حتى نبتت ثم أثمرت فكان منها حب كثير، وكل شيء شققته باثنين فقد فلقته، ومنه قوله: (فالق الحب والنوى (والنسمة: كل ذات نفس فهى نسمة، وسميت نسمة لتنسمها الهواء، وبرأ الله الخلق برءًا: خلقهم.
6 - باب: فِدَاءِ المشْرِكِينَ
869 / فيه: أَنَس، أَنَّ رِجَالا مِنَ الأنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاس فِدَاءَهُ، فَقَالَ: (لا تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا) . وَقَالَ أَنَسٍ، أُتِىَ (صلى الله عليه وسلم) بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِى، فَإِنِّى فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلا، فَقَالَ: (خُذْ) ، فَأَعْطَاهُ فِى ثَوْبِهِ. 1870 / وفيه: جُبَيْرٍ بْنُ مطعم، وَكَانَ جَاءَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقْرَأُ فِى الْمَغْرِبِ: والطُّور.

(5/211)


قال المهلب: أسر العباس يوم بدر، وكان غنيا ففدى نفسه من القتل، وفدى عقيلا بمال، ثم بقى على حاله بمكة إلى زمن خيبر، وقيل: إنه أسلم سنة ثمان قبل الفتح، وإنما سأل الأنصار الذين أسروا العباس أن يتركوا فداءه بمكان عمومه من النبى (صلى الله عليه وسلم) إكرامًا للنبى بذلك، فأبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، وأراد توهين المشركين بالغرم، وأن تضعف قوتهم بأخذ المال منهم. وقيل: إنه كان يداين فى ذلك العباس، وبقى عليه الدين إلى وقت إسلامه، ولذلك قال للنبى: أعطنى؛ فإنى فاديت نفسى وفاديت عقيلا، فغرم النبى (صلى الله عليه وسلم) ما تحمله العباس من ذلك بعد إسلامه مما أفاء الله على رسوله، والترجمة صحيحة فى جواز مفاداة المشركين من أيدى المسلمين، وأن ذلك مباح بعد الإثخان، ومفاداة العباس لنفسه ولعقيل كان قبل الإثخان، فعاتب الله نبيه على ذلك فلا تجوز المفاداة إلا بعد الإثخان، وقلة قوة المشركين على المسلمين، أو لوجه من وجوه الصلاح يراه الإمام للمسلمين فى ذلك. وكذلك حديث جبير بن مطعم فيه جواز فداء الأسرى المشركين؛ لأن جبيرًا جاء فى فداء أسارى بنى نوفل رهطه، فأطلقوا له بالفداء، وكان ذلك قبل الإثخان أيضًا، وقد تقدم اختلاف العلماء فى فداء الأسرى أو المن عليهم أو قتلهم فى باب) فإما منا بعد وإما فداء (. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: لم يأذن الرسول للأنصار فى أسرى بدر لكفرهم، وشدة وطأتهم، ألا ترى أنه عوتب فى الفداء حتى يثخن فى الأرض، فكيف يأذن فى [. . . .] حتى يثخن أدبًا لهم، وإن كانت الأنصار قد طابت أنفسها، وشفع لأهل هوازن

(5/212)


للرضاع الذى كان له فيهم، كما مَنَّ على أهل مكة بإسلامهم وتركه مكة بما فيها من جميع الأموال للرحم.
7 باب: الحَرْبِىّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِسْلاَمِ بِغَيرِ أَمَانٍ
871 / فيه: سَلَمَةَ، أَتَى النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِى سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (اطْلُبُوهُ فَاقْتُلُوهُ) ، فَقَتَلَهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ. قال المهلب: هذا الحديث أصل أن الجاسوس الحربى يقتل، وعلى هذا جماعة العلماء، واختلفوا فى الحربى يدخل دار الإسلام بغير أمان، فقال مالك: هو فيء لجميع المسلمين. وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، وقال محمد: هو لمن وجده. وقال الشافعى: هو فيء إلا أن يسلم قبل أن يظفروا به. قال المؤلف: وظاهر الحديث يدل أنه لمن وجده؛ لأن نبى الله إنما أعطى سلبه لسلمة ابن الأكوع وحده؛ لأنه كان قتله. قال غيره: ومن قال: إنه فيء فلأنه مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، من باب الغنائم إلى باب الفيء، والفيء للإمام أن يصنع فيه ما شاء حيث شاء، ومن قال: هو لمن وجده حكم له بحكم الغنائم أنها لمن أخذها بعد الخمس. قال الطحاوى: القياس أن يكون لمن وجده، وفيه الخمس؛ لأنه لم يؤخذ بقوة من المسلمين، واختلفوا فى الحربى يدخل دار الإسلام، ويقول: جئت مستأمنا، فقال مالك: الإمام مخير فى ذلك بما يراه فيه. وهو قول الأوزاعي. وقال أبو حنيفة: هو فيء. وروى ابن وهب عن مالك فى مركب تطرحه الريح إلى ساحل بحر المسلمين،

(5/213)


فيقولون: نحن تجار، أنهم فيء ولا يخمسون، واحتج الشافعى بحديث سلمة بن الأكوع فى أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس. قال ابن القصار: وسلمة إنما كان مستحقا لكل الغنيمة لا الخمس منها؛ لأنه لم يكن من جملة عسكر، وإنها ابتعه وحده فله ما أخذ من الخمس، فترك الرسول له الخمس زيادة على الأربعة الأخماس التى له، وهذا يجوز عندنا، كما لو رأى (الخط فى دار الخمس) فى وقت من الأوقات على الغانمين لفعل؛ لأن الخمس إليه يصرفه على ما يؤدى إليه اجتهاده، فلا دليل لهم فى الحديث.
8 باب: يُقَاتِلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمةِ وَلاَ يُسْتَرَقُونَ
872 / فيه: عُمَرَ، قَالَ: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلا يُكَلَّفُوا إِلا طَاقَتَهُمْ. لا خلاف بين العلماء فى القول بهذا الحديث؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية على أن يأمنوا فى أنفسهم وأموالهم وأهليهم.
9 باب: جَوَائِز الوُفُود
873 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ: (ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا) ، فَتَنَازَعُوا، وَلا يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِىٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (دَعُونِى، الَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِى إِلَيْهِ) ، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاثَةٍ: (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا

(5/214)


الْوَفْودَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) ، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ. قَالَ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ: جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ. قَالَ يَعْقُوبُ بْن محمد: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ. قال المهلب: فيه سنة إجازة الوفد، وهو من باب الاستئلاف. قال غيره: هذا عام فى جميع الوفود الواردين على الخليفة من الروم كانوا أو من المسلمين؛ لأنهم وإن كانوا من الروم فإنهم لا يأتون إلا بأمر فيه منفعة وصلاح للمسلمين، فلذلك أمر (صلى الله عليه وسلم) بالوصاة بإجازتهم. وأيضًا فإنهم ضيف، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) فى الضيف: جائزته يوم وليلة. ولم يخص فهو عام. قال المهلب: وأما الثالثة التى نسيها المحدث فهى: إنفاذ جيش أسامة، وكان المسلمون اختلفوا فى ذلك على أبى بكر، فأعلمهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عهد بذلك عند موته. وفيه دليل أن الوصية المدعاة لعلى باطل؛ لأنه لو كان وصيا كما زعموا لعلم قصة جيش أسامة كما علم ذلك أبو بكر، وما جهله، وقوله: هجر رسول الله، قال ابن دريد: يقال: هجر الرجل فى المنطق إذا تكلم بما لا معنى له، وأهجر إذا أفحش.
0 - باب: التَّجَمُّل لِلوُفُود
874 / فيه: ابْنَ عُمَرَ، وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِى السُّوقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ، فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْوُفُودِ وَاِلْعِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :

(5/215)


(إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ) ، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ إلى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ، ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَىَّ بِهَذِهِ، فَقَالَ: (تَبِيعُهَا، أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ) . فيه أن من السنة المعروفة التجمل للوفد والعيد بحسن الثياب؛ لأن فى ذلك جمالاً للإسلام وأهله، وإرهابًا على العدو، وتعظيمًا للمسلمين. وقول عمر: (تجمل بها للوفد) يدل أن ذلك من عادتهم وفعلهم. وقال الأبهرى: إنما نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الحرير والذهب للرجال؛ لأنه من زى النساء وفعلهم. وقد نهى (صلى الله عليه وسلم) أن يتشبه الرجال بالنساء. وقيل: إنما نهى عن ذلك؛ لأنه من باب السرف والخيلاء، وقد جوز لباسه فى الحرب للترهيب على العدو، وقد تقدم اختلافهم فى ذلك، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك فى كتاب اللباس. وفى قول عمر للنبى (صلى الله عليه وسلم) -: (أكسوتنيها يا رسول الله، وقد قلت فى حلة عطارد ما قلت) أنه ينبغى السؤال عما يشكل، وفى حديث النبى أنه كساها له لغير اللباس، فيه من الفقه أنه لا بأس بالتجارة والانتفاع بما لا يجوز لبسه.
1 - باب: كَيْفَ يُعْرَضُ الإِسْلاَمُ عَلَى الصَّبىِّ
875 / وذكر حديث ابْن عُمَرَ، أن الرسول أَقْبَلَ فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْن صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ. . . . وذكر الحديث. وقد تقدم هذا الباب فى (كتاب الجنائز) فأغنى عن إعادته.

(5/216)


2 - باب: إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِى دَار الَحربِ وَلَهٌمْ مَالٌ وَأَرْضونَ فَهِىَ لَهَمْ
876 / فيه: أُسَامَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا - فِى حَجَّتِهِ؟ - قَالَ: (وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ لَنَا مَنْزِلا) ؟ ثُمَّ قَالَ: (نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ) ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِى كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِى هَاشِمٍ: أَنْ لا يُبَايِعُوهُمْ وَلا يُؤْوُوهُمْ. قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَالْخَيْفُ: الْوَادِى. 1877 / فيه: عُمَرَ، أنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى يُدْعَى هُنَيًّا، عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَىُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّاىَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِى بِبَنِيهِ، فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لا أَبَا لَكَ؟ فَالْمَاءُ وَالْكَلأ أَيْسَرُ عَلَىَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّى قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إِنَّهَا لَبِلادُهُمْ، فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِى الإسْلامِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلا الْمَالُ الَّذِى أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلادِهِمْ شِبْرًا. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: لما أسلم أهل مكة عام الفتح مَنَّ عليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) وترك لهم أموالهم ودماءهم، ولم ينزل فى شيء منها لمنه عليهم بها، ونزل فى الوادى، وكذلك كان يفعل بهوازن لو بدرت بإسلامها، فلما استأنت قسم النبى (صلى الله عليه وسلم) الغنيمة بين أصحابه، فلما جاءوا بعد القسمة خيرهم فى إحدى الطائفتين: المال أو السبى، فقضى به رسول الله

(5/217)


لهم، واستطاب أنفس أصحابه، وقال: من لم تطب نفسه فليبق إلى أول مغنم يفيئه الله علينا، وقضى لأهل مكة بأموالهم، ولم يستطب نفوس أصحابه؛ لأنه مال الله على اجتهاده، لا شيء للغانمين فيه إلا أن يقسمه لهم لقوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (فآتاهم الرسول بهذه الآية أرض خيبر فقسمها بينهم، ونهاهم فى مكة فانتهوا، ونهاهم عمر عن الأرض المغنومة بالشام والعراق بهذه الآية فلم يقسمها لهم. قال المهلب: وإنما أدخل هنى تحت هذه الترجمة؛ لأن أهل المدينة أسلموا عفوًا فكانت لهم أموالهم؛ ألا ترى أنه ساوم بمكان المسجد بنى النجار وقال: (ثامنونى بحائطكم) فأوجبه لهم. وكذلك قال عمر: إنها لأرضهم قاتلوا عليها فى الجاهلية، وأسلموا عليها فى الإسلام. فأوجبها لهم، وهذا كله يشهد لهذه الترجمة أن من أسلم فى أرض الحرب فأرضه له ما لم يغلب عليها. وسئل مالك عن إمام قبل الجزية من قوم فأسلم منهم أحد، أتكون أرضه له وماله؟ فقال مالك: ذلك يختلف، أما الصلح فمن أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله، وأما أهل العنوة فمن أسلم منهم فماله وأرضه فيء للمسلمين؛ لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم فهى فيء لمن من عليهم، وأما أهل الصلح فإنهم قوم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صولحوا عليه. وقول مالك فى هذا إجماع من العلماء. واختلفوا إذا أسلم فى دار الحرب، وبقى فيها ماله وولده، ثم خرج إلينا مسلمًا، وغزا مع المسلمين بلده.

(5/218)


فقال الشافعى وأشهب وسحنون أنه قد أحرز ماله وعقاره حيث كان وولده الصغار؛ لأنهم تبع لأبيهم فى الإسلام، وحجتهم أنه إذا أسلم كان ماله حيث كان من دار الحرب أو غيرها على ملكه، فإذا غنمت دار الحرب كان حكم ماله كحكم مال المسلمين ولم تزل الغنيمة ملكه عنه. وقال مالك والليث: أهله وماله وولده فيء على حكم البلد كما كانت دار النبى (صلى الله عليه وسلم) على حكم البلد وملكهم ولم ير نفسه (صلى الله عليه وسلم) أحق بها. وفرق أبو حنيفة بين حكمها إذا أسلم فى بلده، ثم خرج إلينا؛ فأولاده الصغار أحرار مسلمون وما أودعه مسلمًا أو ذميا فهو له، وما أودعه حربيا فهو وسائر عقاره هنالك فيء. وإذا أسلم فى بلد الإسلام ثم ظهر المسلمون على بلده فكل ماله فيه فيء لاختلاف حكم الدارين عندهم. ولم يفرق مالك ولا الشافعى بين إسلامه فى داره أو فى دار الإسلام. قال المهلب: وفيه أن للإمام أن يحمى أراضى الناس المبورة لغنم الصدقة ومنفعة تشمل المسلمين، كما حمى عمر هذا الحمى لإبل الصدقة وغنمها، وهو الحمى الذى زاد فيه عثمان فأنكر عليه، وليس لأحد أن ينكر هذا على عثمان؛ لأنه لما رأى عمر فعل ذلك جاز لعثمان أن يحمى أكثر إذا احتاج إليه لكثرة الصدقة فى أيامه. وقوله: (اضمم جناحك عن الناس) أى: لا تشد على كل الناس فى الحمى؛ فإن ضعفاء الناس القليلى الغنم والإبل الذى لا تنتهك

(5/219)


ماشيته الحمى إن حميته عنه كان ظلمًا، فاتق دعوته؛ فإنها لا تحجب من الله. وقوله: (وإياى ونعم ابن عوف وابن عفان) حذره أن يدخل الحمى؛ فإنها كثيرة، فإن دخلته أنهكته، فإن منعت الدخول وهلكت كان لأربابها عوض من أموالهم يعيشون فيه، ومن ليس له غير الصريمة القليلة إن هلكت أتى يستغيث أمير المؤمنين فى الإنفاق عليه وعلى بنيه من بيت المال. وفيه: جواز الحمل على من له مال ببعض المضرة الداخلة عليه فى ماله إذا كان فى ذلك نظر لغيره من الضعفاء. وقوله: (لولا المال) يريد الإبل التى يحمل عليها المجاهدون فى سبيل الله من نعم الصدفة التى حمى لها الحمى لترعى فيه مدة أيام النظر فى الحمل عليها. وفيه: دليل على أن مسارح القرى وعوامرها التى ترعى فيها مواشى أهلها من حقوق أهل القرية وأموالهم، وليس للسلطان منعه إلا أن تفضل منه فضلة. ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حمى إلا لله ولرسوله) معناه: لا حمى لأحد يخص به نفسه، وإنما هو لله ورسوله، أو لمن ورث ذلك عنه (صلى الله عليه وسلم) من [. . . .] الشامل للمسلمين وما يحتاجون إلى حمايته.

(5/220)


3 باب: كِتَابَةِ الإِمَامِ النَّاسَ
878 / فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اكْتُبُوا لِى مَنْ تَلَفَّظَ بِالإسْلامِ مِنَ النَّاسِ) ، فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُلٍ، فَقُلْنَا: نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ؟ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّى وَحْدَهُ، وَهُوَ خَائِفٌ. وروى أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الأعْمَشِ: (خَمْسَ مِائَةٍ) . وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: (مَا بَيْنَ سِتِّ مِائَةٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ) . 1879 / وفيه: ابْن عَبَّاس، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى كُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِى حَاجَّةٌ، قَالَ: (ارْجِعْ فاحجج مَعَ امْرَأَتِكَ) . قال المهلب: فيه أن كتابة الإمام الناس سنة من النبى (صلى الله عليه وسلم) عند الحاجة إلى الدفع عن المسلمين، فيتعين حينئذ فرض الجهاد على كل إنسان يطيق المدافعة إذا نزلت بأهل ذلك البلد مخافة. وفيه: أن وجوب ذلك لا يتعدى المسلمين، وليس على أهل الذمة بواجب؛ لأن المسلمين إنما يدافعون عن كلمة التوحيد، وليس على أهل الذمة بواجب؛ لأن المسلمين يدافعون عن أموالهم وذراريهم، ولصيانتها بذلوا لنا الجزية فعلينا حمايتهم والدفع عنهم. وفيه: العقوبة على الإعجاب بالكثرة.
4 باب: إِنَّ اللَّه يُؤِّيُد الدِّينَ بَالرَّجُلِ الفَاجِرِ
880 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَشَهِدْنَا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لِرَجُلٍ، مِمَّنْ يَدَّعِى الإسْلامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فَقَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالا شَدِيدًا، وَأَصَابَتْهُ

(5/221)


جِرَاحَةٌ، فَلَمْ يَصْبْر فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّى رسُول اللَّه، وَأَمَرَ بِلالا، يَنَادَى فِى النَّاسِ: (إِنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُؤمنة، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) . قال المهلب: هذا مما أعلمنا النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه ممن نفذ علينا الوعيد من الفجار المذنبين، لا أن كل من قتل نفسه أو غيره يقضى عليه بالنار ولا يعارض هذا الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنا لا نستعين بمشرك) لأن المشرك غير المسلم الفاجر، وقوله: (إنا لا نستعين بمشرك) قد يكون خاصا فى ذلك الوقت؛ لأنه قد استعان بصفوان بن أمية فى هوازن، واستعار منه (صلى الله عليه وسلم) مائة درع [. . . . .] ، وخرج معه صفوان بن أمية حتى قالت له هوازن: تقاتل مع محمد ولست على دينه؟ فقال: رب من قريش خير من رب من هوازن. وقد غدا معه المنافقون وهو يعلم نفاقهم وكفرهم. وقوله: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) يشتمل على المسلم والكافر، فيصح أن قوله: (لا نستعين بمشرك) خاص فى ذلك الوقت، والله أعلم. وفيه من أعلام النبوة إخباره (صلى الله عليه وسلم) بالغيب الذى لا يدرك مثله إلا بالوحى. وفيه جواز إعلام الرجل الصالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها لتبلغ معانديه من أهل الباطل والقدح فى فضائله، فيحزنهم ذلك ويعلمون ثباته وشدته على الحق.

(5/222)


5 باب: مَنْ تَأَمَرَ فِى الحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةِ إِذَا خَافَ العَدُوَّ
880 / فيه: أَنَس، خَطَبَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ عَلَيْهِ، وَمَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) ، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ. قال المهلب: فى قوله: (ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له) . فيه من الفقه أن من رأى للمسلمين عورة قد بدت أن يتناول سد خللها إذا كان مستطيعا لذلك وعلم من نفسه منة وجزالة وهذا المعنى امتثل على بن أبى طالب فى قيامه عند قتل عثمان بأمر المسلمين بغير شورى بينهم واجتماع لأنه خشى على الناس الضيعة وتفرق الكلمة التى آل أمر الناس أليها وعلم إقرار جميع الناس بفضله وأن أحدًا لا ينازعه فيه. قال غيره: وروى البخارى فى المغازى عن ابن عمر قال: أمر رسول الله فى غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله: (إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحه) فبان بهذا الحديث أن جعفرًا وعبد الله إنما تقدما إلى أخذ الراية بتقديم الرسول لهما وتوليته إياهما. ففى هذا من الفقه أن الإمام يجوز له أن يجعل ولاية العهد بعده لرجل، ثم يقول: فإن مات قبل موتى فإن الولاية لفلان رجل آخر يستحق ذلك فإن مات المولى أولا فالعقد الثانى ثابت. فإن قيل: كيف يصح ذلك ولا يخلو أن تنعقد ولاية الثانى فى الحال أو لا تنعقد. فإن كانت منعقدة صارت الإمامة ثابتة لإمامين، وذلك لا يجوز، وإن لم تنعقد للثانى فى الحال فقد جوزتم ابتداء عقدها على شرط وصفة. قيل: إنما جوزنا استخلاف الاثنين على سبيل الترتيب إذا ترتبا فى

(5/223)


ولاية العهد. ولو قيل: إن عقد الولاية ينعقد لأحدهما لا بعينه وتتعين لمن انعقدت له عند موت الإمام القائد كان سابقًا، ألا ترى أن عمر لم يعين على أحد من الستة فى الشورى، وانعقدت لأحدهم الولاية من جهته، وتعين الواحد منهم بعد موته ووقوع الاختيار من بينهم عليه. فإن قيل: إن الولاية تنعقد للأول، وإن الثانى إنما وقع عليه الاختيار من غير أن تنعقد له ولاية فى الحال لتنعقد فى الثانى، فيلزم الأمة حينئذ اتباعه باختيار الإمام له، وإن اختياره لهم أولى من نظر من يولى الاختيار منهم لكافتهم كان له وجه، يتعلق ذلك بالمصلحة العامة والنظر للكافة، وقد وردت السنة بمثله، وأجمعت الأمة على استعماله. ولى رسول الله زيد بن حارثة على الجيش الذى جهزه إلى مؤتة، فإن قتل فأميره جعفر بن أبى طالب بعده، ثم إمارة عبد الله بن رواحة بعده، فإن ولى الإمام وليا بعده، وقال: إن مات بعد إفضاء الخلافة إليه بعدى لا قبل فالإمام بعده فلان انعقدت ولاية الأول وصار إمامًا عند موت المتخلف، فكان لولى العهد فى حياته أن يختار غيره لولاية العهد؛ لأن الحق فى الاختيار حينئذ يصير إليه بإفضاء الإمامة إليه، قاله بعض أهل العراق.
6 باب: العَوْن بِالمدَدِ
881 / فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لَحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ

(5/224)


- عليه السلام - بِسَبْعِينَ مِنَ الأنْصَارِ، كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَليهم. قَالَ أَنَس: وقَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا: أَلا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا، ثُمَّ رُفِعَ بَعْدُ ذَلِكَ. قال المهلب: فيه أن السنة مضت من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى أن يمد ثغوره بمدد من عنده، وجرى بذلك العمل من الأئمة بعده. وفيه: الدعاء فى الصلاة على أهل العصيان والشرك، وإنما ذلك على قدر جرائمهم. وفيه: أنه قد يجوز النسخ فى الأخبار على صفة ولا تكون كليا، إما يكون نسخه ترك تلاوته فقط، كما أن نسخ الأحكام ترك العمل بها، فربما عوض من المنسوخ من الأحكام حكمًا غيره، وربما لم يعوض فى النسخ من الأحكام. منه أمره يعلى بالصدقة عند مناجاة الرسول، ثم عفى عنا بغير عوض من الشرع بنسخه، بل ترك العمل به، وكذلك الأخبار نسخها من القرآن رفع ذكرها، وترك تلاوتها لآثار تكتب بخبر آخر مضاد لها مثله. مما نسخ من الأخبار ما كان يقرأ فى القرآن: (لو أن لابن آدم واديين من ذهب لا بتغى لهما ثالثًا) .
7 - باب مَنْ غَلَبَ الْعَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلاثًا
882 / فيه: أَنَس، عَنْ أَبِى طَلْحَةَ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ، أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ.

(5/225)


قال المهلب: كان هذا منه والله أعلم ليريح الظهر والأنفس، هذا إذا كان فى أمن من عدو وطارق، وإنما قصد إلى ثلاث والله أعلم لأنه أكثر ما يريح المسافر؛ لأن الأربعة إقامة بحديث العلاء بن الحضرمى، وحديثه الآخر: (لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث) ولقسمة الغنائم.
8 - باب مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِى غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ
وَقَالَ رَافِعٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلا، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ. 1883 / فيه: أَنَس، اعْتَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ. قال المهلب: هذا إلى نظر الإمام واجتهاده يقسم حيث رأى الحاجة والأمن، ويؤخر إذا رأى فى المسلمين غنى، وخاف. وممن أجاز قسمة الغنائم فى دار الحرب: مالك والأوزاعى والشافعى وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: لا تقسم الغنائم فى دار الحرب. والصواب قول من أجاز ذلك للسنة الواردة فيه، روى ابن القاسم عن مالك قال: الشأن قسمة الغنيمة فى دار الحرب؛ لأنهم أولى برخصها، وما عدل من البعير بعشرة شياه فليس بأمر لازم. فى قوله: (عدل) دليل على أن المعادلة والنظر فيها فى كل بلد؛ لأن البعير فى الحجاز له قيمة زائدة ولأكل لحمه عادة جارية، وليس كذلك فى غيره من البلاد، وإنما هو إلى الاجتهاد فى كل بلدة. وفيه دليل على جواز بيع اللحم باللحم متفاضلا من غير جنسه أيضًا.

(5/226)


9 باب: إِذَا غَنِمَ المشْرِكُونَ مَالَ المسْلِمِ ثُمَّ وَجَدُه المسْلِمُ
884 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ أَبَقَ له غلامٌ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَدَّهُ عليه، وَأَنَّ فَرَسًا لَهُ عَارَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوهُ عليه. 1885 / وقال مرة: أَنَّهُ كَانَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ لَقِىَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرهم يَوْمَئِذٍ خَالِدُ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ، رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ. اختلف العلماء فى ملك أهل الحرب، هل يملكون علينا؟ فإن غنمناه وجاء صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء، وإن جاء بعد القسمة أخذه بالقيمة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وزيد بن ثابت، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء والقاسم وعروة، وبه قال أحمد بن حنبل. وقال الحسن البصرى والزهرى: لا يرد إلى صاحبه قبل القسمة ولا بعدها. وقال الشافعى: لا يملك أهل الحرب علينا بالغلبة ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها بغير شىء. واحتج الشافعى بحديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن أبى المهلب، عن عمران بن حصين قال: (أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء وامرأة من المسلمين، فلما كان فى الليل قامت المرأة وقد ناموا، فركبت العضباء وتوجهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها النبى (صلى الله عليه وسلم) فأخبرته المرأة بنذرها فقال: بئسما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر فى معصية) وزاد عبد الوهاب الثقفى قال: قال أبو أيوب السختيانى: فأخذها النبى، (صلى الله عليه وسلم)) فهذا دليل على أن

(5/227)


أهل الحرب لا يملكون علينا بغلبة ولا غيرها، ولو ملكوا علينا لملكت المرأة الناقة كسائر أموالهم لو أخذت شيئًا منها، ولو ملكتها لصح فيها نذرها. وحجة مالك والجماعة حديث ابن عمر فى الغلام والفرس وأنهما رُدّا عليه قبل القسمة، وأيضًا ما رواه عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس: (أن رجلا وجد بعيرًا له كان المشركون أصابوه، فقال رسول الله: إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة) . قال ابن القصار: فدل على أن أهل الحرب قد ملكوه على المسلمين وصارت لهم يد عليه، ألا ترى أنه لو كان باقيًا على ملك مالكه لم يختلف حكم وجوده قبل القسمة وبعدها، والذى يقوى هذا أن العدو لو أتلفه ثم أسلم لم يتبع بقيمته، ولو أتلفه مسلم على مسلم لزمه غرمه، ولما جاز أن يملك المسلم على الكافر بالقهر والغلبة جاز أن يملك الكافر عليه بذلك. ودليل آخر: وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وهل ترك لنا عقيل منزلا) وكان عقيل استولى على دور النبى (صلى الله عليه وسلم) وباعها فلولا أن عقيلا ملكها بالغلبة وباعها لأبطل النبى (صلى الله عليه وسلم) بيعها ولم يجز تصرفه؛ لأن بيع ما لا يصح ملكه لا حكم له. فإن قيل: خبر ابن عباس رواه الحسن بن عمارة وهو ضعيف؛ فإن الطحاوى ذكر أن على بن المدينى روى عن يحيى عن شعبة أنه سأل مسعرًا عن هذا الحديث فقال: هو من حديث عبد الملك بن ميسرة فأثبته من حديثه فدل أنه قد رواه غير الحسن بن عمارة فاستغنى عن روايته بشهرته عن عبد الملك بن ميسره. وأما خبر الناقة والمرأة فلا حجة لهم فيه لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لانذر لابن آدم فيما لا يملك) إنما كان قبل أن تملك المرأة الناقة

(5/228)


لأنها قالت ذلك وهى فى دار الحرب، وكل الناس تقول: إن من أخذ شيئًا من أهل الحرب فلم ينجح به إلى دار الإسلام أنه غير محرز له / ولا يقع عليه ملكه حتى يخرج به إلى دار الإسلام. فلهذا قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا نذر لابن آدم فيما لا يملكه) هذا وجه الحديث. وقال ابن القصار: ما أحرزه المشركون وخرج عن أيديهم إلى المسلمين، فإن لم يقع فى المقاسم ولا حصل بيد إنسان بعوض فإنه يعود إلى ملك صاحبه، فالمرأة لما أخذت الناقة بغير عوض انتقل ملكها عن المشركين وحصل للنبى (صلى الله عليه وسلم) فأما إذا قسمت الغنائم وحصل الشيء فى يد أحد حصلت له شبهة ملك لأجل أنه حصل له بعوض؛ لأن الغانمين قد اقتسموا وتفرقوا، فإن أعطاه الإمام القيمة جاز، وإن لم يعطه لم يأخذه صاحبه إلا بعوض؛ لأن القسم حكم الإمام مع كون شبهه يد الكفار فيصير للغانم بحكم الإمام. قال الطحاوى: والدليل أن المرأة لما أخذت الناقة انتقل ملكها للنبى (صلى الله عليه وسلم) ما رواه سفيان، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة: (أن رجلا أصاب العدو له بعيرًا، فاشتراه رجل منهم، فجاء به فعرفه صاحبه، فخاصمه إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: إن شئت أعطه ثمنه الذى اشتراه به وهو لك، وإلا فهو له) فهذا وجه الحكم فى هذا الباب من طريق الآثار. وأما من طريق النظر فرأينا النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم فى مشترى البعير من أهل الحرب أن لصاحبه أن يأخذه منه بالثمن وكان قد تملكه المشترى من الحربيين، كما يملك الذى يقع فى سهمه من الغنيمة ما يقع فى سهمه منها، فالنظر على ذلك أن يكون الإمام إذا قسم الغنيمة

(5/229)


فوقع منها فى يد رجل شيء، وإن كان أسر ذلك من يد آخر أن يكون المأسور من يده من الذى وقع فى سهمه بقيمته، كما يأخذ من يد مشتريه بثمنه. وقوله: (إن فرسًا عار) قال صاحب العين: يقال: عار الفرس والكلب وغير ذلك عيارًا: أفلت وذهب فى الناس. قال الطبرى: يقال ذلك للفرس إذا فعله مرة بعد مرة، ومنه قيل للبطال من الرجال الذى لا يثبت على طريقة: عيار، ومنه سهم عائر: لا يدرى من أين أتى.
0 - باب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم: 22]
886 / فيه: جَابِر، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ، فَصَاحَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَىَّ هَلا بِكُمْ) . 1887 / وفيه: أُمِّ خَالِدٍ، أَتَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَعَ أَبِى، وَعَلَىَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (سَنَهْ، سَنَهْ) ، - وَهِىَ بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ - قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِى أَبِى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (دَعْهَا) ، مرتين، ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْلِى وَأَخْلِقِى) ، ثلاث مرات، فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ، دكن. 1888 /

(5/230)


وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَقَالَ له النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كِخْ، كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) . السؤر: الوليمة بالفارسية. قال المؤلف: معنى هذا الباب فى تأمين المسلمين لأهل الحرب بلسانهم ولغتهم أن ذلك أمان لهم؛ لأن الله تعالى يعلم الألسنة كلها. وأيضًا فإن الكلام بالفارسية يحتاج إليه المسلمون للتكلم به مع رسل العجم. قد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) زيد بن ثابت أن يتكلم بلسان العجم، ولذلك أدخل البخارى عن الرسول أنه تكلم بألفاظ من الفارسية كانت متعارفة عندهم معلومة وفهمها عنه أصحابه، فالعجم أحرى أن يفهموها إذا خوطبوا بها؛ لأنها لغتهم. وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب (قوله: إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا) بعد هذا إن شاء الله. قال المهلب: أما دعاؤه بأهل الخندق أجمع لطعام جابر؛ فإنما فعله لأنه علم منهم حاجة إلى الطعام، وعلم أنه طعام قد أذن له فيه ببركته ليكون آية وعلامة للنبوة، فلذلك دعاهم أجمع، ولم يدع السادس إلى دار الخياط واستأذن الخياط أن يدخل معهم لتكون لنا سنة، ولأنه طعام لم يؤذن له فى إتيانه، وإن كان كل طعامه فيه بركة؛ ولكن بركة تكون آية وعلامة فليس هذا من ذلك الطعام. وفيه مداعبة النبى (صلى الله عليه وسلم) للأطفال فى اللعب بحضرة آبائهم وغيرهم، وكان (صلى الله عليه وسلم) على خلق عظيم.

(5/231)


وقوله: (أبلى وأخلقي) هو كلام معروف عند العرب معناه الدعاء بطول البقاء، قال صاحب الأفعال: يقال: أبل وأخلقه: أى عش فخرق ثيابك وارقعها. وخلقت الثوب: أى أخرجت باليه ولفقته. وقوله: (فزبرني) يعنى: انتهرنى، عن أبى علي. وقد تقدم تفسير (كخ كخ) فى كتاب الزكاة فى باب (ما يذكر فى الصدقة للنبى (صلى الله عليه وسلم)) . وفيه: حمل الصبيان وتدريبهم على الشرائع، والتجنب بهم الحرام والمكروه، وقد تقدم هذا المعنى بزيادة فيه فى كتاب الزكاة فى باب (أخذ صدقة التمر عند صرام النخل) . وفيه: مخاطبة الصبيان بما يخاطب به الكبار الفهماء إذا فهموا، وهذه المخاطبة وإن كانت للحسن ففيها تعريف للسلمين أنه لا يأكل الصدقة. والرطانة كلام العجم، قال صاحب الأفعال: يقال: رطن رطانة، إذا تكلم بلسان العجم. وقوله: (فحى هلا بكم) قال الفراء: معنى (حي) عند العرب هلم وأهل. فالمعنى هلموا إلى طعام جابر وأقبلوا إليه، ومثله قول المؤذن: (حى على الصلاة) أى: أقبلوا إليها، وفتحت الياء من (حي) لسكونها وسكون الياء التى قبلها، كما قالوا: ليت ولعل. ومنه قول ابن مسعود: إذا ذكر الصالحون فحى هلا، وحى هَلَ، وحى هَلْ، وحى أهلا آل عمر، وحى هلا على عمر.

(5/232)


1 - باب الْغُلُولِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يوم القيامة) [آل عمران: 161]
889 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَامَ فِينَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، وَقَالَ: (لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بْلَغْتُكَ. أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بْلَغْتُكَ) . قال المهلب: هذا الحديث على سبيل الوعيد من الله لمن أنفذه عليه من أهل الغلول، وقد تكون العقوبة حمل البعير وسائر ما غله على رقبته على رءوس الأشهاد وفضيحته به، ثم الله مخير بعد ذلك فى تعذيبه بالنار أو العفو عنه، فإن عذبه بناره أدركته الشفاعة إن شاء الله، وإن لم يعذبه بناره فهون واسع المغفرة. وقوله: (لا أملك لك من الله شيئًا) أى: من المغفرة والشفاعة حتى يأذن الله فى الشفاعة لمن أراد، كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى (. وفيه: أن العقوبات قد تكون من جنس الذنوب. وهذا الحديث يفسر قوله: (يأت بما غل يوم القيامة (أنه يأتى

(5/233)


يحمله على رقبته ليكون أبلغ فى فضيحته وليتبين للأشهاد جنايته، وحسبك بهذا تعظيمًا لإثم الغلول وتحذير أمته. وقوله: (صامت) هو الذهب والفضة. وقال ابن المنذر: وأجمع العلماء أن على الغال أن يرد ما غل إلى صاحب المقسم ما لم يفترق الناس. واختلفوا فيما يفعل بذلك إذا افترق الناس، فقالت طائفة: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقى، هذا قول الحسن البصرى والليث والثورى، وروى معناه عن معاوية ابن أبى سفيان، وروى عن ابن مسعود أنه رأى أن يتصدق بالمال الذى لا يعرف صاحبه، وروى معناه عن ابن عباس. قال أحمد فى الحبة والقيراط [. . . . .] على الرحل ولا يعرف موضعه: يتصدق به. وكان الشافعى لا يرى الصدقة به وقال: لا أرى الصدقة به وجهًا، إنه إن كان ماله فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لغيره فليس عليه الصدقة بمال غيره.
2 - باب الْقَلِيلِ مِنَ الْغُلُولِ
وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ وَهَذَا أَصَحُّ. 1890 / فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ فِى النَّارِ) ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً، قَدْ غَلَّهَا.

(5/234)


قال المهلب: هذا يشبه ما قبله، أى أنه فى طريق النار إن أنفذ الله عليه الوعيد. وقول البخارى: (وهذا أصح) يعى: حديث عبد الله بن عمرو (أن رسول الله لم يحرق رحل كركرة حين وجد فيه الغلول) . وحديث ابن عمر انفرد به صالح بن محمد بن زائدة عن سالم، وهو ضعيف مدنى، تركه مالك، وليس ممن يحتج بحديثه. وقد قال قوم من العلماء بحديث ابن عمر أنه يحرق رحل الغال. قال الحسن البصرى: يحرق متاعه كله إلا أن يكون حيوانًا أو مصحفًا. وقال مكحول وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعى: يحرق متاعه كله. وقال الأوزاعى: إلا ما غل وسلاحه وثيابه التى عليه. وقال مالك وأبو حنيفة والليث والثورى والشافعى: إنه يعزر ولا يحرق رحله. وقد ذكرنا إجماع الفقهاء أن على الغال أن يرد ما غل إلى صاحب المقاسم وهى توبة له. وقال الطحاوى: ولو صح حديث ابن عمر لاحتمل أن يكون حيث كانت العقوبات فى الأموال، كما قال فى مانع الزكاة، وفى ضالة الإبل غرامتها مثليه وجلدات نكال، وهذا كله منسوخ. وفى هذا الحديث تحريم قليل الغلول وكثيره كما قال (صلى الله عليه وسلم) للذى أتاه بالشراك من المغنم قال: (شراك أو شراكان من نار) وقال فى الشملة: (إنها تشتعل عليه نارًا يوم القيامة) .

(5/235)


3 - باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِبلِ والغَنَمِ فِى المَغَانمِ
891 / فيه: رَافِعٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، وَأَصَبْنَا إِبِلا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا، فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَفِى الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: (هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) . قال المهلب: إنما أمر رسول الله بإكفاء القدور من لحوم الإبل والبقر وأكلها جائز، فيء دار الحرب بغير إذن الإمام عند العلماء. هذا قول مالك والليث والأوزاعى والشافعى وجماعة من العلماء رخصوا فى ذبح الأنعام فى بلاد العدو للأكل وفى أكل الطعام؛ لأن هؤلاء الذين أكفئت عليهم القدور إنما ذبحوه بذى الحليفة وهى أرض الإسلام، وليس لهم أن يأخذوا فى أرض الإسلام إلا ما قسم لهم؛ لأنها غنيمة فاضلة، وإباحة الأكل من المغنم إنما هو فى أرض العدو وقبل تخليص الغنيمة وإحرازها، فهذا الفرق بينهما. وقد قال الثورى والشافعى: إن ما أخذه المرء من الطعام فى أرض العدو فيفضل منه فضلة وتقدم بها إلى بلدة الإسلام أنه يردها إلى الإمام. وقال أبو حنيفة: يتصدق به، فكيف من يتسور فيه فى أرض الإسلام ويأخذه بغير إذن الإمام؟ ورخص مالك فى فضلة الزاد مثل الخبز واللحم إذا كان يسيرًا لا بال له. وهو قول أحمد بن حنبل. وقال الليث: أحب إلى إذا دنا من أهله أن يطعمه أصحابه. وقال الأوزاعى: يهديه إلى أهله. وأما البيع

(5/236)


فلا يصلح، فإن باعه وضع ثمنه فى المغنم، فإن فات ذلك تصدق به عن الجيش، ورخص فيه سليمان بن موسى. قال المهلب: وأمرهم (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور ليعلمهم أن الغنيمة إنما يستحقونها بعد قسمته لها فلا يفتاتوا فى أخذ شيء قبل وجوبه لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه (ولقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله (. قال الحسن: إن هذه الآية نزلت فى أهل، نحروا قبل أن يصل النبى (صلى الله عليه وسلم) فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وقال مجاهد فى هذه الآية: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقال الكلبى: لا تقدموا بين يدى الله ورسوله بقول ولا فعل. وفيها: قول آخر ذكره ابن المنذر، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم قال: (أصبنا يوم خيبر غنمًا فانتهبناها، فجاء رسول الله وقدورهم تغلى فقال: إنها نهبة فأكفئوا القدور وما فيها؛ فإنها لا تحل النهبة) . قال بعض أهل العلم: هذا يدل أنهم كانوا قد خرجوا من بلاد العدو؛ لأن النهبة مباحة فى بلاد العدو وغير مباحة فى دار الإسلام، وهذه القصة أصل فى جواز العقوبة فى المال. وقوله: (فأكفئت) قال الطبرى: الأشهر والأفصح فى كلام العرب أن يقال: كفأ القوم القدور يكفئونها، وإن كانت الأخرى (أكفأت) محكية ذكرها ابن الأعرابى عن العرب. وسيأتى ما فى الحديث من الغريب فى (كتاب الذبائح) إن شاء الله.

(5/237)


4 - باب: الْبِشَارَةِ فِى الْفُتُوحِ
892 / فيه: جَرِير، قَالَ لِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا تُرِيحُنِى مِنْ ذِى الْخَلَصَةِ) ؟ وَكَانَ بَيْتًا فِى خَثْعَمُ، يُسَمَّى الكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ، فَانْطَلَقْتُ فِى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فارس كلهم مِنْ أَحْمَسَ، فَكَسَرَهَا وَحَرقها وَأَرْسَلَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُبَشِّرُهُ. . . . الحديث. فيه: البشارة فى الفتوح وما كان فى معناه من كل ما فيه ظهور الإسلام واهله، ليبشر المسلمون بإعلاء الدين، ويبتهلوا إلى الله فى الشكر على ما وهبهم من نعمه ومن عليهم من إحسانه، فقد أمر الله تعالى عباده بالشكر ووعدهم المزيد فقال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم (.
5 - باب: لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ
893 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (لا هِجْرَةَ، بعد الفتح وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. . . . . الحديث. 1894 / وفيه: مُجَاشِعِ، أنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ إِلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: هَذَا مُجَالِدٌ، يُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (لا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الإسْلامِ) . 1895 / وفيه: عَائِشَةَ، انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ بَعْدَ فَتَحَ مَكَّةَ. 1896 / وروى البخارى عن عطاء قال: زرت عَائِشَة مَع عُبيد بْن عمير

(5/238)


فَسَألها عن الْهِجْرَةِ، فَقَالَتْ: لاَ هِجْرَةَ اليوم، وَكَانَ المؤمنون يفر أحدهم بدينه إِلى اللَّه، وَإِلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، وأما اليوم فقد أظهر الله الإِسْلامِ، وَالْمؤمن يعبد ربه كيف شاء، وَلكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. فهذا بين أن الهجرة منسوخة بعد الفتح إلا أن سقوط فرضها بعد الفتح لا يسقطها عمن هاجر قبل الفتح، فدل أن قوله: (لا هجرة بعد الفتح) ليس على العموم؛ لأن الأمة مجمعة أن من هاجر قبل الفتح أنه يحرم عليه الرجوع إلى وطنه الذى هاجر منه، كما حرم على أهل مكة الرجوع إليها، ووجب عليهم البقاء مع النبى، والتحول معه حيث تحول لنصرته ومؤازرته وصحبته وحفظ شرائعه والتبليغ عنه، وهم الذين استحقوا اسم المهاجرين ومدحوا به دون غيرهم. ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رثى بسعد بن خولة أن مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها، ولذلك دعا لهم فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم) . وذكر أبو عبيد فى كتاب (الأموال) أن الهجرة كانت على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا، يدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى سأله عن الهجرة: (إن شأنها شديد، فهل لك من إبل تؤدى زكاتها؟ قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله لا يترك من عملك شيئًا) ولم يوجب عليه الهجرة. وقيل: إنما كانت الهجرة واجبة إذا أسلم بعض أهل البلد ولم يسلم بعضهم لئلا يجرى على من أسلم أحكام الكفار، فأما إذا أسلم كل من فى الدار فلا هجرة عليهم؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) لوفد عبد القيس حين أمرهم بما أمرهم به ولم يأمرهم بهجرة أرضهم: (وقد عذر الله المستضعفين من الرجال والنساء الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون

(5/239)


سبيلا) يعنى: طريقًا إلى المدينة، وأما الهجرة الباقية إلى يوم القيامة فقوله (صلى الله عليه وسلم) : (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) .
6 - باب: إِذَا اضْطُرَّ الرَّجُلُ إِلىَ النَّظَرِ فِى شُعُورِ أَهْل الذِّمَّةِ والمؤُمِنَاتِ إِذَا عَصَيْنَ اللَّهِ وَتَجْرِيدِهِنَّ
897 / فيه: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَكَانَ عُثْمَانِيًّا - قَالَ لابْنِ عَطِيَّةَ - وَكَانَ عَلَوِيًّا -: إِنِّى لأعْلَمُ مَا الَّذِى جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَعَثَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ خاخ، تَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا، فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَقُلْنَا: الْكِتَابَ، قَالَتْ: لَمْ يُعْطِنِى، قُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ، فَأَخْرَجَتْ مِنْ حُجْزَتِهَا. . . . الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث من الفقه أن من عصى الله لا حرمة له، وأن المعصية تبيح حرمته وتزيل سترته، ألا ترى أن عليا والزبير أرادا كشف المرأة لو لم تخرج الكتاب؛ لأن حملها له ضرب من التجسس على المسلمين، ومن فعل ذلك فعليه النكال بقدر اجتهاد الإمام مسلمًا كان أو كافرًا. وقد أجمعوا أن المؤمنات والكافرات فى تحريم الزنا بهن سواء فكذلك فى تحريم النظر إليهن متجردات، فهن سواء فيما أبيح من النظر إليهن فى حق الشهادة أو إقامة الحد عليهن، وهذا كله من الضرورات التى تبيح المحظورات. وقول أبى عبد الرحمن: (إنى لأعلم ما الذى جرأ صاحبك على الدماء) ظن منه؛ لأن عليا على مكانته من الفضل والعلم لا يقتل أحدًا إلا بالواجب، وإن كان قد ضمن له الجنة بشهوده بدرًا وغيرها.

(5/240)


7 باب: اسْتِقْبَال الغُزَاةِ
898 / - فيه: ابْنُ الزُّبَيْر، قلت لابْنِ جَعْفَرٍ: أَتَذْكُرُ إِذْ لَقَّيْنَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ. 1899 / - قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ. قال المهلب: التلقى للمسافرين والقادمين من الجهاد والحج بالبشر والسرور أمر معروف، ووجه من وجوه البر. وبهذا الحديث ثبت تشييعهم؛ لأن ثنية الوداع إنما سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون صغارًا وكبارًا عند التلقى، وقد يجوز تلقيهم بعدها وتشييعهم إلى أكثر منها، وفيه الفخر بإكرام النبى (صلى الله عليه وسلم) .
8 - باب: مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الغَزْوِ
900 / وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلاثًا، قَالَ: (آيِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَائِبُونَ عَابِدُونَ حَامِدُونَ لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ) . 1901 / وفيه: أَنَس، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ، فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ، فَصُرِعَا جَمِيعًا، فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ) ، فَقَلَبَ ثَوْبًا عَلَى وَجْهِهِ، وَأَتَاهَا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهَا، وَأَصْلَحَ لَهُمَا مَرْكَبَهُمَا، فَرَكِبَا وَاكْتَنَفْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ.

(5/241)


قال المهلب: قد تقدم القول فى التكبير عند الصعود والإشراف على المدن والتسبيح عند الهبوط. وفيه إرداف المرأة خلف الرجل وسترها عن الناس، وفيه ستر من لا تجوز رؤيته وستر الوجه عنه. وفيه خدمة العالم والإمام وخدمة أهله. وفيه اكتناف الإمام والاجتماع حوله عند دخول المدن وتلقى الناس سنة ماضية وأمر جار. قال المؤلف: وفيه حمد الله للمسافر عند إتيانه سالمًا إلى أهله وسؤاله الله التوبة والعبادة، وتقدير الكلام: نحن آيبون عابدون حامدون لربنا ساجدون إن شاء الله على ما رزقنا من السلامة والنصر وصدق الوعد ولا تتعلق المشيئة بقوله: (آيبون) لوقوع الإياب، وإنما تتعلق بباقى الكلام الذى لم يقع بعد. وفيه: أنه يجوز للمتكلم أن يقدم المشيئة لله فى أول كلامه، ثم يصلها بما يحب إيقاعه من الفعل. وفيه: أن الرجل الفاضل ينبغى له عندما تجدد له نعمة وسلامة أن يقر لله بطاعته ويسأله أن يديم له حال توبته وعبادته له، وإن كان الرسول قد تقرر عنده أنه لا يزال تائبًا عابدًا ساجدًا حامدًا لربه، لكن هذا هو أدب الأنبياء أخذًا بقوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله (. ولعلمهم بمواقع نعم الله عندهم يعترفون له بها، ويرغبون ويبرءون إليه من الحول والقوة، ويظهرون الافتقار إليه مبالغة فى شكره تعالى، ولتقتدى بهم أممهم فى ذلك صلوات الله عليهم.

(5/242)


9 - باب: الصَّلاَةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ
902 / فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قَالَ لِى: (ادْخُلِ الْمَسْجِدَ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) . 1903 / وفيه: كَعْب، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ضُحًى، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. قال المهلب: الصلاة عند القدوم سنة وفضيلة فيها معنى الحمد لله على السلامة والتبرك بالصلاة أول ما يبدأ به فى حضره، ونعم المفتاح هى إلى كل خير، وفيها يناجى العبد ربه تعالى وذلك هدى رسول الله وسنته، ولنا فيه أكرم الأسوة.
0 - باب الطَّعَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ
. 1904 / - فيه: جَابِر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً. وقال مرة: فَلَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، أَمَرَنِى أَنْ آتِىَ الْمَسْجِدَ، فَأُصَلِّىَ فيه. (صرار) موضع فى نواحى المدينة. فيه: إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب ومن فعل السلف. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (كان ابن عمر يفطر لمن يغشاه) أى: إذا قدم من سفر أطعم من يغشاه وأفطر معهم، أى ترك

(5/243)


قضاء رمضان؛ لأنه كان لا يصوم رمضان فى السفر أصلا، فإذا انقضى إطعامه وزاده ابتدأ قضاء رمضان الذى أفطره فى السفر، وقد جاء هذا مفسرًا فى (الأحكام) لإسماعيل. قال المؤلف: أما الذى ذكره إسماعيل عن ابن عمر فليس فيه ما يدل على صحة ما تأوله أبو عبد الله، والذى ذكر إسماعيل عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر (أنه كان إذا كان مقيمًا لم يفطر، وإذا كان مسافرًا لم يصم، فإذا قدم أفطر أيامًا لغاشيته ثم يصوم) فليس يدل هذا أن سفره كان أبدًا فى رمضان دون سائر الشهور، بل قوله: (إذا كان مقيمًا لم يفطر) يدل أن إفطاره لغاشيته قد يكون من صيامه التطوع، فيحتمل أن يبيت الفطر. فإن قيل: ويحتمل أن يبيت الصيام ثم يفطر لوراده بعد التبييت. قال أبو عبد الله: يرد ذلك قوله: (ذلك الذى يلعب بصومه) وقد زوج ابنته ولم يفطر، وقد دعاه عروة بن الزبير إلى وليمة فلم يفطر. وقال: (لو أخبرتنى، ولكنى أصبحت صائمًا) فكيف لم يغشاه؟ قال المهلب: فأما إفطار سلمان لأبى الدرداء إذ بات عنده؛ فإنما كان ذلك لأن أبا الدرداء كان اسرف على نفسه فى العبادة وسرمد الصوم، فأراد سلمان أن يأخذ به طريق الرخصة فى الإفطار بعد التبييت، ألا ترى أن ذلك جائز عند جماعة العلماء فى الفرض إذا بيته فى السفر ثم أدركته مشقة الصوم أن له أن يفطر، فكيف التطوع؟ فأخذ سلمان بالرخصة، وأخذ ابن عمر بالشدة؛ لأنه رأى التبييت من العقود التى أمره الله بالوفاء بها. وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الصيام.

(5/244)


- كِتَابُ الخُمُس
فَرْضُ الخُمُسِ
905 / فيه: عَلِىّ، كَانَتْ لِى شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِى مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَانِى شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِىَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَاعَدْتُ رَجُلا صَوَّاغًا مِنْ بَنِى قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِىَ، فَنَأْتِىَ بِإِذْخِرٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِى وَلِيمَةِ عُرْسِى، فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَىَّ مَتَاعًا مِنَ الأقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَاىَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَرَجَعْتُ، حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا شَارِفَاىَ قَدِ اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا، وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَىَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا، فَقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ فَقَالُوا: فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، وَهُوَ فِى هَذَا الْبَيْتِ، فِى شَرْبٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَعَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى وَجْهِى الَّذِى لَقِيتُ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَىَّ؛ فَاجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَذا هُوَ ذَا فِى بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِرِدَائِهِ، فَارْتَدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِى، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنُوا لَهُمْ، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ،

(5/245)


فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأبِى، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى، وَخَرَجْنَا مَعَهُ. 1906 / وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بنَت الرسول سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا، مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا نُورَثُ،

(5/246)


مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) ، فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَتْ: وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَصَدَقَتَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعْمَلُ بِهِ، إِلا عَمِلْتُ بِهِ فَإِنِّى أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ، فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ، فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكٌ، فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ، وَقَالَ: هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِى تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِىَ الأمْرَ، قَالَ: فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ. 1907 / وفيه: مَالِكِ بْنِ أَوْسِ، كنا عند عُمَر إذا جاء حَاجِبُهُ يَرْفَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِى عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، يَسْتَأْذِنُونَ، قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَأ يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلا فَسَلَّمَا فَجَلَسَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِى وَبَيْنَ هَذَا، وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ مَالِ بَنِى النَّضِيرِ، فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآْخَرِ، قَالَ عُمَرُ: تَيْدَكُمْ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَفْسَهُ، قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّى أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) [الحشر 6] إِلَى قَوْلِهِ: (قَدِيرٌ (فَكَانَتْ هَذِهِ خَاصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِىَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ (صلى الله عليه وسلم) يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ، تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِىَّ أَبِى بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِى أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّى فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَا تُكَلِّمَانِى وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ جِئْتَنِى يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِى نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِى هَذَا - يُرِيدُ عَلِيًّا - يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَلَمَّا بَدَا لِى أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا، قُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَلْتَمِسَانِ

(5/247)


مِنِّى قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ لا أَقْضِى فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا، فَادْفَعَاهَا إِلَىَّ؛ فَإِنِّى أَكْفِيكُمَاهَا. قال المؤلف: أما قول على: أعطانى النبى (صلى الله عليه وسلم) شارفًا من الخمس: يعنى يوم بدر، فظاهره أن الخمس قد كان يوم بدر، ولم يختلف أهل السير أن الخمس لم يكن يوم بدر. ذكر إسماعيل ابن إسحاق قال: فى غزوة بنى قريظة حين حكم سعد بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية قيل: إنه أول يوم جعل فيه الخمس. قال: وأحسب أن بعضهم قال: نزل أمر الخمس بعد ذلك، ولم يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيان شاف، وإنما جاء أمر الخمس يقينًا فى غنائم حنين، وهى آخر غنيمة حضرها رسول الله. قال المؤلف: وإذا لم يختلف أن الخمس لم يكن يوم بدر فيحتاج قول على: أعطانى رسول الله شارفًا من الخمس إلى تأويل لا يعارض قول أهل السير، ويحتمل أن يكون معناه والله أعلم ما ذكره ابن إسحاق أن النبى بعث عبد الله بن جحش فى رجب فى السنة الثانية من الهجرة قبل بدر الأولى فى سرية إلى نخلة بين مكة والطائف فوجد بها قريشًا، فقتلوهم وأخذوا العير. قال ابن إسحاق: ذكر لى بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله مما غنمنا الخمس. وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغنم فعزل لرسول الله خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه، فوقع فرض الله فى قسمة الغنائم على ما كان عبد الله صنع فى تلك العير، ثم خرج رسول الله فى رمضان بعد هذه السرية إلى بدر فقتل بها صناديد الكفار. فبان بهذا الخبر معنى قول على أن

(5/248)


الرسول أعطاه شارفًا من نصيبه من المغنم يوم بدر (وأعطانى رسول الله شارفًا من الخمس يومئذ) . واختلف العلماء فى الخمس كيف يقسمه الإمام، فقال مالك: يسلك الخمس مسلك الفيء، فإن رأى الإمام جعل ذلك لنوائب تنزل بالمسلمين فعل، وإن شاء قسمه فأعطى كل واحد على قدر ما يغنيه، ولا بأس أن يعطى أقرباء رسول الله على قدر اجتهاد الإمام، وكان يرى التفضيل فى العطاء على قدر الحاجة. وقال أبو حنيفة: الخمس على ثلاثة أسهم، يقسم سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل فيهم، ويؤخذ سهم ذوى القربى وسهم النبى فيردان فى الكراع والسلاح. واحتج أبو حنيفة بما رواه الثورى عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية أنهم اختلفوا فى سهم الرسول وسهم ذوى القربى، فقال: سهم الرسول للخليفة بعده. وقال بعضهم: سهم ذوى القربى هو لقرابة الرسول. وقال بعضهم: هو لقرابة الخليفة. فأجمع رأيهم أنهم جعلوا هذين السهمين فى العدة والخيل، فكان ذلك فى خلافة أبى بكر وعمر. قال إسماعيل بن إسحاق: ولا يجوز أن يبطل عمر ولا غيره سهم ذوى القربى؛ لأنه مسمى فى كتاب الله ولم ينسخه شيء، ومن أبطله فقد ركب أمرًا عظيمًا. وزعم الشافعى أن الخمس يقسم على خمسة أخماس، فيرد سهم النبى (صلى الله عليه وسلم) على من سمى معه من أهل الصدقات وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وزعم أن قوله: (لله (مفتاح كلام. قال إسماعيل: ويسقط أبو حنيفة سهم ذوى القربى وأخذ فى طرف، وأخذ الشافعى فى طرف آخر وترك التوسط من القول الذى مضى عليه الأئمة. والاختلاف الذى اختلفوا فيه لم يكن على ما

(5/249)


توهم أبو حنيفة وإنما روى ابن عباس أنهم ناظروا عمر فى سهم ذوى القربى على أن يكون لهم خمس الخمس فأبى عمر من ذلك، وذهب إلى أن الخمس يقسم فى ذوى القربى وغيرهم على الاجتهاد. قال إسماعيل: قوله: (لله (وقد ذكر الله فى كتابه: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول (وقال تعالى: (قل الأنفال لله والرسول (فأى كلام جاء بعد هذا فيكون هذا مفتاحًا له. وإذا قيل: (لله) فهو أمر مفهوم اللفظ والمعنى؛ لأنه يعلم أن الرجل إذا قال: فعلت هذا الشيء لله أنه فيما يقرب إلى الله، وهذا لا يحتاج أن يقال فيه: مفتاح كلام. وكذلك قوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول (معناه فيما يقرب من الله ورسوله، وكذلك قال عمر بن عبد العزيز فى قوله: (لله (قال: اجعلوه فى سبيل الله التى يأمر بها، ولو كان قوله: (الله (لا يوجب شيئًا لكان ما بعده لا يوجب شيئًا؛ لأن ما بعده معطوف عليه، فإن كان القول الأول لا يجب به شيء فكذلك ما عطف عليه لا يجب به شيء. وأما حديث تنازع على والعباس فلم يتنازعا فى الخمس، وإنما تنازعا فيما كان لرسول الله خاصا مما لم يوجف عليه بخيل ولاركاب فتركه الرسول صدقة بعد وفاته، فحكمه كحكم الفيء، ففيه حجة لمالك فى قوله: إن مجرى الخمس والفئ واحد، وهو خلاف قول الشافعى أن الفئ فيه الخمس، وأن خمس الفيء يقسم على خمسة أسهم وهم الذين قسم الله لهم خمس الغنيمة. وهذا لم يقله أحد قبل الشافعى، والناس على خلافه.

(5/250)


وقول عمر فى حديث مالك ابن أوس: (فكان الرسول ينفق على أهله منه نفقة سنتهم، ثم يأخذ ما بقى منه فيجعله مجعل ما لله) يعنى: مجعل الفيء، ولم يذكر أنه كان (صلى الله عليه وسلم) يلزمه إخراج الخمس منه حجة على الشافعى؛ لأنه يمكن أن يفضل له من سهمه بخيبر بعد نفقة سنته مثل الذى ينفقه أو أكثر أو أقل، ولو كان فيه الخمس لبين ذلك. وقال الطحاوى: وقول الشافعى فى الفيء أنه يخمس خطأ؛ لأن الله تعالى ذكر الغنائم فأوجب فيها الخمس، وذكر الفئ فقال تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى (فذكر فيه الرسول وذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كما قال تعالى فى آية الخمس، ثم قال تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم () والذين جاءوا من بعدهم (فذكر فى الغنائم الخمس لأصناف مذكورين، وذكر فى آية الفيء الجميع فى جميع الفيء، حيث أن حكم الفيء غير حكم الغنيمة. قال المهلب: ووجه هجران فاطمة لأبى بكر أنها لم يكن عندها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث، ما تركنا صدقة) ولا علمته، ثم أنفت أن تكون لا ترث أباها كما يرث الناس فى الإسلام والجاهلية، مع احتمال الحديث عندها أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد بعض المال دون بعض، وأنه لم يرد به الأصول والعقار، فانقادت وسلمت للحديث. وإنما كان هجرها له اقباضًا عن لقائه وترك مواصله وليس هذا من الهجران المحرم، وإنما المحرم من ذلك أن يلتقيا فلا يسلم أحدهما على صاحبه، ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا من التسليم، ولو فعلا ذلك لم يكونا بذلك متهاجرين إلا أن تكون النفوس مظهرة

(5/251)


للعداوة والهجران، لكنها وجدت عليه أن حرمها ما لم يحرم أحد. ولسنا نظن بهم إضمار الشحناء والعداوة، وإنما هم كما وصفهم الله) رحماء بينهم (وروى عن على أنه لم يغير شيئًا من سنة أبى بكر وعمر بعد ولايته فى تركة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بل أجرى الأمر على ما أجرياه فى حياتهما. فإن قيل: فما معنى حديث عائشة فى هذا الباب، وليس فيه ذكر الخمس؟ قيل: هو موافق للباب؛ وذلك أن فاطمة إنما جاءت تسأل ميراثها من الرسول من فدك وخيبر وغيرهما، وفدك مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلم يجر فيها خمس. وأما خيبر فابن شهاب ذكر أن بعضها صلح وبعضها عنوة، فجرى فيها الخمس. وقد جاء هذا فى بعض طرق الحديث فى كتاب المغازى قالت عائشة: (إن فاطمة جاءت تسأل نصيبها مما ترك الرسول مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وإلى ما بقى من خمس خيبر) وإلى هذا إشارة البخارى، واستغنى بشهرة الأمر عن إيراده مكشوفًا بلفظ (الخمس) فى هذا الباب. وفى حديث مالك بن أوس من الفقه أنه يجب أن يولى أمر كل قبيلة سيدهم؛ لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم لعلمه بهم. وفيه: أن للإمام أن ينادى الرجل الشريف باسمه وبالترخيم له، ولا عار على المنادى بذلك ولا نقيصة. وفيه: استعفاء الإمام مما يوليه، واستنزاله فى ذلك بألين الكلام؛ لقول مالك لعمر حين أمره بقسمة المال بين قومه: (لو أمرت به غيري) .

(5/252)


وفيه: الجلوس بين يدى السلطان بغير إذنه. وفيه: الشفاعة عند الإمام فى إنفاذ الحكم إذا تفاقمت الأمور وخشى الفساد بين المتخاصمين؛ لقول عثمان: (اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر) وقد ذكر البخارى فى المغازى أن عليا والعباس استبا يومئذ. وفيه: تقرير الإمام من يشهد له على قضائه وحكمه، وبيان وجه حكمه للناس. وأما مجيء العباس وعلى إلى أبى بكر فإنما جاءا يطلبان الميراث من تركة النبى من أرضه من فدك وسهمه من خيبر وصدقته بالمدينة على ما ثبت من حديث عائشة فى هذا الباب، فأخبرهم أنه قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث، ما تركنا صدقة) فسلما لذلك وانقادا، ثم جاءا بعد ذلك إلى عمر على اتفاق بينهما، يطلبان أن يوليهما العمل، والنظر فيما أفاء الله على رسوله من بنى النضير خاصة؛ ليقوما به، ويسبلاه فى السبل التى كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يسبله فيها؛ إذ كانت عند ذلك مصروفة فى تقوية الإسلام وأهله، وسد خلة أهل الحاجة منهم، فدفعه عمر إليهما على الإشاعة بينهما والتساوى والاشتراك فى النظر والأجرة. وأما مجيئهما إليه المرة الثانية فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يطلب كل واحد منهما أن ينفرد بالعمل كله، أو ينفرد بنصيبه؛ فرا من الإشاعة؛ لما يقع بين العمال والخدم من التنازع، فأبى عمر أن يكون إلا على الإشاعة؛ لأنه لو أفرد واحدًا منهما بالعمل والنظر لكان وجهًا من وجوه الأثرة، فتناسخ القرون وهى بيد بعض قرابة الرسول دون بعض فيستحقها الذى هى بيده، ولم ير أن يجعلها نصفين على غير الإشاعة؛ لأن سنة الأوقاف ألا تقسم بين أهلها،

(5/253)


وإنما يقسم علاتها، فلذلك حلف أن يتركها مجملة ولا يقسمها بينهم، فيشبه ذلك التوريث، والله أعلم. وقد ذكر البخارى فى المغازى أن عليا غلب العباس على هذه الصدقة ومنعه منها، ثم كانت بيد بنى على بعده يتداولونها. وجميع ما تركه الرسول من الأصول وما جرى مجراها مما يمكن بقاء أصله والانتفاع به، فحكمه حكم الأوقاف تجرى علاتها على المساكين، والأصل باق على ملك الموقف، فقوله: (ما تركنا صدقة) يعنى: صدقة موقوفة، وسيأتى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث، ما تركنا صدقة) فى كتاب الفرائض إن شاء الله. وأما قوله: (إن الله خص رسوله) فخصه بإحلال الغنيمة ولم تحل لأحد قبله، وخصه بما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار تكون له دون سائر الناس، وخصه بنصيبه فى الخمس، وهذا معنى ذكر هذا الحديث 4 فى باب فرض الخمس، وفيه أنه لا بأس أن يمدح الرجل نفسه ويطريها إذا قال الحق، وذلك إذا ظن بأحد أنه يريد تنقصه. وفيه: جواز ادخار الرجل لنفسه وأهله قوت السنة، وأن ذلك كان من فعل الرسول حين فتح الله عليه من النضير وفدك وغيرهما، وهو خلاف قول جملة الصوفية المنكرة للادخار، الزاعمين أن من أدخر فقد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله. وفيه: إباحة اتخاذ العقار التى يبتغى منها الفضل والمعاش بالعمارة، وإباحة اتخاذ نظائر ذلك من المغنم وأعيان الذهب والفضة كسائر الأموال التى يراد بها النماء والمنافع لطلب المعاش وأصولها ثابتة،

(5/254)


وستأتى هذه المسألة فى باب (نفقة النبى بعد وفاته) بزيادة فيها، ويأتى أيضًا فى كتاب الأطعمة إن شاء الله. قال الطبرى: وفيه من الفقه أن أبا بكر قضى على العباس وفاطمة بقول رسول الله: (لا نورث) ولم يحاكمهما فى ذلك إلى أحد غيره، فكذلك الواجب أن يكون للحكام والأئمة الحكم بعلومهم، لأنفسهم كان ذلك أو لغيرهم، بعد أن يكون ما حكموا فيه بعلومهم مما يعلم صحة أمره رعيتهم، أو يعلمه منهم من أن يحتاجوا إلى شهادته إن أنكر بعض ما حكموا به من ذلك عليهم بعض رعيتهم، كان فى شهادتهم لهم براءة ساحاتهم، وثبوت الحجة لهم على المحكوم عليه. قال الطبرى: وفى حديث على أن المسلمين كانوا فى أول الإسلام يشربون الخمر ويسمعون الغناء حتى نهى الله عن ذلك بقوله: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان (إلى قوله: (فهل أنتم منتهون (وسيأتى ما فى سماع الغناء عن السلف فى كتاب الاستئذان وفى كتاب فضائل القرآن، وقد تقدم منه شيء في كتاب صلاة العيدين. وقوله: (رجع القهقرى) قال الأخفش: يعنى: رجع وراءه ووجهه إليك. وقوله فى حديث عمر: (متع النهار) قال صاحب العين: متع النهار متوعًا، وذلك قبل الزوال. وفى قوله: (تيدكم أنشدكم بالله) فذكر الكسائى فى كتابه الذى شرحه: رويد زيد وتيد زيدًا ورويدًا زيدًا بمعنى واحد، ومعناه: أمهل

(5/255)


زيدًا، ومن روى: أتيدكم، فلا يجوز فى العربية؛ لأن أتاد لا يتعدى إلى مفعول، لا تقول: أتادت زيدًا، وإنما تقول: تدكم، كما تقول رويدكم، ومن روى: أجبت أسنمتها، فلا يعرف ذلك فى اللغة، إنما تقول العرب: جب الشيء إذا قطع منه، ومنه قيل للذى قطع إحليله فاستؤصل: مجبوب، ومن رواه: اجتبت فهو جائز. والثمل: السكران. وسأذكر ما فى هذا الحديث من الغريب فى كتاب المياه فى باب: بيع الحطب والكلأ إن شاء الله. قال الخطابى: وقد احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث فى إبطال أحكام السكران وقالوا: لو لزم السكران ما يكون منه فى حال سكره كما كان يلزمه فى حال صحوه لكان المخاطب رسول الله بما استقبله به حمزة كافرًا مباح الدم. قال أبو سليمان: وقد ذهب على هذا القائل أن ذلك كان منه إنما كان قبل تحريم الخمر وفى زمان كان شربها مباحًا، وإنما حرمت الخمر بعد غزوة أحد. قال جابر: (اصطبح الناس الخمر يوم أحد، ثم قتلوا آخر النهار شهداء) فأما وقت شربت فشربها معصية، وما تولد منها لازم، ورخص الله ما تلحق العاصي. قال المهلب: ذهب الخطابى إلى أنه لما كانت الخمر مباحة وقت شربها كان ما تولد منها بالسكر من الجفاء على النبى لا تلزم فيه عقوبة، فعذره (صلى الله عليه وسلم) لتحليل الخمر مع أنه كان شديد التوقير لعمه والتعظيم له والبر به. فأما اليوم والخمر محرمة فيلزم السكران حد الفرية وجميع الحدود؛ لأنه سبب زوال عقله من فعل محرم عليه، وأما ضمان إتلاف الناقتين فلزم حمزة ضمانهما لو طالبه على بذلك ويمكن أن يعوضه النبى منهما؛ إذ العلماء لا يختلفون أن جنايات الأموال لا تسقط عن المجانين وغير المكلفين، ويلزمهم ضمانها فى كل حال كما يلزم العقلاء.

(5/256)


فإن قيل: ما تقول فيمن سكر من لبن أو طعام أو دواء مباح فقذف غيره؟ والجواب: أن يحمل محمل المجنون والمغمى عليه والصبى يسقط حد القذف وسائر الحدود غير إتلاف الأموال؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبى حتى يحتلم) فمن سكر من شيء حلال فحكمه حكم هؤلاء. وقد بلغنى عن الفقيه أبى عبد الله بن الفخار أنه كان يقول: من سكر من لبن أو طعام حلال أنه لا يلزمه طلاق إن طلق فى حاله تلك. وحكى الطحاوى أنه إجماع من العلماء.
- باب: أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الدِّين
908 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا هَذَا الْحَىَّ مِنْ رَبِيعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، فَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلا فِى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ بِهِ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ: (آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، الإيمَانِ بِاللَّهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا لِلَّهِ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ: الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ) . قال المهلب: قد تقدم هذا الباب فى كتاب الإيمان وترجم له (باب أداء الخمس من الإيمان) وذلك بين؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمرهم بأربع فبدأ بالإيمان بالله وختم بأن تؤدوا إلى الله الخمس، فدخل ذلك فى جملة الإيمان، وإنما لم يأمرهم بالحج؛ لأنه لم يكن نزل حينئذ فرض الحج، وأمرهم بأداء الخمس؛ لأنه لا يكون الخمس إلا من جهاد، وأمرهم بالجهاد داخل فى أمرهم بالخمس، وإنما قصد إلى أداء الخمس؛ لأن كل من بايع لم يبايع إلا على الجهاد، وكان عبد القيس

(5/257)


أهل غارات، ولم يعرفوا أن يؤدوا منها شيئًا؛ لأنهم كانوا من فتاك العرب، فقصد لهم (صلى الله عليه وسلم) إلى إنهاء ما كانوا عليه من الباطل فذمه لهم، ونهاهم عن أشياء كلها فى معنى الانتباذ؛ لأنهم كانوا كثيرًا يفعلونه، فقصد لهم إلى الظروف التى كانوا يتذرعون فيها إلى السكر لإسراع النبيذ إلى السكر فيها، ونسخ ذلك (صلى الله عليه وسلم) بعد هذا لما أمن منهم التذرع إلى الدباء والمزفت على ما يأتى فى كتاب الأشربة - إن شاء الله. قوله: (ولسنا نصل إليك إلا فى الشهر الحرام) إنما قال ذلك لأن كفار العرب كانوا لا يقاتلون فى الأشهر الحرم، ولا يحملون السلاح فيها.
3 - باب: نَفَقَةِ نِسَاءِ النَّبىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدَ وَفَاتِهِ
909 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِى دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِى، وَمَئُونَةِ عَامِلِى، فَهُوَ صَدَقَةٌ) . 1910 / وفيه: عَائِشَةَ، تُوُفِّىَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَا فِى بَيْتِى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ؛ فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ. 1911 / وفيه: عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلا سِلاحَهُ، وَبَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً. قال الطبرى: قوله: (لا تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا) ليس بمعنى النهى؛ لأنه لم يترك (صلى الله عليه وسلم) دينارًا ولا درهمًا يقتسم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة بوسق من شعير، ولا يجوز النهى عما لا سبيل إلى فعله، وإنما ينهى المرء عما يمكن وقوعه منه. ومعنى الخبر أنه ليس تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا؛ لأنى لا أخلفهما بعدي.

(5/258)


وقال غيره: إنما استثنى (صلى الله عليه وسلم) نفقة نسائه بعد موته؛ لأنهن حبوسات عليه لقوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله (الآية. وقوله: (مئونة عاملي) يريد عامل نخله فيما خصه الله به من الفيء فى فدك وبنى النضير، وسهمه بخيبر مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكان له من ذلك نفقته ونفقة أهله وجعل سائره فى نفع المسلمين. وجرت النفقة بعده من ذلك على أزواجه وعلى عمال الحوائط إلى أيام عمر، فخير عمر أزواجه بين أن يتمادى على ذلك أو يقطع لهن قطائع، فاختارت عائشة وحفصة أن يقطع لهما قطائع فقطع لهما فى [. . . . .] وأخرجهما عن حصتهما من ثمرة تلك الحيطان، فملكتا ما أقطعهما عمر من ذلك إلى أن ماتتا وورث عنهما. قال الطبرى: وفيه من الفقه أن من كان مشتغلا من الأعمال بما فيه لله بر وللعبد عليه من الله أجر أنه يجوز أخذ الرزق على اشتغاله به إذا كان فى قيامه سقوط مئونة عن جماعة من المسلمين أو عن كافتهم، وفساد قول من حرم [. . . . .] أخذ الأجور على أعمالهم، والمؤذنين أخذ الأرزاق على تأذينهم، والمعلمين على تعليمهم. وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل لولى الأمر بعده فيما كان أفاء الله عليه مؤنته، وإنما جعل ذلك لاشتغاله، فبان أن كل قيم بأمر من أمور المسلمين مما يعمهم نفعه سبيله سبيل عامل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أن له المئونة فى بيت مال المسلمين والكفاية ما دام مشتغلا به، وذلك كالعلماء والقضاة والأمراء وسائر أهل الشغل بمنافع الإسلام. وفى حديث أبى هريرة من الفقه الدلالة البينة على أن الله أباح لعباده

(5/259)


المؤمنين اتخاذ الأموال والضياع ما يسعهم لأقواتهم وأقوات أهليهم وعيالهم، ولما ينوب من النوائب ويفضل عن الكفاية؛ لأن الرسول جعل الفضل عن نفقة أهله للسنة ومئونة عامله صدقة، فكذلك كان هو يأخذ فى حياته، فكان يأخذ ما بقى فيجعله فيما أراه الله من قوة الإسلام، ومنافع أهله، والخيل والسلاح، وما يمكن صرفه فى ذلك فهو مال كثير. وفى ذلك الدليل الواضح على جواز اتخاذ الأموال واقتنائها؛ طلب الاستغناء بها عن الحاجة إلى الناس، وصونًا للوجه والنفس استنانًا برسول الله، وأن ذلك أفضل من الفقر والفاقة إذا أدى حق الله منها، ولو كان الفقر أفضل لما كان الرسول يختار أخس المنزلتين عند الله على أرفعهما، بل كان يقسم أمواله وأصوله على أصحابه ولا سيما بين ذوى الحاجة منهم، فبان فساد قول من منع اتخاذ الأموال وادخار الفضل عن قوت يوم وليلة، ووضح خطأ قول من زعم أن التوكل لا يصح لمؤمن على ربه إلا بعد ألا يحتبس بعد غدائه وعشائه شيئًا فى ملكه، وأن احتباسه ذلك يخرجه من معنى التوكل ويدخله فى معنى من أساء الظن بربه. ولا يجوز أن يقال أن أحدًا أحسن ظنا بربه من النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا خفاء بفساد قولهم، فإن اعترضوا بما روى عن ابن مسعود أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فى الدنيا) فمعنى ذلك: لا تتخذوها إذا خفتم على أنفسكم باتخاذها الرغبة فى الدنيا، فأما إذا لم تخافوا ذلك فلا يضركم اتخاذها بدليل اتخاذ النبى (صلى الله عليه وسلم) لها. فإن قيل: فقد روى مسروق، عن عائشة قالت: (قال النبى

(5/260)


عليه السلام لبلال: أطعمنا. قال: ماعندى إلا صبر تمر خبأناه لك. قال: أما تخشى أن يخسف الله به فى نار جهنم؟ قال: أنفق يا بلال ولا تخف من ذى العرش إقلالا) . قيل: كان هذا منه فى حال ضيق عندهم، فكان يأمر أهل السعة أن يعودوا بفضلهم على أهل الحاجة حتى فتح الله عليهم الفتوح ووسع على أصحابه فى المعاش، فوسع على أصحابه فى الاقتناء والادخار إذا أدوا حق الله فيه. قال المهلب: ومن أجل ظاهر حديث أبى هريرة والله أعلم طلبت فاطمة ميراثها فى الأصول؛ لأنها وجهت قوله: (لا تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا) إلى الدنانير والدراهم خاصة، لا إلى الطعام والأثاث والعروض وما يجرى فيه المئونة والنفقة. وفيه من الفقه أن الحبس لا يكون بمعنى الوقف حتى يقال فيه صدقة. وأما حديث عائشة فإن الشعير الذى كان عندها كان غير مكيل، فكانت البركة فيه من أجل جهلها بكيله، وكانت تظن كل يوم أنه سيفنى لقلة كانت تتوهمها فيه، فلذلك طال عليها، فلما كالته علمت مدة بقائه ففنى عند تمام ذلك الأمر، والله أعلم.
4 - باب مَا جَاءَ فِى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَا نُسِبَ مِنَ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ وقوله تَعَالَى: (وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ ولا تبرجن تبرج الجاهلية) [الأحزاب: 33] ، وقوله: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) [الأحزاب: 53]
. 1912 / فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ

(5/261)


لَهُ. وقالت: تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِى، وَفِى نَوْبَتِى وَبَيْن سَحْرِى وَنَحْرِى، وَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِى وَرِيقِهِ. 1913 / وفيه: صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَزُورُهُ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ مَعَهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . . . . الحديث. 1914 / وفيه: ابْن عُمَرَ، ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ. 1915 / وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا. 1916 / وفيه: ابْن عُمَرَ، قَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَطِيبًا، فَأَشَارَ نَحْوَ مَسْكَنِ عَائِشَةَ، فَقَالَ: (هُنَا الْفِتْنَةُ، ثَلاثًا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) . 1917 / وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ إِنْسَانٍ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ. . . الحديث. قال الطبرى: فإن قال قائل: إن كان لم يورث (صلى الله عليه وسلم) لقوله: (ما تركنا صدقة) فكيف سكن أزواجه بعد وفاته فى مساكنه إن كن لم يرثنه إذا؟ وكيف لم يخرجن عنها؟ فالجواب فى ذلك أن طائفة من العلماء قالت: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما جعل لكل امرأة منهن كانت ساكنة فى مسكن مسكنها الذى كانت تسكنه فى حياته، فملكت ذلك فى حياته، فتوفى الرسول يوم توفى وذلك لها، ولو كان صار لهن ذلك من وجه الميراث عنه لم يكن لهن منه إلا الثمن، ثم كان ذلك الثمن أيضًا مشاعًا فى جميع المساكن لجميعهن. وفى ترك منازعة العباس وفاطمة إياهن فى ذلك وترك منازعة

(5/262)


بعضهن بعضًا، فيه دليل واضح على أن الأمر فى ذلك كما ذكرناه. وقد قال تعالى لهن: (وقرن فى بيوتكن (لئلا يخرجن عن منازلهن بعد وفاة الرسول. وقال آخرون: إنما تركن فى المساكن التى سكنها فى حياة النبى؛ لأن ذلك كان من مئونتهن التى كان رسول الله استثناه لهن مما كان بيده أيام حياته، كما استثنى نفقاتهن حين قال: (ما تركت بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة) قالوا: ويدل على صحة ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كان ذلك ملكًا لهن كان لا شك يورث عنهن، وفى ترك ورثتهن حقوقهم من ذلك دليل أنه لم يكن لهن ملكًا، وإنما كان لهن سكناه حياتهن، فلما مضين بسبيلهن جعل ذلك زيادة فى المسجد الذى يعم المسلمين نفعه كما فعل ذلك فى الذى كان لهن من النفقات فى تركة رسول الله، صرفه فيما يعم نفعه. قال المهلب: وفى هذا من الفقه أن من سكن حبسًا حازه بالسكنى، وإن كان للمحبس فيه بعض السكنى والانتفاع أن ذلك جائز فى التحبس، ولا ينقض التحبس ما له فيه من الانتفاع اليسير؛ لأن الرسول كان ينتاب كل واحدة منهن فى نوبتها، فليلة من تسع ليال يسير. ولذلك قال مالك: إن المحبس قد يسكن البيت من الدار التى حبس ولا ينتقض بذلك حوزها. وقال صاحب العين: السحر والنحر: الرية وما يتعلق بالحلقوم.

(5/263)


5 - باب مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ
. 1918 / فيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ أَسْطُرٍ: (مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ) . 1919 / وفيه: أَنَس، أَنَّهُ أَخْرَجَ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالانِ، وهما نَعْلا النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . 1920 / وفيه: أَبُو بُرْدَةَ، أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً مُلَبَّدًا، وَقَالَتْ: فِى هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . وَقَالَ مرة: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ مُلَبَّدًا. 1921 / وفيه: أَنَس، أَنَّ قَدَحَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. 1922 / - وفيه: عَلِىّ بْنَ حُسَيْنٍ، أنَّهُ لَقِى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، حِينَ قَدِم الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِىٍّ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: هَلْ لَكَ إِلَىَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِى بِهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: لا، فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أَنْتَ مُعْطِىَّ سَيْفَ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ؟ وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لا يُخْلَصُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِى، إِنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِى جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلام فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَخْطُبُ النَّاسَ فِى ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ، فَقَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّى، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِى دِينِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ إِلىَ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ابْنَةُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا) .

(5/264)


23 / وفيه: ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: لَوْ كَانَ عَلِىٌّ ذَاكِرًا عُثْمَانَ ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا سُعَاةَ عُثْمَانَ، فَقَالَ لِى عَلِىٌّ: اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمُرْ سُعَاتَكَ يَعْمَلُوا بها، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: أَغْنِهَا عَنَّا، فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا. وَقَالَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا: أَرْسَلَنِى أَبِى، خُذْ هَذَا الْكِتَابَ، فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ، فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الصَّدَقَةِ. قال: اتفاق الأمة بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يملك أحد درعه ولا عصاه وسيفه وقدحه وخاتمه ونعله، يدل أنهم فهموا من قوله: (لا نورث، ما تركنا صدقة) أنه عام فى صغير الأشياء وكبيرها فصار هذا إجماعًا معصومًا، لأنه لا يجوز على جماعة الصحابة الخطأ فى التأويل، وهذا رد على الشيعة الذين ادعو أن أبا بكر الصديق وعمر بن الحطاب حرما فاطمة والعباس ميراثهما من النبي. وقد روى الطبرى قال: حدثنا يعقوب ابن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أبو إسحاق قال: قلت لأبى جعفر: أرأيت عليا حين ولى العراق وما كان بيده من سلطانه كيف صنع فى سهم ذى القربى؟ قال: سلك به والله طريق أبى بكر وعمر) . قال المهلب: إنما ذكر هذه الآثار كلها فى هذا الباب لتكون سنة للخلفاء فى الختم واتخاذ الخاتم لما يحتاج فيه إليه، واتخاذ السيف والدرع أيضًا للحرب، وأما الشعر فإنما استعمله الناس على سبيل التبرك به من النبى خاصة، وليس ذلك من غيره بتلك المنزلة، وكذلك

(5/265)


النعلان من باب التبرك أيضًا ليس لأحد فى ذلك مزية رسول الله ولا يتبرك من غيره بمثل ذلك. وأما طلب المسور لسيف الرسول من على بن حسين، فإنه أراد التبرك به؛ لأنه من أحباس المسلمين، وكان بيدى الحسين، فلما قتل أراد أن يأخذه المسور لئلا يأخذه بنو أمية، ثم حلف إن أعطاه إياه أنه لا يخلص إليه أبدًا، بشاهد من فعل رسول الله على الحلف والقطع على المستقبل ثقة بالله فى إبراره، واشترط فى يمينه شريطة دون ما حلف عليه صلى الله عليه وهى قوله: (لا يخلص إليه حتى تخلص إلى نفسي) . وقوله: إن على بن أبى طالب خطب ابنة أبى جهل على بنت رسول الله، فكره رسول الله ذلك، وخطب الناس، وعرفهم أنه لا يحرم حلالا أحله الله مما يعرضه على من الخطبة على فاطمة، ولكنه أعز نفسه وبنته من أن تضارها بنت عدو الله، وأقسم على الله ألا يجتمعا عند رجل واحد ثقة بالله أنه يبر قسمه (صلى الله عليه وسلم) ، وقد قال: (رب أشعث ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) ، والرسول أولى الناس بهذه المنزلة، فأقسم على ذلك لعلمه أن الله قد منع المؤمنين أذاه؛ لقوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله (وقد قال (صلى الله عليه وسلم) في ابنته أنه يؤذيه ما يؤذيها، فليس لأحد من المؤمنين أن يفعل شيئًا يتأذى به النبى، وإن كان فعل ذلك له مباحًا، وسيأتى القول فى تمام هذا فى كتاب النكاح فى باب: ذب الرجل عن ابنته فى الغيرة إن شاء الله. وفى حديث ابن الحنفية من الفقه أن الإمام إذا نسب إلى خدمته

(5/266)


أمر أنه يجب على أصحابه إعلامه بذلك، وإعلام الصواب فيما نسب إليهم، كما فعل على، وما قيل فى سعاة عثمان وشكى فيهم قد يمكن أن يكون باطلاً، كما شكى سعد بن أبى وقاص إلى عمر بالباطل، وقد يجوز أن يكون من بعض سعاة عثمان ما يكون من البشر. وأما رد الصحيفة وقوله: (أغنها عنا) فذلك لأنه كان عنده نظير منها ولم يجهلها، لا أنه ردها وليس عنده علم منها، ولأنه قد كان أمر بها سعاته فلا يجوز على عثمان غير هذا. وفيه: أن الصاحب إذا سمع عن السلطان أمرًا مكروهًا أن ينبه بألطف التنبيه، وأن يسند ذلك إلى من كان قبله كما أسند على أمر الصحيفة إلى رسول الله، وأسند عروة ابن الزبير فى إنكاره على عمر بن عبد العزيز تأخير الصلاة إلى أبى موسى، وأنه أنكر ذلك على المغيرة بن شعبة فاحتج بأسوة تقدمت له فى الإنكار على الأئمة، ثم أسند له الحديث حين رفعه عمر. وقوله: (لو كان على ذاكرًا عثمان) بشر ذكره فى هذه القصة، فدل أن عليا عذر عثمان بالتأويل، ولم يكن عنده مخطئًا ولا مذمومًا، وقد تقدم فعل أبى بكر وعمر فى باب: فرض الخمس. قال الطبرى: وأما فعل عثمان فى صدقة النبى (صلى الله عليه وسلم) فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة قال: (لما ولى عمر بن عبد العزيز جمع بنى أمية فقال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت له فدك فكان يأكل منها وينفق ويعود على فقراء بنى هاشم ويزوج منهم أيمهم، وأن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك

(5/267)


حياة الرسول حتى قبض، ثم ولى أبو بكر فكانت كذلك فعمل فيها بما عمله رسول الله حياته، ثم ولى عمر فعمل فيها مثل ذلك، ثم ولى عثمان فأقطعها مروان، فجعل مروان ثلثيها لعبد الملك وثلثها لعبد العزيز، فجعل عبد الملك ثلثًا للوليد، وثلثًا لسليمان، وجعل عبد العزيز ثلثه لى، فلما ولى الوليد جعل ثلثه لى، فلم يكن لى مال أعود على ولا أسد لحاجتى منها، ثم وليت أنا فرأيت أن أمرًا منعه النبى (صلى الله عليه وسلم) فاطمة ابنته أنه ليس لى بحق، وإنى أشهدكم أنى قد رددتها إلى ما كانت عليه فى عهد رسول الله) . قال الطبرى: وأما عثمان فإنه كان يرى فى ذلك أنه لقيم أمر المسلمين أن يصرفه فيما رأى صرفه فيه، ولذلك أقطعه مروان وذهب فى ذلك إن شاء الله إلى ما حدثنا أبو كريب قال: حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الوليد بن جميع، عن أبى الطفيل قال: (جاءت فاطمة إلى أبى بكر فقالت: أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ قال: بل ورثه أهله. قالت: فما بال سهم الرسول؟ قال: سمعت النبى - (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إذا أطعم الله نبيا طعمة فقبض، فهو للذى يقوم بعده، فرأيت أن أجعلها فى الكراع والسلاح) . قالت: فأنت وما سمعت من رسول الله) وبهذا قال الحسن وقتادة. قال الطبرى: فإن قال قائل: فما وجه هذا الحديث وقد صح عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (ما تركت بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة) فكيف يكون وهو صدقة ملكًا لمن يقوم بعده؟ قيل: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فهو للذى يقوم بعده) يعمل فيه ما كان (صلى الله عليه وسلم) يعمل ويسلك به المسلك الذى كان يسلك، لا أنه جعله ملكًا، وهذا التأويل يمنع الخبرين من التنافى. فإن قيل: وما ينكر أن يكون صدقة له من رسول الله تصدق بها عليه بعد وفاته؛ إذ

(5/268)


كانت صدقة التطوع عندك حلال للغنى والفقير، وإنما الحرام منها ما كان فرضًا على الأغنياء؛ لأن الله جعلها لأهل السهمان فى كتابه؟ قيل: أنكرنا ذلك من أجل أنه لو كان كذلك صح أنه كان لأبى بكر ملكًا، ولوجب أن يكون بعد أبى بكر موروثًا عنه، إذ كان أبو بكر قد ورثه أهله، وقيام الحجة بأنه لم يورث عنه، للدلالة الواضحة على أنه لم يكن لولى الأمر من بعد رسول الله ملكًا، وإنما كان إليه صرف علات ذلك فى وجوها وسبلها. فإن قيل: فما معنى قول أبى بكر لفاطمة: بل ورثه أهله؟ قيل: معنى ذلك: بل ورثه أهله إن كان خلف شيئًا يورثه، ولم يترك شيئًا يورث عنه؛ لأن ما كان بيده من الأموال مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، إنما كان طعمة من الله له، على أن يأكل منه هو وأهله ما احتاج واحتاجوا، ويصرف ما فضل على ذلك فى تقوية الإسلام وأهله، فقبضه الله، ولم يخلف شيئًا هو له ملك يقتسمه أهله عنه ميراثًا. ويبين ذلك قول عائشة: (مات رسول الله، ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا بعيرًا ولا شاة، ولقد مات وإن درعه لمرهونة بوسق من شعير) . وقول عثمان: (أغنها عنا) يقول: اصرفها عنا، يقال: أغنيت عنك كذا: صرفته عنك. ومنه قوله تعالى: (لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه (يعنى: يصرفه. قال صاحب الأفعال: أغنى عنك الشيء صرف عنك ما تكره. وفى القرآن: (ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (و) ما أغنى عنى ماليه (وقوله: مما يتبرك أصحابه. المعنى: يتبرك به،

(5/269)


وحذف (به) جائز، كحذفها من قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر (وحذف الأدوات موجود سائغ؛ لقوله: (يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئًا (تقديره: تجزى فيه. قال الشاعر: إن الكريم وأبيك معتمل إن لم يجد يومًا على من يتكل يريد: يتكل عليه.
6 - باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْمَسَاكِينِ وَإِيثَارِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأرَامِلَ حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ، وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنَ السَّبْىِ، فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
. 1924 / فيه: عَلِىٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِسَبْىٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا، وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِى، فَقَالَ: (أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ) . قال إسماعيل بن إسحاق: هذا الحديث شاهد أن الإمام يقسم الخمس حيث رأى على الاجتهاد؛ لأن السبى الذى أتى النبى لا يكون والله أعلم إلا من الخمس؛ إذ كانت الأربعة الأخماس تدفع إلى من حضر الوقعة، ثم منع الرسول أقربيه وصرفه إلى غيرهم، وبهذا قال مالك والطحاوى

(5/270)


وذهب قوم أن لذوى قرابة رسول الله سهم من الخمس مفروض، لقوله: (فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى (وهم: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب خاصة، لإعطاء رسول الله إياهم دون سائر قرابته. هذا قول الشافعى، وأبى ثور. وذهب قوم إلى أن قرابة رسول الله لا سهم لهم من الخمس معلومًا ولا حظ لهم خلاف حظ غيرهم. وقالوا: وإنما جعل الله لهم ما جعل من ذلك فى الآية المذكورة بحال فقرهم وحاجتهم؛ فأدخلوهم مع الفقراء والمساكين، فكما يخرج الفقير والمسكين من ذلك بخروجهم من المعنى الذى استحقوا به ذلك، وهو الفقر، فكذلك قرابة رسول الله المذكورون معهم إذا استغنوا خرجوا من ذلك. قالوا: ولو كان لقرابة رسول الله حظ لكانت فاطمة ابنته بينهم؛ إذ كانت أقربهم إليه نسبًا، وأمسهم به رحمًا، فلم يجعل لها حظا فى السبى، ولا أخدمها، ولكن وكلها إلى ذكر الله وتحميده وتهليله الذى يرجو لها به الفوز من الله، والزلفى عنده. قال الطبرى: ولو كان قسمًا مفروضًا لذوى القربى لأخدم ابنته، ولم يكن (صلى الله عليه وسلم) ليدع قسمًا اختاره الله لهم وامتن به عليهم؛ لأن ذلك حيف على المسلمين، واعتراض لما أفاء الله عليهم، فأخدم منه ناسًا، وتركه ابنته، ثم لم تدع فيه رضى الله عنها حقا لقرابة حين وكلها إلى التسبيح، ولو كان فرضًا لبينه تعالى كما بين فرائض المواريث. قال الطحاوى: وبذلك فعل أبو بكر وعمر بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) قسما جميع الخمس، ولم يريا لقرابة رسول الله حقا، خلاف حق سائر الناس، ولم ينكره عليهما أحد من أصحاب

(5/271)


رسول الله، ولا خالفهما فيها، إذا ثبت الإجماع من أبى بكر وعمر وجميع أصحاب النبى عليه السلام ثبت القول به، ووجب العمل به، وترك خلافه، وكذلك فعل على لما صار الأمر إليه، حمل الناس عليه، على ما ثبت فى الباب. قال المهلب: الأثرة بينة فى هذا الحديث، وذلك أن ابنة النبى لما استخدمته خادمًا، فعلمها من تحميده وتسبيحه وتكبيره ما هو أنفع لها بدوم النفع، وآثر بذلك الفقراء الذين كانوا فى المسجد؛ قد أوقفوا أنفسهم لسماع العلم، وضبط السنن على شبع بطونهم، لا يرغبون فى كسب مال ولا راحة عيال، فكأنهم استأجروا أنفسهم من الله بالقوت، فكان إيثار النبى لهم، وحرمان ابنته دليل واضح أن الخمس مرقوب للأوكد فالأوكد، وليس على من ذكر الله بالسوية كما زعم الشافعى لأنه آثر المساكين على ذوى القربى، وهم مذكورون فى الآية قبلهم، وإنما الأمر موكول فيه إلى اجتهاده (صلى الله عليه وسلم) ، له أن يحرم من يشاء، ويعطى من يشاء. وفيه: أن طلبة العلم مقدمون فى خمس الغنائم على سائر من ذكر الله له فيها اسمًا. وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث ابن عيينة وحماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن على بن أبى طالب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لعلى وفاطمة: (لا أخدمكما وأدع أهل الصفة يطوون جوعًا، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعه فأنفقه عليهم) .

(5/272)


قال المهلب: وفيه من النفقه حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل فى الدنيا، وتسليهم عنها بما أعد الله للصابرين فى الآخرة. وفيه: دخول الرجل على ابنته، وهى راقدة مع زوجها. وفيه: جواز جلوسه بينهما، وهما راقدان ومباشرة قدميه وبعض جسده جسم ابنته، وجواز مباشرة ذوى المحارم، وهو خلاف قول مالك، وقول من أجاز ذلك أولى لموافقة الحديث له. وفيه: أن أقل الأعمال الصالحة خير مكافأة فى الآخرة من عظيم من أمور الدنيا، أن يكون التسبيح وهو قول: خير أجرًا فى الآخرة من خادم فى الدنيا، وعنائها بالخدمة والسعاية عن مالكها، فكيف بالصلاة والحج وسائر الأعمال التى تستعمل فيها الأعضاء والبدن كله.
7 - باب قوله تَعَالَى: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال: 41] يَعْنِى: ولِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، وَاللَّهُ يُعْطِى
. 1925 / فيه: جَابِر، وُلِدَ لِرَجُلٍ غُلامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا، فقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى، إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ) . 1926 / وقال جابر: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلامٌ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقَالَتِ الأنْصَارُ: لا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ، وَلا نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَأَخبر النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَحْسَنَتِ الأنْصَارُ، سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى، فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ) .

(5/273)


27 / وفيه: مُعَاوِيَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَاللَّهُ الْمُعْطِى، وَأَنَا الْقَاسِمُ) . 1928 / - وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ) . 1929 / وفيه: خَوْلَة، قَالَ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ رِجَالا يَتَخَوَّضُونَ فِى مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وغرض البخارى فى هذا الباب أيضًا الرد على من جعل للنبى خمس الخمس ملكًا استدلالا بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول (وهو قول الشافعي. قال إسماعيل بن إسحاق: وقد قيل فى الغنائم كلها لله وللرسول، كما قيل فى الخمس لله وللرسول، أفكانت الأنفال كلها للنبى (صلى الله عليه وسلم) بل علم المسلمون أن الأمر فيها مردود إليه، فقسمها (صلى الله عليه وسلم) وكان فيها كرجل من المسلمين، بل لعل ما أخذ من ذلك أقل من حظ رجل، بلغنا أنه تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر، وقيل: جملا لأبى جهل، وقد علم كل عاقل أنه لا يشرك بين الله ورسوله وبين أحد من الناس، وأن ما كان لله ولرسوله، فالمعنى فيه واحد؛ لأن طاعة الله طاعة رسوله. وسئل الحسن بن محمد بن على عن قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول (قال: هذا مفتاح كلام الله، الدنيا والآخرة. قال المهلب: وإنما خص بنسبة الخمس إليه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن ليس

(5/274)


للغانمين فيه دعوى، وإنما هو إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى رفعه فى بيت المال لما يخشى أن ينزل بالمسلمين رفعه، أو يجعله فيما يراه، وقد يقسم منه للغانمين، كما أنه يعطى من المغانم لغير الغانمين، كما قسم لجعفر وغيره ممن لم يشهد الوقعة، فالخمس وغيره إلى قسمته (صلى الله عليه وسلم) واجتهاد، وليس له فى الخمس ملك، ولا يمتلك من الدنيا إلا قدر حاجته، وغير ذلك كله عائد على المسلمين، وهذا معنى تسميته بقاسم، وليست هذه التسمية بموجبة ألا تكون أثر فى اجتهاده لقوم دون قوم. وقوله: (أحسنت الأنصار) يعنى: فى تعزيز نبيها، وتوقيره من أن يشارك فى كنيته، فيدخل عليه النعت عند النداء بغيره لتشوفه إلى الداعى، كما عرض له فى السوق، فنهى عن كنيته، وأباح اسمه للبركة المرجوة منه [. . . .] فى التسمية من الفأل الحسن؛ لأنه من معنى الحمد؛ ليكون محمودًا من تسمى باسمه. وقوله: (لا أعطيكم، ولا أمنعكم) يقول: الله يعطى فى الحقيقة، وهو يمنع، وإنما أعطيكم بقدر ما يسرنى الله له. ومعنى حديث خولة فى هذا الباب، أن من أخذ من المقاسم شيئًا بغير قسم الرسول أو الإمام بعده، فقد تخوض فى مال الله بغير حق، ويأتى بما غل يوم القيامة. وفيه ردع للولاة والأمراء أن يأخذوا من مال الله شيئًا بغير حقه، ولا يمنعوه من أهله.

(5/275)


8 - باب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أُحِلَّتْ لَكُمُ الْغَنَائِمُ) وقوله: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا (الآية [الفتح: 20]
فَهِىَ لِلْعَامَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وسلم) . 1930 / فيه: عُرْوَةَ الْبَارِقِىِّ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ: الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . 1931 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا هَلَكَ كِسْرَى، فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ، فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . 1932 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) . 1933 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (غَزَا نَبِىٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لا يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِىَ بِهَا، وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا، وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلادَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ، وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، فَجَاءَتْ - يَعْنِى النَّارَ - لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولا، فَلْيُبَايِعْنِى مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، قَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْيُبَايِعْنِى قَبِيلَتُكَ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ، فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا، وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا) .

(5/276)


قال المهلب: قوله (فهى للعامة) يعنى: لجميع الناس، حتى يبين الرسول من يستحقها، وكيف تقسم، وقد بين الله بقوله: (واعلموا أنما غنمتهم من شيء فأن لله خمسه (إلى) السبيل (وأما قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه (فإنما خاطب بهذه الآية أهل الحديبية خاصة، ووعدهم بها، فلما انصرفوا من الحديبية فتحوا خيبر، وهى التى عجل لهم. وقال ابن أبى ليلى: (وأثابهم فتحًا قريبًا (يعنى: خيبر) وأخرى لم تقدروا عليها (قال: فارس والروم. وقال مروان والمسور: انصرف رسول الله من الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه الله فيها خيبر، فقدم رسول الله المدينة فى ذى الحجة، وسار إلى خيبر فى المحرم، وقوله: (وكف أيدى الناس عنكم (وحيالكم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر. قال المهلب: فى حديث النبى الذى أمر ألا يتبعه من لم يتزوج: فيه دليل أن فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع وتخيبها؛ لأن من ملك بضع امرأة، ولم يبن بها، أو بنى بها، وكان على طراوة منها، فإن قلبه متعلق بالرجوع إليها، وشغله الشيطان عما هو فيه من الطاعة، فرمى فى قلبه الجزع، وكذلك ما فى الدنيا من متاعها وقنيتها. وفى قوله للشمس: (إنك مأمورة) دليل فى الوم، وأصل فى

(5/277)


العبادة على ضيق وقت العمل الذى الرأى فيه فى اليقظة، وثبات وقته، فيكون تنبيها على الأخذ بالحزم. وفيه: أن قتال آخر النهار وإذا هبت رياح النصر أفضل، كما كان (صلى الله عليه وسلم) يفعل. وقوله: (احبسها علينا) دعاء إلى الله أن يمد لهم الوقت حتى يفتحوا المدينة. وقيل: فى قوله: (احبسها علينا) أقوال: أحدها: أنها ردت على أدراجها. وقيل: أوقفت، فلم تبرح. وقيل: بطؤ تجريها وسيرها، وهو أولى الأقوال بجريها على العادة، وإن كان خرق العادة للأنبياء جائز، فكل الوجوه جائزة، وكانت المغانم للأنبياء المتقدمين يجمعونها فى برية، فتأتى نار من السماء فتحرقها، فإن كان فيها غلول أو مالاً يحل لم تأكلها، وكذلك كانوا يفعلون فى قربانهم، كان المتقبل تأكله النار وما لا يتقبل يبقى على حاله لا تأكله. ودعاء هذا النبى قومه بالمبايعة بمصافحة أيديهم، اختبار منه للقبيل الذى فيهم الغلول، من أجل ظهور هذه الآية، وهى لصوق يد المبايع بيد النبي. وفيه: أن الأنبياء قد يحكمون فى الأشياء المعجزات بآيات يظهرها الله على أيديهم شهادة على ما التبس من أمر الحكم، وقد يحكمون أيضًا بحكم لا يكون آية معجزة، ويكون النبى وغيره من الحكام سواء، أو يكون اجتهادهم على حسب ما يتأدى إليهم من مقالة الخصمين؛ فذلك إنما هو ليكون سنة لمن بعدهم. وفيه: أن الغنائم لم تحل لأحد غير محمد وأمته. وفيه: دليل على تجديد البيعة إذا احتيج إلى ذلك لأمر وقع، وقد فعل ذلك (صلى الله عليه وسلم) تحت الشجرة.

(5/278)


وفيه: جواز إحراق أموال المشركين وما غنم منها.
9 - باب: الغَنِيمَةُ لمِنَ شَهِدَ الوَقْعَةَ
934 / - وفيه: عُمَرَ، قَالَ: لَوْلا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ، مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَيْبَرَ. فيه: الغنيمة لمن شهد الوقعة. وهو قول أبى بكر وعمر، وعليه جماعة الفقهاء. فإن قيل: فإن رسول الله قسم لجعفر بن أبى طالب، ومن قدم فى سفينة أبى موسى من غنائم خيبر، وهم لم يشهدوها؟ فالجواب: أن خيبر مخصوصة بذلك؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقسم غير خيبر لمن لم يشهدها، فلا يجوز أن تجعل خيبر أصلا يقاس عليه. قال المهلب: وإنما قسم من خيبر لأصحاب السفينة؛ لشدة حاجتهم فى بدء الإسلام، بأنهم كانوا للأنصار تحت منح من النخيل والمواشى لحاجتهم، فضاقت بذلك إخوان الأنصار، وكان المهاجرون من ذلك فى شغل بال [. . . .] عوض الرسول المهاجرين، ورد إلى الأنصار منائحهم. قال الطحاوى: وقد يحتمل أنه (صلى الله عليه وسلم) استطاب أنفس أهل الغنيمة، وقد روى ذلك عن أبى هريرة، وسنذكره عن [. . . . .] ونذكر هناك وجوهًا أخر للعلماء فى إسهام النبى لأهل السفينة من غنائم خيبر. واما قول عمر: (لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين

(5/279)


أهلها، كما فعل رسول الله بخيبر) فإن أهل العلم اختلفوا فى حكم الأرض، فقال أبو عبيد: وجدنا الآثار عن الرسول والخلفاء بعده قد جاءت فى افتتاح الأرض بثلاثة أحكام: أرض أسلم عليها أهلها فهى لهم ملك، وهى أرض عشر لا شيء عليهم فيها غيره، وأرض افتتحت صلحًا على خراج معلوم، فهم على ما صولحوا عليه، لا يلزمهم أكثر منه، وأرض افتتحت عنوة، فهى التى اختلف فيها المسلمون، فقال بعضهم: سبيلها سبيل الغنيمة، فتكون أربعة أخماسها حصصا بين الذين افتتحوها، والخمس الباقى لمن سمى الله. قال ابن المنذر: وهذا قول الشافعى، وأبى ثور، وبه أشار الزبير بن العوام على عمرو ابن العاص حين افتتح مصر. قال أبو عبيد: وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام، إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله بخيبر، فذلك له، وإن رأى أن يجعلها موقوفة على المسلمين ما بقوا، كما فعل عمر بالسواد، فذلك له. قال الطحاوى: وهذا قول أبى حنيفة والثورى وأبى يوسف ومحمد. وشذ مالك فى (المدونة) فى حكم أرض العنوة، وقال: يجتهد فيها الإمام، وقال فى العتبية، وكتاب ابن المواز من سماع ابن القاسم: العمل فى أرض العنوة على فعل عمر لا تقسم، وتقر بحالها، وقد ألح بلال وأصحاب له على عمر، فقسم الأرض بالشام، فقال: اللهم اكفنيهم فما أتى الحول، وبقى منهم أحد. قال مالك: ومن أسلم من أرض العنوة، فلا تكون له أرضه ولا داره. وأما من صالح على أرضه، ومنع أهل الإسلام من الدخول

(5/280)


عليهم إلا بعد الصلح، فإن الأرض لهم، وإن أسلموا فهى لهم أيضًا، ويسقط عنهم خراج أرضهم و [. . . . .] . وقال ابن حبيب: من أسلم من أهل العنوة أحرز نفسه وماله، وأما الأرض فللمسلمين، وماله وكل ما كسب له؛ لأن من أسلم على شيء فى يده كان له، والحجة لقول الشافعى أن الأرض تقسم كما قسم رسول الله خيبر، وتأول قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه (فدخل فى هذا العموم الأرض وغيرها فوجب قسمها. قال ابن المنذر: وذهب الشافعى إلى أن عمر استطاب أنفس الذين افتتحوا الأرض، وأنكر أبو عبيد أن يكون استطاب أنفسهم. وذهب الكوفيون إلى أن عمر حدث عن الرسول أنه قسم خيبر، وقال: لولا آخر الناس لفعلت ذلك، فقد بين أن الحكمين جميعًا إليه، لولا ذلك ما تعدى سنة رسول الله إلى غيرها، وهو يعرفها. قال الطحاوى: ومن الحجة فى ذلك ما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبى الزبير، عن جابر قال: أفاء الله خيبر، فأقرهم على ما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، وبعث ابن رواحة يخرصها عليهم، فثبت أن رسول الله لم يكن قسم خيبر بكمالها، ولكنه قسم منها طائفة على ما ذكره عمر، وترك منها طائفة لم يقسمها على ما روى جابر، وهى التى خرصها عليهم، والذى كان قسم منها وهو الشق النطاة، وترك سائرها فعلمنا أنه قسم منها وترك، فللإمام أن يفعل من ذلك ما رآه صلاحًا.

(5/281)


واحتج عمر فى ترك قسمة الأرض بقوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول (إلى قوله: (للفقراء المهاجرين (،) والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم (إلى) والذين جاءوا من بعدهم (الآية. وقال عمر: هذه الآية قد استوعبت الناس كلهم، فلم يبق أحد إلا له فى هذا المال حق، حتى الراعى بعدله. قال أبو عبيد: وإلى هذه الآية ذهب على ومعاذ، وأشارا على عمر بإقرار الأرض لمن يأتى بعد. قال إسماعيل: فكان الحكم بهذه الآية فى الأرض أن تكون موقوفة كما تكون الأوقاف التى يقفها الناس أصلها محبوس، ويقسم ما يخرج منها، فكان معنى قول عمر: لولا الحكم الذى أنزل الله فى القرآن لقسمت الأصول، وهذا لا يشكل على ذى نظر، وعليه جرى المسلمون ورأوه صوابًا. قال إسماعيل: والذين قاتلوا حتى غنموا لم يكن لهم فى الأصل أن يعطوا ذلك؛ لأنهم إنما قاتلوا لله لا للمغنم، ولو قاتلوا للمغنم لم يكونوا مجاهدين فى سبيل الله. قال عمر: إن الرجل ليقاتل للمغنم، ويقاتل ليرى مكانه، وإنما المجاهد من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا. فلما كان أصل الجهاد أن يكون خالصًا لله، وكان إعطاؤهم ما أعطوا من المغانم، إنما هو تفضل من الله على هذه الأمة أعطوا ذلك فى وقت، ومنعوه فى وقت، فأعطوا من المغانم ما ليس له أصل يبقى فاشترك فيه المسلمون كلهم، ومنعوا الأصل الذى يبقى، فلم يكن فى ذلك ظلم لهم؛ لأن

(5/282)


ثواب الله الذى قصدوه جار لهم فى كل شيء ينتفع به من الأصول التى افتتحوها، ما دامت وبقيت. وحكى الطحاوى عن الكوفيين أن الإمام إذا أقرهم أرض العنوة أنها ملك لهم، يجرى عليهم فيها الخراج إلى الأبد أسلموا أو لم يسلموا، وإنما حملهم على هذا التأويل أنهم قالوا: إن عمر جعل على جريب النخل فى أرض السواد بالعراق شيئًا معلومًا فى كل عام، فلو لم تكن لهم الأرض لكان يبيع التمر قبل أن يظهر. قال أبو جعفر الداودى: ولا أعلم أحدًا من الصحابة قال بقول أهل الكوفة. واحتج من خالفهم بأن الأرض كلها كانت لا شجر فيها فإنما اعتبر ما يصلح أن يوضع فيها، فمن اكترى ما يصلح أن يزرع فيه البر جعل عليه بقدر ذلك، وإن اكترى ما يصلح أن يزرع فيه الشعير جعل عليه بقدر ذلك، ومن اكترى ما يصلح أن يجعل فيه الشجر جعل عليه بقدر ذلك، لا على أن الشجر كانت فى الأرض يومئذ. قال المؤلف: قول الكوفيين مخالف للكتاب والسنة؛ إذ حلت الغنائم للمسلمين، فإذا افتتحت الأرض فاسم الغنيمة واقع عليها كما يقع على المال سواء، فإن رأى الإمام أبقى الأرض لمن يأى بعد، فإنما يبقيها ملكًا للمسلمين من أجل أنها غنيمة، كما فعل عمر، فمن زعم أن الأرض تبقى ملكًا لمشركين فهو مضاد لحكم الله وحكم رسوله، فلا وجه لقوله. وروى الليث، عن يونس، عن ابن شهاب أن رسول الله افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت مما أفاء الله على رسوله، فخمسها وقسمها بين المسلمين، وترك من ترك من أهلها على الجلاء بعد القتال

(5/283)


فدعاهم الرسول فقال: إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوا بها، ويكون ثمرها بيننا وبينكم، وأقركم ما أقركم الله. فقبلوا الأموال على ذلك، وروى يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أن رسول الله لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقى بين المسلمين فلما صار ذلك بيد رسول الله لم يكن له من العمال ما يكفونه عملها، فدفعها رسول الله إلى اليهود ليعملوها على نصف ما يخرج منها، فلم يزل الأمر على ذلك حياة النبى، وحياة أبى بكر حتى كان عمر وكثر العمال فى أيدى المسلمين، وقروا على عمل الأرض، وأجلى عمر اليهود إلى الشام، وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم، فهذا كله يرد قول الكوفيين، ويبين أنهم إنما أبقوا فى الأرض عمالا للمسلمين فقط، فلما أغنى الله عنهم أخرجوا منها.
- باب: مَنْ قَاتَلَ لِلْمَغنَمِ هَل يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ
935 / فيه: أَبُو مُوسَى،، قَالَ: قَالَ أَعْرَابِىٌّ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: من قاتل فى سبيل الله ونوى بعد إعلاء كلمة الله ما شاء فهو فى سبيل الله، والله أعلم بمواقع أجورهم، ولا يصلح لمسلم أن يقاتل إلا ونيته مبنية على الغضب لله، والرغبة فى إعلاء كلمته، ويدل على ذلك أنه قد يقاتل من لا يرجو أن يسلبه من عريان، ولا شيء معه، فيغرر مهجته مستلذًا لذلك، ولو أعطى ملء الأرض على

(5/284)


أن يغرر مهجته فى غير سبيل الله ما غرر، ولكن سهل عليه ركوب ذلك استلذاذا بإعلاء كلمة الله، ونكاية عدوه والغضب لدينه. وقد تقدم فى باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأعمال بالنيات) فى كتاب الإيمان أن ما كان ابتداؤه فيه من الأعمال لله لم يضره بعد ذلك ما عرض فى نفسه، وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس الشيطان، ولا يزيله عن حكمه إعجاب المرء اطلاع العباد عليه بعد مضيه على ما ندبه الله إليه، ولا سروره بذلك، وإنما المكروه أن يبتدئه بنية غير مخلصة لله، فذلك الذى يستحق عامله عليه العقاب.
- باب قِسْمَةِ الإمَامِ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ وَيَخْبَأُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ
936 / فيه: الْمِسْور: أُهْدِيَتْ للنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ، فَجَاءَ مَخْرَمَةَ إلى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَمِعَ صَوْتَه، فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ، فَقَالَ: (يَا أَبَا الْمِسْوَرِ، خَبَأْتُ لَكَ هَذَا) ، مرتين، وَكَانَ فِى خُلُقِهِ شِدَّةٌ. قال المؤلف: ما أهدى للنبى من هدايا المشركين فحلال له أخذه؛ لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار، ويكون له دون سائر الناس، وله أن يؤثر به من شاء، ويمنع منه من شاء، كما يفعل بالفيء، ولذلك خبأ القباء لمخرمة، ومن بعده من الخلفاء بخلافه فى ذلك لا يكون له خاصة دون المسلمين؛ لأنه إنما

(5/285)


أهدى إليه؛ لأنه أميرهم، ويأتى القول فى هدايا المشركين فى باب: الهبة إن شاء الله. وفيه ما كان عليه النبى من كريم الخلق ولين الكلمة، والتواضع، ألا ترى أنه استقبل مخرمة بأزرار القباء، وكناه مرتين وألطف له فى القول، وأراه إيثاره باعتناءه به فى مغيبه؛ لقوله: (خبأت لك هذا) لما علم من شدة خلقه، فترضاه بذلك، فينبغى الاقتداء به فى فعله (صلى الله عليه وسلم) .
- باب كَيْفَ قَسَمَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيَر، وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ فِى نَوَائِبِهِ
937 / فيه: أَنَس، كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، النَّخَلاتِ، حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. قوله: (كان الرجل يجعل للنبى النخلات) والرجل: الثلاث، كل واحد على قدر جدته وطيب نفسه، مواساة للنبى ومشاركة له لقوته، وهذا من باب الهدية لا من باب الصدقة؛ لأنها محرمة عليه، أما سائر المهاجرين فكانوا قد نزل كل واحد منهم على رجل من الأنصار فواساه وقاسمه، فكانوا كذلك إلى أن فتح الله الفتوح على الرسول، فرد عليهم ثمارهم، فأول ذلك النضير كانت مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وانجلى عنها أهلها بالرعب فكانت خالصة لرسول الله دون سائر الناس، وأنزل الله فيهم: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب (

(5/286)


فحبس منها رسول الله لنوائبه وما يعروه، وقسم أكثرها فى المهاجرين خاصة دون الأنصار، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال للأنصار: إن شئتم قسمت أموال بنى النضير بينكم وبينهم، وأقمتم على مواساتكم فى ثماركم، وإن شئتم أعطيتها المهاجرين دونكم، وقطعتم عنهم ما كنتم تعطونهم من ثماركم. قالوا: بل تعطيهم دوننا ونقيم على مواساتهم، وأعطى رسول الله المهاجرين دونهم فاستغنى القوم جميعًا، استغنى المهاجرون بما أخذوا، واستغنى الأنصار بما رجع إليهم من ثمارهم. وأما قريظة فإنها نقضت العهد بينها وبين النبى، وتحزبت مع الأحزاب، وكانوا كما قال الله فيهم: (إذ جاءوكم من فوقكم (قريظة، ولم يكن بينهم وبين النبى خندق) ومن أسفل منكم (الأحزاب) وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر (فأنزل الله نصره، وأرسل الريح على الأحزاب فلم تدع بناء إلا قلعته، ولا إناء إلا قلبته، فانصرفوا خائبين كما قال الله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا (الآية. فلما انصرف رسول الله من الأحزاب سار إلى قريظة، فحاصرهم، حتى نزلوا على حكم سعد، فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية، فقسمها النبى فى أصحابه، وأعطى من نصيبه فى نوائبه. قال إسماعيل بن إسحاق: وزعموا أن هذه الغنيمة أول غنيمة قسمت على السهام جعل للفرس ولصاحبه ثلاثة أسهم، وللراجل سهم.

(5/287)


- باب بَرَكَةِ الْغَازِى فِى مَالِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَوُلاةِ الأمْرِ
938 / فيه: ابْن الزُّبَيْر، لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِى، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَىِّ، إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّى لا أُرَانِى إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّى لَدَيْنِى أَفَتُرَى يُبْقِى دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا بُنَىِّ، بِعْ مَالَنَا، فَاقْضِ دَيْنِى، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ - يَعْنِى بَنِى عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - يَقُولُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِاللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِى الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ فَجَعَلَ يُوصِيى بِدَيْنِهِ، وَيَقُولُ: يَا بُنَىِّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاىَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ، مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ، مَنْ مَوْلاكَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِى كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ، اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَتْركْ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِلا أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَدَارًا بِالْكُوفَةِ وَدَارًا بِمِصْرَ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِى عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّى أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ، وَمَا وَلِىَ إِمَارَةً قَطُّ وَلا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلا شَيْئًا إِلا أَنْ يَكُونَ فِى غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَوْ مَعَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَوَجَدْتُهُ أَلْفَىْ أَلْفٍ وَمِائَتَىْ أَلْفٍ، قَالَ: فَلَقِىَ حَكِيمُ ابْنُ حِزَامٍ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِى، كَمْ عَلَى أَخِى مِنَ

(5/288)


الدَّيْنِ؟ فَكَتَمَهُ، وَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَالَ حَكِيمٌ: وَاللَّهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَىْ أَلْفٍ وَمِائَتَىْ أَلْفٍ، قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعِينُوا بِى، قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُاللَّهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ، فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ، فَأَتَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِاللَّهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا، قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ، إِنْ أَخَّرْتُمْ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا، قَالَ: قَالَ: فَاقْطَعُوا لِى قِطْعَةً، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا، قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِىَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتِ الْغَابَةُ؟ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا، قَالَ: وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِىَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا، فَلْنَقْضِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ، يُنَادِى بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ، قَالَ: فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ. قال المؤلف: قوله: (لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم) معناه والله أعلم أن الصحابة فى قتال بعضهم بعضًا، كل له وجه من

(5/289)


الصواب يعذر به عند الله، فلا يسوغ أن يطلق على أحد منهم أنه قصد الخطأ وقاتل على غير تأويل سائغ له، هذا مذهب أهل السنة، فكل واحد منهم مجتهد محق عند نفسه، والقاتل منهم والمقتول فى الجنة إن شاء الله. والله يوسع لكل منهم رحمته كما سبقت لهم الحسنى. فإن قيل: فما معنى قوله: إلا ظالم أو مظلوم؟ قيل: معناه: ظالم فى تأويله عند خصمه ومخالفه، ومظلوم عند نفسه إن قتل، وإنما أراد الزبير أن يبين بقوله هذا أن تقاتل الصحابة الذين هم خير أمة أخرجت للناس ليس كتقاتل أهل البغى والعصبية الذى القاتل والمقتول فيه ظالم؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) لأنه لا تأويل لواحد منهم يعذر به عند الله، ولا شبهة له من الحق يتعلق بها، فليس منهم أحد مظلوم بل كلهم ظالم. وكان الزبير وطلحة وجماعة من كبار الصحابة خرجوا مع عائشة أم المؤمنين لطلب قتلة عثمان، وإقامة الحد عليهم، ولم يخرجوا لقتال على؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن عليا أحق بالإمامة من جميع أهل زمانه، وكان قتلة عثمان لجئوا إلى على، فرأى على أنه لا ينبغى إسلامهم للقتل على هذا الوجه حتى يسكن حال الأمة، وتجرى المطالب على وجوهها بالبينات وطرق الأحكام؛ إذ علم أنه أحق بالإمامة من جميع الأمة، ورجاء أن ينفذ الأمور على ما أوجب الله عليه، فهذا وجه منع على للمطلوبين بدم عثمان، فكان من قدر الله ما جرى به القلم من تقاتلهم. ولذلك قال الزبير لابنه ما قال لما رأى من شدة الأمر وأن الجماعة لا تنفصل إلا عن تقاتل. وقال: (لا أرانى إلا سأقتل مظلومًا) لأنه لم يبن على قتال ولا عزم عليه، ولما التقى الزحفان فر، فاتبعه ابن

(5/290)


جرموز فقتله فى طريقه فى غير قتال ولا معركة، وقد يمكن الزبير أن يكون سمع قول الرسول: (بشر قاتل ابن صفية بالنار) فلذلك قال: (لا أرانى إلا سأقتل اليوم مظلومًا) والله أعلم. قال المهلب: قوله: (وثلثه لبنيه) يعنى: ثلث الثلث الموصى به لحفدته، وهم بنو ابنه عبد الله. وقوله: (فإن فضل فضل بعد قضاء الدين والوصية، فثلثه لولدك) . يعنى: ثلث ذلك الفضل الذى أوصى للمساكين من الثلث لبنيه. قوله: (وقد وازى بعض بنى الزبير) يجوز أن يكون وازاهم فى السن، ويجوز أن يكون وازى بنو عبد الله فى أنصبائهم من الوصية أولاد الزبير فيما حصل لهم من ميراث الزبير أبيهم، وهذا الوجه أولى. وإلا لم يكن لذكر كثرة أولاد الزبير معنى فى الموازاة فى السن. وفيه دليل على دفع تأويل المتشيعة على عائشة ومن تابعها أنها ظالمة؛ لأن الله لا يكون وليا للظالم. وأما قول الزبير للذين كانوا يستودعونه (لا ولكنه سلف) إنما يفعل ذلك خشية أن يضيع المال فيظن به ظن سوء فيه أو تقصير فى حفظه، فيرى أن هذا أبقى لمروءته، وأوثق لأصحاب الأموال؛ لأنه كان صاحب ذمة وافرة، وعقارات كثيرة، فرأى أن يجعل أموال الناس مضمونة عليه، ولا يبقيها تحت شيء من جواز التلف، ولتطيب نفس صاحب الوديعة على ذمته. وتطيب نفسه هو على ربح هذا المال. وقوله: (وما ولى إمارة قط ولا جباية خراج) فيكثر ماله من هذا الوجه فيكون عليه فيه ظن سوء ومغمز لظن عمر والمسلمين بالعمال، حتى قاسمهم، بل كان كسبه من الجهاد وسهمانه من الغنائم مع رسول الله وخليفتيه بعده، فبارك الله فى ماله لطيب أصله، وربح أرباحًا بلغت ألوف الألوف.

(5/291)


وقول عبد الله بن الحكيم بن جزام: إن دين أبى مائة ألف وكتمه ألفى ألف ومائة ألف، قهذا ليس بكذب، لأنه قصد فى البعض، وكتم بعضًا، وللإنسان إذا شئل عن خبر أن يخبر منه بما شاء، وله أن لا يخبر بشىء منه أصلا. وإنما كتمه لئلا يستعظم حكيم ما استدان الزبير، فيظن بالزبير سوء ظن وقلة حزم، ويظن بعبد الله فاقة إلى معونته، فينظر منه بعين الاحتياج إليه. وقوله: (لا أقسم حتى أنادى أربع سنين) ، فيه: أن الوصى له أن يمنع قسمة مال الميت الموصى، حتى ينفذ ديونه ووصاياه إذا كان الثلث يحملها، ولا يقسم ورثة الموصى مالا حتى يؤدى دينه وتستبرأ أمانته. وفيه: جواز الوصية للحفدة إذا كان لهم آباء فى الحياة يحجبونهم. وفيه: أن أجل المفقود والغالب أربع سنين كما قال مالك. وفيه: أن من وهب هبة ولم يثبلها الموهوب له أنها رد على واهبها، ولواهبها الاستمتاع بها؛ لأن ابن جعفر قال: إن شئتم تركتها لكم. ولا يلزمه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (العائد فى هبته) لأنه ليس يعود، وإنما يعود فيها إذا قبلت منه. وفيه: أن سيد القوم قد يكون قوله وثبوله جائز على من إليه اتباع قومه، كما أن عبد الله لم يقبل الهبة وحده، وقد كان يجب أن يعرف ما عند ورثة أبيه كلهم، فكان قوله فى الرد جائزًا على ورثة أبيه، كما كان قول العرفاء عند سبى هوازن، فى هبة أنصبائهم من السبى جائزًا على من تبعهم. وليس هذا من الأمر المحكوم به فى شرف النفوس ومحاسن الأخلاق، ولا سيما فى ذلك الزمان المتقدم. وقوله: (فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائة ألف، غلط فى

(5/292)


الحساب، والصحيح فجميع ماله سبعة وخمسون ألف ألف وتسعمائة ألف.
- باب إِذَا بَعَثَ الإمَامُ رَسُولا فِي حَاجَةٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ
939 / (1) ابْنِ عُمَ، قَالَ: (إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ) . اختلف العلماء فيمن لم يشهد الوقعة، هل يسهم له؟ فذهب أبو جنيفة وأصحابه إلى أنه من بعثه الإمام فى حاجة حتى غنم الإمام أنه يسهم له، وكذلك المدد يلحقون أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم فيها، وأخذوا بحديث ابن عمر. قالوا: وقد ذكر أهل السير أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعث سعيد بن زيد فى حاجة له وأمر طلحة بالمقام فى مكان ذكره له وأسهم لهما، وقال لهما: (لكما أجر من شهد) . وذهب مالك والثورى والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أنه لا يصل إلا لمن شهد القتال، وبذلك حكم عمر بن الخطاب وكتب به إلى عماله بالكوفة، واتج هؤلاء بحديث أبى هريرة: (أنه قدم على النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو بخيبر بعد ما فتحوها، فقلت: أسهم لى. فقال بعض بنى سعيد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله. . .) فذكر الحديث.

(5/293)


قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن عثمان انطلق فى حاجة الله ورسوله) فضرب له بسهم ولم يضرب لأحد غيره. قال: أفلا ترى أنه لما كان غائبًا فى حاجة الله ورسوله جعله رسول الله كمن حضرها، فكذلك كل من غاب عن وقعة المسلمين بأهل الحرب لشغل شغله به الإمام من أمور المسلمين، فهو كمن حضرها. وأما حديث أبى هريرة فوجهه عندنا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) وجه أبانًا إلى نجد قبل أن يتهيأ خروجه إلى خيبر، ثم حدث من خروج النبى إلى خيبر ما حدث، فكان ما غاب فيه أبان من ذلك، ليس هو لشغل شغله النبى عن حضور خيبر بعد إرادته إياها فيكون كمن حضرها، فهذان الحديثان أصلان لكل من أراد الخروج مع الإمام إلى قتال العدو فرده الإمام عن ذلك بأمر آخر من أمور المسلمين، فتشاغل به حتى غنم الإمام، فهو كمن حضر يسهم له، وكل من تشاغل بشغل نفسه أو شغل المسلمين مما كان دخوله فيه متقدمًا، ثم حدث للإمام قتال عدو، فتوجه له، فغنم، فلا حق للرجل فى الغنيمة، وهو ليس كمن حضرها. واحتج أهل المقالة الثانية فقالوا: إن إعطاء النبى لعثمان وهو لم يحضر بدرًا خصوص له؛ لأن الله تعالى جعل الغنائم لما غنمها والدليل على خصوصه قوله (صلى الله عليه وسلم) لعثمان: (لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه) وهذا لا سبيل أن يعلمه غير النبي. وذكر الطبرى عن قوم من أهل العلم قالوا: إن النبى إنما أعطى

(5/294)


عثمان يوم بدر من سهمه (صلى الله عليه وسلم) من الخمس، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم) فدل ذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يعط أحدًا ممن لم يشهد الوقعة من الغنيمة، وإنما أعطاه من نصيبه.
- بَاب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ، فَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ الرَّسُول يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَالأنْفَالِ مِنَ الْخُمُسِ، وَمَا أَعْطَى الأنْصَارَ وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ مِنْ تَمْرَ خَيْبَرَ.
940 / وفيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) ، حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ وَإِمَّا الْمَالَ) ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ انْتَظَرَهم بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غَيْرُ رَادٍّ لَهُمْ إِلا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى أُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ) ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. . . . الحديث. 1941 / وفيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى نَفَرٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ) ، وَأُتِىَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى. .

(5/295)


42 / وفيه: ابْن عُمَرَ، بَعَثَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ بَعِيرًا. 1943 / وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قِسْمِ [عَامَّةِ] الْجَيْشِ. 1944 / وفيه: أَبُو مُوسَى، بَلَغَنَا مَخْرَجُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِى، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ: فِى بِضْعٍ، أو ثَلاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلا مِنْ قَوْمِى، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِىِّ بِالْحَبَشَةِ، وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَنَا هَاهُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإقَامَةِ، فَأَقِيمُوا مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا، وَمَا قَسَمَ لأحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا [مَعَ] جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ. 1945 / وفيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ قَدْ جَاءَنِى مَالُ الْبَحْرَيْنِ، أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) ، فَلَمْ يَجِئْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا. . . . . الحديث. 1946 / وفيه: جَابِر، بَيْنَمَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اعْدِلْ، فَقَالَ لَهُ: (لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ) . قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الباب أن يبين أن إعطاء النبى فى نوائب المسلمين إنما هو من الفيء والخمس الذين أمرهما مردود إليه، يقسم ذلك بحسب ما يؤدى إليه اجتهاده.

(5/296)


ويرد على الشافعى فى قوله: إن الخمس مقسوم على خمسة أسهم، وهم الذين سمى الله الخمس لهم إلا سهم النبى؛ فإنه مردود على الأربعة الأسهم الباقية. وبيان الحجة عليه أن النبى حين تحلل المسلمين من سبى هوازن، واستطابهم، ووعدهم أن يعوضهم من أول ما يفيء الله عليه إنما أشار إلى الخمس، إذ معلوم أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، فبان أن الخمس لو كان مقسومًا على خمسة أسهم لم يف خمس الخمس بما وعد المسلمين أن يعوضهم من سبى هوازن. ذكر أهل السير أن هوازن لما أبت القتال للنبى أتوا بالإبل والنساء والشاء والذرية وجميع أموالهم أفترى خمس الخمس يفى بما وعدهم من العوض من ذلك. وذهب البخارى إلى أنه إنما تحلل النبى المسلمين من سباياهم بعد ما كانوا فيئًا، فأطلقهم لما كان نساء بنى سعد ولوا من رضاعه، فراعى فى قبيلهم كله حرمة ذلك، كما روعى فى المرأة صاحبة المزادتين أنه لم يضرب على الحى الذى كانت منه لذمامها فى أخذ الماء منها حتى أسلم جميعهم. قال المهلب: وقد احتج بعض أصحاب مالك بقضية هوازن فى أنه يجوز قرض الجوارى إذا رد غيرها، ومنع من ذلك مالك؛ لأنه عنده من باب عارية الفروج، وذلك حرام. وكذلك الإبل التى حمل عليها النبى الأشعريين هى أيضًا من الخمس؛ إذ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين. وحديث ابن عمر فيه أيضًا حجة واضحة أن النفل من الخمس كما قال مالك؛ لأنه إنما نفلهم بعيرًا بعيرًا بعد قسمة السهمان بينهم من غير ما وجبت فيه سهمانهم، وهو الخمس.

(5/297)


وقال الطحاوى: وذهب قوم إلى أنه ليس للإمام أن ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس، فأما من غير الخمس فلا؛ لأنه قد ملكته المقاتلة، فلا سبيل للإمام عليه. وقال ابن المنذر: روى هذا القول عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى ذكره أبو عبيد عن مكحول، وعمر بن عبد العزيز، وقال أبو عبيد: الناس اليوم على هذا، لا نفل من جملة الغنيمة حتى يخمس. قال الطحاوى: وخالفهم آخرون فقالوا: للإمام أن ينفل من الغنيمة ما أحب بعد إحرازه إياها قبل أن يقسمها، كما كان له قبل ذلك. وذكر ابن المنذر أن هذا قول القاسم بن عبد الرحمن، وفقهاء أهل الشام قالوا: الخمس من جملة الغنيمة، والنفل بعده، ثم الغنيمة بعد ذلك بين أهل العسكر. وهو قول الأوزاعى وأحمد وإسحاق. وحجة هذا المقالة: حديث سليمان بن موسى، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة (أن رسول الله نفل فى بدأته الربع قبل الخمس) فكذلك الثلث الذى ينفله فى الرجعة هو الثلث أيضًا قبل الخمس، وإلا لم يكن لذكر الثلث معنى. قال الطحاوى: فيقال لهم: بل له معنى صحيح، وذلك أن المذكور من نفله فى البدأة الربع، هو مما يجوز له النفل منه، وكذلك نفله فى الرجعة الثلث مما يجوز له النفل منه وهو الخمس. وروى حديث حبيب بلفظ يدل على هذا المعنى.

(5/298)


روى مكحول عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله كان ينفل الثلث بعد الخمس. قال الطحاوى: واحتجوا أيضًا بما رواه سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبى سلام، عن أبى أمامة الباهلى، عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله ينفلهم إذا خرجوا بادئين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث. قيل لهم: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه محتمل أن يكون معناه: ينفلهم إذا قفلوا الثلث، فيكون ذلك على قفول من قتال إلى قتال، فيكون الثلث المنفل هو الثلث قبل الخمس، وذلك جائز عندنا؛ لأنه يرجى بذلك صلاح القوم وتحريضهم على قتال عدوهم. فأما إذا كان القتال قد ارتفع فلا يجوز النفل؛ لأنه لامنفعة للمسلمين فى ذلك. وقال أبو عبيد: النفل فى قوله الذى ذكره ابن عمر (ونفلوا بعيرًا بعيرًا) بعد ذكر السهام. ولا وجه له إلا أن يكون من الخمس وقد جاء مبينًا فى حديث مكحول: أن النبى نفل يوم حنين من الخمس. وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: بلغنى عن عبد الله بن عمر أنه قال: نفل رسول الله سرية بعثها قبل نجد من إبل جاءوا بها نفلا سوى نصيبهم من المغنم. قال الطحاوى: وقوله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين حين أخذ وبرة من جنب بعيره ثم قال: (أيها الناس، إنه لا يحل لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم) . يدل أن ما سوى الخمس من المغنم للمقاتلة. ويدل على صحة ما قلنا ما رواه أبو عوانة، عن عاصم بن كليب،

(5/299)


عن أبى الجويرية، عن معن بن يزيد السلمى قال: سمعت رسول الله يقول: (لا نفل إلا بعد الخمس) أى: حتى يقسم الخمس. وإذا قسم الخمس انفرد حق المقاتلة وهو أربعة أخماس، فكان ذلك النفل الذى ينفله الإمام من بعد أن آثر به هو من الخمس لا من الأربعة الأخماس التى هى حق المقاتلة، ولو أخذنا النفل قبل ذلك لكان حقهم قد بطل بعد وجوبه، وإنما يجوز النفل مما يدخل فى ملك المنفل من ذلك العدو. فأما ما قد زال عن ملك العدو قبل ذلك وصار فى ملك المسلمين فلا نفل فيه؛ لأنه من مال المسلمين، فثبت بذلك ألا نفل بعد إحراز الغنيمة. ومما احتج به أصحاب مالك قالوا: إنما لم يجعل مالك النفل من رأس الغنيمة؛ لأن أهلها معينون، وهم الموجفون، وجعله من الخمس؛ لأن قسمته مردودة إلى اجتهاد الإمام وأهله غير معينين. وفى حديث ابن عمر رد لقول من قال: إن النفل من خمس الخمس، وإنما فى الحديث أنه نفل نصف السدس؛ لأنه بلغت سهمانهم اثنا عشر بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا. واما حديث أبى موسى وأهل السفينة، فإن للعلماء فى معناه تأويلات: أحدها ما ذكر موسى بن عقبة، قال إن النبى (صلى الله عليه وسلم) استطاب أنفس الغانمين بما أعطاهم كما فعل فى سبى هوازن، وقد روى ذلك عن أبى هريرة، روى خثيم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من قومه أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه فوجدوا النبى قد خرج إلى خيبر. قال: فقدمنا عليه وهو قد فتح خيبر، فكلم الناس، فأشركنا فى سهامهم. وقيل: إنما أعطاهم من

(5/300)


خيبر ما لم يفتتح بقتال مما قد انجلى عنه أهله بالرعب فصار فيئًا؛ لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وبعض خيبر كانت هكذا. وقال آخرون: إنما أعطى من خيبر لأهل الحديبية خاصة، رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة قال: ما شهدت مغنمًا مع رسول الله إلا قسم لى إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله كان وعدهم بها لقوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليه (بعد قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة (. وقال آخرون: إنما أعطاهم من خيبر من الخمس الذى حكمه حكم الفيء، وله أن يضعه باجتهاده حيث شاء، ويمكن أن يذهب البخارى إلى هذا القول، والله أعلم. وحديث جابر يحتمل أن يكون من الخمس أو من الفيء وكذلك حديث جابر، إذ قال الرجل للنبى: اعدل، يحتمل أن يكون من الخمس؛ لأنه إنما أنكر الأعرابى الجاهل ما رأى من التفضيل، وذلك لا يكون فى أربعة أخماس الغنيمة، وإنما يكون فى الخمس الذى هو موكول إلى اجتهاده (صلى الله عليه وسلم) . قال إسماعيل بن إسحاق: هذا مما لا يعلم أنه من الخمس، وقد قسمه رسول الله بغير وزن،، حدثنا بذلك ابن أبى أويس، حدثنا أبى، حدثنا يحيى بن سعيد، أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: بصر عينى وسمع أذنى رسول الله بالجعرانة وفى ثوب بلال فضة يقبضها للناس يعطيهم فقال له رجل: اعدل الحديث. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: فعل الرسول فى سبى هوازن يدل أن الغنائم على حكم الإمام إن رأى أن يصرفها إلى ما هو أوكد وأعظم

(5/301)


مصلحة للمسلمين من قسمتها على الغانمين صرفها ولم يعط الغانمين شيئًا، كما فعل بمكة فتحها عنوة ومَنَّ عليهم، ولم يعط أصحابه منها شيئًا، بل أبقاها للرحم التى كانت بينه وبينهم، وكذلك أراد أن يفعل بهوازن للرضاعة فيهم حين استأنى بالغنائم، فلما أبطئوا قسم، ثم لما جاءوا رد بعضًا وأبقى للغانمين بعضًا عن طيب أنفسهم، ولم يستطب أنفسهم بمكة؛ لأنه لم يملكهم، واستطاب أنفسهم بهوازن؛ لأنه قد كان قسم لهم وملكهم، فصح بهذا أنه لا شيء لهم إلا أن يملكوا، ولذلك قال مالك: يحد الزانى، ويقطع السارق وإن كان له فى الغنيمة سهم، إذا فعل ذلك قبل القسمة، فلو كان له فيها شبهة لدرأ الحد بها؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ادرءوا الحدود بالشبهات) . فدل أنه لا شبهة لهم فيها إلا أن يملكوها بالقسمة. وحكى الطبرى هذه المقالة عن بعض أهل العلم قالوا: حكم المغانم كلها لرسول الله فى مغازيه كلها، وله أن يصرفها إلى من شاء، ويحرمها على من حضر القتال، ومن لم يحضر، واعتلوا بقوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول (وبفعله (صلى الله عليه وسلم) فى هوازن، ولم يسم القائلين بذلك. وقال آخرون: أربعة أخماس الغنيمة حق للغانمين لا شيء فيه للإمام، وإنما هو (صلى الله عليه وسلم) كبعض من حضر الوقعة إلا ما كان خصه الله به من الفيء وخمس الخمس، وأما غير ذلك فلم يكن له فيه شيء. قالوا: والذى أعطى (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين المؤلفة قلوبهم إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة.

(5/302)


وقوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول (معناه: له وضعها مواضعها التى أمره الله بوضعها فيها، لا أنه ملكها ليعمل فيها ما شاء. قالوا: وكيف يجوز أن يكون معنى قوله: (والرسول (ملكًا له، وهو (صلى الله عليه وسلم) يعزل يوم صدر من حنين، فتناول وبرة من الأرض وقال: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم) . قالوا: فتبين بهذا الحديث أن ما أعطى النبى المؤلفة ومن لم يشهد الوقعة إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة خاصة. قال أبو عبيد: مكة لا تشبه شيئًا من البلاد؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سن بمكة سننًا لم يسنها فى سائر البلاد. روى عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله، ألا تبنى لك بيتًا يظلك من الشمس بمكة؟ قال: لا، إنما هى مناخ من سبق) رواه عن ابن مهدى، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة، وقال عبد الله بن عمرو: من أكل من أجور بيوت مكة، فإنما يأكل فى بطنه نار جهنم. وكره أهل العلم كراء بيوتها. وقال ابن عباس وابن عمر: الحرم كله مسجد. وقال مجاهد: مكة مناخ لا تباع رباعها، ولا تؤخذ أجور بيوتها، ولا تحل ضالتها إلا لمنشد. قال أبو عبيد: فإذا كان حكم مكة أنها مناخ لمن سبق، وأنها

(5/303)


مسجد لجماعة المسلمين، ولا تباع رباعها، ولا يطيب كراء بيوتها، فكيف يقاس غيرها عليها.
باب: المَنِّ عَلَى الأَسَارَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسُوا
947 / فيه: جُبَيْر، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ: (لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِىٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِى فِى هَؤُلاءِ السبى لَتَرَكْتُهُمْ) . هذا الحديث حجة فى جواز المن على الأسارى، وإطلاقهم بغير فداء، خلاف قول بعض التابعين؛ لأن النبى لا يجوز فى صفته أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله وهو غير جائز. قال المهلب: وفيه جواز التشفيع للمذنبين الشريف على سبيل الاستئلاف، والانتفاع بإشفاعه فى رد عادته المشركين بأكثر ما يخشى من ضد المطلقين لطاعتهم لسيدهم المشفع بهم، وهو نظر من الرسول، وأن الانتفاع بالمن عليهم أكثر من قتلهم أو استرقاقهم. قال المؤلف: وقوله باب: (المن على الأسارى من غير أن يخمسوا) فيه حجة لما ذكره ابن القصار عن مالك وأبى حنيفة أن الغنائم لا يستقر ملك الغانمين عليها بنفس الغنيمة إلا بعد قسمة الإمام لها. وحكى عن الشافعى أنهم يملكون بنفس الغنيمة.

(5/304)


قال المؤلف: والحجة للقول الأول هذا الحديث، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لو من على الأسارى سقط سهم من له الخمس كما سقط سهم الغانمين. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لتركتهم به) يقضى ترك جميعهم لا ترك بعضهم. واحتج ابن القصار فقال: لو ملكوا بنفس الغنيمة لكان من له أب أو ولد ممن يعتق عليه إذا ملكه يجب أن يعتق عليه بنفس الغنيمة، ويحاسب به من سهمه، وكان يجب لو تأخرت القسمة فى العين والورق ثم قسمت أن يكون حول الزكاة على الغانمين يوم غنموا. وفى اتفاقهم أنه لا يعتق عليهم من يلزمهم عتقه إلا بعد القسمة، ولا يكون حول الزكاة إلا من يوم حاز نصيبه بالقسمة أنه لا يملك بنفس الغنيمة، ولو ملك بنفس الغنيمة لم يجب عليه الحد إذا وطىء جارية من المغنم قبل القسمة. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: لو ترك السبى لمطعم بن عدى كان يستطيب أنفس أصحابه الغانمين، كما فعل فى سبى هوازن؛ لأن الله أوجب لهم ملك الغنائم إذا غنموها بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شىء (فأضافهم إليهم. وأما قولهم: لو ملكوا بنفس الغنيمة، فكان من له أب أو ولد يعتق بنفس الغنيمة، ولا حجة فيه؛ لأن السنة إنما وردت فيمن أعتق شقصًا له فى عبد معين قد ملكه وعرفه بعينه، فأما ما لا يعرف بعينه فلا يشبه عتق الشريك.

(5/305)


ألا ترى أن الشريك له أن يعتق كما يعتق صاحبه، وفى إجماعهم أنه يعتق على الشريك الموسر فى المعتق، وإجماعهم أنه لا يعتق عليه فى شركته فى الغنيمة دليل واضح على الفرق بينهما. وأما قوله أنه يجب أن يكون حول الزكاة من وقت الغنيمة لو كان ملكًا فخطأ بين على مذهب المالكيين وغيرهم؛ لأن العوائد لا يراعى حولها عندهم إلا من يوم يصير بيد صاحبه، وأما اعتلالهم بوجوب الحد على من وطىء من المغنم قبل القسمة فلا معنى له؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا خلاف بين العلماء أنه لو وطىء جارية معينة بينه وبين غيره لم يحد، فكيف ما لا يتعين؟
- باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلإمَامِ وَأَنَّهُ يُعْطِى بَعْضَ قَرَابَتِهِ دُونَ بَعْضٍ مَا قَسَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِبَنِى الْمُطَّلِبِ وَبَنِى هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: لَمْ يَعُمَّهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا دُونَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِى أَعْطَى لِمَا يَشْكُو إِلَيْهِ مِنَ الْحَاجَةِ وَلِمَا مَسَّهُمْ فِى جَنْبِهِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ. 1948 / فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِى الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَىْءٌ وَاحِدٌ) . قال الخطابِىّ: شىء أى مثل. قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِبَنِى عَبْدِ شَمْسٍ وَلا لِبَنِى نَوْفَلٍ.

(5/306)


قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَةٌ لأمٍّ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ، وَكَانَ نَوْفَلٌ أَخَاهُمْ لأبِيهِمْ. قال المؤلف: هذا الباب رد لقول الشافعى أيضًا أن سهم ذى القربى خمس الخمس يقسم بينهم لا يفضل فقير على غني. قال إسماعيل بن إسحاق: وليس فى هذا الباب أنه (صلى الله عليه وسلم) قسم بينهم خمس الخمس، وقد يجوز أن يقسم بينهم أكثر وأقل؛ لأنه لم يخص فى الحديث مبلغ سهمهم كم هو، وإنما قصد فى الحديث الفرق بين بنى هاشم وبنى المطلب، وبين سائر بنى عبد مناف. وهذا الحديث يرد قول ابن عباس حين كتب إليه نجدة يسأله عن سهم ذى القربى ومن هم؟ قال: هم قرابة الرسول، ولكن أبى علينا قومنا فصبرنا، ألا ترى أن ابن عباس لم يظلم من أبى ذلك عليه، فدل أن ما أريد به مع ذلك بقرابة رسول الله بعضهم دون بعض، وجعل الرأى فى ذلك إلى رسول الله يضعه فيمن شاء منهم، وهم أهل الفقر والحاجة خاصة، وكذلك قال عمر بن الخطاب: إنما جعل الخمس لأصناف سماهم، فأسعدهم فيه حظا أشدهم فاقة وأكثرهم عددًا. وذكر الطحاوى بإسناذه عن الحسن بن محمد بن على قال: اختلف الناس بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) فى سهم ذى القربى، فقال قوم: هو لقرابة الخليفة، وقال قوم: سهم النبى (صلى الله عليه وسلم) هو للخليفة من بعده ثم أجمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين فى العدة والخيل فى سبيل الله، فكان ذلك إمارة أبى بكر وعمر.

(5/307)


قال الطحاوى: أفلا ترى أن ذلك مما قد أجمع عليه الصحابة، ولو كان ذلك لقرابة رسول الله لما منعوا منه، ولما صرف إلى غيرهم، ولا خفى ذلك عن الحسن بن محمد مع علمه وتقدمه. وهذا يرد قول من زعم أن لذى القربى سهمًا مفروضًا من الخمس، وقد تقدم هذا المعنى فى باب (درع النبى وعصاه وسيفه) . وزعم الشافعى أنه يعطى الرجل من ذوى القربى سهمين والمرأة سهمًا. وخالفه أصحابه: المزنى، وأبو ثور، وجميع الناس وقالوا: الذكر والأنثى فى ذلك سواء. وهذا هو الصحيح؛ لأنهم إنما أعطوا بالقرابة، وذلك لا يوجب التفضيل، كما لو أوصى الرجل لقرابته بوصية، لم يعط الذكر مثل حظ الأثنيين؛ لأنهم إنما أعطوا باللفظ الذى أوجب لهم ذلك، فأما المواريث فإن الله تعالى قسمها بين أهلها على أمور مختلفة، جعل للوالدين فى حال شيئًا وفى حال غيره والأولاد إذا كانوا ذكورًا وإناثًا شيئًا، وإذا كن إناثًا غير ذلك، وكذلك الإخوة والأخوات. وهذا الحديث حجة للشافعى أن ذا القربى الذى يسهم لهم من الخمس هم بنو هاشم وبنو المطلب أخى هاشم خاصة دون سائر قرابته (صلى الله عليه وسلم) ، وبه قال أبو ثور، وقال ابن الحنفية: سهم ذى القربى هو لنا أهل البيت. وروى عمر بن عبد العزيز أنهم بنو هاشم خاصة. وقال أصبغ بن الفرج: اختلف فى ذلك، فقيل: هم قرابة الرسول، وقيل: قريش

(5/308)


كلها. قال: ووجدت معانى الآثار أنهم آل محمد. وقد تقدم فى كتاب الزكاة اختلافهم فى آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة.
- باب مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ الأسْلابَ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَلَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ الخَمِّسَ وَحُكْمِ الإمَامِ فِيهِ
949 / فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِى الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِى وَعَنْ شِمَالِى، فَإِذَا أَنَا بِغُلامَيْنِ مِنَ الأنْصَارِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِى أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ، يَا ابْنَ أَخِى؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لا يُفَارِقُ سَوَادِى سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِى الآخَرُ، فَقَالَ لِى مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ أَبِى جَهْلٍ يَجُولُ فِى النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِى سَأَلْتُمَانِى عَنْهُ، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالا: لا، فَنَظَرَ فِى السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: كِلاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ) . 1950 / وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلا رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ، حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَىَّ فَضَمَّنِى ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ

(5/309)


الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِى، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَنْ قَتَلَ قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ) ، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِى، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهَا، فَقُمْتُ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ) ؟ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ] فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُهُ عِنْدِى، فَأَرْضِهِ عَنِّى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لاهَا اللَّهِ، إِذًا لا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَ) ، فَأَعْطَاهُ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِى بَنِى سَلِمَةَ، وَإِنَّهُ لأوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِى الإسْلامِ. ووقع هذا الحديث فى غزوة حنين من حديث الليث، عن يحيى بن سعيد (كلا لا نعطيه أضيبع من قريش، وندع أسدًا من أسد الله. . .) الحديث. اختلف الفقهاء فى السلب، هل يخمس؟ فقال الشافعى: كل شيء من الغنيمة يخمس إلا السلب؛ فإنه لا يخمس. وهو قول أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث. وذكر ابن خواز بنداذ عن مالك أن الإمام مخير فيه، إن شاء خمسه على الاجتهاد كما فعل عمر فى سلب البراء بن مالك، وإن شاء لم يخمسه، واختاره إسماعيل ابن إسحاق، وقال إسحاق بن راهويه: إذا كثرت الأسلاب، خمست كما فعل عمر بن الخطاب. وقال مكحول والثورى: السلب مغنم ويخمس. وفى مختصر الوقار، عن مالك أنه يخمس السلب. وهو قول ابن عباس، روى الزهرى، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس قال: السلب من النفل والنفل يخمس. وحجة من رأى تخميسها قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من

(5/310)


شيء فأن لله خمسه} ولم يستثن سلبًا ولا غيره، وحجة من قال: لا يخمس حديث معاذ بن عمرو، وحديث أبى قتادة، وليس فى واحد منهما تخميس الأسلاب. وعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل قتيلا فله سلبه) فملكه السلب ولم يستثن شيئًا منه. وإلى هذا ذهب البخاري. وحجة من رأى تخميسها على الاجتهاد إذا كثرت ما رواه سفيان عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك (أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزاره فقتله، فقوم سلبه ثلاثين ألفًا، فلما صلينا الصبح غدا علينا عمر بن الخطاب فقال لأبى طلحة: إنا كنا لا نخمس الأسلاب وإن سلب البراء بلغ مالا، ولا أرانا خامسه، فقومنا ثلاثين ألفًا فدفعنا إلى عمر ستة آلاف، فكان أول سلب خمس فى الإسلام) فدل فعل عمر أن لهم أن يخمسوا إّذا رأى الإمام ذلك. واختلف العلماء فى حكم السلب، فقال مالك: لا يستحق القاتل سلب قتيله إلا أن يرى ذلك الإمام بحضرة القتال فينادى ليحرض الناس على القتال، أو يجعله مخصوصًا لإنسان إذا كان جهده. وبه قال أبو حنيفة والثوري. واحتج مالك بأن رسول الله إنما قال: (من قتل قتيلا فله سلبه) بعد أن برد القتال يوم حنين ولم يحفظ ذلك عنه فى غير يوم حنين، ولا بلغنى ذلك عن الخليفتين. فليس السلب للقاتل إلا أن يقول ذلك الإمام، وإلا فالسلب غنيمة، وحكمه حكم الغنائم؛ لأن الأربعة الأخماس للغانمين والنفل زيادة على الواجب، فلا تكون تلك الزيادة من الواجب بل من غيره وهو الخمس. وقال الأوزاعى والليث والشافعى وأبو ثور: السلب للقاتل على

(5/311)


كل حال سواء قال ذلك الإمام أو لم يقله؛ لأنها قضية قضاها رسول الله فى مواطن شتى لا يحتاج إلى إذن الإمام فيها. وقد أعطى رسول الله سلب أبى جهل يوم بدر لمعاذ بن عمرو، فثبت أن ذلك كان قبل يوم حنين، خلاف قول مالك. واحتج أصحاب الشافعى بحديث معاذ بن عمرو أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان أعطاه السلب؛ لأنه كان أثخنه ومعاذ بن عفراء أجهز عليه. قالوا: وعندنا أنه إذا أثخن أحدهم المشرك بالضرب وذبحه الآخر، كان السلب للمثخن لا للذابح. قال المهلب: ونظره (صلى الله عليه وسلم) إلى سيفيهما واستدلاله منهما على أيهما قتله، دليل أنه لم يعط السلب إلا لمن أثخنه، وله مزية فى قتله، وموضع الاستدلال منه أنه رأى فى سيفيهما مبلغ الدم من جانبى السيفين، ومقدار عمق دخولهما فى جسم أبى جهل، ولذلك سألهما هل مسحاهما؛ لأنه لو مسحاهما لتغير مقدار ولوجهما فى جسمه. وقوله: (كلاكما قتله) فلو كان السلب مستحقًا بالقتل لكان يجعله بينهما؛ لأنهما اشتركا فى قتله، ولا ينتزعه من أحدهما. فلما قال لهما: (كلاكما قتله) ثم قضى بالسلب لأحدهما دون الآخر، دل ذلك على ما قلنا؛ ألا ترى أن الإمام لو قال: (من قتل قتيلا فله سلبه) فقتل رجلان قتيلا أن سلبه بينهما نصفين وأنه ليس للإمام أن يحرمه أحدهما ويدفعه للآخر؛ لأن كل واحد منهما له فيه من الحق مثلما لصاحبه، وهما أولى به من الإمام، فلما كان للنبى فى سلب أبى جهل أن يجعله لأحد قاتليه دل أنه كان أولى به منهما؛ لأنه لم يكن قال يومئذ: (من قتل قتيلا فله سلبه) قاله الطحاوي. وقال ابن القصار: لما خص به (صلى الله عليه وسلم) أحدهما علم أنه غير

(5/312)


مستحق إلا بعطية الإمام؛ لأن عطاء الإمام عندنا من الخمس، فيكون معنى قوله: (من قتل قتيلا فله سلبه) يعنى: من الخمس لا من مال الغانمين. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: إنما أعطى السلب لأحدهما وإن كان قال: (كلاكما قتله) لأنه استطاب نفس صاحبه، ولم ينقل ذلك، ويشهد لصحة هذا ما ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه جعل السلب للقاتل يوم بدر وغيره، روى ذلك من حديث عبد الرحمن بن عوف، وحديث عوف بن مالك، وحديث أبى قتادة، وحديث ابن عباس، قالوا: لأنه محال أن يقول: (كلاكما قتله) ويقول: (من قتل قتيلا فله سلبه) ثم يعطى أحدهما إلا عن إذن صاحبه، كما فعل فى غنائم هوازن. وبهذا التأويل تسلم الحاديث من التعارض والاختلاف. قالوا: وحديث أبى قتادة، يدل أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس؛ لأن الرسول أعطى أبا قتادة سلب قتيله قبل قسمة الغنيمة لأنه نفله حين برد القتال، ولم يقسم الغنيمة إلا بعد أيام كثيرة بالجعرانة. فأجابهم أصحاب مالك والكوفيون، فقالوا: هذا حجة لنا؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما قال ذلك فى حديث أبى قتادة بعد تقضى الحرب وقد حيزت الغنائم وهذه حالة قد سبق فيها مقدار حق الغانمين وهو الأربعة الأخماس على ما فرضها الله لهم؛ فينبغى أن يكون من الخمس، وإذا تقرر أنه صلى الله عليه ابتدأ فأعطى القاتل السلب بعد أن قال: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود فيكم) علم أن عطية ذلك وغيره من الخمس المضاف إليه، ولا يكون الخمس إلا بعد حصول الأربعة الأخماس للغانمين.

(5/313)


وما رأى الإمام أن يعطيه من أبلى واجتهد فى نكاية العدو، فهو ابتداء عطية منه؛ فينبغى ألا يكون من حق الغانمين، وأن يكون مما إليه صرفه على وجه الاجتهاد وهو الخمس، كما ينفل من الخمس، لا من حقوق الغانمين. واختلفوا فى الرجل يدعى أنه قتل رجلا بعينه، ويدعى سلبه، فقالت طائفة: يكلف على ذلك البينة، فإن جاء بشاهدين أخذه، وإن جاء بشاهد واحد حلف معه وكان له سلبه، واحتجوا بحديث أبى قتادة وبأنه حق يستحق مثله بشاهد ويمين، وهو قول الليث والشافعى، وجماعة من أهل الحديث. وقال الأوزاعى: يعطاه إذا قال إنه قتله ولا يسأل على ذلك بينة. وقال ابن القصار وغيره: إن النبى شرط البينة، وأعطى أبا قتادة سلبه على بينة، وذلك بشهادة رجل واحد دون يمين؛ فعلم أنه لم يعطه لأنه استحقه بالقتل لأن المغانم له أن يعطى منها مما يبقى لمن شاء، ويمنع من شاء؛ لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه (الآية والمغانم خلاف الحقوق التى لا تستحق إلا بإقرار أو شاهدين. وقال أصحاب الشافعى: إن النبى لم يعطه أبا قتادة إلا ببينة؛ لأنه أقر له به من كان حازه لنفسه فى القتال، فصدق أبا قتادة، وقال أبو بكر الصديق ما قال، وأضاف السلب إليه؛ فحصل شاهدان له. وأيضًا فإن كل من فى يده شيء فإقراره به لغيره يقوم مقام البينة. قال المهلب: فى حديث أبى قتادة من الفقه جواز كلام الوزير ورد سائر الأمر قبل أن يعلم جواب الأمير، كما فعل أبو بكر حين قال: لا ها الله، وقال ثابت فى (غريب الحديث) : قال أبو عثمان المازنى:

(5/314)


من قال: (لا ها الله إذا) فقد أحطأ، إنما هو: لا ها الله ذا. أى: ذا يمينى وذا قسمي. وقال أبو زيد: يقال: (لا ها الله ذا) ، و (ذا) صلة فى الكلام وليس من كلامهم: لا ها الله إذا. وقال غيره: هو مثل قول زهير: تعلمتها لعمر الله ذا قسمًا وقوله: فابتعت به مخرفًا. قال أبو حنيفة اللغوى: إذا اشترى الرجل نخلتين وثلاثًا إلى العشر يأكلهن قيل: قد اشترى مخرفًا جيدًا، والخرائف للنخل التى يخترفن، واحدها خروفة وخريفة والمخرف بكسر الميم - الزنبيل الذى يخترف فيه، والخارف اللاقط والحافظ للنخل. وقوله فى حديث عبد الرحمن بن عوف: (تمنيت أن أكون بين أصلح منهما) هكذا رواه مسدد، عن يوسف بن الماجشون، ورواه إبراهيم بن حمزة الزبيرى، وموسى بن إسماعيل، وعفان عن يوسف بن الماجشون (تمنيت أن أكون بين أضلع منهما) وهو أشبه بالمعنى. ورواية ثلاثة حفاظ أولى من رواية واحد خالفهم. وأماحديث إبراهيم بن حمزة فرواه الطحاوى عن أبى داود عنه. وحديث موسى بن إسماعيل رواه ابن سنجر عنه، وحديث عفان رواه ابن أبى شيبة عنه. وأما رواية الليث فى حديث أبى قتادة (كلا لا نعطيه أضيبع من قريش) فيمكن أن يكون معناها والله أعلم - ما ذكره الخطابى أن عتبة بن ربيعة نهى يوم بدر عن القتال وقال: يا قوم

(5/315)


اعصبوها برأسى وقولوا: جبن عتبة، وقد تعلمون أنى لست بأجبنكم. فقال أبو بكر: الله لو غيرك قالها لأعضضته، قد ملىء جوفه رعبًا. فقال عتبه: أولى تعنى يا مصفر استه، ستعلم أينا اليوم أجبن. . .) فى حديث طويل. قال الخطابى: قوله: (يا مصفر استه) قيل: إنه نسبه إلى التوضيع والتأنيث، وقيل: إنه لم يرد به ذلك، وإنما هى كلمة تقال للرجل المترف الذى يؤثر الراحة ويميل إلى التنعيم. قال المؤلف: قال لى بعض أهل اللغة: إنما سمى أضيبع؛ لأنه كان له شامة يصبغها.
- باب مَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْخُمُسِ وَنَحْوِهِ
رَوَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . 1951 / فيه: حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ لِى: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) . قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا، حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، يَدْعُو حَكِيمًا، لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِى قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا بَعْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تُوُفِّىَ.

(5/316)


52 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَىَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِىَ بِهِ، وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْىِ حُنَيْنٍ، فَوَضَعَهُمَا فِى بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ، قَالَ: فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى سَبْىِ حُنَيْنٍ، فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِى السِّكَكِ، قَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَاللَّهِ، انْظُرْ مَا هَذَا؟ قَالَ: فَقَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّبْىِ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الْجَارِيَتَيْنِ. وَزَادَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مِنَ الْخُمُسِ. 1953 / وفيه: عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، أَعْطَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَوْمًا، وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: (إِنِّى أُعْطِى قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِى نُفُوسِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ) ، فَقَالَ عَمْرُو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حُمْرَ النَّعَمِ. 1954 / وفيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى أُعْطِى قُرَيْشًا أَتَأَلَّفُهُمْ؛ لأنَّهُمْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ) . 1955 / وفيه: أَنَسُ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ قَالُوا لِلْنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ: مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ يُعْطِى رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِى قُرَيْشًا، وَيَدَعُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَحُدِّثَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا، جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِى عَنْكُمْ) ؟ فَقَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو آَرَأَيَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِى قُرَيْشًا، وَيَتْرُكُ الأنْصَارَ وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى أُعْطِى رِجَالا حَدِيثِى عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأمْوَالِ، وَتَرْجِعُون

(5/317)


إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَوَاللَّهِ مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ) ، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْحَوْضِ) . قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَصْبِرْوا. 1956 / وفيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، بَيْنَا هُوَ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَهُ أُنَاسٌ مُقْفَلَه مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ بِرَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الأعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَعْطُونِى رِدَائِى، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِى بَخِيلا وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا) . 1957 / وفيه: أَنَس، كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاه. 1958 / وفيه: ابْن مسعود، لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أُنَاسًا فِى الْغَنِمَةِ، وَأَعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأخْبِرَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (فَمَنْ يَعْدِلُ، إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) . 1959 / وفيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ قَالَتْ: كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَأْسِى، وَهِىَ مِنِّى عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ. وَقَالَ عروة، عن أَسْمَاءَ: أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِى النَّضِيرِ.

(5/318)


60 / وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) ، فَأُقِرُّهم حَتَّى أَجْلاهُمْ عُمَرُ فِى إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا. قال المؤلف: آثار هذا الباب ترد قول الشافعى؛ فإنه زعم أن النبى عليهه السلام إنما كان يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من خمس الخمس؛ لأنه سهمه خاصة. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذه قسمة لم يعدل فيها الشافعى؛ لأنه لا يتوهم أحد أن خمس الخمس يكون مبلغه ما أعطى المؤلفة من تلك العطايا الكثيرة، فإن كان ذلك كله من خمس الخمس، فإن أربعة أخماس الخمس أضعاف ذلك كله. قال إسماعيل: وأعطى النبى المؤلفة قلوبهم من الخمس وليس للمؤلفة قلوبهم ذكر فى الخمس ولا فى الفيء، وإنما ذكروا فى الصدقات فدل إعطاؤهم من غنائم حنين، أن الخمس يقسمه الإمام على ما يراه، وليس على الأجزاء التى قال الشافعى، وأبو عبيدة، ولو كان كذلك ما جاز أن يعطى المؤلفة قلوبهم من ذلك شيئًا. قال المؤلف: وآثار هذا الباب أيضًا ترد مقالة قوم ذكرهم الطبرى، زعموا أن إعطاء النبى (صلى الله عليه وسلم) المؤلفة قلوبهم كان من جملة الغنيمة لا من الخمس، وزعموا أنه كان له (صلى الله عليه وسلم) أن يمنع الغنيمة من شاء ممن حضر القتال ويعطيها من لم يحضر، وهو قول مردود بالآثار الثابتة، وبدلائل القرآن. قال المهلب: وكان حكيم ممن استؤلف بالمال؛ لأنه كان يحب المال.

(5/319)


وفيه: رد السائل إذا ألحف بالموعظة الحسنة، لا بالانتهار الذى نهى الله عنه. وفيه: أن الحرص على المال والإفراط فى حبه وطلبه يوجب المحق له، وأن النفس الشريفة هى سخية به إن أعطته وسخية به إن أخذته، ولم تكن عليه حريصة، يبارك لها فيه، كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وقد تقدم كثير من معانى حديث حكيم فى كتاب الزكاة من التعفف عن المسألة. وفيه: ذم كثرة الأكل، وتقبيحه. وفى حديث أنس من الفقه أن على الإمام أن يمتحن ما يكره مما يبلغه من الأخبار، ولا يدع الناس يخوضون من أمره فيما يؤزرون به، فربما أورث ذلك نفاقًا فى قلوبهم فيجب امتحان ما سمعه من ذلك، واختباره بنفسه حتى يتبين وجه ما أنكر عليه، ومعنى مراده؛ لتذهب نزغات الشيطان من نفوسهم، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) بالأنصار حين رضاهم بما لم يكونوا يرضون به من قبل من الأثرة عليهم لما بينه لهم. وفيه: أن الإمام إذا اختص قومًا بنفسه وجيرته، أن يعلم لهم حق الجوار على غيرهم من الناس. وفيه: شرف جيران الملك على سائر من بعد عن جيرته. وفيه: أن الرجل العالم والإمام العادل، خير من المال الكثير. وفيه: استئلاف الناس بالعطاء الجزيل لما فى ذلك من المنفعة للمسلمين والدفاع عنهم. وفيه: أن الأنصار لا حق لهم فى الخلافة؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) عرفهم

(5/320)


أنه سيؤثر عليهم، والمؤثر يجب أن يكون من غيرهم؛ ألا ترى قوله: (فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله) فعرفهم أن ذلك حالهم إلى انقضاء الزمان. وفى حديث جبير استعمال حسن الأخلاق والحلم لجهل الناس والأعراب وقلة ردهم بالخيبة. وفيه: سنة الأمراء أن يسكنوا عن رد السائل، ويتركوه تحت الرجاء ولا يؤيسوه ويوحشوه. وفيه: مدح الرجل نفسه إذا ألحف عليه فى المسألة فى المال والعلم وغيره. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مدح نفسه بالجود العظيم، ووصف نفسه بالشجاعة والبأس الذى بسببه كانت الأعراب تسأله، ووصف نفسه بالصدق فيما يعد به من العطايا. وفيه: أنه من أخلف وعد الله جاز أن يسمى: كاذبًا، وقد قال تعالى: (إنه كان صادق الوعد (. وقال ابن المنذر: فى حديث جبير دليل على أن الإمام بالخيار إن شاء قسم الغنائم بين أهلها قبل أن يرجع إلى بلاد الإسلام، وإن شاء أخر ذلك، على قدر فراغه وشغله إلى وقت خروجه، وعلى قدر ما يرى من الصلاح فيه. وقال المهلب: فى حديث الذى جبذ النبى معنى ما تقدم من صبر السلاطين والعلماء لجهال السؤال واستعمال الحلم لهم، والصبر على أذاهم فى المال والنفس.

(5/321)


وفى حديث ابن مسعود الأثرة فى القسمة نصا. وفيه: الإعراض عن الأذى إذا لم يعين قائلوه، والتأسى بما تقدم من الفضلاء فى الصبر والحلم. وفى حديث أسماء: عون المرأة للرجل فيما يمتهن فيه الرجل، وذلك من باب التطوع منها وليس بواجب عليها، وسيأتى فى كتاب النكاح ما يلزم المرأة من خدمة واختلاف العلماء فى ذلك عند ذكر هذا الحديث إن شاء الله. وأما قوله: (إن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقطع الزبير أرضًا من بنى النضير) فليست من جملة الخمس؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجلى بنى النضير حين أرادوا الغدر به وقتله [. . . .] كانت فيما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فخمس منها رسول الله فى نوائبه وقسم أكثرها فى المهاجرين خاصة، فلم يجر فيها خمس. وأما خيبر فإن ابن شهاب قال: بعضها كان عنوة، وبعضها كان صلحًا، وما كان عنوة فجرى فيه الخمس. فأما قوله: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين) فقد اختلفت الرواية فى ذلك، فروى ابن السكن عن الفريرى: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لله وللرسول وللمسلمين) . وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: بل الصواب لليهود، وهو الصحيح. وكذلك روى البيهقى عن الفربرى. وقوله: (لما ظهر عليها) أى: لما ظهر عليها بفتح أكثرها ومعظمها قبل أن يسأله اليهود أن يصالحوه بأن ينزلوا ويعطوه الأرض، ويسلمهم

(5/322)


فى أنفسهم فكانت لليهود، فلما صالحهم على أن يسلموا له الأرض، كانت الأرض لله ولرسوله، يريد هذه الأرض التى صالحه اليهود بها وخمس الأرض التى كان أخذها عنوة، وللمسلمين الأربعة الأخماس من العنوة، ولم يكن لليهود فيها شيء؛ لخروجهم عنها بالصلح، والدليل على ذلك أن عمر لما أخرجهم إنما أعطاهم قيمة الثمرة لا قيمة الأصول، فصح أنهم كانوا مساقين فيها بعد أن صولحوا على أنفسهم وبالله التوفيق.
- باب مَا يُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ
961 / فيه: ابْن مُغَفَّلٍ، قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. 1962 / وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِى مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُ منه، وَلا نَرْفَعُهُ. 1963 / وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِىَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِى الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتِ الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ، وَلاَ تَأْكُلُوْا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا) ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَقُلْنَا: إِنَّمَا نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) عَنْهَا، لأنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ. وَسَأَلْتُ ابْن جُبَيْرٍ، فَقَالَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ. جمهور العلماء متفقون على أنه لا بأس بأكل الطعام والعلف فى دار الحرب بغير إذن الإمام، ولا بأس بذبح الإبل والبقر والغنم قبل أن يقع فى المقاسم. هذا قول مالك والكوفيين والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد. قال مالك: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يقسم فيهم أضر ذلك بهم. قال: وإنما يأكلون ذلك على وجه المعروف

(5/323)


والحاجة، ولا يدخر أحد منهم شيئًا يرجع به إلى أهله، وقد احتج الفقهاء فى هذا بحديث ابن مغفل فى قصة الجراب، وقالوا: ألا ترى أن النبى لم ينكر عليه، وقد ورد فى بعض طرق حديث ابن مغفل قال: (فالتفت فإذا النبى (صلى الله عليه وسلم) يبتسم إلي) وشذ الزهرى فى هذا الباب، فقال: لا يجوز أخذ الطعام فى دار الحرب إلا بإذن الإمام. وأظنه رأى الخلفاء والأمراء كانوا يأذنون لهم فى ذلك، وهذا لا حجة فيه؛ لأن ما أذنوا فيه مرة علمت فيه الإباحة؛ لأنهم لا يأذنون فى استباحة غير المباح. وقول ابن عمر: (كنا نصيب فى مغازينا العنب والعسل فنأكله ولا نرفعه) هو كالإجماع من الصحابة. قال المهلب: وحديث ابن أبى أوفى حجة فى ذلك أيضًا، وأن العادة كانت عندهم فى المغازى انطلاق أيديهم على المطاعم والمستلحمات، ولولا ذلك ما تقدموا إلى شيء إلا بأمر الرسول. وسيأتى ما للعلماء فى تحريم لحوم الحمر فى كتاب الذبائح إن شاء الله. وكره جمهور العلماء أن يخرج شيئًا من الطعام إلى دار الإسلام إذا كانت له قيمة، وكان للناس فيه رغبة، وحكمةا فيه بحكم الغنيمة فإن أخرجه رده فى المقاسم إن أمكنه وإلا باعه وتصدق بثمنه. قال مالك: وإن كان يسيرًا أكله. وقال الأوزاعى: ما أخرجه إلى دار الإسلام فهو له أيضًا. قال ابن المنذر: وليس لأحد أن ينال من أموال العدو شيئًا سوى الطعام للأكل والعنف للدواب، وكل مختلف فيه بعد ذلك من ثمن طعام أو فضلة طعام يقدم به إلى أهله أو جراب أو حبل أو غير ذلك

(5/324)


مردود إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أدوا الخائط والمخيط) . وإلى قوله: (شراك أو شراكان من نار) . وقال الطحاوى: وقد حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبى يوسف، عن أبى إسحاق الشيبانى، عن محمد بن أبى المجالد، عن عبد الله بن أبى أوفى قال: (كنا مع رسول الله بخيبر يأتى أحدنا إلى الطعام من الغنيمة، فيأخذ منه حاجته) . قال: وقد خالف هذا حديث آخر رواه ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبى مرزوق التجيبى، عن حنش بن عبد الله، عن رويفع بن ثابت، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال عام خيبر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها حتى إذا أنقصها ردها فى المغانم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يليس ثوبًا من المغانم حتى إذا أخلقه رده فى المغانم) . وذهب قوم منهم الأوزاعى إلى أنه لا بأس أن يأخذ الرجل السلاح من الغنيمة فيقاتل به فى معمعة القتال ما كان إلى ذلك محتاجًا، ولا ينتظر برده الفراغ من الحرب، فيعرضه للهلاك وانكساد الثمن فى طول مكثه فى دار الحرب. واحتجوا بهذا الحديث، وخالفهم آخرون منهم أبو حنيفة، فقالوا: لا بأس أن يأخذ السلاح من الغنيمة إذا احتاج إليه بغير إذن الإمام، فيقاتل به حتى يفرغ من الحرب فيرده فى المغنم.

(5/325)


وقال أبو يوسف: ولحديث رسول الله معنى لا يفهمه إلا من أعانه الله عليه، ومعنى الحديث عندنا: على من يفعل ذلك وهو عنه غنى يبقى بذلك دابته أو ثوبه أو يأخذه يريد به الخيانة، فأما رجل مسلم فى دار الحرب ليس له دابة، وليس مع المسلمين فضل يحملونه إلا دواب الغنيمة، ولا يقدر على المشى، فلا يحل للمسلمين تركه، ولا بأس أن يركب شاءوا أو كرهوا، وكذلك الحال فى الثياب والسلاح. ألا ترى أن قومًا من المسلمين لو تكسرت سيوفهم أو ذهبت، ولهم غنى عن المسلمين أنه لا بأس أن يأخذوا سيوفًا من الغنيمة، فيقاتلوا بها ما داموا فى دار الحرب؟ أرأيت إن لم يحتاجوا إليها فى معمعة القتال، واحتاجوا إليها بعد ذلك بيومين أغار عليهم العدو يقومون فى وجوههم بغير سلاح أيستأسرون؟ هذا الرأى فيه توهين لمكيدة المسلمين، فكيف يحل هذا فى المعمعة ويحرم بعد ذلك؟ وحديث ابن أبى أوفى يبين أنه إذا كان الطعام لا بأس بأخذه وأكله واستهلاكه لحاجة المسلمين إليه، كذلك لا بأس بأخذ الدواب والثياب واستعمالها للحاجة إليها حتى يكون الذى أريد من حديث ابن أبى أوفى غير الذى أريد من حديث رويفع حتى لا تتضاد، وهذا قول أبى يوسف ومحمد وبه نأخذ، قاله الطحاوي.

(5/326)