شرح صحيح البخارى لابن بطال

58 - كِتَاب الْحِيَلِ
- باب فِى تَرْكِ الْحِيَلِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فِى الأيْمَانِ وَغَيْرِهَا
/ 1 - فيه: عُمَرَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) . هذا الحديث حجة لصحة مذهب مالك فى الأيمان أنها على نية المحلوف له ولا تنفعه التورية عنده، ورد على الكوفيين والشافعية أنها على نية الحالف أبدًا، وتنفعه التورية فى سقوط الحنث خاصة عنه كالرجل يحلف لغريمه وهو معسر: والله ما لك عندى شىء. ينوى فى هذا الوقت من أجل عسرى، وأن الله قد أنظرنى إلى الوجود، وكالحالف بالطلاق يقول: هند طالق وله زوجة تسمى بهند، وقد نوى امرأة أجنبية تسمى بهند، ويريد طلاقها من موضع سكانها أو طلاقها من قيد، وكالحالف

(8/310)


على أكل طعام وخص طعامًا بعينه، وكالحالف لغريمه وهو يريد شيئًا ما غير ما له عليه، فإن كان الحالف يخاصمه غرماؤه وزوجته أخذه الغرماء بظاهر لفظه، ولم يلتفتوا فيه إلى نيته فى الحكم وحملوا الكلام على بساطه ومخرجه، هذا قول مالك وأهل المدينة. والذين أجازوا التورية إنما فروا من الحنث بمعاريض الكلام، وجعلوه على نيته فى يمين لا يقتطع بها مال أخيه ولا يبطل حقه، فإن اقتطع بيمينه مال آخر، فلا مخرج له عند أحد من أهل العلم ممن يقول بالتورية وغيرها، ولا يكون ذلك المال حلالا عندهم ولابد من رده إلى صاحبه. قال المهلب: ولو جازت التورية لنوى الإنسان عند خلفه فى الحقوق غير ما طولب به، والحل له ما اقتطعه بهذه اليمين المعرج بها عن طريق الدعوى؛ ولذلك أنزل الله: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم) [آل عمران: 77] الآية. ولما اتفقوا معنا أنه لا يحل شىء من ذلك المال لآخذه علم أن التورية لا تزيل الحنث، وسقط قولهم.
- باب فِى الصَّلاةِ
/ 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ) . معنى هذا الباب الرد على أبى حنيفة فى قوله: أن المحدث فى صلاته يتوضأ ويبنى على ما تقدم من صلاته. وهو قول ابن أبى ليلى.

(8/311)


وقال مالك والشافعى: يستأنف الوضوء والصلاة ولا يبنى، وحجتهما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وقوله: (لا صلاة إلا بطهور) . قال ابن القصار: ولا يخلو فى حال انصرافه من الصلاة وقد أحدث أن يكون مصليًا أو غير مصل، فبطل أن يكون مصليًا؛ لقوله: (لا صلاة إلا بطهور) وهذا غير متوضئ فلا يجوز له البناء، وكل حدث منع من ابتداء الصلاة منع من البناء عليها، يدل على ذلك أنه لو سبقه المنى فى الصلاة لا يستأنف، كذلك غيره من الأحداث. وقد اتفقنا على أنه ممنوع من المضى فيها من أجل الحدث فوجب أن يمنع من البناء عليها؛ فإن احتجوا بالراعف أنه يبنى. قيل: الرعاف عندنا لا ينافى حكم الطهارة، والحدث ينافيها، ألا ترى أنه فى غير الصلاة لو تعمد الرعاف لم تنتقض طهارته كما لو بدره. والحدث على الوجهين ينفى حكم الطهارة، ألا ترى أنكم لم تفرقوا بين عمد الحدث وسبقه فى نقض الطهارة، وفرقتم بين تعمد المنى والرعاف وغلبته فى الصلاة، وفرقتم بين الأحداث فى الصلاة فقلتم: إذا غلبه المنى اغتسل واستأنف وإذا غلبه الحدث الأصغر بنى على صلاته. وفرقنا نحن بين الحدث وما ليس بحدث، وهذا الحديث أيضًا يرد قول أبى حنيفة أن من قعد فى الجلسة الآخرة مقدار التشهد ثم أحدث فصلاته تامة، وذهب إلى أن التحلل من الصلاة يقع بما يضادها من قول أو فعل ولا يتعين بالسلام، وخالفه سائر العلماء وقالوا: لا تتم الصلاة إلا بالسلام منها، ولا يجوز التحلل منها بما يفسدها إذا اعترض فى خلالها على طريق النسيان، كالحج لا يجوز أن يقع

(8/312)


التحلل منه بالجماع؛ لأنه لو طرأ فى خلاله لأفسده، فكذلك الصلاة لو أحدث فى خلالها ناسيًا لأفسدها فلا يتحلل منها بتعمد الحدث.
3 - باب فِى الزَّكَاةِ
/ 3 - فيه: أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الزَّكَاةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ. / 4 - وفيه: طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ، عَلَىَّ مِنَ الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ قَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، قَالَ: أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الزَّكَاةِ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَائِعَ الإسْلامِ، قَالَ: وَالَّذِى أَكْرَمَكَ لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِى عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا، أَوْ وَهَبَهَا، أَوِ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ، فَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، قَالَ وَاللَّهِ لَنْ يَزَالَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ، فَيُلْقِمَهَا فَاهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِذَا مَا رَبُّ النَّعَمِ لَمْ يُعْطِ حَقَّهَا، تُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَخْبِطُ وَجْهَهُ بِأَخْفَافِهَا) .

(8/313)


وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِى رَجُلٍ لَهُ إِبِلٌ، فَخَافَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، فَبَاعَهَا بِإِبِلٍ مِثْلِهَا، أَوْ بِغَنَمٍ، أَوْ بِبَقَرٍ، أَوْ بِدَرَاهِمَ فِرَارًا مِنَ الصَّدَقَةِ بِيَوْمٍ احْتِيَالا، فَلا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ زَكَّى إِبِلَهُ، قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ بِيَوْمٍ أَوْ بِسِنَّةٍ جَازَتْ عَنْهُ. / 6 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : اقْضِهِ عَنْهَا) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا بَلَغَتِ الإبِلُ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ بَاعَهَا فِرَارًا وَاحْتِيَالا لإسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا، فَمَاتَ فَلا شَيْءَ فِى مَالِهِ. أجمع العلماء أن للرجل قبل حلول الحول التصرف فى ماله بالبيع والهبة والذبح إذا لم ينو الفرار من الصدقة، واجمعوا أنه إذا حال الحول وأطل الساعى أنه لا يحلل التحيل والنقصان فى أن يفرق بين مجتمع أو يجمع بين مفترق. وقال مالك: إذا فوت من ماله شيئًا ينوى به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول أخذًا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خشية الصدقة) وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفويته الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا تضره النية؛ لأن الزكاة لا تلزمه إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خشية الصدقة) إلا حينئذ. قال المهلب: وإنما قصد البخارى فى هذا الباب أن يعرفك أن كل حيلة يتحيل بها أحد فى إسقاط الزكاة، فإن إثم ذلك عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما منع من جمع الغنم أو تفريقها خشية الصدقة؛ فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله: (أفلح إن صدق) أنه من رام أن ينقص

(8/314)


شيئًا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح ولا يقوم بذلك عذره عند الله عز وجل فلما أجاز الفقهاء من تصرف صاحب المال فى ماله قرب حلول الحول، فلم يريدوا بذلك الهروب من الزكاة، ومن نوى ذلك فالإثم عنه غير ساقط والله حسيبه، وهو كمن فر عن صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم واستعمل سفرًا لا يحتاج إليه رغبة عن فرض الله عز وجل الذى كتبه على عباده المؤمنين، فالوعيد إليه متوجه، ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأى وجه منعها كيف تطؤه الإبل ويمثل له ماله شجاعًا أقرع؟ وهذا يدل أن الفرار من الزكاة لا يحل وهو مطالب بذلك فى الآخرة. وحديث ابن عباس فى النذر حجة أيضًا فى ذلك؛ لأنه إذ أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) سعدًا أن يقضى النذر عن أمه حين فاتها القضاء، دل ذلك أن الفرائض المهروب عنها أوكد من النذر وألزم، والله الموفق. قال غيره: وأما إذا بيعت الغنم بغنم، فإن مالكًا وأكثر العلماء يقولون: إن الثانية على حول الأولى؛ لأن الجنس واحد والنصاب واحد والمأخوذ واحد. وقال الشافعى فى أحد قوليه: يستأنف بالثانية حولا. وليس بشىء. وأما إن باع غنمًا ببقر أو بإبل، فأكثر العلماء يقولون: يستأنف بما يأخذ حولا كأنه قد باع دنانير بدراهم؛ لأن النصاب فى البقر والإبل مخالف للغنم، وكذلك المأخوذ. ومن الناس من يقول: إذا ملك الماشية ستة أشهر، ثم باعها بدراهم زكى الدراهم لتمام ستة أشهر من يوم باعها. هذا قول أحمد بن حنبل وأهل الظاهر.

(8/315)


وما ألزمه من التناقض فى قوله بإجازة تقديم الزكاة قبل الحول بسنة فليس بتناقض؛ لأنه لا يوجب الزكاة إلا بتمام الحول، ويجعل من قدمها كمن قدم دينًا مؤجلا قبل أن يجب عليه. وإن تم الحول وليس بيده نصاب من تلك الماشية وجب على الإمام أن يؤديها إليه من الصدقة، كما أدى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجمل الرباعى الخيار إلى من هذه حاله.
4 - باب الْحِيلَةِ فِى النِّكَاحِ
/ 7 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَا الشِّغَارُ؟ قَالَ: يَنْكِحُ ابْنَةَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ ابْنَتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَيَنْكِحُ أُخْتَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ أُخْتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ احْتَالَ حَتَّى تَزَوَّجَ عَلَى الشِّغَارِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَقَالَ فِى الْمُتْعَةِ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُتْعَةُ وَالشِّغَارُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. / 8 - فيه: عَلِىًّ أنه قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لا يَرَى بِمُتْعَةِ النِّسَاءِ بَأْسًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ احْتَالَ حَتَّى تَمَتَّعَ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. قال بعض من لقيت: أما نكاح الشغار ففساده فى الصداق عند أبى حنيفة، ولا يكون البضع صداقًا عند أحد من العلماء إلا أن أبا حنيفة يقول: هذا النكاح منعقد، ويصلح بصداق المثل؛ لأنه يجوز عنده انعقاد النكاح دون ذكر الصداق بخلاف البيع، ثم يذكر الصداق فيما

(8/316)


بعد، فلما جاز هذا عندهم كان ذكرهم للبضع بالبضع كلا ذكر وكأنه نكاح انعقد بغير صداق، وما كان عند أبى حنيفة من النكاح فاسد من أجل صداقه فلا يفسخ عنده قبل ولا بعد، ويصلح بصداق المثل وبما يفرض، وعند مالك والشافعى يفسخ نكاح الشغار قبل الدخول وبعده، حملا نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) على التحريم؛ لعموم النهى، إلا أن مالكًا والشافعى اختلفا إن ذكر فى الشغار دراهم. فقال مالك: إن ذكر مع إحداهما دراهم صح نكاح التى سمى لها دون الثانية. وقال الشافعى: إن سمى لإحداهما صح النكاحان معًا، وكان للتى سمى لها ما سمى، وللأخرى صداق المثل، وقد تقدم هذا فى كتاب النكاح. وأما قوله فى المتعة فإن فقهاء الأمصار لا يجيزون نكاح المتعة على حال، وقول بعض أصحاب أبى حنيفة: المتعة والشغار جائز والشرط باطل غير صحيح؛ لأن المتعة منسوخة بنهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنها، ولا يجوز مخالفة النهى وفساد نكاح المتعة من قبل البضع.
5 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الاحْتِيَالِ فِى الْبُيُوعِ، وَلا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلإ
/ 9 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ: (لا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ؛ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلإ) . / 10 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ النَّجْشِ.

(8/317)


قال المهلب: قوله: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ) إنما هو لما أراد أن يصون ما حول بئره من الكلأ من النعم الواردة للشرب وهو لا حاجة به إلى الماء الممنوع، إنما حاجته إلى منع الكلأ، فمنع من الاحتيال فى ذلك؛ لأن الكلأ والنبات الذى فى المسارح غير المتملكة مباح لا يجوز منعه، وفيه معنى آخر وهو أنه قد يخص أحد معانى الحديث ويسكت عن معان أخر؛ لأن ظاهر الحديث يوجب أنه لا ينهى عن فضل الماء إلا إذا أريد به منع الكلأ، وإن لم يرد به منع الكلأ، فلا ينهى عن منع الماء، والحديث معناه: لا يمنع فضل الماء بوجه من الوجوه؛ لأنه إذا لم يمنع بسبب غيره فأحرى ألا يمنع بسبب نفسه، وقد سماه النبى (صلى الله عليه وسلم) فضلا، فإن لم يكن فيه فضل عن حاجة صاحب البئر جاز منعه لمالك البئر، وكذلك النجش، ومعناه أن يعطى الرجل الثمن فى السلعة وليس فى نفسه شراؤها، ليقتدى به غيره ممن يحب شراءها فيزيد فيها أكثر من ثمنها، فنهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك؛ لأنه ضرب من التحيل فى تكثير الثمن.
6 - باب مَا يُنْهَى مِنَ الْخِدَاعِ
وَقَالَ أَيُّوبُ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ آدَمِيًّا لَوْ أَتَوُا الأمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَىَّ. / 11 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلا ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ يُخْدَعُ فِى الْبُيُوعِ فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ) . قد تقدم فى كتاب البيوع. وقوله: (لا خلابة) أى:

(8/318)


لا تخلبونى ولا تخدعونى؛ فإن ذلك لا يحل. قال المهلب: مثل أن يدلس بالعيب أو يسمى بغير اسمه، فهذا الذى لا يحل منه قليل ولا كثير، وأما الخديعة التى هى تزيين للسلعة والثناء عليها، والإطناب فى مدحها فهذا متجاوز عنه، ولا تنقض له البيوع.
7 - باب مَا يُنْهَى مِنَ الاحْتِيَالِ لِلْوَلِىِّ فِى الْيَتِيمَةِ الْمَرْغُوبَةِ وَأَنْ لا يُكَمِّلَ لَهَا صَدَاقَهَا
/ 12 - فيه: عَائِشَةَ: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3] الآية، قَالَتْ: هِىَ الْيَتِيمَةُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى مَالِهَا وَجَمَالِهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَاءِ (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فيه: أنه لا يجوز للولى أن يتزوج يتيمة بأقل من صداقها، ولا أن يعطيها من العروض فى صداقها ما لا يفى بقيمة صداق مثلها، وقال ابن عباس: قصر الرجل على أربع من النساء من أجل اليتامى. ومعناه أن سبب نزول القران بإباحة أربع كان من أجل سؤالهم عن اليتامى، وكانوا يستفتونه لما كانو يخافونه من الحيف عليهن، فقيل لهم: إن خفتم الحيف عليهن فاتركوهن، فقد أحللت لكم أن تنكحوا أربعًا. فإن قال قائل ممن لا فهم له بكتاب الله من أهل البدع: كيف يخافون ألا يقسطوا فى اليتامى ويؤمرون بنكاح أربع وهم عن القسط بينهن أعجز؟

(8/319)


قال أبو بكر بن الطيب: ومعنى الآية: إن خفتم ألا تعدلوا فى اليتامى الأطفال اللاتى لا أولياء لهن يطالبونكم بحقوق الزوجية وتخافون من أكل أموالهن بالباطل؛ لعجز الأطفال عن منعكم منها فانكحوا سواهن أربعًا من النساء البزل القادرات على تدبير أموالهن، ذوات الأولياء الذين يمنعونكم من تحيف أموالهن ويأخذونكم بالعدل بينهن، فأنتم عند ذلك أبعد من أكل أموالهن بالباطل والاعتداء عليهن.
8 - باب إِذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ، فَقُضِىَ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْمَيِّتَةِ، ثُمَّ وَجَدَهَا صَاحِبُهَا، فَهِىَ لَهُ وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ، وَلا تَكُونُ الْقِيمَةُ ثَمَنًا
. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْجَارِيَةُ لِلْغَاصِبِ لأخْذِهِ الْقِيمَةَ، وَفِى هَذَا احْتِيَالٌ لِمَنِ اشْتَهَى جَارِيَةَ رَجُلٍ لا يَبِيعُهَا، فَغَصَبَهَا وَاعْتَلَّ بِأَنَّهَا مَاتَتْ حَتَّى يَأْخُذَ رَبُّهَا قِيمَتَهَا، فَتَطِيبُ لِلْغَاصِبِ جَارِيَةَ غَيْرِهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 13 - فيه: زَيْنَبَ قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) .

(8/320)


احتج البخارى فى هذا الباب على أبى حنيفة ورَدَّ قوله أن الجارية للغاصب إذا وجدها ربها، واعتل أبو حنيفة بأنه إذا أخذ قيمتها من الغاصب فلا حق له فيها؛ لأنه لا يجتمع الشىء وبدله فى ملك واحد أبدًا. وهذا خطأ من أبى حنيفة، والصحيح ما ذهب إليه البخارى وهو قول مالك والشافعى وأبى ثور قالوا: إذا وجد الجارية صاحبها فهو مخير إن شاء أخذها ورَدَّ القيمة، وإن شاء تمسك بالقيمة وتركها، إلا أن مالكًا فرق بين أن يجدها ربها عند الغاصب أو عند من اشتراها من الغاصب فقال: إن وجدها ربها عند مشتريها من الغاصب لم تتغير أنه مخير بين أخذها أو قيمتها يوم الغصب أو الثمن الذى باعها به الغاصب. قال: وإن وجدها عند الغاصب لم تتغير وهى أحسن مما كانت يوم الغصب ولم يكن جحدها الغاصب ولا حكم عليه بقيمتها فليس له إلا أخذها، ولا يأخذ قيمتها. هذا قوله فى المدونة. وقال ابن الماجشون ومطرف: وهو مخير بين أخذها أو أخذ قيمتها إذا كان الغاصب قد غاب عنها. والحجة لمن خالف أبا حنيفة بيان النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يحل مال مسلم إلا عن طيب نفس منه، وأن حكم الحاكم لا يحل ما حرم الله ورسوله؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فلا يأخذها، فإنما أقطع له قطعة من النار) . وأما قول أبى حنيفة: إن القيمة ثمن فهو غلط؛ لأن القيمة إنما وجبت؛ لأن الجارية متلفة لا يقدر عليها، فلما ظهرت وجب له أخذها؛ لأن أخذ القيمة ليس ببيع بايعه به، وإنما أخذ القيمة لهلاكها، فإذا زال ذلك وجب الرجوع إلى الأصل الذى كان عليه، وهو تسليم الجارية إلى صاحبها، وقد فرق أهل العلم بين القيمة والثمن، فجعلوا القيمة فى

(8/321)


الشىء المستهلك وفى البيع الفاسد، وجعلوا الثمن فى الشىء القائم، والفرق بين البيع الفاسد والغصب أن البائع قد رضى بأخذ الثمن عوضًا من سلعته وأذن للمشترى فى التصرف فيها، وإنما جهل السنة فى البيع، فإصلاح هذا البيع أن يأخذ قيمة السلعة إن فاتت، والغاصب غصب ما لم يأذن له فيه ربه، وما له فيه رغبة؛ فلا يحل تملكه للغاصب بوجه من الوجوه إلا أن يرضى المغصوب منه بأخذ قيمته. وقد تناقض أبو حنيفة فى هذه المسألة فقال: إن كان الغاصب حين ادعى رب الجارية قيمتها كذا وكذا جحد ما قال، وقال قيمتها كذا وكذا وحلف عليه، ثم قدر عليه الجارية كان ربها بالخيار إن شاء سلم الجارية بالقيمة وإن شاء أخذ الجارية ورد القيمة؛ لأنه لم يعط القيمة التى ادعاها ربها، وهذا ترك منه لقوله. ولو كانت القيمة ثمنًا ما كان لرب الجارية الخيار فيما معناه البيع؛ لأن الرجل لو باع ما يساوى خمسين دينارًا بعشرة دنانير كان بيعه لازمًا ولم يجعل له رجوع ولا خيار.
9 - باب فِى النِّكَاحِ
/ 14 - فيه: أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: إِذَا سَكَتَتْ) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا لَمْ تُسْتَأْذَنِ الْبِكْرُ وَلَمْ تَتَزَوَّجْ، فَاحْتَالَ رَجُلٌ

(8/322)


فَأَقَامَ شَاهِدَىْ زُورٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فَأَثْبَتَ الْقَاضِى نِكَاحَهَا، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ، فَلا بَأْسَ أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ تَزْوِيجٌ صَحِيحٌ. / 15 - وفيه: الْقَاسِمِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ وَلَدِ جَعْفَرٍ تَخَوَّفَتْ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلِيُّهَا، وَهِىَ كَارِهَةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى شَيْخَيْنِ مِنَ الأنْصَارِ عَبْدِالرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَىْ جَارِيَةَ، قَالا: فَلا تَخْشَيْنَ، فَإِنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِذَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا، وَهِىَ كَارِهَةٌ، فَرَدَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَلِكَ. / 16 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ هَوِىَ رَجُلٌ جَارِيَةً ثَيِّبًا، أَوْ بِكْرًا، فَأَبَتْ، فَاحْتَالَ فَجَاءَ بِشَاهِدَىْ زُورٍ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَدْرَكَتْ، فَرَضِيَتِ، فَقَبِلَ الْقَاضِى شَهَادَةَ الزُّورِ، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ بِبُطْلانِ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ. قال المؤلف: لا يحل هذا النكاح للزوج الذى أقام شاهدى زور على رضا المرأة أنه تزوجها عند أحد من العلماء، وليس حكم القاضى بما ظهر له من عدالة الشاهدين فى الظاهر مُحلا ما حرم الله؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنما أقطع له قطعة من النار) ولتحريم أكل أموال الناس بالباطل، ولا فرق بين أكل المال الحرام ووطء الفرج الحرام فى الإثم. قال المهلب: احتيال أبى حنيفة ساقط؛ لأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) باستئذان المرأة واستئمارها عند النكاح، ورد (صلى الله عليه وسلم) نكاح من تزوجت كارهة فى حديث خنساء، وقد قال تعال: (ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) [البقرة: 232] فاشتراط الله رضا المرأة فى النكاح يوجب أنه متى عدم هذا الشرط فى النكاح لم يحل، وإنما

(8/323)


قاس أبو حنيفة مسائل هذا الباب على القاضى إذا حكم بطلاقها بشاهدى زور وهو لا يعلم؛ أنه يجوز أن يتزوجها من لا يعلم بباطل هذا الطلاق، ولا تحرم عليه بإجماع العلماء، وكذلك يجوز أن يتزوجها من يعلم ولا تحرم عليه، وهذا خطأ فى القياس، وإنما حل تزويجها لمن لا يعلم باطن أمرها؛ لأنه جهل ما دخل فيه. وأما الزوج الذى أقام شاهدى زور فهو عالم بالتحريم متعمد لركوب الإثم فكيف يقاس من جهل شيئًا فأتاه فعزر بجهله على من تعمده فأقدم عليه وهو عالم بباطنه؟ ولا خلاف بين العلماء أنه من أقدم على ما لا يحل له فقد أقدم على الحرام البين الذى قال فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات) وليس للشبهة فيه موضع، ولا خلاف بين الأمة أن رجلا لو أقام شاهدى زور على ابنته أنها أمته وحكم الحاكم بذلك أنه لا يجوز له وطؤها، فكذلك الذى شهد على نكاحها هما فى التحريم سواء. والمسألة التى فى آخر الباب لا يقول بها أحد وهى خطأ كالمسألتين المتقدمتين.
- باب مَا يُكْرَهُ مِنِ احْتِيَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَالضَّرَائِرِ وَمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ذَلِكَ
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَاحْتَبَسَ عِنْدَ حَفْصَةَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِى: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ، فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ:

(8/324)


أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، قُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِى لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: لا فَقُولِى لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِى لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكِ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، قُلْتُ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ، لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِرَهُ بِالَّذِى قُلْتِ لِى، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، قَالَ: لا، قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، قُلْتُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَىَّ، قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ، فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لا حَاجَةَ لِى بِهِ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ: قُلْتُ: لَهَا اسْكُتِي) . القسمة التى يقضى بها للنساء على الرجال هى الليل دون النهار، والجماع كله ليلا ونهارًا، ولا يجوز أن يجامع امرأة فى يوم أخرى. وأما دخول الزوج بيت من ليس يومها فمباح للرجل ذلك وجائز له أن يأكل ويشرب فى بيتها فى غير يومها ما لم يكن الغداء المعروف والعشاء المعروف، وليس لسائر النساء أن تمنع الزوج من غير ما ذكرناه. ومعنى الترجمة ظاهر فى الحديث. وقد تقدم تفسير المغافير فى كتاب الأيمان والنذور فى باب إذا حرم طعامًا. وقد تقدم ما فى الحديث من الغريب فى كتاب الطلاق فى باب لم تحرم ما أحل الله لك.

(8/325)


- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الاحْتِيَالِ فِى الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ
/ 18 - فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا جَاءَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَأَخْبَرَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ سَرْغَ) . / 19 - وفيه: أُسَامَةَ أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ الْوَجَعَ، فَقَالَ: رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأمَمِ، ثُمَّ بَقِىَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ، وَيَأْتِى الأخْرَى، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا يُقْدِمَنَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بِأَرْضٍ وَقَعَ بِهَا فَلا يَخْرُجْ فِرَارًا مِنْهُ) . قال المهلب وغيره: لا يجوز الفرار من الطاعون، ولا يجوز أن يتحيل بالخروج فى تجارة أو شبهها وهو ينوى بذلك الفرار من الطاعون. ويبين هذا المعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأعمال بالنيات) فى النهى عن الفرار من الطاعون كأنه يفر من قدر الله وقضائه وهذا لا سبيل لأحد إليه؛ لأن قدر الله لا يغلب. وسيأتى الكلام فى معنى هذا الحديث فى كتاب المرضى والطب فى باب من خرج من أرض لا تُلائمه فهو موضعه إن شاء الله تعالى.
- باب فِى الْهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ وَهَبَ هِبَةً أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى مَكَثَ عِنْدَهُ سِنِينَ، وَاحْتَالَ فِى ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا فَلا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَخَالَفَ الرَّسُولَ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْهِبَةِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ.

(8/326)


/ 20 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ، لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ) . / 21 - وفيه: جَابِر، قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الشُّفْعَةُ لِلْجِوَارِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى مَا شَدَّدَهُ فَأَبْطَلَهُ، وَقَالَ: إِنِ اشْتَرَى دَارًا، فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارُ بِالشُّفْعَةِ، فَاشْتَرَى سَهْمًا مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِىَ، وَكَانَ لِلْجَارِ الشُّفْعَةُ فِى السَّهْمِ الأوَّلِ وَلا شُفْعَةَ لَهُ فِى بَاقِى الدَّارِ، وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ فِى ذَلِكَ. / 22 - فيه: عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ، جَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِى، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ لِلْمِسْوَرِ: أَلا تَأْمُرُ هَذَا أَنْ يَشْتَرِىَ مِنِّى بَيْتِى الَّذِى فِى دَارِى؟ فَقَالَ: لا أَزِيدُهُ عَلَى أَرْبَعِ مِائَةٍ، إِمَّا مُقَطَّعَةٍ وَإِمَّا مُنَجَّمَةٍ، قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسَ مِائَةٍ نَقْدًا، فَمَنَعْتُهُ وَلَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) . مَا بِعْتُكَهُ، أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْتُكَهُ. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ مَعْمَرًا لَمْ يَقُلْ هَكَذَا، قَالَ: لَكِنَّهُ قَالَ لِى هَكَذَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ، فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، فَيَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِى الدَّارَ وَيَحُدُّهَا، وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ، وَيُعَوِّضُهُ الْمُشْتَرِى أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ. / 23 - وفيه: عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، أَنَّ سَعْدًا سَاوَمَهُ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، فَقَالَ: لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) . لَمَا أَعْطَيْتُكَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ اشْتَرَى نَصِيبًا مِنْ دَارٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ وَهَبَ لابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَلا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ. قال المؤلف: إذا وهب الواهب هبة وقبضها الموهوب وحازها فهو

(8/327)


مالك لها عند الجميع والزكاة له لازمة ولا سبيل له إلى الرجوع فيها إلا أن يكون على ابن. وهذه حيلة لا يمكن أن يخالف بها نص الحديث لأن الزكاة تلزم الابن فى كل هذا ما لم يعتصر منه وإن كان صغيرًا عند الحجازيين لأنه ملك، فإن اعتصرها بعد حلول الحلول عليها عند الموهوب له وجبت الزكاة على الموهوب له ثم يستأنف الراجع فيها حولا من يوم رجوعه، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء فلا معنى للاشتغال بما خالفه. قال المهلب: والاحتيال فى هذا خارج عن معنى الشريعة، ومن أراد أن يحتال على الشريعة حتى يسقطها فلا يسمّى محتالا، وإنما هو معاند لحدود الله ومنتهك لها، فإذا كانت الهبة لغير الابن دخل الراجع فيها تحت قوله (صلى الله عليه وسلم) : (العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه) ولا أعلم لحيلته وجهًا إلا إن كان يريد أن يهبها ويحتال فى حبسها عنده دون تحويز فلا تتم حيلته فى هذا إن وهبها لأجنبى؛ لأن الحيازة عنده شرط فى الهبة، فإن بقيت عنده كانت على ملكه ووجبت عليه فيها الزكاة، فأما مسألة الشفعة فالذى احتال به أبو حنيفة فيها له وجه فى الفقه، وذلك أن الذى أراد شراء الدار خاف شفعة الجار. فسأل أبا حنيفة: هل من حيل فى إسقاط شفعة الجار؟ فقال: لو باع منك صاحب الدار جزءًا من عشرة أجزاء منها على الإشاعة ثم اشتريت منه بعد حين باقى الدار سقطت شفعة الجار. يريد أن الشريك فى المشاع أحق بالشفعة من الجار. وهذا إجماع من العلماء فلما اشترى أولا الجزء اليسير صار به شريكًا لصاحب الدار؛ إذ لم يرض الجار أن يشفع فى ذلك الجزء اللطيف لعلة انتفاعه به، فلما عقد الصفقة فى باقى الدار كان الجار

(8/328)


لا شفعة له عليه؛ لأنه لو ملك ذلك الجزء اللطيف غيره لمنع الجار به من الشفعة. فكذلك يمنعه هو إذا اشترى باقى الدار من الشفعة، وهذا ليس فيه شىء من خلاف السنة. وإنما أراد البخارى أن يلزم أبا حنيفة التناقض لأنه يوجب الشفعة للجار ويأخذ فى ذلك لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الجار أحق بصقبه) . فمن اعتقد مثل هذا وثب ذلك عنده من قضاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتحيل بمثل هذه الحيلة فى إبطال شفعة الجار فقد أبطل السنة التى يعتقدها. قال المهلب: وفى حديث ابن عباس: (إذا وقعت الحدود فلا شفعة) ما يرد قول من أجاز الشفعة للجار؛ لأن الجار قد حدد ماله من مال جاره ولا اشتراك له معه، وهذا ضد قول من قال بالشفعة للجار، وقوله: (الشفعة فيما لم يقسم) ينفى الشفعة فى كل مقسوم. وحديث عمرو بن الشريد حجة فى أن الجار المذكور فى الحديث هو الشريك وعلى ذلك حمله أبو رافع وهو أعلم بمخرج الحديث، وقد تقدم ذلك فى كتاب الشفعة، وقول أبى حنيفة: إذا أراد أن يقطع الشفعة فيهب البائع للمشترى الدار إلى آخر المسألة فهذه حيلة فى إبطال السنة لا يجيزها أحد من أهل العلم، وهى منتقضة على أصل أبى حنيفة؛ لأن الهبة إن انعقدت للثواب فهى بيع من البيوع عند الكوفيين ومالك وغيره ففيها الشفعة، وإن كانت هبة مقبولة بغير شرط ثواب فلا شفعة فيها بإجماع، وما انعقد عقدًا ظاهرًا سالمًا فى باطنه والقصد منه فساد فهذا لايحل عند أحد من العلماء. قال المهلب: وإنما ذكر البخارى فى هذه المسألة حديث أبى رافع ليعرفك أن ما جعله النبى (صلى الله عليه وسلم) حقا للشفيع بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الجار لأحق بصقبه) فلا يحل إبطاله ولا إدخال حيلة عليه.

(8/329)


وأما المسألة التى فى آخر الباب إن اشترى نصيب دار فإذا كان يبطل الشفعة وهب لابنه الصغير ولا يكون عليه يمين، فبيان هذه المسألة أن يكون البائع شريكًا مع غيره فى دار فيقوم رجل آخر فيشترى منها نصيبًا ويهبه لابنه ولا يمين عليه، وإنما قال ذلك لأنه من وهب لابنه هبة فقد فعل ما يباح له فعله. قال: والأحكام على الظاهر لا على التوهم وادعًا الغيب على البيان. وذكر ابن المولد عن مالك إن كانت الهبة للثواب ففيها الشفعة يعنى لأنها بيع من البيوع ويحلف المتصدق عليه إن كان ممن يتهم، وروى ابن نافع عن مالك فى المجموعة قال: ينظر فإن رأى أنه محتاج وهب الأغنياء فاليمين على الموهوب له، وإن كان صغيرًا فعلى نية الذى قبل ذلك له، وإن كان مستغنيًا عن ثوابهم وإنما وهب للقرابة أو صداقة فلا يمين فى ذلك. وذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه اختلف قوله فى الشفعة فى الهبة فأجازها مرة ثم قال: لا شفعة فيها.
- باب
/ 24 - فيه: أَبُو رَافِع، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) . وقال بعض الناس: إن اشترى دارًا بعشرين ألف درهم فلا بأس أن يحتال حين يشترى الدار بعشرين ألف درهم فلا بأس أن يحتال حين يشترى الدار بعشرين ألف درهم وينقده تسعة آلاف درهم وتسعمائة درهم وتسع وتسعين، وينقده دينارًا بما بقى من العشرين ألف درهم، فإن طلب الشفيع أخذها بالعشرين ألف درهم وإلا فلا سبيل له على الدار، فإناستحقت الدار رجع المشترى على البائع بمادفع إليه، وهو تسعة آلاف درهم وتسعمائة وتسعة وتسعون درهمًا ودينار؛ لأن البيع حين استحق انتقض الصرف فى الدينار،

(8/330)


فإن وجد بهذه الدار عيبًا ولم يستحق فإنه يردها عليه بعشرين ألفًا، قال: فأجاز هذا الخداع بين المسلمين فقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بيع المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة) . / 25 - وفيه: أَبُو رَافِع أنه سَاوَمَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، وَقَالَ: لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) مَا أَعْطَيْتُكَ. يمكن أن يبيع الشقص من صديق له يحب نفعه بعشرة آلاف درهم ودينار ويكتباه فى وثيقة الشراء عشرين ألف درهم، وهو يعلم أن الشريك لابد له أن يقوم على المشترى بالشفعة، فإذا وجد فى وثيقته عشرين ألف درهم أخذ الشقص بذلك فهو قصد إلى الخداع. وقوله: لينقده دينارًا بالعشرة آلاف درهم إنما قال ذلك لأنه يجوز عند الأمة بيع الذهب بالفضة متفاضلا كيف شاء المتبايعان. فلما جاز هذا بإجماع بنى عليه أصله فى الصرف، فأجاز عشرة دراهم ودينارًا بأحد عشر درهمًا جعل العشرة دراهم بعشرة دراهم وجعل الدينار بدل الدرهم. وكذلك جعل فى هذه المسألة الدينار بعشرة آلاف درهم وأوجب على الشفيع أن يؤدى ما انعقدت له به الصفقة دون ما نقد فيها المشترى، كأنه قال من حق المشترى أن يقول لك إنما أخذ منك أيها الشفيع ما أبيعت به الشقص لا ما نقدت فيه؛ لأنه تجاوز لى البائع بعد عقد الصفقة عما شاء ما وجب له على. وأما مالك، رحمة الله عليه، فإنما يراعى فى ذلك النقد وما حصل فى يد البائع منه يأخذ الشفيع. ومن حجته فى ذلك أنه لا خلاف بين العلماء أن الاستحقاق والرد بالعيب لا يرفع فيهما إلا بما نقد المشترى.

(8/331)


وهذا يدل على أن المراعاة فى انتقال الصفقات فى الشفعة وانتقاضها بالاستحقاق والعيوب وما نقد البائع فى الوجهين جميعًا، وأن الشفعة فى ذلك كالاستحقاق وهذا هو الصواب. وأما قول البخارى عن أبى حنيفة فإن استحقت الدار رجع المشترى على البائع بما دفع إليه، فهذا من أبى حنيفة يدل على أنه قصد الحيلة فى الشفعة؛ لأن الأمة مجمعة وأبو حنيفة معهم على أن البائع لا يرد فى الاستحقاق والرد بالعيب إلا ما قبض. فكذلك الشفيع لا يشفع إلا ما نقد المشترى وما قبضه منه البائع لا بما عقد. وأما قول أبى حنيفة: لأن البيع حين استحقه انتقض صرف الدينار فلا يفهم؛ لأن الاستحقاق والرد بالعيب يوجب نقض الصفقة كلها فلا معنى لذكره الدينار دون غيره. وقال المهلب: وجه إدخال البخارى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الجار أحق بصقبه) فى هذه المسألة، وهو لما كان الجار أحق بالبيع وجب أن يكون أحق أن يرفق به فى الثمن حتى لا يغبن فى شىء، ولا يدخله عروض بأكثر من قيمتها ألا ترى أن أبا رافع لم يأخذ من سعد ما أعطاه غيره من الثمن ووهبه؛ لحق الجار الذى أمر الله بمراعاته وحفظه وحض النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا داء ولا خبثة ولا غائلة) دليل على أنه لا احتيال فى شىء من بيوع المسلمين من صرف دينار بأكثر من قيمته ولا غيره.
- باب احْتِيَالِ الْعَامِلِ لِيُهْدَى لَهُ
/ 26 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، اسْتَعْمَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (فَهَلا جَلَسْتَ فِى بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ،

(8/332)


إِنْ كُنْتَ صَادِقًا. ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلانِى اللَّهُ، فَيَأْتِى فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى، أَفَلا جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا لَقِىَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .) الحديث. قال المهلب: حيلة العامل ليهدى إليه إنما تكون بأن يضع من حقوق المسلمين فى سعايته ما يعوضه من أجله الموضوع له، فكأن الحيلة إنما هى أن وضع من حقوق المسلمين ليستجزل لنفسه، فاستدل النبى (صلى الله عليه وسلم) على أن الهدية لم تكن للمعوض فقال: فهلا جلس فى بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا. فغلب الظن وأوجب أخذ الهدية وضمها إلى أموال المسلمين. قال غيره: وهذا الحديث يدل أن ما أهدى إلى العامل فى عمالته والأمير فى إمارته شكرًا لمعروف صنعه أو تحببًا إليه أنه فى ذلك كله كأحد المسلمين لا فضل له عليهم فيه؛ لأنه بولايته عليهم نال ذلك، فإن استأثر به فهو سحت، والسحت كل ما يأخذه العامل والحاكم على إبطال حق أو تحقيق باطل وكذلك ما يأخذه على القضاء بالحق. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (هدايا الأمراء غلول) والغلول معلوم أنه للموجفين ولم يكن معهم، وعلى هذا التأويل كانت مقاسمة عمر بن الخطاب لعماله على طريق الاجتهاد لأنهم خلطوا ما يجب لهم فى عمالتهم بأرباح تجاراتهم وسهمانهم فى الفئ، فلما لم يقف عمر على مبلغ ذلك حقيقة أداه اجتهاده إلى أن يأخذ منهم نصف ذلك. وقد روى عن بعض السلف أنه قال: ما عدا من تجر فى رعيته. وقد فعله عمر، رضى الله عنه، أيضًا فى المال الذى دفعه أبو موسى الأشعرى بالعراق من مال الله إلى ابنيه عبد الله وعبيد الله، أراد عمر

(8/333)


أن يأخذ منهم المال وربحه. فقال عثمان: لو جعلته قراضًا. أى خذ منهم نصف الربح ففعل ورأى أن ذلك صواب. وقد جاء معاذ بن جبل من اليمن إلى أبى بكر الصديق بأعبد له أصابهم فى إمارته على اليمن، فقال له عمر: ادفع الأعبد إلى أبى بكر. فأبى معاذ من ذلك، ثم إن معاذًا رأى فى المنام كأنه واقف على نار يكاد أن يقع فيها وأن عمر أخذ بحجزته فصرفه عنها، فلما أصبح قال لعمر: ما ظنى إلا أنى أعطى الأعبد أبا بكر. فقال له: وكيف ذلك؟ قال: رأيت البارحة فى النوم رؤيا وما أظن ما أشرت به علىّ فى الأعبد إلا تأويل الرؤيا. فدفعها إلى أبو بكر، فرأى أبو بكر أن يردهم عليه فردهم عليه فكانوا عند معاذ، فاطلع معاذ يومًا فرآهم يصلون صلاة حسنة فأعتقهم. واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (أكالون للسحت) [المائدة: 42] فروى عن مسروق أنه سأل ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة فى الحكم؟ فقال عبد الله: ذلك الكفر، وقرأ عبد الله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 42] ولكن السحت أن يستعينك رجل على مظلمة إلى إمام فتعينه فيهدى لك. وقال إبراهيم النخعى: كان يقال: السحت الرشوة فى الحكم. وعن عكرمة مثله، وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث عبد الله بن عمر وثوبان (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن الراشى والمرتشى) وفسره الحسن البصرى فقال: ليحق باطلا أو يبطل حقا، فأما أن يدفع عن ماله فلا بأس. وهذا خلاف تأويل ابن مسعود.

(8/334)